تفسير القرطبي سَتَجِدُونَ آخَرِينَ
يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ كُلَّ
مَا رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيهَا فَإِنْ لَمْ
يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّوا
أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ
ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأُولَئِكُمْ جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ
سُلْطَانًا مُبِينًا (91)
الْحَالِ، وَيَجُوزُ رَفْعُهُ عَلَى
الِابْتِدَاءِ وَالْخَبَرِ. وَحَكَى (أَوْ جَاءُوكُمْ
حَصِرَاتٍ صُدُورُهُمْ)، وَيَجُوزُ الرَّفْعُ. وَقَالَ
مُحَمَّدُ بْنُ يَزِيدَ: (حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ) هُوَ دُعَاءٌ
عَلَيْهِمْ، كَمَا تَقُولُ: لَعَنَ اللَّهُ الْكَافِرَ،
وَقَالَهُ الْمُبَرِّدُ «1». وَضَعَّفَهُ بَعْضُ
الْمُفَسِّرِينَ وَقَالَ: هَذَا يَقْتَضِي أَلَّا يُقَاتِلُوا
قَوْمَهُمْ، وَذَلِكَ فَاسِدٌ، لِأَنَّهُمْ كُفَّارٌ
وَقَوْمَهُمْ كُفَّارٌ. وَأُجِيبَ بِأَنَّ مَعْنَاهُ صَحِيحٌ،
فَيَكُونُ عَدَمُ الْقِتَالِ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِينَ
تَعْجِيزًا لَهُمْ، وَفِي حَقِّ قَوْمِهِمْ تَحْقِيرًا لَهُمْ.
وَقِيلَ: (أَوْ) بِمَعْنَى الْوَاوِ، كَأَنَّهُ يَقُولُ: إِلَى
قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ وَجَاءُوكُمْ
ضَيِّقَةً صُدُورُهُمْ عَنْ قِتَالِكُمْ وَالْقِتَالُ مَعَكُمْ
فَكَرِهُوا قِتَالَ الْفَرِيقَيْنِ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ
يَكُونُوا مُعَاهَدِينَ عَلَى ذَلِكَ فَهُوَ نَوْعٌ مِنَ
الْعَهْدِ، أَوْ قَالُوا نُسَلِّمُ وَلَا نُقَاتِلُ،
فَيَحْتَمِلُ أَنْ يُقْبَلَ ذَلِكَ مِنْهُمْ فِي أَوَّلِ
الْإِسْلَامِ حَتَّى يَفْتَحَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى
وَيَشْرَحَهَا لِلْإِسْلَامِ. وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ.
وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (أَوْ يُقاتِلُوا) فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ،
أَيْ عَنْ «2» أَنْ يُقَاتِلُوكُمْ. الْخَامِسَةُ- قَوْلُهُ
تَعَالَى: (وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ
فَلَقاتَلُوكُمْ) تَسْلِيطُ اللَّهِ تَعَالَى الْمُشْرِكِينَ
عَلَى الْمُؤْمِنِينَ هُوَ بِأَنْ يُقْدِرَهُمْ عَلَى ذَلِكَ
وَيُقَوِّيهِمْ إِمَّا عُقُوبَةٌ وَنِقْمَةٌ عِنْدَ إِذَاعَةِ
الْمُنْكَرِ وَظُهُورِ الْمَعَاصِي، وَإِمَّا ابْتِلَاءً
وَاخْتِبَارًا كَمَا قَالَ تَعَالَى: (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ
حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ
وَنَبْلُوَا أَخْبارَكُمْ «3»)، وَإِمَّا تَمْحِيصًا
لِلذُّنُوبِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: (وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ
الَّذِينَ آمَنُوا «4»). وَلِلَّهِ أَنْ يَفْعَلَ مَا يَشَاءُ
وَيُسَلِّطُ مَنْ يَشَاءُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ إِذَا شَاءَ.
وَوَجْهُ النَّظْمِ وَالِاتِّصَالِ بِمَا قَبْلُ أَيِ
اقْتُلُوا الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ اخْتَلَفْتُمْ فِيهِمْ
إِلَّا «5» أَنْ يُهَاجِرُوا، وَإِلَّا أَنْ يَتَّصِلُوا
بِمَنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَيَدْخُلُونَ فِيمَا
دَخَلُوا فِيهِ فَلَهُمْ حُكْمُهُمْ، وَإِلَّا الَّذِينَ
جَاءُوكُمْ قَدْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ عَنْ أَنْ
يُقَاتِلُوكُمْ أَوْ يُقَاتِلُوا قَوْمَهُمْ فدخلوا فيكم فلا
تقتلوهم.
[سورة النساء (4): آية 91]
سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ
وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ كُلَّما رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ
أُرْكِسُوا فِيها فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا
إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ
وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأُولئِكُمْ جَعَلْنا
لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطاناً مُبِيناً (91)
__________
(1). كذا في الأصول ومحمد بن يزيد هو المبرد، كما في البحر
وابن عطية وغيرهما. ولا يبعد أن يكون ابن يزيد هو العجلى
الكوفي إذ هو أسبق من المبرد بكثير.
(2). في ط وز: من أن. [ ..... ]
(3). راجع ج 16 ص 253.
(4). راجع ج 4 ص 219.
(5). في ج وط: ان لم.
(5/310)
وَمَا كَانَ
لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً وَمَنْ
قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ
وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا
فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ
فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ
بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى
أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ
فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ
وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (92)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (سَتَجِدُونَ آخَرِينَ
يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ)
مَعْنَاهَا مَعْنَى الْآيَةِ الْأُولَى. قَالَ قَتَادَةُ:
نَزَلَتْ فِي قَوْمٍ مِنْ تِهَامَةَ طَلَبُوا الْأَمَانَ مِنَ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيَأْمَنُوا
عِنْدَهُ وَعِنْدَ قَوْمِهِمْ. مُجَاهِدٌ: هِيَ فِي قَوْمٍ
مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ. وَقَالَ السُّدِّيُّ: نَزَلَتْ في نعيم
ابن مَسْعُودٍ كَانَ يَأْمَنُ الْمُسْلِمِينَ
وَالْمُشْرِكِينَ. وَقَالَ الْحَسَنُ: هَذَا فِي قَوْمٍ مِنَ
الْمُنَافِقِينَ. وَقِيلَ: نَزَلَتْ فِي أَسَدٍ وَغَطَفَانَ
قَدِمُوا الْمَدِينَةَ فَأَسْلَمُوا ثُمَّ رَجَعُوا إِلَى
دِيَارِهِمْ فَأَظْهَرُوا الْكُفْرَ. قَوْلُهُ تَعَالَى:
(كُلَّما رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيها) قَرَأَ
يَحْيَى بْنُ وَثَّابٍ وَالْأَعْمَشُ (رُدُّوا) بِكَسْرِ
الرَّاءِ، لِأَنَّ الْأَصْلَ (رُدِدُوا) فَأُدْغِمَ وَقُلِبَتِ
الْكَسْرَةُ عَلَى الرَّاءِ. (إِلَى الْفِتْنَةِ) أَيِ
الْكُفْرِ (أُرْكِسُوا فِيها). وَقِيلَ: أَيْ سَتَجِدُونَ مَنْ
يُظْهِرُ لَكُمُ الصُّلْحَ لِيَأْمَنُوكُمْ، وَإِذَا سَنَحَتْ
لَهُمْ فِتْنَةٌ كَانَ مَعَ أَهْلِهَا عَلَيْكُمْ. وَمَعْنَى
(أُرْكِسُوا فِيها) أَيِ انْتَكَسُوا عَنْ عَهْدِهِمُ
الَّذِينَ عَاهَدُوا «1». وَقِيلَ: أَيْ إِذَا دعوا إلى الشرك
رجعوا وعادوا إليه.
[سورة النساء (4): آية 92]
وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلاَّ خَطَأً
وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ
مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ إِلاَّ أَنْ
يَصَّدَّقُوا فَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ
مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَإِنْ كانَ مِنْ
قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ
إِلى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَمَنْ لَمْ
يَجِدْ فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ
اللَّهِ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً (92)
فِيهِ عِشْرُونَ مَسْأَلَةً: الاولى- قوله تعالى: (وَما كانَ
لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلَّا خَطَأً) هَذِهِ
آيَةٌ مِنْ أُمَّهَاتِ الْأَحْكَامِ. وَالْمَعْنَى مَا
يَنْبَغِي لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً،
فَقَوْلُهُ: (وَما كانَ) لَيْسَ عَلَى النَّفْيِ وَإِنَّمَا
هُوَ عَلَى التَّحْرِيمِ وَالنَّهْيِ، كَقَوْلِهِ: (وَما كانَ
لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ «2») وَلَوْ كَانَتْ
عَلَى النَّفْيِ لَمَا وُجِدَ مُؤْمِنٌ قَتَلَ مُؤْمِنًا
قَطُّ، لِأَنَّ مَا نَفَاهُ الله فلا «3» يجوز وجوده، كقوله
__________
(1). كذا في الأصول. ولعل صحة العبارة: عهدهم الذي. وفى ج:
الذين عاهدوكم. الا أن يكون على لغة البدل من الواو.
(2). راجع ج 14 ص 223.
(3). من ج وز وط.
(5/311)
تَعَالَى: (مَا كانَ لَكُمْ أَنْ
تُنْبِتُوا شَجَرَها «1»). فَلَا يَقْدِرُ الْعِبَادُ أَنْ
يُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَبَدًا. وَقَالَ قَتَادَةُ: الْمَعْنَى
مَا كَانَ لَهُ ذَلِكَ فِي عَهْدِ اللَّهِ. وَقِيلَ: مَا كَانَ
لَهُ ذَلِكَ فِيمَا سَلَفَ، كَمَا لَيْسَ لَهُ الْآنَ ذَلِكَ
بِوَجْهٍ، ثُمَّ اسْتَثْنَى اسْتِثْنَاءً مُنْقَطِعًا لَيْسَ
مِنَ الْأَوَّلِ وَهُوَ الَّذِي يَكُونُ فِيهِ (إِلَّا)
بِمَعْنَى (لَكِنْ) وَالتَّقْدِيرُ مَا كَانَ لَهُ أَنْ
يَقْتُلَهُ أَلْبَتَّةَ لَكِنْ إِنْ قَتَلَهُ خَطَأً
فَعَلَيْهِ كَذَا، هَذَا قَوْلُ سِيبَوَيْهِ وَالزَّجَّاجِ
رَحِمَهُمَا اللَّهُ. وَمِنَ الِاسْتِثْنَاءِ الْمُنْقَطِعِ
قَوْلِهِ تَعَالَى: (مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا
اتِّباعَ الظَّنِّ «2»). وَقَالَ النَّابِغَةُ:
وَقَفْتُ فِيهَا أُصَيْلَانًا» أُسَائِلُهَا ... عَيَّتْ
جَوَابًا وَمَا بِالرَّبْعِ مِنْ أَحَدِ
إِلَّا الْأَوَارِيَّ لَأْيًا ما أبينها ... والنوى
كَالْحَوْضِ بِالْمَظْلُومَةِ الْجَلَدِ «4»
فَلَمَّا لَمْ تَكُنِ (الْأَوَارِيُّ) مِنْ جِنْسِ أَحَدٍ
حَقِيقَةً لَمْ تَدْخُلْ فِي لفظه. ومثله قول الآخر:
أَمْسَى سُقَامٌ خَلَاءً لَا أَنِيسَ بِهِ ... إِلَّا
السِّبَاعَ وَمَرَّ الرِّيحِ بِالْغُرَفِ «5»
وَقَالَ آخَرُ:
وَبَلْدَةٍ لَيْسَ بِهَا أَنِيسُ ... إِلَّا الْيَعَافِيرُ
وَإِلَّا الْعِيسُ «6»
وَقَالَ آخَرُ:
وَبَعْضُ الرِّجَالِ نَخْلَةٌ لَا جَنَى لَهَا ... وَلَا ظِلَّ
إِلَّا أَنْ تُعَدَّ مِنَ النَّخْلِ
أَنْشَدَهُ سِيبَوَيْهِ، وَمِثْلُهُ كَثِيرٌ، وَمِنْ
أَبْدَعِهِ قَوْلُ جَرِيرٍ:
مِنَ الْبِيضِ لَمْ تَظْعَنْ بَعِيدًا وَلَمْ تَطَأْ ... عَلَى
الْأَرْضِ إِلَّا ذَيْلَ مِرْطٍ مرحل «7»
__________
(1). راجع ج 13 ص 219.
(2). راجع ج 6 ص 9.
(3). أصيلان: مصغرا أصلان جمع الأصيل وهو ما بعد العصر إلى
المغرب.
(4). الأواري، جمع آري، وهو حيل تشد به الدابة في محبسها.
اللاى: الشدة. والنوى: حفرة تجعل حول البيت والخليمة لئلا يصل
إليها الماء. والمظلومة: الأرض التي حفر فيها حوض لم تستحق
ذلك، يعنى أرضا مروا بها في برية فتحوضوا حوضا سقوا فيه إبلهم
وليست بموضع تحويض. والجلد: الأرض التي يصعب حفرها.
(5). البيت لابي خراش الهذلي. وسقام: واد بالحجاز. الغرف
(بالتحريك وبالفتح والسكون): شجر يدبغ به.
(6). اليعافير: الظباء، واحدها يعفور. والعيس: بقر الوحش
لبياضها، والعيس البياض وأصله في الإبل فاستعاره للبقر.
(7). المرحل: ضرب من برود اليمن، سمى مرحلا لان عليه تصاوير
رحل. في ز، ج، ط: برد مرجل وليس بصحيح.
(5/312)
كَأَنَّهُ قَالَ: لَمْ تَطَأْ عَلَى
الْأَرْضِ إِلَّا أَنْ تَطَأَ ذَيْلَ الْبُرْدِ. وَنَزَلَتِ
الْآيَةُ بِسَبَبِ قتل عياش ابن أَبِي رَبِيعَةَ الْحَارِثَ
بْنَ يَزِيدَ بْنَ أَبِي أُنَيْسَةَ «1» الْعَامِرِيَّ
لِحِنَةٍ «2» كَانَتْ بَيْنَهُمَا، فَلَمَّا هَاجَرَ
الْحَارِثُ مُسْلِمًا لَقِيَهُ عَيَّاشٌ فَقَتَلَهُ وَلَمْ
يَشْعُرْ بِإِسْلَامِهِ، فَلَمَّا أُخْبِرَ أَتَى النَّبِيَّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ
اللَّهِ، إِنَّهُ قَدْ كَانَ مِنْ أَمْرِي وَأَمْرِ الْحَارِثِ
مَا قَدْ عَلِمْتَ، وَلَمْ أَشْعُرْ بِإِسْلَامِهِ حَتَّى
قَتَلْتُهُ فَنَزَلَتِ الْآيَةُ. وَقِيلَ: هُوَ اسْتِثْنَاءٌ
مُتَّصِلٌ، أَيْ وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ
مُؤْمِنًا وَلَا يَقْتَصَّ مِنْهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ خَطَأً،
فَلَا يُقْتَصُّ مِنْهُ، وَلَكِنْ فِيهِ كَذَا وَكَذَا.
وَوَجْهٌ آخَرُ وَهُوَ أَنْ يُقَدَّرَ كَانَ بِمَعْنَى
اسْتَقَرَّ وَوُجِدَ، كَأَنَّهُ قَالَ: وَمَا وُجِدَ وَمَا
تَقَرَّرَ وَمَا سَاغَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا
إِلَّا خَطَأً إِذْ هُوَ مَغْلُوبٌ فِيهِ أَحْيَانًا،
فَيَجِيءُ الِاسْتِثْنَاءُ عَلَى هَذَيْنِ التَّأْوِيلَيْنِ
غَيْرُ مُنْقَطِعٍ. وَتَتَضَمَّنُ الْآيَةُ عَلَى هَذَا
إِعْظَامَ الْعَمْدِ وَبَشَاعَةَ شَأْنِهِ، كَمَا تَقُولُ: مَا
كَانَ لَكَ يَا فُلَانُ أَنْ تَتَكَلَّمَ بِهَذَا إِلَّا
نَاسِيًا؟ إِعْظَامًا لِلْعَمْدِ وَالْقَصْدِ مَعَ حَظْرِ
الْكَلَامِ بِهِ أَلْبَتَّةَ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى وَلَا
خَطَأً. قَالَ النَّحَّاسُ: وَلَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ
(إِلَّا) بِمَعْنَى الْوَاوِ، وَلَا يُعْرَفُ ذَلِكَ فِي
كَلَامِ الْعَرَبِ وَلَا يَصِحُّ فِي الْمَعْنَى، لِأَنَّ
الْخَطَأَ لَا يُحْظَرُ. وَلَا يُفْهَمُ مِنْ دَلِيلِ
خِطَابِهِ جَوَازُ قَتْلِ الْكَافِرِ الْمُسْلِمَ فَإِنَّ
الْمُسْلِمَ مُحْتَرَمُ الدَّمِ، وَإِنَّمَا خُصَّ الْمُؤْمِنُ
بِالذِّكْرِ تَأْكِيدًا لِحَنَانِهِ وَأُخُوَّتِهِ
وَشَفَقَتِهِ وَعَقِيدَتِهِ. وَقَرَأَ الأعمش (خطاء) ممدودا في
المواضع الثلاث. وَوُجُوهُ الْخَطَأِ كَثِيرَةٌ لَا تُحْصَى
يَرْبِطُهَا عَدَمُ الْقَصْدِ، مِثْلَ أَنْ يَرْمِيَ صُفُوفَ
الْمُشْرِكِينَ فَيُصِيبُ مُسْلِمًا. أَوْ يَسْعَى بَيْنَ
يَدَيْهِ مَنْ يَسْتَحِقُّ الْقَتْلَ مِنْ زَانٍ أَوْ
مُحَارِبٍ أَوْ مُرْتَدٍّ فَطَلَبَهُ لِيَقْتُلَهُ فَلَقِيَ
غَيْرَهُ فَظَنَّهُ هُوَ فَقَتَلَهُ فَذَلِكَ خَطَأٌ. أَوْ
يَرْمِي إِلَى غَرَضٍ فَيُصِيبُ إِنْسَانًا أَوْ مَا جَرَى
مَجْرَاهُ، وَهَذَا مِمَّا لَا خِلَافَ فِيهِ. وَالْخَطَأُ
اسْمٌ مِنْ أَخْطَأَ خَطَأً وَإِخْطَاءً إِذَا لَمْ يَصْنَعْ
عَنْ تَعَمُّدٍ، فَالْخَطَأُ الِاسْمُ يَقُومُ مَقَامَ
الْإِخْطَاءِ. وَيُقَالُ لِمَنْ أَرَادَ شَيْئًا فَفَعَلَ
غَيْرَهُ: أَخْطَأَ، وَلِمَنْ فَعَلَ غَيْرَ الصَّوَابِ:
أَخْطَأَ. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ
وَتَعَالَى: (وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً
إِلَّا خَطَأً) إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى (وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ
إِلى أَهْلِهِ) فَحَكَمَ اللَّهُ جَلَّ ثناؤه
__________
(1). يقال فيه: الحارث بن زيد، كما يقال: ابن أنيسة راجع
ترجمته في كتاب (الإصابة). [ ..... ]
(2). الحنة والا حنة: الحقد. في ط: لحقد.
(5/313)
فِي الْمُؤْمِنِ يَقْتُلُ خَطَأً
بِالدِّيَةِ، وَثَبَتَتِ السُّنَّةُ الثَّابِتَةِ عَنْ رَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى ذَلِكَ
وَأَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى الْقَوْلِ بِهِ.
الثَّانِيةُ- ذَهَبَ دَاوُدُ إِلَى الْقِصَاصِ بَيْنَ الْحُرِّ
وَالْعَبْدِ فِي النَّفْسِ، وَفِي كُلِّ مَا يُسْتَطَاعُ
الْقِصَاصُ فِيهِ مِنَ الْأَعْضَاءِ، تَمَسُّكًا بِقَوْلِهِ
تَعَالَى: (وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ
بِالنَّفْسِ «1») إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: (وَالْجُرُوحَ
قِصاصٌ)، وَقَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: (الْمُسْلِمُونَ
تَتَكَافَأُ دِمَاؤُهُمْ) فَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ حُرٍّ
وَعَبْدٍ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنُ أَبِي لَيْلَى. وَقَالَ أَبُو
حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ: لَا قِصَاصَ بَيْنَ الْأَحْرَارِ
وَالْعَبِيدِ إِلَّا فِي النَّفْسِ فَيُقْتَلُ الْحُرُّ
بِالْعَبْدِ، كَمَا يُقْتَلُ الْعَبْدُ بِالْحُرِّ، وَلَا قصاص
بينهما في شي مِنَ الْجِرَاحِ وَالْأَعْضَاءِ. وَأَجْمَعَ
الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ قوله تعالى: (وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ
أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلَّا خَطَأً) أَنَّهُ لَمْ يَدْخُلْ
فِيهِ الْعَبِيدُ، وَإِنَّمَا أُرِيدَ بِهِ الْأَحْرَارُ دُونَ
الْعَبِيدِ، فَكَذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ:
(الْمُسْلِمُونَ تَتَكَافَأُ دِمَاؤُهُمْ) أُرِيدَ بِهِ
الْأَحْرَارُ خَاصَّةً. وَالْجُمْهُورُ عَلَى ذَلِكَ وَإِذَا
لَمْ يَكُنْ قِصَاصٌ بَيْنَ الْعَبِيدِ وَالْأَحْرَارِ فِيمَا
دُونَ النَّفْسِ فَالنَّفْسُ أَحْرَى بِذَلِكَ، وَقَدْ مضى هذا
في (البقرة «2»). الثالثة- قوله تعالى: (فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ
مُؤْمِنَةٍ)
أَيْ فَعَلَيْهِ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ، هَذِهِ الْكَفَّارَةُ
الَّتِي أَوْجَبَهَا اللَّهُ تَعَالَى فِي كَفَّارَةِ
الْقَتْلِ وَالظِّهَارِ أَيْضًا عَلَى مَا يَأْتِي «3».
وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِيمَا يُجْزِئُ مِنْهَا، فَقَالَ
ابْنُ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنُ وَالشَّعْبِيُّ وَالنَّخَعِيُّ
وَقَتَادَةُ وَغَيْرُهُمُ: الرَّقَبَةُ الْمُؤْمِنَةُ هِيَ
الَّتِي صَلَّتْ وَعَقَلَتِ الْإِيمَانَ، لَا تُجْزِئُ فِي
ذَلِكَ الصَّغِيرَةُ، وَهُوَ الصَّحِيحُ فِي هَذَا الْبَابِ
قَالَ عَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ: يُجْزِئُ الصَّغِيرُ
الْمَوْلُودُ بَيْنَ مُسْلِمِينَ. وَقَالَ جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ
مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ: يُجْزِئُ كُلُّ مَنْ حُكِمَ لَهُ
بِحُكْمٍ فِي الصَّلَاةِ عَلَيْهِ إِنْ مَاتَ ودفنه. وقال
مالك: ومن صَلَّى وَصَامَ أَحَبُّ إِلَيَّ. وَلَا يُجْزِئُ فِي
قَوْلِ كَافَّةِ الْعُلَمَاءِ أَعْمَى وَلَا مُقْعَدٌ وَلَا
مَقْطُوعُ الْيَدَيْنِ أَوِ الرِّجْلَيْنِ وَلَا أَشَلُّهُمَا،
وَيُجْزِئُ عِنْدَ أَكْثَرِهِمُ الْأَعْرَجُ وَالْأَعْوَرُ.
قَالَ مَالِكٌ: إِلَّا أَنْ يَكُونَ عَرَجًا شَدِيدًا. وَلَا
يُجْزِئُ عِنْدَ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَكْثَرِ
الْعُلَمَاءِ أَقْطَعُ إِحْدَى الْيَدَيْنِ أَوْ إِحْدَى
الرِّجْلَيْنِ، وَيُجْزِئُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ
وَأَصْحَابِهِ. وَلَا يُجْزِئُ عِنْدَ أَكْثَرِهِمُ
الْمَجْنُونُ الْمُطْبِقُ ولا يجزئ
__________
(1). راجع ج 6 ص 191.
(2). راجع ج 2 ص 246.
(3). راجع ج 17 ص 272.
(5/314)
عِنْدَ مَالِكٍ الَّذِي يُجَنُّ وَيُفِيقُ،
وَيُجْزِئُ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ. وَلَا يُجْزِئُ عِنْدَ
مَالِكٍ الْمُعْتَقُ إِلَى سِنِينَ، وَيُجْزِئُ عِنْدَ
الشَّافِعِيِّ. وَلَا يُجْزِئُ الْمُدَبَّرُ عِنْدَ مَالِكٍ
وَالْأَوْزَاعِيِّ وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ، وَيُجْزِئُ فِي
قَوْلِ الشَّافِعِيِّ وَأَبِي ثَوْرٍ، وَاخْتَارَهُ ابْنُ
الْمُنْذِرِ. وَقَالَ مَالِكٌ: لَا يَصِحُّ مَنْ أُعْتِقَ
بَعْضُهُ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: (فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ).
وَمَنْ أَعْتَقَ الْبَعْضَ لَا يُقَالُ حَرَّرَ رَقَبَةً
وَإِنَّمَا حَرَّرَ بَعْضَهَا. وَاخْتَلَفُوا أَيْضًا فِي
مَعْنَاهَا فَقِيلَ: أُوجِبَتْ تَمْحِيصًا وَطَهُورًا لِذَنْبِ
الْقَاتِلِ، وَذَنْبُهُ تَرْكُ الِاحْتِيَاطِ وَالتَّحَفُّظِ
حَتَّى هَلَكَ عَلَى يَدَيْهِ امْرُؤٌ مَحْقُونُ الدَّمِ.
وَقِيلَ: أُوجِبَتْ بَدَلًا مِنْ تَعْطِيلِ حَقِّ اللَّهِ
تَعَالَى فِي نَفْسِ الْقَتِيلِ، فَإِنَّهُ كَانَ لَهُ فِي
نَفْسِهِ حَقٌّ وَهُوَ التَّنَعُّمُ بِالْحَيَاةِ
وَالتَّصَرُّفُ فِيمَا أَحَلَّ لَهُ تَصَرُّفَ الْأَحْيَاءِ.
وَكَانَ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ فِيهِ حَقٌّ، وَهُوَ أَنَّهُ
كَانَ عَبْدًا مِنْ عِبَادِهِ يَجِبُ لَهُ مِنْ أَمْرِ
الْعُبُودِيَّةِ صَغِيرًا كَانَ أَوْ كَبِيرًا حُرًّا كَانَ
أَوْ عَبْدًا مُسْلِمًا كَانَ أَوْ ذِمِّيًّا مَا يَتَمَيَّزُ
بِهِ عَنِ الْبَهَائِمِ وَالدَّوَابِّ، وَيُرْتَجَى مَعَ
ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ مِنْ نَسْلِهِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ
وَيُطِيعُهُ، فَلَمْ يَخْلُ قَاتِلُهُ مِنْ أَنْ يَكُونَ
فَوَّتَ مِنْهُ الِاسْمَ الَّذِي ذَكَرْنَا، وَالْمَعْنَى
الَّذِي وَصَفْنَا، فَلِذَلِكَ ضَمِنَ الْكَفَّارَةَ. وَأَيُّ
وَاحِدٍ مِنْ هَذَيْنَ الْمَعْنَيَيْنِ كَانَ، فَفِيهِ بَيَانٌ
أَنَّ النَّصَّ وَإِنْ وَقَعَ عَلَى الْقَاتِلِ خَطَأً
فَالْقَاتِلُ عَمْدًا مِثْلَهُ، بَلْ أَوْلَى بِوُجُوبِ
الْكَفَّارَةِ عَلَيْهِ مِنْهُ، عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانُهُ،
وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الرَّابِعَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى:
(وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ) الدِّيَةُ مَا يُعْطَى عِوَضًا عَنْ
دَمِ الْقَتِيلِ إِلَى وَلِيِّهِ. (مُسَلَّمَةٌ) مَدْفُوعَةٌ
مُؤَدَّاةٌ، وَلَمْ يُعَيِّنِ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ مَا
يُعْطَى فِي الدِّيَةِ، وَإِنَّمَا فِي الْآيَةِ إِيجَابُ
الدِّيَةِ مُطْلَقًا، وَلَيْسَ فِيهَا إِيجَابُهَا عَلَى
الْعَاقِلَةِ أَوْ عَلَى الْقَاتِلِ، وَإِنَّمَا أُخِذَ ذَلِكَ
مِنَ السُّنَّةِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ إِيجَابَ الْمُوَاسَاةِ
عَلَى الْعَاقِلَةِ خِلَافُ قِيَاسِ الْأُصُولِ فِي
الْغَرَامَاتِ وَضَمَانِ الْمُتْلَفَاتِ، وَالَّذِي وَجَبَ
عَلَى الْعَاقِلَةِ لَمْ يَجِبْ تَغْلِيظًا، وَلَا أَنَّ
وِزْرَ الْقَاتِلِ عَلَيْهِمْ وَلَكِنَّهُ مُوَاسَاةٌ
مَحْضَةٌ. وَاعْتَقَدَ أَبُو حَنِيفَةَ أَنَّهَا بِاعْتِبَارِ
النُّصْرَةِ فَأَوْجَبَهَا عَلَى أَهْلِ دِيوَانِهِ «1».
وَثَبَتَتِ الْأَخْبَارُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنَّ الدِّيَةَ مِائَةٌ مِنَ الْإِبِلِ،
وَوَدَاهَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي عَبْدِ
اللَّهِ بن سهل
__________
(1). الديوان يطلق على سجل الجندية والعطية وكل مجلس مجتمع فيه
لا قامة المصالح والنظر فيها: قال الجصاص في أحكامه: ويجعل ذلك
في أعطياتهم إذا كانوا من أهل الديوان، راجع ج 2 ص 225 من
الأحكام. ففيه توضيح. وسيأتي ص 321 أنهم أهل الناحية الذين هم
يد.
(5/315)
الْمَقْتُولِ بِخَيْبَرَ لِحُوَيِّصَةَ «1»
وَمُحَيِّصَةَ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ، فَكَانَ ذَلِكَ بَيَانًا
عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ لمجمل كتابه.
وأجمع أهل العلم عل أَنَّ عَلَى أَهْلِ الْإِبِلِ مِائَةً مِنَ
الْإِبِلِ. وَاخْتَلَفُوا فِيمَا يَجِبُ عَلَى غَيْرِ أَهْلِ
الْإِبِلِ، فَقَالَتْ طَائِفَةٌ: عَلَى أَهْلِ الذَّهَبِ
أَلْفُ دِينَارٍ، وَهُمْ أَهْلُ الشَّامِ وَمِصْرَ
وَالْمَغْرِبِ، هَذَا قَوْلُ مَالِكٍ وَأَحْمَدَ وَإِسْحَاقَ
وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ وَالشَّافِعِيِّ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ،
فِي الْقَدِيمِ. وَرُوِيَ هَذَا عَنْ عُمَرَ وَعُرْوَةَ بْنِ
الزُّبَيْرِ وَقَتَادَةَ. وَأَمَّا أَهْلُ الْوَرِقِ فَاثْنَا
عَشَرَ أَلْفَ دِرْهَمٍ، وَهُمْ أَهْلُ الْعِرَاقِ وَفَارِسٍ
وَخُرَاسَانَ، هَذَا مَذْهَبُ مَالِكٍ عَلَى مَا بَلَغَهُ عَنْ
عُمَرَ أَنَّهُ قَوَّمَ الدِّيَةَ عَلَى أَهْلِ الْقُرَى
فَجَعَلَهَا عَلَى أَهْلِ الذَّهَبِ أَلْفَ دِينَارٍ وَعَلَى
أَهْلِ الْوَرِقِ اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفَ دِرْهَمٍ. وَقَالَ
الْمُزَنِيُّ: قَالَ الشَّافِعِيُّ الدِّيَةُ الْإِبِلُ،
فَإِنْ أَعْوَزَتْ فَقِيمَتُهَا بِالدَّرَاهِمِ
وَالدَّنَانِيرِ عَلَى مَا قَوَّمَهَا عُمَرُ، أَلْفَ دِينَارٍ
عَلَى أَهْلِ الذَّهَبِ وَاثْنَا عَشَرَ أَلْفَ دِرْهَمٍ عَلَى
أَهْلِ الْوَرِقِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ
وَالثَّوْرِيُّ: الدِّيَةُ مِنَ الْوَرِقِ عَشَرَةُ آلَافِ
دِرْهَمٍ. رَوَاهُ الشَّعْبِيُّ عَنْ عَبِيدَةَ عَنْ عُمَرَ
أَنَّهُ جَعَلَ الدِّيَةَ عَلَى أَهْلِ الذَّهَبِ أَلْفَ
دِينَارٍ، وَعَلَى أَهْلِ الْوَرِقِ عَشْرَةَ آلَافِ دِرْهَمٍ،
وَعَلَى أَهْلِ الْبَقَرِ مِائَتَيْ بَقَرَةٍ، وَعَلَى أَهْلِ
الشَّاءِ أَلْفُ شَاةٍ، وَعَلَى أَهْلِ الْإِبِلِ مِائَةٌ مِنَ
الْإِبِلِ، وَعَلَى أَهْلِ الْحُلَلِ مِائَتَيْ حُلَّةٍ. قَالَ
أَبُو عُمَرَ: فِي هَذَا الْحَدِيثِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ
الدَّنَانِيرَ وَالدَّرَاهِمَ صِنْفٌ مِنْ أَصْنَافِ الدِّيَةِ
لَا عَلَى وَجْهِ الْبَدَلِ وَالْقِيمَةِ، وَهُوَ الظَّاهِرُ
مِنَ الْحَدِيثِ عَنْ عُثْمَانَ وَعَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ.
وَخَالَفَ أَبُو حَنِيفَةَ مَا رَوَاهُ [عَنْ «2»] عُمَرَ فِي
الْبَقَرِ وَالشَّاءِ وَالْحُلَلِ. وَبِهِ قَالَ عَطَاءٌ
وَطَاوُسٌ وَطَائِفَةٌ مِنَ التَّابِعِينَ، وَهُوَ قَوْلُ
الْفُقَهَاءِ السَّبْعَةِ الْمَدَنِيِّينَ. قَالَ ابْنُ
الْمُنْذِرِ: وَقَالَتْ طَائِفَةٌ دِيَةُ الْحُرِّ الْمُسْلِمِ
مِائَةٌ مِنَ الْإِبِلِ لَا دِيَةَ غَيْرُهَا كَمَا فَرَضَّ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. هَذَا
قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَبِهِ قَالَ طَاوُسٌ. قَالَ ابْنُ
الْمُنْذِرِ: دِيَةُ الْحُرِّ الْمُسْلِمِ مِائَةٌ مِنَ
الْإِبِلِ فِي كُلِّ زَمَانٍ، كَمَا فَرَضَّ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَاخْتَلَفَتِ
الرِّوَايَاتُ «3» عَنْ عُمَرَ [رَضِيَ اللَّهُ «4» عَنْهُ] في
أعداد الدراهم وما منها شي يَصِحُّ عَنْهُ لِأَنَّهَا
مَرَاسِيلُ، وَقَدْ عَرَّفْتُكَ مَذْهَبَ الشافعي وبه ونقول.
__________
(1). حويصة ومحيصة (بضم ففتح ثم ياء مشددة مكسورة، ومخففة
ساكنة والأشهر التشديد).
(2). في ج وط وى.
(3). في ط: الاخبار.
(4). في ط.
(5/316)
الْخَامِسَةُ- وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ
فِي أَسْنَانِ دِيَةِ الْإِبِلِ، فروى أبو داود من حديث عمرو
ابن شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَضَى أَنَّ مَنْ قُتِلَ
خَطَأً فَدِيَتُهُ مِائَةٌ مِنَ الْإِبِلِ: ثَلَاثُونَ بِنْتَ
مَخَاضٍ، وَثَلَاثُونَ بِنْتَ لَبُونٍ، وَثَلَاثُونَ حِقَّةً،
وَعَشْرُ بَنِي لَبُونٍ «1». قَالَ الْخَطَّابِيُّ: هَذَا
الْحَدِيثُ لَا أَعْرِفُ أَحَدًا قَالَ بِهِ مِنَ
الْفُقَهَاءِ، وَإِنَّمَا قَالَ أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ: دِيَةُ
الْخَطَأِ أَخْمَاسٌ. كَذَا قَالَ أَصْحَابُ الرَّأْيِ
وَالثَّوْرِيُّ، وَكَذَلِكَ مَالِكٌ وَابْنُ سِيرِينَ
وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ إِلَّا أَنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي
الْأَصْنَافِ، قَالَ أَصْحَابُ الرَّأْيِ وَأَحْمَدُ: خُمُسٌ
بَنُو مَخَاضٍ، وَخُمُسٌ بَنَاتُ مَخَاضٍ، وَخُمُسٌ بَنَاتُ
لَبُونٍ، وَخُمُسٌ حِقَاقٌ، وَخُمُسٌ جِذَاعٌ. وَرُوِيَ هَذَا
الْقَوْلُ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ. وَقَالَ مَالِكٌ
وَالشَّافِعِيُّ: خُمُسٌ حِقَاقٌ، وَخُمُسٌ جِذَاعٌ، وَخُمُسٌ
بَنَاتُ لَبُونٍ، وَخُمُسٌ بَنَاتُ مَخَاضٍ، وَخُمُسٌ بَنُو
لَبُونٍ. وَحُكِيَ هَذَا الْقَوْلُ عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ
الْعَزِيزِ وَسُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ وَالزُّهْرِيِّ
وَرَبِيعَةَ وَاللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ. قَالَ الْخَطَّابِيُّ:
وَلِأَصْحَابِ الرَّأْيِ فِيهِ أَثَرٌ، إِلَّا أَنَّ رَاوِيَهُ
«2» عَبْدُ اللَّهِ بْنُ خِشْفِ بْنِ مَالِكٍ وَهُوَ مَجْهُولٌ
لَا يُعْرَفُ إِلَّا بِهَذَا الْحَدِيثِ. وَعَدَلَ
الشَّافِعِيُّ عَنِ الْقَوْلِ بِهِ، لِمَا ذَكَرْنَا مِنَ
الْعِلَّةِ فِي رَاوِيهِ، وَلِأَنَّ فِيهِ بَنِي مَخَاضٍ وَلَا
مَدْخَلَ لبني مخاض في شي مِنْ أَسْنَانِ الصَّدَقَاتِ. وَقَدْ
رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي
قِصَّةِ الْقَسَامَةِ أَنَّهُ وَدَى قَتِيلَ خَيْبَرَ مِائَةً
مِنْ إِبِلِ الصَّدَقَةِ وَلَيْسَ فِي أَسْنَانِ الصَّدَقَةِ
ابْنُ مَخَاضٍ. قَالَ أَبُو عُمَرَ: وَقَدْ رَوَى زَيْدُ بْنُ
جُبَيْرٍ عَنْ خِشْفِ بْنِ مَالِكٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
مَسْعُودٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ جَعَلَ الدِّيَةَ فِي الْخَطَأِ أَخْمَاسًا، إِلَّا
أَنَّ هَذَا لَمْ يَرْفَعْهُ إِلَّا خِشْفُ بْنُ مَالِكٍ
الْكُوفِيُّ الطَّائِيُّ وَهُوَ مَجْهُولٌ، لِأَنَّهُ لَمْ
يَرْوِهِ عَنْهُ إِلَّا زَيْدُ بْنُ جُبَيْرِ بْنِ حَرْمَلٍ
الطَّائِيُّ [الْجُشَمِيُّ «3»] مِنْ بَنِي جُشَمِ بْنِ
مُعَاوِيَةَ أَحَدُ ثِقَاتُ الْكُوفِيِّينَ. قُلْتُ: قَدْ
ذَكَرَ الدَّارَقُطْنِيُّ فِي سُنَنِهِ حَدِيثَ خِشْفِ بْنِ
مَالِكٍ مِنْ رِوَايَةِ حَجَّاجِ بْنِ أَرْطَأَةَ عَنْ زَيْدِ
بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ خِشْفِ بْنِ مَالِكٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ
بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: قضى رسول الله صلى
__________
(1). في شرح الموطأ للباجى: (قال محمد بن عيسى الأعشى في
المزنية: بنت مخاض وهى التي تتبع أمها وقد حملت أمها وقد حملت
أمها. وبنت اللبون وهى التي تتبع أمها أيضا وهى ترضع. والحقة
وهى التي تستحق الحمل. وأما الجذعة من الإبل فهي ما كان من فوق
أربعة وعشرين شهرا).
(2). كذا في الأصل، والراوي خشف كما هو في الدارقطني، فعبد
الله مقحم، كما يأتي.
(3). من ط وى.) (
(5/317)
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي دِيَةِ
الْخَطَأِ مِائَةً مِنَ الْإِبِلِ، مِنْهَا عِشْرُونَ حِقَّةً،
وَعِشْرُونَ جَذَعَةً، وَعِشْرُونَ بَنَاتِ لَبُونٍ،
وَعِشْرُونَ بَنَاتِ مَخَاضٍ، وَعِشْرُونَ بنو مَخَاضٍ. قَالَ
الدَّارَقُطْنِيُّ: (هَذَا حَدِيثٌ ضَعِيفٌ غَيْرُ ثَابِتٍ
عِنْدَ أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ بِالْحَدِيثِ مِنْ وُجُوهٍ
عِدَّةٍ، أَحَدُهَا أَنَّهُ مُخَالِفٌ لِمَا رَوَاهُ أَبُو
عُبَيْدَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ عَنْ أَبِيهِ
بِالسَّنَدِ الصَّحِيحِ عَنْهُ «1»، الَّذِي لَا مَطْعَنَ
فِيهِ وَلَا تَأْوِيلَ عَلَيْهِ، وَأَبُو عُبَيْدَةَ أَعْلَمُ
بِحَدِيثِ أَبِيهِ وَبِمَذْهَبِهِ [وَفُتْيَاهُ «2»] مِنْ
خِشْفِ بْنِ مَالِكٍ وَنُظَرَائِهِ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ
مَسْعُودٍ أَتْقَى لِرَبِّهِ وَأَشَحُّ عَلَى دِينِهِ مِنْ
أَنْ يَرْوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَنَّهُ يَقْضِي بِقَضَاءٍ وَيُفْتِي هُوَ
بِخِلَافِهِ، هَذَا لَا يُتَوَهَّمُ مِثْلُهُ عَلَى عَبْدِ
اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ وَهُوَ الْقَائِلُ فِي مَسْأَلَةٍ
وَرَدَتْ عَلَيْهِ لَمْ يَسْمَعْ فِيهَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَيْئًا وَلَمْ يَبْلُغْهُ
عَنْهُ فِيهَا قَوْلٌ: أَقُولُ فِيهَا بِرَأْيِي فَإِنْ يَكُنْ
صَوَابًا فَمِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَإِنْ يَكُنْ خَطَأٌ
فَمِنِّي، ثُمَّ بَلَغَهُ بَعْدَ [ذَلِكَ «3»] أَنَّ فُتْيَاهُ
فِيهَا وَافَقَ قَضَاءَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مِثْلِهَا، فَرَآهُ أَصْحَابُهُ عِنْدَ
ذَلِكَ فَرِحَ فَرَحًا [شَدِيدًا «4»] لَمْ يَرَوْهُ فَرِحَ
مِثْلَهُ، لِمُوَافَقَةِ فُتْيَاهُ قَضَاءَ رَسُولِ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَمَنْ كَانَتْ هَذِهِ
صِفَتُهُ وهذا حال فَكَيْفَ يَصِحُّ عَنْهُ أَنْ يَرْوِيَ عَنْ
رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ [شَيْئًا
«5»] وَيُخَالِفُهُ. وَوَجْهٌ آخَرُ- وَهُوَ أَنَّ الْخَبَرَ
الْمَرْفُوعَ الَّذِي فِيهِ ذِكْرُ بَنِي الْمَخَاضِ لَا
نَعْلَمُهُ رَوَاهُ إِلَّا خِشْفُ بْنُ مَالِكٍ عَنِ ابْنِ
مَسْعُودٍ وَهُوَ رَجُلٌ مَجْهُولٌ لَمْ يَرْوِهِ عَنْهُ
إِلَّا زَيْدُ بْنُ جُبَيْرِ بْنِ حَرْمَلٍ الْجُشَمِيُّ،
وَأَهْلُ الْعِلْمِ بِالْحَدِيثِ لَا يَحْتَجُّونَ بِخَبَرٍ
يَنْفَرِدُ بِرِوَايَتِهِ رَجُلٌ غَيْرُ مَعْرُوفٍ، وَإِنَّمَا
يَثْبُتُ الْعِلْمُ عِنْدَهُمْ بِالْخَبَرِ إِذَا كَانَ
رَاوِيهِ عَدْلًا مَشْهُورًا، أَوْ رَجُلًا قَدِ ارْتَفَعَ
عَنْهُ اسْمُ الْجَهَالَةِ، وَارْتِفَاعُ اسْمِ الْجَهَالَةِ
عَنْهُ أَنْ يَرْوِيَ عَنْهُ رَجُلَانِ فَصَاعِدًا، فَإِذَا
كَانَتْ هَذِهِ صِفَتَهُ ارْتَفَعَ عَنْهُ حِينَئِذٍ اسْمُ
الْجَهَالَةِ، وَصَارَ حِينَئِذٍ مَعْرُوفًا. فَأَمَّا مَنْ
لَمْ يَرْوِ عَنْهُ إِلَّا رَجُلٌ وَاحِدٌ وَانْفَرَدَ
بِخَبَرٍ وَجَبَ التَّوَقُّفُ عَنْ خَبَرِهِ ذَلِكَ حَتَّى
يُوَافِقَهُ عَلَيْهِ غَيْرُهُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَوَجْهٌ
آخَرُ- وَهُوَ أَنَّ [حَدِيثَ] خِشْفِ بْنِ مَالِكٍ لَا
نَعْلَمُ أَحَدًا رَوَاهُ عَنْ زَيْدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْهُ
إِلَّا الْحَجَّاجَ بْنَ أَرْطَأَةَ، وَالْحَجَّاجُ رَجُلٌ
مَشْهُورٌ بِالتَّدْلِيسِ وَبِأَنَّهُ يُحَدِّثُ عَمَّنْ لَمْ
يَلْقَهُ وَلَمْ يَسْمَعْ مِنْهُ، وَتَرَكَ الرِّوَايَةَ
عَنْهُ سفيان بن عيينة ويحيى بن سعيد
__________
(1). في ج: عن الذي إلخ.
