تفسير الطبري
جامع البيان ط هجر سُورَةُ الشُّعَرَاءِ مَكِّيَّةٌ
وَآيَاتُهَا سَبْعٌ وَعِشْرُونَ وَمِائَتَانِ بِسْمِ اللَّهِ
الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
(17/542)
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ
تَعَالَى: {طسم , تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ ,
لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ}
[الشعراء: 2] قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَقَدْ ذَكَرْنَا
اخْتِلَافَ الْمُخْتَلِفِينَ فِيمَا فِي ابْتِدَاءِ فَوَاتِحِ
سُوَرِ الْقُرْآنِ مِنْ حُرُوفِ الْهِجَاءِ، وَمَا انْتَزَعَ
بِهِ كُلُّ قَائِلٍ مِنْهُمْ لِقَوْلِهِ وَمَذْهَبِهِ مِنَ
الْعِلَّةِ. وَقَدْ بَيَّنَّا الَّذِي هُوَ أَوْلَى
بِالصَّوَابِ مِنَ الْقَوْلِ فِيهِ فِيمَا مَضَى مِنْ
كِتَابِنَا هَذَا بِمَا أَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ، وَقَدْ
ذُكِرَ عَنْهُمْ مِنَ الِاخْتِلَافِ فِي قَوْلِهِ: {طسم}
[الشعراء: 1] , وَ {طس} [النمل: 1] ، نَظِيرَ الَّذِي ذُكِرَ
عَنْهُمْ فِي: {الم} [البقرة: 1] , وَ {المر} [الرعد: 1] ، وَ
{المص} [الأعراف: 1]
(17/542)
وَقَدْ: حَدَّثَنِي عَلِيُّ بْنُ دَاوُدَ،
قَالَ: ثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ، قَالَ: ثني
مُعَاوِيَةُ، عَنْ عَلِيٍّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، فِي
قَوْلِهِ: {طسم} [الشعراء: 1] قَالَ: «فَإِنَّهُ قَسَمٌ
أَقْسَمَهُ اللَّهُ، وَهُوَ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ»
(17/542)
حَدَّثَنَا الْحَسَنُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا
عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ
قَتَادَةَ، فِي قَوْلِهِ: {طسم} [الشعراء: 1] قَالَ: «اسْمٌ
مِنْ أَسْمَاءِ الْقُرْآنِ» . فَتَأْوِيلُ الْكَلَامِ عَلَى
قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالْجَمِيعِ: إِنَّ هَذِهِ الْآيَاتِ
الَّتِي أَنْزَلْتُهَا عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ لَآيَاتُ الْكِتَابِ الَّذِي
أَنْزَلْتُهُ إِلَيْهِ مِنْ قَبْلِهَا الَّذِي بُيِّنَ [ص:543]
لِمَنْ تَدَبَّرَهُ بِفَهْمٍ، وَفَكَّرَ فِيهِ بِعَقْلٍ،
أَنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ جَلَّ جَلَالُهُ، لَمْ
يَتَخَرَّصْهُ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
وَلَمْ يَتَقَوَّلْهُ مِنْ عِنْدِهِ، بَلْ أَوْحَاهُ إِلَيْهِ
رَبُّهُ.
(17/542)
وَقَوْلُهُ: {لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ
أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} [الشعراء: 3] يَقُولُ تَعَالَى
ذِكْرُهُ: لَعَلَّكَ يَا مُحَمَّدُ قَاتِلٌ نَفْسَكَ
وَمُهْلِكُهَا إِنْ لَمْ يُؤْمِنْ قَوْمُكَ بِكَ،
وَيُصَدِّقُوكَ عَلَى مَا جِئْتَهُمْ بِهِ , وَالْبَخْعُ: هُوَ
الْقَتْلُ وَالْإِهْلَاكُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ؛ وَمِنْهُ
قَوْلُ ذِي الرِّمَّةِ:
[البحر الطويل]
أَلَا أَيُّهَذَا الْبَاخِعُ الْوَجْدُ نَفْسَهُ ... لِشَيْءٍ
نَحَتْهُ عَنْ يَدَيْهِ الْمَقَادِرُ
وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ
التَّأْوِيلِ
(17/543)
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا
الْقَاسِمُ، قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثني حَجَّاجٌ،
عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: " {بَاخِعٌ
نَفْسَكَ} [الكهف: 6] قَاتِلٌ نَفْسَكَ "
(17/543)
حَدَّثَنَا الْحَسَنُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا
عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ
قَتَادَةَ، فِي قَوْلِهِ: {لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا
يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} [الشعراء: 3] قَالَ: " لَعَلَّكَ مِنَ
الْحِرْصِ عَلَى إِيمَانِهِمْ مُخْرِجٌ نَفْسَكَ [ص:544] مِنْ
جَسَدِكَ، قَالَ: ذَلِكَ الْبَخْعُ "
(17/543)
حُدِّثْتُ عَنِ الْحُسَيْنِ، قَالَ:
سَمِعْتُ أَبَا مُعَاذٍ، يَقُولُ: أَخْبَرَنَا عُبَيْدٌ،
قَالَ: سَمِعْتُ الضَّحَّاكَ، يَقُولُ فِي قَوْلِهِ: "
{لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ} [الشعراء: 3] عَلَيْهِمْ حِرْصًا
". وَأَنْ مِنْ قَوْلِهِ: {أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ}
[الشعراء: 3] فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ بِبَاخِعٍ، كَمَا يُقَالُ:
زُرْتُ عَبْدَ اللَّهِ أَنْ زَارَنِي، وَهُوَ جَزَاءٌ؛ وَلَوْ
كَانَ الْفِعْلُ الَّذِي بَعْدَ أَنْ مُسْتَقْبَلًا لَكَانَ
وَجْهُ الْكَلَامِ فِي «أَنْ» الْكَسْرَ كَمَا يُقَالُ؛
أَزُورُ عَبْدَ اللَّهِ إِنْ يَزُورَنِي.
(17/544)
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ
تَعَالَى: {إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ
آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ} [الشعراء: 4]
اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ:
{فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ} [الشعراء: 4] . الْآيَةَ، فَقَالَ
بَعْضُهُمْ: مَعْنَاهُ: فَظَلَّ الْقَوْمُ الَّذِينَ أُنْزِلَ
عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ آيَةً خَاضِعَةً أَعْنَاقُهُمْ
لَهَا مِنَ الذِّلَّةِ
(17/544)
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا
الْقَاسِمُ، قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثني حَجَّاجٌ،
عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، فِي قَوْلِهِ: "
{فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ} [الشعراء: 4]
قَالَ: فَظَلُّوا خَاضِعَةً أَعْنَاقُهُمْ لَهَا "
(17/544)
حَدَّثَنَا الْحَسَنُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا
عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ
قَتَادَةَ، فِي قَوْلِهِ: {خَاضِعِينَ} [الشعراء: 4] قَالَ:
«لَوْ شَاءَ اللَّهُ لَنَزَّلَ عَلَيْهِ آيَةً يُذَلُّونَ
بِهَا، فَلَا يَلْوِي أَحَدٌ عُنُقَهُ [ص:545] إِلَى
مَعْصِيَةِ اللَّهِ»
(17/544)
حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثنا
الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثني حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ:
{أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ , إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ
عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ آيَةً} [الشعراء: 4] قَالَ: «لَوْ
شَاءَ اللَّهُ لَأَرَاهُمْ أَمْرًا مِنْ أَمْرِهِ لَا يَعْمَلُ
أَحَدٌ مِنْهُمْ بَعْدَهُ بِمَعْصِيَةٍ»
(17/545)
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ:
ثني أَبِي، قَالَ: ثني عَمِّي، قَالَ: ثني أَبِي، عَنْ
أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلَهُ: " {فَظَلَّتْ
أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ} [الشعراء: 4] قَالَ:
مُلْقِينَ أَعْنَاقَهُمْ "
(17/545)
حَدَّثَنَا يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا
ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ، فِي قَوْلِهِ: "
{فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ} [الشعراء: 4]
قَالَ: الْخَاضِعُ: الذَّلِيلُ ". وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ
مَعْنَى ذَلِكَ: فَظَلَّتْ سَادَتُهُمْ وَكُبَرَاؤُهُمْ
لِلْآيَةِ خَاضِعِينَ، وَيَقُولُ: الْأَعْنَاقُ: هُمُ
الْكُبَرَاءُ مِنَ النَّاسِ. وَاخْتَلَفَ أَهْلُ
الْعَرَبِيَّةِ فِي وَجْهِ تَذْكِيرِ خَاضِعِينَ، وَهُوَ
خَبَرٌ عَنِ الْأَعْنَاقِ، فَقَالَ بَعْضُ نَحْوِيِّي
الْبَصْرَةِ: يَزْعُمُونَ أَنَّ قَوْلَهُ {أَعْنَاقُهُمْ}
[الرعد: 5] عَلَى الْجَمَاعَاتِ، نَحْوُ: هَذَا عُنُقٌ مِنَ
النَّاسِ كَثِيرٌ، أَوْ ذُكَّرَ كَمَا يُذَكَّرُ بَعْضُ
الْمُؤَنَّثِ، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ:
[البحر الطويل]
تَمَزَّزْتُهَا وَالدِّيكُ يَدْعُو صَبَاحَهُ ... إِذَا مَا
بَنُو نَعْشٍ دَنَوْا فَتَصَوَّبُوا
[ص:546] فَجَمَاعَاتُ هَذَا أَعْنَاقٌ، أَوْ يَكُونَ ذَكَّرَهُ
لِإِضَافَتِهِ إِلَى الْمُذَكِّرِ كَمَا يُؤَنَّثُ
لِإِضَافَتِهِ إِلَى الْمُؤَنَّثِ، كَمَا قَالَ الْأَعْشَى:
[البحر الطويل]
وَنَشْرَقُ بِالْقَوْلِ الَّذِي قَدْ أَذَعْتَهُ ... كَمَا
شَرِقَتْ صَدْرُ الْقَنَاةِ مِنَ الدَّمِ
وَقَالَ الْعَجَّاجُ:
[البحر الرجز]
لَمَّا رَأَى مَتْنَ السَّمَاءِ أَبْعَدَتْ
وَقَالَ الْفَرَزْدَقُ:
[البحر الطويل]
إِذَا الْقُنْبُضَاتُ السُّودُ طَوَّفْنَ بِالضُّحَى ...
رَقَدْنَ عَلَيْهِنَّ الْحِجَالُ الْمُسَجَّفُ
وَقَالَ الْأَعْشَى:
وَإِنَّ امْرَأً أَهْدَى إِلَيْكِ وَدُونَهُ ... مِنَ
الْأَرْضِ يَهْمَاءٌ وَبَيْدَاءُ خَيْفَقُ
لَمَحْقُوقَةٌ أَنْ تَسْتَجِيبِي لِصَوْتِهِ ... وَأَنْ
تَعْلَمِي أَنَّ الْمُعَانَ الْمُوَفَّقُ
قَالَ: وَيَقُولُونَ: بَنَاتُ نَعْشٍ وَبَنُو نَعْشٍ،
وَيُقَالُ: بَنَاتُ عِرْسٍ، وَبَنُو عِرْسٍ؛ وَقَالَتِ
امْرَأَةٌ: أَنَا امْرُؤٌ لَا أُخْبِرُ السِّرَّ، قَالَ:
وَذُكِرَ لِرَؤْبَةَ رَجُلٌ فَقَالَ: هُوَ كَانَ أَحَدُ
[ص:547] بَنَاتِ مَسَاجِدِ اللَّهِ، يَعْنِي الْحَصَى. وَكَانَ
بَعْضُ نَحْوِيِّي الْكُوفَةِ يَقُولُ: هَذَا بِمَنْزِلَةِ
قَوْلِ الشَّاعِرِ:
[البحر الوافر]
تَرَى أَرْمَاحَهُمْ مُتَقَلِّدِيهَا ... إِذَا صَدِئَ
الْحَدِيدُ عَلَى الْكُمَاةِ
فَمَعْنَاهُ عِنْدَهُ: فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ خَاضِعِيهَا
هُمْ، كَمَا يُقَالُ: يَدُكَ بَاسِطُهَا، بِمَعْنَى: يَدُكَ
بَاسِطُهَا أَنْتَ، فَاكْتَفَى بِمَا ابْتَدَأَ بِهِ مِنَ
الِاسْمِ أَنْ يَكُونَ، فَصَارَ الْفِعْلُ كَأَنَّهُ
لِلْأَوَّلِ وَهُوَ لِلثَّانِي، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ:
لَمَحْقُوقَةٌ أَنْ تَسْتَجِيبِي لِصَوْتِهِ إِنَّمَا هُوَ
لَمَحْقُوقَةٌ أَنْتِ، وَالْمَحْقُوقَةُ: النَّاقَةُ، إِلَّا
أَنَّهُ عَطَفَهُ عَلَى الْمَرْءِ لِمَا عَادَ بِالذِّكْرِ.
وَكَانَ آخَرُ مِنْهُمْ يَقُولُ: الْأَعْنَاقُ: الطَّوَائِفُ،
كَمَا يُقَالُ: رَأَيْتُ النَّاسَ إِلَى فُلَانٍ عُنُقًا
وَاحِدَةً، فَيُجْعَلُ الْأَعْنَاقُ الطَّوَائِفَ وَالْعَصَبَ؛
وَيَقُولُ: يَحْتَمِلُ أَيْضًا أَنْ تَكُونَ الْأَعْنَاقُ هُمُ
السَّادَّةُ وَالرِّجَالُ الْكُبَرَاءُ، فَيَكُونَ كَأَنَّهُ
قِيلَ. فَظَلَّتْ رُءُوسُ الْقَوْمِ وَكُبَرَاؤُهُمْ لَهَا
خَاضِعِينَ، وَقَالَ: أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ هَذَيْنِ
الْوَجْهَيْنِ فِي الْعَرَبِيَّةِ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ
الْأَعْنَاقَ إِذَا خَضَعَتْ فَأَرْبَابُهَا خَاضِعُونَ،
فَجَعَلْتُ الْفِعْلَ أَوَّلًا لِلْأَعْنَاقِ، ثُمَّ جَعَلْتُ
خَاضِعِينَ لِلرِّجَالِ، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ:
[البحر الطويل]
[ص:548] عَلَى قَبْضَةٍ مَرْجُوَّةٍ ظَهْرُ كَفِّهِ ... فَلَا
الْمَرْءُ مُسْتَحْيٍ وَلَا هُوَ طَاعِمُ
فَأَنَّثَ فِعْلَ الظَّهْرِ لِأَنَّ الْكَفَّ تَجْمَعُ
الظَّهْرَ، وَتَكْفِي مِنْهُ، كَمَا أَنَّكَ تَكْتَفِي بِأَنْ
تَقُولَ: خَضَعْتُ لَكَ، مِنْ أَنْ تَقُولَ: خَضَعَتْ لَكَ
رَقَبَتِي، وَقَالَ: أَلَا تَرَى أَنَّ الْعَرَبَ تَقُولُ:
كُلُّ ذِي عَيْنٍ نَاظِرٌ وَنَاظِرَةٌ إِلَيْكَ، لِأَنَّ
قَوْلَكَ: نَظَرَتْ إِلَيْكَ عَيْنِي، وَنَظَرْتُ إِلَيْكَ
بِمَعْنًى وَاحِدٍ بِتَرْكِ كُلٍّ، وَلَهُ الْفِعْلُ
وَبِرَدِّهِ إِلَى الْعَيْنِ، فَلَوْ قُلْتَ: فَظَلَّتْ
أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعَةٌ، كَانَ صَوَابًا. قَالَ أَبُو
جَعْفَرٍ: وَأَوْلَى الْأَقْوَالِ فِي ذَلِكَ بِالصَّوَابِ
وَأَشْبَهُهَا بِمَا قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي ذَلِكَ
أَنْ تَكُونَ الْأَعْنَاقُ هِيَ أَعْنَاقُ الرِّجَالِ، وَأَنْ
يَكُونَ مَعْنَى الْكَلَامِ: فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ
ذَلِيلَةٌ، لِلْآيَةِ الَّتِي يُنَزِّلُهَا اللَّهُ عَلَيْهِمْ
مِنَ السَّمَاءِ، وَأَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ «خَاضِعِينَ»
مُذَكَّرًا، لِأَنَّهُ خَبَرٌ عَنِ الْهَاءِ وَالْمِيمِ فِي
الْأَعْنَاقِ، فَيَكُونَ ذَلِكَ نَظِيرُ قَوْلِ جَرِيرٍ:
[البحر الوافر]
أَرَى مَرَّ السِّنِينَ أَخَذْنَ مِنِّي ... كَمَا أَخَذَ
السِّرَارُ مِنَ الْهِلَالِ
وَذَلِكَ أَنَّ قَوْلَهُ: مَرَّ لَوْ أُسْقِطَ مِنَ الْكَلَامِ
لِأَدِيَ مَا بَقِيَ مِنَ الْكَلَامِ عَنْهُ وَلَمْ يُفْسِدْ
سُقُوطُهُ مَعْنَى الْكَلَامِ عَمَّا كَانَ بِهِ قَبْلَ
سُقُوطِهِ، وَكَذَلِكَ لَوْ أُسْقِطَتِ الْأَعْنَاقُ مِنْ
قَوْلِهِ: فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَأَدَّى مَا بَقِيَ مِنَ
الْكَلَامِ عَنْهَا، وَذَلِكَ أَنَّ الرِّجَالَ إِذَا ذُلُّوا،
فَقَدْ ذَلَّتْ رِقَابُهُمْ، وَإِذَا ذَلَّتْ رِقَابُهُمْ
فَقَدْ ذَلُّوا. فَإِنْ قِيلَ فِي الْكَلَامِ: فَظَلُّوا لَهَا
خَاضِعِينَ، كَانَ الْكَلَامُ غَيْرُ فَاسِدٍ، لِسُقُوطِ
الْأَعْنَاقِ، وَلَا مُتَغَيِّرٌ مَعْنَاهُ عَمَّا كَانَ
عَلَيْهِ قَبْلَ سُقُوطِهَا، فَصَرَفَ الْخَبَرَ بِالْخُضُوعِ
إِلَى أَصْحَابِ الْأَعْنَاقِ، وَإِنْ كَانَ قَدِ ابْتَدَأَ
بِذِكْرِ الْأَعْنَاقِ لِمَا قَدْ جَرَى بِهِ اسْتِعْمَالُ
الْعَرَبِ فِي كَلَامِهِمْ، إِذَا كَانَ الِاسْمُ
الْمُبْتَدَأُ بِهِ، وَمَا أُضِيفَ إِلَيْهِ يُؤَدِّي
الْخَبَرَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَنِ الْآخَرِ
(17/545)
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ
تَعَالَى: {وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمَنِ
مُحْدَثٍ إِلَّا كَانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ} [الشعراء: 5]
يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَمَا يَجِيءُ هَؤُلَاءِ
الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ يُكَذِّبُونَكَ وَيَجْحَدُونَ مَا
أَتَيْتَهُمْ بِهِ يَا مُحَمَّدُ مِنْ عِنْدِ رَبِّكَ مِنْ
تَذْكِيرٍ وَتَنْبِيهٍ عَلَى مَوَاضِعِ حُجَجِ اللَّهِ
عَلَيْهِمْ عَلَى صِدْقِكَ وَحَقِيقَةِ مَا تَدْعُوهُمْ
إِلَيْهِ مِمَّا يُحْدِثُهُ اللَّهُ إِلَيْكَ وَيُوحِيهِ
إِلَيْكَ لِتُذَكِّرَهُمْ بِهِ إِلَّا أَعْرَضُوا عَنِ
اسْتِمَاعِهِ، وَتَرَكُوا إِعْمَالَ الْفِكْرِ فِيهِ
وَتَدَبُّرَهُ
(17/549)
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ
تَعَالَى: {فَقَدْ كَذَّبُوا فَسَيَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا
كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} [الشعراء: 6] يَقُولُ تَعَالَى
ذِكْرُهُ: فَقَدْ كَذَّبَ يَا مُحَمَّدُ هَؤُلَاءِ
الْمُشْرِكُونَ بِالذِّكْرِ الَّذِي أَتَاهُمْ مِنْ عِنْدِ
اللَّهِ وَأَعْرَضُوا عَنْهُ {فَسَيَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا
كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} [الشعراء: 6] يَقُولُ:
فَسَيَأْتِيهِمْ أَخْبَارُ الْأَمْرِ الَّذِي كَانُوا
يَسْخَرُونَ، وَذَلِكَ وَعِيدٌ مِنَ اللَّهِ لَهُمْ أَنَّهُ
مُحِلٌّ بِهِمْ عِقَابَهُ عَلَى تَمَادِيهِمْ فِي كُفْرِهِمْ،
وَتَمَرُّدِهِمْ عَلَى رَبِّهِمْ
(17/549)
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ
تَعَالَى: {أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ كَمْ أَنْبَتْنَا
فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ} [الشعراء: 7] يَقُولُ
تَعَالَى ذِكْرُهُ: أَوَلَمْ يَرَ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكُونَ
الْمُكَذِّبُونَ بِالْبَعْثِ وَالنَّشْرُ إِلَى الْأَرْضِ،
كَمْ أَنْبَتْنَا فِيهَا بَعْدَ أَنْ كَانَتْ مَيْتَةً لَا
نَبَاتَ فِيهَا {مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ} [الشعراء: 7]
يَعْنِي بِالْكَرِيمِ: الْحَسَنَ، كَمَا يُقَالُ لِلنَّخْلَةِ
الطَّيِّبَةِ الْحَمْلِ: كَرِيمَةٌ، وَكَمَا يُقَالُ لِلشَّاةِ
أَوِ النَّاقَةِ إِذَا غَزَرَتَا فَكَثُرَتْ أَلْبَانُهُمَا:
نَاقَةٌ كَرِيمَةٌ، وَشَاةٌ كَرِيمَةٌ. وَبِنَحْوِ الَّذِي
قُلْنَا فِي تَأْوِيلِ ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ
(17/549)
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي
مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثني أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثنا
عِيسَى، وَحَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ: ثنا الْحَسَنُ،
قَالَ: ثنا وَرْقَاءُ، جَمِيعًا، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ،
عَنْ مُجَاهِدٍ، فِي قَوْلِ اللَّهِ: " {أَنْبَتْنَا فِيهَا
مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ} [الشعراء: 7] قَالَ: مِنْ نَبَاتِ
الْأَرْضِ، مِمَّا تَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ ".
حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثني
حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، مِثْلَهُ
(17/550)
حَدَّثَنَا الْحَسَنُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا
عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ
قَتَادَةَ، فِي قَوْلِهِ: " {مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ}
[الشعراء: 7] قَالَ: حَسَنٌ "
(17/550)
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ
تَعَالَى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ
مُؤْمِنِينَ , وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ}
[الشعراء: 9] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: إِنَّ فِي
إِنْبَاتِنَا فِي الْأَرْضِ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ
لَآيَةً. يَقُولُ: لَدَلَالَةٌ لِهَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ
الْمُكَذِّبِينَ بِالْبَعْثِ عَلَى حَقِيقَتِهِ، وَأَنَّ
الْقُدْرَةَ الَّتِي بِهَا أَنَبْتَ اللَّهُ فِي الْأَرْضِ
ذَلِكَ النَّبَاتَ بَعْدَ جُدُوبِهَا لَنْ يُعْجِزَهُ أَنْ
يَنْشُرَ بِهَا الْأَمْوَاتَ بَعْدَ مَمَاتِهِمْ أَحْيَاءً
مِنْ قُبُورَهُمْ
(17/550)
وَقَوْلُهُ: {وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ
مُؤْمِنِينَ} [الشعراء: 8] يَقُولُ: وَمَا كَانَ أَكْثَرُ
هَؤُلَاءِ الْمُكَذِّبِينَ بِالْبَعْثِ الْجَاحِدِينَ
نُبُوَّتَكَ يَا مُحَمَّدُ بِمُصَدِّقِيكَ عَلَى مَا
تَأْتِيهِمْ بِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مِنَ [ص:551] الذِّكْرِ.
يَقُولُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: وَقَدْ سَبَقَ فِي عِلْمِي أَنَّهُمْ
لَا يُؤْمِنُونَ، فَلَا يُؤْمِنُ بِكَ أَكْثَرُهُمْ
لِلسَّابِقِ مِنْ عِلْمِي فِيهِمْ
(17/550)
وَقَوْلُهُ: {وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ
الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} [الشعراء: 9] يَقُولُ: وَإِنَّ رَبِّكَ
يَا مُحَمَّدُ لَهُوَ الْعَزِيزُ فِي نِقْمَتِهِ، لَا
يَمْتَنِعُ عَلَيْهِ أَحَدٌ أَرَادَ الِانْتِقَامَ مِنْهُ.
يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَإِنِّي إِنْ أَحْلَلْتُ
بِهَؤُلَاءِ الْمُكَذِّبِينَ بِكَ يَا مُحَمَّدُ
الْمُعْرِضِينَ عَمَّا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرِ مَنْ عِنْدِي
عُقُوبَتِي بِتَكْذِيبِهِمْ إِيَّاكَ، فَلَنْ يَمْنَعَهُمْ
مِنِّي مَانِعٌ، لِأَنِّي أَنَا الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ،
يَعْنِي أَنَّهُ ذُو الرَّحْمَةِ بِمَنْ تَابَ مِنْ خَلْقِهِ
مِنْ كُفْرِهِ وَمَعْصِيَتِهِ، أَنْ يُعَاقِبَهُ عَلَى مَا
سَلَفَ مِنْ جُرْمِهِ بَعْدَ تَوْبَتِهِ
(17/551)
وَكَانَ ابْنُ جُرَيْجٍ يَقُولُ فِي
مَعْنَى ذَلِكَ، مَا: حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثنا
الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثني الْحَجَّاجُ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ،
قَالَ: «كُلُّ شَيْءٍ فِي الشُّعَرَاءِ مِنْ قَوْلِهِ (عَزِيزٌ
رَحِيمٌ) فَهُوَ مَا أُهْلِكَ مِمَّنْ مَضَى مِنَ الْأُمَمِ،
يَقُولُ عَزِيزٌ حِينَ انْتَقَمَ مِنْ أَعْدَائِهِ، رَحِيمٌ
بِالْمُؤْمِنِينَ حِينَ أَنْجَاهُمْ مِمَّا أَهْلَكَ بِهِ
أَعْدَاءَهُ» . قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَإِنَّمَا اخْتَرْنَا
الْقَوْلَ الَّذِي اخْتَرْنَاهُ فِي ذَلِكَ فِي هَذَا
الْمَوْضِعِ، لِأَنَّ قَوْلَهُ: {وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ
الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} [الشعراء: 9] عُقَيْبَ وَعِيدِ اللَّهِ
قَوْمًا مِنْ أَهْلِ الشِّرْكِ وَالتَّكْذِيبِ بِالْبَعْثِ،
لَمْ يَكُونُوا أُهْلِكُوا، فَيُوَجَّهُ إِلَى أَنَّهُ خَبَرٌ
مِنَ اللَّهِ عَنْ فِعْلِهِ بِهِمْ وَإِهْلَاكِهِ. وَلَعَلَّ
ابْنَ جُرَيْجٍ بِقَوْلِهِ هَذَا أَرَادَ مَا كَانَ مِنْ
ذَلِكَ عُقَيْبَ خَبَرِ اللَّهِ عَنْ إِهْلَاكِهِ مَنْ
أَهْلَكَ مِنَ الْأُمَمِ، وَذَلِكَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ إِذَا
كَانَ عُقَيْبُ خَبَرِهِمْ كَذَلِكَ.
(17/551)
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ
تَعَالَى: {وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ
الظَّالِمِينَ , قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلَا يَتَّقُونَ}
[الشعراء: 11][ص:552] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَاذْكُرْ
يَا مُحَمَّدُ إِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى بْنَ عِمْرَانَ
{أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [الشعراء: 10] يَعْنِي
الْكَافِرِينَ قَوْمَ فِرْعَوْنَ، وَنَصْبُ الْقَوْمِ
الثَّانِي تَرْجَمَةً عَنِ الْقَوْمِ الْأَوَّلِ، وَقَوْلُهُ
{أَلَا يَتَّقُونَ} [الشعراء: 11] يَقُولُ: أَلَا يَتَّقُونَ
عِقَابَ اللَّهِ عَلَى كُفْرِهِمْ بِهِ، وَمَعْنَى الْكَلَامِ
قَوْمُ فِرْعَوْنَ فَقُلْ لَهُمْ: أَلَا يَتَّقُونَ. وَتَرَكَ
إِظْهَارَ فَقُلْ لَهُمْ لِدَلَالَةِ الْكَلَامِ عَلَيْهِ.
وَإِنَّمَا قِيلَ: أَلَا يَتَّقُونَ بِالْيَاءِ، وَلَمْ يَقُلْ
أَلَا تَتَّقُونَ بِالتَّاءِ، لِأَنَّ التَّنْزِيلَ كَانَ
قَبْلَ الْخَطَّابِ، وَلَوْ جَاءَتِ الْقِرَاءَةُ فِيهَا
بِالتَّاءِ كَانَ صَوَابًا، كَمَا قِيلَ: (قُلْ لِلَّذِينَ
كَفَرُوا سَيُغْلَبُونَ) وَ {سَتُغْلَبُونَ} [آل عمران: 12]
(17/551)
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ
تَعَالَى: {قَالَ رَبِّ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ ,
وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلَا يَنطَلِقُ لِسَانِي فَأَرْسِلْ إِلَى
هَارُونَ , وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنبٌ فَأَخَافُ أَنْ
يَقْتُلُونِ} [الشعراء: 13] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: قَالَ
مُوسَى لِرَبِّهِ: {رَبِّ إِنِّي أَخَافُ} [الشعراء: 12] مِنْ
قَوْمِ فِرْعَوْنَ الَّذِينَ أَمَرْتَنِي أَنْ آتِيَهُمْ {أَنْ
يُكَّذِّبُونِ} [الشعراء: 12] بِقِيلِي لَهُمْ: إِنَّكَ
أَرْسَلَتْنِي إِلَيْهِمْ. {وَيَضِيقُ صَدْرِي} [الشعراء: 13]
مِنْ تَكْذِيبِهِمْ إِيَّايَ إِنْ كَذَّبُونِي. وَرَفَعَ
قَوْلَهُ: {وَيَضِيقُ صَدْرِي} [الشعراء: 13] عَطْفًا بِهِ
عَلَى أَخَافُ، وَبِالرَّفْعِ فِيهِ قَرَأَتْهُ عَامَّةُ
قُرَّاءِ الْأَمْصَارِ، وَمَعْنَاهُ: وَإِنِّي يَضِيقُ
صَدْرِي.
(17/552)
وَقَوْلُهُ: {وَلَا يَنْطَلِقُ لِسَانِي}
[الشعراء: 13] يَقُولُ: وَلَا يَنْطَلِقُ بِالْعِبَارْةِ
عَمَّا تُرْسِلُنِي بِهِ إِلَيْهِمْ، لِلْعِلَّةِ الَّتِي
كَانَتْ بِلِسَانِهِ. وَقَوْلُهُ: {وَلَا يَنْطَلِقُ لِسَانِي}
[الشعراء: 13] كَلَامٌ مَعْطُوفٌ بِهِ عَلَى يَضِيقُ
(17/552)
وَقَوْلُهُ: {فَأَرْسِلْ إِلَى هَارُونَ}
[الشعراء: 13] يَعْنِي هَارُونَ أَخَاهُ، وَلَمْ يَقُلْ:
فَأَرْسِلْ إِلَيَّ هَارُونَ لِيُؤَازِرَنِي وَلِيُعِينَنِي،
إِذْ كَانَ مَفْهُومًا مَعْنَى الْكَلَامِ، وَذَلِكَ كَقَوْلِ
الْقَائِلِ: لَوْ نَزَلَتْ بِنَا نَازِلَةٌ لَفَزَعْنَا
إِلَيْكَ، بِمَعْنَى: لَفَزَعْنَا إِلَيْكَ لِتُعِينَنَا.
(17/553)
وَقَوْلُهُ: {وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ}
[الشعراء: 14] يَقُولُ: وَلِقَوْمِ فِرْعَوْنَ عَلَيَّ دَعْوَى
ذَنْبٍ أَذْنَبْتُ إِلَيْهِمْ، وَذَلِكَ قَتْلُهُ النَّفْسَ
الَّتِي قَتَلَهَا مِنْهُمْ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي
ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ
(17/553)
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي
مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثنا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثني
عِيسَى؛ وَحَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ: ثنا الْحَسَنُ،
قَالَ: ثنا وَرْقَاءُ، جَمِيعًا، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ،
عَنْ مُجَاهِدٍ، قَوْلَهُ: " {وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ
فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونَ} [سورة: الشعراء، آية رقم: 14]
قَالَ: قَتْلُ النَّفْسِ الَّتِي قَتَلَ مِنْهُمْ "
(17/553)
حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثني
الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثني حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ
مُجَاهِدٍ، قَالَ: «قَتْلُ مُوسَى النَّفْسَ»
(17/553)
قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثنا أَبُو
سُفْيَانَ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلَهُ: "
{وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ} [الشعراء: 14] قَالَ: قَتْلُ
النَّفْسِ "
(17/553)
وَقَوْلُهُ: {فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونَ}
[الشعراء: 14] يَقُولُ: فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِي قَوَدًا
بِالنَّفْسِ الَّتِي قَتَلْتُ مِنْهُمْ
(17/553)
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى
{قَالَ كَلَّا فَاذْهَبَا بِآيَاتِنَا إِنَّا مَعَكُمْ
مُسْتَمِعُونَ فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولَا إِنَّا رَسُولُ
رَبِّ الْعَالَمِينَ أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي
إِسْرَائِيلَ} [الشعراء: 16] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ
{كَلَّا} [النساء: 130] أَيْ لَنْ يَقْتُلَكَ قَوْمُ
فِرْعَوْنَ. {فَاذْهَبَا بآيَاتِنَا} [الشعراء: 15] يَقُولُ:
فَاذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآيَاتِنَا، يَعْنِي
بِأَعْلَامِنَا وَحُجَجِنَا الَّتِي أَعْطَيْنَاكَ عَلَيْهِمْ.
(17/554)
وَقَوْلُهُ: {إِنَّا مَعَكُمْ
مُسْتَمِعُونَ} [الشعراء: 15] مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ مَا
يَقُولُونَ لَكُمْ، وَيُجِيبُونَكُمْ بِهِ.
(17/554)
وَقَوْلِهِ: {فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ
فَقُولَا} [الشعراء: 16] يَقُولُ: فَأْتِ أَنْتَ يَا مُوسَى
وَأَخُوكَ هَارُونُ فِرْعَوْنَ. {فَقُولَا إِنَّا رَسُولُ
رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء: 16] إِلَيْكَ بِ {أَنْ
أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ} [الشعراء: 17] وَقَالَ
رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَهُوَ يُخَاطِبُ اثْنَيْنِ
بِقَوْلِهِ فَقُولَا لِأَنَّهُ أَرَادَ بِهِ الْمَصْدَرَ مِنْ
أَرْسَلْتُ، يُقَالُ: أَرْسَلْتُ رِسَالَةً وَرَسُولًا، كَمَا
قَالَ الشَّاعِرُ:
[البحر الطويل]
لَقَدْ كَذَبَ الْوَاشُونَ مَا بُحْتُ عِنْدَهُمْ ... بِسُوءٍ
وَلَا أَرْسَلْتُهُمْ بِرَسُولِ
يَعْنِي بِرِسَالَةٍ، وَقَالَ الْآخَرُ:
[البحر الوافر]
أَلَا مَنْ مُبْلِغٌ عَنِّي خُفَافًا ... رَسُولًا بَيْتُ
أَهْلِكَ مُنْتَهَاهَا
يَعْنِي بِقَوْلِهِ: رَسُولًا: رِسَالَةً، فَأَنَّثَ لِذَلِكَ
الْهَاءَ.
(17/554)
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ
تَعَالَى: {قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا وَلَبِثْتَ
فِينَا مِنْ عُمُرِكَ [ص:555] سِنِينَ , وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ
الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ} [الشعراء: 19]
وَفِي هَذَا الْكَلَامِ مَحْذُوفٌ اسْتَغْنَى بِدَلَالَةِ مَا
ظَهَرَ عَلَيْهِ مِنْهُ، وَهُوَ: فَأَتَيَا فِرْعَوْنَ
فَأَبْلَغَاهُ رِسَالَةَ رَبِّهِمَا إِلَيْهِ، فَقَالَ
فِرْعَوْنُ: أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا يَا مُوسَى وَلِيدًا،
وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ؟ وَذَلِكَ مُكْثُهُ
عِنْدَهُ قَبْلَ قَتْلِ الْقَتِيلِ الَّذِي قَتَلَهُ مِنَ
الْقِبْطِ، {وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتي فَعَلْتَ} [الشعراء:
19] يَعْنِي: قَتْلَهُ النَّفْسَ الَّتِي قَتَلَ مِنَ
الْقِبْطِ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ
أَهْلُ التَّأْوِيلِ
(17/554)
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي
مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثنا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثنا
عِيسَى، وَحَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ: ثنا الْحَسَنُ،
قَالَ: ثنا وَرْقَاءُ، جَمِيعًا، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ،
عَنْ مُجَاهِدٍ، قَوْلَهُ: " {وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي
فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ , قَالَ فَعَلْتُهَا
إِذًا وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ} [الشعراء: 20] . قَالَ:
قَتْلُ النَّفْسِ ". حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثنا
الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثني حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ
مُجَاهِدٍ، مِثْلَهُ. وَإِنَّمَا قِيلَ {وَفَعَلْتَ
فَعْلَتَكَ} [الشعراء: 19] لِأَنَّهَا مَرَّةً وَاحِدَةً،
وَلَا يَجُوزُ كَسْرَ الْفَاءِ إِذَا أُرِيدَ بِهَا هَذَا
الْمَعْنَى. وَذُكِرَ عَنِ الشَّعْبِيِّ أَنَّهُ قَرَأَ
ذَلِكَ: (وَفَعَلْتَ فِعْلَتَكَ) بِكَسْرِ الْفَاءِ، وَهِيَ
قِرَاءَةٌ [ص:556] لِقِرَاءَةِ الْقُرَّاءِ مِنْ أَهْلِ
الْأَمْصَارِ مُخَالَفَةٌ
(17/555)
وَقَوْلُهُ: {وَأَنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ}
[الشعراء: 19] اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي تَأْوِيلِ
ذَلِكَ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: مَعْنَى ذَلِكَ: وَأَنْتَ مِنَ
الْكَافِرِينَ بِاللَّهِ عَلَى دِينِنَا
(17/556)
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي
مُوسَى بْنُ هَارُونَ، قَالَ: ثنا عَمْرٌو، قَالَ: ثنا
أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ: " {وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ
الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ} [الشعراء: 19]
يَعْنِي عَلَى دِينِنَا هَذَا الَّذِي تَعِيبُ ". وَقَالَ
آخَرُونَ: بَلْ مَعْنَى ذَلِكَ: وَأَنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ
نِعْمَتَنَا عَلَيْكَ
(17/556)
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي
يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ
زَيْدٍ، فِي قَوْلِهِ: " {وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي
فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ} [الشعراء: 19] قَالَ:
رَبَّيْنَاكَ فِينَا وَلِيدًا، فَهَذَا الَّذِي كَافَأْتَنَا
أَنْ قَتَلْتَ مِنَّا نَفْسًا، وَكَفَرْتَ نِعْمَتَنَا "
(17/556)
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ:
ثني أَبِي، قَالَ: ثني عَمِّي، قَالَ: ثني أَبِي، عَنْ
أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: " {وَأَنْتَ مِنَ
الْكَافِرِينَ} [الشعراء: 19] يَقُولُ: كَافِرًا لِلنِّعْمَةِ،
لِأَنَّ فِرْعَوْنَ لَمْ يَكُنْ يَعْلَمُ مَا الْكُفْرُ ".
قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَهَذَا الْقَوْلُ الَّذِي قَالَهُ
ابْنُ زَيْدٍ أَشْبَهُ بِتَأْوِيلِ الْآيَةِ، لِأَنَّ
فِرْعَوْنَ لَمْ
(17/556)
يَكُنْ مُقِرًّا لِلَّهِ بِالرُّبُوبِيَّةِ
وَإِنَّمَا كَانَ يَزْعُمُ أَنَّهُ هُوَ الرَّبُّ، فَغَيْرُ
جَائِزٍ أَنْ يَقُولَ لِمُوسَى، إِنْ كَانَ مُوسَى كَانَ
عِنْدَهُ عَلَى دِينِهِ يَوْمَ قَتْلِ الْقَتِيلِ عَلَى مَا
قَالَهُ السُّدِّيُّ: فَعَلْتَ الْفَعْلَةَ وَأَنْتَ مِنَ
الْكَافِرِينَ، الْإِيمَانُ عِنْدَهُ: هُوَ دِينُهُ الَّذِي
كَانَ عَلَيْهِ مُوسَى عِنْدَهُ، إِلَّا أَنْ يَقُولَ قَائِلٌ:
إِنَّمَا أَرَادَ: وَأَنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ يَوْمَئِذٍ يَا
مُوسَى، عَلَى قَوْلِكَ الْيَوْمَ، فَيَكُونُ ذَلِكَ وَجْهًا
يَتَوَجَّهُ. فَتَأْوِيلُ الْكَلَامِ إِذَنْ: وَقَتَلْتَ
الَّذِي قَتَلْتَ مِنَّا وَأَنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ
نِعْمَتَنَا عَلَيْكَ، وَإِحْسَانَنَا إِلَيْكَ فِي قَتْلِكَ
إِيَّاهُ. وَقَدْ قِيلَ: مَعْنَى ذَلِكَ: وَأَنْتَ الْآنَ مِنَ
الْكَافِرِينَ لِنِعْمَتِي عَلَيْكَ، وَتَرْبِيَتِي إِيَّاكَ
(17/557)
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ
تَعَالَى: {قَالَ فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَا مِنَ
الضَّالِّينَ. فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ
لِي رَبِّي حُكْمًا وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ}
[الشعراء: 21] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: قَالَ مُوسَى
لِفِرْعَوْنَ: فَعَلْتُ تِلْكَ الْفَعْلَةَ الَّتِي فَعَلْتُ،
أَيْ قَتَلْتُ تِلْكَ النَّفْسَ الَّتِي قَتَلْتُ إِذَنْ
وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ. يَقُولُ: وَأَنَا مِنَ
الْجَاهِلِينَ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَنِي مِنَ اللَّهِ وَحْي
بِتَحْرِيمِ قَتْلِهِ عَلِيَّ. وَالْعَرَبُ تَضَعُ مِنَ
الضَّلَالِ مَوْضِعَ الْجَهْلِ، وَالْجَهْلِ مَوْضِعَ
الضَّلَالِ، فَتَقُولُ: قَدْ جَهَلَ فُلَانٌ الطَّرِيقَ
وَضَلَّ الطَّرِيقَ، بِمَعْنًى وَاحِدٍ. وَبِنَحْوِ الَّذِي
قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ
(17/557)
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي
مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثنا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثنا
عِيسَى، وَحَدَّثَنِي [ص:558] الْحَارِثُ، قَالَ: ثنا
الْحَسَنُ، قَالَ: ثنا وَرْقَاءُ، جَمِيعًا، عَنِ ابْنِ أَبِي
نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: " {وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ}
[الشعراء: 20] قَالَ: مِنَ الْجَاهِلِينَ ". حَدَّثَنَا
الْقَاسِمُ، قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثني حَجَّاجٌ،
عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، مِثْلَهُ قَالَ ابْنُ
جُرَيْجٍ: وَفِي قِرَاءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ: (وَأَنَا مِنَ
الْجَاهِلِينَ)
(17/557)
قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثنا أَبُو
سُفْيَانَ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ: " {وَأَنَا مِنَ
الضَّالِّينَ} [الشعراء: 20] قَالَ: مِنَ الْجَاهِلِينَ "
(17/558)
حُدِّثْتُ عَنِ الْحُسَيْنِ، قَالَ:
سَمِعْتُ أَبَا مُعَاذٍ، يَقُولُ: أَخْبَرَنَا عُبَيْدٌ،
قَالَ: سَمِعْتُ الضَّحَّاكَ، يَقُولُ فِي قَوْلِهِ: "
{وَأَنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ} [الشعراء: 19] فَقَالَ مُوسَى:
لَمْ أَكْفُرْ، وَلَكِنْ فَعَلْتُهَا وَأَنَا مِنَ
الضَّالِّينَ. وَفِي حَرْفِ ابْنِ مَسْعُودٍ: «فَعَلْتُهَا
إِذًا وَأَنَا مِنَ الْجَاهِلِينَ»
(17/558)
حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا
ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ: "
{قَالَ فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ}
[الشعراء: 20] قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَنِي مِنَ اللَّهِ شَيْءٌ
كَانَ قَتْلِي إِيَّاهُ ضَلَالَةً خَطَأً. قَالَ:
وَالضَّلَالَةُ هَهُنَا الْخَطَأُ، لَمْ يَقُلْ ضَلَالَةً
فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ "
(17/558)
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ:
ثني أَبِي، قَالَ: ثني عَمِّي، قَالَ: ثني أَبِي، عَنْ [ص:559]
أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: " {قَالَ فَعَلْتُهَا إِذًا
وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ} [الشعراء: 20] يَقُولُ: وَأَنَا
مِنَ الْجَاهِلِينَ "
(17/558)
وَقَوْلُهُ {فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا
خِفْتُكُمْ} [الشعراء: 21] الْآيَةَ يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ
مُخْبِرًا عَنْ قِيلِ مُوسَى لِفِرْعَوْنَ: {فَفَرَرْتُ
مِنْكُمْ} [الشعراء: 21] مَعْشَرَ الْمَلَأِ مِنْ قَوْمِ
فِرْعَوْنَ {لَمَّا خِفْتُكُمْ} [الشعراء: 21] أَنْ
تَقْتُلُونِي بِقَتْلِيَ الْقَتِيلِ مِنْكُمْ. {فَوَهَبَ لِي
رَبِّي حُكْمًا} [الشعراء: 21] يَقُولُ: فَوَهَبَ لِي رَبِّي
نُبُوَّةً وَهِيَ الْحُكْمُ
(17/559)
كَمَا: حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ هَارُونَ،