(2). الزيادة عن الدارقطني. [ ..... ]
(3). الزيادة عن الدارقطني.
(4). من ط وى.
(5). الزيادة عن الدارقطني.
(5/318)
الْقَطَّانُ وَعِيسَى بْنُ يُونُسَ بَعْدَ
أَنْ جَالَسُوهُ وَخَبَرُوهُ، وَكَفَاكَ بِهِمْ عِلْمًا
بِالرَّجُلِ وَنُبْلًا. وَقَالَ يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ:
حَجَّاجُ بْنُ أَرْطَأَةَ لَا يُحْتَجُّ بِحَدِيثِهِ. وَقَالَ
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ إِدْرِيسَ: سَمِعْتُ الْحَجَّاجَ يَقُولُ
لَا يَنْبُلُ الرَّجُلُ حَتَّى يَدَعَ الصَّلَاةَ فِي
الْجَمَاعَةِ. وَقَالَ عِيسَى بْنُ يُونُسَ: سَمِعْتُ
الْحَجَّاجَ يَقُولُ: أَخْرُجُ إِلَى الصَّلَاةِ يُزَاحِمُنِي
الْحَمَّالُونَ وَالْبَقَّالُونَ. وَقَالَ جَرِيرٌ: سَمِعْتُ
الْحَجَّاجَ يَقُولُ: أَهْلَكَنِي حُبُّ الْمَالِ وَالشَّرَفِ.
وَذَكَرَ «1» أَوْجُهًا أُخَرَ، مِنْهَا أَنَّ جَمَاعَةً مِنَ
الثِّقَاتِ رَوَوْا هَذَا الْحَدِيثَ عَنِ الْحَجَّاجِ بْنِ
أَرْطَأَةَ فَاخْتَلَفُوا عَلَيْهِ فِيهِ. إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ
مِمَّا يَطُولُ ذِكْرُهُ، وَفِيمَا ذَكَرْنَاهُ مِمَّا
ذَكَرُوهُ كِفَايَةٌ وَدَلَالَةٌ عَلَى ضَعْفِ مَا ذَهَبَ
إِلَيْهِ الْكُوفِيُّونَ فِي الدِّيَةِ، وَإِنْ كَانَ ابْنُ
الْمُنْذِرِ مَعَ جَلَالَتِهِ قَدِ اخْتَارَهُ عَلَى مَا
يَأْتِي. وَرَوَى حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ حَدَّثَنَا
سُلَيْمَانُ التَّيْمِيُّ عَنْ أَبِي مِجْلَزٍ عَنْ أَبِي
عُبَيْدَةَ أَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ قَالَ: دِيَةُ الْخَطَأِ
خَمْسَةُ أَخْمَاسٍ عِشْرُونَ حِقَّةً، وَعِشْرُونَ جَذَعَةً
وَعِشْرُونَ بَنَاتِ مَخَاضٍ، وَعِشْرُونَ بَنَاتِ لَبُونٍ
وَعِشْرُونَ بَنِي لَبُونٍ ذُكُورٌ. قَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ:
هَذَا إِسْنَادٌ حَسَنٌ وَرُوَاتُهُ ثِقَاتٌ، وَقَدْ رُوِيَ
عَنْ عَلْقَمَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ نَحْوُ هَذَا. قُلْتُ:
وَهَذَا هُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ أَنَّ
الدِّيَةَ [تَكُونُ «2»] مُخَمَّسَةً. قَالَ الْخَطَّابِيُّ:
[وَقَدْ «3»] رُوِيَ عَنْ نَفَرٍ مِنَ الْعُلَمَاءِ أَنَّهُمْ
قَالُوا دِيَةُ الْخَطَأِ أَرْبَاعٌ، وَهُمُ الشَّعْبِيُّ
وَالنَّخَعِيُّ وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ
إِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْهِ، إِلَّا أَنَّهُمْ قَالُوا: خَمْسٌ
وَعِشْرُونَ جَذَعَةً وَخَمْسٌ وَعِشْرُونَ حِقَّةً وَخَمْسٌ
وَعِشْرُونَ بَنَاتِ لَبُونٍ وَخَمْسٌ وَعِشْرُونَ بَنَاتِ
مَخَاضٍ. وَقَدْ رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي
طَالِبٍ. قَالَ أَبُو عُمَرَ: أَمَّا قَوْلُ مَالِكٍ
وَالشَّافِعِيِّ فَرُوِيَ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ وليس
فيه عن صحابي شي، وَلَكِنْ عَلَيْهِ عَمَلُ أَهْلِ
الْمَدِينَةِ. وَكَذَلِكَ حَكَى ابْنُ جُرَيْجٍ عَنِ ابْنِ
شِهَابٍ. قُلْتُ: قَدْ ذَكَرْنَا عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ مَا
يُوَافِقُ مَا صَارَ إِلَيْهِ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ. قَالَ
أَبُو عُمَرَ: وَأَسْنَانُ الْإِبِلِ فِي الدِّيَاتِ لَمْ
تُؤْخَذْ قِيَاسًا وَلَا نَظَرًا، وَإِنَّمَا أُخِذَتِ
اتِّبَاعًا وَتَسْلِيمًا، وَمَا أُخِذَ مِنْ جِهَةِ الْأَثَرِ
فَلَا مَدْخَلَ فِيهِ لِلنَّظَرِ، فَكُلٌّ يَقُولُ بِمَا قَدْ
صَحَّ عِنْدَهُ من سلفه، رضي الله عنهم [أجمعين «4»].
__________
(1). أي الدارقطني.
(2). من ط وى.
(3). من ط وى.
(4). من ط وى وج.
(5/319)
قُلْتُ: وَأَمَّا مَا حَكَاهُ
الْخَطَّابِيُّ مِنْ أَنَّهُ لَا يُعْلَمُ مَنْ قَالَ
بِحَدِيثِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ فَقَدْ حَكَاهُ ابْنُ
الْمُنْذِرِ عَنْ طَاوُسٍ وَمُجَاهِدٍ، إِلَّا أَنَّ
مُجَاهِدًا جَعَلَ مَكَانَ بِنْتِ مَخَاضٍ ثَلَاثِينَ
جَذَعَةً. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: وَبِالْقَوْلِ الْأَوَّلِ
أَقُولُ. يُرِيدُ قَوْلَ عَبْدِ اللَّهِ وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ
الَّذِي ضَعَّفَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ وَالْخَطَّابِيُّ،
وَابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ قَالَ: لِأَنَّهُ الْأَقَلُّ مِمَّا
قِيلَ، وَبِحَدِيثٍ «1» مَرْفُوعٍ رَوَيْنَاهُ عَنِ النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُوَافِقُ هَذَا الْقَوْلَ.
قُلْتُ- وَعَجَبًا لِابْنِ الْمُنْذِرِ؟ مَعَ نَقْدِهِ
وَاجْتِهَادِهِ كَيْفَ قَالَ بِحَدِيثٍ لَمْ يُوَافِقْهُ
أَهْلُ النَّقْدِ عَلَى صِحَّتِهِ! لَكِنَّ الذُّهُولَ
وَالنِّسْيَانَ قَدْ يَعْتَرِي الْإِنْسَانَ، وَإِنَّمَا
الْكَمَالُ لِعِزَّةِ ذِي الْجَلَالِ. السَّادِسَةُ- ثَبَتَتِ
الْأَخْبَارُ عَنِ النَّبِيِّ الْمُخْتَارِ مُحَمَّدٍ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَضَى بِدِيَةِ الْخَطَأِ
عَلَى الْعَاقِلَةِ، وَأَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى
الْقَوْلِ بِهِ. وَفِي إِجْمَاعِ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّ
الدِّيَةَ فِي الْخَطَأِ عَلَى الْعَاقِلَةِ دَلِيلٌ عَلَى
أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَبِي رِمْثَةَ حَيْثُ دَخَلَ عَلَيْهِ
وَمَعَهُ ابْنُهُ: (إِنَّهُ لَا يَجْنِي عَلَيْكَ وَلَا
تَجْنِي عَلَيْهِ) الْعَمْدُ دُونَ الْخَطَأِ. وَأَجْمَعُوا
عَلَى أَنَّ مَا زَادَ عَلَى ثُلُثِ الدِّيَةِ عَلَى
الْعَاقِلَةِ. وَاخْتَلَفُوا فِي الثُّلُثِ، وَالَّذِي
عَلَيْهِ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ أَنَّ الْعَاقِلَةَ لَا
تَحْمِلُ عَمْدًا وَلَا اعْتِرَافًا وَلَا صُلْحًا، وَلَا
تَحْمِلُ مِنْ دِيَةِ الْخَطَأِ إِلَّا مَا جَاوَزَ الثُّلُثَ،
وَمَا دُونَ الثُّلُثِ فِي مَالِ الْجَانِي. وَقَالَتْ
طَائِفَةٌ: عَقْلُ الْخَطَأِ عَلَى عَاقِلَةِ الْجَانِي،
قَلَّتِ الْجِنَايَةُ أَوْ كَثُرَتْ، لِأَنَّ مَنْ غَرِمَ
الْأَكْثَرَ غَرِمَ الْأَقَلَّ. كَمَا عُقِلَ الْعَمْدُ فِي
مَالِ الْجَانِي قَلَّ أَوْ كَثُرَ، هَذَا قَوْلُ
الشَّافِعِيِّ. السَّابِعَةُ- وَحُكْمُهَا أَنْ تَكُونَ
مُنَجَّمَةً عَلَى الْعَاقِلَةِ، وَالْعَاقِلَةُ الْعَصَبَةُ.
وَلَيْسَ وَلَدُ الْمَرْأَةِ إِذَا كَانَ مِنْ غَيْرِ
عَصَبَتِهَا مِنَ الْعَاقِلَةِ، وَلَا الْإِخْوَةُ مِنَ
الْأُمِّ بِعَصَبَةٍ لِإِخْوَتِهِمْ مِنَ الْأَبِ وَالْأُمِّ،
فَلَا يَعْقِلُونَ عَنْهُمْ شَيْئًا. وَكَذَلِكَ الدِّيوَانُ
لَا يَكُونُ عَاقِلَةً فِي قَوْلِ جُمْهُورِ أَهْلِ
الْحِجَازِ. وَقَالَ الْكُوفِيُّونَ: يَكُونُ عَاقِلَةً إِنْ
كَانَ مِنْ أَهْلِ الدِّيوَانِ، فَتُنَجَّمُ الدِّيَةُ عَلَى
الْعَاقِلَةِ فِي ثَلَاثَةِ أَعْوَامٍ عَلَى مَا قَضَاهُ
عُمَرُ وَعَلِيٌّ، لِأَنَّ الْإِبِلَ قَدْ تَكُونُ حَوَامِلَ
فَتُضَرُّ بِهِ. وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ يُعْطِيهَا دَفْعَةً وَاحِدَةً لِأَغْرَاضٍ، مِنْهَا
أَنَّهُ كَانَ يُعْطِيهَا صُلْحًا وَتَسْدِيدًا. وَمِنْهَا
أَنَّهُ كَانَ يُعَجِّلُهَا تَأْلِيفًا. فَلَمَّا تَمَهَّدَ
الْإِسْلَامُ قَدَّرَتْهَا الصَّحَابَةُ عَلَى هَذَا
النِّظَامِ، قَالَهُ ابْنُ الْعَرَبِيِّ. وَقَالَ أَبُو عمر:
__________
(1). في ج: والحديث مرفوع إلخ.
(5/320)
أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ قَدِيمًا وَحَدِيثًا
أَنَّ الدِّيَةَ عَلَى الْعَاقِلَةِ لَا تَكُونُ إِلَّا فِي
ثَلَاثِ سِنِينَ وَلَا تَكُونُ فِي أَقَلَّ مِنْهَا.
وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهَا عَلَى الْبَالِغِينَ مِنَ
الرِّجَالِ. وَأَجْمَعَ أَهْلُ السِّيَرِ وَالْعِلْمِ أَنَّ
الدِّيَةَ كَانَتْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ تَحْمِلُهَا
الْعَاقِلَةُ فَأَقَرَّهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْإِسْلَامِ، وَكَانُوا
يَتَعَاقَلُونَ بِالنُّصْرَةِ، ثُمَّ جَاءَ الْإِسْلَامُ
فَجَرَى الْأَمْرُ عَلَى ذَلِكَ حتى جعل عمر الديوان. واتفق
الفقهاء عل رِوَايَةِ ذَلِكَ وَالْقَوْلِ بِهِ. وَأَجْمَعُوا
أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِي زَمَنِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا زَمَنِ أَبِي بَكْرٍ
دِيوَانٌ، وَأَنَّ عُمَرَ جَعَلَ الدِّيوَانَ وَجَمَعَ بَيْنَ
النَّاسِ، وَجَعَلَ أَهْلَ كُلِّ نَاحِيَةٍ يَدًا، وَجَعَلَ
عَلَيْهِمْ قِتَالَ مَنْ يَلِيهِمْ مِنَ الْعَدُوِّ.
الثَّامِنَةُ- قُلْتُ: وَمِمَّا يَنْخَرِطُ فِي سِلْكِ هَذَا
الْبَابِ وَيَدْخُلُ فِي نِظَامِهِ قَتْلُ الْجَنِينِ فِي
بَطْنِ أُمِّهِ، وَهُوَ أَنْ يَضْرِبَ بَطْنَ أُمِّهِ
فَتُلْقِيهِ حَيًّا ثُمَّ يَمُوتُ، فَقَالَ كَافَّةُ
الْعُلَمَاءِ: فِيهِ الدِّيَةُ كَامِلَةً فِي الْخَطَأِ وَفِي
الْعَمْدِ بَعْدَ الْقَسَامَةِ. وَقِيلَ: بِغَيْرِ قَسَامَةٍ.
وَاخْتَلَفُوا فِيمَا بِهِ تُعْلَمُ حَيَاتُهُ بَعْدَ
اتِّفَاقِهِمْ عَلَى أَنَّهُ إِذَا اسْتَهَلَّ صَارِخًا أَوِ
ارْتَضَعَ أَوْ تَنَفَّسَ نَفَسًا مُحَقَّقَةً حَيٌّ، فِيهِ
الدِّيَةُ كَامِلَةً، فَإِنْ تَحَرَّكَ فَقَالَ الشَّافِعِيُّ
وَأَبُو حَنِيفَةَ: الْحَرَكَةُ تَدُلُّ عَلَى حَيَاتِهِ.
وَقَالَ مَالِكٌ: لَا، إِلَّا أَنْ يُقَارِنَهَا طُولُ
إِقَامَةٍ. وَالذَّكَرُ وَالْأُنْثَى عِنْدَ كَافَّةِ
الْعُلَمَاءِ فِي الْحُكْمِ سَوَاءٌ. فَإِنْ أَلْقَتْهُ
مَيِّتًا فَفِيهِ غُرَّةٌ «1»: عَبْدٌ أَوْ وَلِيدَةٌ. فَإِنْ
لَمْ تُلْقِهِ وَمَاتَتْ وهو في جوفها لم يخرج فلا شي فِيهِ.
وَهَذَا كُلُّهُ إِجْمَاعٌ لَا خِلَافَ فِيهِ. وَرُوِيَ عَنِ
اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ وَدَاوُدَ أَنَّهُمَا قَالَا فِي
الْمَرْأَةِ إِذَا مَاتَتْ مِنْ ضَرْبِ بَطْنِهَا ثُمَّ خَرَجَ
الْجَنِينُ مَيِّتًا بَعْدَ مَوْتِهَا: فَفِيهِ الْغُرَّةُ،
وَسَوَاءً رَمَتْهُ قَبْلَ مَوْتِهَا أَوْ بَعْدَ مَوْتِهَا،
الْمُعْتَبَرُ حَيَاةُ أُمِّهِ فِي وَقْتِ ضَرْبِهَا لَا
غَيْرُ. وَقَالَ سَائِرُ الْفُقَهَاءِ: لَا شي فِيهِ إِذَا
خَرَجَ مَيِّتًا مِنْ بَطْنِهَا بَعْدَ مَوْتِهَا. قَالَ
الطَّحَاوِيُّ مُحْتَجًّا لِجَمَاعَةِ الْفُقَهَاءِ بِأَنْ
قَالَ: قَدْ أَجْمَعُوا وَاللَّيْثُ مَعَهُمْ عَلَى أَنَّهُ
لَوْ ضَرَبَ بَطْنَهَا وَهِيَ حَيَّةٌ فَمَاتَتْ وَالْجَنِينُ
في بطنها ولم يسقط أنه لا شي فِيهِ، فَكَذَلِكَ إِذَا سَقَطَ
بَعْدَ مَوْتِهَا. التَّاسِعَةُ- وَلَا تَكُونُ الْغُرَّةُ
إِلَّا بَيْضَاءَ. قَالَ أَبُو عَمْرِو بْنُ الْعَلَاءِ فِي
قَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
(فِي الْجَنِينِ غُرَّةٌ عَبْدٌ أَوْ أَمَةٌ) - لَوْلَا أَنَّ
رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أراد
__________
(1). الغرة: العبد نفسه أو الامة، وسيأتي الكلام فيها في
المسألة التاسعة.
(5/321)
بِالْغُرَّةِ مَعْنًى لَقَالَ: فِي
الْجَنِينِ عَبْدٌ أَوْ أَمَةٌ، وَلَكِنَّهُ عَنَى الْبَيَاضَ،
فَلَا يُقْبَلُ فِي الدِّيَةِ إِلَّا غُلَامٌ أَبْيَضُ أَوْ
جَارِيَةٌ بَيْضَاءُ،، لَا يُقْبَلُ فِيهَا أَسْوَدُ وَلَا
سَوْدَاءُ. وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي قِيمَتِهَا، فَقَالَ
مَالِكٌ: تُقَوَّمُ بِخَمْسِينَ دِينَارًا أَوْ سِتِّمِائَةِ
دِرْهَمٍ، نِصْفُ عُشْرِ دِيَةِ الْحُرِّ الْمُسْلِمِ،
وَعُشْرُ دِيَةِ أُمِّهِ الْحُرَّةِ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ
شِهَابٍ وَرَبِيعَةَ وَسَائِرِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ. وَقَالَ
أَصْحَابُ الرَّأْيِ: قِيمَتُهَا خَمْسُمِائَةِ دِرْهَمٍ.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: سِنُّ الْغُرَّةِ سَبْعُ سِنِينَ أَوْ
ثَمَانُ سِنِينَ، وَلَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يَقْبَلَهَا
مَعِيبَةً. وَمُقْتَضَى مَذْهَبِ مَالِكٍ أَنَّهُ مُخَيَّرٌ
بَيْنَ إِعْطَاءِ غُرَّةٍ أَوْ عُشْرِ دِيَةِ الْأُمِّ، مِنَ
الذَّهَبِ عِشْرُونَ دِينَارًا إِنْ كَانُوا أَهْلَ ذَهَبٍ،
وَمِنَ الْوَرِقِ- إِنْ كَانُوا أَهْلَ وَرِقٍ- سِتُّمِائَةِ
دِرْهَمٍ، أَوْ خَمْسُ فَرَائِضَ «1» مِنَ الْإِبِلِ. قَالَ
مَالِكٌ وَأَصْحَابُهُ: هِيَ فِي مَالِ الْجَانِي، وَهُوَ
قَوْلُ الْحَسَنِ بْنِ حَيٍّ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ
وَالشَّافِعِيُّ وَأَصْحَابُهُمَا: هِيَ عَلَى الْعَاقِلَةِ.
وَهُوَ أَصَحُّ، لِحَدِيثِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ أَنَّ
امْرَأَتَيْنِ كَانَتَا تَحْتَ رَجُلَيْنِ مِنَ الْأَنْصَارِ-
فِي رِوَايَةٍ فَتَغَايَرَتَا- فَضَرَبَتْ إِحْدَاهُمَا
الْأُخْرَى بِعَمُودٍ فَقَتَلَتْهَا، فَاخْتَصَمَ إِلَى
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الرَّجُلَانِ
فَقَالَا «2»: نَدِي مَنْ لَا صَاحَ وَلَا أَكَلْ، وَلَا
شَرِبَ [وَلَا اسْتَهَلْ، فَمِثْلُ ذَلِكَ يُطَلْ «3»!]،
فَقَالَ: (أَسَجْعٌ كَسَجْعِ»
الْأَعْرَابِ)؟ فَقَضَى فِيهِ غُرَّةً وَجَعَلَهَا عَلَى
عَاقِلَةِ الْمَرْأَةِ. وَهُوَ حَدِيثٌ ثَابِتٌ صَحِيحٌ، نَصٌّ
فِي مَوْضِعِ الْخِلَافِ يُوجِبُ الْحُكْمَ. وَلَمَّا كَانَتْ
دِيَةُ الْمَرْأَةِ الْمَضْرُوبَةِ عَلَى الْعَاقِلَةِ كَانَ
الْجَنِينُ كَذَلِكَ فِي الْقِيَاسِ وَالنَّظَرِ. وَاحْتَجَّ
عُلَمَاؤُنَا بِقَوْلِ الَّذِي قُضِيَ عَلَيْهِ: كَيْفَ
أَغْرَمُ؟ قَالُوا: وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الَّذِي
قُضِيَ عَلَيْهِ مُعَيَّنٌ وَهُوَ الْجَانِي. وَلَوْ أَنَّ
دِيَةَ الْجَنِينِ قَضَى بِهَا عَلَى الْعَاقِلَةِ لَقَالَ:
فَقَالَ الَّذِي «5» قَضَى عَلَيْهِمْ. وَفِي الْقِيَاسِ أَنَّ
كُلَّ جَانٍ جِنَايَتُهُ عَلَيْهِ، إِلَّا مَا قَامَ
بِخِلَافِهِ الدَّلِيلُ الَّذِي لَا مُعَارِضَ لَهُ، مِثْلُ
إِجْمَاعٍ لَا يَجُوزُ خِلَافُهُ، أَوْ نَصِّ سُنَّةٍ مِنْ
جِهَةِ نَقْلِ الْآحَادِ الْعُدُولِ لَا مُعَارِضَ لَهَا،
فَيَجِبُ الْحُكْمُ بِهَا، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:
(وَلَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ
وَازِرَةٌ وِزْرَ أخرى «6»).
__________
(1). الفرائض: جمع فريضة، وهو البعير المأخوذ في الزكاة، سمى
فريضة لأنه فرض واجب على رب المال، اتسع فيه حتى سمى البعير
فريضة في غير الزكاة.
(2). في سنن أبى داود: (فقال أحد الرجلين).
(3). زيادة عن كتب الحديث لا يستقيم الكلام بدونها. ويطل: يهدر
دمه.
(4). قال الخطابي: لم يعبه بمجرد السجع بل بما تضمنه سجعه من
الباطل.
(5). كذا في الأصول. [ ..... ]
(6). راجع ج 7 ص 156
(5/322)
الْعَاشِرَةُ- وَلَا خِلَافَ بَيْنَ
الْعُلَمَاءِ أَنَّ الْجَنِينَ إِذَا خَرَجَ حَيًّا فِيهِ
الْكَفَّارَةُ مَعَ الدِّيَةِ. واختلفوا في الكفارة إذا خرج
ميتا، فقال مَالِكٌ: فِيهِ الْغُرَّةُ وَالْكَفَّارَةُ.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ: فِيهِ الْغُرَّةُ
وَلَا كَفَّارَةَ. وَاخْتَلَفُوا فِي مِيرَاثِ الْغُرَّةِ عَنِ
الْجَنِينِ، فَقَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ
وَأَصْحَابُهُمَا: الْغُرَّةُ فِي الْجَنِينِ مَوْرُوثَةٌ عَنِ
الْجَنِينِ عَلَى كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى، لِأَنَّهَا
دِيَةٌ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ: الْغُرَّةُ
لِلْأُمِّ وَحْدَهَا، لِأَنَّهَا جِنَايَةٌ جُنِيَ عَلَيْهَا
بِقَطْعِ عُضْوٍ مِنْ أَعْضَائِهَا وَلَيْسَتْ بِدِيَةٍ.
وَمِنَ الدَّلِيلِ عَلَى ذَلِكَ أَنَّهُ لَمْ يُعْتَبَرْ فِيهِ
الذَّكَرُ وَالْأُنْثَى كَمَا يَلْزَمُ فِي الدِّيَاتِ،
فَدَلَّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ كَالْعُضْوِ. وَكَانَ ابْنُ
هُرْمُزَ يَقُولُ: دِيَتُهُ لِأَبَوَيْهِ خَاصَّةً، لِأَبِيهِ
ثُلُثَاهَا وَلِأُمِّهِ ثُلُثُهَا، مَنْ كَانَ مِنْهُمَا
حَيًّا كَانَ ذَلِكَ لَهُ، فَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا قَدْ
مَاتَ كَانَتْ لِلْبَاقِي مِنْهُمَا أَبًا كَانَ أَوْ أُمًّا،
وَلَا يَرِثُ الْإِخْوَةُ شَيْئًا. الْحَادِيَةُ عَشْرَةَ-
قَوْلُهُ تَعَالَى: (إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا) أَصْلُهُ (أَنْ
يَتَصَدَّقُوا) فَأُدْغِمَتِ التَّاءُ فِي الصَّادِ.
وَالتَّصَدُّقُ الْإِعْطَاءُ، يَعْنِي إِلَّا أَنْ يُبَرِّئَ
الْأَوْلِيَاءُ وَرَثَةَ المقتول [القاتلين] مما أوجب الله
لَهُمْ مِنَ الدِّيَةِ عَلَيْهِمْ. فَهُوَ اسْتِثْنَاءٌ لَيْسَ
مِنَ الْأَوَّلِ. وَقَرَأَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ
وَنُبَيْحٌ «1» (إِلَّا أَنْ تَصَدَّقُوا) بِتَخْفِيفِ
الصَّادِ وَالتَّاءِ. وَكَذَلِكَ قَرَأَ أَبُو عَمْرٍو، إِلَّا
أَنَّهُ شَدَّدَ الصَّادَ. الْقِرَاءَةِ حَذْفُ التَّاءِ
الثَّانِيةِ، وَلَا يَجُوزُ حَذْفُهَا على قراءة الياء. وفي حر
أُبَيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ (إِلَّا أَنْ يَتَصَدَّقُوا).
وَأَمَّا الْكَفَّارَةُ الَّتِي هِيَ لِلَّهِ تَعَالَى فَلَا
تَسْقُطُ بِإِبْرَائِهِمْ، لِأَنَّهُ أَتْلَفَ شَخْصًا فِي
عِبَادَةِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ، فَعَلَيْهِ أَنْ يُخَلِّصَ
آخَرَ لِعِبَادَةِ رَبِّهِ وَإِنَّمَا تَسْقُطُ الدِّيَةُ
الَّتِي هِيَ حَقٌّ لَهُمْ. وَتَجِبُ الْكَفَّارَةُ فِي مَالِ
الْجَانِي وَلَا تَتَحَمَّلُ. الثَّانِيةُ عَشْرَةَ- قَوْلُهُ
تَعَالَى: (فَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ
مُؤْمِنٌ) هَذِهِ مَسْأَلَةٌ الْمُؤْمِنُ يُقْتَلُ فِي بِلَادِ
الْكُفَّارِ أَوْ فِي حُرُوبِهِمْ عَلَى أَنَّهُ مِنَ
الْكُفَّارِ. وَالْمَعْنَى عِنْدَ ابْنِ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةَ
وَالسُّدِّيِّ وَعِكْرِمَةَ وَمُجَاهِدٍ وَالنَّخَعِيِّ:
فَإِنْ كَانَ هَذَا الْمَقْتُولُ رَجُلًا مُؤْمِنًا قَدْ آمن
وبقي
__________
(1). كذا في الأصول وابن عطية. والمتبادر: أبو نجيح وهو عصمة
بن عروة البصري روى عن أبى عمرو وعاصم. وأما نبيح فلم نقف عليه
في القراء، وفى التهذيب: نبيح- مصغرا- بن عبد الله العنزي أبو
عمرو الكوفي، وفى التاج: تابعي. فهذا لم تذكر عنه قراءة. والله
أعلم.
(5/323)
فِي قَوْمِهِ وَهُمْ كَفَرَةٌ (عَدُوٍّ
لَكُمْ) فَلَا دِيَةَ فِيهِ، وَإِنَّمَا كَفَّارَتُهُ
تَحْرِيرُ الرَّقَبَةِ. وَهُوَ الْمَشْهُورُ مِنْ قَوْلِ
مَالِكٍ، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ. وَسَقَطَتِ الدِّيَةُ
لِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا- أَنَّ أَوْلِيَاءَ الْقَتِيلِ
كُفَّارٌ فَلَا يَصِحُّ أَنْ تُدْفَعَ إِلَيْهِمْ
فَيَتَقَوَّوْا «1» بِهَا. وَالثَّانِي- أَنَّ حُرْمَةَ هَذَا
الَّذِي آمَنَ وَلَمْ يُهَاجِرْ قَلِيلَةٌ، فَلَا دِيَةَ،
لِقَوْلِهِ تَعَالَى: (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهاجِرُوا
مَا لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهاجِرُوا
«2»). وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: بَلِ الْوَجْهُ فِي سُقُوطِ
الدِّيَةِ أَنَّ الْأَوْلِيَاءَ كُفَّارٌ فَقَطْ، فَسَوَاءٌ
كَانَ الْقَتْلُ خَطَأً بَيْنَ أَظْهُرِ الْمُسْلِمِينَ أَوْ
بَيْنَ قَوْمِهِ وَلَمْ يُهَاجِرْ أَوْ هَاجَرَ ثُمَّ رَجَعَ
إِلَى قَوْمِهِ كَفَّارَتُهُ التَّحْرِيرُ وَلَا دِيَةَ فِيهِ،
إِذْ لَا يَصِحُّ دَفْعُهَا إِلَى الْكُفَّارِ، وَلَوْ
وَجَبَتِ الدِّيَةُ لو جبت لِبَيْتِ الْمَالِ عَلَى بَيْتِ
الْمَالِ، فَلَا تَجِبُ الدِّيَةُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ
وَإِنْ جَرَى الْقَتْلُ فِي بِلَادِ «3» الْإِسْلَامِ. هَذَا
قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَبِهِ قَالَ الْأَوْزَاعِيُّ
وَالثَّوْرِيُّ وَأَبُو ثَوْرٍ. وَعَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ
إِنْ قُتِلَ الْمُؤْمِنُ فِي بِلَادِ الْمُسْلِمِينَ
وَقَوْمُهُ حَرْبٌ فَفِيهِ الدِّيَةُ لِبَيْتِ الْمَالِ
وَالْكَفَّارَةُ. قُلْتُ: وَمِنْ هَذَا الْبَابِ مَا جَاءَ فِي
صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ أُسَامَةَ قَالَ: بَعَثَنَا رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سَرِيَّةٍ
فَصَبَّحْنَا الْحُرَقَاتِ «4» مِنْ جُهَيْنَةَ فَأَدْرَكْتُ
رَجُلًا فَقَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، فَطَعَنْتُهُ
فَوَقَعَ فِي نفسي من ذلك، فذ كرته لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (أَقَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ
وَقَتَلْتَهُ)! قَالَ: قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّمَا
قَالَهَا خَوْفًا مِنَ السِّلَاحِ، قَالَ: (أَفَلَا شَقَقْتَ
عَنْ قَلْبِهِ حَتَّى تَعْلَمَ أَقَالَهَا أَمْ لَا؟). فَلَمْ
يَحْكُمْ عَلَيْهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
بِقِصَاصٍ وَلَا دِيَةٍ. وَرُوِيَ عَنْ أُسَامَةَ أَنَّهُ
قَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ اسْتَغْفَرَ لِي بَعْدَ ثَلَاثِ مَرَّاتٍ، وَقَالَ:
(أَعْتِقْ رَقَبَةً) وَلَمْ يَحْكُمْ بِقِصَاصٍ وَلَا دِيَةٍ.
فَقَالَ عُلَمَاؤُنَا: أَمَّا سُقُوطُ الْقِصَاصِ فَوَاضِحٌ
إِذْ لَمْ يَكُنِ الْقَتْلُ عُدْوَانًا، وأما سقوط الدية فلا
وجه ثَلَاثَةٍ: الْأَوَّلُ- لِأَنَّهُ كَانَ أَذِنَ لَهُ فِي
أَصْلِ الْقِتَالِ فَكَانَ عَنْهُ إِتْلَافُ نَفْسٍ
مُحْتَرَمَةٍ غَلَطًا كَالْخَاتِنِ وَالطَّبِيبِ. الثَّانِي-
لِكَوْنِهِ مِنَ الْعَدُوِّ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ
الْمُسْلِمِينَ تَكُونُ لَهُ دِيَتُهُ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى:
(فَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ) كَمَا ذَكَرْنَا.
الثَّالِثُ- أَنَّ أُسَامَةَ اعْتَرَفَ بِالْقَتْلِ وَلَمْ
تَقُمْ بِذَلِكَ بَيِّنَةٌ وَلَا تَعْقِلُ الْعَاقِلَةُ
اعْتِرَافًا، وَلَعَلَّ أُسَامَةَ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ
تَكُونُ فِيهِ الدِّيَةُ. وَاللَّهُ أعلم.
__________
(1). في ج، ط: يتقوون بها.
(2). ج 8 ص 55.
(3). في ج، ط: دار.
(4). الحرقات (بضم الحاء وفتح الراء وضمها): موضع ببلاد جهينة.
(5/324)
الثَّالِثَةُ عَشْرَةَ- قَوْلُهُ تَعَالَى:
(وَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ)
هَذَا فِي الذِّمِّيِّ وَالْمُعَاهَدِ يُقْتَلُ خَطَأً
فَتَجِبُ الدِّيَةُ وَالْكَفَّارَةُ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ
وَالشَّعْبِيُّ وَالنَّخَعِيُّ وَالشَّافِعِيُّ. وَاخْتَارَهُ
الطَّبَرِيُّ قَالَ: إِلَّا أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ
وَتَعَالَى أَبْهَمَهُ وَلَمْ يَقُلْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ، كَمَا
قَالَ فِي الْقَتِيلِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَمِنْ أَهْلِ
الْحَرْبِ. وَإِطْلَاقُهُ مَا قُيِّدَ قَبْلُ يَدُلُّ عَلَى
أَنَّهُ خِلَافُهُ. وَقَالَ الْحَسَنُ وَجَابِرُ بْنُ زَيْدٍ
وَإِبْرَاهِيمُ أَيْضًا: الْمَعْنَى وَإِنْ كَانَ الْمَقْتُولُ
خَطَأً مُؤْمِنًا مِنْ قَوْمٍ مُعَاهِدِينَ لَكُمْ
فَعَهْدُهُمْ يُوجِبُ أَنَّهُمْ أَحَقُّ بِدِيَةِ صَاحِبِهِمْ،
فَكَفَّارَتُهُ التَّحْرِيرُ وَأَدَاءُ الدِّيَةِ. وَقَرَأَهَا
الْحَسَنُ: (وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ
مِيثَاقٌ وَهُوَ مُؤْمِنٌ). قَالَ الْحَسَنُ: إِذَا قَتَلَ
الْمُسْلِمُ الذِّمِّيَّ فَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ. قَالَ
أَبُو عُمَرَ: وَأَمَّا الْآيَةُ فَمَعْنَاهَا عِنْدَ أَهْلِ
الْحِجَازِ مَرْدُودٌ عَلَى قَوْلِهِ: (وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ
أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلَّا خَطَأً) ثُمَّ قَالَ تَعَالَى:
(وَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ) يُرِيدُ ذَلِكَ الْمُؤْمِنَ.
وَاللَّهُ أَعْلَمُ. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَالَّذِي
عِنْدِي أَنَّ الْجُمْلَةَ مَحْمُولَةٌ حَمْلَ الْمُطْلَقِ
عَلَى الْمُقَيَّدِ. قُلْتُ: وَهَذَا مَعْنَى مَا قَالَ
الْحَسَنُ وَحَكَاهُ أَبُو عُمَرَ عَنْ أَهْلِ الْحِجَازِ.
وَقَوْلُهُ: (فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ) عَلَى لَفْظِ النَّكِرَةِ
لَيْسَ يَقْتَضِي دِيَةً بِعَيْنِهَا. وَقِيلَ: هَذَا فِي
مُشْرِكِي الْعَرَبِ الَّذِينَ كَانَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ
النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَهْدٌ عَلَى أَنْ يُسْلِمُوا
أَوْ يُؤْذَنُوا بِحَرْبٍ إِلَى أَجَلٍ مَعْلُومٍ: فَمَنْ
قُتِلَ مِنْهُمْ وَجَبَتْ فِيهِ الدِّيَةُ وَالْكَفَّارَةُ
ثُمَّ نُسِخَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: (بَراءَةٌ مِنَ اللَّهِ
وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ
«1»). الرَّابِعَةُ عَشْرَةَ- وَأَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى
أَنَّ دِيَةَ الْمَرْأَةِ عَلَى النِّصْفِ مِنْ دِيَةِ
الرَّجُلِ، قَالَ أَبُو عُمَرَ: إِنَّمَا صَارَتْ دِيَتُهَا-
وَاللَّهُ أَعْلَمُ- عَلَى النِّصْفِ مِنْ دِيَةِ الرَّجُلِ
مِنْ أَجْلِ أَنَّ لَهَا نِصْفَ مِيرَاثِ الرَّجُلِ،
وَشَهَادَةُ امْرَأَتَيْنِ بِشَهَادَةِ رَجُلٍ. وَهَذَا
إِنَّمَا هُوَ فِي دِيَةِ الْخَطَأِ، وَأَمَّا الْعَمْدُ
فَفِيهِ الْقِصَاصُ بَيْنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ لِقَوْلِهِ
عَزَّ وَجَلَّ: (النَّفْسَ بِالنَّفْسِ «2»). وَ (الْحُرُّ
بِالْحُرِّ) كَمَا تَقَدَّمَ فِي (الْبَقَرَةِ «3»).
__________
(1). راجع ج 8 ص 61.
(2). راجع ج 6 ص 191.
(3). راجع ج 2 ص 246 فما بعد.
(5/325)
الْخَامِسَةُ عَشْرَةَ- رَوَى
الدَّارَقُطْنِيُّ مِنْ حَدِيثِ مُوسَى بْنِ عَلِيِّ بْنِ
رَبَاحٍ اللَّخْمِيِّ قَالَ: سَمِعْتُ أَبِي يَقُولُ إِنَّ
أَعْمَى كَانَ يُنْشِدُ [فِي الْمَوْسِمِ «1» [فِي خِلَافَةِ
عُمَرَ [بْنِ الْخَطَّابِ «2» [رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَهُوَ
يَقُولُ:
[يَا] أَيُّهَا النَّاسُ ليقت مُنْكَرَا ... هَلْ يَعْقِلُ
الْأَعْمَى الصَّحِيحَ الْمُبْصِرَا
خَرَّا مَعًا كِلَاهُمَا تَكَسَّرَا
وَذَلِكَ أَنَّ الْأَعْمَى كَانَ يَقُودُهُ بَصِيرٌ فَوَقَعَا
فِي بِئْرٍ، فَوَقَعَ الْأَعْمَى عَلَى الْبَصِيرِ فَمَاتَ
الْبَصِيرُ، فَقَضَى عُمَرُ بِعَقْلِ الْبَصِيرِ عَلَى
الْأَعْمَى. وَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي رَجُلٍ
يَسْقُطُ عَلَى آخَرَ فَيَمُوتُ أَحَدُهُمَا، فَرُوِيَ عَنِ
ابْنِ الزُّبَيْرِ: يَضْمَنُ الْأَعْلَى الْأَسْفَلَ، وَلَا
يَضْمَنُ الْأَسْفَلُ الْأَعْلَى. وَهَذَا قَوْلُ شُرَيْحٍ
وَالنَّخَعِيِّ وَأَحْمَدَ وَإِسْحَاقَ. وَقَالَ مَالِكٌ فِي
رَجُلَيْنِ جَرَّ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ حَتَّى سَقَطَا
وَمَاتَا: عَلَى عَاقِلَةِ الَّذِي جَبَذَهُ الدِّيَةُ. قَالَ
أَبُو عُمَرَ: مَا أَظُنُّ فِي هَذَا خِلَافًا- وَاللَّهُ
أَعْلَمُ- إِلَّا مَا قَالَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ
أَصْحَابِنَا وَأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ: يَضْمَنُ نِصْفَ
الدِّيَةِ، لِأَنَّهُ مَاتَ مِنْ فِعْلِهِ، وَمِنْ سُقُوطِ
السَّاقِطِ عَلَيْهِ. وَقَالَ الْحَكَمُ وَابْنُ شُبْرُمَةَ:
إِنْ سَقَطَ رَجُلٌ عَلَى رَجُلٍ مِنْ فَوْقِ بَيْتٍ فَمَاتَ
أَحَدُهُمَا، قَالَا: يَضْمَنُ الْحَيُّ مِنْهُمَا. وَقَالَ
الشَّافِعِيُّ فِي رَجُلَيْنِ يَصْدِمُ أَحَدَهُمَا الْآخَرَ
فَمَاتَا، قَالَ: دِيَةُ الْمَصْدُومِ عَلَى عَاقِلَةِ
الصَّادِمِ، وَدِيَةُ الصَّادِمِ هَدَرٌ. وَقَالَ فِي
الْفَارِسَيْنِ إِذَا اصْطَدَمَا فَمَاتَا: عَلَى كُلِّ
وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصْفُ دِيَةِ صَاحِبِهِ، لِأَنَّ كُلَّ
وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَاتَ مِنْ فِعْلِ نَفْسِهِ وَفِعْلِ «3»
صَاحِبِهِ، وقاله عُثْمَانُ الْبَتِّيُّ وَزُفَرُ. وَقَالَ
مَالِكٌ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَالْحَسَنُ بْنُ حَيٍّ وَأَبُو
حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ فِي الْفَارِسَيْنِ يَصْطَدِمَانِ
فَيَمُوتَانِ: عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا دِيَةُ الْآخَرِ
عَلَى عَاقِلَتِهِ. قَالَ ابْنُ خُوَيْزِ مَنْدَادُ:
وَكَذَلِكَ عِنْدَنَا السَّفِينَتَانِ تَصْطَدِمَانِ إِذَا
لَمْ يَكُنِ النُّوتِيُّ صَرَفَ السَّفِينَةَ وَلَا الْفَارِسُ
صَرَفَ الْفَرَسَ. وَرُوِيَ عَنْ مَالِكٍ فِي السَّفِينَتَيْنِ
وَالْفَارِسَيْنِ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الضَّمَانُ
لِقِيمَةِ مَا أَتْلَفَ لِصَاحِبِهِ كَامِلًا. السَّادِسَةُ
عَشْرَةَ- وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ مِنْ هَذَا الْبَابِ فِي
تَفْصِيلِ دِيَةِ أَهْلِ الْكِتَابِ، فَقَالَ مَالِكٌ
وَأَصْحَابُهُ: هِيَ عَلَى النِّصْفِ مِنْ دِيَةِ الْمُسْلِمِ،
وَدِيَةُ الْمَجُوسِيِّ ثَمَانُمِائَةِ دِرْهَمٍ، وَدِيَةُ
نسائهم
__________
(1). الزيادة عن الدارقطني.
(2). من ج، ز.
(3). في ج: ثقل
(5/326)
عَلَى النِّصْفِ مِنْ ذَلِكَ. رُوِيَ هَذَا
الْقَوْلُ عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَعُرْوَةَ بْنِ
الزبير وعمرو ابن شُعَيْبٍ وَقَالَ بِهِ أَحْمَدُ بْنُ
حَنْبَلٍ. وَهَذَا الْمَعْنَى قَدْ رَوَى فِيهِ سُلَيْمَانُ
بْنُ بِلَالٍ، عن عبد الرحمن ابن الْحَارِثِ بْنِ عَيَّاشِ
بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ
عَنْ جَدِّهِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ جَعَلَ دِيَةَ الْيَهُودِيِّ وَالنَّصْرَانِيِّ
عَلَى النِّصْفِ مِنْ دِيَةِ الْمُسْلِمِ. وَعَبْدُ
الرَّحْمَنِ هَذَا قَدْ رَوَى عَنْهُ الثَّوْرِيُّ أَيْضًا.
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالشَّعْبِيُّ وَالنَّخَعِيُّ:
الْمَقْتُولُ مِنْ أَهْلِ الْعَهْدِ خَطَأً لَا تُبَالِي
مُؤْمِنًا كَانَ أَوْ كَافِرًا عَلَى عَهْدِ قَوْمِهِ فِيهِ
الدِّيَةُ كَدِيَةِ الْمُسْلِمِ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حنيفة
والثوى وَعُثْمَانَ الْبَتِّيِّ وَالْحَسَنِ بْنِ حَيٍّ،
جَعَلُوا الدِّيَاتِ كُلَّهَا سَوَاءً، الْمُسْلِمُ
وَالْيَهُودِيُّ وَالنَّصْرَانِيُّ وَالْمَجُوسِيُّ
وَالْمُعَاهَدُ وَالذِّمِّيُّ، وَهُوَ قَوْلُ عَطَاءٍ
وَالزُّهْرِيِّ وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ. وَحُجَّتُهُمْ
قَوْلُهُ تَعَالَى: (فَدِيَةٌ) وَذَلِكَ يَقْتَضِي الدِّيَةَ
كَامِلَةً كَدِيَةِ الْمُسْلِمِ. وَعَضَّدُوا هَذَا بِمَا
رَوَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ عَنْ دَاوُدَ بْنِ
الْحُصَيْنِ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قِصَّةِ
بَنِي قُرَيْظَةَ وَالنَّضِيرِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَعَلَ دِيَتَهُمْ سَوَاءً دِيَةً
كَامِلَةً. قَالَ أَبُو عُمَرَ: هَذَا حَدِيثٌ فِيهِ لِينٌ
وَلَيْسَ فِي مِثْلِهِ حُجَّةٌ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: دِيَةُ
الْيَهُودِيِّ وَالنَّصْرَانِيِّ ثُلُثُ دِيَةِ الْمُسْلِمِ،
وَدِيَةُ الْمَجُوسِيِّ ثَمَانُمِائَةِ دِرْهَمٍ، وَحُجَّتُهُ
أَنَّ ذَلِكَ أَقَلَّ مَا قِيلَ فِي ذَلِكَ، وَالذِّمَّةُ
بَرِيئَةٌ إِلَّا بِيَقِينٍ أَوْ حُجَّةٍ. وَرُوِيَ هَذَا
الْقَوْلُ عَنْ عُمَرَ وَعُثْمَانَ، وَبِهِ قَالَ ابْنُ
الْمُسَيَّبِ وَعَطَاءٌ وَالْحَسَنُ وَعِكْرِمَةُ وَعَمْرُو
بْنُ دِينَارٍ وَأَبُو ثَوْرٍ وَإِسْحَاقُ. السَّابِعَةُ
عَشْرَةَ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (فَمَنْ لَمْ يَجِدْ) أَيِ
الرَّقَبَةَ وَلَا اتَّسَعَ مَالُهُ لِشِرَائِهَا. (فَصِيامُ
شَهْرَيْنِ) أَيْ فَعَلَيْهِ صِيَامُ شَهْرَيْنِ.
(مُتَتابِعَيْنِ) حَتَّى لَوْ أَفْطَرَ يَوْمًا اسْتَأْنَفَ،
هَذَا قَوْلُ الْجُمْهُورِ. وَقَالَ مَكِّيٌّ عَنِ
الشَّعْبِيِّ: إِنَّ صِيَامَ الشَّهْرَيْنِ يُجْزِئُ عَنِ
الدِّيَةِ وَالْعِتْقِ لِمَنْ لَمْ يَجِدْ. قَالَ ابْنُ
عَطِيَّةَ: وَهَذَا الْقَوْلُ وَهْمٌ، لِأَنَّ الدِّيَةَ
إِنَّمَا هِيَ عَلَى الْعَاقِلَةِ وَلَيْسَتْ عَلَى
الْقَاتِلِ. وَالطَّبَرِيُّ حَكَى هَذَا الْقَوْلَ عَنْ
مَسْرُوقٍ. الثَّامِنَةُ عَشْرَةَ- وَالْحَيْضُ لَا يَمْنَعُ
التَّتَابُعَ مِنْ غَيْرِ خِلَافٍ، وَإِنَّهَا إِذَا طَهُرَتْ
وَلَمْ تُؤَخِّرْ وَصَلَتْ بَاقِيَ صِيَامِهَا بِمَا سَلَفَ
منه، لا شي عَلَيْهَا غَيْرَ ذَلِكَ إِلَّا أَنْ تَكُونَ
طَاهِرًا قبل الفجر
(5/327)
وَمَنْ يَقْتُلْ
مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا
وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا
عَظِيمًا (93)
فَتَتْرُكَ صِيَامَ ذَلِكَ الْيَوْمِ
عَالِمَةً بِطُهْرِهَا، فَإِنْ فَعَلَتِ اسْتَأْنَفَتْ عِنْدَ
جَمَاعَةٍ مِنَ الْعُلَمَاءِ، قَالَهُ أَبُو عُمَرَ.
وَاخْتَلَفُوا فِي الْمَرِيضِ الَّذِي قَدْ صَامَ مِنْ
شَهْرَيِ التَّتَابُعِ بَعْضَهَا عَلَى قَوْلَيْنِ، فَقَالَ
مَالِكٌ: وَلَيْسَ لِأَحَدٍ وَجَبَ عَلَيْهِ صِيَامُ
شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى أَنْ
يُفْطِرَ إِلَّا مِنْ عُذْرٍ أَوْ مَرَضٍ أَوْ حَيْضٍ،
وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُسَافِرَ فَيُفْطِرَ. وَمِمَّنْ قَالَ
يَبْنِي فِي الْمَرَضِ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ
وَسُلَيْمَانُ بْنُ يَسَارٍ وَالْحَسَنُ وَالشَّعْبِيُّ
وَعَطَاءٌ وَمُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ وَطَاوُسٌ. وَقَالَ سَعِيدُ
بْنُ جُبَيْرٍ وَالنَّخَعِيُّ وَالْحَكَمُ بْنُ عُيَيْنَةَ
وَعَطَاءٌ الْخُرَاسَانِيُّ: يَسْتَأْنِفُ فِي الْمَرَضِ،
وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَصْحَابِهِ وَالْحَسَنِ بْنِ
حَيٍّ، وَأَحَدُ قَوْلَيِ الشَّافِعِيِّ، وَلَهُ قَوْلٌ آخَرُ:
أَنَّهُ يَبْنِي كَمَا قَالَ مَالِكٌ. وَقَالَ ابْنُ
شُبْرُمَةَ: يَقْضِي ذَلِكَ الْيَوْمَ وَحْدَهُ إِنْ كَانَ
عُذْرٌ غَالِبٌ كَصَوْمِ رَمَضَانَ. قَالَ أَبُو عُمَرَ:
حُجَّةُ مَنْ قَالَ يَبْنِي لِأَنَّهُ مَعْذُورٌ فِي قَطْعِ
التَّتَابُعِ لِمَرَضِهِ وَلَمْ يَتَعَمَّدْ، وَقَدْ تَجَاوَزَ
اللَّهُ عَنْ غَيْرِ الْمُتَعَمِّدِ. وَحُجَّةُ مَنْ قَالَ
يَسْتَأْنِفُ لِأَنَّ التَّتَابُعَ فَرْضٌ لَا يَسْقُطُ
لِعُذْرٍ، وَإِنَّمَا يَسْقُطُ الْمَأْثَمُ، قِيَاسًا عَلَى
الصَّلَاةِ، لأنها ركعات متتابعات فإذا قطعها عذرا ستأنف
وَلَمْ يَبْنِ. التَّاسِعَةُ عَشْرَةَ- قَوْلُهُ تَعَالَى:
(تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ) نَصْبٌ عَلَى الْمَصْدَرِ،
وَمَعْنَاهُ رُجُوعًا. وَإِنَّمَا مَسَّتْ حَاجَةُ الْمُخْطِئِ
إِلَى التَّوْبَةِ لِأَنَّهُ لَمْ يَتَحَرَّزْ وَكَانَ مِنْ
حَقِّهِ أَنْ يَتَحَفَّظَ. وَقِيلَ: أَيْ فَلْيَأْتِ
بِالصِّيَامِ تَخْفِيفًا مِنَ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِ
بِقَبُولِ الصَّوْمِ بَدَلًا عَنِ الرَّقَبَةِ، وَمِنْهُ
قَوْلُهُ تَعَالَى: (عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ
تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتابَ عَلَيْكُمْ «1»). أَيْ
خَفَّفَ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: (عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ
فَتابَ عَلَيْكُمْ «2»). الْمُوَفِّيَةُ عِشْرِينَ- (وَكانَ
اللَّهُ) أَيْ فِي أَزَلِهِ وَأَبَدِهِ. (عَلِيماً) بِجَمِيعِ
الْمَعْلُومَاتِ. (حَكِيماً) فِيمَا حَكَمَ وأبرم.
[سورة النساء (4): آية 93]
وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ
خالِداً فِيها وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ
لَهُ عَذاباً عَظِيماً (93)
__________
(1). راجع ج 2 ص 314.
(2). راجع ج 19 ص 50 [ ..... ]
(5/328)
فِيهِ سَبْعُ مَسَائِلَ: الْأُولَى-
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَمَنْ يَقْتُلْ) (مَنْ) شَرْطٌ،
وَجَوَابُهُ (فَجَزاؤُهُ) وَسَيَأْتِي. وَاخْتَلَفَ
الْعُلَمَاءُ فِي صِفَةِ الْمُتَعَمِّدِ فِي الْقَتْلِ،
فَقَالَ عَطَاءٌ وَالنَّخَعِيُّ وَغَيْرُهُمَا: هُوَ مَنْ
قَتَلَ بِحَدِيدَةٍ كَالسَّيْفِ وَالْخِنْجَرِ وَسِنَانِ
الرُّمْحِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنَ الْمَشْحُوذِ «1» [الْمُعَدِّ
لِلْقَطْعِ «2»] أَوْ بِمَا يُعْلَمُ أَنَّ فِيهِ الْمَوْتَ
مِنْ ثِقَالِ الْحِجَارَةِ وَنَحْوِهَا. وَقَالَتْ فِرْقَةٌ:
الْمُتَعَمِّدُ كُلُّ مَنْ قَتَلَ بِحَدِيدَةٍ كَانَ الْقَتْلُ
أَوْ بِحَجَرٍ أَوْ بِعَصًا أَوْ بِغَيْرِ ذَلِكَ، وَهَذَا
قَوْلُ الْجُمْهُورِ. الثَّانِيةُ- ذَكَرَ اللَّهُ عَزَّ
وَجَلَّ فِي كِتَابِهِ الْعَمْدَ وَالْخَطَأَ وَلَمْ يَذْكُرْ
شِبْهَ الْعَمْدِ وَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي الْقَوْلِ
بِهِ، فَقَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَنْكَرَ ذَلِكَ مَالِكٌ،
وَقَالَ: لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِلَّا الْعَمْدُ
وَالْخَطَأُ. وَذَكَرَهُ الْخَطَّابِيُّ أَيْضًا عَنْ مَالِكٍ
وَزَادَ: وَأَمَّا شِبْهُ الْعَمْدِ فَلَا نَعْرِفُهُ. قَالَ
أَبُو عُمَرَ: أَنْكَرَ مَالِكٌ وَاللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ
شِبْهَ الْعَمْدِ، فَمَنْ قَتَلَ عِنْدَهُمَا بِمَا لَا
يَقْتُلُ مِثْلُهُ غَالِبًا كَالْعَضَّةِ وَاللَّطْمَةِ
وَضَرْبَةِ السَّوْطِ وَالْقَضِيبِ وَشِبْهِ ذَلِكَ فَإِنَّهُ
عَمْدٌ وَفِيهِ الْقَوَدُ. قَالَ أَبُو عُمَرَ: وَقَالَ
بِقَوْلِهِمَا جَمَاعَةٌ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ.
وَذَهَبَ جُمْهُورُ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ إِلَى أَنَّ هَذَا
كُلَّهُ شِبْهُ الْعَمْدِ. وَقَدْ ذُكِرَ عَنْ مَالِكٍ
وَقَالَهُ ابْنُ وَهْبٍ وَجَمَاعَةٌ مِنَ الصَّحَابَةِ
وَالتَّابِعِينَ. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: وَشِبْهُ الْعَمْدِ
يُعْمَلُ بِهِ عِنْدَنَا. وَمِمَّنْ أَثْبَتَ شِبْهَ الْعَمْدِ
الشعبي والحكم وحماد والنخعي وقتادة وسفيان الثري وَأَهْلُ
الْعِرَاقِ وَالشَّافِعِيُّ، وَرُوِّينَا ذَلِكَ عَنْ عُمَرُ
بْنُ الْخَطَّابِ وَعَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُمَا. قُلْتُ: وَهُوَ الصَّحِيحُ، فَإِنَّ الدِّمَاءَ
أَحَقُّ مَا احْتِيطَ لَهَا إِذِ الْأَصْلُ صِيَانَتُهَا في
أهبها «3»، فلا تستباح إلا بأمر بين لَا إِشْكَالَ فِيهِ،
وَهَذَا فِيهِ إِشْكَالٌ، لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ مُتَرَدِّدًا
بَيْنَ الْعَمْدِ وَالْخَطَأِ حُكِمَ لَهُ بِشِبْهِ الْعَمْدِ،
فَالضَّرْبُ مَقْصُودٌ وَالْقَتْلُ غَيْرُ مَقْصُودٍ،
وَإِنَّمَا وَقَعَ بِغَيْرِ الْقَصْدِ فَيَسْقُطُ الْقَوَدُ
وَتُغَلَّظُ الدِّيَةُ. وَبِمِثْلِ هَذَا جَاءَتِ السُّنَّةُ،
رَوَى أَبُو دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو
أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
قَالَ: (أَلَا إِنَّ دِيَةَ الْخَطَأِ شِبْهَ الْعَمْدِ مَا
كَانَ بِالسَّوْطِ وَالْعَصَا مِائَةٌ مِنَ الْإِبِلِ مِنْهَا
أَرْبَعُونَ فِي بُطُونِهَا أَوْلَادُهَا (. وَرَوَى
الدَّارَقُطْنِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ
__________
(1). في ط: المحدد.
(2). زيادة عن ابن عطية.
(3). الأهب (بضمتين جمع الإهاب): الجلد.
(5/329)
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: (الْعَمْدُ قَوَدُ الْيَدِ وَالْخَطَأُ عَقْلٌ لَا
قَوَدَ فِيهِ وَمَنْ قُتِلَ فِي عِمِّيَّةٍ «1» بِحَجَرٍ أَوْ
عَصًا أَوْ سَوْطٍ فَهُوَ دِيَةٌ مُغَلَّظَةٌ فِي أَسْنَانِ
الْإِبِلِ). وروي أيضا من حديث سليما بْنِ مُوسَى عَنْ عَمْرِو
بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ قَالَ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (عَقْلُ شِبْهِ
الْعَمْدِ مُغَلَّظٌ مِثْلُ قَتْلِ الْعَمْدِ وَلَا يُقْتَلُ
صَاحِبُهُ). وَهَذَا نَصٌّ. وَقَالَ طَاوُسٌ فِي الرَّجُلِ
يُصَابُ في الرِّمِيَّا «2» فِي الْقِتَالِ بِالْعَصَا أَوِ
السَّوْطِ أَوِ التَّرَامِي بِالْحِجَارَةِ. يُودَى وَلَا
يُقْتَلُ بِهِ مِنْ أَجْلِ أَنَّهُ لَا يُدْرَى مَنْ
قَاتِلُهُ. وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ: الْعِمِيَّا هُوَ
الْأَمْرُ الْأَعْمَى «3» لِلْعَصَبِيَّةِ لَا تَسْتَبِينُ مَا
وَجْهُهُ. وَقَالَ إِسْحَاقُ: هَذَا فِي تَحَارُجِ «4»
الْقَوْمِ وَقَتْلِ بَعْضِهِمْ بَعْضًا. فَكَأَنَّ أَصْلَهُ
مِنَ التَّعْمِيَةِ وَهُوَ التَّلْبِيسُ، ذَكَرَهُ
الدَّارَقُطْنِيُّ. مَسْأَلَةٌ- وَاخْتَلَفَ الْقَائِلُونَ
بِشِبْهِ الْعَمْدِ فِي الدِّيَةِ الْمُغَلَّظَةِ، فَقَالَ
عَطَاءٌ وَالشَّافِعِيُّ: هِيَ ثَلَاثُونَ حِقَّةً «5»
وَثَلَاثُونَ جَذَعَةً وَأَرْبَعُونَ خَلِفَةً. وَقَدْ رُوِيَ
هَذَا الْقَوْلُ عَنْ عُمَرَ وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ
وَالْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ وَأَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ،
وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ حَيْثُ يَقُولُ بِشِبْهِ الْعَمْدِ،
وَمَشْهُورُ مَذْهَبِهِ أَنَّهُ لَمْ يَقُلْ بِهِ إِلَّا فِي
مثل قصة المدلجي بابنه حيث ضربه با لسيف. وَقِيلَ: هِيَ
مُرَبَّعَةٌ رُبُعُ بَنَاتِ لَبُونٍ، وَرُبُعُ حِقَاقٍ،
وَرُبُعُ جِذَاعٍ، وَرُبُعُ بَنَاتِ مَخَاضٍ. هَذَا قَوْلُ
النُّعْمَانِ وَيَعْقُوبَ، وَذَكَرَهُ أَبُو دَاوُدَ عَنْ
سُفْيَانَ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ عَاصِمِ بْنِ ضَمْرَةَ
عَنْ عَلِيٍّ. وَقِيلَ: هِيَ مُخَمَّسَةٌ: عِشْرُونَ بِنْتَ
مَخَاضٍ وَعِشْرُونَ بِنْتَ لَبُونٍ وَعِشْرُونَ ابْنَ لَبُونٍ
وَعِشْرُونَ حِقَّةً وَعِشْرُونَ جَذَعَةً، هَذَا قَوْلُ أَبِي
ثَوْرٍ. وَقِيلَ: أَرْبَعُونَ جَذَعَةً إِلَى بَازِلِ عامها
وثلاثون حقة،
__________
(1). العمية (بكسر العين والميم وتشديد الياء) أي في حال يعمى
أمره ولا يتبين قاتله ولا حال قتله.
(2). الرميا: بكسر وتشديد وقصر، بوزن الهجيرى من الرمي، مصدر
يراد به المبالغة.
(3). في ج: العمى.
(4). كذا في ج، ط: أي وقعوا في حرج. وفى ى: تخارج.
(5). قال أبو داود في صحيحه: (قال أبو عبيد وغير واحد: إذا
دخلت الناقة في السنة الرابعة فهو حق والأنثى حقه، لأنه يستحق
أن يحمل عليه ويركب، فإذا دخل في الخامسة فهو جذع وجذعة، فإذا
دخل في السادسة وألقى ثنيته فهو ثنى، فإذا دخل في السابعة فهو
رباع ورباعية، فإذا دخل في الثامنة وألقى السن الذي بعد
الرباعية فهو سد يس وسدس، فإذا دخل في التاسعة فطرنا به وطلع
فهو بازل، فإذا دخل في العاشرة فهو مخلف، ثم ليس له اسم ولكن
يقال: بازل عام وبازل عامين، ومخلف عام ومخلف عامين إلى ما
زاد. وقال النضر بن تحميل: ابنة مخاض لسنة وابنة لبون لسنتين،
وحقة لثلاث وجذعة لا ربع والثني لخمس ورباع لست وسديس لسبع
وبازل لثمان.
(5/330)
وَثَلَاثُونَ بَنَاتِ لَبُونٍ. وَرُوِيَ
عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ وَبِهِ قَالَ الْحَسَنُ
الْبَصْرِيُّ وَطَاوُسٌ وَالزُّهْرِيُّ. وَقِيلَ: أَرْبَعٌ
وَثَلَاثُونَ خَلِفَةً إِلَى بَازِلِ عَامِهَا، وَثَلَاثٌ
وَثَلَاثُونَ حِقَّةً، وَثَلَاثٌ وَثَلَاثُونَ جَذَعَةً،
وَبِهِ قَالَ الشَّعْبِيُّ وَالنَّخَعِيُّ، وَذَكَرَهُ أَبُو
دَاوُدَ عَنْ أَبِي الْأَحْوَصِ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ
عَاصِمِ بْنِ ضَمْرَةَ عَنْ عَلِيٍّ. الثَّالِثَةُ-
وَاخْتَلَفُوا فِيمَنْ تَلْزَمُهُ دِيَةٌ شِبْهُ الْعَمْدِ،
فَقَالَ الْحَارِثُ الْعُكْلِيُّ وَابْنُ أَبِي لَيْلَى
وَابْنُ شُبْرُمَةَ وَقَتَادَةُ وَأَبُو ثَوْرٍ: هُوَ عَلَيْهِ
فِي مَالِهِ. وَقَالَ الشَّعْبِيُّ وَالنَّخَعِيُّ وَالْحَكَمُ
وَالشَّافِعِيُّ وَالثَّوْرِيُّ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ
وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ: هُوَ عَلَى الْعَاقِلَةِ. قَالَ ابْنُ
الْمُنْذِرِ: قَوْلُ الشَّعْبِيِّ أَصَحُّ، لِحَدِيثِ أَبِي
هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ جَعَلَ دِيَةَ الْجَنِينِ عَلَى عَاقِلَةِ
الضَّارِبَةِ. الرَّابِعَةُ- أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى
أَنَّ الْعَاقِلَةَ لَا تَحْمِلُ دِيَةَ الْعَمْدِ وَأَنَّهَا
فِي مَالِ الْجَانِي، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهَا فِي
(الْبَقَرَةِ «1»). وَقَدْ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ عَلَى
الْقَاتِلِ خَطَأً الْكَفَّارَةَ، وَاخْتَلَفُوا فِيهَا فِي
قَتْلِ الْعَمْدِ، فَكَانَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ يَرَيَانِ
عَلَى قَاتِلِ الْعَمْدِ الْكَفَّارَةَ كَمَا فِي الْخَطَأِ.
قَالَ الشَّافِعِيُّ: إِذَا وَجَبَتِ الْكَفَّارَةُ فِي
الْخَطَأِ فَلَأَنْ تَجِبُ فِي الْعَمْدِ أَوْلَى. وَقَالَ:
إِذَا شُرِعَ السُّجُودُ فِي السَّهْوِ فَلَأَنْ يُشْرَعَ فِي
الْعَمْدِ أَوْلَى، وَلَيْسَ مَا ذَكَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى
فِي كَفَّارَةِ الْعَمْدِ بِمُسْقِطٍ مَا قَدْ وَجَبَ فِي
الْخَطَأِ. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ الْقَاتِلَ عَمْدًا إِنَّمَا
تَجِبُ عَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ إِذَا عُفِيَ عَنْهُ فَلَمْ
يُقْتَلْ، فَأَمَّا إِذَا قُتِلَ قَوَدًا فَلَا كَفَّارَةَ
عَلَيْهِ تُؤْخَذُ مِنْ مَالِهِ. وَقِيلَ تَجِبُ. وَمَنْ
قَتَلَ نَفْسَهُ فَعَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ فِي مَالِهِ.
وَقَالَ الثَّوْرِيُّ وَأَبُو ثَوْرٍ وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ:
لَا تَجِبُ الْكَفَّارَةُ إِلَّا حَيْثُ أَوْجَبَهَا اللَّهُ
تَعَالَى. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: وَكَذَلِكَ نَقُولُ،
لِأَنَّ الْكَفَّارَاتِ عِبَادَاتٌ وَلَا يَجُوزُ
التَّمْثِيلُ. وَلَيْسَ يَجُوزُ لِأَحَدٍ أَنْ يَفْرِضَ
فَرْضًا يُلْزِمُهُ عِبَادَ اللَّهِ إِلَّا بِكِتَابٍ أَوْ
سُنَّةٍ أَوْ إِجْمَاعٍ، وَلَيْسَ مَعَ مَنْ فَرَضَ عَلَى
الْقَاتِلِ عَمْدًا كَفَّارَةً حُجَّةٌ مِنْ حَيْثُ ذُكِرَتْ.
الْخَامِسَةُ- وَاخْتَلَفُوا فِي الْجَمَاعَةِ يَقْتُلُونَ
الرَّجُلَ خَطَأً، فَقَالَتْ طَائِفَةٌ: عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ
مِنْهُمُ الْكَفَّارَةُ، كَذَلِكَ قَالَ الْحَسَنُ
وَعِكْرِمَةُ وَالنَّخَعِيُّ وَالْحَارِثُ العكلي ومالك
والثوري والشافعي
__________
(1). راجع ج 2 ص 252.
(5/331)
وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ وَأَبُو ثَوْرٍ
وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ. وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: عَلَيْهِمْ
كُلُّهُمْ كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ، هَكَذَا قَالَ أَبُو ثَوْرٍ،
وَحُكِيَ ذَلِكَ عَنِ الْأَوْزَاعِيِّ. وَفَرَّقَ الزُّهْرِيُّ
بَيْنَ الْعِتْقِ وَالصَّوْمِ، فَقَالَ فِي الْجَمَاعَةِ
يَرْمُونَ بِالْمَنْجَنِيقِ فَيَقْتُلُونَ رَجُلًا: عَلَيْهِمْ
كُلُّهُمْ عِتْقُ رَقَبَةٍ، وَإِنْ كَانُوا لَا يَجِدُونَ
فَعَلَى كُلٍّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ صَوْمُ شَهْرَيْنِ
مُتَتَابِعَيْنِ. السَّادِسَةُ رَوَى النَّسَائِيُّ:
أَخْبَرَنَا الْحَسَنُ بْنُ إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ ثِقَةٌ
قال حدثني خَالِدُ بْنُ خِدَاشٍ قَالَ حَدَّثَنَا حَاتِمُ بْنُ
إِسْمَاعِيلَ عَنِ بَشِيرِ بْنِ الْمُهَاجِرِ عَنْ عَبْدِ
اللَّهِ بْنِ بُرَيْدَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ قَالَ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (قَتْلُ
الْمُؤْمِنِ أَعْظَمُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ زَوَالِ
الدُّنْيَا). وَرُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ قَالَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (أَوَّلُ
مَا يُحَاسَبُ بِهِ الْعَبْدُ الصَّلَاةُ وَأَوَّلُ مَا
يُقْضَى بَيْنَ النَّاسِ فِي الدِّمَاءِ). وَرَوَى
إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِسْحَاقَ عَنْ نَافِعِ بْنِ جُبَيْرِ ابن
مُطْعِمٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ سأله
سَائِلٌ فَقَالَ: يَا أَبَا الْعَبَّاسِ، هَلْ لِلْقَاتِلِ
تَوْبَةٌ؟ فَقَالَ لَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ كَالْمُتَعَجِّبِ مِنْ
مَسْأَلَتِهِ: مَاذَا تَقُولُ! مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا.
ثُمَّ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَيْحَكَ! أَنَّى «1» لَهُ
تَوْبَةٌ! سَمِعْتُ نَبِيَّكُمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ يَقُولُ: (يَأْتِي الْمَقْتُولُ مُعَلِّقًا رَأْسَهُ
بِإِحْدَى يَدَيْهِ مُتَلَبِّبًا قاتله بيده الأخرى تشخب أو
داجة دَمًا حَتَّى يُوقَفَا فَيَقُولُ الْمَقْتُولُ لِلَّهِ
سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى رَبِّ هَذَا قَتَلَنِي فَيَقُولُ
اللَّهُ تَعَالَى لِلْقَاتِلِ تَعِسْتَ وَيُذْهَبُ بِهِ إِلَى
النَّارِ (. وَعَنِ الْحَسَنِ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:) ما نازلت ربي في شي مَا
نَازَلْتُهُ «2» فِي قَتْلِ الْمُؤْمِنِ فَلَمْ يُجِبْنِي (.
السَّابِعَةُ- وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي قَاتِلِ الْعَمْدِ
هَلْ له من توبة؟ فروى البخاري عن سعيد ابن جُبَيْرٍ قَالَ:
اخْتَلَفَ فِيهَا أَهْلُ الْكُوفَةِ، فَرَحَلْتُ فِيهَا إِلَى
ابْنِ عَبَّاسٍ فَسَأَلْتُهُ عَنْهَا فَقَالَ: نَزَلَتْ هَذِهِ
الْآيَةُ (وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ
جَهَنَّمُ) هِيَ آخِرُ مَا نَزَلَ وَمَا نسخها شي. وَرَوَى
النَّسَائِيُّ عَنْهُ قَالَ: سَأَلْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ هَلْ
لِمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا مِنْ تَوْبَةٍ؟ قَالَ:
لَا. وَقَرَأْتُ عَلَيْهِ الْآيَةَ الَّتِي فِي الْفُرْقَانِ:
(وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ «3»
قَالَ: هَذِهِ آيَةٌ مَكِّيَّةٌ نَسَخَتْهَا آيَةٌ مَدَنِيَّةٌ
(وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ
جَهَنَّمُ خالدا فيها وغضب الله عليه). وروي
__________
(1). في ز: أله توبة؟.
(2). نازلت ربى: راجعته وسألته مرة بعد أخرى.
(3). راجع ج 13 ص 75.
(5/332)
عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ نَحْوُهُ،
وَإِنَّ آيَةَ النِّسَاءِ نَزَلَتْ بَعْدَ آيَةِ الْفُرْقَانِ
بِسِتَّةِ أَشْهُرٍ، وَفِي رِوَايَةٍ بِثَمَانِيَةِ أَشْهُرٍ،
ذَكَرَهُمَا النَّسَائِيُّ عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ. وَإِلَى
عُمُومِ هَذِهِ الْآيَةِ مَعَ هَذِهِ الْأَخْبَارِ عَنْ زَيْدٍ
وَابْنِ عَبَّاسٍ ذَهَبَتِ الْمُعْتَزِلَةُ وَقَالُوا: هَذَا
مُخَصِّصٌ عُمُومَ قَوْلِهِ تَعَالَى: (وَيَغْفِرُ مَا دُونَ
ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ) وَرَأَوْا أَنَّ الْوَعِيدَ نَافِذٌ
حَتْمًا عَلَى كُلِّ قَاتِلٍ، فَجَمَعُوا بَيْنَ الْآيَتَيْنِ
بِأَنْ قَالُوا: التَّقْدِيرُ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ
لِمَنْ يَشَاءُ إِلَّا مَنْ قَتَلَ عَمْدًا. وَذَهَبَ
جَمَاعَةٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ مِنْهُمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ
عُمَرَ- وَهُوَ أَيْضًا مَرْوِيٌّ عَنْ زَيْدٍ وَابْنِ
عَبَّاسٍ- إِلَى أَنَّ لَهُ تَوْبَةً. رَوَى يَزِيدُ بْنُ
هَارُونَ قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو مَالِكٍ الْأَشْجَعِيُّ
عَنْ سَعْدِ بْنِ عُبَيْدَةَ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى ابْنِ
عَبَّاسٍ فَقَالَ أَلِمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا
تَوْبَةٌ؟ قَالَ: لَا، إِلَّا النَّارَ، قَالَ: فَلَمَّا
ذَهَبَ قَالَ لَهُ جُلَسَاؤُهُ: أَهَكَذَا كُنْتَ تُفْتِينَا؟
كُنْتَ تُفْتِينَا أَنَّ لِمَنْ قَتَلَ تَوْبَةً مَقْبُولَةً،
قَالَ: إِنِّي لا حسبه رَجُلًا مُغْضَبًا يُرِيدُ أَنْ
يَقْتُلَ مُؤْمِنًا. قَالَ: فَبَعَثُوا فِي إِثْرِهِ
فَوَجَدُوهُ كَذَلِكَ. وَهَذَا مَذْهَبُ أَهْلِ السُّنَّةِ
وَهُوَ الصَّحِيحُ، وَإِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مَخْصُوصَةٌ،
وَدَلِيلُ التَّخْصِيصِ آيَاتٌ وَأَخْبَارٌ. وَقَدْ أَجْمَعُوا
عَلَى أَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي مَقِيسِ بْنِ ضبابة «1»،
وَذَلِكَ أَنَّهُ كَانَ قَدْ أَسْلَمَ هُوَ وَأَخُوهُ هشام بن
ضبابة، فَوَجَدَ هِشَامًا قَتِيلًا فِي بَنِي النَّجَّارِ
فَأَخْبَرَ بِذَلِكَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ، فَكَتَبَ لَهُ إِلَيْهِمْ أَنْ يَدْفَعُوا إِلَيْهِ
قَاتِلَ أَخِيهِ وَأَرْسَلَ مَعَهُ رَجُلًا مِنْ بَنِي فِهْرٍ،
فَقَالَ بَنُو النَّجَّارِ: وَاللَّهِ مَا نَعْلَمُ لَهُ
قَاتِلًا وَلَكِنَّا نُؤَدِّي الدِّيَةَ، فَأَعْطَوْهُ مِائَةً
مِنَ الْإِبِلِ، ثُمَّ انْصَرَفَا رَاجِعَيْنِ إِلَى
الْمَدِينَةِ فَعَدَا مَقِيسٌ عَلَى الْفِهْرِيِّ فَقَتَلَهُ
بِأَخِيهِ وَأَخَذَ الْإِبِلَ وَانْصَرَفَ إِلَى مَكَّةَ
كَافِرًا مُرْتَدًّا، وَجَعَلَ يُنْشِدُ:
قَتَلْتُ بِهِ فِهْرًا وَحَمَّلْتُ عَقْلَهُ ... سَرَاةَ بَنِي
النَّجَّارِ أَرْبَابَ فَارِعِ «2»
حَلَلْتُ بِهِ وَتْرِي وَأَدْرَكْتُ ثَوْرَتِي ... وَكُنْتُ
إِلَى الْأَوْثَانِ أَوَّلَ رَاجِعِ
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
(لَا أُؤَمِّنُهُ فِي حِلٍّ وَلَا حَرَمٍ). وَأَمَرَ
بِقَتْلِهِ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ وَهُوَ مُتَعَلِّقٌ
بِالْكَعْبَةِ. وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا بِنَقْلِ أَهْلِ
التَّفْسِيرِ وَعُلَمَاءِ الدِّينِ فَلَا يَنْبَغِي أَنْ
يُحْمَلَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، ثُمَّ لَيْسَ الْأَخْذُ
بِظَاهِرِ الْآيَةِ بِأَوْلَى مِنَ الْأَخْذِ بِظَاهِرِ قوله:
__________
(1). كذا في ج والطبري والعسقلاني. وفى ا، ط، ز، ى وابن عطية:
صبابة. وفي القاموس وشرحه: حبابة. بالحاء.
(2). فارع: حصن بالمدينة. [ ..... ]
(5/333)
(إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ
السَّيِّئاتِ «1» (وَقَوْلُهُ تَعَالَى:) وَهُوَ الَّذِي
يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ «2» (وَقَوْلُهُ:)
وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ (. وَالْأَخْذُ
بِالظَّاهِرَيْنِ تَنَاقُضٌ فَلَا بُدَّ مِنَ التَّخْصِيصِ.
ثُمَّ إِنَّ الْجَمْعَ بَيْنَ آيَةِ (الْفُرْقَانِ) وَهَذِهِ
الْآيَةِ مُمْكِنٌ فَلَا نَسْخَ وَلَا تَعَارُضَ، وَذَلِكَ
أَنْ يُحْمَلَ مُطْلَقُ آيَةِ (النِّسَاءِ) عَلَى مُقَيَّدِ
آيَةِ (الْفُرْقَانِ) فَيَكُونُ مَعْنَاهُ فَجَزَاؤُهُ كَذَا
إِلَّا مَنْ تَابَ، لَا سِيَّمَا وَقَدِ اتَّحَدَ الْمُوجِبُ
وَهُوَ الْقَتْلُ وَالْمُوجَبُ وَهُوَ التَّوَاعُدُ
بِالْعِقَابِ. وَأَمَّا الْأَخْبَارُ فَكَثِيرَةٌ كَحَدِيثِ
عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ الَّذِي قَالَ فِيهِ:
(تُبَايِعُونِي عَلَى أَلَّا تُشْرِكُوا بِاللَّهِ شَيْئًا
وَلَا تَزْنُوا وَلَا تَسْرِقُوا وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ
الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ فَمَنْ وَفَّى
مِنْكُمْ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَمَنْ أَصَابَ شَيْئًا
مِنْ ذَلِكَ فَعُوقِبَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ
أَصَابَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا فَسَتَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ
فَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ إِنْ شَاءَ عَفَا عَنْهُ وَإِنْ
شَاءَ عَذَّبَهُ»
(. رَوَاهُ الْأَئِمَّةُ أَخْرَجَهُ الصَّحِيحَانِ.
وَكَحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الَّذِي قَتَلَ مِائَةَ نَفْسٍ.
أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ وَابْنُ مَاجَهْ فِي
سُنَنِهِ وَغَيْرِهِمَا إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَخْبَارِ
الثَّابِتَةِ. ثُمَّ إِنَّهُمْ قَدْ أَجْمَعُوا مَعَنَا فِي
الرَّجُلِ يُشْهَدُ عَلَيْهِ بِالْقَتْلِ، وَيُقِرُّ بِأَنَّهُ
قَتَلَ عَمْدًا، وَيَأْتِي السُّلْطَانَ الْأَوْلِيَاءُ
فَيُقَامُ عَلَيْهِ الْحَدُّ وَيُقْتَلُ قَوَدًا، فَهَذَا
غَيْرُ مُتَّبَعٍ فِي الْآخِرَةِ، وَالْوَعِيدُ غَيْرُ نَافِذٍ
عَلَيْهِ إِجْمَاعًا عَلَى مُقْتَضَى حَدِيثِ عُبَادَةَ،
فَقَدِ انْكَسَرَ عَلَيْهِمْ مَا تَعَلَّقُوا بِهِ مِنْ
عُمُومِ قَوْلِهِ تَعَالَى: (وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً
مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ) وَدَخَلَهُ التَّخْصِيصُ
بِمَا ذَكَرْنَا، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَالْوَجْهُ أَنَّ
هَذِهِ الْآيَةَ مَخْصُوصَةٌ كَمَا بَيَّنَّا، أَوْ تَكُونُ
مَحْمُولَةٌ عَلَى مَا حُكِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ
قَالَ: مُتَعَمِّدًا [مَعْنَاهُ «4»] مُسْتَحِلًّا لِقَتْلِهِ،
فَهَذَا أَيْضًا يَئُولُ إِلَى الْكُفْرِ إِجْمَاعًا.
وَقَالَتْ جَمَاعَةٌ: إِنَّ الْقَاتِلَ فِي الْمَشِيئَةِ تَابَ
أَوْ لَمْ يَتُبْ، قَالَهُ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ.
فَإِنْ قِيلَ: إِنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: (فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ
خالِداً فِيها وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ) دَلِيلٌ
عَلَى كُفْرِهِ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يَغْضَبُ إِلَّا
عَلَى كَافِرٍ خَارِجٍ مِنَ الْإِيمَانِ. قُلْنَا: هَذَا
وَعِيدٌ، وَالْخُلْفُ فِي الْوَعِيدِ كَرَمٌ، كَمَا قَالَ:
وَإِنِّي مَتَى أَوْعَدْتُهُ أَوْ وَعَدْتُهُ ... لَمُخْلِفُ
إِيعَادِي وَمُنْجِزُ مَوْعِدِي
وَقَدْ تَقَدَّمَ. جَوَابٌ ثَانٍ- إِنْ جَازَاهُ بِذَلِكَ،
أَيْ هُوَ أَهْلٌ لِذَلِكَ وَمُسْتَحِقُّهُ لِعَظِيمِ
ذَنْبِهِ. نص على هذا أبو مجلز لا حق بْنُ حُمَيْدٍ وَأَبُو
صَالِحٍ وَغَيْرُهُمَا. وَرَوَى أَنَسُ بن مالك عن رسول الله
__________
(1). راجع ج 9 ص 108.
(2). راجع ج 16 ص 25 وج 8 ص 250.
(3). الحديث أثبتناه كما في صحيح مسلم.
(4). من ج، ط، ى، ز.
(5/334)
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ
قَالَ: (إِذَا وَعَدَ اللَّهُ لِعَبْدٍ ثَوَابًا فَهُوَ
مُنْجِزُهُ وَإِنْ أو عدله الْعُقُوبَةَ فَلَهُ الْمَشِيئَةُ
إِنْ شَاءَ عَاقَبَهُ وَإِنْ شَاءَ عَفَا عَنْهُ). وَفِي
هَذَيْنَ التَّأْوِيلَيْنِ دَخَلٌ، أَمَّا الْأَوَّلُ- فَقَالَ
الْقُشَيْرِيُّ: وَفِي هَذَا نَظَرٌ، لِأَنَّ كَلَامَ الرَّبِّ
لَا يَقْبَلُ الْخُلْفَ إِلَّا أَنْ يُرَادَ بِهَذَا تَخْصِيصُ
الْعَامِّ، فَهُوَ إِذًا جَائِزٌ فِي الْكَلَامِ. وَأَمَّا
الثَّانِي- وَإِنْ رُوِيَ أَنَّهُ مَرْفُوعٌ فَقَالَ
النَّحَّاسُ: وَهَذَا الْوَجْهُ الْغَلَطُ فيه بين، وقد قال
الله عز ح وَجَلَّ: (ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِمَا
كَفَرُوا) 1 وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ: إِنْ جَازَاهُمْ، وَهُوَ
خَطَأٌ فِي الْعَرَبِيَّةِ لِأَنَّ بَعْدَهُ (وَغَضِبَ اللَّهُ
عَلَيْهِ) وَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى مَعْنَى جَازَاهُ. وَجَوَابٌ
ثَالِثٌ- فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ إِنْ لَمْ يَتُبْ وَأَصَرَّ
عَلَى الذَّنْبِ حَتَّى وَافَى رَبَّهُ عَلَى الْكُفْرِ
بِشُؤْمِ الْمَعَاصِي. وَذَكَرَ هِبَةُ اللَّهِ فِي كِتَابِ
(النَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ) أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ
مَنْسُوخَةٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: (وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذلِكَ
لِمَنْ يَشاءُ)، وَقَالَ: هَذَا إِجْمَاعُ النَّاسِ إِلَّا
ابْنَ عَبَّاسٍ وَابْنَ عُمَرَ فَإِنَّهُمَا قَالَا هِيَ
مُحْكَمَةٌ. وَفِي هَذَا الَّذِي قال نَظَرٌ، لِأَنَّهُ
مَوْضِعُ عُمُومٍ وَتَخْصِيصٍ لَا مَوْضِعَ نَسْخٍ، قَالَهُ
ابْنُ عَطِيَّةَ. قُلْتُ: هَذَا حَسَنٌ، لِأَنَّ النَّسْخَ لَا
يَدْخُلُ الْأَخْبَارَ إِنَّمَا الْمَعْنَى فَهُوَ يَجْزِيهِ.
وَقَالَ النَّحَّاسُ فِي (مَعَانِي الْقُرْآنِ) لَهُ:
الْقَوْلُ فِيهِ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ أَهْلِ النَّظَرِ أَنَّهُ
مُحْكَمٌ وَأَنَّهُ يُجَازِيهِ إِذَا لَمْ يَتُبْ، فَإِنْ
تَابَ فَقَدْ بَيَّنَ أَمْرَهُ بِقَوْلِهِ: (وَإِنِّي
لَغَفَّارٌ لِمَنْ «1» تابَ) فَهَذَا لَا يَخْرُجُ عَنْهُ،
وَالْخُلُودُ لَا يَقْتَضِي الدَّوَامَ، قَالَ اللَّهُ
تَعَالَى: (وَما جَعَلْنا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ
«2») الْآيَةَ. وَقَالَ تَعَالَى: (يَحْسَبُ أَنَّ مالَهُ
أَخْلَدَهُ «3»). وَقَالَ زهير:
وَلَا خَالِدًا إِلَّا الْجِبَالَ الرَّوَاسِيَا «4»
وَهَذَا كُلُّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْخُلْدَ يُطْلَقُ عَلَى
غَيْرِ مَعْنَى التَّأْبِيدِ، فَإِنَّ هَذَا يَزُولُ بِزَوَالِ
الدُّنْيَا. وَكَذَلِكَ الْعَرَبُ تَقُولُ: لَأُخَلِّدَنَّ
فُلَانًا فِي السِّجْنِ، وَالسِّجْنُ يَنْقَطِعُ وَيَفْنَى،
وَكَذَلِكَ الْمَسْجُونُ. وَمِثْلُهُ قَوْلُهُمْ فِي
الدُّعَاءِ: خَلَّدَ اللَّهُ مُلْكَهُ وَأَبَّدَ أَيَّامَهُ.
وَقَدْ تَقَدَّمَ «5» هَذَا كُلُّهُ لَفْظًا وَمَعْنًى.
وَالْحَمْدُ لله.
__________
(1). راجع ج 11 ص 64، وص 229، وص 287.
(2). راجع ج 11 ص 64، وص 229، وص 287.
(3). راجع ج 20 ص 184.
(4). هذا عجز بيت. وصدره:
ألا لا أرى على الحوادث باقيا
(5). راجع ج 1 ص 241
(5/335)
يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ
فَتَبَيَّنُوا وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ
السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ
الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ
كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ
فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا
(94)
[سورة النساء (4): آية 94]
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ
اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقى
إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً تَبْتَغُونَ عَرَضَ
الْحَياةِ الدُّنْيا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغانِمُ كَثِيرَةٌ
كَذلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ
فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً
(94)
فِيهِ إِحْدَى عَشْرَةَ مَسْأَلَةً: الْأُولَى- قَوْلُهُ
تَعَالَى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ضَرَبْتُمْ
فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا) هَذَا مُتَّصِلٌ بِذِكْرِ
الْقَتْلِ وَالْجِهَادِ. وَالضَّرْبُ: السَّيْرُ فِي
الْأَرْضِ، تَقُولُ الْعَرَبُ: ضَرَبْتُ فِي الْأَرْضِ إِذَا
سِرْتُ لِتِجَارَةٍ أَوْ غَزْوٍ أَوْ غَيْرِهِ، مُقْتَرِنَةً
بِفِي. وَتَقُولُ: ضَرَبْتُ الْأَرْضَ، دُونَ (فِي) إِذَا
قَصَدْتَ قَضَاءَ حَاجَةِ الْإِنْسَانِ، وَمِنْهُ قَوْلُ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (لَا يَخْرُجُ
الرَّجُلَانِ يَضْرِبَانِ الْغَائِطَ يَتَحَدَّثَانِ
كَاشِفَيْنِ عَنْ فَرْجَيْهِمَا فَإِنَّ اللَّهَ يَمْقُتُ
عَلَى ذَلِكَ). وَهَذِهِ الْآيَةُ نَزَلَتْ فِي قَوْمٍ مِنَ
الْمُسْلِمِينَ مَرُّوا فِي سَفَرِهِمْ «1» بِرَجُلٍ مَعَهُ
جَمَلٌ وَغُنَيْمَةٌ يَبِيعُهَا فَسَلَّمَ عَلَى الْقَوْمِ
وَقَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ مُحَمَّدٌ رَسُولُ
اللَّهِ، فَحَمَلَ عَلَيْهِ أَحَدُهُمْ فَقَتَلَهُ. فَلَمَّا
ذُكِرَ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
شَقَّ عَلَيْهِ وَنَزَلَتِ الْآيَةُ. وَأَخْرَجَهُ
الْبُخَارِيُّ عَنْ عَطَاءٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ قَالَ
ابْنُ عَبَّاسٍ: كَانَ رَجُلٌ فِي غُنَيْمَةٍ لَهُ فَلَحِقَهُ
الْمُسْلِمُونَ فَقَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ، فَقَتَلُوهُ
وَأَخَذُوا غُنَيْمَتَهُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى ذَلِكَ
إِلَى قَوْلِهِ: (عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا) تِلْكَ
الْغُنَيْمَةُ. قَالَ: قَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ (السَّلَامَ).
فِي غَيْرِ الْبُخَارِيِّ: وَحَمَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دِيَتَهُ إِلَى أَهْلِهِ وَرَدَّ
عَلَيْهِ غُنَيْمَاتِهِ. وَاخْتُلِفَ فِي تَعْيِينِ الْقَاتِلِ
وَالْمَقْتُولِ فِي هَذِهِ النَّازِلَةِ، فَالَّذِي عَلَيْهِ
الْأَكْثَرُ وَهُوَ فِي سِيَرِ ابْنِ إِسْحَاقَ وَمُصَنَّفِ
أَبِي دَاوُدَ وَالِاسْتِيعَابِ لِابْنِ عَبْدِ الْبَرِّ أَنَّ
الْقَاتِلَ مُحَلِّمُ بْنُ جَثَّامَةَ، وَالْمَقْتُولُ عَامِرُ
بْنُ الْأَضْبَطِ فَدَعَا عَلَيْهِ السَّلَامُ عَلَى مُحَلِّمٍ
فَمَا عَاشَ بَعْدَ ذَلِكَ إِلَّا سَبْعًا ثُمَّ دُفِنَ فَلَمْ
تَقْبَلْهُ الْأَرْضُ ثُمَّ دُفِنَ فَلَمْ تَقْبَلْهُ ثُمَّ
دُفِنَ ثَالِثَةً فَلَمْ تَقْبَلْهُ، فَلَمَّا رَأَوْا أَنَّ
الْأَرْضَ لَا تَقْبَلُهُ أَلْقَوْهُ فِي بَعْضِ تِلْكَ
الشِّعَابِ، وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: (إِنَّ الْأَرْضَ
لَتَقْبَلُ مَنْ هُوَ شَرُّ مِنْهُ). قَالَ الْحَسَنُ: أَمَا
إِنَّهَا تَحْبِسُ مَنْ هُوَ
__________
(1). من ج، ط، ز.