قَالَ: ثنا عَمْرٌو، قَالَ: ثنا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ:
" {فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْمًا} [الشعراء: 21] وَالْحُكْمُ:
النُّبُوَّةُ "
(17/559)
وَقَوْلُهُ: {وَجَعَلَنِي مِنَ
الْمُرْسَلِينَ} [الشعراء: 21] يَقُولُ: وَأَلْحِقْنِي
بِعِدَادِ مَنْ أَرْسَلَهُ إِلَى خَلْقِهِ، مُبَلِّغًا عَنْهُ
رِسَالَتَهُ إِلَيْهِمْ بِإِرْسَالِهِ إِيَّايَ إِلَيْكَ يَا
فِرْعَوْنُ
(17/559)
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ
تَعَالَى: {وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ
عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرَائِيلَ قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ
الْعَالَمِينَ قَالَ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا
بَيْنَهُمَا إنْ كُنتُمْ مُوقِنِينَ} يَقُولُ تَعَالَى
ذِكْرُهُ مُخْبِرًا عَنْ قِيلِ نَبِيِّهِ مُوسَى صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِفِرْعَوْنَ {وَتِلْكَ نِعْمَةٌ
تَمُنُّهَا عَلَيَّ} [الشعراء: 22] يَعْنِي بِقَوْلِهِ:
وَتِلْكَ تَرْبِيَةُ فِرْعَوْنَ إِيَّاهُ، يَقُولُ:
وُتَرْبِيَتُكَ إِيَّايَ، وَتَرْكُكَ اسْتِعْبَادِي كَمَا
اسْتَعْبَدْتَ بَنِي إِسْرَائِيلَ نِعْمَةٌ مِنْكَ تَمُنُّهَا
عَلَيَّ بِحَقٍّ. وَفِي الْكَلَامِ مَحْذُوفٌ اسْتَغْنَى
بِدَلَالَةِ مَا ذُكِرَ عَلَيْهِ عَنْهُ، وَهُوَ: وَتِلْكَ
نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي
إِسْرَائِيلَ وَتَرَكْتَنِي، فَلَمْ تَسْتَعْبِدْنِي، فَتَرَكَ
ذِكْرَ «وَتَرَكْتَنِي» لِدَلَالَةِ
(17/559)
قَوْلِهِ {أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي
إِسْرَائِيلَ} [الشعراء: 22] عَلَيْهِ، وَالْعَرَبُ تَفْعَلُ
ذَلِكَ اخْتِصَارًا لِلْكَلَامِ، وَنَظِيرُ ذَلِكَ فِي
الْكَلَامِ أَنْ يَسْتَحِقَّ رَجُلَانِ مِنْ ذِي سُلْطَانٍ
عُقُوبَةً، فَيُعَاقِبُ أَحَدَهُمَا، وَيَعْفُو عَنِ الْآخَرِ،
فَيَقُولُ الْمَعْفُوُّ عَنْهُ هَذِهِ نِعْمَةٌ عَلَيَّ مِنَ
الْأَمِيرِ أَنْ عَاقَبَ فُلَانًا، وَتَرَكَنِي، ثُمَّ حَذَفَ
«وَتَرَكَنِي» لِدَلَالَةِ الْكَلَامِ عَلَيْهِ، وَلِأَنَّ فِي
قَوْلِهِ: {أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرَائِيلَ} [الشعراء: 22]
وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا النَّصَبُ، لِتَعَلُّقِ {تَمُنُّهَا}
[الشعراء: 22] بِهَا، وَإِذَا كَانَتْ نَصَبًا كَانَ مَعْنَى
الْكَلَامِ: وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ
لِتَعَبُّدِكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ. وَالْآخَرُ: الرَّفْعُ
عَلَى أَنَّهَا رَدٌّ عَلَى النِّعْمَةِ. وَإِذَا كَانَتْ
رَفْعًا كَانَ مَعْنَى الْكَلَامِ: وَتِلْكَ نِعْمَةٌ
تَمُنُّهَا عَلَيَّ تَعْبِيدُكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ. وَيَعْنِي
بِقَوْلِهِ: {أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرَائِيلَ} [الشعراء:
22] أَنِ اتَّخَذْتَهُمْ عَبِيدًا لَكَ. يُقَالُ مِنْهُ:
عَبَّدْتَ الْعَبِيدَ وَأَعْبَدْتَهُمْ، قَالَ الشَّاعِرُ:
[البحر البسيط]
عَلَامَ يُعْبِدُنِي قَوْمِي وَقَدْ كَثُرَتْ ... فِيهَا
أَبَاعِرُ مَا شَاءُوا وَعُبْدَانُ
وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ
التَّأْوِيلِ
(17/560)
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي
مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثنا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثنا
عِيسَى، وَحَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ: ثنا الْحَسَنُ،
قَالَ: ثنا وَرْقَاءُ، جَمِيعًا، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ،
عَنْ مُجَاهِدٍ: " {[ص:561] تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ
بَنِي إِسْرَائِيلَ} [الشعراء: 22] قَالَ: قَهَرْتَهُمْ
وَاسْتَعْمَلْتَهُمْ "
(17/560)
حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثنا
الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثني حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ،
قَالَ: " {تَمُنُّ عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرَائِيلَ}
قَالَ: قَهَرْتَ وَغَلَبْتَ وَاسْتَعْمَلْتَ بَنِي
إِسْرَائِيلَ "
(17/561)
حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ هَارُونَ، قَالَ:
ثنا عَمْرٌو، قَالَ: ثنا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ: "
{وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي
إِسْرَائِيلَ} [الشعراء: 22] وَرَبَّيْتَنِي قَبْلُ وَلِيدًا
". وَقَالَ آخَرُونَ: هَذَا اسْتِفْهَامٌ كَانَ مِنْ مُوسَى
لِفِرْعَوْنَ، كَأَنَّهُ قَالَ: أَتَمُنُّ عَلَيَّ أَنِ
اتَّخَذْتَ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَبِيدًا
(17/561)
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا
الْحَسَنُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ:
أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ، فِي قَوْلِهِ: "
{وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ} [الشعراء: 22] قَالَ:
يَقُولُ مُوسَى لِفِرْعَوْنَ: أَتَمُنُّ عَلَيَّ أَنِ
اتَّخَذْتَ أَنْتَ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَبِيدًا ". وَاخْتَلَفَ
أَهْلُ الْعَرَبِيَّةِ فِي ذَلِكَ، فَقَالَ بَعْضُ نَحْوِيِّي
الْبَصْرَةِ: وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ،
فَيُقَالُ: هَذَا اسْتِفْهَامٌ كَأَنَّهُ قَالَ: أَتَمُنُّهَا
عَلَيَّ؟ ثُمَّ فَسَّرَ فَقَالَ: {أَنْ [ص:562] عَبَّدْتَ
بَنِي إِسْرَائِيلَ} [الشعراء: 22] وَجَعَلَهُ بَدَلًا مِنَ
النِّعْمَةِ. وَكَانَ بَعْضُ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ يُنْكِرُ
هَذَا الْقَوْلَ، وَيَقُولُ: هُوَ غَلَطٌ مِنْ قَائِلِهِ لَا
يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ هَمْزَ الِاسْتِفْهَامِ يُلْقَى وَهُوَ
يَطْلُبُ، فَيَكُونُ الِاسْتِفْهَامُ كَالْخَبَرِ، قَالَ:
وَقَدِ اسْتُقْبِحَ وَمَعَهُ أَمْ، وَهِيَ دَلِيلٌ عَلَى
الِاسْتِفْهَامِ وَاسْتَقْبَحُوا:
[البحر المتقارب]
تَرُوحُ مِنَ الْحَيِّ أَمْ تَبْتَكِرْ ... وَمَاذَا يَضُرُّكَ
لَوْ تَنْتَظِرْ؟
قَالَ: وَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ أَتَرُوحُ مِنَ الْحَيِّ
وَحُذِفَ الِاسْتِفْهَامُ أَوَّلًا اكْتِفَاءً بِأَمْ. وَقَالَ
أَكْثَرَهُمْ: بَلِ الْأَوَّلُ خَبَرٌ، وَالثَّانِي
اسْتِفْهَامٌ، وَكَأَنَّ «أَمْ» إِذَا جَاءَتْ بَعْدَ
الْكَلَامِ فَهِيَ الْأَلْفُ، فَأَمَّا وَلَيْسَ مَعَهُ أَمْ،
فَلَمْ يَقُلْهُ إِنْسَانٌ. وَقَالَ بَعْضُ نَحْوِيِّي
الْكُوفَةِ فِي ذَلِكَ مَا قُلْنَا. وَقَالَ: مَعْنَى
الْكَلَامِ: وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ
مِنَ الْكَافِرِينَ لِنِعْمَتِي: أَيْ لِنِعْمَةِ تَرْبِيَتِي
لَكَ، فَأَجَابَهُ فَقَالَ: نَعَمْ هِيَ نِعْمَةٌ عَلَيَّ أَنْ
عَبَّدْتَ النَّاسَ وَلَمْ تَسْتَعْبِدْنِي
(17/561)
وَقَوْلُ {قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ
الْعَالَمِينَ} [الشعراء: 23] يَقُولُ: وَأَيُّ شَيْءٍ رَبُّ
الْعَالَمِينَ؟ قَالَ مُوسَى هُوَ {رَبُّ السَّمَوَاتِ
وَالْأَرْضِ} وَمَالِكُهُنَّ {وَمَا بَيْنَهُمَا} [المائدة:
17] يَقُولُ: وَمَالِكُ مَا بَيْنَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ
مِنْ شَيْءٍ {إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنينَ} [الشعراء: 24] يَقُولُ:
إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ أَنَّ مَا تُعَايِنُونَهُ كَمَا
تُعَايِنُونَهُ، فَكَذَلِكَ فَأَيْقِنُوا أَنَّ رَبَّنَا هُوَ
رَبُّ [ص:563] السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا
(17/562)
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ
تَعَالَى: {قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلَا تَسْتَمِعُونَ. قَالَ
رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ. قَالَ إِنَّ
رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ. قَالَ
رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ
كُنتُمْ تَعْقِلُونَ. قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي
لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ} [الشعراء: 26] يَعْنِي
تَعَالَى ذِكْرُهُ بِقَوْلِهِ {قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلَا
تَسْتَمِعُونَ} [الشعراء: 25] قَالَ فِرْعَوْنُ لِمَنْ
حَوْلَهُ مِنْ قَوْمِهِ: أَلَا تَسْتَمِعُونَ لِمَا يَقُولُ
مُوسَى، فَأَخْبَرَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ الْقَوْمَ
بِالْجَوَابِ عَنْ مَسْأَلَةِ فِرْعَوْنَ إِيَّاهُ وَقِيلِهِ
لَهُ {وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء: 23] لِيُفْهِمَ
بِذَلِكَ قَوْمَ فِرْعَوْنَ مَقَالَتَهُ لِفِرْعَوْنَ
وَجَوَابَهُ إِيَّاهُ عَمَّا سَأَلَهُ، إِذْ قَالَ لَهُمْ
فِرْعَوْنُ {أَلَا تَسْتَمِعُونَ} [الشعراء: 25] إِلَى قَوْلِ
مُوسَى، فَقَالَ لَهُمُ: الَّذِي دَعْوَتُهُ إِلَيْهِ وَإِلَى
عِبَادَتِهِ {رَبُّكُمْ} [البقرة: 21] الَّذِي خَلَقَكُمْ
{وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ} [الشعراء: 26] . فَقَالَ
فِرْعَوْنُ لَمَّا قَالَ لَهُمْ مُوسَى ذَلِكَ، وَأَخْبَرَهُمْ
عَمَّا يَدْعُو إِلَيْهِ فِرْعَوْنَ وَقَوْمَهُ: {إِنَّ
رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لِمَجْنُونٌ}
[الشعراء: 27] يَقُولُ: إِنَّ رَسُولَكُمْ هَذَا الَّذِي
يَزْعُمُ أَنَّهُ أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَغْلُوبٌ عَلَى
عَقْلِهِ، لِأَنَّهُ يَقُولُ قَوْلًا لَا نَعْرِفُهُ وَلَا
نَفْهَمُهُ، وَإِنَّمَا قَالَ ذَلِكَ وَنَسَبَ مُوسَى عَدُوُّ
اللَّهِ إِلَى الْجِنَّةِ، لِأَنَّهُ كَانَ عِنْدَهُ وَعِنْدَ
قَوْمِهِ أَنَّهُ لَا رَبَّ غَيْرُهُ يُعْبَدُ، وَأَنَّ
الَّذِي يَدْعُوهُ إِلَيْهِ مُوسَى بَاطِلٌ لَيْسَتْ لَهُ
حَقِيقَةٌ، فَقَالَ مُوسَى عِنْدَ ذَلِكَ مُحْتَجًا
عَلَيْهِمْ، وَمُعَرِّفَهُمْ رَبَّهُمْ بِصِفَتِهِ
وَأَدِلَّتِهِ، إِذْ كَانَ عِنْدَ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَنَّ
الَّذِيَ يَعْرِفُونَهُ رَبًّا لَهُمْ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ
هُوَ فِرْعَوْنُ، وَأَنَّ الَّذِي يَعْرِفُونَهُ لِآبَائِهِمْ
أَرْبَابًا مُلُوكٌ أُخَرُ، كَانُوا قَبْلَ فِرْعَوْنَ قَدْ
مَضَوْا، فَلَمْ يَكُنْ عِنْدَهُمْ أَنَّ مُوسَى أَخْبَرَهُمْ
(17/563)
بِشَيْءٍ لَهُ مَعْنًى يَفْهَمُونَهُ وَلَا
يَعْقِلُونَهُ، وَلِذَلِكَ قَالَ لَهُمْ فِرْعَوْنُ: إِنَّهُ
مَجْنُونٌ، لِأَنَّ كَلَامَهُ كَانَ عِنْدَهُمْ كَلَامًا لَا
يَعْقِلُونَ مَعْنَاهُ: الَّذِي أَدْعُوكُمْ وَفِرْعَوْنَ
إِلَى عِبَادَتِهِ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا
بَيْنَهُمَا يَعْنِي مَلِكَ مَشْرِقِ الشَّمْسِ وَمَغْرِبِهَا،
وَمَا بَيْنَهُمَا مِنْ شَيْءٍ، لَا إِلَى عِبَادَةِ مُلُوكِ
مِصْرَ الَّذِينَ كَانُوا مُلُوكَهَا قَبْلَ فِرْعَوْنَ
لِآبَائِكُمْ فَمَضَوْا، وَلَا إِلَى عِبَادَةِ فِرْعَوْنَ
الَّذِي هُوَ مَلِكُهَا. {إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ} [آل
عمران: 118] يَقُولُ: إِنْ كَانَ لَكُمْ عُقُولٌ تَعْقِلُونَ
بِهَا مَا يُقَالُ لَكُمْ، وَتَفْهَمُونَ بِهَا مَا
تَسْمَعُونَ مِمَّا يُعَيَّنُ لَكُمْ. فَلَمَّا أَخْبَرَهُمْ
عَلَيْهِ السَّلَامُ بِالْأَمْرِ الَّذِي عَلِمُوا أَنَّهُ
الْحَقُّ الْوَاضِحُ، إِذْ كَانَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ
مِنْ مُلُوكِ مِصْرَ لَمْ يُجَاوِزْ مُلْكُهُمْ عَرِيشَ
مِصْرَ، وَتَبَيَّنَ لِفِرْعَوْنَ وَمَنْ حَوْلَهُ مِنْ
قَوْمِهِ أَنَّ الَّذِيَ يَدْعُوهُمْ مُوسَى إِلَى
عِبَادَتِهِ، هُوَ الْمَلِكُ الَّذِي يَمْلِكُ الْمُلُوكَ.
قَالَ فِرْعَوْنُ حِينَئِذٍ اسْتِكْبَارًا عَنِ الْحَقِّ،
وَتَمَادِيًا فِي الْغَيِّ لِمُوسَى: {لَئِنِ اتَّخَذْتَ
إِلَهًا غَيْرِي} [الشعراء: 29] يَقُولُ: لَئِنْ أَقْرَرْتَ
بِمَعْبُودٍ سِوَايَ {لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ}
[الشعراء: 29] يَقُولُ: لَأَسْجُنَنَّكَ مَعَ مَنْ فِي
السِّجْنِ مِنْ أَهْلِهِ
(17/564)
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ
تَعَالَى: {قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ قَالَ
فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ فَأَلْقَى عَصَاهُ
فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ
بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ} [الشعراء: 31] يَقُولُ تَعَالَى
ذِكْرُهُ: قَالَ مُوسَى لِفِرْعَوْنَ لَمَّا عَرَّفَهُ
رَبَّهُ، وَأَنَّهُ رَبُّ الْمَشْرِقِ
(17/564)
وَالْمَغْرِبِ، وَدَعَاهُ إِلَى
عِبَادَتِهِ وَإِخْلَاصِ الْأُلُوهِةِ لَهُ، وَأَجَابَهُ
فِرْعَوْنُ بِقَوْلِهِ {لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي
لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ} [الشعراء: 29]
أَتَجْعَلَنِي مِنَ الْمَسْجُونِينَ {وَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ
مُبِينٍ} يُبَيِّنُ لَكَ صِدْقَ مَا أَقُولُ يَا فِرْعَوْنُ
وَحَقِيقَةَ مَا أَدْعُوكَ إِلَيْهِ؟ وَإِنَّمَا قَالَ ذَلِكَ
لَهُ، لِأَنَّ مِنْ أَخْلَاقِ النَّاسِ السُّكُونُ
لِلْإِنْصَافِ، وَالْإِجَابَةُ إِلَى الْحَقِّ بَعْدَ
الْبَيَانِ، فَلَمَّا قَالَ مُوسَى لَهُ مَا قَالَ مِنْ
ذَلِكَ، قَالَ لَهُ فِرْعَوْنُ: فَأْتِ بِالشَّيْءِ الْمُبِينِ
حَقِيقَةَ مَا تَقُولُ، فَإِنَّا لَنْ نَسْجِنُكَ حِينَئِذٍ
إِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي {إِنْ كُنْتَ مِنَ
الصَّادِقِينَ} [الأعراف: 70] يَقُولُ: إِنْ كُنْتَ مُحِقًّا
فِيمَا تَقُولُ، وَصَادِقًا فِيمَا تَصِفُ وَتُخْبِرُ
(17/565)
{فَأَلقَى عَصَاهُ فَإذَا هيَ ثُعْبَانٌ
مُبِينٌ} [الأعراف: 107] يَقُولُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: فَأَلْقَى
مُوسَى عَصَاهُ فَتَحَوَّلَتْ ثُعْبَانًا، وَهِيَ الْحَيَّةُ
الذَّكَرُ كَمَا قَدْ بَيَّنْتُ فِيمَا مَضَى قَبْلُ مِنْ
صِفَتِهِ , وَقَوْلُهُ {مُبِينٌ} [البقرة: 168] يَقُولُ:
يَبِينُ لِفِرْعَوْنَ وَالْمَلَأِ مِنْ قَوْمِهِ أَنَّهُ
ثُعْبَانٌ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ
أَهْلُ التَّأْوِيلِ
(17/565)
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا
الْقَاسِمُ، قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثني حَجَّاجٌ،
عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ شَهْرِ بْنِ
حَوْشَبٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلَهُ: " {فَأَلْقَى
عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ} [الأعراف: 107]
يَقُولُ: مُبِينٌ لَهُ خَلْقُ حَيَّةٍ، وَقَوْلُهُ: {وَنَزَعَ
يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ} [الأعراف: 108] يَقُولُ:
وَأَخْرَجَ مُوسَى يَدَهُ مِنْ جَيْبِهِ فَإِذَا [ص:566] هِيَ
بَيْضَاءُ تَلْمَعُ {لِلنَّاظِرِينَ} [الشعراء: 33] لِمَنْ
يَنْظُرُ إِلَيْهَا وَيَرَاهَا "
(17/565)
حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ: ثنا
عَثَّامُ بْنُ عَلِيٍّ، قَالَ: ثنا الْأَعْمَشُ، عَنِ
الْمِنْهَالِ، قَالَ: " ارْتَفَعَتِ الْحَيَّةُ فِي السَّمَاءِ
قَدْرَ مِيلٍ، ثُمَّ سَفَلَتْ حَتَّى صَارَ رَأْسُ فِرْعَوْنَ
بَيْنَ نَابَيْهَا، فَجَعَلَتْ تَقُولُ: يَا مُوسَى، مُرْنِي
بِمَا شِئْتَ، فَجَعَلَ فِرْعَوْنُ يَقُولُ: يَا مُوسَى،
أَسْأَلُكَ بِالَّذِي أَرْسَلَكَ، قَالَ: فَأَخَذَهُ بَطْنُهُ
"
(17/566)
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ
تَعَالَى: {قَالَ لَلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ
عَلِيمٌ. يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ
بِسِحْرِهِ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ. قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ
وَابْعَثْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ. يَأْتُوكَ بِكُلِّ
سَحَّارٍ عَلِيمٍ} [الشعراء: 35] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ:
قَالَ فِرْعَوْنُ لَمَّا أَرَاهُ مُوسَى مِنْ عَظِيمِ قُدْرَةِ
اللَّهِ وَسُلْطَانِهِ حُجَّةً عَلَيْهِ لِمُوسَى بِحَقِيقَةِ
مَا دَعَاهُ إِلَيْهِ وَصِدْقِ مَا أَتَاهُ بِهِ مِنْ عِنْدِ
رَبِّهِ {لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ} [الشعراء: 34] يَعْنِي
لَأَشْرَافِ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَانُوا حَوْلَهُ: {إنَّ هَذَا
لَساحِرٌ عَلِيمٌ} [الأعراف: 109] يَقُولُ: إِنَّ مُوسَى
سَحَرَ عَصَاهُ حَتَّى أَرَاكُمُوهَا ثُعْبَانًا {عَلِيمٌ}
[البقرة: 29] ، يَقُولُ: ذُو عِلْمٍ بِالسِّحْرِ وَبَصَرٍ
بِهِ. {يُريدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ}
[الشعراء: 35] يَقُولُ: يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَ بَنِي
إِسْرَائِيلَ مِنْ أَرْضِكُمْ إِلَى الشَّأْمِ بِقَهْرِهِ
إِيَّاكُمْ بِالسِّحْرِ. وَإِنَّمَا قَالَ: يُرِيدُ أَنْ
يُخْرِجَكُمْ فَجَعَلَ الْخِطَابَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ مِنَ
الْقِبْطِ، وَالْمَعْنِيُّ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ، لِأَنَّ
الْقِبْطَ كَانُوا قَدِ اسْتَعْبَدُوا بَنِي إِسْرَائِيلَ،
وَاتَّخَذُوهُمْ خَدَمًا لِأَنْفُسِهِمْ وَمَهَانًا،
فَلِذَلِكَ قَالَ لَهُمْ: {يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ}
[الأعراف: 110] وَهُوَ يُرِيدُ: أَنْ يُخْرِجَ خَدَمَكُمْ
وَعَبِيدَكُمْ مِنْ أَرْضِ مِصْرَ إِلَى الشَّأْمِ.
(17/566)
وَإِنَّمَا قُلْتُ مَعْنَى ذَلِكَ
كَذَلِكَ، لِأَنَّ اللَّهَ إِنَّمَا أَرْسَلَ مُوسَى إِلَى
فِرْعَوْنَ يَأْمُرُهُ بِإِرْسَالِ بَنِي إِسْرَائِيلَ مَعَهُ،
فَقَالَ لَهُ وَلِأَخِيهِ {فَأَتَيَا فِرْعَوْنَ فَقُولَا
إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ. أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا
بَنِي إِسْرَائِيلَ} [الشعراء: 16]
(17/567)
وَقَوْلُهُ: {فَمَاذَا تَأْمُرُونَ}
[الأعراف: 110] يَقُولُ: فَأَيُّ شَيْءٍ تَأْمُرُونَ فِي
أَمْرِ مُوسَى وَمَا بِهِ تُشِيرُونَ مِنَ الرَّأْيِ فِيهِ؟
{قَالُوا أَرْجِهْ وَأخَاهُ وَابْعَثْ فِي الْمَدَائِنِ
حَاشِرينَ} [الشعراء: 36] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ:
فَأَجَابَ فِرْعَوْنَ الْمَلَأُ حَوْلَهُ بِأَنْ قَالُوا لَهُ:
أَخِّرْ مُوسَى وَأَخَاهُ وَأَنْظِرْهُ، وَابْعَثْ فِي
بِلَادِكَ وَأَمْصَارِ مِصْرَ {حَاشِرِينَ} [الأعراف: 111]
يُحْشَرُونَ إِلَيْكَ كُلَّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ بِالسِّحْرِ
(17/567)
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ
تَعَالَى: {فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ.
وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنتُمْ مُجْتَمِعُونَ. لَعَلَّنَا
نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِنْ كَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ}
[الشعراء: 39] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: فَجَمَعَ
الْحَاشِرُونَ الَّذِينَ بَعَثَهُمْ فِرْعَوْنُ بِحَشْرِ
السَّحَرَةِ {لِمِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ} [الشعراء: 38]
يَقُولُ: لِوَقْتٍ وَاعَدَ فِرْعَوْنُ لِمُوسَى الِاجْتِمَاعَ
مَعَهُ فِيهِ مِنْ يَوْمٍ مَعْلُومٍ، وَذَلِكَ {يَوْمُ
الزِّينَةِ، وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحَى} [طه: 59] .
وَقِيلَ لِلنَّاسِ: هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ لِتَنْظُرُوا
إِلَى مَا يَفْعَلُ الْفَرِيقَانِ، وَلِمَنْ تَكُونُ
الْغَلَبَةُ، لِمُوسَى أَوْ لِلسَّحَرَةِ؟ فَلَعَلَّنَا
نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ. وَمَعْنَى لَعَلَّ هُنَا: كَيْ.
يَقُولُ: كَيْ نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِنْ كَانُوا هُمُ
الْغَالِبِينَ مُوسَى. وَإِنَّمَا قُلْتُ ذَلِكَ مَعْنَاهَا،
لِأَنَّ قَوْمَ فِرْعَوْنَ كَانُوا عَلَى دِينِ فِرْعَوْنَ،
فَغَيْرُ مَعْقُولٍ
(17/567)
أَنْ يَقُولَ مَنْ كَانَ عَلَى دِينٍ:
أَنْظُرُ إِلَى حُجَّةِ مَنْ هُوَ عَلَى خِلَافِي لَعَلِّي
أَتَّبِعُ دِينَهُ، وَإِنَّمَا يُقَالُ: أَنْظُرُ إِلَيْهَا
كَيْ أَزْدَادَ بَصِيرَةً بِدِينِي، فَأُقِيمَ عَلَيْهِ.
وَكَذَلِكَ قَالَ قَوْمُ فِرْعَوْنَ، فَإِيَّاهَا عَنَوْا
بِقِيلِهِمْ: لَعَلَّنَا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِنْ كَانُوا
هُمُ الْغَالِبِينَ. وَقِيلَ: إِنَّ اجْتِمَاعَهُمْ
لِلْمِيقَاتِ الَّذِي اتَّعَدَ لِلِاجْتِمَاعِ فِيهِ
فِرْعَوْنُ وَمُوسَى كَانَ بِالْإِسْكَنْدَرِيَّةِ
(17/568)
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي
يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ
زَيْدٍ، فِي قَوْلِهِ: " {وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنْتُمْ
مُجْتَمِعُونَ} [الشعراء: 39] قَالَ: كَانُوا
بِالْإِسْكَنْدَرِيَّةِ، قَالَ: وَيُقَالُ: بَلَغَ ذَنْبُ
الْحَيَّةِ مِنْ وَرَاءِ الْبُحَيْرَةِ يَوْمَئِذٍ، قَالَ:
وَهَرَبُوا وَأَسْلَمُوا فِرْعَوْنَ وَهَمَّتْ بِهِ، فَقَالَ:
فَخُذْهَا يَا مُوسَى، قَالَ: فَكَانَ فِرْعَوْنُ مِمَّا يَلِي
النَّاسَ مِنْهُ أَنَّهُ كَانَ لَا يَضَعُ عَلَى الْأَرْضِ
شَيْئًا، قَالَ: فَأَحْدَثَ يَوْمَئِذٍ تَحْتَهُ، قَالَ:
وَكَانَ إِرْسَالُهُ الْحَيَّةَ فِي الْقُبَّةِ الْحَمْرَاءِ "
(17/568)
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ
تَعَالَى: {فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ قَالُوا لِفِرْعَوْنَ
أَئِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ.
قَالَ نَعَمْ، وَإِنَّكُمْ إِذًا لَّمِنَ الْمُقَرَّبِينَ.
قَالَ لَهُمْ مُوسَى أَلْقُوا مَا أَنتُمْ مُلْقُونَ.
فَأَلْقَوْا حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقَالُوا بِعِزَّةِ
فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ} [الشعراء: 42]
يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: {فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ}
[يونس: 80] فِرْعَوْنَ لِوَعْدٍ لِمُوسَى وَمَوْعِدِ
فِرْعَوْنَ
(17/568)
{قَالُوا لِفِرْعَوْنَ أَئِنَّ لَنَا
لَأَجْرًا} [الشعراء: 41] سِحْرِنَا قِبَلَكَ {إِنْ كُنَّا
نَحْنُ الْغَالِبِينَ} [الأعراف: 113] مُوسَى قَالَ فِرْعَوْنُ
لَهُمْ نَعَمْ لَكُمُ الْأَجْرُ عَلَى ذَلِكَ {وَإِنَّكُمْ
إِذًا لِمَنِ الْمُقَرَّبِينَ} [الشعراء: 42] مِنَّا.
فَقَالُوا عِنْدَ ذَلِكَ لِمُوسَى {إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ
وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ} [الأعراف: 115]
وَتَرَكَ ذِكْرَ قِيلِهِمْ ذَلِكَ لِدَلَالَةِ خَبَرِ اللَّهِ
عَنْهُمْ أَنَّهُمْ قَالَ لَهُمْ مُوسَى {أَلْقُوا مَا
أَنْتُمْ مُلْقُونَ} [يونس: 80] ، عَلَى أَنَّ ذَلِكَ
مَعْنَاهُ فَ {قَالَ لَهُمْ مُوسَى أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ
مُلْقُونَ} [يونس: 80] مِنْ حِبَالِكُمْ وَعِصِيِّكُمْ.
{فَأَلْقَوْا حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ} [الشعراء: 44] مِنْ
أَيْدِيهِمْ {وَقَالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ} [الشعراء: 44]
يَقُولُ: أَقْسَمُوا بِقُوَّةِ فِرْعَوْنَ وَشِدَّةِ
سُلْطَانِهِ، وَمَنَعَةِ مَمْلَكَتِهِ {إِنَّا لَنَحْنُ
الْغَالِبُونَ} [الشعراء: 44] مُوسَى
(17/569)
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ
تَعَالَى: {فَأَلْقَى مُوسَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ
مَا يَأْفِكُونَ. فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ. قَالُوا
آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ. رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ.
قَالَ آمَنتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ، إِنَّهُ
لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ، فَلَسَوْفَ
تَعْلَمُونَ} [الشعراء: 46] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ:
{فَأَلْقَى مُوسَى عَصَاهُ} [الشعراء: 45] حِينَ أَلْقَتِ
السَّحَرَةُ حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ. {فَإِذَا هِيَ
تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ} [الأعراف: 117] ، يَقُولُ: فَإِذَا
عَصَا مُوسَى تَزْدَرِدُ مَا يَأْتُونَ بِهِ مِنَ الْفِرْيَةِ
وَالسِّحْرِ الَّذِي لَا حَقِيقَةَ لَهُ، وَإِنَّمَا هُوَ
مَخَايِيلُ وَخُدْعَةٌ. {فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ}
[الشعراء: 46] يَقُولُ: فَلَمَّا تَبَيَّنَ السَّحَرَةُ أَنَّ
الَّذِيَ جَاءَهُمْ بِهِ مُوسَى حَقٌّ لَا سِحْرٌ، وَأَنَّهُ
مِمَّا لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ غَيْرُ اللَّهِ الَّذِي فَطَرَ
السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْ غَيْرِ أَصْلٍ، خَرُّوا
لِوُجُوهِهِمْ سُجَّدًا لِلَّهِ، مُذْعِنِينَ لَهُ
بِالطَّاعَةِ، مُقِرِّينَ لِمُوسَى بِالَّذِي أَتَاهُمْ بِهِ
مِنْ عِنْدِ
(17/569)
اللَّهِ أَنَّهُ هُوَ الْحَقُّ، وَأَنَّ
مَا كَانُوا يَعْمَلُونَهُ مِنَ السِّحْرِ بَاطِلٌ،
قَائِلِينَ: {آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأعراف: 121]
الَّذِي دَعَانَا مُوسَى إِلَى عِبَادَتِهِ دُونَ فِرْعَوْنَ
وَمَلَئِهِ {رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ} [الأعراف: 122]
(17/570)
{قَالَ آمَنتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ
لَكُمْ} [طه: 71] يَقُولُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: قَالَ فِرْعَوْنُ
لِلَّذِينَ كَانُوا سَحَرَتَهُ فَآمَنُوا: آمَنْتُمْ لِمُوسَى
بِأَنَّ مَا جَاءَ بِهِ حَقٌّ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ فِي
الْإِيمَانِ بِهِ {إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ
السِّحْرَ} [طه: 71] . يَقُولُ: إِنَّ مُوسَى لَرَئِيسَكُمْ
فِي السِّحْرِ، وَهُوَ الَّذِي عَلَّمَكُمُوهُ، وَلِذَلِكَ
آمَنْتُمْ بِهِ {فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} [الشعراء: 49] عِنْدَ
عِقَابِي إِيَّاكُمْ وَبَالَ مَا فَعَلْتُمْ، وَخَطَأَ مَا
صَنَعْتُمْ مِنَ الْإِيمَانِ بِهِ
(17/570)
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ
تَعَالَى: {لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ
خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ. قَالُوا لَا ضَيْرَ
إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنقَلِبُونَ} [الشعراء: 50] يَقُولُ
{لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ} [الأعراف: 124]
مُخَالِفًا فِي قَطْعِ ذَلِكَ مِنْكُمْ بَيْنَ قَطْعِ
الْأَيْدِي وَالْأَرْجُلِ، وَذَلِكَ أَنْ أَقْطَعَ الْيَدَ
الْيُمْنَى وَالرِّجْلَ الْيُسْرَى، ثُمَّ الْيَدَ الْيُسْرَى
وَالرِّجْلَ الْيُمْنَى، وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنْ قَطْعِ الْيَدِ
مِنْ جَانِبٍ ثُمَّ الرِّجْلَ مِنَ الْجَانِبِ الْآخَرِ،
وَذَلِكَ هُوَ الْقَطْعُ مِنْ خِلَافٍ {وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ
أَجْمَعِينَ} [الشعراء: 49] فَوَكَّدَ ذَلِكَ بِأَجْمَعِينَ
إِعْلَامًا مِنْهُ أَنَّهُ غَيْرُ مُسْتَبْقٍ مِنْهُمْ
أَحَدًا. {قَالُوا لَا ضَيْرَ} [الشعراء: 50] يَقُولُ تَعَالَى
ذِكْرُهُ: قَالَتِ السَّحَرَةُ: لَا ضَيْرَ عَلَيْنَا؛ وَهُوَ
مَصْدَرٌ مِنْ قَوْلِ الْقَائِلِ: قَدْ ضَارَ فُلَانٌ فُلَانًا
فَهُوَ يَضِيرُ ضَيْرًا، وَمَعْنَاهُ: لَا ضَرَرَ. وَبِنَحْوِ
الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ
(17/570)
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي
يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ
زَيْدٍ، فِي قَوْلِهِ: " {لَا ضَيْرَ} [الشعراء: 50] قَالَ:
يَقُولُ: لَا يَضُرُّنَا الَّذِي تَقُولُ وَإِنْ صَنَعْتَهُ
بِنَا وَصَلَبْتَنَا. {إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ}
[الأعراف: 125] يَقُولُ: إِنَّا إِلَى رَبِّنَا رَاجِعُونَ،
وَهُوَ مُجَازِينَا بِصَبْرِنَا عَلَى عُقُوبَتِكَ إِيَّانَا،
وَثَبَاتِنَا عَلَى تَوْحِيدِهِ، وَالْبَرَاءَةِ مِنَ
الْكُفْرِ بِهِ "
(17/571)
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ
تَعَالَى: {إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا
خَطَايَانَا أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ.
وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي، إِنَّكُمْ
مُتَّبَعُونَ} [الشعراء: 52] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ
مُخْبِرًا عَنْ قِيلِ السَّحَرَةِ: {إِنَّا نَطْمَعُ}
[الشعراء: 51] : إِنَّا نَرْجُو أَنْ يَصْفَحَ لَنَا رَبُّنَا
عَنْ خَطَايَانَا الَّتِي سَلَفَتْ مِنَّا قَبْلَ إِيمَانِنَا
بِهِ، فَلَا يُعَاقِبُنَا بِهَا
(17/571)
كَمَا: حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ:
أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ، فِي
قَوْلِهِ: " {إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا
خَطَايَانَا} [الشعراء: 51] قَالَ: السِّحْرُ وَالْكُفْرُ
الَّذِي كَانُوا فِيهِ "
(17/571)
{أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ}
[الشعراء: 51] يَقُولُ: لِأَنْ كُنَّا أَوَّلَ مَنْ آمَنَ
بِمُوسَى وَصَدَّقَهُ بِمَا جَاءَ بِهِ مِنْ تَوْحِيدِ اللَّهِ
وَتَكْذِيبِ فِرْعَوْنَ فِي ادِّعَائِهِ الرُّبُوبِيَّةَ فِي
دَهْرِنَا هَذَا وَزَمَانِنَا. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي
ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ
(17/571)
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي
يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ
زَيْدٍ، فِي قَوْلِهِ: {أَنْ [ص:572] كُنَّا أَوَّلَ
الْمُؤْمِنِينَ} [الشعراء: 51] قَالَ: «كَانُوا كَذَلِكَ
يَوْمَئِذٍ أَوَّلَ مَنْ آمَنَ بِآيَاتِهِ حِينَ رَأَوْهَا»
(17/571)
وَقَوْلُهُ: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى
أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي} [الشعراء: 52] يَقُولُ: وَأَوْحَيْنَا
إِلَى مُوسَى إِذْ تَمَادَى فِرْعَوْنُ فِي غَيِّهِ وَأَبَى
إِلَّا الثَّبَاتَ عَلَى طُغْيَانِهِ بَعْدَ مَا أَرَيْنَاهُ
آيَاتِنَا، أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي: يَقُولُ: أَنْ سِرْ
بِبَنِي إِسْرَائِيلَ لَيْلًا مِنْ أَرْضِ مِصْرَ. {إِنَّكُمْ
مُتَّبَعُونَ} [الشعراء: 52] ، إِنَّ فِرْعَوْنَ وَجُنْدَهُ
مُتَّبِعُوكَ وَقَوْمَكَ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ لِيَحُولُوا
بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الْخُرُوجِ مِنْ أَرْضِهِمْ، أَرْضِ
مِصْرَ
(17/572)
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ
تَعَالَى: {فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ
إِنَّ هَؤُلَاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ وَإِنَّهُمْ لَنَا
لَغَائِظُونَ وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ} [الشعراء: 54]
يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي
الْمَدَائِنِ يَحْشُرُ لَهُ جُنْدَهُ وَقَوْمَهُ. وَيَقُولُ
لَهُمْ {إِنَّ هَؤُلَاءِ} [الأعراف: 139] يَعْنِي بِهَؤُلَاءِ:
بَنِي إِسْرَائِيلَ {لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ} [الشعراء: 54]
يَعْنِي بِالشِّرْذِمَةِ: الطَّائِفَةَ وَالْعُصْبَةَ
الْبَاقِيَةَ مِنْ عَصَبِ جَبِيرَةٍ، وَشِرْذِمَةُ كُلِّ
شَيْءٍ: بَقِيَّتُهُ الْقَلِيلَةُ؛ وَمِنْهُ قَوْلُ
الرَّاجِزِ:
[البحر الرجز]
جَاءَ الشِّتَاءُ وَقَمِيصِي أَخْلَاقْ ... شَرَاذِمٌ يَضْحَكُ
مِنْهُ التَّوَّاقْ
وَقِيلَ: {قَلِيلُونَ} [الشعراء: 54] ، لِأَنَّ كُلَّ
جَمَاعَةٍ مِنْهُمْ كَانَ يَلْزَمُهَا مَعْنَى الْقِلَّةِ؛
فَلَمَّا جَمَعَ
(17/572)
جَمْعَ جَمَاعَاتِهِمْ قِيلَ: قَلِيلُونَ،
كَمَا قَالَ الْكُمَيْتُ:
[البحر الوافر]
فَرَدَّ قَوَاصِيَ الْأَحْيَاءِ مِنْهُمْ ... فَقَدْ صَارُوا
كَحَيٍّ وَاحِدِينَا
وَذُكِرَ أَنَّ الْجَمَاعَةَ الَّتِي سَمَّاهَا فِرْعَوْنُ
شِرْذِمَةً قَلِيلِينَ، كَانُوا سِتَّ مِائَةٍ أَلْفٍ
وَسَبْعِينَ أَلْفًا
(17/573)
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا
ابْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: ثنا عَبْدُ الرَّحْمَنِ، قَالَ: ثنا
سُفْيَانُ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ:
{إِنَّ هَؤُلَاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ} [الشعراء: 54]
قَالَ: «كَانُوا سِتَّ مِائَةٍ وَسَبْعِينَ أَلْفًا»
(17/573)
قَالَ: ثنا عَبْدُ الرَّحْمَنِ، قَالَ: ثنا
إِسْرَائِيلُ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ،
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: " الشِّرْذِمَةُ: سِتُّ مِائَةِ
أَلْفٍ وَسَبْعُونَ أَلْفًا "
(17/573)
حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثنا
يَحْيَى بْنُ وَاضِحٍ، قَالَ: ثنا مُوسَى بْنُ عُبَيْدَةَ،
عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ
بْنِ شَدَّادِ بْنِ الْهَادِ، قَالَ: " اجْتَمَعَ يَعْقُوبُ
وَوَلَدُهُ إِلَى يُوسُفَ، وَهُمُ اثْنَانِ وَسَبْعُونَ،
وَخَرَجُوا مَعَ مُوسَى وَهُمْ سِتُّ مِائَةِ أَلْفٍ، فَقَالَ
فِرْعَوْنُ {إِنَّ هَؤُلَاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ}
[الشعراء: 54] ، وَخَرَجَ فِرْعَوْنُ عَلَى فَرَسٍ أَدْهَمَ
حِصَانٍ عَلَى لَوْنِ فَرَسِهِ , فِي عَسْكَرِهِ ثَمَانِ
مِائَةِ أَلْفٍ "
(17/573)
حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ،
قَالَ: ثنا ابْنُ عُلَيَّةَ، عَنْ سَعِيدٍ الْجُرَيْرِيِّ،
عَنْ أَبِي السَّلِيلِ، عَنْ قَيْسِ بْنِ عَبَّادٍ، قَالَ:
وَكَانَ مِنْ أَكْثَرِ النَّاسِ أَوْ أَحْدَثِ النَّاسِ عَنْ
بَنِي إِسْرَائِيلَ، قَالَ: فَحَدَّثَنَا أَنَّ الشِّرْذِمَةَ
الَّذِينَ سَمَّاهُمْ فِرْعَوْنُ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ
كَانُوا سِتَّ مِائَةِ أَلْفٍ، قَالَ: وَكَانَ مُقَدِّمَةُ
فِرْعَوْنَ سَبْعَةَ مِائَةِ أَلْفٍ، كُلُّ رَجُلٍ مِنْهُمْ
عَلَى حِصَانٍ عَلَى رَأْسِهِ بَيْضَةٌ، وَفِي يَدِهِ
حَرْبَةٌ، وَهُوَ خَلْفُهُمْ فِي الدَّهْمِ. فَلَمَّا انْتَهَى
مُوسَى بِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَى الْبَحْرِ، قَالَتْ بَنُو
إِسْرَائِيلَ. يَا مُوسَى، أَيْنَ مَا وَعَدْتَنَا، هَذَا
الْبَحْرُ بَيْنَ أَيْدِينَا، وَهَذَا فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ
قَدْ دَهَمَنَا مِنْ خَلْفِنَا، فَقَالَ مُوسَى لِلْبَحْرِ:
انْفَلِقْ أَبَا خَالِدٍ، قَالَ: لَا، لَنْ انْفَلِقَ لَكَ يَا
مُوسَى، أَنَا أَقْدَمُ مِنْكَ خَلْقًا؛ قَالَ: فَنُودِيَ أَنِ
اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ، فَضَرَبَهُ فَانْفَلَقَ
الْبَحْرُ، وَكَانُوا اثْنَيْ عَشَرَ سِبْطًا. قَالَ
الْجُرَيْرِيُّ: فَأَحْسِبُهُ قَالَ: إِنَّهُ كَانَ لِكُلِّ
سِبْطٍ طَرِيقٌ، قَالَ: فَلَمَّا انْتَهَى أَوَّلُ جُنُودِ
فِرْعَوْنَ إِلَى الْبَحْرِ، هَابَتِ الْخَيْلُ اللَّهَبَ؛
قَالَ: وَمُثِّلَ لِحِصَانٍ مِنْهَا فَرَسٌ وَدِيقٌ، فَوَجَدَ
رِيحَهَا فَاشْتَدَّ، فَاتَّبَعَهُ الْخَيْلُ؛ قَالَ: فَلَمَّا
تَتَامَّ آخِرُ جُنُودِ فِرْعَوْنَ فِي الْبَحْرِ، وَخَرَجَ
آخِرُ بَنِي إِسْرَائِيلَ، أَمَرَ الْبَحْرَ فَانْصَفَقَ
عَلَيْهِمْ، فَقَالَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ: مَا مَاتَ
فِرْعَوْنُ وَمَا كَانَ لِيَمُوتَ أَبَدًا، فَسَمِعَ اللَّهُ
تَكْذِيبَهُمْ نَبِيَّهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ، قَالَ: فَرَمَى
بِهِ عَلَى السَّاحِلِ، كَأَنَّهُ ثَوْرٌ أَحْمَرُ
يَتَرَاءَاهُ بَنُو إِسْرَائِيلَ "
(17/574)
حَدَّثَنَا مُوسَى، قَالَ: ثنا عَمْرٌو،
قَالَ: ثنا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ، فِي [ص:575]
قَوْلِهِ: " {إِنَّ هَؤُلَاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ}
[الشعراء: 54] يَعْنِي بَنِي إِسْرَائِيلَ "
(17/574)
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ:
ثنا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثنا عِيسَى، وَحَدَّثَنِي
الْحَارِثُ، قَالَ: ثنا الْحَسَنُ، قَالَ: ثنا وَرْقَاءُ،
جَمِيعًا عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، فِي
قَوْلِهِ: {إِنَّ هَؤُلَاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ}
[الشعراء: 54] قَالَ: «هُمْ يَوْمَئِذٍ سِتُّ مِائَةِ أَلْفٍ،
وَلَا يُحْصَى عَدَدُ أَصْحَابِ فِرْعَوْنَ»
(17/575)
حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثنا
الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثني حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ،
قَوْلَهُ: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي
إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ} [الشعراء: 52] قَالَ: " أَوْحَى
اللَّهُ إِلَى مُوسَى أَنِ اجْمَعْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كُلَّ
أَرْبَعَةِ أَبْيَاتٍ فِي بَيْتٍ، ثُمَّ اذْبَحُوا أَوْلَادَ
الضَّأْنِ، فَاضْرِبُوا بِدِمَائِهَا عَلَى الْأَبْوَابِ،
فَإِنِّي سَآمُرُ الْمَلَائِكَةَ أَنْ لَا تَدْخُلَ بَيْتًا