(5/336)
شَرُّ مِنْهُ وَلَكِنَّهُ وَعَظَ الْقَوْمَ
أَلَّا يَعُودُوا. وَفِي سُنَنِ ابْنِ مَاجَهْ عَنْ عِمْرَانَ
بْنِ حُصَيْنٍ قَالَ: بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ [جَيْشًا «1»] مِنَ الْمُسْلِمِينَ إِلَى
الْمُشْرِكِينَ فَقَاتَلُوهُمْ قِتَالًا شَدِيدًا،
فَمَنَحُوهُمْ أَكْتَافَهُمْ فَحَمَلَ رَجُلٌ مِنْ لُحْمَتِي
عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ بِالرُّمْحِ فَلَمَّا
غَشِيَهُ قَالَ: أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ،
إِنِّي مُسْلِمٌ، فَطَعَنَهُ فَقَتَلَهُ، فَأَتَى رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: يَا رَسُولَ
اللَّهِ، هَلَكْتُ! قَالَ: (وَمَا الَّذِي صَنَعْتَ)؟ مَرَّةً
أَوْ مَرَّتَيْنِ، فَأَخْبَرَهُ بِالَّذِي صَنَعَ. فَقَالَ
لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
(فَهَلَّا شَقَقْتَ عَنْ بَطْنِهِ فَعَلِمْتَ مَا فِي
قَلْبِهِ) فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ لَوْ شَقَقْتُ
بَطْنَهُ أَكُنْتُ أَعْلَمُ مَا فِي قَلْبِهِ؟ قَالَ: (لَا
فَلَا أَنْتَ قَبِلْتَ مَا تَكَلَّمَ بِهِ وَلَا أَنْتَ
تَعْلَمُ مَا فِي قَلْبِهِ). فَسَكَتَ عَنْهُ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمْ يَلْبَثْ إِلَّا
يَسِيرًا حَتَّى مَاتَ فَدَفَنَّاهُ، فَأَصْبَحَ عَلَى وَجْهِ
الْأَرْضِ. فَقُلْنَا: لَعَلَّ عَدُوًّا نَبَشَهُ،
فَدَفَنَّاهُ ثُمَّ أَمَرْنَا غِلْمَانَنَا يَحْرُسُونَهُ
فَأَصْبَحَ عَلَى ظَهْرِ الْأَرْضِ. فَقُلْنَا: لَعَلَّ
الْغِلْمَانَ نَعَسُوا، فَدَفَنَّاهُ ثُمَّ حَرَسْنَاهُ
بِأَنْفُسِنَا فَأَصْبَحَ عَلَى ظَهْرِ الْأَرْضِ،
فَأَلْقَيْنَاهُ فِي بَعْضِ تِلْكَ الشِّعَابِ. وَقِيلَ: إِنَّ
الْقَاتِلَ أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ وَالْمَقْتُولُ مرداس ابن
نَهِيكٍ الْغَطَفَانِيُّ ثُمَّ الْفَزَارِيُّ مِنْ بَنِي
مُرَّةَ من أهل فدك. وقاله ابْنُ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ.
وَقِيلَ: كَانَ مِرْدَاسُ هَذَا قَدْ أَسْلَمَ مِنَ
اللَّيْلَةِ وَأَخْبَرَ بِذَلِكَ أَهْلَهُ، وَلَمَّا عَظَّمَ
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْأَمْرَ عَلَى
أُسَامَةَ حَلَفَ عِنْدَ ذَلِكَ أَلَّا يُقَاتِلَ رَجُلًا
يَقُولُ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ
الْقَوْلُ فِيهِ. وَقِيلَ: الْقَاتِلُ أَبُو قَتَادَةَ.
وَقِيلَ: أَبُو الدَّرْدَاءِ. وَلَا خِلَافَ أَنَّ الَّذِي
لَفَظَتْهُ الْأَرْضُ حِينَ مَاتَ هُوَ مُحَلِّمٌ الَّذِي
ذَكَرْنَاهُ. وَلَعَلَّ هَذِهِ الْأَحْوَالَ جَرَتْ فِي
زَمَانٍ مُتَقَارِبٍ فَنَزَلَتِ الْآيَةُ فِي الْجَمِيعِ.
وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ رَدَّ عَلَى أَهْلِ الْمُسْلِمِ الْغَنَمَ
وَالْجَمَلَ وَحَمَلَ دِيَتَهُ عَلَى طَرِيقِ الِائْتِلَافِ.
وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَذَكَرَ الثَّعْلَبِيُّ أَنَّ أَمِيرَ
تِلْكَ السَّرِيَّةِ رَجُلٌ يُقَالُ: لَهُ غَالِبُ بْنُ
فَضَالَةَ اللَّيْثِيُّ. وَقِيلَ: الْمِقْدَادُ. حَكَاهُ
السُّهَيْلِيُّ. الثَّانِيةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى:
(فَتَبَيَّنُوا) أي تأملوا. و (فَتَبَيَّنُوا) قِرَاءَةُ
الْجَمَاعَةِ، وَهُوَ اخْتِيَارُ أَبِي عُبَيْدٍ وَأَبِي
حَاتِمٍ، وَقَالَا: مَنْ أُمِرَ بِالتَّبَيُّنِ فَقَدْ أُمِرَ
بالتثبت، يُقَالُ: تَبَيَّنْتُ الْأَمْرَ وَتَبَيَّنَ
الْأَمْرُ بِنَفْسِهِ، فَهُوَ مُتَعَدٍّ وَلَازِمٍ. وَقَرَأَ
حَمْزَةُ (فَتَثَبَّتُوا) مِنَ التَّثَبُّتِ بالثاء مثلثة
وبعدها باء بواحدة.
__________
(1). من ج وط وز.
(5/337)
وفَتَبَيَّنُوا) فِي هَذَا أَوْكَدُ،
لِأَنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ يَتَثَبَّتُ ولا يتبين. وَفِي
(إِذا) مَعْنَى الشَّرْطِ، فَلِذَلِكَ دَخَلَتِ الْفَاءُ فِي
قَوْلِهِ (فَتَبَيَّنُوا). وَقَدْ يُجَازَى بِهَا كَمَا قَالَ:
وَإِذَا تُصِبْكَ خَصَاصَةٌ فَتَجَمَّلِ «1»
وَالْجَيِّدُ أَلَّا يُجَازَى بِهَا كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ:
وَالنَّفْسُ رَاغِبَةٌ إِذَا رَغَّبْتَهَا ... وَإِذَا تُرَدُّ
إِلَى قَلِيلٍ تَقْنَعُ
وَالتَّبَيُّنُ التَّثَبُّتُ فِي الْقَتْلِ وَاجِبٌ حَضَرًا
وَسَفَرًا وَلَا خِلَافَ فِيهِ، وَإِنَّمَا خُصَّ السَّفَرُ
بِالذِّكْرِ لِأَنَّ الْحَادِثَةَ الَّتِي فِيهَا نَزَلَتِ
الْآيَةُ وَقَعَتْ فِي السَّفَرِ. الثَّالِثَةُ- قَوْلُهُ
تَعَالَى: (وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقى إِلَيْكُمُ السَّلامَ
لَسْتَ مُؤْمِناً) السَّلَمُ والسلم، والسلام واحد، قاله
البخاري. وقرى بِهَا كُلُّهَا. وَاخْتَارَ أَبُو عُبَيْدٍ
الْقَاسِمُ بْنُ سَلَّامٍ (السَّلَامَ). وَخَالَفَهُ أَهْلُ
النَّظَرِ فَقَالُوا: (السَّلَمَ) هَاهُنَا أَشْبَهُ،
لِأَنَّهُ بِمَعْنَى الِانْقِيَادِ وَالتَّسْلِيمِ «2»، كَمَا
قَالَ عَزَّ وَجَلَّ: (فَأَلْقَوُا السَّلَمَ مَا كُنَّا
نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ «3») فَالسَّلَمُ الِاسْتِسْلَامُ
وَالِانْقِيَادُ. أَيْ لَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى بِيَدِهِ
وَاسْتَسْلَمَ لَكُمْ وأظهر دعوتكم «4» لست مؤمنا. وقيل:
السلام قوله السَّلَامِ عَلَيْكُمْ، وَهُوَ رَاجِعٌ إِلَى
الْأَوَّلِ، لِأَنَّ سَلَامَهُ بِتَحِيَّةِ الْإِسْلَامِ
مُؤْذِنٌ بِطَاعَتِهِ وَانْقِيَادِهِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ
يُرَادَ بِهِ الِانْحِيَازُ وَالتَّرْكُ. قَالَ الْأَخْفَشُ:
يُقَالُ [فُلَانٌ «5» [سَلَامٌ إِذَا كَانَ لَا يُخَالِطُ
أَحَدًا. وَالسِّلْمُ (بِشَدِّ السِّينِ وَكَسْرِهَا وَسُكُونِ
اللَّامِ) الصُّلْحُ «6». الرَّابِعَةُ- وَرُوِيَ عَنْ أَبِي
جَعْفَرٍ أَنَّهُ قَرَأَ (لَسْتَ مُؤْمَنًا) بِفَتْحِ الْمِيمِ
الثَّانِيةِ، مِنْ آمَنْتَهُ إِذَا أَجَرْتَهُ فَهُوَ
مُؤْمَنٌ. الْخَامِسَةُ- وَالْمُسْلِمُ إِذَا لَقِيَ
الْكَافِرَ وَلَا عَهْدَ لَهُ جَازَ لَهُ قَتْلُهُ، فَإِنْ
قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ لَمْ يَجُزْ قَتْلُهُ،
لِأَنَّهُ قَدِ اعْتَصَمَ بِعِصَامِ الْإِسْلَامِ الْمَانِعِ
مِنْ دَمِهِ وَمَالِهِ وَأَهْلِهِ: فَإِنْ قَتَلَهُ بَعْدَ
ذَلِكَ قُتِلَ بِهِ. وَإِنَّمَا سَقَطَ الْقَتْلُ عَنْ
هَؤُلَاءِ لِأَجْلِ أَنَّهُمْ كَانُوا فِي صَدْرِ الْإِسْلَامِ
وَتَأَوَّلُوا أَنَّهُ قَالَهَا مُتَعَوِّذًا وَخَوْفًا مِنَ
السِّلَاحِ، وَأَنَّ الْعَاصِمَ قَوْلُهَا مُطْمَئِنًّا،
فَأَخْبَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
أَنَّهُ عاصم
__________
(1). هذا عجز بيت وصدره:
واستغن ما أغناك ربك بالغنى
في ط وز وى: فتحمل بالمهملة وهي رواية.
(2). من ى.
(3). راجع ج 10 ص 99. [ ..... ]
(4). في اوج دعوته.
(5). من ابن عطية.
(6). من ابن عطية وج وط وز وى. وفى اوح: الصفح. فهو تصحيف.
(5/338)
كَيْفَمَا قَالَهَا، وَلِذَلِكَ قَالَ
لِأُسَامَةَ: (أَفَلَا شَقَقْتَ عَنْ قَلْبِهِ حَتَّى تَعْلَمَ
أَقَالَهَا أَمْ لَا) أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ. أَيْ تَنْظُرُ «1»
أَصَادِقٌ هُوَ فِي قَوْلِهِ أَمْ كَاذِبٌ؟ وَذَلِكَ لَا
يُمْكِنُ، فَلَمْ يَبْقَ إِلَّا أَنْ يُبِينَ عَنْهُ
لِسَانُهُ. وَفِي هَذَا مِنَ الْفِقْهِ بَابٌ عَظِيمٌ، وَهُوَ
أَنَّ الْأَحْكَامَ تُنَاطُ بِالْمَظَانِّ وَالظَّوَاهِرِ لَا
عَلَى الْقَطْعِ وَاطِّلَاعِ السَّرَائِرِ. السَّادِسَةُ-
فَإِنْ قَالَ: سَلَامٌ عَلَيْكُمْ فَلَا يَنْبَغِي أَنْ
يُقْتَلَ أَيْضًا حَتَّى يُعْلَمَ مَا وَرَاءَ هَذَا،
لِأَنَّهُ مَوْضِعُ إِشْكَالٍ. وَقَدْ قَالَ مَالِكٌ فِي
الْكَافِرِ يُوجَدُ فَيَقُولُ: جِئْتُ مُسْتَأْمِنًا أَطْلُبُ
الْأَمَانَ: هَذِهِ أُمُورٌ مُشْكِلَةٌ، وَأَرَى أَنْ يُرَدَّ
إِلَى مَأْمَنِهِ وَلَا يُحْكَمَ لَهُ بِحُكْمِ الْإِسْلَامِ،
لِأَنَّ الْكُفْرَ قَدْ ثَبَتَ لَهُ فَلَا بُدَّ أَنْ يَظْهَرَ
مِنْهُ مَا يَدُلُّ عَلَى قَوْلِهِ، وَلَا يَكْفِي أَنْ
يَقُولَ أَنَا مُسْلِمٌ وَلَا أَنَا مُؤْمِنٌ وَلَا أَنْ
يُصَلِّيَ حَتَّى يَتَكَلَّمَ بِالْكَلِمَةِ الْعَاصِمَةِ
الَّتِي عَلَّقَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
الْحُكْمَ بِهَا عَلَيْهِ فِي قَوْلِهِ: (أُمِرْتُ أَنْ
أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا لَا إِلَهَ إِلَّا
اللَّهُ). السَّابِعَةُ- فَإِنْ صَلَّى أَوْ فَعَلَ فِعْلًا
مِنْ خَصَائِصِ الْإِسْلَامِ فَقَدِ اخْتَلَفَ فِيهِ
عُلَمَاؤُنَا، فَقَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: نَرَى أَنَّهُ لَا
يَكُونُ بِذَلِكَ مُسْلِمًا، أَمَّا أَنَّهُ يُقَالُ لَهُ: مَا
وَرَاءُ هَذِهِ الصَّلَاةِ؟ فَإِنْ قَالَ: صَلَاةُ مُسْلِمٍ،
قِيلَ لَهُ: قُلْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ «2»، فَإِنْ
قَالَهَا تَبَيَّنَ صِدْقُهُ، وَإِنْ أَبَى عَلِمْنَا أَنَّ
ذَلِكَ تَلَاعُبٌ، وَكَانَتْ عِنْدَ مَنْ يَرَى إِسْلَامَهُ
رِدَّةً، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ كُفْرٌ أَصْلِيٌّ لَيْسَ
بِرِدَّةٍ. وَكَذَلِكَ هَذَا الَّذِي قَالَ: سَلَامٌ
عَلَيْكُمْ، يُكَلَّفُ «3» الْكَلِمَةَ، فَإِنْ قَالَهَا
تَحَقَّقَ رَشَادُهُ، وَإِنْ أَبَى تَبَيَّنَ عِنَادُهُ
وَقُتِلَ. وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ (فَتَبَيَّنُوا) أَيِ
الْأَمْرَ الْمُشْكِلَ، أَوْ (تَثَبَّتُوا) وَلَا تَعْجَلُوا
الْمَعْنَيَانِ سَوَاءٌ. فَإِنْ قَتَلَهُ أَحَدٌ فَقَدْ أَتَى
مَنْهِيًّا عَنْهُ. فَإِنْ قِيلَ: فَتَغْلِيظُ النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى مُحَلِّمٍ،
وَنَبْذُهُ مِنْ قَبْرِهِ كَيْفَ مَخْرَجُهُ؟ قُلْنَا:
لِأَنَّهُ عَلِمَ مِنْ نِيَّتِهِ أَنَّهُ لَمْ يُبَالِ
بِإِسْلَامِهِ فَقَتَلَهُ مُتَعَمِّدًا لِأَجْلِ الْحِنَةِ
الَّتِي كَانَتْ بَيْنَهُمَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ.
الثَّامِنَةُ- قَوْلُهُ تعالى: (تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَياةِ
الدُّنْيا) أَيْ تَبْتَغُونَ أَخْذَ مَالِهِ: وَيُسَمَّى
مَتَاعُ الدُّنْيَا عَرَضًا لِأَنَّهُ عَارِضٌ زَائِلٌ غَيْرُ
ثَابِتٍ. قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: يُقَالُ جَمِيعُ مَتَاعِ]
الْحَيَاةِ «4» [الدُّنْيَا عَرَضٌ بِفَتْحِ الرَّاءِ،
وَمِنْهُ «5»: (الدُّنْيَا عَرَضٌ حَاضِرٌ يأكل منها البر
والفاجر).
__________
(1). في ج وط وى: انتظر.
(2). في ابن العربي: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ مُحَمَّدٌ
رَسُولُ اللَّهِ.
(3). في اوح: تكلف. تكلف الشيء: تجشمه على مشقة وعلى خلاف
عادته.
(4). من ج.
(5). أي الحديث.
(5/339)
وَالْعَرْضُ (بِسُكُونِ الرَّاءِ) مَا
سِوَى الدَّنَانِيرِ وَالدَّرَاهِمِ، فَكُلُّ عَرْضٍ عَرَضٌ،
وَلَيْسَ كُلُّ عَرَضٍ عَرْضًا. وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنِ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (لَيْسَ
الْغِنَى عَنْ كَثْرَةِ الْعَرَضِ إِنَّمَا الْغِنَى غِنَى
النَّفْسِ). وَقَدْ أَخَذَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ هَذَا
الْمَعْنَى فَنَظَمَهُ:
تَقَنَّعْ بِمَا يَكْفِيكَ وَاسْتَعْمِلِ الرِّضَا ...
فَإِنَّكَ لَا تَدْرِي أَتُصْبِحُ أَمْ تُمْسِي
فَلَيْسَ الْغِنَى عَنْ كَثْرَةِ الْمَالِ إِنَّمَا ...
يَكُونُ الْغِنَى وَالْفَقْرُ مِنْ قِبَلِ النَّفْسِ
وَهَذَا يُصَحِّحُ قَوْلَ أَبِي عُبَيْدَةَ: فَإِنَّ الْمَالَ
يَشْمَلُ كُلَّ مَا يُتَمَوَّلُ. وَفِي كِتَابِ الْعَيْنِ:
الْعَرَضُ مَا نِيلَ مِنَ الدُّنْيَا، وَمِنْهُ قَوْلُهُ
تَعَالَى: (تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيا «1») وَجَمْعُهُ
عُرُوضٌ. وَفِي الْمُجْمَلِ لابن فارس: والعرض من يَعْتَرِضُ
الْإِنْسَانَ مِنْ مَرَضٍ [أَوْ نَحْوِهِ «2»] وَعَرَضُ
الدُّنْيَا مَا كَانَ فِيهَا مِنْ مَالٍ قَلَّ أَوْ كَثُرَ.
وَالْعَرَضُ مِنَ الْأَثَاثِ مَا كَانَ غَيْرَ نَقْدٍ.
وَأَعْرَضَ الشَّيْءُ إِذَا ظَهَرَ وَأَمْكَنَ. وَالْعَرْضُ
خِلَافُ الطُّولِ. التَّاسِعَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (فَعِنْدَ
اللَّهِ مَغانِمُ كَثِيرَةٌ) عِدَةٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى
بِمَا يَأْتِي بِهِ عَلَى وَجْهِهِ وَمِنْ حِلِّهِ دُونَ
ارْتِكَابِ مَحْظُورٍ، أَيْ فَلَا تَتَهَافَتُوا. (كَذلِكَ
كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ) أَيْ كَذَلِكَ كُنْتُمْ تُخْفُونَ
إِيمَانَكُمْ عَنْ قَوْمِكُمْ خَوْفًا مِنْكُمْ عَلَى
أَنْفُسِكُمْ حَتَّى مَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ بِإِعْزَازِ
الدِّينِ وَغَلَبَةِ الْمُشْرِكِينَ، فَهُمُ الْآنَ كَذَلِكَ
كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ فِي قَوْمِهِ مُتَرَبِّصٌ أَنْ يَصِلَ
إِلَيْكُمْ، فَلَا يَصْلُحُ إِذْ وَصَلَ إِلَيْكُمْ أَنْ
تَقْتُلُوهُ حَتَّى تَتَبَيَّنُوا أَمْرَهُ. وَقَالَ ابْنُ
زَيْدٍ: الْمَعْنَى كَذَلِكَ كُنْتُمْ كَفَرَةً (فَمَنَّ
اللَّهُ عَلَيْكُمْ) بِأَنْ أَسْلَمْتُمْ فَلَا تُنْكِرُوا
أَنْ يَكُونَ هُوَ كَذَلِكَ ثُمَّ يُسْلِمُ لِحِينِهِ حِينَ
لَقِيَكُمْ فَيَجِبُ أَنْ تَتَثَبَّتُوا فِي أَمْرِهِ.
الْعَاشِرَةُ- اسْتَدَلَّ بِهَذِهِ الْآيَةِ مَنْ قَالَ: إِنَّ
الْإِيمَانَ هُوَ الْقَوْلُ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: (وَلا
تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ
مُؤْمِناً). قَالُوا: وَلَمَّا مَنَعَ أَنْ يُقَالَ لِمَنْ
قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ لَسْتَ مُؤْمِنًا مَنَعَ مِنْ
قَتْلِهِمْ بِمُجَرَّدِ الْقَوْلِ. وَلَوْلَا الْإِيمَانُ
الَّذِي هُوَ هَذَا «3» الْقَوْلُ لَمْ يَعِبْ قَوْلَهُمْ.
قُلْنَا: إِنَّمَا شَكَّ الْقَوْمُ فِي حَالَةِ أَنْ يَكُونَ
هَذَا الْقَوْلُ مِنْهُ تَعَوُّذًا فَقَتَلُوهُ، وَاللَّهُ
لَمْ يَجْعَلْ لِعِبَادِهِ غَيْرَ الْحُكْمِ بِالظَّاهِرِ،
وَقَدْ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (أُمِرْتُ
أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا لَا إِلَهَ إِلَّا
اللَّهُ)
__________
(1). راجع ج 8 ص 45.
(2). من الأصول.
(3). في ج: ولولا الايمان الذي ظهر لم يعب.
(5/340)
لَا يَسْتَوِي
الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ
وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ
وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ
بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً
وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ
الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا (95)
دَرَجَاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكَانَ اللَّهُ
غَفُورًا رَحِيمًا (96)
وَلَيْسَ فِي ذَلِكَ أَنَّ الْإِيمَانَ
هُوَ الْإِقْرَارُ فَقَطْ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُنَافِقِينَ
كَانُوا يَقُولُونَ هَذَا الْقَوْلَ وَلَيْسُوا بِمُؤْمِنِينَ
حَسَبَ مَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي (الْبَقَرَةِ «1») وَقَدْ
كَشَفَ الْبَيَانَ فِي هَذَا قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ:
(أَفَلَا شَقَقْتَ عَنْ قَلْبِهِ)؟ فَثَبَتَ أَنَّ الْإِيمَانَ
هُوَ الْإِقْرَارُ وَغَيْرُهُ، وَأَنَّ حَقِيقَتَهُ
التَّصْدِيقُ بِالْقَلْبِ، وَلَكِنْ لَيْسَ لِلْعَبْدِ طَرِيقٌ
إِلَيْهِ إِلَّا مَا سُمِعَ مِنْهُ فَقَطْ. وَاسْتَدَلَّ
بِهَذَا أَيْضًا مَنْ قَالَ: إِنَّ الزِّنْدِيقَ تُقْبَلُ
تَوْبَتُهُ إِذَا أَظْهَرَ الْإِسْلَامَ، قَالَ: لِأَنَّ
اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ الزِّنْدِيقِ
وَغَيْرِهِ مَتَى أَظْهَرَ الْإِسْلَامَ. وَقَدْ مَضَى
الْقَوْلُ فِي هَذَا فِي أَوَّلِ الْبَقَرَةِ «2». وَفِيهَا
رَدٌّ عَلَى الْقَدَرِيَّةِ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى
أَخْبَرَ أَنَّهُ مَنَّ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ مِنْ بَيْنِ
جَمِيعِ الْخَلْقِ بِأَنْ خَصَّهُمْ بِالتَّوْفِيقِ،
وَالْقَدَرِيَّةُ تَقُولُ: خَلَقَهُمْ كُلُّهُمْ لِلْإِيمَانِ.
وَلَوْ كَانَ كَمَا زَعَمُوا لَمَا كَانَ لِاخْتِصَاصِ
الْمُؤْمِنِينَ بِالْمِنَّةِ مِنْ بَيْنِ الْخَلْقِ مَعْنًى.
الْحَادِيَةُ عَشْرَةَ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (فَتَبَيَّنُوا)
أَعَادَ الْأَمْرَ بِالتَّبْيِينِ لِلتَّأْكِيدِ. (إِنَّ
اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا) تَحْذِيرٌ عَنْ
مُخَالَفَةِ أَمْرِ اللَّهِ، أَيِ احْفَظُوا أنفسكم وجنبوها
الزلل الموبق لكم.
[سورة النساء (4): الآيات 95 الى 96]
لَا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي
الضَّرَرِ وَالْمُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ
بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجاهِدِينَ
بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقاعِدِينَ دَرَجَةً
وَكُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنى وَفَضَّلَ اللَّهُ
الْمُجاهِدِينَ عَلَى الْقاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً (95)
دَرَجاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكانَ اللَّهُ
غَفُوراً رَحِيماً (96)
فِيهِ خَمْسُ مَسَائِلَ: الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى (لَا
يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) قَالَ ابْنُ
عَبَّاسٍ: لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ عَنْ بَدْرٍ
وَالْخَارِجُونَ إِلَيْهَا. ثُمَّ قَالَ: (غَيْرُ أُولِي
الضَّرَرِ) وَالضَّرَرُ الزَّمَانَةُ. رَوَى الْأَئِمَّةُ
وَاللَّفْظُ لِأَبِي دَاوُدَ عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ قَالَ:
كُنْتُ إِلَى جَنْبِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فَغَشِيَتْهُ السَّكِينَةُ فَوَقَعَتْ فخذ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى فخذي، فما
وجدت ثقل شي
__________
(1). راجع ج 1 ص 193.
(2). راجع ج 1 ص 198.
(5/341)
أَثْقَلَ مِنْ فَخِذِ رَسُولِ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ سُرِّيَ عَنْهُ
فَقَالَ: (اكْتُبْ) فَكَتَبْتُ فِي كَتِفٍ «1» (لَا يَسْتَوِي
الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُجاهِدُونَ فِي
سَبِيلِ اللَّهِ) إِلَى آخِرِ الْآيَةِ، فَقَامَ ابْنُ أُمِّ
مَكْتُومٍ- وَكَانَ رَجُلًا أَعْمَى- لَمَّا سَمِعَ فَضِيلَةَ
الْمُجَاهِدِينَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَكَيْفَ
بِمَنْ لَا يَسْتَطِيعُ الْجِهَادَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ؟
فَلَمَّا قَضَى كَلَامَهُ غَشِيَتْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ السَّكِينَةُ فَوَقَعَتْ فَخِذُهُ
عَلَى فَخِذِي، وَوَجَدْتُ مِنْ ثِقَلِهَا فِي الْمَرَّةِ
الثَّانِيةِ كَمَا وَجَدْتُ فِي الْمَرَّةِ الْأُولَى، ثُمَّ
سُرِّيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فَقَالَ: (اقْرَأْ يَا زَيْدُ) فَقَرَأْتُ (لَا
يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) فَقَالَ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (غَيْرُ أُولِي
الضَّرَرِ) الْآيَةَ كُلَّهَا. قَالَ زَيْدٌ: فَأَنْزَلَهَا
اللَّهُ وَحْدَهَا فَأَلْحَقْتُهَا، وَالَّذِي نَفْسِي
بِيَدِهِ لِكَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى مُلْحَقِهَا عِنْدَ صَدْعٍ
فِي كَتِفٍ. وَفِي الْبُخَارِيِّ عَنْ مِقْسَمٍ مَوْلَى عَبْدِ
اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ أَنَّهُ سَمِعَ ابْنَ عَبَّاسٍ
يَقُولُ: (لَا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ)
عَنْ بَدْرٍ وَالْخَارِجُونَ إِلَى بَدْرٍ. قَالَ
الْعُلَمَاءُ: أَهْلُ الضَّرَرِ هُمْ أَهْلُ الْأَعْذَارِ إِذْ
قَدْ أَضَرَّتْ بِهِمْ حَتَّى مَنَعَتْهُمُ الْجِهَادَ.
وَصَحَّ وَثَبَتَ فِي الْخَبَرِ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ
قَالَ- وَقَدْ قَفَلَ مِنْ بَعْضِ غَزَوَاتِهِ: (إِنَّ
بِالْمَدِينَةِ رِجَالًا مَا قَطَعْتُمْ وَادِيًا وَلَا
سِرْتُمْ مَسِيرًا إِلَّا كَانُوا مَعَكُمْ أُولَئِكَ قَوْمٌ
حَبَسَهُمُ الْعُذْرُ). فَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ صَاحِبَ
الْعُذْرِ يُعْطَى أَجْرُ الْغَازِي، فَقِيلَ: يَحْتَمِلُ أَنْ
يَكُونَ أَجْرُهُ مُسَاوِيًا، وَفِي فَضْلِ اللَّهِ مُتَّسَعٌ،
وَثَوَابُهُ فَضْلٌ لَا اسْتِحْقَاقٌ، فَيُثِيبُ عَلَى
النِّيَّةِ الصادقة مالا يُثِيبُ عَلَى الْفِعْلِ. وَقِيلَ:
يُعْطَى أَجْرَهُ مِنْ غَيْرِ تَضْعِيفٍ فَيَفْضُلُهُ
الْغَازِي بِالتَّضْعِيفِ لِلْمُبَاشَرَةِ. وَاللَّهُ
أَعْلَمُ. قُلْتُ: وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ أَصَحُّ- إِنْ شَاءَ
اللَّهُ- لِلْحَدِيثِ الصَّحِيحِ فِي ذَلِكَ (إِنَّ
بِالْمَدِينَةِ رِجَالًا) وَلِحَدِيثِ أَبِي كَبْشَةَ
الْأَنْمَارِيِّ قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ (إِنَّمَا
الدُّنْيَا لِأَرْبَعَةِ نَفَرٍ) الْحَدِيثَ وَقَدْ تَقَدَّمَ
فِي سُورَةِ (آلِ عِمْرَانَ «2»). وَمِنْ هَذَا الْمَعْنَى مَا
وَرَدَ فِي الْخَبَرِ (إِذَا مَرِضَ الْعَبْدُ قَالَ اللَّهُ
تَعَالَى اكْتُبُوا لِعَبْدِي مَا كَانَ يَعْمَلُهُ فِي
الصِّحَّةِ إِلَى أَنْ يَبْرَأَ أو أقبضه إلي).
__________
(1). الكتف: عظم عريض يكون في أصل كتف الحيوان من الناس
والدواب كانوا يكتبون فيه لقلة القراطيس عندهم. [ ..... ]
(2). راجع ج 4 ص 215. وراجع ج 8 ص 292.
(5/342)
الثَّانِيةُ- وَقَدْ تَمَسَّكَ بَعْضُ
الْعُلَمَاءِ بِهَذِهِ الْآيَةِ بِأَنَّ أَهْلَ الدِّيوَانِ
أَعْظَمُ أَجْرًا مِنْ أَهْلِ التَّطَوُّعِ، لِأَنَّ أَهْلَ
الدِّيوَانِ لَمَّا كَانُوا مُتَمَلِّكِينَ بِالْعَطَاءِ،
وَيُصَرَّفُونَ فِي الشَّدَائِدِ، وَتُرَوِّعُهُمُ «1»
الْبُعُوثُ وَالْأَوَامِرُ، كَانُوا أَعْظَمَ مِنَ
الْمُتَطَوِّعِ، لِسُكُونِ جَأْشِهِ وَنِعْمَةِ بَالِهِ فِي
الصَّوَائِفِ «2» الْكِبَارِ وَنَحْوِهَا. قَالَ ابْنُ
مُحَيْرِيزٍ: أَصْحَابُ الْعَطَاءِ أَفْضَلُ مِنَ
الْمُتَطَوِّعَةِ لِمَا يُرَوَّعُونَ. قَالَ مَكْحُولٌ:
رَوْعَاتُ الْبُعُوثِ تَنْفِي رَوْعَاتِ الْقِيَامَةِ.
الثَّالِثَةُ- وَتَعَلَّقَ بِهَا أَيْضًا مَنْ قَالَ: إِنَّ
الْغِنَى أَفْضَلُ مِنَ الْفَقْرِ، لِذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى
الْمَالَ الَّذِي يُوصَلُ بِهِ إِلَى صَالِحِ الْأَعْمَالِ.
وَقَدِ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مَعَ
اتِّفَاقِهِمْ أَنَّ مَا أَحْوَجَ مِنَ الْفَقْرِ مَكْرُوهٌ،
وَمَا أَبْطَرَ مِنَ الْغِنَى مَذْمُومٌ، فَذَهَبَ قَوْمٌ
إِلَى تَفْضِيلِ الْغَنِيِّ، لِأَنَّ الْغَنِيَّ مُقْتَدِرٌ
وَالْفَقِيرَ عَاجِزٌ، وَالْقُدْرَةُ أَفْضَلُ مِنَ الْعَجْزِ.
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا مَذْهَبُ مَنْ غَلَبَ عَلَيْهِ
حُبُّ النَّبَاهَةِ. وَذَهَبَ آخَرُونَ إِلَى تَفْضِيلِ
الْفَقْرِ، لِأَنَّ الْفَقِيرَ تَارِكٌ وَالْغَنِيُّ
مُلَابِسٌ، وَتَرْكُ الدُّنْيَا أَفْضَلُ مِنْ مُلَابَسَتِهَا.
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا مَذْهَبُ مَنْ غَلَبَ عَلَيْهِ
حُبُّ السَّلَامَةِ. وَذَهَبَ آخَرُونَ إِلَى تَفْضِيلِ
التَّوَسُّطِ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ بِأَنْ يَخْرُجَ عَنْ حَدِّ
الْفَقْرِ إِلَى أَدْنَى مَرَاتِبِ الْغِنَى لِيَصِلَ إِلَى
فَضِيلَةِ الْأَمْرَيْنِ، وَلِيَسْلَمَ مِنْ مَذَمَّةِ
الْحَالَيْنِ. قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا مَذْهَبُ مَنْ
يَرَى تَفْضِيلَ الِاعْتِدَالِ وَأَنَّ (خَيْرَ الْأُمُورِ
أَوْسَطُهَا). وَلَقَدْ أَحْسَنَ الشَّاعِرُ الْحَكِيمُ حَيْثُ
قَالَ:
أَلَا عَائِذًا بِاللَّهِ مِنْ عَدَمِ الْغِنَى ... وَمِنْ
رَغْبَةٍ يَوْمًا إِلَى غَيْرِ مُرْغَبِ
الرَّابِعَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ)
قِرَاءَةُ أَهْلِ الْكُوفَةِ وَأَبُو عَمْرٍو (غَيْرُ)
بِالرَّفْعِ، قَالَ الْأَخْفَشُ: هُوَ نَعْتٌ لِلْقَاعِدِينَ،
لِأَنَّهُمْ لَمْ يُقْصَدْ بِهِمْ قَوْمٌ بِأَعْيَانِهِمْ
فَصَارُوا كَالنَّكِرَةِ فَجَازَ وَصْفُهُمْ بِغَيْرِ،
وَالْمَعْنَى لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ غَيْرُ أُولِي
الضَّرَرِ، أَيْ لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ الَّذِينَ هُمْ
غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ. وَالْمَعْنَى لَا يَسْتَوِي
الْقَاعِدُونَ الْأَصِحَّاءُ، قَالَهُ الزَّجَّاجُ. وَقَرَأَ
أَبُو حَيْوَةَ (غَيْرِ) جَعَلَهُ نَعْتًا لِلْمُؤْمِنِينَ،
أَيْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ هُمْ غَيْرُ أُولِي
الضَّرَرِ مِنَ المؤمنين الأصحاء.
__________
(1). في نسخ الأصل اختلاف في هذه العبارة والذي أثبتناه هو ما
في ابن عطية، وهو الواضح.
(2). الصائفة: الغزوة في الصيف.
(5/343)
وَقَرَأَ أَهْلُ الْحَرَمَيْنِ (غَيْرَ)
بِالنَّصْبِ عَلَى الِاسْتِثْنَاءِ مِنَ الْقَاعِدِينَ أَوْ
مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، أَيْ إِلَّا أُولِي الضَّرَرِ
فَإِنَّهُمْ يَسْتَوُونَ مَعَ الْمُجَاهِدِينَ. وَإِنْ شِئْتَ
عَلَى الْحَالِ مِنَ الْقَاعِدِينَ، أَيْ لَا يَسْتَوِي
الْقَاعِدُونَ مِنَ الْأَصِحَّاءِ أَيْ فِي حَالِ صِحَّتِهِمْ،
وَجَازَتِ الْحَالُ مِنْهُمْ، لِأَنَّ لَفْظَهُمْ لَفْظُ
الْمَعْرِفَةِ، وَهُوَ كَمَا تَقُولُ: جَاءَنِي زَيْدٌ غَيْرُ
مَرِيضٍ. وَمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ سَبَبِ النُّزُولِ يَدُلُّ
على معنى النصب، والله أعلم. الخامسة- قوله تعالى: (فَضَّلَ
اللَّهُ الْمُجاهِدِينَ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى
الْقاعِدِينَ دَرَجَةً) وَقَدْ قَالَ بَعْدَ هَذَا: (دَرَجاتٍ
مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً) فَقَالَ قَوْمٌ: التَّفْضِيلُ
بِالدَّرَجَةِ ثُمَّ بِالدَّرَجَاتِ إِنَّمَا هُوَ مُبَالَغَةٌ
وَبَيَانٌ وَتَأْكِيدٌ. وَقِيلَ: فَضَّلَ اللَّهُ
الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ مِنْ أُولِي الضَّرَرِ
بِدَرَجَةٍ وَاحِدَةٍ، وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ
عَلَى القاعدين من غير عذر درجات، قاله ابْنُ جُرَيْجٍ
وَالسُّدِّيُّ وَغَيْرُهُمَا. وَقِيلَ: إِنَّ مَعْنَى دَرَجَةٍ
عُلُوٌّ، أَيْ أَعْلَى ذِكْرَهُمْ وَرَفَعَهُمْ بِالثَّنَاءِ
والمدح والتقريظ. فهذا معنى درجة، ودرجات يَعْنِي فِي
الْجَنَّةِ. قَالَ ابْنُ مُحَيْرِيزٍ: سَبْعِينَ دَرَجَةً
بَيْنَ كُلِّ دَرَجَتَيْنِ حُضْرُ «1» الْفَرَسِ الْجَوَادِ
سبعين سنة. و (دَرَجاتٍ) بَدَلٌ مِنْ أَجْرٍ وَتَفْسِيرُ لَهُ،
وَيَجُوزُ نَصْبُهُ أَيْضًا عَلَى تَقْدِيرِ الظَّرْفِ، أَيْ
فَضَّلَهُمْ بِدَرَجَاتٍ، ويجوز أن يكون توكيدا لقوله (أَجْراً
عَظِيماً) لِأَنَّ الْأَجْرَ الْعَظِيمَ هُوَ الدَّرَجَاتُ
وَالْمَغْفِرَةُ وَالرَّحْمَةُ، وَيَجُوزُ الرَّفْعُ، أَيْ
ذَلِكَ دَرَجَاتٌ. و (أَجْراً) نُصِبَ بِ (فَضَّلَ) وَإِنْ
شِئْتَ كَانَ مَصْدَرًا وَهُوَ أَحْسَنُ، وَلَا يَنْتَصِبُ بِ
(فَضَّلَ) لِأَنَّهُ قد استوفى مفعولية وهما قوله
(الْمُجاهِدِينَ) و (عَلَى الْقاعِدِينَ)، وَكَذَا (دَرَجَةً).
فَالدَّرَجَاتُ مَنَازِلُ بَعْضُهَا أَعْلَى مِنْ بَعْضٍ.
وَفِي الصَّحِيحِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ (أَنَّ فِي الْجَنَّةِ مِائَةَ دَرَجَةٍ أَعَدَّهَا
اللَّهُ لِلْمُجَاهِدِينَ فِي سَبِيلِهِ بَيْنَ
الدَّرَجَتَيْنِ كَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ (.)
وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنى كُلًّا منصوب ب (وَعَدَ) و
(الْحُسْنى) الْجَنَّةُ، أَيْ وَعَدَ اللَّهُ كُلًّا
الْحُسْنَى. ثُمَّ قِيلَ: الْمُرَادُ (بِكُلٍّ)
الْمُجَاهِدُونَ خَاصَّةً. وَقِيلَ: الْمُجَاهِدُونَ واو لو
الضرر. والله أعلم.
__________
(1). الحضر (كقفل): ارتفاع الفرس في عدوه.
(5/344)
إِنَّ الَّذِينَ
تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا
فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ
قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا
فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا
(97) إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ
وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ
سَبِيلًا (98) فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ
عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا (99)
[سورة النساء (4): الآيات 97 الى 99]
إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي
أَنْفُسِهِمْ قالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قالُوا كُنَّا
مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ
اللَّهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها فَأُولئِكَ مَأْواهُمْ
جَهَنَّمُ وَساءَتْ مَصِيراً (97) إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ
مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ
حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً (98) فَأُولئِكَ عَسَى
اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكانَ اللَّهُ عَفُوًّا
غَفُوراً (99)
الْمُرَادُ بِهَا جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ كَانُوا قَدْ
أَسْلَمُوا وَأَظْهَرُوا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ الْإِيمَانَ بِهِ، فَلَمَّا هَاجَرَ النَّبِيُّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَقَامُوا مَعَ قَوْمِهِمْ
وَفُتِنَ مِنْهُمْ جَمَاعَةٌ فَافْتُتِنُوا، فَلَمَّا كَانَ
أَمْرُ بَدْرٍ خَرَجَ مِنْهُمْ قَوْمٌ مَعَ الْكُفَّارِ،
فَنَزَلَتِ الْآيَةُ. وَقِيلَ: إِنَّهُمْ لَمَّا اسْتَحْقَرُوا
عَدَدَ الْمُسْلِمِينَ دَخَلَهُمْ شَكٌّ فِي دِينِهِمْ
فَارْتَدُّوا فَقُتِلُوا عَلَى الرِّدَّةِ، فَقَالَ
الْمُسْلِمُونَ: كَانَ أَصْحَابُنَا هَؤُلَاءِ مُسْلِمِينَ
وَأُكْرِهُوا عَلَى الْخُرُوجِ فَاسْتَغْفِرُوا لَهُمْ،
فَنَزَلَتِ الْآيَةُ. وَالْأَوَّلُ أصح. روى البخاري عن محمد
ابن عَبْدِ الرَّحْمَنِ قَالَ: قُطِعَ عَلَى أَهْلِ
الْمَدِينَةِ بَعْثٌ «1» فَاكْتَتَبْتُ فِيهِ فَلَقِيتُ
عِكْرِمَةَ مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ فَأَخْبَرْتُهُ فَنَهَانِي
عَنْ ذَلِكَ أَشَدَّ النَّهْيِ، ثُمَّ قَالَ: أَخْبَرَنِي
ابْنُ عَبَّاسٍ أَنَّ نَاسًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ كَانُوا مَعَ
الْمُشْرِكِينَ يُكَثِّرُونَ سَوَادَ الْمُشْرِكِينَ عَلَى
عَهْدِ «2» رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
يَأْتِي السَّهْمُ فَيُرْمَى بِهِ فَيُصِيبُ أَحَدَهُمْ
فَيَقْتُلُهُ أَوْ يُضْرَبُ فَيُقْتَلُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ
تَعَالَى: (إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ
ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ). قَوْلُهُ تَعَالَى: (تَوَفَّاهُمُ
الْمَلائِكَةُ) يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ فِعْلًا مَاضِيًا لَمْ
يَسْتَنِدْ بِعَلَامَةِ تَأْنِيثٍ، إِذْ تَأْنِيثُ لَفْظِ
الْمَلَائِكَةِ غَيْرُ حَقِيقِيٍّ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ
فِعْلًا مُسْتَقْبَلًا عَلَى مَعْنَى تَتَوَفَّاهُمْ،
فَحُذِفَتْ إِحْدَى التَّاءَيْنِ. وَحَكَى ابْنُ فُورَكَ عَنِ
الْحَسَنِ أَنَّ الْمَعْنَى تَحْشُرُهُمْ إِلَى النَّارِ.
وَقِيلَ: تَقْبِضُ أَرْوَاحَهُمْ، وَهُوَ أَظْهَرُ. وَقِيلَ:
الْمُرَادُ بِالْمَلَائِكَةِ مَلَكُ الموت، لقوله تعالى:
__________
(1). أي ألزموا بإخراج جيش لقتال أهل الشام في خلافة عبد الله
بن الزبير على مكة (عن شرح القسطلاني).
(2). كذا في كل الأصول. والذي في البخاري على العسقلاني:
يكثرون سواد المشركين على رسول الله.
(5/345)
(قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ
الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ «1» (. وَ (ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ)
نَصْبٌ عَلَى الْحَالِ، أَيْ فِي حَالِ ظُلْمِهِمْ
أَنْفُسَهُمْ، وَالْمُرَادُ ظَالِمِينَ أَنْفُسَهُمْ فَحَذَفَ
النُّونَ اسْتِخْفَافًا وَأَضَافَ «2»، كَمَا قَالَ تَعَالَى:
(هَدْياً بالِغَ الْكَعْبَةِ «3»). وَقَوْلُ الْمَلَائِكَةِ:
(فِيمَ كُنْتُمْ) سُؤَالُ تَقْرِيعٍ وَتَوْبِيخٍ، أَيْ
أَكُنْتُمْ فِي أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَمْ كُنْتُمْ مُشْرِكِينَ! وَقَوْلُ هَؤُلَاءِ:
(كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ) يَعْنِي مَكَّةَ،
اعْتِذَارٌ غَيْرُ صَحِيحٍ، إِذْ كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ
الْحِيَلَ وَيَهْتَدُونَ السَّبِيلَ، ثُمَّ وَقَفَتْهُمُ
الْمَلَائِكَةُ عَلَى دِينِهِمْ بِقَوْلِهِمْ (أَلَمْ تَكُنْ
أَرْضُ اللَّهِ واسِعَةً). وَيُفِيدُ هَذَا السُّؤَالُ
وَالْجَوَابُ أَنَّهُمْ مَاتُوا مُسْلِمِينَ ظَالِمِينَ
لِأَنْفُسِهِمْ فِي تَرْكِهِمُ الْهِجْرَةَ، وَإِلَّا فلو
ماتوا كافرين لم يقل لهم شي مِنْ هَذَا، وَإِنَّمَا أَضْرَبَ
عَنْ ذِكْرِهِمْ فِي الصَّحَابَةِ لِشِدَّةِ مَا وَاقَعُوهُ،
وَلِعَدَمِ تَعَيُّنِ أَحَدِهِمْ بِالْإِيمَانِ، وَاحْتِمَالِ
رِدَّتِهِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. ثُمَّ اسْتَثْنَى تَعَالَى
مِنْهُمْ مِنَ الضَّمِيرِ الَّذِي هُوَ الْهَاءُ وَالْمِيمُ
فِي (مَأْواهُمْ) مَنْ كَانَ مُسْتَضْعَفًا حَقِيقَةً مِنْ
زَمْنَى الرِّجَالِ وَضَعَفَةِ النِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ،
كَعَيَّاشِ بن أبي ربيعة وسلمة ابن هِشَامٍ وَغَيْرِهِمُ
الَّذِينَ دَعَا لَهُمُ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كُنْتُ أَنَا وَأُمِّي
مِمَّنْ عَنَى اللَّهُ بِهَذِهِ الْآيَةِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ
كَانَ مِنَ الْوِلْدَانِ إِذْ ذَاكَ، وَأُمُّهُ هِيَ أُمُّ
الْفَضْلِ بِنْتُ الْحَارِثِ وَاسْمُهَا لُبَابَةُ، وَهِيَ
أُخْتُ مَيْمُونَةَ، وَأُخْتُهَا الْأُخْرَى لُبَابَةُ
الصُّغْرَى، وَهُنَّ تِسْعُ أَخَوَاتٍ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهِنَّ: (الْأَخَوَاتُ «4»
مُؤْمِنَاتٌ) وَمِنْهُنَّ سَلْمَى وَالْعَصْمَاءُ وَحُفَيْدَةُ
وَيُقَالُ فِي حُفَيْدَةَ: أُمُّ حُفَيْدٍ، وَاسْمُهَا
هَزِيلَةُ. هُنَّ سِتُّ شَقَائِقَ وَثَلَاثٌ لِأُمٍّ، وَهُنَّ
سَلْمَى، وَسَلَّامَةُ، وَأَسْمَاءُ بِنْتُ عُمَيْسٍ
الْخَثْعَمِيَّةُ امْرَأَةُ جَعْفَرِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ،
ثُمَّ امْرَأَةُ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ، ثُمَّ امْرَأَةُ
عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ. قَوْلُهُ
تَعَالَى: (فِيمَ كُنْتُمْ) سُؤَالُ تَوْبِيخٍ، وَقَدْ
تَقَدَّمَ. وَالْأَصْلُ (فِيمَا) ثُمَّ حُذِفَتِ الْأَلِفُ
فَرْقًا بَيْنَ الِاسْتِفْهَامِ وَالْخَبَرِ، والوقف عليها
(لِئَلَّا تُحْذَفَ الْأَلِفُ وَالْحَرَكَةُ. وَالْمُرَادُ
بِقَوْلِهِ: أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ واسِعَةً
الْمَدِينَةُ، أَيْ أَلَمْ تَكُونُوا مُتَمَكِّنِينَ
قَادِرِينَ عَلَى الْهِجْرَةِ وَالتَّبَاعُدِ مِمَّنْ كَانَ
يَسْتَضْعِفُكُمْ! وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى هجران
الأرض التي يعمل فيها بالمعاصي.
__________
(1). راجع ج 14 ص 92.
(2). الاولى: فحذفت، وأضيف. تأدبا مع الله سبحانه.
(3). راجع ج 6 ص 314.
(4). في تهذيب التهذيب حرف اللام: (الأخوات الأربع مؤمنات).
وفي ط: الأخوات المؤمنات.
(5/346)
وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي
سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا
وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى
اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ
أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا
(100)
وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: إِذَا
عُمِلَ بِالْمَعَاصِي فِي أَرْضٍ فَاخْرُجْ مِنْهَا، وَتَلَا
(أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها).
وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
أَنَّهُ قَالَ: (مَنْ فَرَّ بِدِينِهِ مِنْ أَرْضٍ إِلَى
أَرْضٍ وَإِنْ كَانَ شِبْرًا اسْتَوْجَبَ الْجَنَّةَ وَكَانَ
رَفِيقَ إِبْرَاهِيمَ وَمُحَمَّدٍ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ).
(فَأُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ) أَيْ مَثْوَاهُمُ النَّارُ.
وَكَانَتِ الْهِجْرَةُ وَاجِبَةً عَلَى كُلِّ مَنْ أَسْلَمَ.
(وَساءَتْ مَصِيراً) نَصْبٌ عَلَى التَّفْسِيرِ. وَقَوْلُهُ
تَعَالَى: (لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً) الْحِيلَةُ لَفْظٌ
عَامٌّ لِأَنْوَاعِ أَسْبَابِ التَّخَلُّصِ. وَالسَّبِيلُ
سَبِيلُ الْمَدِينَةِ، فِيمَا ذَكَرَ مُجَاهِدٌ وَالسُّدِّيُّ
وَغَيْرُهُمَا، وَالصَّوَابُ أَنَّهُ عَامٌّ فِي جَمِيعِ
السُّبُلِ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: (فَأُولئِكَ عَسَى اللَّهُ
أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ) هَذَا الَّذِي لَا حِيلَةَ لَهُ فِي
الْهِجْرَةِ لَا ذَنْبَ لَهُ حَتَّى يُعْفَى عَنْهُ، وَلَكِنَّ
الْمَعْنَى أَنَّهُ قَدْ يُتَوَهَّمُ أَنَّهُ يَجِبُ تَحَمُّلُ
غَايَةِ الْمَشَقَّةِ فِي الْهِجْرَةِ، حَتَّى إِنَّ مَنْ لَمْ
يَتَحَمَّلْ تِلْكَ الْمَشَقَّةَ يُعَاقَبُ فَأَزَالَ اللَّهُ
ذَلِكَ الْوَهْمَ، إِذْ لَا يَجِبُ تَحَمُّلُ غَايَةِ
الْمَشَقَّةِ، بَلْ كَانَ يَجُوزُ تَرْكُ الْهِجْرَةِ عِنْدَ
فَقْدِ الزَّادِ وَالرَّاحِلَةِ. فَمَعْنَى الْآيَةِ:
فَأُولَئِكَ لَا يُسْتَقْصَى عَلَيْهِمْ فِي الْمُحَاسَبَةِ،
وَلِهَذَا قَالَ: (وَكانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُوراً)
وَالْمَاضِي وَالْمُسْتَقْبَلُ فِي حَقِّهِ تَعَالَى واحد، وقد
تقدم.
[سورة النساء (4): آية 100]
وَمَنْ يُهاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ
مُراغَماً كَثِيراً وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ
مُهاجِراً إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ
الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكانَ
اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (100)
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَنْ يُهاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ
يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُراغَماً كَثِيراً وَسَعَةً وَمَنْ
يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهاجِراً إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ
ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى
اللَّهِ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (100) فِيهِ خَمْسُ
مَسَائِلَ: الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَمَنْ يُهاجِرْ
فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ) شَرْطٌ وَجَوَابُهُ. (فِي
الْأَرْضِ مُراغَماً) اخْتُلِفَ فِي تَأْوِيلِ الْمُرَاغَمِ،
فَقَالَ مُجَاهِدٌ: الْمُرَاغَمُ الْمُتَزَحْزَحُ «1». وَقَالَ
ابْنُ عَبَّاسٍ وَالضَّحَّاكُ وَالرَّبِيعُ وَغَيْرُهُمُ:
الْمُرَاغَمُ الْمُتَحَوَّلُ وَالْمَذْهَبُ. وَقَالَ ابْنُ
زَيْدٍ: وَالْمُرَاغَمُ الْمُهَاجَرُ، وَقَالَهُ أَبُو
عُبَيْدَةَ. قَالَ النَّحَّاسُ: فَهَذِهِ الْأَقْوَالُ
مُتَّفِقَةُ الْمَعَانِي. فَالْمُرَاغَمُ الْمَذْهَبُ
وَالْمُتَحَوَّلُ فِي حَالِ هِجْرَةٍ، وَهُوَ اسْمُ
الْمَوْضِعِ الَّذِي يُرَاغَمُ فِيهِ، وَهُوَ مُشْتَقٌّ مِنَ
الرَّغَامِ. وَرَغِمَ أنف فلان أي لصق بالتراب.
__________
(1). في ابن عطية: المتزحزح عما يكره.
(5/347)
وَرَاغَمْتُ فُلَانًا هَجَرْتُهُ
وَعَادَيْتُهُ، وَلَمْ أُبَالِ إِنْ رَغِمَ أَنْفُهُ. وَقِيلَ:
إِنَّمَا سُمِّيَ مُهَاجَرًا وَمُرَاغَمًا لِأَنَّ الرَّجُلَ
كَانَ إِذَا أَسْلَمَ عَادَى قَوْمَهُ وَهَجَرَهُمْ، فَسُمِّيَ
خُرُوجُهُ مُرَاغَمًا، وَسُمِّيَ مَصِيرُهُ إِلَى النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هِجْرَةً. وَقَالَ
السُّدِّيُّ: الْمُرَاغَمُ الْمُبْتَغَى لِلْمَعِيشَةِ.
وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: سَمِعْتُ مَالِكًا يَقُولُ:
الْمُرَاغَمُ الذَّهَابُ فِي الْأَرْضِ. وَهَذَا كُلُّهُ
تَفْسِيرٌ بِالْمَعْنَى، وَكُلُّهُ قَرِيبُ بَعْضُهُ مِنْ
بَعْضٍ، فَأَمَّا الْخَاصُّ بِاللَّفْظَةِ فَإِنَّ
الْمُرَاغَمَ مَوْضِعُ الْمُرَاغَمَةِ كَمَا ذَكَرْنَا، وَهُوَ
أَنْ يُرْغِمَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْمُتَنَازِعَيْنِ أَنْفَ
صَاحِبِهِ بِأَنْ يَغْلِبَهُ عَلَى مُرَادِهِ، فَكَأَنَّ
كُفَّارَ قُرَيْشٍ أَرْغَمُوا أُنُوفَ الْمَحْبُوسِينَ
بِمَكَّةَ، فَلَوْ هَاجَرَ مِنْهُمْ مُهَاجِرٌ لَأَرْغَمَ
أُنُوفَ قُرَيْشٍ لِحُصُولِهِ فِي مَنَعَةٍ مِنْهُمْ، فَتِلْكَ
الْمَنَعَةُ هِيَ مَوْضِعُ الْمُرَاغَمَةِ. وَمِنْهُ قَوْلُ
النَّابِغَةِ:
كَطَرْدٍ يُلَاذُ بِأَرْكَانِهِ ... عَزِيزُ الْمُرَاغَمِ
وَالْمَهْرَبِ
الثَّانِيةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَسَعَةً) أَيْ فِي
الرِّزْقِ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالرَّبِيعُ
وَالضَّحَّاكُ. وَقَالَ قَتَادَةُ: الْمَعْنَى سَعَةٌ مِنَ
الضَّلَالَةِ إِلَى الْهُدَى وَمِنَ الْعَيْلَةِ إِلَى
الْغِنَى. وَقَالَ مَالِكٌ: السَّعَةُ سَعَةُ الْبِلَادِ.
وَهَذَا أَشْبَهُ بِفَصَاحَةِ الْعَرَبِ، فَإِنَّ بِسَعَةِ
الْأَرْضِ وَكَثْرَةِ الْمَعَاقِلِ تَكُونُ السَّعَةُ فِي
الرِّزْقِ، وَاتِّسَاعُ الصَّدْرِ لِهُمُومِهِ وَفِكْرِهِ
وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنْ وُجُوهِ الْفَرَجِ. وَنَحْوُ هَذَا
الْمَعْنَى قَوْلُ الشَّاعِرِ:
وَكُنْتُ إِذَا خَلِيلٌ رَامَ قَطْعِي ... وَجَدْتُ وَرَايَ
منفسحا عريضا
آخَرُ:
لَكَانَ لِي مُضْطَرَبٌ وَاسِعُ ... فِي الْأَرْضِ ذَاتِ
الطُّولِ وَالْعَرْضِ
الثَّالِثَةُ- قَالَ مَالِكٌ: هَذِهِ الْآيَةُ دَالَّةٌ عَلَى
أَنَّهُ لَيْسَ لِأَحَدٍ الْمُقَامُ بِأَرْضٍ يُسَبُّ فِيهَا
السَّلَفُ وَيُعْمَلُ فِيهَا بِغَيْرِ الْحَقِّ. وَقَالَ:
وَالْمُرَاغَمُ الذَّهَابُ فِي الْأَرْضِ، وَالسَّعَةُ سَعَةُ
الْبِلَادِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ. وَاسْتَدَلَّ أَيْضًا بَعْضُ
الْعُلَمَاءِ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّ لِلْغَازِي إِذَا
خَرَجَ إِلَى الْغَزْوِ ثُمَّ مَاتَ قَبْلَ الْقِتَالِ لَهُ
سَهْمُهُ وَإِنْ لَمْ يَحْضُرِ الْحَرْبَ، رَوَاهُ ابْنُ
لَهِيعَةَ عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ عَنْ أَهْلِ
الْمَدِينَةِ. وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنِ ابن المبارك أيضا.
الرابعة- قَوْلِهِ تَعَالَى: (وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ
مُهاجِراً إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ) الْآيَةَ. قَالَ
عِكْرِمَةُ مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ: طَلَبْتُ اسْمَ هَذَا
الرَّجُلِ أَرْبَعَ عَشْرَةَ سَنَةً حَتَّى وَجَدْتُهُ. وَفِي
قَوْلِ
(5/348)
عِكْرِمَةَ هَذَا دَلِيلٌ عَلَى شَرَفِ
هَذَا الْعِلْمِ قَدِيمًا، وَأَنَّ الِاعْتِنَاءَ بِهِ حَسَنٌ
وَالْمَعْرِفَةَ بِهِ فَضْلٌ، وَنَحْوٌ مِنْهُ قَوْلُ ابْنِ
عَبَّاسٍ: مَكَثْتُ سِنِينَ أُرِيدُ أَنْ أَسْأَلَ عُمَرَ عَنِ
الْمَرْأَتَيْنِ اللَّتَيْنِ تَظَاهَرَتَا عَلَى رَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مَا يَمْنَعُنِي
إِلَّا مَهَابَتُهُ. وَالَّذِي ذَكَرَهُ عِكْرِمَةُ هُوَ
ضَمْرَةُ بْنُ الْعِيصِ أَوِ العيص ابن ضَمْرَةَ بْنِ
زِنْبَاعٍ، حَكَاهُ الطَّبَرِيُّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ.
وَيُقَالُ فِيهِ: ضَمِيرَةُ أَيْضًا. وَيُقَالُ: جُنْدَعُ بْنُ
ضَمْرَةَ مِنْ بَنِي لَيْثٍ، وَكَانَ مِنَ الْمُسْتَضْعَفِينَ
بِمَكَّةَ وَكَانَ مَرِيضًا، فَلَمَّا سَمِعَ مَا أَنْزَلَ
اللَّهُ فِي الْهِجْرَةِ قَالَ: أَخْرِجُونِي، فَهُيِّئَ لَهُ
فِرَاشٌ ثُمَّ وُضِعَ عَلَيْهِ وَخَرَجَ بِهِ فَمَاتَ فِي
الطَّرِيقِ بِالتَّنْعِيمِ «1»، فَأَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ
(وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهاجِراً) الْآيَةَ. وَذَكَرَ
أَبُو عُمَرَ أَنَّهُ قَدْ قِيلَ فِيهِ: خالد ابن حِزَامِ بْنِ
خُوَيْلِدٍ ابْنُ أَخِي خَدِيجَةَ، وَأَنَّهُ هَاجَرَ إِلَى
أَرْضِ الْحَبَشَةِ فَنَهَشَتْهُ حَيَّةٌ فِي الطَّرِيقِ
فَمَاتَ قَبْلَ أَنْ يَبْلُغَ أَرْضَ الْحَبَشَةِ، فَنَزَلَتْ
فِيهِ الْآيَةُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَحَكَى أَبُو الْفَرَجِ
الْجَوْزِيُّ أَنَّهُ حَبِيبُ بْنُ ضَمْرَةَ. وَقِيلَ:
ضَمْرَةُ بْنُ جُنْدَبٍ الضَّمْرِيُّ، عَنِ السُّدِّيِّ.
وَحُكِيَ عَنْ عِكْرِمَةَ أَنَّهُ جُنْدَبُ بْنُ ضَمْرَةَ
الْجُنْدُعِيُّ. وَحُكِيَ عَنِ ابْنِ «2» جَابِرٍ أَنَّهُ
ضَمْرَةُ بْنُ بَغِيضٍ الَّذِي مِنْ بَنِي لَيْثٍ. وَحَكَى
الْمَهْدَوِيُّ أَنَّهُ ضَمْرَةُ بْنُ ضَمْرَةَ بْنِ نُعَيْمٍ.
وَقِيلَ: ضَمْرَةُ بْنُ خُزَاعَةَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَرَوَى مَعْمَرٌ عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ
(إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي
أَنْفُسِهِمْ) الْآيَةَ، قَالَ رَجُلٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ
وَهُوَ مَرِيضٌ: وَاللَّهِ مَا لِي مِنْ عُذْرٍ! إِنِّي
لَدَلِيلٌ فِي الطَّرِيقِ، وَإِنِّي لَمُوسِرٌ، فَاحْمِلُونِي.
فَحَمَلُوهُ فَأَدْرَكَهُ الْمَوْتُ فِي الطَّرِيقِ، فَقَالَ
أَصْحَابُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَوْ
بَلَغَ إِلَيْنَا لَتَمَّ أَجْرُهُ، وَقَدْ مَاتَ
بِالتَّنْعِيمِ. وَجَاءَ بَنُوهُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَخْبَرُوهُ بِالْقِصَّةِ،
فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ (وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ
مُهَاجِرًا) الْآيَةَ. وَكَانَ اسمه ضمرة بن جندب، ويقال: جندب
ابن ضَمْرَةَ عَلَى مَا تَقَدَّمَ. (وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا)
لِمَا كَانَ مِنْهُ مِنَ الشِّرْكِ. (رَحِيمًا) حِينَ قَبِلَ
تَوْبَتَهُ. الْخَامِسَةُ- قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: قَسَّمَ
الْعُلَمَاءُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ الذَّهَابَ فِي
الْأَرْضِ قِسْمَيْنِ: هَرَبًا وَطَلَبًا، فَالْأَوَّلُ
يَنْقَسِمُ إِلَى سِتَّةِ أقسام: الأول- الهجرة وهي الخروج من
__________
(1). التنعيم: موضع قرب مكة في الحل، يعرف بمسجد عائشة. منه
يحرم با لعمرة المعتمر.
(2). كذا في ابن عطية والأصول الا ج ف: جابر. ولعل ابن جابر هو
عبد الرحمن بن جابر بن عتيك الا نصارى أو أخوه محمد.
(5/349)
دَارِ الْحَرْبِ إِلَى دَارِ الْإِسْلَامِ،
وَكَانَتْ فَرْضًا فِي أَيَّامِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهَذِهِ الْهِجْرَةُ بَاقِيَةٌ
مَفْرُوضَةٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَالَّتِي انْقَطَعَتْ
بِالْفَتْحِ هِيَ الْقَصْدُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَيْثُ كَانَ «1»، فَإِنْ بَقِيَ فِي دَارِ
الْحَرْبِ عَصَى، وَيَخْتَلِفُ فِي حَالِهِ. الثَّانِي-
الْخُرُوجُ مِنْ أَرْضِ الْبِدْعَةِ، قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ:
سَمِعْتُ مَالِكًا يَقُولُ لَا يَحِلُّ لِأَحَدٍ أَنْ يُقِيمَ
بِأَرْضٍ يُسَبُّ فِيهَا السَّلَفُ. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ:
وَهَذَا صَحِيحٌ، فَإِنَّ الْمُنْكَرَ إِذَا لَمْ تَقْدِرْ
أَنْ تُغَيِّرَهُ فَزُلْ عَنْهُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:
(وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا فَأَعْرِضْ
عَنْهُمْ) إِلَى قَوْلِهِ (الظَّالِمِينَ «2»). الثَّالِثُ-
الْخُرُوجُ مِنْ أَرْضٍ غَلَبَ عَلَيْهَا الْحَرَامُ: فَإِنَّ
طَلَبَ الْحَلَالِ فَرْضٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ. الرَّابِعُ-
الْفِرَارُ مِنَ الْأَذِيَّةِ فِي الْبَدَنِ، وَذَلِكَ فَضْلٌ
مِنَ اللَّهِ أَرْخَصَ فِيهِ، فَإِذَا خَشِيَ عَلَى نَفْسِهِ
فَقَدْ أَذِنَ اللَّهُ فِي الْخُرُوجِ عَنْهُ وَالْفِرَارِ
بِنَفْسِهِ لِيُخَلِّصَهَا مِنْ ذَلِكَ الْمَحْذُورِ.
وَأَوَّلُ مَنْ فَعَلَهُ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ،
فَإِنَّهُ لَمَّا خَافَ مِنْ قَوْمِهِ قَالَ: (إِنِّي
مُهَاجِرٌ إلى ربي «3»، وقال: (إني ذاهب إلى ربي سيهدين «4»).
وَقَالَ مُخْبِرًا عَنْ مُوسَى: (فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا
يَتَرَقَّبُ «5»). الْخَامِسُ- خَوْفُ الْمَرَضِ فِي
الْبِلَادِ الْوَخِمَةِ وَالْخُرُوجُ مِنْهَا إِلَى الْأَرْضِ
النَّزِهَةِ. وَقَدْ أَذِنَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
لِلرُّعَاةِ حِينَ اسْتَوْخَمُوا الْمَدِينَةَ أَنْ يَخْرُجُوا
إِلَى الْمَسْرَحِ فَيَكُونُوا فِيهِ حَتَّى يَصِحُّوا. وَقَدِ
اسْتُثْنِيَ مِنْ ذَلِكَ الْخُرُوجُ مِنَ الطَّاعُونِ،
فَمَنَعَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ مِنْهُ بِالْحَدِيثِ الصَّحِيحِ
عَنْ نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَدْ
تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي (الْبَقَرَةِ «6»). بَيْدَ أَنَّ
عُلَمَاءَنَا قَالُوا: هُوَ مَكْرُوهٌ. السَّادِسُ- الْفِرَارُ
خَوْفَ الْأَذِيَّةِ فِي الْمَالِ، فَإِنَّ حُرْمَةَ مَالِ
الْمُسْلِمِ كَحُرْمَةِ دَمِهِ، وَالْأَهْلُ مِثْلُهُ
وَأَوْكَدُ. وَأَمَّا قِسْمُ الطَّلَبِ فَيَنْقَسِمُ
قِسْمَيْنِ: طَلَبُ دِينٍ وَطَلَبُ دُنْيَا، فَأَمَّا طَلَبُ
الدِّينِ فَيَتَعَدَّدُ بِتَعَدُّدِ أَنْوَاعِهِ إِلَى
تِسْعَةِ أَقْسَامٍ: الْأَوَّلُ- سَفَرُ الْعِبْرَةِ، قَالَ
اللَّهُ تَعَالَى: (أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ
فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ
«7») وَهُوَ كَثِيرٌ. وَيُقَالُ: إِنَّ ذَا الْقَرْنَيْنِ
إِنَّمَا طَافَ [الْأَرْضَ «8»] لِيَرَى عَجَائِبَهَا.
وَقِيلَ: لِيُنَفِّذَ الْحَقَّ فِيهَا. الثَّانِي- سفر الحج.
والأول وإن كان
__________
(1). كذا في الأصول. والذي في ابن العربي: (حيث كان أسلم في
دار الحرب وجب عليه الخروج إلى دار الإسلام). [ ..... ]
(2). راجع ج 7 ص 12.
(3). راجع ج 13 ص 339، وص 265.
(4). راجع ج 15 ص 97.
(5). راجع ج 13 ص 339، وص 265.
(6). راجع ج 3 ص 230.
(7). راجع ج 14 ص 9.
(8). الزيادة عن ابن العربي.
(5/350)
وَإِذَا ضَرَبْتُمْ
فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا
مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ
كَفَرُوا إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوًّا
مُبِينًا (101)
نَدْبًا فَهَذَا فَرْضٌ. الثَّالِثُ-
سَفَرُ الْجِهَادِ وَلَهُ أَحْكَامُهُ. الرَّابِعُ- سَفَرُ
الْمَعَاشِ، فَقَدْ يَتَعَذَّرُ عَلَى الرَّجُلِ مَعَاشُهُ
مَعَ الْإِقَامَةِ فَيَخْرُجُ فِي طَلَبِهِ لَا يَزِيدُ
عَلَيْهِ، مِنْ صَيْدٍ أَوِ احْتِطَابٍ أَوِ احْتِشَاشٍ،
فَهُوَ فَرْضٌ عَلَيْهِ. الْخَامِسُ سَفَرُ التِّجَارَةِ
وَالْكَسْبُ الزَّائِدُ عَلَى الْقُوتِ، وَذَلِكَ جَائِزٌ
بِفَضْلِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، قَالَ اللَّهُ
تَعَالَى: (لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا
مِنْ رَبِّكُمْ «1») يَعْنِي التِّجَارَةَ، وَهِيَ نِعْمَةٌ
مَنَّ اللَّهُ بِهَا فِي سَفَرِ الْحَجِّ، فَكَيْفَ إِذَا
انْفَرَدَتْ. السَّادِسُ- فِي طَلَبِ الْعِلْمِ وَهُوَ
مَشْهُورٌ. السَّابِعُ- قَصْدُ الْبِقَاعِ، قَالَ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (لَا تُشَدُّ الرِّحَالُ إِلَّا
إِلَى ثَلَاثَةِ مَسَاجِدَ). الثَّامِنُ- الثُّغُورُ
لِلرِّبَاطِ بِهَا وَتَكْثِيرِ سَوَادِهَا لِلذَّبِّ عَنْهَا.
التَّاسِعُ- زِيَارَةُ الْإِخْوَانِ فِي اللَّهِ تَعَالَى،
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
(زار رجل أخاله فِي قَرْيَةٍ فَأَرْصَدَ اللَّهُ لَهُ مَلَكًا
عَلَى مَدْرَجَتِهِ «2» فَقَالَ أَيْنَ تُرِيدُ فَقَالَ
أُرِيدُ أَخًا لِي فِي هَذِهِ الْقَرْيَةِ قَالَ هَلْ لَكَ
مِنْ نِعْمَةٍ تَرُبُّهَا «3» عَلَيْهِ قَالَ لَا غَيْرَ
أَنِّي أَحْبَبْتُهُ فِي اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ قَالَ فَإِنِّي
رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكَ بِأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَبَّكَ
كَمَا أَحْبَبْتَهُ فِيهِ). رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَغَيْرُهُ.
[سورة النساء (4): آية 101]
وَإِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ
أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ
يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الْكافِرِينَ كانُوا
لَكُمْ عَدُوًّا مُبِيناً (101)
فِيهِ عَشْرُ مَسَائِلَ: الْأُولَى قَوْلُهُ تَعَالَى:
(ضَرَبْتُمْ) سَافَرْتُمْ، وَقَدْ تَقَدَّمَ. وَاخْتَلَفَ
الْعُلَمَاءُ فِي حُكْمِ الْقَصْرِ فِي السَّفَرِ، فَرُوِيَ
عَنْ جَمَاعَةٍ أَنَّهُ فَرْضٌ. وَهُوَ قَوْلُ عُمَرَ بْنِ
عَبْدِ الْعَزِيزِ وَالْكُوفِيِّينَ وَالْقَاضِي إِسْمَاعِيلَ
وَحَمَّادِ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ، وَاحْتَجُّوا بِحَدِيثِ
عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا (فُرِضَتِ الصَّلَاةُ
رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ) الْحَدِيثَ، وَلَا حجة فيه
لمخالفتها له، فإنه كَانَتْ تُتِمُّ فِي السَّفَرِ وَذَلِكَ
يُوهِنُهُ. وَإِجْمَاعُ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ عَلَى أَنَّهُ
لَيْسَ بِأَصْلٍ يُعْتَبَرُ فِي صَلَاةِ الْمُسَافِرِ خَلْفَ
الْمُقِيمِ، وَقَدْ قَالَ غيرها من
__________
(1). راجع ج 2 ص 413.
(2). أرصده ير قبة. والمدرجة (بفتح الميم والراء): الطريق.
(3). رببت الامر: أصلحته ومتنته.
(5/351)
الصَّحَابَةِ كَعُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ
وَجُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ: (إِنَّ الصَّلَاةَ فُرِضَتْ فِي
الْحَضَرِ أَرْبَعًا وَفِي السَّفَرِ رَكْعَتَيْنِ وَفِي
الْخَوْفِ رَكْعَةً) رَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ.
ثُمَّ إِنَّ حَدِيثَ عَائِشَةَ قَدْ رَوَاهُ ابْنُ عَجْلَانَ
عَنْ صَالِحِ بْنِ كَيْسَانَ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ
قَالَتْ: فَرَضَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ الصَّلَاةَ رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ. وَقَالَ
فِيهِ الْأَوْزَاعِيُّ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ
عَائِشَةَ قَالَتْ: فَرَضَ اللَّهُ الصَّلَاةَ عَلَى رَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَكْعَتَيْنِ
رَكْعَتَيْنِ، الْحَدِيثَ، وَهَذَا اضْطِرَابٌ. ثُمَّ إِنَّ
قَوْلَهَا: (فُرِضَتِ الصَّلَاةُ) لَيْسَ عَلَى ظَاهِرِهِ،
فَقَدْ خَرَجَ عَنْهُ صَلَاةُ الْمَغْرِبِ وَالصُّبْحِ،
فَإِنَّ الْمَغْرِبَ مَا زِيدَ فِيهَا وَلَا نُقِصَ مِنْهَا،
وَكَذَلِكَ الصُّبْحُ، وَهَذَا كُلُّهُ يُضَعِّفُ مَتْنَهُ لَا
سَنَدَهُ. وَحَكَى ابْنُ الْجَهْمِ أَنَّ أَشْهَبَ رَوَى عَنْ
مَالِكٍ أَنَّ الْقَصْرَ فَرْضٌ، وَمَشْهُورُ مَذْهَبِهِ
وَجُلُّ أَصْحَابِهِ وَأَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ مِنَ السَّلَفِ
وَالْخَلَفِ أَنَّ الْقَصْرَ سُنَّةٌ، وَهُوَ قَوْلُ
الشَّافِعِيِّ، وَهُوَ الصَّحِيحُ عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانُهُ
إِنْ شَاءَ اللَّهُ. وَمَذْهَبُ عَامَّةِ الْبَغْدَادِيِّينَ
مِنَ الْمَالِكِيِّينَ أَنَّ الْفَرْضَ التَّخْيِيرُ، وَهُوَ
قَوْلُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ. ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي
أَيِّهِمَا أَفْضَلُ، فَقَالَ بَعْضُهُمُ: الْقَصْرُ أَفْضَلُ،
وَهُوَ قَوْلُ الْأَبْهَرِيِّ وَغَيْرِهِ. وَقِيلَ: إِنَّ
الْإِتْمَامَ أَفْضَلُ، وَحُكِيَ عَنِ الشَّافِعِيِّ. وَحَكَى
أَبُو سَعِيدٍ الْفَرْوِيُّ الْمَالِكِيُّ أَنَّ الصَّحِيحَ
فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ التَّخْيِيرُ لِلْمُسَافِرِ فِي
الْإِتْمَامِ وَالْقَصْرِ. قُلْتُ- وَهُوَ الَّذِي يَظْهَرُ
مِنْ قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: (فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ
جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ) إِلَّا أَنَّ مَالِكًا
رَحِمَهُ اللَّهُ يَسْتَحِبُّ لَهُ الْقَصْرَ، وَكَذَلِكَ
يَرَى عَلَيْهِ الْإِعَادَةَ فِي الْوَقْتِ إِنْ أَتَمَّ.
وَحَكَى أَبُو مُصْعَبٍ فِي (مُخْتَصَرِهِ) عَنْ مَالِكٍ
وَأَهْلِ الْمَدِينَةِ قَالَ: الْقَصْرُ فِي السَّفَرِ
لِلرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ سُنَّةٌ. قَالَ أَبُو عُمَرَ:
وَحَسْبُكَ بِهَذَا فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ، مَعَ أَنَّهُ لَمْ
يَخْتَلِفْ قَوْلُهُ: أَنَّ مَنْ أَتَمَّ فِي السَّفَرِ
يُعِيدُ مَا دَامَ فِي الْوَقْتِ، وَذَلِكَ اسْتِحْبَابٌ
عِنْدَ مَنْ فَهِمَ، لَا إِيجَابَ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ:
الْقَصْرُ فِي غَيْرِ الْخَوْفِ بِالسُّنَّةِ، وَأَمَّا فِي
الْخَوْفِ مَعَ السَّفَرِ فَبِالْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ، ومن
صلى أربعا فلا شي عَلَيْهِ، وَلَا أُحِبُّ لِأَحَدٍ أَنْ
يُتِمَّ فِي السَّفَرِ رَغْبَةً عَنِ السُّنَّةِ. وَقَالَ
أَبُو بَكْرٍ الْأَثْرَمُ: قُلْتُ لِأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ
لِلرَّجُلِ أَنْ يُصَلِّيَ فِي السَّفَرِ أَرْبَعًا؟ قَالَ:
لَا، مَا يُعْجِبُنِي، السُّنَّةُ رَكْعَتَانِ. وَفِي
مُوَطَّأِ مَالِكٍ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ رَجُلٍ مِنْ آلِ
خَالِدِ بْنِ أَسِيدٍ، أَنَّهُ سَأَلَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عمر
(5/352)
فَقَالَ: يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ
إِنَّا نَجِدُ صَلَاةَ الْخَوْفِ وَصَلَاةَ الْحَضَرِ فِي
الْقُرْآنِ وَلَا نَجِدُ صَلَاةَ السَّفَرِ؟ فَقَالَ عَبْدُ
اللَّهِ بْنُ عُمَرَ: يَا ابْنَ أَخِي إِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ
وَتَعَالَى بَعَثَ إِلَيْنَا مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا نَعْلَمُ شَيْئًا، فَإِنَّا نَفْعَلُ
كَمَا رَأَيْنَاهُ يَفْعَلُ. فَفِي هَذَا الْخَبَرِ «1» قَصْرُ
الصَّلَاةِ في السفر من غير خوف ستة لَا فَرِيضَةٌ، لِأَنَّهَا
لَا ذِكْرَ لَهَا فِي الْقُرْآنِ، وَإِنَّمَا الْقَصْرُ
الْمَذْكُورُ فِي الْقُرْآنِ إِذَا كَانَ سَفَرًا وَخَوْفًا
وَاجْتَمَعَا، فَلَمْ يُبِحِ الْقَصْرَ فِي كِتَابِهِ إِلَّا
مَعَ هَذَيْنَ الشَّرْطَيْنِ. وَمِثْلُهُ فِي الْقُرْآنِ:
(وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ «2»)
الْآيَةَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: (فَإِذَا
اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ) أَيْ فَأَتِمُّوهَا،
وَقَصَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
مِنْ أَرْبَعٍ إِلَى اثْنَتَيْنِ إِلَّا الْمَغْرِبَ فِي
أَسْفَارِهِ كُلِّهَا آمِنًا لَا يَخَافُ إِلَّا اللَّهَ
تَعَالَى، فَكَانَ ذَلِكَ سُنَّةً مَسْنُونَةً مِنْهُ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، زِيَادَةً فِي أَحْكَامِ اللَّهِ
تَعَالَى كَسَائِرِ مَا سَنَّهُ وَبَيَّنَهُ، مِمَّا لَيْسَ
لَهُ فِي الْقُرْآنِ ذِكْرٌ. وَقَوْلُهُ: (كَمَا رَأَيْنَاهُ
يَفْعَلُ) مَعَ حَدِيثِ عُمَرَ حَيْثُ سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الْقَصْرِ فِي
السَّفَرِ مِنْ غَيْرِ خَوْفٍ، فَقَالَ: (تِلْكَ صَدَقَةٌ
تَصَدَّقَ اللَّهُ بِهَا عَلَيْكُمْ فَاقْبَلُوا صَدَقَتَهُ
«3») يَدُلُّ عَلَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ يُبِيحُ
الشَّيْءَ فِي كِتَابِهِ بِشَرْطٍ ثُمَّ يُبِيحُ ذَلِكَ
الشَّيْءَ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ مِنْ غَيْرِ ذَلِكَ
الشَّرْطِ. وَسَأَلَ حَنْظَلَةُ ابْنَ عُمَرَ عَنْ صَلَاةِ
السَّفَرِ فَقَالَ: رَكْعَتَانِ. قُلْتُ: فَأَيْنَ قَوْلُهُ
تَعَالَى: (إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ
كَفَرُوا) وَنَحْنُ آمِنُونَ؟ قَالَ: سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَهَذَا ابْنُ عُمَرَ قَدْ
أَطْلَقَ عَلَيْهَا سُنَّةً، وَكَذَلِكَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ.
فَأَيْنَ الْمَذْهَبُ عَنْهُمَا؟. قَالَ أَبُو عُمَرَ: وَلَمْ
يُقِمْ مَالِكٌ إِسْنَادَ هَذَا الْحَدِيثِ، لِأَنَّهُ لَمْ
يُسَمِّ الرَّجُلَ الَّذِي سَأَلَ ابْنَ عُمَرَ، وَأَسْقَطَ
مِنَ الْإِسْنَادِ رَجُلًا، وَالرَّجُلُ الَّذِي لَمْ
يُسَمِّهِ هُوَ أمية بن عبد الله ابن خَالِدِ بْنِ أَسِيدِ
بْنِ أَبِي الْعِيصِ بْنِ أُمَيَّةَ بْنِ عَبْدِ شَمْسِ بْنِ
عَبْدِ مَنَافٍ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الثَّانِيةُ- وَاخْتَلَفَ
الْعُلَمَاءُ فِي حَدِّ الْمَسَافَةِ الَّتِي تُقْصَرُ فِيهَا
الصَّلَاةُ
، فَقَالَ دَاوُدُ: تُقْصَرُ فِي كُلِّ سَفَرٍ طَوِيلٍ أَوْ
قَصِيرٍ، وَلَوْ كَانَ ثَلَاثَةَ أَمْيَالٍ مِنْ حَيْثُ
تُؤْتَى الْجُمُعَةُ، مُتَمَسِّكًا بِمَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ
عَنْ يَحْيَى بْنِ يَزِيدَ الْهُنَائِيُّ قَالَ: سَأَلْتُ
أَنَسَ بْنَ مالك عن قصر الصلاة فقال:
__________
(1). في ج وط: الحديث.
(2). راجع ص 135 من هذا الجزء.
(3). نص الحديث (صدقة تصدق الله بها عليكم ... ) الحديث كما في
الصحاح والطبري والجصاص، وغيرها. وسيأتي. وفى الأصول: (تلك
صدقة ... ) وفى ج: (تصدق الله بها على عباده).
(5/353)
كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا خَرَجَ مَسِيرَةَ ثَلَاثَةِ
أَمْيَالٍ أَوْ ثَلَاثَةِ فَرَاسِخَ- شُعْبَةُ الشَّاكُّ «1» -
صَلَّى رَكْعَتَيْنِ. وَهَذَا لَا حُجَّةَ فِيهِ، لِأَنَّهُ
مَشْكُوكٌ فِيهِ، وَعَلَى تَقْدِيرِ أَحَدِهِمَا فَلَعَلَّهُ
حَدَّ الْمَسَافَةَ الَّتِي بَدَأَ مِنْهَا الْقَصْرُ، وَكَانَ
سَفَرًا طَوِيلًا زَائِدًا عَلَى ذَلِكَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَقَدْ تَلَاعَبَ قَوْمٌ بِالدِّينِ
فَقَالُوا: إِنَّ مَنْ خَرَجَ مِنَ الْبَلَدِ إِلَى ظَاهِرِهِ
قَصَرَ وَأَكَلَ، وَقَائِلُ هَذَا أَعْجَمِيٌّ لَا يَعْرِفُ
السَّفَرَ عِنْدَ الْعَرَبِ أَوْ مُسْتَخِفٌّ بِالدِّينِ،
وَلَوْلَا أَنَّ الْعُلَمَاءَ ذَكَرُوهُ لَمَا رَضِيتُ أَنْ
أَلْمَحَهُ بِمُؤَخَّرِ عَيْنِي، وَلَا أُفَكِّرَ فِيهِ
بِفُضُولِ قَلْبِي. وَلَمْ يُذْكَرْ حَدُّ السَّفَرِ الَّذِي
يَقَعُ بِهِ الْقَصْرُ «2» لَا فِي الْقُرْآنِ وَلَا فِي
السُّنَّةِ، وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ لِأَنَّهَا كَانَتْ
لَفْظَةٌ عَرَبِيَّةٌ مُسْتَقِرٌّ عِلْمُهَا عِنْدَ الْعَرَبِ
الَّذِينَ خَاطَبَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى بِالْقُرْآنِ،
فَنَحْنُ نَعْلَمُ قَطْعًا أَنَّ مَنْ بَرَزَ عَنِ الدُّورِ
لِبَعْضِ الْأُمُورِ أَنَّهُ لَا يَكُونُ مُسَافِرًا لُغَةً
وَلَا شَرْعًا «3»، وَإِنْ مَشَى مُسَافِرًا ثَلَاثَةَ
أَيَّامٍ فَإِنَّهُ مُسَافِرٌ قَطْعًا. كَمَا أَنَّا نَحْكُمُ
عَلَى أَنَّ مَنْ مَشَى يَوْمًا وَلَيْلَةً كَانَ مُسَافِرًا،
لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (لَا
يَحِلُّ لِامْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ
أَنْ تُسَافِرَ مَسِيرَةَ يَوْمٍ إِلَّا مَعَ ذِي مَحْرَمٍ
مِنْهَا) وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ، لِأَنَّهُ وَسَطٌ بَيْنَ
الْحَالَيْنِ وَعَلَيْهِ عَوَّلَ مَالِكٌ، وَلَكِنَّهُ لَمْ
يَجِدْ هَذَا الْحَدِيثَ مُتَّفَقًا عَلَيْهِ، وَرُوِيَ
مَرَّةً (يَوْمًا وَلَيْلَةً) وَمَرَّةً (ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ)
فَجَاءَ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ فَعَوَّلَ عَلَى
فِعْلِهِ، فَإِنَّهُ كَانَ يَقْصُرُ الصَّلَاةَ إِلَى رِئْمٍ
«4»، وَهِيَ أَرْبَعَةُ بُرُدٍ، لِأَنَّ ابْنَ عُمَرَ كَانَ
كَثِيرَ الِاقْتِدَاءِ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ. قَالَ غَيْرُهُ: وَكَافَّةُ الْعُلَمَاءِ عَلَى
أَنَّ الْقَصْرَ إِنَّمَا شُرِعَ تَخْفِيفًا، وَإِنَّمَا
يَكُونُ فِي السَّفَرِ الطَّوِيلِ الَّذِي تَلْحَقُ بِهِ
الْمَشَقَّةُ غَالِبًا، فَرَاعَى مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ
وَأَصْحَابُهُمَا وَاللَّيْثُ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَفُقَهَاءُ
أَصْحَابِ الْحَدِيثِ أَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ وَغَيْرُهُمَا
يَوْمًا تَامًّا. وَقَوْلُ مَالِكٍ يَوْمًا وَلَيْلَةً رَاجِعٌ
إِلَى الْيَوْمِ التَّامِّ، لِأَنَّهُ لَمْ يُرِدْ بِقَوْلِهِ:
مَسِيرَةَ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ أَنْ يَسِيرَ النَّهَارَ كُلَّهُ
وَاللَّيْلَ كُلَّهُ، وَإِنَّمَا أَرَادَ أَنْ يَسِيرَ سَيْرًا
يَبِيتُ فِيهِ [بَعِيدًا] عَنْ أَهْلِهِ وَلَا يُمْكِنُهُ
الرُّجُوعُ إِلَيْهِمْ. وَفِي الْبُخَارِيِّ: وَكَانَ ابْنُ
عُمَرَ وَابْنُ عَبَّاسٍ يُفْطِرَانِ وَيَقْصُرَانِ فِي
أَرْبَعَةِ بُرُدٍ، وَهِيَ سِتَّةَ عَشَرَ فَرْسَخًا، وَهَذَا
مَذْهَبُ مَالِكٍ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَالطَّبَرِيُّ:
سِتَّةٌ وَأَرْبَعُونَ مِيلًا. وَعَنْ مَالِكٍ فِي
الْعُتْبِيَّةِ فِيمَنْ خَرَجَ إِلَى ضيعته على خمسة وأربعين
ميلا
__________
(1). أحد رواة سند هذا الحديث. [ ..... ]
(2). في ج، ز: يقع به الفرق.
(3). في ط: شرعا فيه.
(4). رئم (بكسر أوله وهمز ثانيه وسكونه وقيل بالياء من غير
همز): واد بالمدينة.