عَلَى بَابِهِ دَمٌ، وَسَآمُرُهُمْ بِقَتْلِ أَبْكَارِ آلِ
فِرْعَوْنَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ، ثُمَّ
اخْبِزُوا خُبْزًا فَطِيرًا، فَإِنَّهُ أَسْرَعُ لَكُمْ، ثُمَّ
أَسْرِ بِعِبَادِي حَتَّى تَنْتَهِيَ لِلْبَحْرِ فَيَأْتِيَكَ
أَمْرِي، فَفَعَلَ؛ فَلَمَّا أَصْبَحُوا قَالَ فِرْعَوْنُ:
هَذَا عَمَلُ مُوسَى وَقَوْمِهِ قَتَلُوا أَبْكَارَنَا مِنْ
أَنْفُسِنَا وَأَمْوَالِنَا، فَأَرْسَلَ فِي أَثَرِهِمْ أَلْفَ
أَلْفٍ وَخَمْسَ مِائَةِ أَلْفٍ وَخَمْسَ مِائَةِ مَلِكٍ
مُسَوَّرٍ، مَعَ كُلِّ مَلِكٍ أَلْفَ رَجُلٍ، وَخَرَجَ
فِرْعَوْنُ فِي الْكَرِشِ الْعُظْمَى، وَقَالَ {إِنَّ
هَؤُلَاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ} [الشعراء: 54] قَالَ:
قِطْعَةٌ، وَكَانُوا سِتَّ مِائَةِ أَلْفٍ، مِائَتَا أَلْفٍ
مِنْهُمْ أَبْنَاءُ عِشْرِينَ سَنَةً إِلَى أَرْبَعِينَ "
(17/575)
قَالَ: ثني حَجَّاجٌ، عَنْ أَبِي بَكْرِ
بْنِ حَوْشَبٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: «كَانَ مَعَ
فِرْعَوْنَ يَوْمَئِذٍ أَلْفُ جَبَّارٍ، كُلُّهُمْ عَلَيْهِ
تَاجٌ، وَكُلُّهُمْ أَمِيرٌ عَلَى خَيْلٍ»
(17/576)
قَالَ: ثني حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ،
قَالَ: «كَانُوا ثَلَاثِينَ مَلَكًا سَاقَةً خَلْفَ
فِرْعَوْنَ، يَحْسِبُونَ أَنَّهُمْ مَعَهُمْ، وَجَبْرَائِيلُ
أَمَامَهُمْ يَرُدُّ أَوَائِلَ الْخَيْلِ عَلَى أَوَاخِرِهَا،
فَأَتْبَعَهُمْ حَتَّى انْتَهَى إِلَى الْبَحْرِ»
(17/576)
وَقَوْلُهُ: {وَإِنَّهُمْ لَنَا
لَغَائِظُونَ} [الشعراء: 55] يَقُولُ: وَإِنَّ هَؤُلَاءِ
الشِّرْذِمَةَ لَنَا لَغَائِظُونَ، فَذَكَرَ أَنَّ غَيْظَهُمْ
إِيَّاهُمْ كَانَ قَتْلَ الْمَلَائِكَةِ مَنْ قَتَلَتْ مِنْ
أَبْكَارِهِمْ
(17/576)
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا
الْقَاسِمُ، قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثني حَجَّاجٌ،
عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، قَوْلَهُ: " {وَإِنَّهُمْ لَنَا
لَغَائِظُونَ} [الشعراء: 55] يَقُولُ: بِقَتْلِهِمْ
أَبْكَارِنَا مِنْ أَنْفُسِنَا وَأَمْوَالِنَا ". وَقَدْ
يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ: وَإِنَّهُمْ لَنَا
لَغَائِظُونَ بِذِهَابِهِمْ مِنْهُمْ بِالْعَوَارِي الَّتِي
كَانُوا اسْتَعَارُوهَا مِنْهُمْ مِنَ الْحُلِيِّ،
وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ بِفِرَاقِهِمْ إِيَّاهُمْ،
وَخُرُوجِهِمْ مِنْ أَرْضِهِمْ بِكُرْهٍ لَهُمْ لِذَلِكَ
(17/576)
وَقَوْلُهُ {وَإِنَّا لَجَمِيعٌ
حَاذِرُونَ} [الشعراء: 56] اخْتَلَفَتِ الْقُرَّاءُ فِي
قِرَاءَةِ ذَلِكَ، فَقَرَأَتْهُ عَامَّةُ [ص:577] قُرَّاءِ
الْكُوفَةِ {وَإِنَّا لَجَمِيعُ حَاذِرُونَ} [الشعراء: 56]
بِمَعْنَى: أَنَّهُمْ مُعَدُّونَ مُؤَدُّونَ ذُوُو أَدَاةٍ
وَقُوَّةٍ وَسِلَاحٍ. وَقَرَأَ ذَلِكَ عَامَّةُ قُرَّاءِ
الْمَدِينَةِ وَالْبَصْرَةِ: (وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَذِرُونَ) ،
بِغَيْرِ أَلْفٍ. وَكَانَ الْفَرَّاءُ يَقُولُ: كَأَنَّ
الْحَاذِرَ الَّذِي يَحْذَرُكَ الْآنَ، وَكَأَنَّ الْحَذِرَ
الْمَخْلُوقُ حَذِرًا لَا تَلْقَاهُ إِلَّا حَذِرًا. وَمِنَ
الْحَذَرِ قَوْلُ ابْنِ أَحْمَرَ:
[البحر السريع]
هَلْ أُنسَأَنْ يَوْمًا إِلَى غَيْرِهِ ... إِنِّي حَوَالِيٌّ
وَإِنِّي حَذِرْ
وَالصَّوَابُ مِنَ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ أَنَّهُمَا
قِرَاءَتَانِ مُسْتَفِيضَتَانِ فِي قُرَّاءِ الْأَمْصَارِ
مُتَقَارِبَتَا الْمَعْنَى، فَبِأَيَّتِهِمَا قَرَأَ
الْقَارِئُ فَمُصِيبٌ الصَّوَابَ فِيهِ. وَبِنَحْوِ الَّذِي
قُلْنَا فِي تَأْوِيلِ ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ
(17/576)
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا
ابْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: ثنا سُفْيَانُ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ،
قَالَ: سَمِعْتُ الْأَسْوَدَ بْنَ زَيْدٍ، يَقْرَأُ: " {إِنَّا
لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ} [الشعراء: 56] قَالَ: مُقَوَّوْنَ
مُؤَدُّونَ "
(17/577)
حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثنا
يَحْيَى بْنُ وَاضِحٍ، قَالَ: ثنا عِيسَى بْنُ عُبَيْدٍ، عَنْ
أَيُّوبَ، عَنْ أَبِي الْعَرْجَاءِ، عَنِ الضَّحَّاكِ بْنِ
مُزَاحِمٍ، أَنَّهُ كَانَ يَقْرَأُ: " {وَإِنَّا لَجَمِيعٌ
حَاذِرُونَ} [الشعراء: 56] يَقُولُ: مُؤَدُّونَ "
(17/578)
حَدَّثَنَا مُوسَى، قَالَ: ثنا عَمْرٌو،
قَالَ: ثنا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ، فِي قَوْلِهِ: "
{وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ} [الشعراء: 56] يَقُولُ:
حَذَرْنَا، قَالَ: جَمَعْنَا أَمْرَنَا "
(17/578)
حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثنا
الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثني حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ: "
{وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ} [الشعراء: 56] قَالَ:
مُؤَدُّونَ مُعَدُّونَ فِي السِّلَاحِ وَالْكُرَاعِ "
(17/578)
ثنا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ،
قَالَ: ثني حَجَّاجُ أَبُو مَعْشَرٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ
قَيْسٍ، قَالَ: «كَانَ مَعَ فِرْعَوْنَ سِتُّ مِائَةِ أَلْفِ
حِصَانٍ أَدْهَمَ سِوَى أَلْوَانِ الْخَيْلِ»
(17/578)
حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ، قَالَ:
ثنا أَبُو دَاوُدَ، قَالَ: ثنا سُلَيْمَانُ بْنُ مُعَاذٍ
الضَّبِّيُّ، عَنْ عَاصِمِ بْنِ بَهْدَلَةَ، عَنْ أَبِي
رَزِينٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّهُ قَرَأَهَا: " {وَإِنَّا
لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ} [الشعراء: 56] قَالَ: مُؤَدُّونَ
مُقَوَّوْنَ "
(17/578)
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ
تَعَالَى: {فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ.
وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ. كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي
إِسْرَائِيلَ. فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ} [الشعراء: 58]
يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: فَأَخْرَجْنَا فِرْعَوْنَ
وَقَوْمَهُ مِنْ بَسَاتِينَ وَعُيُونِ مَاءٍ، وَكُنُوزِ ذَهَبٍ
وَفِضَّةٍ، وَمَقَامٍ كَرِيمٍ. قِيلَ: إِنَّ ذَلِكَ الْمَقَامَ
الْكَرِيمَ الْمَنَابِرُ
(17/578)
وَقَوْلُهُ {كَذَلِكَ} [البقرة: 73]
يَقُولُ: هَكَذَا أَخْرَجْنَاهُمْ مِنْ ذَلِكَ كَمَا وَصَفْتُ
لَكُمْ فِي [ص:579] هَذِهِ الْآيَةِ وَالَّتِي قَبْلَهَا.
{وَأَوْرَثْنَاهَا} [الشعراء: 59] يَقُولُ: وَأَوْرَثْنَا
تِلْكَ الْجَنَّاتِ الَّتِي أَخْرَجْنَاهُمْ مِنْهَا
وَالْعُيُونَ وَالْكُنُوزَ وَالْمَقَامَ الْكَرِيمَ عَنْهُمْ
بِهَلَاكِهِمْ بَنِي إِسْرَائِيلَ
(17/578)
وَقَوْلُهُ: {فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ}
[الشعراء: 60] فَأَتْبَعَ فِرْعَوْنُ وَأَصْحَابُهُ بَنِي
إِسْرَائِيلَ، مُشْرِقِينَ حِينَ أَشْرَقَتِ الشَّمْسُ،
وَقِيلَ حِينَ أَصْبَحُوا
(17/579)
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ:
ثني أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثنا عِيسَى، وَحَدَّثَنِي
الْحَارِثُ، قَالَ: ثنا الْحَسَنُ، قَالَ: ثنا وَرْقَاءُ،
جَمِيعًا، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ:
{فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ} [الشعراء: 60] قَالَ: " خَرَجَ
مُوسَى لَيْلًا، فَكَسَفَ الْقَمَرُ وَأَظْلَمَتِ الْأَرْضُ،
وَقَالَ أَصْحَابُهُ: إِنَّ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا أَنَّا
سَنَنْجَى مِنْ فِرْعَوْنَ، وَأَخَذَ عَلَيْنَا الْعَهْدَ
لَنَخْرُجَنَّ بِعِظَامِهِ مَعَنَا، فَخَرَجَ مُوسَى
لَيْلَتَهُ يَسْأَلُ عَنْ قَبْرِهِ، فَوَجَدَ عَجُوزًا
بَيْتُهَا عَلَى قَبْرِهِ، فَأَخْرَجَتْهُ لَهُ بِحُكْمِهَا،
وَكَانَ حُكْمُهَا أَوْ كَلِمَةٌ تَشْبِهُ هَذَا، أَنْ
قَالَتِ: احْمِلْنِي فَأَخْرِجْنِي مَعَكَ، فَجَعَلَ عِظَامَ
يُوسُفَ فِي كِسَائِهِ، ثُمَّ حَمَلَ الْعَجُوزَ عَلَى
كِسَائِهِ، فَجَعَلَهُ عَلَى رَقَبَتِهِ، وَخَيْلُ فِرْعَوْنَ
هِيَ مِلْءُ أَعِنَّتِهَا حَضَرًا فِي أَعْيُنِهِمْ، وَلَا
تَبْرَحُ حَبَسَتْ عَنْ مُوسَى وَأَصْحَابِهِ حَتَّى
تَوَارَوْا "
(17/579)
حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثنا
الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثني حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ
مُجَاهِدٍ، قَوْلَهُ: " {فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ}
[الشعراء: 60] قَالَ: فِرْعَوْنُ وَأَصْحَابُهُ، وَخَيْلُ
فِرْعَوْنَ فِي مَلْءِ أَعِنَّتِهَا فِي رَأْيِ عُيُونِهِمْ،
وَلَا تَبْرَحُ حَبَسَتْ عَنْ مُوسَى وَأَصْحَابِهِ حَتَّى
تَوَارَوْا "
(17/580)
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ
تَعَالَى: {فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ
مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي
سَيَهْدِينِ. فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ
بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ
كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ} [الشعراء: 62] يَقُولُ تَعَالَى
ذِكْرُهُ: فَلَمَّا تَنَاظَرَ الْجَمْعَانِ: جَمْعُ مُوسَى
وَهُمْ بَنُو إِسْرَائِيلَ، وَجَمْعُ فِرْعَوْنَ وَهُمُ
الْقِبْطُ {قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ}
[الشعراء: 61] أَيْ إِنَّا لَمُلْحَقُونَ، الْآنَ يَلْحَقُنَا
فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ فَيَقْتُلُونَنَا، وَذَكَرَ أَنَّهُمْ
قَالُوا ذَلِكَ لِمُوسَى تَشَاؤُمًا بِمُوسَى
(17/580)
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا
ابْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، قَالَ: ثنا الْمُعْتَمِرُ بْنُ
سُلَيْمَانَ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: قُلْتُ لِعَبْدِ
الرَّحْمَنِ: {فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ
مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ} [الشعراء: 61] ، قَالَ: "
تَشَاءَمُوا بِمُوسَى، وَقَالُوا: أَوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ
تَأْتِيَنَا، وَمَنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا "
(17/580)
حَدَّثَنَا مُوسَى، قَالَ: ثنا أَسْبَاطٌ،
عَنِ السُّدِّيِّ: " {فَلَمَّا تَرَاءَى [ص:581] الْجَمْعَانِ}
[الشعراء: 61] فَنَظَرَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ إِلَى فِرْعَوْنَ
قَدْ رَمَقَهُمْ قَالُوا {إِنَّا لَمُدْرَكُونَ} [الشعراء: 61]
. {قَالُوا} [الأعراف: 129] يَا مُوسَى، {أُوذِينَا مِنْ
قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا وَمَنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا}
[الأعراف: 129] الْيَوْمَ يُدْرِكُنَا فِرْعَوْنُ
فَيَقْتُلُنَا، إِنَّا لَمُدْرَكُونَ؛ الْبَحْرُ بَيْنَ
أَيْدِينَا، وَفِرْعَوْنُ مِنْ خَلْفِنَا "
(17/580)
حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثنا
الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثني حَجَّاجٌ، عَنْ أَبِي بَكْرٍ، عَنْ
شَهْرِ بْنِ حَوْشَبٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: " لَمَّا
انْتَهَى مُوسَى إِلَى الْبَحْرِ، وَهَاجَتِ الرِّيحُ
الْعَاصِفُ، فَنَظَرَ أَصْحَابُ مُوسَى خَلْفَهُمْ إِلَى
الرِّيحِ، وَإِلَى الْبَحْرِ أَمَامَهُمْ {قَالَ أَصْحَابُ
مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ , قَالَ كَلَّا، إِنَّ مَعِيَ
رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الشعراء: 62] ". وَاخْتَلَفَتِ
الْقُرَّاءُ فِي قِرَاءَةِ ذَلِكَ، فَقَرَأَتْهُ عَامَّةُ
قُرَّاءِ الْأَمْصَارِ سِوَى الْأَعْرَجِ {إِنَّا
لَمُدْرَكُونَ} [الشعراء: 61] ، وَقَرَأَهُ الْأَعْرَجُ:
(إِنَّا لَمُدَّرَكُونَ) كَمَا يُقَالُ نَزَلْتُ،
وَأُنْزَلْتُ. وَالْقِرَاءَةُ عِنْدَنَا الَّتِي عَلَيْهَا
قُرَّاءُ الْأَمْصَارِ، لِإِجْمَاعِ الْحُجَّةِ مِنَ
الْقُرَّاءِ عَلَيْهَا
(17/581)
وَقَوْلُهُ: {كَلَّا، إِنَّ مَعِيَ رَبِّي
سَيَهْدِينِ} [الشعراء: 62] قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ: لَيْسَ
الْأَمْرُ كَمَا ذَكَرْتُمْ، كَلَّا لَنْ تُدْرَكُوا إِنَّ
مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ، يَقُولُ: سَيَهْدِينِ لِطَرِيقٍ
أَنْجُو فِيهِ مِنْ فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ
(17/581)
كَمَا: حَدَّثَنِي ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ:
ثنا سَلَمَةُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ
[ص:582] كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
شَدَّادِ بْنِ الْهَادِ، قَالَ: " لَقَدْ ذُكِرَ لِي أَنَّهُ
خَرَجَ فِرْعَوْنُ فِي طَلَبِ مُوسَى عَلَى سَبْعِينَ أَلْفًا
مِنْ دُهْمِ الْخَيْلِ، سِوَى مَا فِي جُنْدِهِ مِنْ شِيَةِ
الْخَيْلِ، وَخَرَجَ مُوسَى حَتَّى إِذَا قَابَلَهُ الْبَحْرُ،
وَلَمْ يَكُنْ عَنْهُ مُنْصَرَفٌ، طَلَعَ فِرْعَوْنُ فِي
جُنْدِهِ مِنْ خَلْفِهِمْ {فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ
قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ , قَالَ كَلَّا،
إِنَّ مِعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الشعراء: 62] أَيْ
لِلنَّجَاةِ، وَقَدْ وَعَدَنِي ذَلِكَ، وَلَا خَلَفَ
لِمَوْعُودِهِ "
(17/581)
حَدَّثَنَا مُوسَى، قَالَ: ثنا عَمْرٌو،
قَالَ: ثنا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ: " {قَالَ كَلَّا
إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الشعراء: 62] يَقُولُ:
سَيَكْفِينِي، وَقَالَ: {عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ
عَدُوَّكُمْ، وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ، فَيَنْظُرَ
كَيْفَ تَعْمَلُونَ} [الأعراف: 129] "
(17/582)
وَقَوْلُهُ {فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى
أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ} [الشعراء: 63]
ذُكِرَ أَنَّ اللَّهَ كَانَ قَدْ أَمَرَ الْبَحْرَ أَنْ لَا
يَنْفَلِقَ حَتَّى يَضْرِبَهُ مُوسَى بِعَصَاهُ
(17/582)
حَدَّثَنَا مُوسَى، قَالَ: ثنا عَمْرٌو،
قَالَ: ثنا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ، قَالَ: " فَتَقَدَّمَ
هَارُونُ فَضَرَبَ الْبَحْرَ، فَأَبَى أَنْ يَنْفَتِحَ،
وَقَالَ: مَنْ هَذَا الْجَبَّارُ الَّذِي يَضْرِبُنِي، حَتَّى
أَتَاهُ مُوسَى فَكَنَّاهُ أَبَا خَالِدٍ، وَضَرَبَهُ
فَانْفَلَقَ "
(17/582)
حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثنا
سَلَمَةُ، قَالَ: ثني مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، قَالَ: "
أَوْحَى اللَّهُ فِيمَا ذَكَرَ إِلَى الْبَحْرِ: إِذَا
ضَرْبَكَ مُوسَى بِعَصَاهُ فَانْفَلِقْ لَهُ، قَالَ: فَبَاتَ
الْبَحْرُ يَضْرِبُ بَعْضُهُ بَعْضًا فَرَقًا مِنَ اللَّهِ،
وَانْتِظَارَ أَمَرِهِ، وَأَوْحَى اللَّهُ إِلَى مُوسَى أَنِ
أَضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ، فَضَرَبَهُ بِهَا وَفِيهَا
سُلْطَانُ اللَّهِ الَّذِي أَعْطَاهُ، فَانْفَلَقَ "
(17/582)
حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: ثنا
أَبُو أَحْمَدَ، قَالَ: ثنا سُفْيَانُ، ظَنَّ سُلَيْمَانُ
التَّيْمِيُّ، عَنْ أَبِي السَّلِيلِ، قَالَ: " لَمَّا ضَرَبَ
مُوسَى بِعَصَاهُ الْبَحْرَ، قَالَ: إِيهًا أَبَا خَالِدٍ،
فَأَخَذَهُ أَفْكَلُ "
(17/583)
حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثنا
الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثنا حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ،
وَحَجَّاجٍ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ،
وَغَيْرِهِ، قَالُوا: " لَمَّا انْتَهَى مُوسَى إِلَى
الْبَحْرِ وَهَاجَتِ الرِّيحُ وَالْبَحْرُ يَرْمِي
بِنِيَارِهِ، وَيَمُوجُ مِثْلُ الْجِبَالِ، وَقَدْ أَوْحَى
اللَّهُ إِلَى الْبَحْرِ أَنْ لَا يَنْفَلِقَ حَتَّى
يَضْرِبَهُ مُوسَى بِالْعَصَا، فَقَالَ لَهُ يُوشَعُ: يَا
كَلِيمَ اللَّهِ، أَيْنَ أُمِرْتَ؟ قَالَ: هَهُنَا، قَالَ:
فَجَازَ الْبَحْرَ مَا يُوَارِي حَافِرَهُ الْمَاءُ، فَذَهَبَ
الْقَوْمُ يَصْنَعُونَ مِثْلَ ذَلِكَ، فَلَمْ يَقْدِرُوا،
وَقَالَ لَهُ الَّذِي يَكْتُمُ إِيمَانَهُ: يَا كَلِيمَ
اللَّهِ، أَيْنَ أُمِرْتَ؟ قَالَ: هَهُنَا، فَكَبَحَ فَرَسَهُ
بِلِجَامِهِ حَتَّى طَارَ الزَّبَدُ مِنْ شِدْقَيْهِ، ثُمَّ
قَحَمَهُ الْبَحْرُ فَأَرْسَبَ فِي الْمَاءِ، فَأَوْحَى
اللَّهُ إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ،
فَضَرَبَ بِعَصَاهُ مُوسَى الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ، فَإِذَا
الرَّجُلُ وَاقِفٌ عَلَى فَرَسِهِ لَمْ يُبْتَلَّ سَرْجُهُ
وَلَا لُبْدُهُ "
(17/583)
وَقَوْلُهُ: {فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ
كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ} [الشعراء: 63] يَقُولُ تَعَالَى
ذِكْرُهُ: فَكَانَ كُلُّ طَائِفَةٍ مِنَ الْبَحْرِ لَمَّا
ضَرَبَهُ مُوسَى كَالْجَبَلِ الْعَظِيمِ. وَذُكِرَ أَنَّهُ
انْفَلَقَ اثْنَتَى عَشْرَةَ فِلْقَةً عَلَى عَدَدِ
الْأَسْبَاطِ، لِكُلِّ سِبْطٍ مِنْهُمْ فِرْقٌ. وَبِنَحْوِ
الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ
(17/583)
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا
مُوسَى، قَالَ: ثنا عَمْرٌو، قَالَ: ثنا أَسْبَاطٌ، عَنِ
السُّدِّيِّ: " {فَانْفَلَقَ فَكَانَ [ص:584] كُلُّ فِرْقٍ
كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ} [الشعراء: 63] يَقُولُ: كَالْجَبَلِ
الْعَظِيمِ، فَدَخَلَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ، وَكَانَ فِي
الْبَحْرِ اثْنَا عَشَرَ طَرِيقًا، فِي كُلِّ طَرِيقٍ سِبْطٌ،
وَكَانَ الطَّرِيقُ كَمَا إِذَا انْفَلَقَتِ الْجُدْرَانُ،
فَقَالَ كُلُّ سِبْطٍ: قَدْ قُتِلَ أَصْحَابُنَا؛ فَلَمَّا
رَأَى ذَلِكَ مُوسَى دَعَا اللَّهَ فَجَعَلَهَا قَنَاطِرَ
كَهَيْئَةِ الطِّيقَانِ، فَنَظَرَ آخِرُهُمْ إِلَى أَوَّلِهِمْ
حَتَّى خَرَجُوا جَمِيعًا "
(17/583)
حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثنا
الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثني حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ،
وَحَجَّاجٍ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ،
وَغَيْرِهِ، قَالُوا: " انْفَلَقَ الْبَحْرُ، فَكَانَ كُلُّ
فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ، اثْنَا عَشَرَ طَرِيقًا، فِي
كُلِّ طَرِيقٍ سِبْطٌ، وَكَانَ بَنُو إِسْرَائِيلَ اثْنَيْ
عَشَرَ سِبْطًا، وَكَانَتِ الطُّرُقُ بِجُدْرَانٍ، فَقَالَ
كُلُّ سِبْطٍ: قَدْ قُتِلَ أَصْحَابُنَا؛ فَلَمَّا رَأَى
ذَلِكَ مُوسَى، دَعَا اللَّهَ فَجَعَلَهَا لَهُمْ بِقَنَاطِرَ
كَهَيْئَةِ الطِّيقَانِ، يَنْظُرُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ،
وَعَلَى أَرْضٍ يَابِسَةٍ كَأَنَّ الْمَاءَ لَمْ يُصِبْهَا
قَطُّ حَتَّى عَبَرَ "
(17/584)
قَالَ: ثني حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ،
قَالَ: «لَمَّا انْفَلَقَ الْبَحْرُ لَهُمْ صَارَ فِيهِ كَوًى
يَنْظُرُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ»
(17/584)
حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثنا
سَلَمَةُ، قَالَ: ثني مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: " {فَكَانَ
كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ} [الشعراء: 63] أَيْ
كَالْجَبَلِ عَلَى نَشَزٍ مِنَ الْأَرْضِ "
(17/584)
حَدَّثَنِي عَلِيٌّ، قَالَ: ثني
مُعَاوِيَةُ، عَنْ عَلِيٍّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، [ص:585]
قَوْلَهُ: " {فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ}
[الشعراء: 63] يَقُولُ: كَالْجَبَلِ "
(17/584)
حُدِّثْتُ عَنِ الْحُسَيْنِ، قَالَ:
سَمِعْتُ أَبَا مُعَاذٍ، يَقُولُ: أَخْبَرَنَا عُبَيْدٌ،
قَالَ: سَمِعْتُ الضَّحَّاكَ، يَقُولُ، فِي قَوْلِهِ: "
{كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ} [الشعراء: 63] قَالَ: كَالْجَبَلِ
الْعَظِيمِ ". وَمِنْهُ قَوْلُ الْأَسْوَدِ بْنِ يَعْفُرَ:
[البحر الكامل]
حَلُّوا بِأَنْقِرَةٍ يَسِيلُ عَلَيْهِمُ ... مَاءُ الْفُرَاتِ
يَجِيءُ مِنْ أَطْوَادِ
يَعْنِي بِالْأَطْوَادِ: جَمْعَ طَوْدٍ، وَهُوَ الْجَبَلُ
(17/585)
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ
تَعَالَى: {وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الْآخَرِينَ. وَأَنجَيْنَا
مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ. ثُمَّ أَغْرَقْنَا
الْآخَرِينَ. إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً، وَمَا كَانَ
أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ. وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ
الرَّحِيمُ} [الشعراء: 65] يَعْنِي بِقَوْلِ تَعَالَى
ذِكْرُهُ: {وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الْآخَرِينَ} [الشعراء: 64]
وَقَرَّبْنَا هُنَالِكَ آلَ فِرْعَوْنَ مِنَ الْبَحْرِ،
وَقَدَّمْنَاهُمْ إِلَيْهِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ: {وَأُزْلِفَتِ
الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ} [الشعراء: 90] بِمَعْنَى:
قُرِّبَتْ وَأُدْنِيَتْ؛ وَمِنْهُ قَوْلُ الْعَجَّاجِ:
[البحر الرجز]
طَيَّ اللَّيَالِي زُلَفًا فَزُلَفَا ... سَمَاوَةَ الْهِلَالِ
حَتَّى احْقَوْقَفَا
[ص:586] وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ
التَّأْوِيلِ
(17/585)
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي
الْقَاسِمُ، قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثني حَجَّاجٌ،
عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيِّ، عَنِ
ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلَهُ: " {وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ
الْآخَرِينَ} [الشعراء: 64] قَالَ: قَرَّبْنَا "
(17/586)
حَدَّثَنَا الْحَسَنُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا
عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ
قَتَادَةَ، فِي قَوْلِهِ: " {وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الْآخَرِينَ}
[الشعراء: 64] قَالَ: هُمْ قَوْمُ فِرْعَوْنَ، قَرَّبَهُمُ
اللَّهُ حَتَّى أَغْرَقَهُمْ فِي الْبَحْرِ "
(17/586)
حَدَّثَنَا مُوسَى، قَالَ: ثنا عَمْرٌو،
قَالَ: ثنا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ، قَالَ: " دَنَا
فِرْعَوْنُ وَأَصْحَابُهُ بَعْدَ مَا قَطَعَ مُوسَى بِبَنِي
إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ مِنَ الْبَحْرِ؛ فَلَمَّا نَظَرَ
فِرْعَوْنُ إِلَى الْبَحْرِ مُنْفَلِقًا، قَالَ: أَلَا
تَرَوْنَ الْبَحْرَ فَرَقَ مِنِّي، قَدْ تَفَتَّحَ لِي حَتَّى
أُدْرِكَ أَعْدَائِي فَأَقْتُلَهُمْ، فَذَلِكَ قَوْلُ اللَّهِ
{وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الْآخَرِينَ} [الشعراء: 64] يَقُولُ:
قَرَّبْنَا ثَمَّ الْآخَرِينَ، هُمْ آلُ فِرْعَوْنَ؛ فَلَمَّا
قَامَ فِرْعَوْنُ عَلَى الطُّرُقِ، وَأَبَتْ خَيْلُهُ أَنْ
تَقْتَحِمَ، فَنَزَلَ جَبْرَائِيلُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ عَلَى مَاذِيَانَةَ، فَتَشَامَّتِ الْحُصُنُ رِيحَ
الْمَاذِيَانَةِ فَاقْتَحَمَتْ فِي أَثَرِهَا حَتَّى إِذَا
هَمَّ أَوَّلُهُمْ أَنْ يَخْرُجَ وَدَخَلَ آخِرُهُمْ أَمَرَ
الْبَحْرَ أَنْ يَأْخُذَهُمْ، فَالْتَطَمَ عَلَيْهِمْ،
وَتَفَرَّدَ جَبْرَائِيلُ بِمِقْلَةٍ مِنْ مِقَلِ الْبَحْرِ،
فَجَعَلَ يَدُسُّهَا فِي فِيهِ "
(17/586)
حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثنا
الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثني حَجَّاجٌ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ
عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: " أَقْبَلَ فِرْعَوْنُ فَلَمَّا
أَشْرَفَ عَلَى الْمَاءِ، قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى: يَا
مُكَلِّمَ اللَّهِ، إِنَّ الْقَوْمَ يَتَّبِعُونَنَا فِي
الطَّرِيقِ، فَاضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَاخْلِطْهُ،
فَأَرَادَ مُوسَى أَنْ يَفْعَلَ، فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ:
أَنِ {اتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْوًا} [الدخان: 24] يَقُولُ:
أَمْرُهُ عَلَى سَكَنَاتِهِ {إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ}
[الدخان: 24] إِنَّمَا أُمْكِرَ بِهِمْ، فَإِذَا سَلَكُوا
طَرِيقَكُمْ غَرَّقْتُهُمْ؛ فَلَمَّا نَظَرَ فِرْعَوْنُ إِلَى
الْبَحْرِ قَالَ: أَلَا تَرَوْنَ الْبَحْرَ فَرِقَ مِنِّي
حَتَّى تَفَتَّحَ لِي حَتَّى أُدْرِكَ أَعْدَائِي
فَأَقْتُلَهُمْ؛ فَلَمَّا وَقَفَ عَلَى أَفْوَاهِ الطُّرُقِ
وَهُوَ عَلَى حِصَانٍ، فَرَأَى الْحِصَانُ الْبَحْرَ فِيهِ
أَمْثَالُ الْجِبَالِ هَابَ وَخَافَ، وَقَالَ فِرْعَوْنُ:
أَنَا رَاجِعٌ، فَمَكَرَ بِهِ جَبْرَائِيلُ عَلَيْهِ
السَّلَامُ، فَأَقْبَلَ عَلَى فَرَسٍ أُنْثَى، فَأَدْنَاهَا
مِنْ حِصَانِ فِرْعَوْنَ، فَطَفِقَ فَرَسُهُ لَا يَقَرُّ،
وَجَعَلَ جِبْرَائِيلُ يَقُولُ: تَقَدَّمْ، وَيَقُولُ: لَيْسَ
أَحَدٌ أَحَقُّ بِالطَّرِيقِ مِنْكَ، فَتَشَامَّتِ الْحُصُنُ
الْمَاذِيَانَةَ، فَمَا مَلَكَ فِرْعَوْنُ فَرَسَهُ أَنْ
وَلَجَ عَلَى أَثَرِهِ؛ فَلَمَّا انْتَهَى فِرْعَوْنُ إِلَى
وَسَطِ الْبَحْرِ أَوْحَى اللَّهُ إِلَى الْبَحْرِ: خُذْ
عَبْدِيَ الظَّالِمَ وَعِبَادِيَ الظُّلْمَةَ، سُلْطَانِي
فِيكَ، فَإِنِّي قَدْ سَلَّطْتُكَ عَلَيْهِمْ، قَالَ:
فَتَغَطْغَطَتْ تِلْكَ الْفِرَقُ مِنَ الْأَمْوَاجِ كَأَنَّهَا
الْجِبَالُ، وَضَرَبَ بَعْضُهَا بَعْضًا؛ فَلَمَّا أَدْرَكَهُ
الْغَرَقُ {قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي
آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ}
[يونس: 90] , وَكَانَ جَبْرَائِيلُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ شَدِيدَ الْأَسَفِ عَلَيْهِ لِمَا رَدَّ مِنْ آيَاتِ
اللَّهِ، وَلِطُولِ عِلَاجِ مُوسَى إِيَّاهُ، فَدَخَلَ فِي
أَسْفَلِ الْبَحْرِ فَأَخْرَجَ طِينًا فَحَشَاهُ فِي فَمِ
فِرْعَوْنَ لِكَيْ لَا يَقُولَهَا الثَّانِيَةَ، فَتُدْرِكُهُ
الرَّحْمَةُ، قَالَ: فَبَعَثَ اللَّهُ إِلَيْهِ مِيكَائِيلَ
يُعَيِّرُهُ: {آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ
الْمُفْسِدِينَ} [يونس: 91] وَقَالَ جَبْرَائِيلُ: يَا
مُحَمَّدُ، مَا أَبْغَضْتُ أَحَدًا مِنْ خَلْقِ اللَّهِ مَا
أَبْغَضْتُ اثْنَيْنِ، أَحَدُهُمَا مِنَ الْجِنِّ وَهُوَ
إِبْلِيسُ، وَالْآخَرُ فِرْعَوْنُ {قَالَ أَنَا رَبُّكُمُ
الْأَعْلَى} وَلَقَدْ رَأَيْتُنِي يَا مُحَمَّدُ وَأَنَا
أَحْشُو فِي فِيهِ مَخَافَةَ أَنْ يَقُولَ كَلِمَةً يَرْحَمُهُ
اللَّهُ بِهَا "
(17/587)
وَقَدْ زَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّ مَعْنَى
قَوْلِهِ: {وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الْآخَرِينَ} [الشعراء: 64]
وَجَمَعْنَا، قَالَ: وَمِنْهُ لَيْلَةُ الْمُزْدَلِفَةِ،
قَالَ: وَمَعْنَى ذَلِكَ: أَنَّهَا لَيْلَةُ جَمْعٍ. وَقَالَ
بَعْضُهُمْ: وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ: وَأَهْلَكْنَا
(17/588)
وَقَوْلُهُ: {وَأَنْجَيْنَا مُوسَى وَمَنْ
مَعَهُ أَجْمَعِينَ} [الشعراء: 65] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ:
وَأَنْجَيْنَا مُوسَى مِمَّا أَتْبَعْنَا بِهِ فِرْعَوْنَ
وَقَوْمَهُ مِنَ الْغَرَقِ فِي الْبَحْرِ وَمَنْ مَعَ مُوسَى
مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَجْمَعِينَ
(17/588)
وَقَوْلُهُ: {ثُمَّ أَغْرَقْنَا
الْآخَرِينَ} [الشعراء: 66] يَقُولُ: ثُمَّ أَغْرَقْنَا
فِرْعَوْنَ وَقَوْمَهُ مِنَ الْقِبْطِ فِي الْبَحْرِ بَعْدَ
أَنْ أَنْجَيْنَا مُوسَى مِنْهُ وَمَنْ مَعَهُ
(17/588)
وَقَوْلُهُ: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً}
[البقرة: 248] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: إِنَّ فِيمَا
فَعَلْتُ بِفِرْعَوْنَ وَمَنْ مَعَهُ تَغْرِيقِي إِيَّاهُمْ
فِي الْبَحْرِ إِذْ كَذَّبُوا رَسُولِي مُوسَى، وَخَالَفُوا
أَمْرِي بَعْدَ الْإِعْذَارِ إِلَيْهِمْ، وَالْإِنْذَارِ
لِدَلَالَةٍ بَيِّنَةٍ يَا مُحَمَّدُ لِقَوْمِكَ مِنْ قُرَيْشٍ
عَلَى أَنَّ ذَلِكَ سُنَّتِي فِيمَنْ سَلَكَ سَبِيلَهُمْ مِنْ
تَكْذِيبِ رُسُلِي، وَعِظَةً لَهُمْ وَعِبْرَةً أَنِ
ادَّكِرُوا وَاعْتَبِرُوا , أَنْ يَفْعَلُوا مِثْلَ فِعْلِهِمْ
مِنْ تَكْذِيبِكَ مَعَ الْبُرْهَانُ وَالْآيَاتِ الَّتِي قَدْ
آتَيْتُهُمْ، فَيَحِلَّ بِهِمْ مِنَ الْعُقُوبَةِ نَظِيرَ مَا
حَلَّ بِهِمْ، وَلَكَ آيَةٌ فِي فِعْلِي بِمُوسَى،
وَتَنْجِيَتِي إِيَّاهُ بَعْدَ طُولِ عِلَاجِهِ فِرْعَوْنَ
وَقَوْمَهُ مِنْهُ، وَإِظْهَارِي إِيَّاهُ وَتَوْرِيثِهِ
وَقَوْمَهُ دُورَهُمْ وَأَرْضَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ، عَلَى
أَنِّي سَالِكٌ فِيكَ سَبِيلَهُ، إِنْ أَنْتَ صَبَرْتَ
صَبْرَهُ، وَقُمْتَ مِنْ تَبْلِيغِ الرِّسَالَةِ إِلَى مَنْ
أَرْسَلْتُكَ إِلَيْهِ قِيَامَهُ، وَمُظْهِرُكَ عَلَى
مُكَذِّبِيكَ، وَمُعْلِيكَ عَلَيْهِمْ.
(17/588)
{وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ}
[الشعراء: 8] يَقُولُ: وَمَا كَانَ أَكْثَرُ قَوْمِكَ يَا
مُحَمَّدُ مُؤْمِنِينَ بِمَا آتَاكَ اللَّهُ مِنَ الْحَقِّ
الْمُبِينِ، فَسَابِقٌ فِي عِلْمِي أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ.
{وَإنَّ رَبَّكَ لَهُوَ [ص:589] الْعَزِيزُ} [الشعراء: 9] فِي
انْتِقَامِهِ مِمَّنْ كَفَرَ بِهِ وَكَذَّبَ رُسُلَهُ مِنْ
أَعْدَائِهِ، {الرَّحِيمُ} [الفاتحة: 1] بِمَنْ أُنْجِي مِنْ
رُسُلِهِ وَأَتْبَاعِهِمْ مِنَ الْغَرَقِ وَالْعَذَابِ الَّذِي
عَذَّبَ بِهِ الْكَفَرَةَ
(17/588)
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ
تَعَالَى: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ. إِذْ
قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ. قَالُوا نَعْبُدُ
أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ} [الشعراء: 70] يَقُولُ
تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَاقْصُصْ عَلَى قَوْمِكَ مِنَ
الْمُشْرِكِينَ يَا مُحَمَّدُ خَبَرَ إِبْرَاهِيمَ حِينَ قَالَ
لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ: أَيَّ شَيْءٍ تَعْبُدُونَ؟ {قَالُوا}
[البقرة: 11] لَهُ: {نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا
عَاكِفِينَ} [الشعراء: 71] يَقُولُ: فَنَظَلُّ لَهَا خَدَمًا
مُقِيمِينَ عَلَى عِبَادَتِهَا وَخِدْمَتِهَا. وَقَدْ
بَيَّنَّا مَعْنَى الْعُكُوفِ بِشَوَاهِدِهِ فِيمَا مَضَى
قَبْلُ، بِمَا أَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ
(17/589)
وَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِيمَا رُوِيَ
عَنْهُ يَقُولُ فِي مَعْنَى ذَلِكَ مَا: حَدَّثَنَا
الْقَاسِمُ، قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثني حَجَّاجٌ،
عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، قَوْلُهُ:
" {قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ}
[الشعراء: 71] قَالَ: الصَّلَاةُ لِأَصْنَامِهِمْ "
(17/589)
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ
تَعَالَى: {قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ. أَوْ
يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ. قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا
آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ} [الشعراء: 73] يَقُولُ
تَعَالَى ذِكْرُهُ: قَالَ إِبْرَاهِيمُ لَهُمْ: هَلْ تَسْمَعُ
دُعَاءَكُمْ هَؤُلَاءِ الْآلِهَةُ إِذْ تَدْعُونَهُمْ؟
وَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْعَرَبِيَّةِ فِي مَعْنَى ذَلِكَ:
فَقَالَ بَعْضُ نَحْوِيِّي الْبَصْرَةِ مَعْنَاهُ: هَلْ
يَسْمَعُونَ مِنْكُمْ أَوْ هَلْ يَسْمَعُونَ دُعَاءَكُمْ،
فَحَذَفَ الدُّعَاءَ، كَمَا قَالَ زُهَيْرٌ:
[البحر البسيط]
(17/589)
الْقَائِدُ الْخَيْلَ مَنْكُوبًا
دَوَابِرُهَا ... قَدْ أُحْكِمَتْ حَكَمَاتِ الْقِدِّ
وَالْأَبَقَا
وَقَالَ: يُرِيدُ أُحْكِمَتْ حَكَمَاتِ الْأِبْقِ، فَأَلْقَى
الْحَكَمَاتِ وَأَقَامَ الْأَبَقَ مُقَامَهَا. وَقَالَ بَعْضُ
مَنْ أَنْكَرَ ذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِ مِنْ أَهْلِ
الْعَرَبِيَّةِ: الْفَصِيحُ مِنَ الْكَلَامِ فِي ذَلِكَ هُوَ
مَا جَاءَ فِي الْقُرْآنِ، لِأَنَّ الْعَرَبَ تَقُولُ:
سَمِعْتُ زَيْدًا مُتَكَلِّمًا، يُرِيدُونَ: سَمِعْتُ كَلَامَ
زَيْدٍ، ثُمَّ تَعْلَمُ أَنَّ السَّمْعَ لَا يَقَعُ عَلَى
الْأَنَاسِيِّ. إِنَّمَا يَقَعُ عَلَى كَلَامِهِمْ ثُمَّ
يَقُولُونَ: سَمِعْتُ زَيْدًا: أَيْ سَمِعْتُ كَلَامَهُ.
قَالَ: وَلَوْ لَمْ يُقَدِّمْ فِي بَيْتِ زُهَيْرٍ حَكَمَاتِ
الْقِدِّ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُسْبَقَ بِالْأَبَقِ عَلَيْهَا،
لِأَنَّهُ لَا يُقَالُ: رَأَيْتُ الْأَبَقَ، وَهُوَ يُرِيدُ
الْحِكْمَةَ.
(17/590)
وَقَوْلُهُ: {أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ
يَضُرُّونَ} [الشعراء: 73] يَقُولُ: أَوْ تَنْفَعُكُمْ هَذِهِ
الْأَصْنَامُ، فَيَرْزُقُونَكُمْ شَيْئًا عَلَى
عِبَادَتِكُمُوهَا، أَوْ يَضُرُّونَكُمْ فَيُعَاقِبُونَكُمْ
عَلَى تَرَكِكُمْ عِبَادَتِهَا بِأَنْ يَسْلُبُوكُمْ
أَمْوَالَكُمْ، أَوْ يُهْلِكُوكُمْ إِذَا هَلَكْتُمْ
وَأَوْلَادَكُمْ {قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ
يَفْعَلُونَ} [الشعراء: 74] . وَفِي الْكَلَامِ مَتْرُوكٌ
اسْتَغْنَى بِدَلَالَةِ مَا ذُكِرَ عَمَّا تَرَكَ، وَذَلِكَ
جَوَابُهُمْ إِبْرَاهِيمَ عَنْ مَسْأَلَتِهِ إِيَّاهُمْ: {هَلْ
يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ، أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ
يَضُرُّونَ} [الشعراء: 73] فَكَانَ جَوَابُهُمْ إِيَّاهُ: لَا،
مَا يَسْمَعُونَنَا إِذَا دَعَوْنَاهُمْ، وَلَا يَنْفَعُونَنَا
وَلَا يَضُرُّونَ، يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ بِذَلِكَ
أَجَابُوهُ. قَوْلُهُمْ: {بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ
يَفْعَلُونَ} [الشعراء: 74] وَذَلِكَ رُجُوعٌ عَنْ مَجْحُودٍ،
كَقَوْلِ الْقَائِلِ: مَا كَانَ كَذَا بَلْ كَذَا وَكَذَا،
(17/590)
وَمَعْنَى قَوْلِهِمْ: {وَجَدْنَا
آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ} [الشعراء: 74] وَجَدْنَا مَنْ
قَبْلِنَا , وَلَا يَضُرُّونَ، يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ
بِذَلِكَ أَجَابُوهُ قَوْلَهُمْ مِنْ آبَائِنَا يَعْبُدُونَهَا
وَيَعْكُفُونَ عَلَيْهَا لِخِدْمَتِهَا وَعِبَادَتِهَا،
فَنَحْنُ نَفْعَلُ ذَلِكَ اقْتِدَاءً بِهِمْ، وَاتِّبَاعًا
لِمِنْهَاجِهِمْ
(17/591)
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ
تَعَالَى: {قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ.
أَنتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ. فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي
إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء: 76] يَقُولُ تَعَالَى
ذِكْرُهُ: قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِقَوْمِهِ: أَفَرَأَيْتُمْ
أَيُّهَا الْقَوْمُ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ مِنْ هَذِهِ
الْأَصْنَامِ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ، يَعْنِي
بِالْأَقْدَمِينَ: الْأَقْدَمِينَ مِنَ الَّذِينَ كَانَ
إِبْرَاهِيمُ يُخَاطِبُهُمْ، وَهُمُ الْأَوَّلُونَ قَبْلَهُمْ
مِمَّنْ كَانَ عَلَى مِثْلِ مَا كَانَ عَلَيْهِ الَّذِينَ
كَلَّمَهُمْ إِبْرَاهِيمُ مِنْ عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ.
فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ. يَقُولُ
قَائِلٌ: وَكَيْفَ يُوصَفُ الْخَشَبُ وَالْحَدِيدُ
وَالنُّحَاسُ بِعَدَاوَةِ ابْنِ آدَمَ؟ فَإِنَّ مَعْنَى
ذَلِكَ: فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي لَوْ عَبَدْتُهُمْ يَوْمَ
الْقِيَامَةِ، كَمَا قَالَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ {وَاتَّخَذُوا مِنْ
دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا. كَلَّا،
سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًا}
[مريم: 81]
(17/591)
وَقَوْلُهُ: {إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ}
[الشعراء: 77] نَصَبًا عَلَى الِاسْتِثْنَاءِ، وَالْعَدُوُّ
بِمَعْنَى الْجَمْعِ، وَوَحَّدَ لِأَنَّهُ أُخْرِجَ مَخْرَجَ
الْمَصْدَرِ، مِثْلَ الْقُعُودِ وَالْجُلُوسِ. وَمَعْنَى
الْكَلَامِ: أَفَرَأَيْتُمْ كُلَّ مَعْبِودٍ لَكُمْ
وَلِآبَائِكُمْ، فَإِنِّي مِنْهُ بَرِيءٌ لَا أَعْبُدُهُ،
إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ.