(5/354)
قَالَ: يَقْصُرُ، وَهُوَ أَمْرٌ
مُتَقَارِبٌ. وَعَنْ مَالِكٍ فِي الْكُتُبِ الْمَنْثُورَةِ:
أَنَّهُ يَقْصُرُ فِي سِتَّةٍ وَثَلَاثِينَ مِيلًا، وَهِيَ
تَقْرَبُ مِنْ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ. وَقَالَ يَحْيَى بْنُ
عُمَرَ: يُعِيدُ أَبَدًا!. ابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ: فِي
الْوَقْتِ «1»!. وَقَالَ الْكُوفِيُّونَ: لَا يَقْصُرُ فِي
أَقَلَّ مِنْ مَسِيرَةِ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، وَهُوَ قَوْلُ
عُثْمَانَ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَحُذَيْفَةَ. وَفِي صَحِيحِ
الْبُخَارِيِّ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (لَا تسافر الْمَرْأَةُ
ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا مَعَ ذِي مَحْرَمٍ). قَالَ أَبُو
حَنِيفَةَ: ثَلَاثَةُ أَيَّامِ وَلَيَالِيهَا بِسَيْرِ
الْإِبِلِ وَمَشْيِ الْأَقْدَامِ. وَقَالَ الْحَسَنُ
وَالزُّهْرِيُّ: تَقْصُرُ الصَّلَاةَ فِي مَسِيرَةِ
يَوْمَيْنِ، وَرُوِيَ هَذَا الْقَوْلُ عَنْ مَالِكٍ، وَرَوَاهُ
أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: (لا تُسَافِرُ الْمَرْأَةُ مَسِيرَةَ
لَيْلَتَيْنِ إِلَّا مَعَ زَوْجٍ أَوْ ذِي مَحْرَمٍ). وَقَصَرَ
ابْنُ عُمَرَ فِي ثَلَاثِينَ مِيلًا، وَأَنَسٌ فِي خَمْسَةَ
عَشَرَ مِيلًا. وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: عَامَّةُ
الْعُلَمَاءِ فِي الْقَصْرِ عَلَى الْيَوْمِ التَّامِّ، وَبِهِ
نَأْخُذُ. قَالَ أَبُو عُمَرَ: اضْطَرَبَتِ الْآثَارُ
الْمَرْفُوعَةُ فِي هَذَا الْبَابِ كَمَا تَرَى فِي
أَلْفَاظِهَا، وَمُجْمَلُهَا عِنْدِي- وَاللَّهُ أَعْلَمُ-
أَنَّهَا خَرَجَتْ عَلَى أَجْوِبَةِ السَّائِلِينَ، فَحَدَّثَ
كُلُّ وَاحِدٍ بِمَعْنَى مَا سَمِعَ، كَأَنَّهُ قِيلَ لَهُ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي وَقْتٍ مَا: هَلْ
تُسَافِرُ الْمَرْأَةُ مَسِيرَةَ يَوْمٍ بِغَيْرِ مَحْرَمٍ؟
فَقَالَ: لَا. وَقِيلَ لَهُ فِي وَقْتٍ آخَرَ: هَلْ تُسَافِرُ
الْمَرْأَةُ يَوْمَيْنِ بِغَيْرِ مَحْرَمٍ؟ فَقَالَ: لَا.
وَقَالَ لَهُ آخَرُ: هَلْ تُسَافِرُ الْمَرْأَةُ [مَسِيرَةَ
«2» [ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ بِغَيْرِ مَحْرَمٍ؟ فَقَالَ: لَا.
وَكَذَلِكَ مَعْنَى اللَّيْلَةِ وَالْبَرِيدِ عَلَى مَا
رُوِيَ، فَأَدَّى كُلُّ وَاحِدٍ مَا سَمِعَ عَلَى الْمَعْنَى،
وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَيَجْمَعُ مَعَانِي الْآثَارِ فِي هَذَا
الْبَابِ- وَإِنِ اخْتَلَفَتْ ظَوَاهِرُهَا- الْحَظْرُ عَلَى
الْمَرْأَةِ أَنْ تُسَافِرَ سَفَرًا يُخَافُ عَلَيْهَا فِيهِ
الْفِتْنَةُ بِغَيْرِ مَحْرَمٍ، قَصِيرًا كَانَ أَوْ طَوِيلًا.
وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الثَّالِثَةُ- وَاخْتَلَفُوا فِي نَوْعِ
السَّفَرِ الَّذِي تُقْصَرُ فِيهِ الصَّلَاةُ، فَأَجْمَعَ
النَّاسُ عَلَى الْجِهَادِ وَالْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ وَمَا
ضَارَعَهَا مِنْ صِلَةِ رَحِمٍ وَإِحْيَاءِ نَفْسٍ.
وَاخْتَلَفُوا فِيمَا سِوَى ذَلِكَ، فَالْجُمْهُورُ عَلَى
جَوَازِ الْقَصْرِ فِي السَّفَرِ الْمُبَاحِ كَالتِّجَارَةِ
وَنَحْوِهَا. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ قَالَ:
لَا تُقْصَرُ الصَّلَاةُ إِلَّا فِي حَجٍّ أَوْ جِهَادٍ.
وَقَالَ عَطَاءٌ: لَا تُقْصَرُ إِلَّا فِي سَفَرِ طَاعَةٍ
وَسَبِيلٍ مِنْ سُبُلِ الْخَيْرِ. وَرُوِيَ عَنْهُ أَيْضًا:
تُقْصَرُ فِي كُلِّ السَّفَرِ الْمُبَاحِ مِثْلَ قَوْلِ
الْجُمْهُورِ. وَقَالَ مَالِكٌ: إِنْ خَرَجَ لِلصَّيْدِ لَا
لِمَعَاشِهِ وَلَكِنْ مُتَنَزِّهًا، أَوْ خَرَجَ لمشاهدة بلدة
متنزها ومتلذذا
__________
(1). كذا في كل الأصول.
(2). من ج وط.
(5/355)
لَمْ يَقْصُرْ. وَالْجُمْهُورُ مِنَ
الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّهُ لَا قَصْرَ فِي سَفَرِ
الْمَعْصِيَةِ، كَالْبَاغِي وَقَاطِعِ الطَّرِيقِ وَمَا فِي
مَعْنَاهُمَا. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ
وَالْأَوْزَاعِيِّ إِبَاحَةُ الْقَصْرِ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ،
وَرُوِيَ عَنْ مَالِكٍ. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي (الْبَقَرَةِ
«1») وَاخْتَلَفَ عَنْ أَحْمَدَ، فَمَرَّةً قَالَ بِقَوْلِ
الْجُمْهُورِ، وَمَرَّةً قَالَ: لَا يُقْصَرُ إِلَّا فِي حَجٍّ
أَوْ عُمْرَةٍ. وَالصَّحِيحُ مَا قَالَهُ الْجُمْهُورُ،
لِأَنَّ الْقَصْرَ إِنَّمَا شُرِعَ تَخْفِيفًا عَنِ
الْمُسَافِرِ لِلْمَشَقَّاتِ اللَّاحِقَةِ فِيهِ،
وَمَعُونَتِهِ عَلَى مَا هُوَ بِصَدَدِهِ مِمَّا يَجُوزُ،
وَكُلُّ الْأَسْفَارِ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ، لِقَوْلِهِ
تَعَالَى: (وَإِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ
عَلَيْكُمْ جُناحٌ) أَيْ إِثْمٌ (أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ
الصَّلاةِ) فَعَمَّ. وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ (خَيْرُ
عِبَادِ اللَّهِ الَّذِينَ إِذَا سَافَرُوا قَصَرُوا
وَأَفْطَرُوا). وَقَالَ الشَّعْبِيُّ «2»: إِنَّ اللَّهَ
يُحِبُّ أَنْ يُعْمَلَ بِرُخَصِهِ كَمَا يُحِبُّ أَنْ يُعْمَلَ
بِعَزَائِمِهِ. وَأَمَّا سَفَرُ الْمَعْصِيَةِ فَلَا يَجُوزُ
الْقَصْرُ فِيهِ، لِأَنَّ ذَلِكَ يَكُونُ عَوْنًا لَهُ عَلَى
مَعْصِيَةِ اللَّهِ، وَاللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ:
(وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى وَلا تَعاوَنُوا
عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ «3»). الرَّابِعَةُ-
وَاخْتَلَفُوا مَتَى يَقْصُرُ، فَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ
الْمُسَافِرَ لَا يَقْصُرُ حَتَّى يَخْرُجَ مِنْ بُيُوتِ
الْقَرْيَةِ، وَحِينَئِذٍ هُوَ ضَارِبٌ فِي الْأَرْضِ، وَهُوَ
قَوْلُ مَالِكٍ فِي الْمُدَوَّنَةِ. وَلَمْ يَحُدَّ مَالِكٌ
فِي الْقُرْبِ حَدًّا. وَرُوِيَ عَنْهُ إِذَا كَانَتْ قَرْيَةً
تَجْمَعُ أَهْلَهَا فَلَا يَقْصُرُ أَهْلُهَا حَتَّى
يُجَاوِزُوهَا بِثَلَاثَةِ أَمْيَالٍ، وَإِلَى ذَلِكَ فِي
الرُّجُوعِ. وَإِنْ كَانَتْ لَا تَجْمَعُ أَهْلَهَا قَصَرُوا
إِذَا جَاوَزُوا بَسَاتِينَهَا. وَرُوِيَ عَنْ الْحَارِثِ بْنِ
أَبِي رَبِيعَةَ أَنَّهُ أَرَادَ سَفَرًا فَصَلَّى بِهِمْ
رَكْعَتَيْنِ فِي مَنْزِلِهِ، وَفِيهِمُ الْأَسْوَدُ بْنُ
يَزِيدَ وَغَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ أَصْحَابِ ابْنِ مَسْعُودٍ،
وَبِهِ قَالَ عَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ وَسُلَيْمَانُ بْنُ
مُوسَى. قُلْتُ: وَيَكُونُ مَعْنَى الْآيَةِ عَلَى هَذَا:
(وَإِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ) أَيْ إِذَا عَزَمْتُمْ
عَلَى الضَّرْبِ فِي الْأَرْضِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَرُوِيَ
عَنْ مُجَاهِدٍ أَنَّهُ قَالَ: لَا يَقْصُرُ الْمُسَافِرُ
يَوْمَهُ الْأَوَّلَ حَتَّى اللَّيْلِ. وَهَذَا شَاذٌّ، وَقَدْ
ثَبَتَ مِنْ حَدِيثِ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ رَسُولَ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى الظُّهْرَ
بِالْمَدِينَةِ أَرْبَعًا وَصَلَّى الْعَصْرَ بِذِي
الْحُلَيْفَةِ رَكْعَتَيْنِ. أَخْرَجَهُ الْأَئِمَّةُ،
وَبَيْنَ ذِي الْحُلَيْفَةِ وَالْمَدِينَةِ نَحْوٌ مِنْ
سِتَّةِ أَمْيَالٍ أو سبعة «4».
__________
(1). راجع ج 2 ص 277.
(2). هذا حديث رواه أحمد والبيهق بلفظ (ان الله يحب أن تؤتى
رخصه كما يحب أن تؤتى عزائمه).
(3). راجع ج 6 ص 37.
(4). في ج وط: وقيل سبعة.
(5/356)
الْخَامِسَةُ- وَعَلَى الْمُسَافِرِ أَنْ
يَنْوِيَ الْقَصْرَ مِنْ حِينِ الْإِحْرَامِ، فَإِنِ افْتَتَحَ
الصَّلَاةَ بِنِيَّةِ الْقَصْرِ ثُمَّ عَزَمَ عَلَى الْمُقَامِ
فِي أَثْنَاءِ «1» صَلَاتِهِ جَعَلَهَا نَافِلَةً، وَإِنْ
كَانَ ذَلِكَ بَعْدَ أَنْ صَلَّى مِنْهَا رَكْعَةً أَضَافَ
إِلَيْهَا أُخْرَى وَسَلَّمَ، ثم صلى صلاة مقيم. قال الابهزي
وَابْنُ الْجَلَّابِ: هَذَا- وَاللَّهُ أَعْلَمُ اسْتِحْبَابٌ،
وَلَوْ بَنَى عَلَى صَلَاتِهِ وَأَتَمَّهَا أَجْزَأَتْهُ
صَلَاتُهُ. قَالَ أَبُو عُمَرَ: هُوَ عِنْدِي كَمَا قَالَا،
لِأَنَّهَا ظُهْرٌ، سَفَرِيَّةً كَانَتْ أَوْ حَضَرِيَّةً
وَكَذَلِكَ سَائِرُ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ. السَّادِسَةُ-
وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ مِنْ هَذَا الْبَابِ فِي مُدَّةِ
الْإِقَامَةِ الَّتِي إِذَا نَوَاهَا الْمُسَافِرُ أَتَمَّ،
فَقَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَاللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ
وَالطَّبَرِيُّ وَأَبُو ثَوْرٍ: إِذَا نَوَى الْإِقَامَةَ
أَرْبَعَةَ أَيَّامٍ أَتَمَّ، وَرُوِيَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ
الْمُسَيَّبِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ
وَالثَّوْرِيُّ: إِذَا نَوَى إِقَامَةَ خَمْسَ عَشْرَةَ
لَيْلَةً أَتَمَّ، وَإِنْ كَانَ أَقَلَّ قَصَرَ. وَهُوَ قَوْلُ
ابْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَلَا مُخَالِفَ لَهُمَا مِنَ
الصَّحَابَةِ فِيمَا ذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ، وَرُوِيَ عَنْ
سَعِيدٍ أَيْضًا. وَقَالَ أَحْمَدُ: إِذَا جَمَعَ «2»
الْمُسَافِرُ مَقَامَ إِحْدَى وَعِشْرِينَ صَلَاةً مَكْتُوبَةً
قَصَرَ، وَإِنْ زَادَ عَلَى ذَلِكَ أَتَمَّ، وَبِهِ قَالَ
دَاوُدُ. وَالصَّحِيحُ مَا قَالَهُ مَالِكٌ، لِحَدِيثِ ابْنِ
الْحَضْرَمِيِّ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَنَّهُ جَعَلَ لِلْمُهَاجِرِ أَنْ يُقِيمَ
بِمَكَّةَ بَعْدَ قَضَاءِ نُسُكِهِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ثُمَّ
يُصْدِرُ. أَخْرَجَهُ الطَّحَاوِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ
وَغَيْرُهُمَا. وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْهِجْرَةَ إِذْ كَانَتْ
مَفْرُوضَةً قَبْلَ الْفَتْحِ كَانَ الْمُقَامُ بِمَكَّةَ لَا
يَجُوزُ، فَجَعَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ لِلْمُهَاجِرِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ لِتَقْضِيَةِ
حَوَائِجِهِ وَتَهْيِئَةِ أَسْبَابِهِ، وَلَمْ يَحْكُمْ لَهَا
بِحُكْمِ الْمُقَامِ وَلَا فِي حَيِّزِ الْإِقَامَةِ،
وَأَبْقَى عَلَيْهِ فِيهَا حُكْمَ الْمُسَافِرِ، وَمَنَعَهُ
مِنْ مَقَامِ الرَّابِعِ، فَحَكَمَ لَهُ بِحُكْمِ الْحَاضِرِ
الْقَاطِنِ، فَكَانَ ذَلِكَ أَصْلًا مُعْتَمَدًا عَلَيْهِ.
وَمِثْلُهُ مَا فَعَلَهُ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حِينَ
أَجْلَى الْيَهُودَ لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «3»، فَجَعَلَ لَهُمْ مَقَامَ ثَلَاثَةِ
أَيَّامٍ فِي قَضَاءِ أُمُورِهِمْ. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ:
وَسَمِعْتُ بَعْضَ أَحْبَارِ الْمَالِكِيَّةِ يَقُولُ:
إِنَّمَا كَانَتِ الثَّلَاثَةُ الْأَيَّامُ «4» خَارِجَةً عَنْ
حُكْمِ الْإِقَامَةِ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَرْجَأَ
فِيهَا مَنْ أُنْزِلَ بِهِ الْعَذَابُ وَتَيَقَّنَ الْخُرُوجَ
عَنِ الدُّنْيَا، فَقَالَ تَعَالَى: (تَمَتَّعُوا فِي دارِكُمْ
ثَلاثَةَ أَيَّامٍ ذلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ «5»). وَفِي
الْمَسْأَلَةِ قَوْلٌ غَيْرُ هَذِهِ الْأَقْوَالِ، وَهُوَ
أَنَّ الْمُسَافِرَ يَقْصُرُ أَبَدًا حَتَّى يَرْجِعَ إِلَى
وَطَنِهِ، أَوْ يَنْزِلَ وَطَنًا لَهُ. رُوِيَ عَنْ أَنَسٍ
أَنَّهُ أَقَامَ سَنَتَيْنِ بِنَيْسَابُورَ يَقْصُرُ الصلاة.
وقال أبو مجلز:
__________
(1). في ج وط وز: أضعاف.
(2). جمع: عزم.
(3). يريد قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (اخرجوا
اليهود والنصارى من جزيرة العرب).
(4). في ج وط.
(5). راجع ج 9 ص 59 [ ..... ]
(5/357)
قُلْتُ لِابْنِ عُمَرَ: [إِنِّي «1» [آتِي
الْمَدِينَةَ فَأُقِيمُ بها السبعة أشهر وَالثَّمَانِيَةَ
طَالِبًا حَاجَةً، فَقَالَ: صَلِّ رَكْعَتَيْنِ. وَقَالَ أَبُو
إِسْحَاقَ السَّبِيعِيُّ: أَقَمْنَا بِسِجِسْتَانَ وَمَعَنَا
رِجَالٌ مِنْ أَصْحَابِ ابْنِ مَسْعُودٍ سَنَتَيْنِ نُصَلِّي
رَكْعَتَيْنِ. وَأَقَامَ ابْنُ عُمَرَ بِأَذْرَبِيجَانَ «2»
يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ، وَكَانَ الثَّلْجُ حَالَ
بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُفُولِ: قَالَ أَبُو عُمَرَ: مَحْمَلُ
هَذِهِ الْأَحَادِيثِ عِنْدَنَا عَلَى أن لا نِيَّةَ لِوَاحِدٍ
مِنْ هَؤُلَاءِ الْمُقِيمِينَ هَذِهِ الْمُدَّةَ، وَإِنَّمَا
مِثْلُ ذَلِكَ أَنْ يَقُولَ: أَخْرُجُ الْيَوْمَ، أَخْرُجُ
غَدًا، وَإِذَا كَانَ هَكَذَا فَلَا عَزِيمَةَ هَاهُنَا عَلَى
الْإِقَامَةِ. السَّابِعَةُ- رَوَى مُسْلِمٌ عَنْ عُرْوَةَ
عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: فَرَضَ اللَّهُ الصَّلَاةَ حِينَ
فَرَضَهَا رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ أَتَمَّهَا فِي الْحَضَرِ،
وَأُقِرَّتْ صَلَاةُ السَّفَرِ عَلَى الْفَرِيضَةِ الْأُولَى.
قَالَ الزُّهْرِيُّ: فَقُلْتُ لِعُرْوَةَ مَا بَالُ عَائِشَةَ
تُتِمُّ فِي السَّفَرِ؟ قَالَ: إِنَّهَا تَأَوَّلَتْ مَا
تَأَوَّلَ عُثْمَانُ. وَهَذَا جَوَابٌ لَيْسَ بِمُوعِبٍ.
وَقَدِ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي تَأْوِيلِ إِتْمَامِ عُثْمَانَ
وَعَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَلَى أَقْوَالٍ:
فَقَالَ مَعْمَرٌ عَنِ الزُّهْرِيِّ: إِنَّ عُثْمَانَ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ إِنَّمَا صَلَّى بِمِنًى أَرْبَعًا لِأَنَّهُ
أَجْمَعَ عَلَى الْإِقَامَةِ بَعْدَ الْحَجِّ. وَرَوَى
مُغِيرَةُ عَنْ إِبْرَاهِيمَ أَنَّ عُثْمَانَ صَلَّى أَرْبَعًا
لِأَنَّهُ اتَّخَذَهَا وَطَنًا «3». وَقَالَ يُونُسُ عَنِ
الزُّهْرِيِّ قَالَ: لَمَّا اتَّخَذَ عُثْمَانُ الْأَمْوَالَ
بِالطَّائِفِ وَأَرَادَ أَنْ يُقِيمَ بِهَا صَلَّى أَرْبَعًا.
قَالَ: ثُمَّ أَخَذَ بِهِ الْأَئِمَّةُ بَعْدَهُ. وَقَالَ
أَيُّوبُ عَنِ الزُّهْرِيِّ، إِنَّ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ
أَتَمَّ الصَّلَاةَ بِمِنًى مِنْ أَجْلِ الْأَعْرَابِ،
لِأَنَّهُمْ كَثُرُوا عَامَئِذٍ «4» فَصَلَّى بِالنَّاسِ
أَرْبَعًا لِيُعْلِمَهُمْ أَنَّ الصَّلَاةَ أَرْبَعٌ. ذَكَرَ
هَذِهِ الْأَقْوَالَ كُلَّهَا أَبُو دَاوُدَ فِي مُصَنَّفِهِ
فِي كِتَابِ الْمَنَاسِكِ فِي بَابِ الصَّلَاةِ بِمِنًى.
وَذَكَرَ أَبُو عُمَرَ فِي (التَّمْهِيدِ) قَالَ ابْنُ
جُرَيْجٍ: وَبَلَغَنِي إِنَّمَا أَوْفَاهَا عُثْمَانُ
أَرْبَعًا بِمِنًى مِنْ أَجْلِ أَنَّ أَعْرَابِيًّا نَادَاهُ
فِي مَسْجِدِ الْخَيْفِ بِمِنًى فَقَالَ: يَا أَمِيرَ
الْمُؤْمِنِينَ، مَا زِلْتُ أُصَلِّيهَا رَكْعَتَيْنِ مُنْذُ
رَأَيْتُكَ عَامَ الْأَوَّلِ، فَخَشِيَ عُثْمَانُ أَنْ يَظُنَّ
جُهَّالُ النَّاسِ أَنَّمَا الصَّلَاةُ رَكْعَتَانِ. قَالَ
ابْنُ جُرَيْجٍ: وَإِنَّمَا أَوْفَاهَا بِمِنًى فَقَطْ «5».
قَالَ أَبُو عُمَرَ: وَأَمَّا التَّأْوِيلَاتُ فِي إِتْمَامِ
عَائِشَةَ فليس منها شي يُرْوَى عَنْهَا، وَإِنَّمَا هِيَ
ظُنُونٌ وَتَأْوِيلَاتٌ لَا يَصْحَبُهَا دَلِيلٌ. وَأَضْعَفُ
مَا قِيلَ فِي ذَلِكَ: إِنَّهَا أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ، وَإِنَّ
النَّاسَ حَيْثُ كَانُوا هُمْ بَنُوهَا، وَكَانَ مَنَازِلُهُمْ
مَنَازِلَهَا، وَهَلْ كَانَتْ أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ إِلَّا
أَنَّهَا زَوْجُ النَّبِيِّ أَبِي المؤمنين صلى الله
__________
(1). في ز.
(2). قيل: ستة أشهر.
(3). الذي ثبت أن عثمان رضى الله عنه أتم بمنى لأنه تزوج بمكة
ومنى من أحوازها فقد قال حين أنكر عليه الصحابة: سَمِعْتُ
رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول (من
تزوج من بلد فهو من أهلها) وأنا متزوج من أهل مكة. راجع الجصاص
ج 2 ص 254.
(4). في ز وط: غلية.
(5). الذي ثبت أن عثمان رضى الله عنه أتم بمنى لأنه تزوج بمكة
ومنى من أحوازها فقد قال حين أنكر عليه الصحابة: سَمِعْتُ
رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول (من
تزوج من بلد فهو من أهلها) وأنا متزوج من أهل مكة. راجع الجصاص
ج 2 ص 254.
(5/358)
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُوَ الَّذِي سَنَّ
الْقَصْرَ فِي أَسْفَارِهِ وَفِي غَزَوَاتِهِ وَحَجِّهِ
وَعُمَرِهِ «1». وَفِي قِرَاءَةِ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ
وَمُصْحَفِهِ (النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ
أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ وَهُوَ أَبٌ لَهُمْ
«2». وَقَالَ مُجَاهِدٌ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:) هؤُلاءِ
بَناتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ «3» (قَالَ: لَمْ يَكُنَّ
بَنَاتِهِ وَلَكِنْ كُنَّ نِسَاءَ أُمَّتِهِ، وَكُلُّ نَبِيٍّ
فَهُوَ أَبُو أُمَّتِهِ. قُلْتُ: وَقَدِ اعْتُرِضَ عَلَى هَذَا
بِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ
مُشَرِّعًا، وَلَيْسَتْ هِيَ كَذَلِكَ فَانْفَصَلَا.
وَأَضْعَفُ مِنْ هَذَا قَوْلُ مَنْ قَالَ: إِنَّهَا حَيْثُ
أَتَمَّتْ لَمْ تَكُنْ فِي سَفَرٍ جَائِزٍ، وَهَذَا بَاطِلٌ
قَطْعًا، فَإِنَّهَا كَانَتْ أَخْوَفَ لِلَّهِ وَأَتْقَى مِنْ
أَنْ تَخْرُجَ فِي سَفَرٍ لَا يَرْضَاهُ. وَهَذَا التَّأْوِيلُ
عَلَيْهَا مِنْ أَكَاذِيبِ الشِّيعَةِ الْمُبْتَدِعَةِ
وَتَشْنِيعَاتِهِمْ، سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ!
وَإِنَّمَا خَرَجَتْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا مُجْتَهِدَةً
مُحْتَسِبَةً تُرِيدُ أَنْ تُطْفِئَ نَارَ الْفِتْنَةِ، إِذْ
هِيَ أَحَقُّ أَنْ يُسْتَحْيَا مِنْهَا فَخَرَجَتِ الْأُمُورُ
عَنِ الضَّبْطِ. وَسَيَأْتِي بَيَانُ هَذَا الْمَعْنَى إِنْ
شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَقِيلَ: إِنَّهَا أَتَمَّتْ
لِأَنَّهَا لَمْ تَكُنْ تَرَى الْقَصْرَ إِلَّا فِي الْحَجِّ
وَالْعُمْرَةِ وَالْغَزْوَةِ. وَهَذَا بَاطِلٌ، لِأَنَّ ذَلِكَ
لَمْ يُنْقَلْ عَنْهَا وَلَا عُرِفَ مِنْ مَذْهَبِهَا، ثُمَّ
هِيَ قَدْ أَتَمَّتْ فِي سَفَرِهَا إِلَى عَلِيٍّ. وَأَحْسَنُ
مَا [قِيلَ «4» [فِي قَصْرِهَا وَإِتْمَامِهَا أَنَّهَا
أَخَذَتْ بِرُخْصَةِ اللَّهِ، لِتُرِيَ النَّاسَ أَنَّ
الْإِتْمَامَ لَيْسَ فِيهِ حَرَجٌ وَإِنْ كَانَ غَيْرُهُ
أَفْضَلَ. وَقَدْ قَالَ عَطَاءٌ: الْقَصْرُ سُنَّةٌ
وَرُخْصَةٌ، وَهُوَ الرَّاوِي عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ رَسُولَ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صام وَأَفْطَرَ
وَأَتَمَّ الصَّلَاةَ وَقَصَرَ فِي السَّفَرِ، رَوَاهُ
طَلْحَةَ بْنُ عُمَرَ. وَعَنْهُ قَالَ «5»: كُلُّ ذَلِكَ كَانَ
يَفْعَلُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
صَامَ وَأَفْطَرَ وَقَصَرَ الصَّلَاةَ وَأَتَمَّ. وَرَوَى
النَّسَائِيُّ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ أَنَّ عَائِشَةَ
اعْتَمَرَتْ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ من الْمَدِينَةِ إِلَى مَكَّةَ [حَتَّى إِذَا
قَدِمَتْ مَكَّةَ «6»] قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، بِأَبِي
أَنْتَ وَأُمِّي! قَصَرْتَ وَأَتْمَمْتُ وَأَفْطَرْتَ
وَصُمْتُ؟ فَقَالَ: (أَحْسَنْتِ يَا عَائِشَةُ) وَمَا عَابَ
عَلَيَّ. كَذَا هُوَ مُقَيَّدٌ بِفَتْحِ التَّاءِ الْأُولَى
وَضَمِّ الثَّانِيةِ فِي الْكَلِمَتَيْنِ. وَرَوَى
الدَّارَقُطْنِيُّ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقْصُرُ فِي السَّفَرِ ويتم
ويفطر ويصوم، قال إسناده صحيح.
__________
(1). من ط وى.
(2). راجع ج 14 ص 121.
(3). راجع ج 9 ص 73.
(4). في ج، ز، ط.
(5). في ج وط وى: قالت.
(6). زيادة عن سنن النسائي.
(5/359)
الثَّامِنَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (أَنْ
تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ) (أَنْ) فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ، أَيْ
فِي أَنْ تَقْصُرُوا. قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: فِيهَا ثَلَاثُ
لُغَاتٍ: قَصَرْتُ الصَّلَاةَ وَقَصَّرْتُهَا وَأَقْصَرْتُهَا.
وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي تَأْوِيلِهِ، فَذَهَبَ جَمَاعَةٌ
مِنَ الْعُلَمَاءِ إِلَى أَنَّهُ الْقَصْرُ إِلَى اثْنَتَيْنِ
مِنْ أَرْبَعٍ فِي الْخَوْفِ وَغَيْرِهِ، لِحَدِيثِ يَعْلَى
بْنِ أُمَيَّةَ عَلَى مَا يَأْتِي. وَقَالَ آخَرُونَ: إِنَّمَا
هُوَ قَصْرُ الرَّكْعَتَيْنِ إِلَى رَكْعَةٍ، وَالرَّكْعَتَانِ
فِي السَّفَرِ إِنَّمَا هِيَ تَمَامٌ، كَمَا قَالَ عُمَرُ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: تَمَامٌ غَيْرُ قَصْرٍ، وَقَصْرُهَا
أَنْ تَصِيرَ رَكْعَةً. قَالَ السُّدِّيُّ: إِذَا صَلَّيْتَ
فِي السَّفَرِ رَكْعَتَيْنِ فَهُوَ تَمَامٌ، وَالْقَصْرُ لَا
يَحِلُّ إِلَّا أَنْ تَخَافَ، فَهَذِهِ الْآيَةُ مُبِيحَةٌ
أَنْ تُصَلِّيَ كُلُّ طَائِفَةٍ رَكْعَةً لَا تَزِيدُ
عَلَيْهَا شَيْئًا، وَيَكُونُ لِلْإِمَامِ رَكْعَتَانِ.
وَرُوِيَ نَحْوُهُ عَنِ ابْنِ عُمَرَ وَجَابِرِ بْنِ عَبْدِ
اللَّهِ وَكَعْبٍ، وَفَعَلَهُ حُذَيْفَةُ بطبرستان وقد سأله
الأمير سعيد ابن الْعَاصِ عَنْ ذَلِكَ. وَرَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ
أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى
كَذَلِكَ فِي غَزْوَةِ ذِي قَرَدٍ «1» رَكْعَةً لِكُلِّ
طَائِفَةٍ وَلَمْ يَقْضُوا. وَرَوَى جَابِرُ بْنِ عَبْدِ
اللَّهِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
صَلَّى كذلك بأصحابه يَوْمِ مُحَارَبِ «2» خَصْفَةَ وَبَنِي
ثَعْلَبَةَ. وَرَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى كَذَلِكَ بَيْنَ ضَجْنَانَ
«3» وَعُسْفَانَ «4». قُلْتُ: وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنِ
ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: فَرَضَ اللَّهُ الصَّلَاةَ عَلَى
لِسَانِ نَبِيِّكُمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي
الْحَضَرِ أَرْبَعًا وَفِي السَّفَرِ رَكْعَتَيْنِ وَفِي
الْخَوْفِ رَكْعَةً. وَهَذَا يُؤَيِّدُ هَذَا الْقَوْلَ
وَيُعَضِّدُهُ، إِلَّا أَنَّ الْقَاضِيَ أَبَا بَكْرِ بْنَ
الْعَرَبِيِّ ذَكَرَ فِي كِتَابِهِ الْمُسَمَّى (بِالْقَبَسِ):
قَالَ عُلَمَاؤُنَا [رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ «5»] هَذَا
الْحَدِيثُ مَرْدُودٌ بِالْإِجْمَاعِ. قُلْتُ: وَهَذَا لَا
يَصِحُّ، وَقَدْ ذَكَرَ هُوَ وَغَيْرُهُ الْخِلَافَ
وَالنِّزَاعَ فَلَمْ يَصِحَّ مَا ادْعُوهُ مِنَ الْإِجْمَاعِ
وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ. وَحَكَى أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيُّ
الْحَنَفِيُّ فِي (أَحْكَامِ الْقُرْآنِ) أن المراد بالقصر
هاهنا القصر
__________
(1). ذو قرد (بفتح القاف والراء والدال المهملة): موضع على نحو
يوم من المدينة.
(2). في ج، ز، ط، ى: يوم حارب حيصة. وفى البخاري: غزوة محارب
خصفة من ثعلبة. كذا في ابن عطية: وهى غزوة ذات الرقاع، وبنى
ثعلبة، وبنى أنمار، ومحارب وإضافتها تمييز لو جود محارب أخر.
(3). ضجنان (بالتحريك أو بسكون الجيم): جبل بتهامة: وقيل: جبيل
على بريد من مكة. الواقدي: بين ضجنان ومكة خمسة وعشرون ميلا. [
..... ]
(4). عسفان (بضم أوله وسكون ثانيه): منهلة بالطريق بين الحجفة
ومكة. أو قرية جامعة بها منبر ونخيل ومزارع على ستة وثلاثين
ميلا من مكة، وهى حد تهامة. (معجم البلدان).
(5). في ج وط وى.
(5/360)
فِي صِفَةِ الصَّلَاةِ بِتَرْكِ الرُّكُوعِ
وَالسُّجُودِ إِلَى الْإِيمَاءِ، وَبِتَرْكِ الْقِيَامِ إِلَى
الرُّكُوعِ. وَقَالَ آخَرُونَ: هَذِهِ الْآيَةُ مُبِيحَةٌ
لِلْقَصْرِ مِنْ حُدُودِ الصَّلَاةِ وَهَيْئَتِهَا عِنْدَ
الْمُسَايَفَةِ وَاشْتِعَالِ الْحَرْبِ، فَأُبِيحَ لِمَنْ
هَذِهِ حَالُهُ أَنْ يُصَلِّيَ إِيمَاءً بِرَأْسِهِ،
وَيُصَلِّيَ رَكْعَةً وَاحِدَةً حَيْثُ تَوَجَّهَ، إِلَى
تَكْبِيرَةٍ «1»، عَلَى مَا تَقَدَّمَ فِي (الْبَقَرَةِ «2»).
وَرَجَّحَ الطَّبَرِيُّ هَذَا الْقَوْلَ وَقَالَ: إِنَّهُ
يُعَادِلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: (فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ
فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ) أَيْ بِحُدُودِهَا وَهَيْئَتِهَا
الْكَامِلَةِ. قُلْتُ: هَذِهِ الْأَقْوَالُ الثَّلَاثَةُ فِي
الْمَعْنَى مُتَقَارِبَةٌ، وَهِيَ مَبْنِيَّةٌ عَلَى أَنَّ
فَرْضَ الْمُسَافِرِ الْقَصْرُ، وَإِنَّ الصَّلَاةَ فِي
حَقِّهِ مَا نَزَلَتْ إِلَّا رَكْعَتَيْنِ، فَلَا قَصْرَ.
وَلَا يُقَالُ فِي الْعَزِيمَةِ لَا جُنَاحَ، وَلَا يُقَالُ
فِيمَا شُرِعَ رَكْعَتَيْنِ إِنَّهُ قَصْرٌ، كَمَا لَا يُقَالُ
فِي صَلَاةِ الصُّبْحِ ذَلِكَ. وَذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى
الْقَصْرَ بِشَرْطَيْنِ وَالَّذِي يُعْتَبَرُ فِيهِ
الشَّرْطَانِ صَلَاةُ الْخَوْفِ، هَذَا مَا ذَكَرَهُ أَبُو
بَكْرٍ الرَّازِيُّ فِي (أَحْكَامِ الْقُرْآنِ) وَاحْتَجَّ
بِهِ، وَرُدَّ عَلَيْهِ بِحَدِيثِ يَعْلَى بْنِ أُمَيَّةَ
عَلَى مَا يَأْتِي [آنِفًا «3»] إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
التَّاسِعَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (إِنْ خِفْتُمْ) خَرَجَ
الْكَلَامُ عَلَى الْغَالِبِ، إِذْ كَانَ الْغَالِبُ عَلَى
الْمُسْلِمِينَ الْخَوْفُ فِي الْأَسْفَارِ، وَلِهَذَا قَالَ
يَعْلَى بْنُ أُمَيَّةَ [قُلْتُ «4»] لِعُمَرَ: مَا لَنَا
نَقْصُرُ وَقَدْ أَمِنَّا. قَالَ عُمَرُ: عَجِبْتُ مِمَّا
عَجِبْتَ مِنْهُ فَسَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ: (صَدَقَةٌ تَصَدَّقَ
اللَّهُ بِهَا عَلَيْكُمْ فَاقْبَلُوا صَدَقَتَهُ). قُلْتُ:
وَقَدِ اسْتَدَلَّ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ وَغَيْرُهُمْ عَلَى
الْحَنَفِيَّةِ بِحَدِيثِ يَعْلَى بْنِ أُمَيَّةَ هَذَا
فَقَالُوا: إِنَّ قَوْلَهُ: (مَا لَنَا نَقْصُرُ وَقَدْ
أَمِنَّا) دَلِيلٌ قَاطِعٌ عَلَى أَنَّ مَفْهُومَ الْآيَةِ
الْقَصْرُ فِي الرَّكَعَاتِ. قَالَ الْكِيَا الطَّبَرِيُّ:
وَلَمْ يَذْكُرْ أَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ عَلَى هَذَا
تَأْوِيلًا يُسَاوِي الذِّكْرَ، ثُمَّ إِنَّ صَلَاةَ الْخَوْفِ
لَا يُعْتَبَرُ فِيهَا الشَّرْطَانِ، فَإِنَّهُ لَوْ لَمْ
يَضْرِبْ فِي الْأَرْضِ وَلَمْ يُوجَدِ السَّفَرُ بَلْ
جَاءَنَا الْكُفَّارُ وَغَزَوْنَا فِي بِلَادِنَا فَتَجُوزُ
صَلَاةُ الْخَوْفِ، فَلَا يُعْتَبَرُ وُجُودُ الشَّرْطَيْنِ
عَلَى مَا قَالَهُ «5». وَفِي قِرَاءَةِ أُبَيٍّ (أَنْ
تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ
كَفَرُوا) بِسُقُوطٍ (إِنْ خِفْتُمْ). وَالْمَعْنَى عَلَى
قِرَاءَتِهِ: كَرَاهِيَةُ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ
كَفَرُوا. وَثَبَتَ فِي مُصْحَفِ عُثْمَانَ [رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ «6»] (إِنْ
__________
(1). كذا في بعض الأصول، وهو الصواب. كما في ابن عطية قال:
ويصلى ركعة واحدة حيث توجه إلى تكبير تين إلى تكبيرة. في ج وط:
تكبيره. والتصويب من ى.
(2). راجع ج 3 ص 223.
(3). من ج، ط، ز.
(4). من ز.
(5). كذا في الأصول. ولعله: قالوه.
(6). من ج، ط، ى.
(5/361)
خِفْتُمْ). وَذَهَبَ جَمَاعَةٌ إِلَى أَنَّ
هَذِهِ الْآيَةَ إِنَّمَا هِيَ مُبِيحَةٌ لِلْقَصْرِ فِي
السَّفَرِ لِلْخَائِفِ مِنَ الْعَدُوِّ، فَمَنْ كَانَ آمِنًا
فَلَا قَصْرَ لَهُ. رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهَا أَنَّهَا كَانَتْ تَقُولُ فِي السَّفَرِ: أَتِمُّوا
صَلَاتَكُمْ، فَقَالُوا: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقْصُرُ، فَقَالَتْ: إِنَّهُ كَانَ
فِي حَرْبٍ وَكَانَ يَخَافُ، وَهَلْ أَنْتُمْ تَخَافُونَ؟.
وَقَالَ عَطَاءٌ: كَانَ يُتِمُّ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَائِشَةُ وَسَعْدُ
بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ وَأَتَمَّ عُثْمَانُ، وَلَكِنَّ ذَلِكَ
مُعَلَّلٌ بِعِلَلٍ تَقَدَّمَ بَعْضُهَا. وَذَهَبَ جَمَاعَةٌ
إِلَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يُبِحِ الْقَصْرَ فِي
كِتَابِهِ إِلَّا بِشَرْطَيْنِ: السَّفَرُ وَالْخَوْفُ، وَفِي
غَيْرِ الْخَوْفِ بِالسُّنَّةِ، مِنْهُمُ الشَّافِعِيُّ وَقَدْ
تَقَدَّمَ. وَذَهَبَ آخَرُونَ إِلَى أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى:
(إِنْ خِفْتُمْ) لَيْسَ مُتَّصِلًا بِمَا قَبْلُ، وَأَنَّ
الْكَلَامَ تَمَّ عِنْدَ قَوْلِهِ: (مِنَ الصَّلاةِ) ثُمَّ
افْتَتَحَ فَقَالَ: (إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ
الَّذِينَ كَفَرُوا) فَأَقِمْ لَهُمْ يَا مُحَمَّدُ صَلَاةَ
الْخَوْفِ. وَقَوْلُهُ: (إِنَّ الْكافِرِينَ كانُوا لَكُمْ
عَدُوًّا مُبِيناً) كَلَامٌ مُعْتَرِضٌ، قَالَهُ
الْجُرْجَانِيُّ وَذَكَرَهُ الْمَهْدَوِيُّ وَغَيْرُهُمَا.
وَرَدَّ هَذَا الْقَوْلَ الْقُشَيْرِيُّ وَالْقَاضِي أَبُو
بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيِّ. قَالَ الْقُشَيْرِيُّ أَبُو نَصْرٍ:
وَفِي الْحَمْلِ عَلَى هَذَا تَكَلُّفٌ شَدِيدٌ، وَإِنْ
أَطْنَبَ الرَّجُلُ- يُرِيدُ الْجُرْجَانِيَّ- فِي
التَّقْدِيرِ وَضَرْبِ الْأَمْثِلَةِ. وَقَالَ ابْنُ
الْعَرَبِيِّ: وَهَذَا كُلُّهُ لَمْ يَفْتَقِرْ إِلَيْهِ
عُمَرُ وَلَا ابْنُهُ وَلَا يَعْلَى بْنُ أُمَيَّةَ مَعَهُمَا.
قُلْتُ: قَدْ جَاءَ حَدِيثٌ بِمَا قَالَهُ الْجُرْجَانِيُّ
ذَكَرَهُ الْقَاضِي أَبُو الْوَلِيدِ بْنُ رُشْدٍ فِي
مُقَدِّمَاتِهِ، وَابْنُ عَطِيَّةَ أَيْضًا فِي تَفْسِيرِهِ
عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
أَنَّهُ قَالَ: سَأَلَ قَوْمٌ مِنَ التُّجَّارِ رَسُولَ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالُوا: إِنَّا
نَضْرِبُ فِي الْأَرْضِ فَكَيْفَ نُصَلِّي؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ
تَعَالَى: (وَإِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ
عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ) ثُمَّ
انْقَطَعَ الْكَلَامُ، فَلَمَّا كَانَ بَعْدَ ذَلِكَ بِحَوْلٍ
غَزَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فَصَلَّى الظُّهْرَ، فَقَالَ الْمُشْرِكُونَ: لَقَدْ
أَمْكَنَكُمْ مُحَمَّدٌ وَأَصْحَابُهُ مِنْ ظُهُورِهِمْ هَلَّا
شَدَدْتُمْ عَلَيْهِمْ؟ فَقَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ: إِنَّ
لَهُمْ أُخْرَى فِي أَثَرِهَا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى
بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ (إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ
الَّذِينَ كَفَرُوا) إِلَى آخِرِ صَلَاةِ الْخَوْفِ. فَإِنْ
صَحَّ هَذَا الْخَبَرُ فَلَيْسَ لِأَحَدٍ مَعَهُ مَقَالٌ،
وَيَكُونُ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى الْقَصْرِ فِي غَيْرِ الْخَوْفِ
بِالْقُرْآنِ. وَقَدْ رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا
مِثْلُهُ، قَالَ: إِنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: (وَإِذا ضَرَبْتُمْ
(5/362)
وَإِذَا كُنْتَ
فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ
مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا
سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ
أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا
حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ
تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ
فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً وَلَا جُنَاحَ
عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ
مَرْضَى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ
إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا (102)
فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ
أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ)
نَزَلَتْ فِي الصَّلَاةِ فِي السَّفَرِ، ثُمَّ نَزَلَ (إِنْ
خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا) فِي الْخَوْفِ
بَعْدَهَا بِعَامٍ. فَالْآيَةُ عَلَى هَذَا تَضَمَّنَتْ
قَضِيَّتَيْنِ «1» وَحُكْمَيْنِ. فَقَوْلُهُ (وَإِذا
ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ
تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ) يَعْنِي بِهِ فِي السَّفَرِ،
وَتَمَّ الكلام، ثم ابتدأ فَرِيضَةٍ أُخْرَى فَقَدَّمَ
الشَّرْطَ، وَالتَّقْدِيرُ: إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ
الَّذِينَ كَفَرُوا وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ
الصَّلَاةَ. وَالْوَاوُ زَائِدَةٌ، وَالْجَوَابُ (فَلْتَقُمْ
طائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ). وَقَوْلُهُ: (إِنَّ الْكافِرِينَ
كانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِيناً) اعْتِرَاضٌ. وَذَهَبَ قَوْمٌ
إِلَى أَنَّ ذِكْرَ الْخَوْفِ مَنْسُوخٌ بِالسُّنَّةِ، وَهُوَ
حَدِيثُ عُمَرَ إِذْ رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهُ: (هَذِهِ صَدَقَةٌ تَصَدَّقَ
اللَّهُ بِهَا عَلَيْكُمْ فَاقْبَلُوا صَدَقَتَهُ). قَالَ
النَّحَّاسُ: مَنْ جَعَلَ قَصْرَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غَيْرِ خَوْفٍ وَفِعْلَهُ فِي ذَلِكَ
نَاسِخًا لِلْآيَةِ فَقَدْ غَلِطَ، لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي
الْآيَةِ مَنْعٌ لِلْقَصْرِ فِي الْأَمْنِ، وَإِنَّمَا فِيهَا
إِبَاحَةُ الْقَصْرِ فِي الْخَوْفِ فَقَطْ. الْعَاشِرَةُ-
قَوْلُهُ تَعَالَى: (أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا)
قَالَ الْفَرَّاءُ: أَهْلُ الْحِجَازِ يَقُولُونَ فَتَنْتُ
الرَّجُلَ. وَرَبِيعَةُ وَقَيْسٌ وَأَسَدٌ وَجَمِيعُ أَهْلِ
نَجِدٍ يَقُولُونَ أَفْتَنْتُ الرَّجُلَ. وَفَرَّقَ الْخَلِيلُ
وَسِيبَوَيْهِ بَيْنَهُمَا فَقَالَا: فَتَنْتُهُ جَعَلْتُ
فِيهِ فِتْنَةً مِثْلَ أَكْحَلْتُهُ، وَأَفْتَنْتُهُ
جَعَلْتُهُ مُفْتَتِنًا. وَزَعَمَ الْأَصْمَعِيُّ أَنَّهُ لَا
يُعْرَفُ أَفْتَنْتُهُ. (إِنَّ الْكافِرِينَ كانُوا لَكُمْ
عَدُوًّا مُبِيناً) (عَدُوًّا) هَاهُنَا بمعنى أعداء. والله
أعلم.