(17/591)
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ
تَعَالَى: {الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ. وَالَّذِي
هُوَ [ص:592] يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ. وَإِذَا مَرِضْتُ
فَهُوَ يَشْفِينِ} [الشعراء: 79] يَقُولُ: فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ
لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ {الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ
يَهْدِينِ} [الشعراء: 78] لِلصَّوَابِ مِنَ الْقَوْلِ
وَالْعَمَلِ، وَيُسَدِّدُنِي لِلرَّشَادِ. {وَالَّذِي هُوَ
يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ} [الشعراء: 79] يَقُولُ: وَالَّذِي
يَغْذُونِي بِالطَّعَامِ وَالشَّرَابِ وَيَرْزُقُنِي
الْأَرْزَاقَ. {وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ} [الشعراء:
80] يَقُولُ: وَإِذَا سَقَمَ جِسْمِي وَاعْتَلَّ، فَهُوَ
يُبْرِئُهُ وَيُعَافِيهِ.
(17/591)
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ
تَعَالَى: {وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ. وَالَّذِي
أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ}
[الشعراء: 82] يَقُولُ: وَالَّذِي يُمِيتُنِي إِذَا شَاءَ
ثُمَّ يُحْيِينِي إِذَا أَرَادَ بَعْدَ مَمَاتِي. {وَالَّذِي
أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ}
[الشعراء: 82] فَرَبِّي هَذَا الَّذِي بِيَدِهِ نَفْعِي
وَضَرِّي، وَلَهُ الْقُدْرَةُ وَالسُّلْطَانُ، وَلَهُ
الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ، لَا الَّذِي لَا يَسْمَعُ إِذَا
دُعِيَ، وَلَا يَنْفَعُ وَلَا يَضُرُّ. وَإِنَّمَا كَانَ هَذَا
الْكَلَامُ مِنْ إِبْرَاهِيمَ احْتِجَاجًا عَلَى قَوْمِهِ، فِي
أَنَّهُ لَا تَصْلُحُ الْأُلُوهَةُ، وَلَا يَنْبَغِي أَنْ
تَكُونَ الْعُبُودَةُ إِلَّا لِمَنْ يَفْعَلُ هَذِهِ
الْأَفْعَالَ، لَا لِمَنْ لَا يُطِيقُ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا.
وَقِيلَ: إِنَّ إِبْرَاهِيمَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ،
عَنِيَ بِقَوْلِهِ: {وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي
خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ} [الشعراء: 82] وَالَّذِي أَرْجُو
أَنْ يَغْفِرَ لِي قَوْلِي: {إِنِّي سَقِيمٌ} [الصافات: 89]
وَقَوْلَهُ: {بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا} [الأنبياء: 63]
وَقُولِي لِسَارَةَ إِنَّهَا أُخْتِي.
(17/592)
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي
مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثنا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثنا
عِيسَى، وَحَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ: ثنا الْحَسَنُ،
قَالَ: ثنا وَرْقَاءُ، جَمِيعًا، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ،
عَنْ مُجَاهِدٍ، [ص:593] فِي قَوْلِ اللَّهِ: " {أَنْ يَغْفِرَ
لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ} [الشعراء: 82] قَالَ:
قَوْلُهُ: {إِنِّي سَقِيمٌ} [الصافات: 89] وَقَوْلُهُ
{فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا} [الأنبياء: 63] وَقَوْلُهُ
لِسَارَةَ: إِنَّهَا أُخْتِي، حِينَ أَرَادَ فِرْعَوْنُ مِنَ
الْفَرَاعِنَةِ أَنْ يَأْخُذَهَا "
(17/592)
حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثنا
الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثني حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ
مُجَاهِدٍ، قَوْلَهُ: " {وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي
خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ} [الشعراء: 82] قَالَ: قَوْلَهُ
{إِنِّي سَقِيمٌ} [الصافات: 89] وَقَوْلَهُ {بَلْ فَعَلَهُ
كَبِيرُهُمْ هَذَا} [الأنبياء: 63] وَقَوْلَهُ لِسَارَةَ:
إِنَّهَا أُخْتِي ". قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثنا أَبُو
تُمَيْلَةَ، عَنْ أَبِي حَمْزَةَ، عَنْ جَابِرٍ، عَنْ
عِكْرِمَةَ وَمُجَاهِدٍ، نَحْوَهُ. وَيَعْنِي بِقَوْلِهِ
{يَوْمَ الدِّينِ} [الشعراء: 82] يَوْمَ الْحِسَابِ يَوْمَ
الْمُجَازَاةِ. وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ بِشَوَاهِدِهِ فِيمَا
مَضَى.
(17/593)
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ
تَعَالَى: {رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا وَأَلْحِقْنِي
بِالصَّالِحِينَ. وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي
الْآخِرِينَ} [الشعراء: 84] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ
مُخْبِرًا عَنْ مَسْأَلَةِ خَلِيلِهِ إِبْرَاهِيمَ إِيَّاهُ
{رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا} [الشعراء: 83] يَقُولُ: رَبِّ هَبْ
لِي نُبُوَّةً. {وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ} [يوسف: 101]
يَقُولُ: وَاجْعَلْنِي رَسُولًا إِلَى خَلْقِكَ، حَتَّى
تُلْحِقَنِي بِذَلِكَ بِعِدَادِ مَنْ أَرْسَلْتَهُ مِنْ
رُسُلِكَ إِلَى خَلْقِكَ، وَائْتَمَنْتَهُ عَلَى وَحْيِكَ،
وَاصْطَفَيْتَهُ لِنَفْسِكَ.
(17/593)
وَقَوْلُهُ: {وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ
فِي الْآخِرِينَ} [الشعراء: 84] يَقُولُ: وَاجْعَلْ لِي فِي
النَّاسِ [ص:594] ذِكْرًا جَمِيلًا، وَثَنَاءً حَسَنًا
بَاقِيًا فِيمَنْ يَجِيءُ مِنَ الْقُرُونِ بَعْدِي. وَبِنَحْوِ
الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ
(17/593)
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا
الْقَاسِمُ، قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثني حَجَّاجٌ،
عَنْ أَبِي بَكْرٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، قَوْلَهُ: " {وَاجْعَلْ
لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ} [الشعراء: 84] ، قَوْلُهُ
{وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا} [العنكبوت: 27] .
قَالَ: إِنَّ اللَّهَ فَضَّلَهُ بِالْخِلَّةِ حِينَ اتَّخَذَهُ
خَلِيلًا، فَسَأَلَ اللَّهَ فَقَالَ: {وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ
صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ} [الشعراء: 84] حَتَّى لَا
تُكَذِّبُنِي الْأُمَمُ، فَأَعْطَاهُ اللَّهُ ذَلِكَ، فَإِنَّ
الْيَهُودَ آمَنَتْ بِمُوسَى وَكَفَرَتْ بِعِيسَى، وَإِنَّ
النَّصَارَى آمَنَتْ بِعِيسَى وَكَفَرَتْ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكُلُّهُمْ يَتَوَلَّى
إِبْرَاهِيمَ؛ قَالَتِ الْيَهُودُ: هُوَ خَلِيلُ اللَّهِ
وَهُوَ مِنَّا، فَقَطَعَ اللَّهُ وِلَايَتَهُمْ مِنْهُ بَعْدَ
مَا أَقَرُّوا لَهُ بِالنُّبُوَّةِ وَآمَنُوا بِهِ، فَقَالَ:
{مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا،
وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ
الْمُشْرِكِينَ} [آل عمران: 67] ثُمَّ أَلْحَقَ وِلَايَتَهُ
بِكُمْ فَقَالَ: {إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ
لِلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ، وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ
آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ} [آل عمران: 68]
فَهَذَا أَجْرُهُ الَّذِي عُجِّلَ لَهُ، وَهِيَ الْحَسَنَةُ،
إِذْ يَقُولُ: {وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً} [النحل:
122] وَهُوَ اللِّسَانُ الصِّدْقُ الَّذِي سَأَلَ رَبَّهُ "
(17/594)
حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا
ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ، فِي قَوْلِهِ:
{وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخَرِينَ} [الشعراء: 84]
قَالَ: " اللِّسَانُ الصِّدْقُ: الذِّكْرُ الصِّدْقُ،
وَالثَّنَاءُ الصَّالِحُ، وَالذِّكْرُ الصَّالِحُ فِي
الْآخِرِينَ مِنَ النَّاسِ مِنَ الْأُمَمِ "
(17/594)
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ
تَعَالَى: {وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ.
وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ [ص:595] كَانَ مِنَ الضَّالِّينَ.
وَلَا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ. يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ
وَلَا بَنُونَ. إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ}
[الشعراء: 86] يَعْنِي إِبْرَاهِيمُ صَلَوَاتُ اللَّهِ
عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ: {وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ
النَّعِيمِ} [الشعراء: 85] أَوْرِثْنِي يَا رَبِّ مِنْ
مَنَازِلِ مَنْ هَلَكَ مِنْ أَعْدَائِكَ الْمُشْرِكِينَ بِكَ
مِنَ الْجَنَّةِ، وَأَسْكِنِّي ذَلِكَ. {وَاغْفِرْ لِأَبِي}
[الشعراء: 86] يَقُولُ: وَاصْفَحْ لِأَبِي عَنْ شَرَكِهِ بِكَ،
وَلَا تُعَاقِبْهُ عَلَيْهِ {إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضَّالِّينَ}
[الشعراء: 86] يَقُولُ: إِنَّهُ كَانَ مِمَّنْ ضَلَّ عَنْ
سَبِيلِ الْهُدَى، فَكَفَرَ بِكَ. وَقَدْ بَيَّنَّا الْمَعْنَى
الَّذِي مِنْ أَجَلِهِ اسْتَغْفَرَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ
صَلَوَاتُ اللَّهُ عَلَيْهِ، وَاخْتِلَافُ أَهْلِ الْعِلْمِ
فِي ذَلِكَ، وَالصَّوَابُ عِنْدَنَا مِنَ الْقَوْلِ فِيهِ
فِيمَا مَضَى، بِمَا أَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ فِي هَذَا
الْمَوْضِعِ.
(17/594)
وَقَوْلُهُ: {وَلَا تُخْزِنِي يَوْمَ
يَبْعَثُونَ} [الشعراء: 87] يَقُولُ: وَلَا تُذِلَّنِي
بِعِقَابِكَ إِيَّايَ يَوْمَ تَبْعَثُ عِبَادَكَ مِنْ
قُبُورِهِمْ لِمَوْقِفِ الْقِيَامَةِ. {يَوْمَ لَا يَنفَعُ
مَالٌ وَلَا بَنُونَ} [الشعراء: 88] يَقُولُ: لَا تُخْزِنِي
يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَنْ كَفَرَ بِكَ وَعَصَاكَ فِي
الدُّنْيَا مَالٌ كَانَ لَهُ فِي الدُّنْيَا، وَلَا بَنُوهُ
الَّذِينَ كَانُوا لَهُ فِيهَا، فَيَدْفَعُ ذَلِكَ عَنْهُ
عِقَابَ اللَّهِ إِذَا عَاقَبَهُ، وَلَا يُنَجِّيهِ مِنْهُ.
(17/595)
وَقَوْلُهُ: {إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ
بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء: 89] يَقُولُ: وَلَا تُخْزِنِي
يَوْمَ يَبْعَثُونَ، يَوْمَ لَا يَنْفَعُ إِلَّا الْقَلْبُ
السَّلِيمُ. وَالَّذِي عَنِيَ بِهِ مِنْ سَلَامَةِ الْقَلْبِ
فِي هَذَا الْمَوْضِعِ: هُوَ سَلَامَةُ الْقَلْبِ مِنَ
الشَّكِّ فِي تَوْحِيدِ اللَّهِ، وَالْبَعْثِ بَعْدَ
الْمَمَاتِ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ
أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
(17/595)
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي
يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: ثنا ابْنُ عُلَيَّةَ،
عَنْ عَوْنٍ، قَالَ: قُلْتُ لِمُحَمَّدٍ: " مَا الْقَلْبُ
السَّلِيمُ؟ قَالَ: أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ اللَّهَ حَقٌّ،
وَأَنَّ السَّاعَةَ قَائِمَةٌ، وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ
فِي الْقُبُورِ "
(17/596)
حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: ثنا
أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثنا سُفْيَانُ، عَنْ لَيْثٍ، عَنْ
مُجَاهِدٍ: " {إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ}
[الشعراء: 89] قَالَ: لَا شَكَّ فِيهِ "
(17/596)
حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثنا
الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثني حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ
مُجَاهِدٍ، قَوْلَهُ: " {إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ
سَلِيمٍ} [الشعراء: 89] قَالَ: لَيْسَ فِيهِ شَكٌّ فِي
الْحَقِّ "
(17/596)
حَدَّثَنَا الْحَسَنُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا
عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ
قَتَادَةَ، فِي قَوْلِهِ: {بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء: 89]
قَالَ: «سَلِيمٌ مِنَ الشِّرْكِ»
(17/596)
حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا
ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ: {إِلَّا مَنْ أَتَى
اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلَيْمٍ} [الشعراء: 89] قَالَ: «سَلَيْمٌ
مِنَ الشِّرْكِ، فَأَمَّا الذُّنُوبُ فَلَيْسَ يَسْلَمُ
مِنْهَا أَحَدٌ»
(17/596)
حَدَّثَنِي عَمْرُو بْنُ عَبْدِ الْحَمِيدِ
الْآمُلِيُّ، قَالَ: ثنا مَرْوَانُ بْنُ مُعَاوِيَةَ، عَنْ
جُوَبِيرٍ، عَنِ الضَّحَّاكِ، فِي قَوْلِ اللَّهِ: " {إِلَّا
مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء: 89] قَالَ:
هُوَ الْخَالِصُ "
(17/596)
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ
تَعَالَى: {وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ.
وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ. وَقِيلَ لَهُمْ أَيْنَ
مَا كُنتُمْ تَعْبُدُونَ. مِنْ دُونِ اللَّهِ، هَلْ
يَنصُرُونَكُمْ أَوْ يَنتَصِرُونَ. فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ
وَالْغَاوُونَ , وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ} [الشعراء:
91] يَعْنِي جَلَّ ثَنَاؤُهُ بِقَوْلِهِ: {وَأُزْلِفَتِ
الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ} [الشعراء: 90] وَأُدْنِيَتِ
الْجَنَّةُ وَقُرِّبَتْ لِلْمُتَّقِينَ، الَّذِينَ اتَّقَوْا
عِقَابَ اللَّهِ فِي الْآخِرَةِ بِطَاعَتِهِمْ إِيَّاهُ فِي
الدُّنْيَا، {وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ} [الشعراء:
91] يَقُولُ: وَأُظْهِرَتِ النَّارُ لِلَّذِينَ غَوَوْا
فَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ. {وَقِيلَ} [آل عمران: 167]
لِلْغَاوِينَ {أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ , مِنْ دُونِ
اللَّهِ} [الشعراء: 92] مِنَ الْأَنْدَادِ {هَلْ
يَنْصُرُونَكُمْ} [الشعراء: 93] الْيَوْمَ مِنَ اللَّهِ،
فَيُنْقِذُونَكُمْ مِنْ عَذَابِهِ {أَوْ يَنْتَصِرُونَ}
[الشعراء: 93] لِأَنْفُسِهِمْ، فَيُنْجُونَهَا مِمَّا يُرَادُ
بِهَا؟
(17/597)
وَقَوْلُهُ: {فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ
وَالْغَاوُونَ} [الشعراء: 94] يَقُولُ: فَرُمِيَ بِبَعْضِهِمْ
فِي الْجَحِيمِ عَلَى بَعْضٍ، وَطُرِحَ بَعْضُهُمْ عَلَى
بَعْضٍ مُنْكَبِّينَ عَلَى وجُوهَهُمْ. وَأَصْلُ كُبْكِبُوا:
كُبِّبُوا، وَلَكِنَّ الْكَافَ كُرِّرَتْ كَمَا قِيلَ:
{بِرِيحٍ صَرْصَرٍ} [الحاقة: 6] يَعْنِي بِهِ صِرٌّ،
وَنَهْنَهَنِي يُنَهْنِهُنِي، يَعْنِي بِهِ: نَهَهَنِي.
وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ
التَّأْوِيلِ.
(17/597)
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا
الْقَاسِمُ، قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثني حَجَّاجٌ،
عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، قَوْلَهُ: "
{فَكُبْكِبُوا} [الشعراء: 94] قَالَ: فَدُهْوِرُوا "
(17/597)
حَدَّثَنِي عَلِيٌّ، قَالَ: ثنا أَبُو
صَالِحٍ، قَالَ ثني مُعَاوِيَةُ، عَنْ عَلِيٍّ، عَنِ ابْنِ
عَبَّاسٍ، [ص:598] قَوْلَهُ: " {فَكُبْكِبُوا فِيهَا}
[الشعراء: 94] يَقُولُ: فَجُمِعُوا فِيهَا "
(17/597)
حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا
ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ، فِي قَوْلِهِ: "
{فَكُبْكِبُوا فِيهَا} [الشعراء: 94] قَالَ: طُرِحُوا فِيهَا
". فَتَأْوِيلُ الْكَلَامِ: فَكُبْكِبَ هَؤُلَاءِ الْأَنْدَادُ
الَّتِي كَانَتْ تُعْبَدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ فِي الْجَحِيمِ
وَالْغَاوُونَ. وَذُكِرَ عَنْ قَتَادَةَ كَانَ يَقُولُ:
الْغَاوُونَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ: الشَّيَاطِينُ
(17/598)
ذِكْرُ الرِّوَايَةِ عَمَّنْ قَالَ ذَلِكَ:
حَدَّثَنَا الْحَسَنُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ،
قَالَ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ، فِي قَوْلِهِ: "
{فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ} [الشعراء: 94]
قَالَ: " الْغَاوُونَ: الشَّيَاطِينُ ". فَتَأْوِيلُ
الْكَلَامِ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ الَّذِي ذَكَرْنَا عَنْ
قَتَادَةَ: فَكُبْكِبَ فِيهَا الْكُفَّارُ الَّذِينَ كَانُوا
يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ الْأَصْنَامَ وَالشَّيَاطِينَ
(17/598)
وَقَوْلُهُ: {وَجُنُودُ إِبْلِيسَ
أَجْمَعُونَ} [الشعراء: 95] يَقُولُ: وَكُبْكِبَ فِيهَا مَعَ
الْأَنْدَادِ وَالْغَاوِينَ جُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ.
وَجُنُودُهُ: كُلُّ مَنْ كَانَ مِنْ أَتْبَاعِهِ، مِنْ
ذُرِّيَّتِهِ كَانَ أَوْ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ.
(17/598)
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ
تَعَالَى: {قَالُوا وَهُمْ فِيهَا يَخْتَصِمُونَ. تَاللَّهِ
إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ. إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ
الْعَالَمِينَ} [الشعراء: 97][ص:599] يَقُولُ تَعَالَى
ذِكْرُهُ: قَالَ هَؤُلَاءِ الْغَاوُونَ وَالْأَنْدَادُ الَّتِي
كَانُوا يَعْبُدُونَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ، وَجُنُودُ
إِبْلِيسَ، وَهُمْ فِي الْجَحِيمِ يَخْتَصِمُونَ. {تَاللَّهِ
إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} [الشعراء: 97] يَقُولُ:
تَاللَّهِ لَقَدْ كُنَّا فِي ذَهَابٍ عَنِ الْحَقِّ، إِنْ
كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ، يُبَيِّنُ ذِهَابُنَا ذَلِكَ
عَنْهُ عَنْ نَفْسِهِ، لِمَنْ تَأَمَّلَهُ وَتَدَبَّرَهُ،
أَنَّهُ ضَلَالٌ وَبَاطِلٌ.
(17/598)
وَقَوْلُهُ: {إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ
الْعَالَمِينَ} [الشعراء: 98] يَقُولُ الْغَاوُونَ لِلَّذِينَ
يَعْبُدُونَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ: تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا
لَفِي ذَهَابٍ عَنِ الْحَقِّ حِينَ نَعْدِلُكُمْ بِرَبِّ
الْعَالَمِينَ فَنَعْبُدُكُمْ مِنْ دُونِهِ. وَبِنَحْوِ
الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
(17/599)
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي
يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ
زَيْدٍ، فِي قَوْلِهِ: " {إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ
الْعَالَمِينَ} [الشعراء: 98] قَالَ: لِتِلْكَ الْآلِهَةِ "
(17/599)
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ
تَعَالَى: {وَمَا أَضَلَّنَا إِلَّا الْمُجْرِمُونَ. فَمَا
لَنَا مِنْ شَافِعِينَ. وَلَا صَدِيقٍ حَمِيمٍ. فَلَوْ أَنَّ
لَنَا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [الشعراء: 100]
يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ مُخْبِرًا عَنْ قِيلِ هَؤُلَاءِ
الْغَاوِينَ فِي الْجَحِيمِ: {وَمَا أَضَلَّنَا إِلَّا
الْمُجْرِمُونَ} [الشعراء: 99] يَعْنِي بِالْمُجْرِمِينَ
إِبْلِيسَ، وَابْنَ آدَمَ الَّذِي سَنَّ الْقَتْلَ.
(17/599)
كَمَا: حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثنا
الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثني حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ
عِكْرِمَةَ، قَوْلَهُ: " {وَمَا أَضَلَّنَا إِلَّا
الْمُجْرِمُونَ} [الشعراء: 99] قَالَ: إِبْلِيسُ وَابْنُ آدَمَ
الْقَاتِلُ "
(17/599)
وَقَوْلُهُ {فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينِ}
[الشعراء: 100] يَقُولُ: فَلَيْسَ لَنَا شَافِعٌ فَيَشْفَعُ
لَنَا عِنْدَ اللَّهِ مِنَ الْأَبَاعِدِ، فَيَعْفُو عَنَّا،
وَيُنْجِينَا مِنْ عِقَابِهِ. {وَلَا صَدِيقٍ حَمِيمٍ}
[الشعراء: 101] مِنَ الْأَقَارِبِ. وَاخْتَلَفَ أَهْلُ
التَّأْوِيلِ فِي الَّذِينَ عَنَوْا بِالشَّافِعِينَ،
وَبِالصَّدِيقِ الْحَمِيمِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: عُنِيَ
بِالشَّافِعِينَ: الْمَلَائِكَةَ، وَبِالصَّدِيقِ الْحَمِيمِ:
النَّسِيبَ.
(17/600)
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا
الْقَاسِمُ، قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثني حَجَّاجٌ،
عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ: " {فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ}
[الشعراء: 100] قَالَ: مِنَ الْمَلَائِكَةِ {وَلَا صَدِيقٍ
حَمِيمٍ} [الشعراء: 101] قَالَ: مِنَ النَّاسِ "
(17/600)
قَالَ مُجَاهِدٌ: " {صَدِيقٌ حَمِيمٌ}
[الشعراء: 101] ، قَالَ: شَقِيقٌ ". وَقَالَ آخَرُونَ: كُلُّ
هَؤُلَاءِ مِنْ بَنِي آدَمَ
(17/600)
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي
زَكَرِيَّا بْنُ يَحْيَى بْنِ أَبِي زَائِدَةَ، قَالَ: ثنا
إِسْحَاقُ بْنُ سَعِيدٍ الْبَصْرِيُّ الْمِسْمَعِيُّ، عَنْ
أَخِيهِ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْمِسْمَعِيِّ، قَالَ: كَانَ
قَتَادَةُ إِذَا قَرَأَ: {فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ وَلَا
صَدِيقٍ حَمِيمٍ} [الشعراء: 101] ، قَالَ: «يَعْلَمُونَ
وَاللَّهِ أَنَّ الصَّدِيقَ إِذَا كَانَ صَالِحًا نَفَعَ،
وَأَنَّ الْحَمِيمَ إِذَا كَانَ صَالِحًا شَفَعَ»
(17/600)
وَقَوْلُهُ {فَلَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً
فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [الشعراء: 102] يَقُولُ:
فَلَوْ أَنَّ لَنَا رَجْعَةً إِلَى [ص:601] الدُّنْيَا
فَنُؤْمِنُ بِاللَّهِ فَنَكُونَ بِإِيمَانِنَا بِهِ مِنَ
الْمُؤْمِنِينَ.
(17/600)
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ
تَعَالَى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرَهُمْ
مُؤْمِنِينَ. وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ}
[الشعراء: 9] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: إِنَّ فِيمَا
احْتَجَّ بِهِ إِبْرَاهِيمُ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْحُجَجِ
الَّتِي ذَكَرْنَا لَهُ لَدَلَالَةً بَيِّنَةً وَاضِحَةً
لِمَنِ اعْتَبَرَ، عَلَى أَنَّ سَنَةَ اللَّهِ فِي خَلْقِهِ
الَّذِينَ يَسْتَنُّونَ بِسُنَّةِ قَوْمِ إِبْرَاهِيمَ مِنْ
عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ وَالْآلِهَةِ، وَيَقْتَدُونَ بِهِمْ
فِي ذَلِكَ مَا سَنَّ فِيهِمْ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ، مِنْ
كَبْكَبَتِهِمٍ وَمَا عَبَدُوا مِنْ دُونِهِ مَعَ جُنُودِ
إِبْلِيسَ فِي الْجَحِيمِ، وَمَا كَانَ أَكْثَرَهُمْ فِي
سَابِقِ عَلِمِهِ مُؤْمِنِينَ. وَإِنَّ رَبِّكَ يَا مُحَمَّدُ
لَهُوَ الشَّدِيدُ الِانْتِقَامِ مِمَّنْ عَبَدَ دُونَهُ،
ثُمَّ لَمْ يَتُبْ مِنْ كُفْرِهِ حَتَّى هَلَكَ، الرَّحِيمُ
بِمَنْ تَابَ مِنْهُمْ أَنْ يُعَاقِبَهُ عَلَى مَا كَانَ
سَلَفَ مِنْهُ قَبْلَ تَوْبَتِهِ مِنْ إِثْمٍ وَجُرْمٍ.
(17/601)
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ
تَعَالَى: {كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ. إِذْ قَالَ
لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلَا تَتَّقُونَ. إِنِّي لَكُمْ
رَسُولٌ أَمِينٌ} [الشعراء: 106] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ:
{كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ} [الشعراء: 105] رُسُلَ اللَّهِ
الَّذِينَ أَرْسَلَهُمْ إِلَيْهِمْ لَمَّا {قَالَ لَهُمْ
أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلَا تَتَّقُونَ} [الشعراء: 106]
فَتَحْذَرُوا عِقَابَهُ عَلَى كُفْرِكُمْ بِهِ،
وَتَكْذِيبِكُمْ رُسُلَهُ. {إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ} [الشعراء:
107] مِنَ اللَّهِ {أَمِينٌ} [الأعراف: 68] عَلَى وَحْيِهِ
إِلَيَّ، بِرِسَالَتِهِ إِيَّايَ إِلَيْكُمْ.
(17/601)
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ
تَعَالَى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ. وَمَا
أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ، إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا
عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ. فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ}
[الشعراء: 109][ص:602] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: فَاتَّقُوا
عِقَابَ اللَّهِ أَيُّهَا الْقَوْمُ عَلَى كُفْرِكُمْ بِهِ،
وَأَطِيعُونِي فِي نَصِيحَتِي لَكُمْ، وَأَمْرِي إِيَّاكُمْ
بِاتِّقَائِهِ. {وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ}
[الشعراء: 109] يَقُولُ: وَمَا أَطْلُبُ مِنْكُمْ عَلَى
نَصِيحَتِي لَكُمْ وَأَمْرِي إِيَّاكُمْ بِاتِّقَاءِ عِقَابِ
اللَّهِ بِطَاعَتِهِ فِيمَا أَمَرَكُمْ وَنَهَاكُمْ مِنْ
ثَوَابٍ وَلَا جَزَاءٍ {إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ
الْعَالَمِينَ} [الشعراء: 109] دُونَكُمْ وَدُونَ جَمِيعِ
خَلَقِ اللَّهِ، فَاتَّقُوا عِقَابَ اللَّهِ عَلَى كُفْرِكُمْ
بِهِ، وَخَافُوا حُلُولَ سَخَطِهِ بِكُمْ عَلَى تَكْذِيبِكُمْ
رُسُلَهُ، {وَأَطِيعُونِ} [آل عمران: 50] : يَقُولُ:
وَأَطِيعُونِي فِي نَصِيحَتِي لَكُمْ، وَأَمْرِي إِيَّاكُمْ
بِإِخْلَاصِ الْعِبَادَةِ لِخَالِقِكُمْ
(17/601)
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ
تَعَالَى: {قَالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ
الْأَرْذَلُونَ. قَالَ وَمَا عِلْمِي بِمَا كَانُوا
يَعْمَلُونَ. إِنْ حِسَابُهُمْ إِلَّا عَلَى رَبِّي لَوْ
تَشْعُرُونَ} [الشعراء: 112] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: قَالَ
قَوْمُ نُوحٍ لَهُ مُجِيبِيهِ عَنْ قِيلِهِ لَهُمْ: {إِنِّي
لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ، فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ}
[الشعراء: 107] قَالُوا: أَنُؤْمِنُ لَكَ يَا نُوحُ، وَنُقِرُّ
بِتَصْدِيقِكَ فِيمَا تَدْعُونَا إِلَيْهِ، وَإِنَّمَا
أَتَّبَعَكَ مِنَّا الْأَرْذَلُونَ دُونَ ذَوِي الشَّرَفِ
وَأَهْلِ الْبُيُوتَاتِ. {قَالَ وَمَا عِلْمِي بِمَا كَانُوا
يَعْمَلُونَ} [الشعراء: 112] . قَالَ نُوحٌ لِقَوْمِهِ: وَمَا
عِلْمِي بِمَا كَانَ أَتْبَاعِي يَعْمَلُونَ، إِنَّمَا لِي
مِنْهُمْ ظَاهِرَ أَمْرِهِمْ دُونَ بَاطِنِهِ، وَلَمْ
أُكَلَّفْ عِلْمَ بَاطِنِهِمْ، وَإِنَّمَا كُلِّفْتُ
الظَّاهِرَ، فَمَنْ أَظْهَرَ حَسَنًا ظَنَنْتُ بِهِ حَسَنًا،
وَمَنْ أَظْهَرَ سَيِّئًا ظَنَنْتُ بِهِ سيِّئًا. {إِنْ
حِسَابُهُمْ إِلَّا عَلَى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ} [الشعراء:
113] يَقُولُ: إِنْ حِسَابُ بَاطِنِ أَمْرِهِمُ الَّذِي خَفِيَ
عَنِّي إِلَّا عَلَى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ، فَإِنَّهُ
يَعْلَمُ سِرَّ أَمْرِهِمْ وَعَلَانِيَتِهِ. وَبِنَحْوِ
الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
(17/602)
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا
الْقَاسِمُ، قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثني حَجَّاجٌ،
عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، قَوْلَهُ: " {إِنْ حِسَابُهُمْ إِلَّا
عَلَى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ} [الشعراء: 113] قَالَ: هُوَ
أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِهِمْ "
(17/603)
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ
تَعَالَى: {وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الْمُؤْمِنِينَ. إِنْ أَنَا
إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ. قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا
نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ} [الشعراء: 115]
يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ مُخْبِرًا عَنْ قِيلِ نُوحٍ
لِقَوْمِهِ: وَمَا أَنَا بِطَارِدِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ
وَاتَّبَعَنِي عَلَى التَّصْدِيقِ بِمَا جِئْتُ بِهِ مِنْ
عِنْدِ اللَّهِ. {إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ}
[الشعراء: 115] يَقُولُ: مَا أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ مِنْ
عِنْدِ رَبِّكُمْ أُنْذِرُكُمْ بَأْسَهُ وَسَطْوَتَهُ عَلَى
كُفْرِكُمْ بِهِ , {مُبِينٌ} [البقرة: 168] : يَقُولُ: نَذِيرٌ
قَدْ أَبَانَ لَكُمْ إِنْذَارَهُ، وَلَمْ يَكْتُمْكُمْ
نَصِيحَتَهُ. {قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا نُوحُ
لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ} [الشعراء: 116] يَقُولُ:
قَالَ لِنُوحٍ قَوْمُهُ: لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا نُوحُ
عَمَّا تَقُولُ وَتَدْعُو إِلَيْهِ وَتَعِيبُ بِهِ آلِهَتَنَا،
لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَشْتُومِينَ، يَقُولُ: لَنَشْتُمُكَ.
(17/603)
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ
تَعَالَى: {قَالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ. فَافْتَحْ
بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحًا، وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ مِنَ
الْمُؤْمِنِينَ. فَأَنجَيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ
الْمَشْحُونِ. ثُمَّ أَغْرَقْنَا بَعْدُ الْبَاقِينَ}
[الشعراء: 118] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: قَالَ نُوحٌ:
{رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ} [الشعراء: 117] فِيمَا
أَتَيْتُهُمْ بِهِ مِنَ الْحَقِّ مِنْ عِنْدِكَ، وَرُدُّوا
عَلَيَّ نَصِيحَتِي لَهُمْ. {فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ
فَتْحًا} [الشعراء: 118] يَقُولُ: فَاحْكُمْ بَيْنِي
وَبَيْنَهُمْ حُكْمًا مِنْ عِنْدَكِ تُهْلِكُ بِهِ
الْمُبْطِلَ، وَتَنْتَقِمُ بِهِ مِمَّنْ كَفَرَ بِكَ وَجَحَدَ
تَوْحِيدَكَ، وَكَذَّبَ رَسُولَكَ.
(17/603)
كَمَا: حَدَّثَنَا الْحَسَنُ، قَالَ:
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ،
عَنْ قَتَادَةَ، فِي قَوْلِهِ: {فَافْتَحْ بَيْنِي
وَبَيْنَهُمْ فَتْحًا} [الشعراء: 118] قَالَ: «فَاقْضِ بَيْنِي
وَبَيْنَهُمْ قَضَاءً»
(17/604)
حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا
ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ، فِي قَوْلِهِ:
{فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحًا} [الشعراء: 118]
قَالَ: يَقُولُ: " اقْضِ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ، {وَنَجِّنِي}
[الشعراء: 118] يَقُولُ: وَنَجِّنِي مِنْ ذَلِكَ الْعَذَابِ
الَّذِي تَأْتِي بِهِ حُكْمًا بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ، {وَمَنْ
مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [الشعراء: 118] يَقُولُ:
وَالَّذِينَ مَعِيَ مِنْ أَهْلِ الْإِيمَانِ بِكَ
وَالتَّصْدِيقِ لِي "
(17/604)
وَقَوْلُهُ {فَأَنْجَيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ
فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ} [الشعراء: 119] يَقُولُ:
فَأَنْجَيْنَا نُوحًا وَمَنْ مَعَهُ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ حِينَ
فَتَحْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ قَوْمِهِمْ، وَأَنْزَلْنَا
بَأْسَنَا بِالْقَوْمِ الْكَافِرِينَ فِي الْفُلْكِ
الْمَشْحُونِ، يَعْنِي فِي السَّفِينَةِ الْمَوَقَّرَةِ
الْمَمْلُوءَةِ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي تَأْوِيلِ
قَوْلِهِ {الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ} [الشعراء: 119] قَالَ
أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
(17/604)
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي
مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ: ثني أَبِي، قَالَ: ثني عَمِّي،
قَالَ: ثني أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ،
قَوْلَهُ: " {فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ} [الشعراء: 119]
قَالَ: يَعْنِي الْمُوَقَّرَ "
(17/604)
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سِنَانٍ
الْقَزَّازُ، قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ بْنُ الْحَسَنِ
الْأَشْقَرُ، قَالَ: ثنا أَبُو كُدَيْنَةَ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنْ
سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: "
{الْمَشْحُونُ} [الشعراء: 119] : [ص:605] الْمُوَقَّرُ "
(17/604)
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ:
ثنا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثنا عِيسَى، وَحَدَّثَنِي
الْحَارِثُ، قَالَ: ثنا الْحَسَنُ، قَالَ: ثنا وَرْقَاءُ،
جَمِيعًا، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، فِي
قَوْلِ اللَّهِ: " {الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ} [الشعراء: 119]
قَالَ: الْمَفْرُوغُ مِنْهُ الْمَمْلُوءُ "
(17/605)
حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثنا
الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثني حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ
مُجَاهِدٍ، قَالَ: " {الْمَشْحُونِ} [الشعراء: 119]
الْمَفْرُوغُ مِنْهُ تَحْمِيلًا "
(17/605)
حَدَّثَنَا الْحَسَنُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا
عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ
قَتَادَةَ، فِي قَوْلِ اللَّهِ: " {الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ}
[الشعراء: 119] قَالَ: هُوَ الْمُحَمَّلُ "
(17/605)
وَقَوْلُهُ: {ثُمَّ أَغْرَقْنَا بَعْدُ
الْبَاقِينَ} [الشعراء: 120] مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ
كَذَبُوهُ، وَرُدُّوا عَلَيْهِ النَّصِيحَةَ.
(17/605)
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ
تَعَالَى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ
مُؤْمِنِينَ. وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ}
[الشعراء: 9] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: إِنَّ فِيمَا
فَعَلْنَا يَا مُحَمَّدُ بِنُوحٍ وَمَنْ مَعَهُ مِنَ
الْمُؤْمِنِينَ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ، حِينَ أَنْزَلْنَا
بَأْسَنَا وَسَطْوَتَنَا بِقَوْمِهِ الَّذِينَ كَذَبُوهُ،
لَآيَةً لَكَ وَلِقَوْمِكَ الْمُصَدِّقِيكَ مِنْهُمْ
وَالْمُكَذِّبِيكَ، فِي أَنَّ سُنَّتَنَا تَنْجِيَةُ رُسُلِنَا
وَأَتْبَاعَهُمْ إِذَا نَزَلَتْ نِقْمَتُنَا [ص:606]
بِالْمُكَذِّبِينَ بِهِمْ مِنْ قَوْمِهِمْ، وَإِهْلَاكِ
الْمُكَذِّبِينَ بِاللَّهِ، وَكَذَلِكَ سُنَّتِي فِيكَ وَفِي
قَوْمِكَ. {وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ} [الشعراء:
8] يَقُولُ: وَلَمْ يَكُنْ أَكْثَرُ قَوْمِكَ بِالَّذِينَ
يُصَدِّقُونَكَ مِمَّا سَبَقَ فِي قَضَاءِ اللَّهِ أَنَّهُمْ
لَنْ يُؤْمِنُوا. {وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ}
[الشعراء: 9] فِي انْتِقَامِهِ مِمَّنْ كَفَرَ بِهِ، وَخَالَفَ
أَمَرَهُ {الرَّحِيمُ} [الفاتحة: 1] بِالتَّائِبِ مِنْهُمْ،
أَنْ يُعَاقِبَهُ بَعْدَ تَوْبَتِهِ.
(17/605)
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ
تَعَالَى: {كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ. إِذْ قَالَ لَهُمْ
أَخُوهُمْ هُودٌ أَلَا تَتَّقُونَ. إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ
أَمِينٌ. فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ. وَمَا أَسْأَلُكُمْ
عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ
الْعَالَمِينَ} [الشعراء: 124] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ:
{كَذَّبَتْ عَادٌ} [الشعراء: 123] رُسُلَ اللَّهِ إِلَيْهِمْ.
{إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلَا تَتَّقُونَ}
[الشعراء: 124] عِقَابَ اللَّهِ عَلَى كُفْرِكُمْ بِهِ.
{إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ} [الشعراء: 107] مِنْ رَبِّي
يَأْمُرُكُمْ بِطَاعَتِهِ، وَيُحَذِّرُكُمْ عَلَى كُفْرِكُمْ
بَأْسَهُ، {أَمِينٌ} [الأعراف: 68] عَلَى وَحْيِهِ
وَرِسَالَتِهِ. {فَاتَّقُوا اللَّهَ} [آل عمران: 50]
بِطَاعَتِهِ وَالِانْتِهَاءِ إِلَى مَا يَأْمُرُكُمْ
وَيَنْهَاكُمْ {وَأَطِيعُونِ} [آل عمران: 50] فِيمَا آمُرُكُمْ
بِهِ مِنَ اتِّقَاءِ اللَّهِ وَتَحْذِيرِكُمْ سَطْوَتَهُ.
{وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ} [الشعراء: 109]
يَقُولُ: وَمَا أَطْلُبُ مِنْكُمْ عَلَى أَمْرِي إِيَّاكُمْ
بِاتِّقَاءِ اللَّهِ جَزَاءً وَلَا ثَوَابًا. {إِنْ أَجْرِيَ
إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء: 109] يَقُولُ:
مَا جَزَائِي وَثَوَابِي عَلَى نَصِيحَتِي إِيَّاكُمْ إِلَّا
عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ.
(17/606)
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ
تَعَالَى: {أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ.
وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ. وَإِذَا
بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ} [الشعراء: 129] يَقُولُ
تَعَالَى ذِكْرُهُ مُخْبِرًا عَنْ قِيلِ هُودٍ لِقَوْمِهِ:
{أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ} [الشعراء: 128]
وَالرِّيعُ: [ص:607] كُلُّ مَكَانٍ مُشْرِفٍ مِنَ الْأَرْضِ
مُرْتَفِعٍ، أَوْ طَرِيقٍ أَوْ وَادٍ؛ وَمِنْهُ قَوْلُ ذِي
الرُّمَّةِ:
[البحر الطويل]
طِرَاقُ الْخَوَافِي مُشْرِفٌ فَوْقَ رِيعَةٍ ... نَدَى
لَيْلِهِ فِي رِيشِهِ يَتَرَقْرَقُ
وَقَوْلُ الْأَعْشَى:
[البحر المتقارب]
وَيَهْمَاءَ قَفْرٍ تَجَاوَزْتُهَا ... إِذَا خَبَّ فِي
رِيعِهَا آلُهَا
وَفِيهِ لُغَتَانِ: رِيعٌ وَرَيْعٌ بِكَسْرِ الرَّاءِ
وَفَتَحِهَا. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ
أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
(17/606)
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي
عَلِيٌّ، قَالَ: ثنا أَبُو صَالِحٍ، قَالَ: ثني مُعَاوِيَةُ،
عَنْ عَلِيٍّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلَهُ: " {أَتَبْنُونَ
بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ} [الشعراء: 128] يَقُولُ:
بِكُلِّ شَرَفٍ "
(17/607)
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ:
ثنا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثنا عِيسَى، وَحَدَّثَنِي
الْحَارِثُ، قَالَ: ثنا الْحَسَنُ، قَالَ: ثنا وَرْقَاءُ،
جَمِيعًا، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ،
قَوْلَهُ: " {بِكُلِّ رِيعٍ} [الشعراء: 128] قَالَ: فَجٍّ "
(17/608)
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ:
ثني أَبِي، قَالَ: ثني عَمِّي، قَالَ: ثني أَبِي، عَنْ
أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، فِي قَوْلِهِ: " {أَتَبْنُونَ
بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً} [الشعراء: 128] قَالَ: بِكُلِّ طَرِيقٍ "
(17/608)
حَدَّثَنِي سُلَيْمَانُ بْنُ عُبَيْدِ
اللَّهِ الْغَيْلَانِيُّ، قَالَ: ثنا أَبُو قُتَيْبَةَ، قَالَ:
ثنا مُسْلِمُ بْنُ خَالِدٍ، قَالَ: ثنا ابْنُ أَبِي نَجِيحٍ،
عَنْ مُجَاهِدٍ، فِي قَوْلِهِ: " {أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ}
[الشعراء: 128] قَالَ: " الرِّيعُ: الثَّنِيَّةُ الصَّغِيرَةُ
". حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا يَحْيَى بْنُ
حَسَّانَ، عَنْ مُسْلِمِ بْنِ خَالِدٍ، عَنِ ابْنِ أَبِي
نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ مِثْلَهُ
(17/608)
حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثنا
الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثني حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ،
قَالَ: قَالَ عِكْرِمَةُ: " {بِكُلِّ رِيعٍ} [الشعراء: 128]
قَالَ: فَجٍّ وَوَادٍ "
(17/608)
قَالَ: وَقَالَ مُجَاهِدٌ: " {بِكُلِّ
رِيعٍ} [الشعراء: 128] بَيْنَ جَبَلَيْنِ "
(17/608)
قَالَ: ثني حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ،
عَنْ مُجَاهِدٍ، قَوْلَهُ: " {أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ}
[الشعراء: 128] قَالَ: شَرَفٍ وَمَنْظَرٍ "
(17/609)
حَدَّثَنَا الْحَسَنُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا
عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ
قَتَادَةَ، فِي قَوْلِهِ: " {بِكُلِّ رِيعٍ} [الشعراء: 128]
قَالَ: بِكُلِّ طَرِيقٍ "
(17/609)
حُدِّثْتُ عَنِ الْحُسَيْنِ، قَالَ:
سَمِعْتُ أَبَا مُعَاذٍ، يَقُولُ: أَخْبَرَنَا عُبَيْدٌ،
قَالَ: سَمِعْتُ الضَّحَّاكَ، يَقُولُ فِي قَوْلِهِ: "
{بِكُلِّ رِيعٍ} [الشعراء: 128] بِكُلِّ طَرِيقٍ ". وَيَعْنِي
بِقَوْلِهِ {آيَةً} [الشعراء: 128] بُنْيَانًا عَلَمًا. وَقَدْ
بَيَّنَّا فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ مِنْ كِتَابِنَا هَذَا أَنَّ
الْآيَةَ هِيَ الدَّلَالَةُ وَالْعَلَامَةُ بِالشَّوَاهِدِ
الْمِغْنِيَةِ عَنْ إِعَادَتِهَا فِي هَذَا الْمَوْضِعِ.
وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ
التَّأْوِيلِ عَلَى اخْتِلَافٍ مِنْهُمْ فِي أَلْفَاظِهِمْ فِي
تَأْوِيلِهِ.
(17/609)
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي
مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ: ثني أَبِي، قَالَ: ثني عَمِّي،
قَالَ: ثني أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ:
{بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً} [الشعراء: 128] قَالَ: " الْآيَةُ:
عَلَمٌ "
(17/609)
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ:
ثنا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثنا عِيسَى، وَحَدَّثَنِي
الْحَارِثُ، قَالَ: ثنا الْحَسَنُ، قَالَ: ثنا وَرْقَاءُ،
جَمِيعًا، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: "
{بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً} [الشعراء: 128] قَالَ: آيَةٌ: بُنْيَانٌ
"
(17/610)
حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثنا
الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثني حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ
مُجَاهِدٍ: " {آيَةً} [الشعراء: 128] بُنْيَانٌ "
(17/610)
حَدَّثَنِي عَلِيُّ بْنُ سَهْلٍ، قَالَ:
ثنا حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، فِي
قَوْلِهِ: " {بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً} [الشعراء: 128] قَالَ:
بُنْيَانُ الْحَمَامِ "
|