[سورة النساء (4): آية 102]
وَإِذا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ
طائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ
فَإِذا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرائِكُمْ وَلْتَأْتِ
طائِفَةٌ أُخْرى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ
وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ
كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ
وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً واحِدَةً
وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كانَ بِكُمْ أَذىً مِنْ مَطَرٍ
أَوْ كُنْتُمْ مَرْضى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا
حِذْرَكُمْ إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكافِرِينَ عَذاباً
مُهِيناً (102)
__________
(1). في ج وط: (قصمتين).
(5/363)
فِيهِ إِحْدَى عَشْرَةَ مَسْأَلَةً:
الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَإِذا كُنْتَ فِيهِمْ
فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ) رَوَى الدَّارَقُطْنِيُّ عَنْ
أَبِي عَيَّاشٍ الزُّرَقِيِّ قَالَ: كُنَّا مَعَ رَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِعُسْفَانَ،
فَاسْتَقْبَلَنَا الْمُشْرِكُونَ، عَلَيْهِمْ خَالِدُ بْنُ
الْوَلِيدِ وَهُمْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقِبْلَةِ، فَصَلَّى
بِنَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
الظُّهْرَ، فَقَالُوا: قَدْ كَانُوا عَلَى حَالٍ لَوْ
أَصَبْنَا غِرَّتَهُمْ، قَالَ: ثُمَّ قَالُوا تَأْتِي الْآنَ
عَلَيْهِمْ صَلَاةٌ هِيَ أَحَبُّ إِلَيْهِمْ مِنْ
أَبْنَائِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ، قَالَ: فَنَزَلَ جِبْرِيلُ
عَلَيْهِ السَّلَامُ بِهَذِهِ الْآيَةِ بَيْنَ الظُّهْرِ
وَالْعَصْرِ (وَإِذا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ
الصَّلاةَ). وَذَكَرَ الْحَدِيثَ. وَسَيَأْتِي تَمَامُهُ إِنْ
شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَهَذَا كَانَ سَبَبَ إِسْلَامِ
خَالِدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. وَقَدِ اتَّصَلَتْ هَذِهِ
الْآيَةُ بِمَا سَبَقَ مِنْ ذِكْرِ الْجِهَادِ. وَبَيَّنَ
الرَّبُّ تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَنَّ الصَّلَاةَ لَا تَسْقُطُ
بِعُذْرِ السَّفَرِ وَلَا بِعُذْرِ الْجِهَادِ وَقِتَالِ
الْعَدُوِّ، وَلَكِنْ فِيهَا رُخَصٌ عَلَى مَا تَقَدَّمَ فِي
(الْبَقَرَةِ «1») وَهَذِهِ السُّورَةُ، بَيَانُهُ مِنَ
اخْتِلَافِ الْعُلَمَاءِ. وَهَذِهِ الْآيَةُ خِطَابٌ
لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُوَ
يَتَنَاوَلُ الْأُمَرَاءَ بَعْدَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ،
وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: (خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ
صَدَقَةً «2») هَذَا قَوْلُ كَافَّةِ الْعُلَمَاءِ. وَشَذَّ
أَبُو يُوسُفَ وَإِسْمَاعِيلُ بن عُلَيَّةَ فَقَالَا: لَا
نُصَلِّي صَلَاةَ الْخَوْفِ بَعْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَإِنَّ الْخِطَابَ كَانَ خَاصًّا لَهُ
بِقَوْلِهِ تَعَالَى: (وَإِذا كُنْتَ فِيهِمْ) وَإِذَا لَمْ
يَكُنْ فِيهِمْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ لَهُمْ، لِأَنَّ النَّبِيَّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْسَ كَغَيْرِهِ فِي
ذَلِكَ، وَكُلُّهُمْ كَانَ يُحِبُّ أَنْ يَأْتَمَّ بِهِ
وَيُصَلِّيَ خَلْفَهُ، وَلَيْسَ أَحَدٌ بَعْدَهُ يَقُومُ فِي
الْفَضْلِ مَقَامَهُ، وَالنَّاسُ بَعْدَهُ تَسْتَوِي
أَحْوَالُهُمْ وَتَتَقَارَبُ، فَلِذَلِكَ يُصَلِّي الْإِمَامُ
بِفَرِيقٍ وَيَأْمُرُ مَنْ يُصَلِّي بِالْفَرِيقِ الْآخَرِ،
وَأَمَّا أَنْ يُصَلُّوا بِإِمَامٍ وَاحِدٍ فَلَا. وَقَالَ
الْجُمْهُورُ: إِنَّا قَدْ أُمِرْنَا بِاتِّبَاعِهِ
وَالتَّأَسِّي بِهِ فِي غَيْرِ مَا آيَةٍ وَغَيْرِ حَدِيثٍ،
فَقَالَ تَعَالَى: (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ
أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ «3») وَقَالَ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي
أُصَلِّي). فَلَزِمَ اتِّبَاعُهُ مُطْلَقًا حَتَّى يَدُلَّ
دَلِيلٌ وَاضِحٌ عَلَى الْخُصُوصِ، وَلَوْ كَانَ مَا ذَكَرُوهُ
دَلِيلًا عَلَى الْخُصُوصِ لَلَزِمَ قَصْرُ الْخِطَابَاتِ
عَلَى مَنْ تَوَجَّهَتْ لَهُ، وَحِينَئِذٍ [كَانَ «4»]
يَلْزَمُ أَنْ تَكُونَ الشَّرِيعَةُ قَاصِرَةً عَلَى مَنْ
خُوطِبَ بِهَا، ثُمَّ إِنَّ الصَّحَابَةَ رِضْوَانُ اللَّهِ
عليهم أجمعين اطرحوا توهم
__________
(1). راجع ج 3 ص 223.
(2). راجع ج 8 ص 244.
(3). راجع ج 12 ص 322.
(4). من ج وط وز.
(5/364)
الْخُصُوصِ فِي هَذِهِ الصَّلَاةِ
وَعَدُّوهُ إِلَى غَيْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ، وَهُمْ أَعْلَمُ بِالْمَقَالِ وَأَقْعَدُ
بِالْحَالِ. وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: (وَإِذَا رَأَيْتَ
الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ
حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ «1») وَهَذَا خِطَابٌ
لَهُ، وَأُمَّتُهُ دَاخِلَةٌ فِيهِ، وَمِثْلُهُ كَثِيرٌ.
وَقَالَ تَعَالَى: (خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً)
وَذَلِكَ لَا يُوجِبُ الِاقْتِصَارَ عَلَيْهِ وَحْدَهُ،
وَأَنَّ مَنْ بَعْدَهُ يَقُومُ فِي ذَلِكَ مَقَامَهُ،
فَكَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: (وَإِذا كُنْتَ فِيهِمْ). أَلَا
تَرَى أَنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ فِي جَمَاعَةِ
الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ قَاتَلُوا مَنْ
تَأَوَّلَ فِي الزَّكَاةِ مِثْلَ مَا تَأَوَّلْتُمُوهُ فِي
صَلَاةِ الْخَوْفِ. قَالَ أَبُو عُمَرَ: لَيْسَ فِي أَخْذِ
الزَّكَاةِ الَّتِي قَدِ اسْتَوَى فِيهَا النَّبِيُّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَنْ بَعْدَهُ مِنَ الْخُلَفَاءِ
مَا يُشْبِهُ صَلَاةَ مَنْ صَلَّى خَلْفَ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَصَلَّى خَلْفَ غَيْرِهِ «2»،
لِأَنَّ أَخْذَ الزَّكَاةِ فَائِدَتُهَا تَوْصِيلُهَا
لِلْمَسَاكِينِ، وَلَيْسَ فِيهَا فَضْلٌ لِلْمُعْطَى كَمَا فِي
الصَّلَاةِ فَضْلٌ لِلْمُصَلِّي خَلْفَهُ. الثَّانِيةُ-
قَوْلُهُ تَعَالَى: (فَلْتَقُمْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ)
يَعْنِي جماعة منهم تقف معك في الصلاة. (لْيَأْخُذُوا
أَسْلِحَتَهُمْ) يَعْنِي الَّذِينَ يُصَلُّونَ مَعَكَ.
وَيُقَالُ: (وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ) الَّذِينَ هُمْ
بِإِزَاءِ الْعَدُوِّ، عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانُهُ. وَلَمْ
يَذْكُرِ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْآيَةِ لِكُلِّ طَائِفَةٍ
إِلَّا رَكْعَةً وَاحِدَةً، وَلَكِنْ رُوِيَ فِي الْأَحَادِيثِ
أَنَّهُمْ أَضَافُوا إِلَيْهَا أُخْرَى، عَلَى مَا يَأْتِي.
وَحُذِفَتِ الْكَسْرَةُ مِنْ قَوْلِهِ: (فَلْتَقُمْ) و
(فَلْيَكُونُوا) لثقلها. وحكى الأخفش والقراء وَالْكِسَائِيُّ
أَنَّ لَامَ الْأَمْرِ وَلَامَ كَيْ وَلَامَ الْجُحُودِ
يُفْتَحْنَ. وَسِيبَوَيْهِ يَمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ لِعِلَّةٍ
مُوجِبَةٍ، وَهِيَ الْفَرْقُ بَيْنَ لَامِ الْجَرِّ وَلَامِ
التَّأْكِيدِ. وَالْمُرَادُ مِنْ هَذَا الْأَمْرِ
الِانْقِسَامُ، أَيْ وَسَائِرُهُمْ وُجَاهَ «3» الْعَدُوِّ
حَذَرًا مِنْ تَوَقُّعِ حَمْلَتِهِ. وَقَدِ اخْتَلَفَتِ
الرِّوَايَاتُ فِي هَيْئَةِ صَلَاةِ الْخَوْفِ، وَاخْتَلَفَ
الْعُلَمَاءُ لِاخْتِلَافِهَا، فَذَكَرَ ابْنُ الْقَصَّارِ
أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّاهَا فِي
عَشَرَةِ مَوَاضِعَ. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: رُوِيَ عَنِ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ صَلَّى
صَلَاةَ الْخَوْفِ أَرْبَعًا وَعِشْرِينَ مَرَّةً. وَقَالَ
الْإِمَامُ أَحْمَدُ ابن حَنْبَلٍ، وَهُوَ إِمَامُ أَهْلِ
الْحَدِيثِ وَالْمُقَدَّمُ فِي مَعْرِفَةِ عِلَلِ النَّقْلِ
فِيهِ: لَا أَعْلَمُ أَنَّهُ رُوِيَ فِي صَلَاةِ الْخَوْفِ
إِلَّا حَدِيثٌ ثَابِتٌ. وَهِيَ كُلُّهَا صِحَاحٌ ثَابِتَةٌ،
فَعَلَى أَيِّ حَدِيثٍ صلى منها المصلي صلاة
__________
(1). راجع ج 7 ص 12. [ ..... ]
(2). كذا في ج. والذي في اوح وط وز وى: وصلى غيره خلف غيره.
(3). وجاء (مثلث الواو) أي مقابلتهم وحذاءهم.
(5/365)
الحوف أَجْزَأَهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ.
وَكَذَلِكَ قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ الطَّبَرِيُّ. وَأَمَّا
مَالِكٌ وَسَائِرُ أَصْحَابِهِ إِلَّا أَشْهَبَ فَذَهَبُوا فِي
صَلَاةِ الْخَوْفِ إِلَى حَدِيثِ سَهْلِ بْنِ أَبِي حَثْمَةَ،
وَهُوَ مَا رَوَاهُ فِي مُوَطَّئِهِ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ
عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ صَالِحِ بْنِ خَوَّاتٍ
الْأَنْصَارِيِّ أَنَّ سَهْلَ بْنَ أَبِي حَثْمَةَ حَدَّثَهُ
أَنَّ صَلَاةَ الْخَوْفِ أَنْ يَقُومَ الْإِمَامُ وَمَعَهُ
طَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِ وَطَائِفَةٌ مُوَاجِهَةُ
الْعَدُوِّ، فَيَرْكَعُ الْإِمَامُ رَكْعَةً وَيَسْجُدُ
بِالَّذِينَ مَعَهُ ثُمَّ يَقُومُ، فَإِذَا اسْتَوَى قَائِمًا
ثَبَتَ، وَأَتَمُّوا لِأَنْفُسِهِمُ الرَّكْعَةَ الْبَاقِيَةَ
ثُمَّ يُسَلِّمُونَ وَيَنْصَرِفُونَ وَالْإِمَامُ قَائِمٌ،
فَيَكُونُونَ وُجَاهَ الْعَدُوِّ، ثُمَّ يُقْبِلُ الْآخَرُونَ
الَّذِينَ لَمْ يُصَلُّوا فَيُكَبِّرُونَ وَرَاءَ الْإِمَامِ
فَيَرْكَعُ بِهِمُ [الرَّكْعَةَ] وَيَسْجُدُ ثُمَّ يُسَلِّمُ،
فَيَقُومُونَ وَيَرْكَعُونَ لِأَنْفُسِهِمُ الرَّكْعَةَ
الْبَاقِيَةَ ثُمَّ يُسَلِّمُونَ. قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ
صَاحِبُ مَالِكٍ: وَالْعَمَلُ عِنْدَ مَالِكٍ عَلَى حَدِيثِ
الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ صَالِحِ بْنِ خَوَّاتٍ. قَالَ
ابْنُ الْقَاسِمِ: وَقَدْ كَانَ يَأْخُذُ بِحَدِيثِ يَزِيدَ
بْنِ رُومَانَ ثُمَّ رَجَعَ إِلَى هَذَا. قَالَ أَبُو عُمَرَ:
حَدِيثُ الْقَاسِمِ وَحَدِيثُ يَزِيدَ بْنِ رومان كلاهما عن
صالح ابن خَوَّاتٍ: إِلَّا أَنَّ بَيْنَهُمَا فَصْلًا فِي
السَّلَامِ، فَفِي حَدِيثِ الْقَاسِمِ أَنَّ الْإِمَامَ
يُسَلِّمُ بِالطَّائِفَةِ الثَّانِيةِ ثُمَّ يَقُومُونَ
فَيَقْضُونَ لِأَنْفُسِهِمُ الرَّكْعَةَ، وَفِي حَدِيثِ
يَزِيدَ بْنِ رُومَانَ أَنَّهُ يَنْتَظِرُهُمْ وَيُسَلِّمُ
بِهِمْ وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ وَإِلَيْهِ ذَهَبَ، قَالَ
الشَّافِعِيُّ: حَدِيثُ يَزِيدَ بْنِ رُومَانَ عَنْ صَالِحِ
بْنِ خَوَّاتٍ هَذَا أَشْبَهُ الْأَحَادِيثِ فِي صَلَاةِ
الْخَوْفِ بِظَاهِرِ كِتَابِ اللَّهِ، وَبِهِ أَقُولُ. وَمِنْ
حُجَّةِ مَالِكٍ فِي اخْتِيَارِهِ حَدِيثَ الْقَاسِمِ
الْقِيَاسُ عَلَى سَائِرِ الصَّلَوَاتِ، فِي أَنَّ الْإِمَامَ
لَيْسَ لَهُ أَنْ يَنْتَظِرَ أَحَدًا سَبَقَهُ بِشَيْءٍ
مِنْهَا، وَأَنَّ السُّنَّةَ الْمُجْتَمَعَ عَلَيْهَا أَنْ
يَقْضِيَ الْمَأْمُومُونَ مَا سُبِقُوا بِهِ بَعْدَ سَلَامِ
الْإِمَامِ. وَقَوْلُ أَبِي ثَوْرٍ فِي هَذَا الْبَابِ
كَقَوْلِ مَالِكٍ، وَقَالَ أَحْمَدُ كَقَوْلِ الشَّافِعِيِّ
فِي الْمُخْتَارِ عِنْدَهُ، وَكَانَ لَا يَعِيبُ مَنْ فَعَلَ
شَيْئًا مِنَ الْأَوْجُهِ الْمَرْوِيَّةِ فِي صَلَاةِ
الْخَوْفِ. وَذَهَبَ أَشْهَبُ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ إِلَى
حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَاةُ الْخَوْفِ بِإِحْدَى
الطَّائِفَتَيْنِ رَكْعَةً وَالطَّائِفَةُ الْأُخْرَى
مُوَاجِهَةُ الْعَدُوِّ، ثُمَّ انْصَرَفُوا وَقَامُوا مَقَامَ
أَصْحَابِهِمْ مُقْبِلِينَ عَلَى الْعَدُوِّ، وَجَاءَ
أُولَئِكَ ثُمَّ صَلَّى بِهِمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَكْعَةً ثُمَّ سَلَّمَ النَّبِيُّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ قَضَى هَؤُلَاءِ رَكْعَةً
وَهَؤُلَاءِ رَكْعَةً. وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: فَإِذَا كَانَ
خَوْفٌ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ صَلَّى
(5/366)
رَاكِبًا أَوْ قَائِمًا «1» يُومِئُ
إِيمَاءً، أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَمَالِكٌ
وَغَيْرُهُمْ. وَإِلَى هَذِهِ الصِّفَةِ ذَهَبَ
الْأَوْزَاعِيُّ، وَهُوَ الَّذِي ارْتَضَاهُ أَبُو عُمَرَ بْنُ
عَبْدِ الْبَرِّ، قَالَ: لِأَنَّهُ أَصَحُّهَا إِسْنَادًا،
وَقَدْ وَرَدَ بِنَقْلِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَبِهِمُ
الْحُجَّةُ عَلَى مَنْ خَالَفَهُمْ، وَلِأَنَّهُ أَشْبَهُ
بِالْأُصُولِ، لِأَنَّ الطَّائِفَةَ الْأُولَى وَالثَّانِيةَ
لَمْ يَقْضُوا الرَّكْعَةَ إِلَّا بَعْدَ خُرُوجِ النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الصَّلَاةِ، وَهُوَ
الْمَعْرُوفُ مِنْ سُنَّتِهِ الْمُجْتَمَعِ عَلَيْهَا فِي
سَائِرِ الصَّلَوَاتِ. وَأَمَّا الْكُوفِيُّونَ: أَبُو
حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ إِلَّا أَبَا يُوسُفَ الْقَاضِيَ
يَعْقُوبَ فَذَهَبُوا إِلَى حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
مَسْعُودٍ، أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ وَالدَّارَقُطْنِيُّ
قَالَ: صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ صَلَاةُ الْخَوْفِ فَقَامُوا صَفَّيْنِ، صَفًّا
خَلْفَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَصَفًّا
مُسْتَقْبِلَ الْعَدُوِّ، فَصَلَّى بِهِمُ النَّبِيُّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَكْعَةً، وَجَاءَ الْآخَرُونَ
فَقَامُوا مَقَامَهُمْ، وَاسْتَقْبَلَ هَؤُلَاءِ الْعَدُوَّ
فَصَلَّى بِهِمْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ ثُمَّ سَلَّمَ، فَقَامَ هَؤُلَاءِ فَصَلَّوْا
لِأَنْفُسِهِمْ رَكْعَةً ثُمَّ سَلَّمُوا ثُمَّ ذَهَبُوا
فَقَامُوا مَقَامَ أُولَئِكَ مُسْتَقْبِلِينَ الْعَدُوَّ،
وَرَجَعَ أُولَئِكَ إِلَى مَقَامِهِمْ فَصَلَّوْا
لِأَنْفُسِهِمْ رَكْعَةً ثُمَّ سَلَّمُوا. وَهَذِهِ الصِّفَةُ
وَالْهَيْئَةُ هِيَ الْهَيْئَةُ الْمَذْكُورَةُ فِي حَدِيثِ
ابْنِ عُمَرَ إِلَّا أَنَّ بَيْنَهُمَا فَرْقًا، وَهُوَ أَنَّ
قَضَاءَ أُولَئِكَ فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ يَظْهَرُ أَنَّهُ
فِي حالة واحدة ويبقى الامام كالحارس وحده، وها هنا
قَضَاؤُهُمْ مُتَفَرِّقٌ عَلَى صِفَةِ صَلَاتِهِمْ. وَقَدْ
تَأَوَّلَ بَعْضُهُمْ حَدِيثَ ابْنِ عُمَرَ عَلَى مَا جَاءَ
فِي حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ. وَقَدْ ذَهَبَ إِلَى حَدِيثِ
ابْنِ مَسْعُودٍ الثَّوْرِيُّ- فِي إِحْدَى الرِّوَايَاتِ
الثَّلَاثِ عَنْهُ- وَأَشْهَبُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ فِيمَا
ذَكَرَ أَبُو الْحَسَنِ اللَّخْمِيُّ عَنْهُ، وَالْأَوَّلُ
ذَكَرَهُ أَبُو عُمَرَ وَابْنُ يُونُسَ وَابْنُ حَبِيبٍ
عَنْهُ. وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ حُذَيْفَةَ
وَأَبِي هُرَيْرَةَ وَابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ عَلَيْهِ
السَّلَامُ صَلَّى بِكُلِّ طَائِفَةٍ رَكْعَةً وَلَمْ
يَقْضُوا، وَهُوَ مُقْتَضَى حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ (وَفِي
الْخَوْفِ رَكْعَةٌ). وَهَذَا قَوْلُ إِسْحَاقَ. وَقَدْ
تَقَدَّمَ فِي (الْبَقَرَةِ «2») الْإِشَارَةُ إِلَى هَذَا،
وَأَنَّ الصَّلَاةَ أَوْلَى بِمَا «3» احْتِيطَ لَهَا، وَأَنَّ
حَدِيثَ ابْنِ عَبَّاسٍ لَا تَقُومُ بِهِ حُجَّةٌ، وَقَوْلُهُ
فِي حَدِيثِ حُذَيْفَةَ وَغَيْرِهِ: (وَلَمْ يَقْضُوا
) أَيْ فِي عِلْمِ مَنْ رَوَى ذَلِكَ، لِأَنَّهُ قَدْ رُوِيَ
أَنَّهُمْ قَضَوْا رَكْعَةً فِي تِلْكَ الصَّلَاةِ
بِعَيْنِهَا، وَشَهَادَةُ مَنْ زَادَ أَوْلَى. وَيَحْتَمِلُ
أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ لَمْ يَقْضُوا، أَيْ لَمْ يَقْضُوا
إِذَا أَمِنُوا، وَتَكُونُ فَائِدَةً أَنَّ الْخَائِفَ إِذَا
أَمِنَ لَا يَقْضِي مَا صلى على تلك الهيئة
__________
(1). في ى: فصل راكبا أو قائما تومئ إيماء.
(2). راجع ج 3 ص 123.
(3). من ى.
(5/367)
مِنَ الصَّلَوَاتِ فِي الْخَوْفِ، قَالَ
جَمِيعُهُ أَبُو عُمَرَ. وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ جَابِرٍ
أَنَّهُ عليه والسلام صَلَّى بِطَائِفَةٍ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ
تَأَخَّرُوا، وَصَلَّى بِالطَّائِفَةِ الْأُخْرَى
رَكْعَتَيْنِ. قَالَ: فَكَانَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرْبَعُ رَكَعَاتٍ وَلِلْقَوْمِ
رَكْعَتَانِ. وَأَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ وَالدَّارَقُطْنِيُّ
مِنْ حَدِيثِ الْحَسَنِ عَنْ أَبِي بَكْرَةَ وَذَكَرَا فِيهِ
أَنَّهُ سَلَّمَ مِنْ كُلِّ رَكْعَتَيْنِ. وَأَخْرَجَهُ
الدَّارَقُطْنِيُّ أَيْضًا عَنِ الْحَسَنِ عَنْ جَابِرٍ أَنَّ
رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى
بِهِمْ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ سَلَّمَ، ثُمَّ صَلَّى
بِالْآخَرِينَ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ سَلَّمَ. قَالَ أَبُو
دَاوُدَ: وَبِذَلِكَ كَانَ الْحَسَنُ يُفْتِي، وَرُوِيَ عَنِ
الشَّافِعِيِّ. وَبِهِ يَحْتَجُّ كُلُّ مَنْ أَجَازَ
اخْتِلَافَ نِيَّةِ الْإِمَامِ وَالْمَأْمُومِ فِي الصَّلَاةِ،
وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَالْأَوْزَاعِيِّ وَابْنِ
عُلَيَّةَ وَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ وَدَاوُدَ. وَعَضَّدُوا
هَذَا بِحَدِيثِ جَابِرٍ: أَنَّ مُعَاذًا كَانَ يُصَلِّي مَعَ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْعِشَاءَ
ثُمَّ يَأْتِي فَيَؤُمُّ قَوْمَهُ، الْحَدِيثَ. وَقَالَ
الطَّحَاوِيُّ: إِنَّمَا كَانَ هَذَا فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ
إِذْ كَانَ يَجُوزُ أَنْ تُصَلِّيَ الْفَرِيضَةَ مَرَّتَيْنِ
ثُمَّ نُسِخَ ذَلِكَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَهَذِهِ أَقَاوِيلُ
الْعُلَمَاءِ فِي صَلَاةِ الْخَوْفِ. الثَّالِثَةُ- وَهَذِهِ
الصَّلَاةُ الْمَذْكُورَةُ فِي الْقُرْآنِ إِنَّمَا يُحْتَاجُ
إِلَيْهَا وَالْمُسْلِمُونَ مُسْتَدْبِرُونَ الْقِبْلَةَ
وَوَجْهُ الْعَدُوِّ الْقِبْلَةُ، وَإِنَّمَا اتَّفَقَ هَذَا
بِذَاتِ الرِّقَاعِ، فَأَمَّا بِعُسْفَانَ وَالْمَوْضِعِ
الْآخَرِ فَالْمُسْلِمُونَ كَانُوا فِي قُبَالَةِ الْقِبْلَةِ.
وَمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ سَبَبِ النُّزُولِ فِي قِصَّةِ خَالِدِ
بْنِ الْوَلِيدِ لَا يُلَائِمُ تَفْرِيقَ الْقَوْمِ إِلَى
طَائِفَتَيْنِ، فَإِنَّ فِي الْحَدِيثِ بَعْدَ قَوْلِهِ
(فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ) قَالَ: فَحَضَرَتِ الصَّلَاةُ
فَأَمَرَهُمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
أَنْ يَأْخُذُوا السِّلَاحَ وَصَفَّنَا خَلْفَهُ صَفَّيْنِ،
قَالَ: ثُمَّ رَكَعَ فَرَكَعْنَا جَمِيعًا، قَالَ: ثُمَّ
رَفَعَ فَرَفَعْنَا جَمِيعًا، قَالَ: ثُمَّ سَجَدَ النَّبِيُّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالصَّفِّ الَّذِي يَلِيهِ
قَالَ: وَالْآخَرُونَ قِيَامٌ يَحْرُسُونَهُمْ، فَلَمَّا
سَجَدُوا وَقَامُوا جَلَسَ الْآخَرُونَ فَسَجَدُوا فِي
مَكَانِهِمْ، قَالَ: ثُمَّ تَقَدَّمَ هَؤُلَاءِ فِي مَصَافِّ
هَؤُلَاءِ وَجَاءَ هَؤُلَاءِ إِلَى مَصَافِّ هَؤُلَاءِ، قَالَ:
ثُمَّ رَكَعَ فَرَكَعُوا جَمِيعًا، ثُمَّ رَفَعَ فَرَفَعُوا
جَمِيعًا، ثُمَّ سَجَدَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ وَالصَّفُّ الَّذِي يَلِيهِ، وَالْأَخَرُونَ
قِيَامٌ، يَحْرُسُونَهُمْ فَلَمَّا جَلَسَ الْآخَرُونَ
سَجَدُوا ثُمَّ سَلَّمَ عَلَيْهِمْ. قَالَ: فَصَلَّاهَا
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
مَرَّتَيْنِ: مَرَّةً بِعُسْفَانَ وَمَرَّةً فِي أَرْضِ بَنِي
سُلَيْمٍ. وَأَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي
عَيَّاشٍ
(5/368)
الزُّرَقِيِّ وَقَالَ: وَهُوَ قَوْلُ
الثَّوْرِيِّ وَهُوَ أَحْوَطُهَا. وَأَخْرَجَهُ أَبُو عِيسَى
التِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَزَلَ بَيْنَ
ضَجْنَانَ وَعُسْفَانَ، الْحَدِيثَ. وَفِيهِ أَنَّهُ عَلَيْهِ
السَّلَامُ صَدَعَهُمْ صَدْعَيْنِ وَصَلَّى بِكُلِّ طَائِفَةٍ
رَكْعَةً، فَكَانَتْ لِلْقَوْمِ رَكْعَةً رَكْعَةً،
وَلِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَكْعَتَانِ،
قَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ غَرِيبٌ. وَفِي الْبَابِ عَنْ
عَبْدِ الله ابن مَسْعُودٍ وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ وَابْنِ
عَبَّاسٍ وَجَابِرٍ وَأَبِي عَيَّاشٍ الزُّرَقِيِّ وَاسْمُهُ
زَيْدُ بْنُ الصَّامِتِ، وَابْنِ عُمَرَ وَحُذَيْفَةَ وَأَبِي
بَكْرٍ وَسَهْلِ بْنِ أَبِي حَثْمَةَ. قُلْتُ: وَلَا تَعَارُضَ
بَيْنَ هَذِهِ الرِّوَايَاتِ، فَلَعَلَّهُ صَلَّى بِهِمْ
صَلَاةً كَمَا جَاءَ فِي حَدِيثِ أَبِي عَيَّاشٍ
مُجْتَمِعِينَ، وَصَلَّى بِهِمْ صَلَاةً أُخْرَى
مُتَفَرِّقِينَ كَمَا جَاءَ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ،
وَيَكُونُ فِيهِ حُجَّةٌ لِمَنْ يَقُولُ صَلَاةُ الْخَوْفِ
رَكْعَةٌ. قَالَ الْخَطَّابِيُّ: صَلَاةُ الْخَوْفِ أَنْوَاعٌ
صَلَّاهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي
أَيَّامٍ مُخْتَلِفَةٍ وَأَشْكَالٍ مُتَبَايِنَةٍ، يُتَوَخَّى
فِيهَا كُلُّهَا مَا هُوَ أَحْوَطُ لِلصَّلَاةِ وَأَبْلَغُ فِي
الْحِرَاسَةِ. الرَّابِعَةُ- وَاخْتَلَفُوا فِي كَيْفِيَّةِ
صَلَاةِ الْمَغْرِبِ، فَرَوَى الدَّارَقُطْنِيُّ عَنِ
الْحَسَنِ عَنْ أَبِي بَكْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى بِالْقَوْمِ صَلَاةَ
الْمَغْرِبِ ثَلَاثَ رَكَعَاتٍ ثُمَّ انْصَرَفُوا، وَجَاءَ
الْآخَرُونَ فَصَلَّى بِهِمْ ثَلَاثَ رَكَعَاتٍ، فَكَانَتْ
لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سِتًّا
وَلِلْقَوْمِ ثَلَاثًا ثَلَاثًا، وَبِهِ قَالَ الْحَسَنُ.
وَالْجُمْهُورُ فِي صَلَاةِ الْمَغْرِبِ عَلَى خِلَافِ هَذَا،
وَهُوَ أَنَّهُ يُصَلِّي بِالْأُولَى رَكْعَتَيْنِ
وَبِالثَّانِيةِ رَكْعَةً، وَتَقْضِي عَلَى اخْتِلَافِ
أُصُولِهِمْ فِيهِ مَتَى يَكُونُ؟ [هَلْ «1»] قَبْلَ سَلَامِ
الْإِمَامِ أَوْ بَعْدَهُ. هَذَا قَوْلُ مَالِكٍ وَأَبِي
حَنِيفَةَ، لِأَنَّهُ أَحْفَظُ لِهَيْئَةِ الصَّلَاةِ. وَقَالَ
الشَّافِعِيُّ: يُصَلَّى بِالْأُولَى رَكْعَةٌ، لِأَنَّ
عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَعَلَهَا لَيْلَةَ الْهَرِيرِ
«2»، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. الْخَامِسَةُ-
وَاخْتَلَفُوا فِي صَلَاةِ الْخَوْفِ عِنْدَ الْتِحَامِ
الْحَرْبِ وَشِدَّةِ الْقِتَالِ وَخِيفَ «3» خُرُوجُ
الْوَقْتِ، فَقَالَ مَالِكٌ وَالثَّوْرِيُّ وَالْأَوْزَاعِيُّ
وَالشَّافِعِيُّ وَعَامَّةُ الْعُلَمَاءِ: يُصَلِّي كَيْفَمَا
أَمْكَنَ، لِقَوْلِ ابْنِ عُمَرَ: فَإِنْ كَانَ خَوْفٌ
أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَيُصَلِّي رَاكِبًا أَوْ قَائِمًا
يُومِئُ إِيمَاءً. قَالَ فِي الْمُوَطَّأِ: مُسْتَقْبِلُ
الْقِبْلَةِ وَغَيْرُ مُسْتَقْبِلِهَا، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي
(البقرة «4») قول الضحاك وإسحاق. وقال
الأوزاعي:
__________
(1). من ج، ط، ز.
(2). ليلة الهرير كأمير من ليالي (صفين).
(3). الخيف (بفتح الخاء): مصدر من مصادر (خاف) يقال: خاف يخاف
خوفا وخيفة ومخافة وخيفة (بالكسر).
(4). راجع ج 3 ص 223
(5/369)
إِنْ كَانَ تَهَيَّأَ الْفَتْحُ وَلَمْ
يَقْدِرُوا عَلَى الصَّلَاةِ صَلَّوْا إِيمَاءً كُلُّ امْرِئٍ
لِنَفْسِهِ، فَإِنْ لَمْ يَقْدِرُوا عَلَى الْإِيمَاءِ
أَخَّرُوا الصَّلَاةَ حَتَّى يَنْكَشِفَ الْقِتَالُ
وَيَأْمَنُوا فَيُصَلُّوا رَكْعَتَيْنِ، فَإِنْ لَمْ
يَقْدِرُوا صَلَّوْا رَكْعَةً وَسَجْدَتَيْنِ، فَإِنْ لَمْ
يَقْدِرُوا يُجْزِئُهُمُ التَّكْبِيرُ وَيُؤَخِّرُوهَا حَتَّى
يَأْمَنُوا، وَبِهِ قَالَ مَكْحُولٌ. قُلْتُ: وَحَكَاهُ
الْكِيَا الطَّبَرِيُّ فِي (أَحْكَامِ الْقُرْآنِ) لَهُ عَنْ
أَبِي حَنِيفَةَ وَأَصْحَابِهِ، قَالَ الْكِيَا: وَإِذَا كَانَ
الْخَوْفُ أَشَدَّ مِنْ ذَلِكَ وَكَانَ الْتِحَامُ الْقِتَالِ
فَإِنَّ الْمُسْلِمِينَ يُصَلُّونَ عَلَى مَا أَمْكَنَهُمْ
مُسْتَقْبِلِي الْقِبْلَةِ وَمُسْتَدْبِرِيهَا، وَأَبُو
حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ الثَّلَاثَةُ مُتَّفِقُونَ عَلَى
أَنَّهُمْ لَا يُصَلُّونَ وَالْحَالَةُ هَذِهِ بَلْ
يُؤَخِّرُونَ الصَّلَاةَ. وَإِنْ قَاتَلُوا فِي الصَّلَاةِ
قَالُوا: فَسَدَتِ الصَّلَاةُ وَحُكِيَ عَنِ الشَّافِعِيِّ
أَنَّهُ إِنْ تَابَعَ الطَّعْنَ وَالضَّرْبَ فَسَدَتْ
صَلَاتُهُ. قُلْتُ: وَهَذَا الْقَوْلُ يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ
قَوْلِ أَنَسٍ: حَضَرْتُ مُنَاهَضَةَ حِصْنِ تُسْتَرَ «1»
عِنْدَ إِضَاءَةِ الْفَجْرِ، وَاشْتَدَّ اشْتِعَالُ الْقِتَالِ
فَلَمْ نَقْدِرْ عَلَى الصَّلَاةِ إِلَّا بَعْدَ ارْتِفَاعِ
النَّهَارِ، فَصَلَّيْنَاهَا وَنَحْنُ مَعَ أَبِي مُوسَى
فَفُتِحَ لَنَا. قَالَ أَنَسٌ: وَمَا يَسُرُّنِي بِتِلْكَ
الصَّلَاةِ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا، ذَكَرَهُ الْبُخَارِيُّ
وَإِلَيْهِ كَانَ يَذْهَبُ شَيْخُنَا الْأُسْتَاذُ أَبُو
جَعْفَرٍ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مُحَمَّدِ الْقَيْسِيُّ
الْقُرْطُبِيُّ الْمَعْرُوفُ بِأَبِي حِجَّةَ، وَهُوَ
اخْتِيَارُ الْبُخَارِيِّ فِيمَا يَظْهَرُ، لِأَنَّهُ
أَرْدَفَهُ بِحَدِيثِ جَابِرٍ، قَالَ: جَاءَ عُمَرُ يَوْمَ
الْخَنْدَقِ فَجَعَلَ يَسُبُّ كُفَّارَ قُرَيْشٍ وَيَقُولُ:
يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا صَلَّيْتُ الْعَصْرَ حَتَّى كَادَتِ
الشَّمْسُ أَنْ تَغْرُبَ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (وَأَنَا وَاللَّهِ مَا صَلَّيْتُهَا)
قَالَ: فَنَزَلَ إِلَى بُطْحَانَ «2» فَتَوَضَّأَ وَصَلَّى
الْعَصْرَ بَعْدَ مَا غَرَبَتِ الشَّمْسُ ثُمَّ صَلَّى
الْمَغْرِبَ بَعْدَهَا. السَّادِسَةُ- وَاخْتَلَفُوا فِي
صَلَاةِ الطَّالِبِ وَالْمَطْلُوبِ، فَقَالَ مَالِكٌ
وَجَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِ هُمَا سَوَاءٌ، كُلُّ وَاحِدٍ
مِنْهُمَا يُصَلِّي عَلَى دَابَّتِهِ. وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ
وَالشَّافِعِيُّ وَفُقَهَاءُ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ وَابْنُ
عَبْدِ الْحَكَمِ: لَا يُصَلِّي الطَّالِبُ إِلَّا بِالْأَرْضِ
وَهُوَ الصَّحِيحُ، لِأَنَّ الطَّلَبَ تَطَوُّعٌ، وَالصَّلَاةُ
الْمَكْتُوبَةُ فَرْضُهَا أَنْ تُصَلَّى بِالْأَرْضِ حَيْثُمَا
أَمْكَنَ ذَلِكَ، وَلَا يُصَلِّيَهَا رَاكِبٌ إِلَّا خَائِفٌ
شَدِيدٌ خَوْفُهُ وَلَيْسَ كَذَلِكَ الطَّالِبُ. وَاللَّهُ
أعلم.
__________
(1). بلد بالأهواز منها عبد الله بن سهل الزاهد.
(2). بطحان: واد بالمدينة.
(5/370)
السَّابِعَةُ وَاخْتَلَفُوا أَيْضًا فِي
الْعَسْكَرِ إِذَا رَأَوْا سَوَادًا فَظَنُّوهُ عَدُوًّا
فَصَلَّوْا صَلَاةَ الْخَوْفِ ثُمَّ بان لهم أنه غير شي،
فَلِعُلَمَائِنَا فِيهِ رِوَايَتَانِ: إِحْدَاهُمَا
يُعِيدُونَ، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ. وَالثَّانِيةُ لَا
إِعَادَةَ عَلَيْهِمْ، وَهُوَ أَظْهَرُ قَوْلَيِ
الشَّافِعِيِّ. وَوَجْهُ الْأُولَى أَنَّهُمْ تَبَيَّنَ لَهُمُ
الْخَطَأُ فَعَادُوا إِلَى الصَّوَابِ كَحُكْمِ الْحَاكِمِ.
وَوَجْهُ الثَّانِيةِ أَنَّهُمْ عَمِلُوا عَلَى اجْتِهَادِهِمْ
فَجَازَ لَهُمْ كَمَا لَوْ أَخْطَئُوا الْقِبْلَةَ، وَهَذَا
أَوْلَى لِأَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا أُمِرُوا بِهِ. وَقَدْ
يُقَالُ: يُعِيدُونَ فِي الْوَقْتِ، فَأَمَّا بَعْدَ خُرُوجِهِ
فَلَا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الثَّامِنَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى:
(وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ) وَقَالَ: (وَلْيَأْخُذُوا
حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ) هَذَا وَصَاةٌ بِالْحَذَرِ
وَأَخْذِ السِّلَاحِ لِئَلَّا يَنَالَ الْعَدُوُّ أَمَلَهُ
وَيُدْرِكَ فُرْصَتَهُ. وَالسِّلَاحُ مَا يَدْفَعُ بِهِ
الْمَرْءُ عَنْ نَفْسِهِ فِي الْحَرْبِ، قَالَ عَنْتَرَةُ:
كَسَوْتُ الْجَعْدَ جعد بَنِي أَبَانٍ ... سِلَاحِي بَعْدَ
عُرْيٍ وَافْتِضَاحِ
يَقُولُ: أَعَرْتُهُ سِلَاحِي لِيَمْتَنِعَ بِهَا بَعْدَ
عُرْيِهِ مِنَ السِّلَاحِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ:
(وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ) يَعْنِي الطَّائِفَةَ الَّتِي
وُجَاهَ الْعَدُوِّ، لِأَنَّ الْمُصَلِّيَةَ لَا تُحَارِبُ.
وَقَالَ غَيْرُهُ: هِيَ الْمُصَلِّيَةُ، أَيْ وَلْيَأْخُذِ
الَّذِينَ صَلَّوْا أَوَّلًا أَسْلِحَتَهُمْ، ذَكَرَهُ
الزَّجَّاجُ. قَالَ: وَيَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ الطَّائِفَةُ
الَّذِينَ هُمْ فِي الصَّلَاةِ أُمِرُوا بِحَمْلِ السِّلَاحِ،
أَيْ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا
أَسْلِحَتَهُمْ فَإِنَّهُ أَرْهَبُ لِلْعَدُوِّ. النَّحَّاسُ:
يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لِلْجَمِيعِ، لِأَنَّهُ أَهْيَبُ
لِلْعَدُوِّ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ لِلَّتِي وُجَاهَ
الْعَدُوِّ خَاصَّةً. قَالَ أَبُو عُمَرَ: أَكْثَرُ أَهْلِ
الْعِلْمِ يَسْتَحِبُّونَ لِلْمُصَلِّي أَخْذَ سِلَاحِهِ إِذَا
صَلَّى فِي الْخَوْفِ، وَيَحْمِلُونَ قَوْلَهُ (وَلْيَأْخُذُوا
أَسْلِحَتَهُمْ) عَلَى النَّدْبِ، لأنه شي لَوْلَا الْخَوْفُ
لَمْ يَجِبْ أَخْذُهُ، فَكَانَ الْأَمْرُ بِهِ نَدْبًا.
وَقَالَ أَهْلُ الظَّاهِرِ: أَخْذُ السِّلَاحِ فِي صَلَاةِ
الْخَوْفِ وَاجِبٌ لِأَمْرِ اللَّهِ بِهِ، إِلَّا لِمَنْ كَانَ
بِهِ أَذًى مِنْ مَطَرٍ، فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ جَازَ لَهُ
وَضْعُ سِلَاحِهِ. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ إِذَا صَلَّوْا
أَخَذُوا سِلَاحَهُمْ عِنْدَ الْخَوْفِ، وَبِهِ قَالَ
الشَّافِعِيُّ وَهُوَ نَصُّ الْقُرْآنِ. وَقَالَ أَبُو
حَنِيفَةَ: لَا يَحْمِلُونَهَا، لِأَنَّهُ لَوْ وَجَبَ
عَلَيْهِمْ حَمْلُهَا لَبَطَلَتِ الصَّلَاةُ بِتَرْكِهَا.
قُلْنَا: لَمْ يَجِبْ حَمْلُهَا لِأَجْلِ الصَّلَاةِ
وَإِنَّمَا وَجَبَ عَلَيْهِمْ قُوَّةً لَهُمْ وَنَظَرًا.
(5/371)
التَّاسِعَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (فَإِذا
سَجَدُوا) الضَّمِيرُ فِي (سَجَدُوا) لِلطَّائِفَةِ
الْمُصَلِّيَةِ فَلْيَنْصَرِفُوا، هَذَا عَلَى بَعْضِ
الْهَيْئَاتِ الْمَرْوِيَّةِ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى فَإِذَا
سَجَدُوا رَكْعَةَ الْقَضَاءِ، وَهَذَا عَلَى هَيْئَةِ سَهْلِ
بْنِ أَبِي حَثْمَةَ. وَدَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ
السُّجُودَ قَدْ يُعَبَّرُ بِهِ عَنْ جَمِيعِ الصَّلَاةِ،
وَهُوَ كَقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: (إِذَا دَخَلَ
أَحَدُكُمُ الْمَسْجِدَ فليسجد سجدتين). أي فليل رَكْعَتَيْنِ
وَهُوَ فِي السُّنَّةِ. وَالضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ:
(فَلْيَكُونُوا) يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ لِلَّذِينَ سَجَدُوا،
وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ لِلطَّائِفَةِ الْقَائِمَةِ
أَوَّلًا بِإِزَاءِ الْعَدُوِّ. الْعَاشِرَةُ- قَوْلُهُ
تَعَالَى: (وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا) أَيْ تَمَنَّى وَأَحَبَّ
الْكَافِرُونَ غَفْلَتَكُمْ عَنْ أَخْذِ السِّلَاحِ لِيَصِلُوا
إِلَى مَقْصُودِهِمْ، فَبَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى بِهَذَا
وَجْهَ الْحِكْمَةِ فِي الْأَمْرِ بِأَخْذِ السِّلَاحِ،
وَذَكَرَ الْحَذَرَ فِي الطَّائِفَةِ الثَّانِيةِ دُونَ
الْأُولَى، لِأَنَّهَا أَوْلَى بِأَخْذِ الْحَذَرِ، لِأَنَّ
الْعَدُوَّ لَا يُؤَخِّرُ قَصْدَهُ عَنْ هَذَا الْوَقْتِ
لِأَنَّهُ آخِرُ الصَّلَاةِ، وَأَيْضًا يَقُولُ الْعَدُوُّ
قَدْ أَثْقَلَهُمُ السِّلَاحُ وَكَلُّوا. وَفِي هَذِهِ
الْآيَةِ أَدَلُّ دَلِيلٍ عَلَى تَعَاطِي الْأَسْبَابِ،
وَاتِّخَاذِ كُلِّ مَا يُنْجِي ذَوِي الْأَلْبَابِ، وَيُوصِلُ
إِلَى السَّلَامَةِ، وَيُبَلِّغُ دَارَ الْكَرَامَةِ.
وَمَعْنَى (مَيْلَةً واحِدَةً) مُبَالَغَةً، أَيْ
مُسْتَأْصِلَةً لَا يُحْتَاجُ مَعَهَا إِلَى ثَانِيَةٍ.
الْحَادِيَةُ عَشْرَةَ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَلا جُناحَ
عَلَيْكُمْ إِنْ كانَ بِكُمْ أَذىً مِنْ مَطَرٍ) الْآيَةَ.
لِلْعُلَمَاءِ فِي وُجُوبِ حَمْلِ السِّلَاحِ فِي الصَّلَاةِ
كَلَامٌ قَدْ أَشَرْنَا إِلَيْهِ، فَإِنْ لَمْ يَجِبْ
فَيُسْتَحَبُّ لِلِاحْتِيَاطِ. ثُمَّ رُخِّصَ فِي الْمَطَرِ
وَضْعُهُ، لِأَنَّهُ تَبْتَلُّ الْمُبَطَّنَاتُ وَتَثْقُلُ
وَيَصْدَأُ الْحَدِيدُ. وَقِيلَ: نَزَلَتْ فِي النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ بَطْنِ نَخْلَةَ «1»
لَمَّا انْهَزَمَ الْمُشْرِكُونَ وَغَنِمَ الْمُسْلِمُونَ،
وَذَلِكَ أَنَّهُ كَانَ يَوْمًا مَطِيرًا وَخَرَجَ النَّبِيُّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِقَضَاءِ حَاجَتِهِ
وَاضِعًا سِلَاحَهُ، فَرَآهُ الْكُفَّارُ مُنْقَطِعًا عَنْ
أَصْحَابِهِ فَقَصَدَهُ غَوْرَثُ بْنُ الْحَارِثِ فَانْحَدَرَ
عَلَيْهِ مِنَ الْجَبَلِ بِسَيْفِهِ، فَقَالَ: مَنْ يَمْنَعُكَ
مِنِّي الْيَوْمَ؟ فَقَالَ: (اللَّهُ) ثُمَّ قَالَ:
(اللَّهُمَّ اكْفِنِي الْغَوْرَثَ بِمَا شِئْتَ). فَأَهْوَى
بِالسَّيْفِ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ لِيَضْرِبَهُ، فَانْكَبَّ لِوَجْهِهِ «2» لِزَلَقَةٍ
زَلِقَهَا. وَذَكَرَ الْوَاقِدِيُّ أَنَّ جبريل عليه
__________
(1). قرية قريبة من المدينة.
(2). في ز: على وجهه.
(5/372)
فَإِذَا قَضَيْتُمُ
الصَّلَاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى
جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ
إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا
مَوْقُوتًا (103) وَلَا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ
إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا
تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ
وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (104)
السَّلَامُ دَفَعَهُ فِي صَدْرِهِ عَلَى
مَا يَأْتِي فِي الْمَائِدَةِ «1»، وَسَقَطَ السَّيْفُ مِنْ
يَدِهِ فَأَخَذَهُ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وقال: (من يَمْنَعُكَ مِنِّي يَا غَوْرَثُ)؟ فَقَالَ: لَا
أَحَدَ. فَقَالَ (تَشْهَدُ لِي بِالْحَقِّ وَأُعْطِيكَ
سَيْفَكَ)؟ قَالَ: لَا، وَلَكِنْ أَشْهَدُ أَلَّا أُقَاتِلَكَ
بَعْدَ هَذَا وَلَا أُعِينَ عَلَيْكَ عَدُوًّا، فَدَفَعَ
إِلَيْهِ السَّيْفَ وَنَزَلَتِ الْآيَةُ رُخْصَةً فِي وَضْعِ
السِّلَاحِ فِي الْمَطَرِ. وَمَرِضَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ
عَوْفٍ مِنْ جُرْحٍ كَمَا فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ،
فَرَخَّصَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ لَهُمْ فِي تَرْكِ السِّلَاحِ
وَالتَّأَهُّبِ لِلْعَدُوِّ بِعُذْرِ الْمَطَرِ، ثُمَّ
أَمَرَهُمْ فَقَالَ: (خُذُوا حِذْرَكُمْ) أَيْ كُونُوا
مُتَيَقِّظِينَ، وَضَعْتُمُ السِّلَاحَ أَوْ لَمْ تَضَعُوهُ.
وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى تَأْكِيدِ التَّأَهُّبِ وَالْحَذَرِ
مِنَ الْعَدُوِّ فِي كُلِّ الْأَحْوَالِ وَتَرْكِ
الِاسْتِسْلَامِ، فَإِنَّ الْجَيْشَ مَا جَاءَهُ مُصَابٌ قَطُّ
إِلَّا مِنْ تَفْرِيطٍ فِي حَذَرٍ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ فِي
قَوْلِهِ تَعَالَى: (وَخُذُوا حِذْرَكُمْ) يَعْنِي تَقَلَّدُوا
سُيُوفَكُمْ فإن ذلك هيئة الغزاة.
[سورة النساء (4): الآيات 103 الى 104]
فَإِذا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِياماً
وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ
فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ كانَتْ عَلَى
الْمُؤْمِنِينَ كِتاباً مَوْقُوتاً (103) وَلا تَهِنُوا فِي
ابْتِغاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ
يَأْلَمُونَ كَما تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا
لَا يَرْجُونَ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً (104)
مَعْنَاهُ فَرَغْتُمْ مِنْ صَلَاةِ الْخَوْفِ وَهَذَا يَدُلُّ
عَلَى أَنَّ الْقَضَاءَ يُسْتَعْمَلُ فِيمَا قَدْ فُعِلَ قي
وَقْتِهِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: (فَإِذا قَضَيْتُمْ
مَناسِكَكُمْ) وَقَدْ تَقَدَّمَ «2». الثَّانِيةُ- قَوْلُهُ
تَعَالَى: (فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى
جُنُوبِكُمْ) ذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّ هَذَا الذِّكْرَ
الْمَأْمُورَ بِهِ إِنَّمَا هُوَ إِثْرَ صَلَاةِ الْخَوْفِ،
أَيْ إِذَا فَرَغْتُمْ مِنَ الصَّلَاةِ فَاذْكُرُوا اللَّهَ
بِالْقَلْبِ وَاللِّسَانِ، عَلَى أَيِّ حَالٍ كُنْتُمْ
(قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِكُمْ) وَأَدِيمُوا ذِكْرَهُ
بِالتَّكْبِيرِ وَالتَّهْلِيلِ وَالدُّعَاءِ بِالنَّصْرِ لَا
سِيَّمَا في حال القتال. ونظيره
__________
(1). راجع ج 2 ص 431. [ ..... ]
(2). راجع ج 6 ص 243
(5/373)
(إِذا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا
وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ «1»).
وَيُقَالُ: (فَإِذا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ) بِمَعْنَى إِذَا
صَلَّيْتُمْ فِي دَارِ الْحَرْبِ فَصَلُّوا عَلَى الدَّوَابِّ،
أَوْ قِيَامًا أَوْ قُعُودًا أَوْ عَلَى جُنُوبِكُمْ إِنْ لَمْ
تَسْتَطِيعُوا الْقِيَامَ، إِذَا كَانَ خَوْفًا أَوْ مَرَضًا،
كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي آيَةٍ أُخْرَى: (فَإِنْ خِفْتُمْ
فَرِجالًا أَوْ رُكْباناً «2») وَقَالَ قَوْمٌ: هَذِهِ
الْآيَةُ نَظِيرَةُ الَّتِي فِي (آلِ عِمْرَانَ «3»)، فَرُوِيَ
أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ رَأَى النَّاسَ
يَضِجُّونَ فِي الْمَسْجِدِ فَقَالَ: مَا هَذِهِ الضَّجَّةُ؟
قَالُوا: أَلَيْسَ اللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ (فَاذْكُرُوا
اللَّهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِكُمْ)؟ قَالَ:
إِنَّمَا يَعْنِي بِهَذَا الصَّلَاةَ الْمَكْتُوبَةَ إِنْ لَمْ
تَسْتَطِعْ قَائِمًا فَقَاعِدًا، وَإِنْ لَمْ [تَسْتَطِعْ «4»]
فَصَلِّ عَلَى جَنْبِكَ. فَالْمُرَادُ نَفْسُ الصَّلَاةِ،
لِأَنَّ الصَّلَاةَ ذِكْرُ اللَّهِ تَعَالَى، وَقَدِ
اشْتَمَلَتْ عَلَى الْأَذْكَارِ الْمَفْرُوضَةِ
وَالْمَسْنُونَةِ، وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ أَظْهَرُ. وَاللَّهُ
أَعْلَمُ. الثَّالِثَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (فَإِذَا
اطْمَأْنَنْتُمْ) أَيْ أَمِنْتُمْ. وَالطُّمَأْنِينَةُ سُكُونُ
النَّفْسِ مِنَ الْخَوْفِ. (فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ) أَيْ
فَأْتُوهَا بِأَرْكَانِهَا وَبِكَمَالِ هَيْئَتِهَا فِي
السَّفَرِ، وَبِكَمَالِ عَدَدِهَا فِي الْحَضَرِ. (إِنَّ
الصَّلاةَ كانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتاباً مَوْقُوتاً)
أَيْ مُؤَقَّتَةً مفروضة. وقال زيد ابن أَسْلَمَ: (مَوْقُوتاً)
مُنَجَّمًا، أَيْ تُؤَدُّونَهَا فِي أَنْجُمِهَا، وَالْمَعْنَى
عِنْدَ أَهْلِ اللُّغَةِ: مَفْرُوضٌ لِوَقْتٍ بِعَيْنِهِ،
يُقَالُ: وَقَّتَهُ فَهُوَ مَوْقُوتٌ. وَوَقَّتَهُ فَهُوَ
مُؤَقَّتٌ. وَهَذَا قَوْلُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ بِعَيْنِهِ.
وَقَالَ: (كِتاباً) وَالْمَصْدَرُ مُذَكَّرٌ، فَلِهَذَا قَالَ:
(مَوْقُوتاً). الرَّابِعَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَلا
تَهِنُوا) أَيْ لَا تَضْعُفُوا، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي (آلِ
عِمْرَانَ «5»). (فِي ابْتِغاءِ الْقَوْمِ) طَلَبِهِمْ. قِيلَ:
نَزَلَتْ فِي حَرْبِ أُحُدٍ حَيْثُ أَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْخُرُوجِ فِي آثَارِ
الْمُشْرِكِينَ، وَكَانَ بِالْمُسْلِمِينَ جِرَاحَاتٌ، وَكَانَ
أَمَرَ أَلَّا يَخْرُجَ مَعَهُ إِلَّا مَنْ كَانَ فِي
الْوَقْعَةِ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي (آلِ عِمْرَانَ) وَقِيلَ:
هَذَا فِي كُلِّ جِهَادٍ. الْخَامِسَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى:
(إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ) أَيْ تَتَأَلَّمُونَ مِمَّا
أَصَابَكُمْ مِنَ الْجِرَاحِ فَهُمْ يَتَأَلَّمُونَ أَيْضًا
مِمَّا يُصِيبُهُمْ، وَلَكُمْ مَزِيَّةٌ وَهِيَ أَنَّكُمْ
تَرْجُونَ ثَوَابَ اللَّهِ وَهُمْ لَا يَرْجُونَهُ، وَذَلَكَ
أَنَّ من لا يؤمن بالله لا يرجون مِنَ اللَّهِ شَيْئًا.
وَنَظِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ (إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ
مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ)
__________
(1). راجع ج 8 ص 23.
(2). راجع ج 3 ص 223.
(3). راجع ج 4 ص 216.
(4). زيادة لازمة.
(5). راجع ج 4 ص 216.
(5/374)
إِنَّا أَنْزَلْنَا
إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ
بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا
(105)
وَقَدْ تَقَدَّمَ «1». وَقَرَأَ عَبْدُ
الرَّحْمَنِ الْأَعْرَجُ (أَنْ تَكُونُوا) بِفَتْحِ
الْهَمْزَةِ، أَيْ لِأَنْ وَقَرَأَ مَنْصُورُ بن المعتمر (ان
تكونوا تألمون) بِكَسْرِ التَّاءِ. وَلَا يَجُوزُ عِنْدَ
الْبَصْرِيِّينَ كَسْرُ التَّاءِ لِثِقَلِ الْكَسْرِ فِيهَا.
ثُمَّ قِيلَ: الرَّجَاءُ هُنَا بِمَعْنَى الْخَوْفِ، لِأَنَّ
مَنْ رَجَا شَيْئًا فَهُوَ غَيْرُ قَاطِعٍ بِحُصُولِهِ فَلَا
يَخْلُو مِنْ [خَوْفِ «2»] فَوْتِ مَا يَرْجُو. وَقَالَ
الْفَرَّاءُ وَالزَّجَّاجُ: لَا يُطْلَقُ الرَّجَاءُ بِمَعْنَى
الْخَوْفِ إِلَّا مَعَ النَّفْيِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: (مَا
لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقاراً «3») أَيْ لَا
تَخَافُونَ لِلَّهِ عَظَمَةً. وَقَوْلُهُ تَعَالَى:
(لِلَّذِينَ لَا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ «4») أَيْ لَا
يَخَافُونَ. قَالَ الْقُشَيْرِيُّ: وَلَا يَبْعُدُ ذِكْرُ
الْخَوْفِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ فِي الكلام نفي، ولكنها
ادَّعَيَا أَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ ذَلِكَ إِلَّا مَعَ النفي.
والله أعلم.
[سورة النساء (4): آية 105]
إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ
بَيْنَ النَّاسِ بِما أَراكَ اللَّهُ وَلا تَكُنْ
لِلْخائِنِينَ خَصِيماً (105)
فِيهِ أَرْبَعُ مَسَائِلَ: الْأُولَى- فِي هَذِهِ الْآيَةِ
تَشْرِيفٌ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَتَكْرِيمٌ وَتَعْظِيمٌ وَتَفْوِيضٌ إِلَيْهِ، وَتَقْوِيمٌ
أَيْضًا عَلَى الْجَادَّةِ فِي الْحُكْمِ، وَتَأْنِيبٌ عَلَى
مَا رُفِعَ إِلَيْهِ مِنْ أَمْرِ بَنِي أُبَيْرِقٍ، وَكَانُوا
ثَلَاثَةَ إِخْوَةٍ: بِشْرٌ وَبُشَيْرٌ وَمُبَشِّرٌ،
وَأُسَيْرُ بْنُ عُرْوَةَ ابْنُ عَمٍّ لَهُمْ، نَقَبُوا
مَشْرَبَةً «5» لِرِفَاعَةَ بْنِ زَيْدٍ فِي اللَّيْلِ
وَسَرَقُوا أَدْرَاعًا لَهُ وَطَعَامًا، فَعُثِرَ عَلَى
ذَلِكَ. وَقِيلَ إِنَّ السَّارِقَ بُشَيْرٌ وَحْدَهُ، وَكَانَ
يُكَنَّى أَبَا طُعْمَةَ أَخَذَ دِرْعًا، قِيلَ: كَانَ
الدِّرْعُ فِي جِرَابٍ فِيهِ دَقِيقٌ، فَكَانَ الدَّقِيقُ
يَنْتَثِرُ مِنْ خَرْقٍ فِي الْجِرَابِ حَتَّى انْتَهَى إِلَى
دَارِهِ، فَجَاءَ ابْنُ أَخِي رِفَاعَةَ وَاسْمُهُ قَتَادَةُ
بْنُ النُّعْمَانِ يَشْكُوهُمْ «6» إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَجَاءَ أُسَيْرُ بْنُ عُرْوَةَ
إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ:
يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ هَؤُلَاءِ عَمَدُوا إِلَى أَهْلِ
بَيْتٍ هُمْ أَهْلُ صَلَاحٍ وَدِينٍ فَأَنَّبُوهُمْ
بِالسَّرِقَةِ وَرَمَوْهُمْ بِهَا مِنْ غَيْرِ بَيِّنَةٍ،
وَجَعَلَ يُجَادِلُ عَنْهُمْ حَتَّى غَضِبَ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى قَتَادَةَ
وَرِفَاعَةَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: (وَلا تُجادِلْ
عَنِ الَّذِينَ يَخْتانُونَ أَنْفُسَهُمْ)
الْآيَةَ. وَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى
__________
(1). راجع ج 4 ص 217.
(2). من ج.
(3). راجع ج 18 ص 303.
(4). راجع ج 16 ص 160.
(5). المشربة (بفتح الراء وضمها).
(6). في ج وى وط. وفي اوح وز: يشكوه.
(5/375)
(وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً
ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً)
وكان البرئ الَّذِي رَمَوْهُ بِالسَّرِقَةِ لَبِيدَ بْنَ
سَهْلٍ. وَقِيلَ: زَيْدُ بْنُ السَّمِينِ وَقِيلَ: رَجُلٌ مِنْ
الْأَنْصَارِ. فَلَمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ مَا أَنْزَلَ، هَرَبَ
ابْنُ أُبَيْرِقٍ السَّارِقُ إِلَى مَكَّةَ، وَنَزَلَ عَلَى
سُلَافَةَ بِنْتِ سَعْدِ بْنِ شَهِيدٍ، فَقَالَ [فِيهَا «1»]
حَسَّانُ بْنُ ثَابِتٍ بَيْتًا يُعَرِّضُ فِيهِ بِهَا، وَهُوَ:
وَقَدْ أَنْزَلَتْهُ بِنْتُ سَعْدٍ وَأَصْبَحَتْ ...
يُنَازِعُهَا جِلْدَ اسْتِهَا وَتُنَازِعُهْ
ظَنَنْتُمْ بِأَنْ يَخْفَى الَّذِي قَدْ صَنَعْتُمُو ...
وَفِينَا نَبِيٌّ عِنْدَهُ الْوَحْيُ وَاضِعُهْ
فَلَمَّا بَلَغَهَا قَالَتْ: إِنَّمَا أَهْدَيْتَ لِي شِعْرَ
حَسَّانَ، وَأَخَذَتْ رَحْلَهُ فَطَرَحَتْهُ خَارِجَ
الْمَنْزِلِ، فَهَرَبَ إِلَى خَيْبَرَ وَارْتَدَّ. ثُمَّ
إِنَّهُ نَقَبَ بَيْتًا ذَاتَ لَيْلَةٍ لِيَسْرِقَ فَسَقَطَ
الْحَائِطُ عَلَيْهِ فَمَاتَ مُرْتَدًّا. ذَكَرَ هَذَا
الْحَدِيثَ بِكَثِيرٍ مِنْ أَلْفَاظِهِ التِّرْمِذِيُّ
وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ، لَا نَعْلَمُ أَحَدًا
أَسْنَدَهُ غَيْرَ مُحَمَّدِ بْنِ سَلَمَةَ الْحَرَّانِيِّ.
وَذَكَرَهُ اللَّيْثُ وَالطَّبَرِيُّ بِأَلْفَاظٍ
مُخْتَلِفَةٍ. وَذَكَرَ قِصَّةَ مَوْتِهِ يحيى بن سلام في
تفسيره، والقشري كَذَلِكَ وَزَادَ ذِكْرَ الرِّدَّةِ، ثُمَّ
قِيلَ: كَانَ زَيْدُ بْنُ السَّمِينِ وَلَبِيدُ بْنُ سَهْلٍ
يَهُودِيَّيْنِ. وَقِيلَ: كَانَ لَبِيدُ مُسْلِمًا. وَذَكَرَهُ
الْمَهْدَوِيُّ، وَأَدْخَلَهُ أَبُو عُمَرَ فِي كِتَابِ
الصَّحَابَةِ لَهُ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى إِسْلَامِهِ
عِنْدَهُ. وَكَانَ بُشَيْرٌ رَجُلًا مُنَافِقًا يَهْجُو
أَصْحَابَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَيَنْحَلُ الشِّعْرَ غَيْرُهُ، وَكَانَ الْمُسْلِمُونَ
يَقُولُونَ: وَاللَّهِ مَا هُوَ إِلَّا شِعْرُ الْخَبِيثِ.
فَقَالَ شِعْرًا يَتَنَصَّلُ فِيهِ، فَمِنْهُ قَوْلُهُ:
أَوَكُلَّمَا قَالَ الرِّجَالُ قَصِيدَةً ... نُحِلَتْ
وَقَالُوا ابْنُ الْأُبَيْرِقِ قَالَهَا
وَقَالَ الضَّحَّاكُ: أَرَادَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَقْطَعَ يَدَهُ وَكَانَ مُطَاعًا،
فَجَاءَتِ الْيَهُودُ شَاكِّينَ فِي السِّلَاحِ فَأَخَذُوهُ
وَهَرَبُوا بِهِ، فَنَزَلَ (هَا أَنْتُمْ هؤُلاءِ)
يَعْنِي الْيَهُودَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الثَّانِيَةُ-
قَوْلُهُ تَعَالَى: (بِما أَراكَ اللَّهُ) مَعْنَاهُ عَلَى
قَوَانِينِ الشَّرْعِ، إِمَّا بِوَحْيٍ وَنَصٍّ، أَوْ بِنَظَرٍ
جَارٍ عَلَى سُنَنِ الْوَحْيِ. وَهَذَا أَصْلٌ فِي الْقِيَاسِ،
وَهُوَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا رَأَى شَيْئًا أَصَابَ، لِأَنَّ
اللَّهَ تَعَالَى أَرَاهُ ذَلِكَ، وَقَدْ ضَمِنَ اللَّهُ
تَعَالَى لِأَنْبِيَائِهِ الْعِصْمَةَ، فَأَمَّا أَحَدُنَا
إِذَا رَأَى شَيْئًا يَظُنُّهُ فَلَا قَطْعَ فِيمَا رَآهُ،
وَلَمْ يُرِدْ رُؤْيَةَ الْعَيْنِ هُنَا، لان الحكم لا يرى
__________
(1). من ج وى وط.
(5/376)
وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ
إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (106)
بِالْعَيْنِ. وَفِي الْكَلَامِ إِضْمَارٌ،
أَيْ بِمَا أَرَاكَهُ اللَّهُ، وَفِيهِ إِضْمَارٌ آخَرُ،
وَامْضِ الْأَحْكَامَ عَلَى مَا عَرَّفْنَاكَ مِنْ غَيْرِ
اغْتِرَارٍ بِاسْتِدْلَالِهِمْ «1». الثَّالِثَةُ- قَوْلُهُ
تَعَالَى: (وَلا تَكُنْ لِلْخائِنِينَ خَصِيماً) اسْمُ
فَاعِلٍ، كَقَوْلِكَ: جَالَسْتُهُ فَأَنَا جَلِيسُهُ، وَلَا
يَكُونُ فَعِيلًا هُنَا بِمَعْنَى مَفْعُولٍ، يَدُلُّ عَلَى
ذَلِكَ (وَلا تُجادِلْ)
فَالْخَصِيمُ هُوَ الْمُجَادِلُ وَجَمْعُ الْخَصِيمِ
خُصَمَاءُ. وَقِيلَ: خَصِيمًا مُخَاصِمًا اسْمُ فَاعِلٍ
أَيْضًا. فَنَهَى اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ رَسُولَهُ عَنْ عَضُدِ
أَهْلِ التُّهَمِ وَالدِّفَاعِ عَنْهُمْ بِمَا يَقُولُهُ
خَصْمُهُمْ مِنَ الْحُجَّةِ. وَفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ
النِّيَابَةَ عَنِ الْمُبْطِلِ وَالْمُتَّهَمِ فِي
الْخُصُومَةِ لَا تَجُوزُ. فَلَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ أَنْ
يُخَاصِمَ عَنْ أَحَدٍ إِلَّا بَعْدَ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّهُ
مُحِقٌّ. وَمَشَى الْكَلَامُ فِي السُّورَةِ عَلَى حِفْظِ
أَمْوَالِ الْيَتَامَى وَالنَّاسِ، فَبَيَّنَ أَنَّ مَالَ
الْكَافِرِ مَحْفُوظٌ عَلَيْهِ كَمَالِ الْمُسْلِمِ، إِلَّا
فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي أَبَاحَهُ اللَّهُ تَعَالَى.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ قَالَ الْعُلَمَاءُ: وَلَا
يَنْبَغِي إِذَا ظَهَرَ لِلْمُسْلِمِينَ نِفَاقُ قَوْمٍ أَنْ
يُجَادِلَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ فَرِيقًا عَنْهُمْ لِيَحْمُوهُمْ
وَيَدْفَعُوا عَنْهُمْ، فَإِنَّ هَذَا قَدْ وَقَعَ عَلَى
عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَفِيهِمْ نَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَلا تَكُنْ
لِلْخائِنِينَ خَصِيماً) وَقَوْلُهُ: (وَلا تُجادِلْ عَنِ
الَّذِينَ يَخْتانُونَ أَنْفُسَهُمْ)
. وَالْخِطَابُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَالْمُرَادُ مِنْهُ الَّذِينَ كَانُوا يَفْعَلُونَهُ مِنَ
الْمُسْلِمِينَ دُونَهُ لِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا- أَنَّهُ
تَعَالَى أَبَانَ ذَلِكَ بِمَا ذَكَرَهُ بَعْدُ بِقَوْلِهِ:
(هَا أَنْتُمْ هؤُلاءِ جادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَياةِ
الدُّنْيا)
. وَالْآخَرُ- أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ كَانَ حَكَمًا فِيمَا بَيْنَهُمْ، وَلِذَلِكَ كَانَ
يُعْتَذَرُ إِلَيْهِ وَلَا يَعْتَذِرُ هُوَ إِلَى غَيْرِهِ،
فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْقَصْدَ لغيره.
[سورة النساء (4): آية 106]
وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً
(106)
فِيهِ مَسْأَلَةٌ وَاحِدَةٌ: ذَهَبَ الطَّبَرِيُّ إِلَى أَنَّ
الْمَعْنَى: اسْتَغْفِرِ اللَّهَ مِنْ ذَنْبِكَ فِي خِصَامِكَ
لِلْخَائِنِينَ، فَأَمَرَهُ بِالِاسْتِغْفَارِ لَمَّا هَمَّ
بِالدَّفْعِ عَنْهُمْ وَقَطْعِ يَدِ الْيَهُودِيِّ. وَهَذَا
مَذْهَبُ مَنْ جَوَّزَ الصَّغَائِرَ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ،
صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهَذَا
لَيْسَ بِذَنْبٍ، لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ إِنَّمَا دَافَعَ عَلَى
__________
(1). كذا في ز. وفى ج وى وط: استزلالهم. [ ..... ]
(5/377)
وَلَا تُجَادِلْ عَنِ
الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا
يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا (107) يَسْتَخْفُونَ
مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ
مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ
وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا (108) هَا
أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ
الدُّنْيَا فَمَنْ يُجَادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ
الْقِيَامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا (109)
الظاهر وهو يعتقد برأتهم. وَالْمَعْنَى:
وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ لِلْمُذْنِبِينَ مِنْ أُمَّتِكَ
وَالْمُتَخَاصِمِينَ بِالْبَاطِلِ، وَمَحِلُّكَ مِنَ النَّاسِ
أَنْ تَسْمَعَ مِنَ الْمُتَدَاعِيَيْنِ وَتَقْضِيَ بِنَحْوِ
مَا تَسْمَعُ، وَتَسْتَغْفِرَ لِلْمُذْنِبِ. وَقِيلَ: هُوَ
أَمْرٌ بِالِاسْتِغْفَارِ عَلَى طَرِيقِ التَّسْبِيحِ،
كَالرَّجُلِ يَقُولُ: أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ، عَلَى وَجْهِ
التَّسْبِيحِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَقْصِدَ تَوْبَةً مِنْ ذَنْبٍ.
وَقِيلَ: الْخِطَابُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ وَالْمُرَادُ بَنُو أُبَيْرِقٍ، كَقَوْلِهِ
تَعَالَى: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ «1»)،
(فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ «2»).
[سورة النساء (4): آية 107]
وَلا تُجادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنَّ
اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كانَ خَوَّاناً أَثِيماً (107)
أَيْ لَا تُحَاجِجْ عَنِ الَّذِينَ يَخُونُونَ أَنْفُسَهُمْ،
نَزَلَتْ فِي أُسَيْرِ بْنِ عُرْوَةَ كَمَا تَقَدَّمَ.
وَالْمُجَادَلَةُ الْمُخَاصَمَةُ، مِنَ الْجَدْلِ وَهُوَ
الْفَتْلُ، وَمِنْهُ رَجُلٌ مَجْدُولُ «3» الْخَلْقِ، وَمِنْهُ
الْأَجْدَلُ لِلصَّقْرِ. وَقِيلَ: هُوَ مِنَ الْجَدَالَةِ
وَهِيَ وَجْهُ الْأَرْضِ، فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْخَصْمَيْنِ
يُرِيدُ أَنْ يُلْقِيَ صَاحِبَهُ عَلَيْهَا، قَالَ
الْعَجَّاجُ:
قَدْ أَرْكَبُ الْحَالَةَ بَعْدَ الْحَالَهْ ... وَأَتْرُكُ
الْعَاجِزَ بِالْجَدَالَهْ
مُنْعَفِرًا لَيْسَتْ لَهُ مَحَالَهْ
الْجَدَالَةُ الْأَرْضُ، مِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ: تَرَكْتُهُ
مُجَدَّلًا، أَيْ مَطْرُوحًا عَلَى الْجَدَالَةِ. قَوْلُهُ
تَعَالَى: (إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ)
أَيْ لَا يَرْضَى عَنْهُ وَلَا يُنَوِّهُ بِذِكْرِ. (مَنْ كانَ
خَوَّاناً)
خائنا. و (خَوَّاناً)
أَبْلَغُ، لِأَنَّهُ مِنْ أَبْنِيَةِ الْمُبَالَغَةِ،
وَإِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ لِعِظَمِ قَدْرِ تِلْكَ الْخِيَانَةِ
«4». وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
[سورة النساء (4): الآيات 108 الى 109]
يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ
وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضى مِنَ
الْقَوْلِ وَكانَ اللَّهُ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطاً (108) هَا
أَنْتُمْ هؤُلاءِ جادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا
فَمَنْ يُجادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَمْ
مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً (109)
__________
(1). راجع ج 14 ص 113.
(2). راجع ج 8 ص 382.
(3). مجدول الخلق: لطيف القصب محكم الفتل:
(4). كذا في ج، ط. وفي اوح، ز وى: الجناية.
(5/378)
وَمَنْ يَعْمَلْ
سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ
يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا (110)
قَالَ الضَّحَّاكُ: لَمَّا سَرَقَ
الدِّرْعَ اتَّخَذَ حُفْرَةً فِي بَيْتِهِ وَجَعَلَ الدِّرْعَ
تَحْتَ التُّرَابِ، فَنَزَلَتْ (يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ
وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ)
يَقُولُ: لَا يَخْفَى مَكَانُ الدِّرْعِ عَلَى اللَّهِ (وَهُوَ
مَعَهُمْ)
أي رقيب حفيظ عليهم. وَقِيلَ: (يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ)
أَيْ يَسْتَتِرُونَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: (وَمَنْ هُوَ
مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ «1») أَيْ مُسْتَتِرٍ. وَقِيلَ:
يَسْتَحْيُونَ مِنَ النَّاسِ، وَهَذَا لِأَنَّ الِاسْتِحْيَاءَ
سَبَبُ الِاسْتِتَارِ. وَمَعْنَى (وَهُوَ مَعَهُمْ)
أَيْ بِالْعِلْمِ وَالرُّؤْيَةِ وَالسَّمْعِ، هَذَا قَوْلُ
أَهْلِ السُّنَّةِ. وَقَالَتِ الْجَهْمِيَّةُ وَالْقَدَرِيَّةُ
وَالْمُعْتَزِلَةُ: هُوَ بِكُلِّ مَكَانٍ، تَمَسُّكًا بِهَذِهِ
الْآيَةِ وَمَا كَانَ مِثْلَهَا، قَالُوا: لَمَّا قَالَ
(وَهُوَ مَعَهُمْ)
ثَبَتَ أَنَّهُ بِكُلِّ مَكَانٍ، لِأَنَّهُ قَدْ أَثْبَتَ
كَوْنَهُ مَعَهُمْ تَعَالَى اللَّهُ عَنْ قَوْلِهِمْ، فَإِنَّ
هَذِهِ صِفَةُ الْأَجْسَامِ وَاللَّهُ تَعَالَى مُتَعَالٍ عَنْ
ذَلِكَ أَلَا تَرَى مُنَاظَرَةَ بِشْرٍ فِي قَوْلِ اللَّهِ
عَزَّ وَجَلَّ: (مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ
رابِعُهُمْ «2») حِينَ قَالَ: هُوَ بِذَاتِهِ فِي كُلِّ
مَكَانٍ فَقَالَ لَهُ خَصْمُهُ: هُوَ فِي قَلَنْسُوَتِكَ وَفِي
حَشْوِكَ «3» وَفِي جَوْفِ حِمَارِكَ. تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا
يَقُولُونَ! حَكَى ذَلِكَ وَكِيعٌ رَضِيَ اللَّهُ عنه. ومعنى
(يُبَيِّتُونَ)
يقولون. قال الْكَلْبِيُّ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنِ ابْنِ
عَبَّاسٍ. (مَا لَا يَرْضى)
أَيْ مَا لَا يَرْضَاهُ اللَّهُ لِأَهْلِ طَاعَتِهِ. (مِنَ
الْقَوْلِ)
أَيْ مِنَ الرأي والاعتقاد، كقولك: مذهب مالك الشافعي.
وَقِيلَ: (الْقَوْلِ)
بِمَعْنَى الْمَقُولِ، لِأَنَّ نَفْسَ الْقَوْلِ لَا
يُبَيَّتُ. قَوْلُهُ تَعَالَى: (هَا أَنْتُمْ هؤُلاءِ)
يُرِيدُ قَوْمَ بُشَيْرٍ السَّارِقِ لَمَّا هَرَبُوا بِهِ
وَجَادَلُوا عَنْهُ. قَالَ الزَّجَّاجُ: (هؤُلاءِ)
بِمَعْنَى الَّذِينَ. (جادَلْتُمْ)
حَاجَجْتُمْ. (فِي الْحَياةِ الدُّنْيا فَمَنْ يُجادِلُ
اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ)
اسْتِفْهَامٌ مَعْنَاهُ الْإِنْكَارُ وَالتَّوْبِيخُ. (أَمْ
مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا)
الْوَكِيلُ: الْقَائِمُ بِتَدْبِيرِ الْأُمُورِ، فَاللَّهُ
تَعَالَى قَائِمٌ بِتَدْبِيرِ خَلْقِهِ. وَالْمَعْنَى: لَا
أَحَدَ لَهُمْ يَقُومُ بِأَمْرِهِمْ إذا أخذهم الله بعذابه
وأدخلهم النار.
[سورة النساء (4): آية 110]
وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ
يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُوراً رَحِيماً (110)
__________
(1). راجع 9 ص 290.
(2). راجع ج 17 ص 289.
(3). في ط وز وى: حشك. وفى ج، جيبك.
(5/379)
وَمَنْ يَكْسِبْ
إِثْمًا فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ وَكَانَ اللَّهُ
عَلِيمًا حَكِيمًا (111) وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ
إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا فَقَدِ احْتَمَلَ
بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا (112)
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: عَرَضَ اللَّهُ
التَّوْبَةَ عَلَى بَنِي أُبَيْرِقٍ بِهَذِهِ الْآيَةِ، أَيْ
(وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً)
بِأَنْ يَسْرِقَ (أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ)
بِأَنْ يُشْرِكَ (ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ)
يَعْنِي بِالتَّوْبَةِ، فَإِنَّ الِاسْتِغْفَارَ بِاللِّسَانِ
مِنْ غَيْرِ تَوْبَةٍ لَا يَنْفَعُ، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي
(آلِ عِمْرَانَ) «1». وَقَالَ الضَّحَّاكُ: نَزَلَتِ الْآيَةُ
فِي شَأْنِ وَحْشِيٍّ قَاتِلِ حَمْزَةَ أَشْرَكَ بِاللَّهِ
وَقَتَلَ حَمْزَةَ، ثُمَّ جَاءَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقال: إِنِّي لَنَادِمٌ فَهَلْ لِي
مِنْ تَوْبَةٍ؟ فَنَزَلَ: (وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ
يَظْلِمْ نَفْسَهُ)
الْآيَةَ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِهَذِهِ الْآيَةِ الْعُمُومُ
وَالشُّمُولُ لِجَمِيعِ الْخَلْقِ. وَرَوَى سُفْيَانُ عَنْ
أَبِي إِسْحَاقَ عَنِ الْأَسْوَدِ وَعَلْقَمَةَ قَالَا: قَالَ
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ مَنْ قَرَأَ هَاتَيْنِ
الْآيَتَيْنِ مِنْ سُورَةِ (النِّسَاءِ) ثُمَّ اسْتَغْفَرَ
غُفِرَ لَهُ: (وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ
ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُوراً رَحِيماً)
. (وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاؤُكَ
فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ
لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّاباً رَحِيماً). وَرُوِيَ عَنْ
عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: كُنْتُ إِذَا
سَمِعْتُ حَدِيثًا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَفَعَنِي اللَّهُ بِهِ مَا شَاءَ، وَإِذَا
سَمِعْتُهُ مِنْ غَيْرِهِ حَلَّفْتُهُ «2»، وَحَدَّثَنِي أَبُو
بَكْرٍ وَصَدَقَ أَبُو بَكْرٍ: قَالَ: مَا مِنْ عَبْدٍ
يُذْنِبُ ذَنْبًا ثُمَّ يَتَوَضَّأُ وَيُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ
وَيَسْتَغْفِرُ اللَّهَ إِلَّا غُفِرَ لَهُ، ثُمَّ تَلَا
هَذِهِ الْآيَةَ (وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ
نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُوراً
رَحِيماً).
[سورة النساء (4): الآيات 111 الى 112]
وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْماً فَإِنَّما يَكْسِبُهُ عَلى نَفْسِهِ
وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً (111) وَمَنْ يَكْسِبْ
خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً فَقَدِ
احْتَمَلَ بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً (112)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْماً)
أَيْ ذَنْبًا (فَإِنَّما يَكْسِبُهُ عَلى نَفْسِهِ)
أَيْ عَاقِبَتُهُ عَائِدَةٌ عَلَيْهِ. وَالْكَسْبُ مَا يجربه
الْإِنْسَانُ إِلَى نَفْسِهِ نَفْعًا أَوْ يَدْفَعُ عَنْهُ
بِهِ ضَرَرًا، وَلِهَذَا لَا يُسَمَّى فِعْلُ الرَّبِّ
تَعَالَى كَسْبًا. قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَمَنْ يَكْسِبْ
خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً)
قِيلَ: هُمَا بِمَعْنًى وَاحِدٍ كُرِّرَ لِاخْتِلَافِ
اللَّفْظِ تَأْكِيدًا. وَقَالَ الطَّبَرِيُّ: إِنَّمَا فَرْقُ
بَيْنَ الْخَطِيئَةِ وَالْإِثْمِ أَنَّ الْخَطِيئَةَ تَكُونُ
عَنْ عمد وعن غير
__________
(1). راجع ج 4 ص 38.
(2). كذا في اوج، ز، ط، ى. وفي ج: خلفته.
(5/380)
وَلَوْلَا فَضْلُ
اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ
أَنْ يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا
يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ
الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ
تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا (113)
عَمْدٍ، وَالْإِثْمُ لَا يَكُونُ إِلَّا
عَنْ عَمْدٍ. وَقِيلَ: الْخَطِيئَةُ مَا لَمْ تَتَعَمَّدْهُ
[خَاصَّةً «1»] كَالْقَتْلِ بِالْخَطَأِ. وَقِيلَ:
الْخَطِيئَةُ الصَّغِيرَةُ، وَالْإِثْمُ الْكَبِيرَةُ،
وَهَذِهِ الْآيَةُ لَفْظُهَا عَامٌّ يَنْدَرِجُ تَحْتَهُ
أَهْلُ النَّازِلَةِ وَغَيْرُهُمْ. قَوْلُهُ تَعَالَى: (ثُمَّ
يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً)
قد تقدم اسم البرئ [فِي الْبَقَرَةِ «2»]. وَالْهَاءُ فِي
(بِهِ)
لِلْإِثْمِ أَوْ لِلْخَطِيئَةِ. لِأَنَّ مَعْنَاهَا الْإِثْمُ،
أَوْ لَهُمَا جَمِيعًا. وَقِيلَ: تَرْجِعُ إِلَى الْكَسْبِ.
(فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً)
تَشْبِيهٌ، إِذِ الذُّنُوبُ ثِقَلٌ وَوِزْرٌ فَهِيَ
كَالْمَحْمُولَاتِ. وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: وَلَيَحْمِلُنَّ
أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالِهِمْ «3» (.
وَالْبُهْتَانُ مِنَ الْبَهْتِ «4»، وَهُوَ أَنْ تَسْتَقْبِلَ
أَخَاكَ بِأَنْ تَقْذِفَهُ بِذَنْبٍ وَهُوَ منه برئ. وَرَوَى
مُسْلِمٌ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:) أَتَدْرُونَ مَا
الْغِيبَةُ (؟ قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ:)
ذِكْرُكَ أَخَاكَ بِمَا يَكْرَهُ (. قِيلَ: أَفَرَأَيْتَ إِنْ
كَانَ فِي أَخِي مَا أَقُولُ؟ قَالَ:) إِنْ كَانَ فِيهِ مَا
تَقُولُ فَقَدِ اغْتَبْتَهُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ فَقَدْ
بَهَتَّهُ (. وَهَذَا نَصٌّ، فَرَمْيُ البرئ بَهْتٌ لَهُ.
يُقَالُ: بَهَتُّهُ بَهْتًا وَبَهَتًا وَبُهْتَانًا إِذَا
قَالَ عَلَيْهِ مَا لَمْ يَفْعَلْهُ. وَهُوَ بَهَّاتٌ
وَالْمَقُولُ لَهُ مَبْهُوتٌ. وَيُقَالُ: بَهِتَ الرَّجُلُ
(بِالْكَسْرِ) إِذَا دَهَشَ وَتَحَيَّرَ. وَبَهُتَ
(بِالضَّمِّ) مِثْلُهُ، وَأَفْصَحُ مِنْهُمَا بُهِتَ، كَمَا
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: (فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ «5»)
لِأَنَّهُ يُقَالُ: رَجُلٌ مَبْهُوتٌ «6» وَلَا يُقَالُ:
بَاهِتٌ وَلَا بَهِيتٌ، قَالَهُ الْكِسَائِيُّ.
[سورة النساء (4): آية 113]
وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ
طائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَما يُضِلُّونَ إِلاَّ
أَنْفُسَهُمْ وَما يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْزَلَ
اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا
لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً
(113)
قوله تعالى: (وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ)
ما بعد (لَوْلا)
مَرْفُوعٌ بِالِابْتِدَاءِ عِنْدَ سِيبَوَيْهِ، وَالْخَبَرُ
مَحْذُوفٌ لَا يظهر، والمعنى: (وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ
عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ)
بِأَنْ نَبَّهَكَ عَلَى الْحَقِّ، وَقِيلَ: بِالنُّبُوءَةِ
وَالْعِصْمَةِ. (لَهَمَّتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ)
عن الحق، لأنهم
__________
(1). كذا في اوفى ج وز وط وى: ما لم يتعمد خاصة. وفى ح: ما لم
تتعمد.
(2). من ج. راجع ج 1 ص 402.
(3). راجع ج 13 ص 330.
(4). البهت الدهش والتحير من فظاعة ما رمى به من كذب.
(5). راجع ج 3 ص 286. [ ..... ]
(6). في ج: بهوت.
(5/381)
لَا خَيْرَ فِي
كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ
مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ
ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ
أَجْرًا عَظِيمًا (114)
سَأَلُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُبَرِّئَ ابْنَ أُبَيْرِقٍ مِنَ
التُّهَمَةِ وَيُلْحِقُهَا الْيَهُودِيُّ، فَتَفَضَّلَ اللَّهُ
عَزَّ وَجَلَّ عَلَى رَسُولِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِأَنْ
نَبَّهَهُ عَلَى ذَلِكَ وَأَعْلَمَهُ إِيَّاهُ. (وَما
يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ)
لِأَنَّهُمْ يَعْمَلُونَ عَمَلَ الضَّالِّينَ، فَوَبَالُهُ
[لَهُمْ «1»] رَاجِعٌ عَلَيْهِمْ. (وَما يَضُرُّونَكَ مِنْ
شَيْءٍ)
لِأَنَّكَ مَعْصُومٌ. (وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتابَ
وَالْحِكْمَةَ)
هَذَا ابْتِدَاءُ كَلَامٍ. وَقِيلَ: الْوَاوُ لِلْحَالِ،
كَقَوْلِكَ: جِئْتُكَ وَالشَّمْسُ طَالِعَةٌ، وَمِنْهُ قَوْلُ
امْرِئِ الْقَيْسِ:
وَقَدْ أَغْتَدِي وَالطَّيْرُ فِي وُكُنَاتِهَا
فَالْكَلَامُ مُتَّصِلٌ، أَيْ مَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شي مَعَ
إِنْزَالِ اللَّهِ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ. (وَالْحِكْمَةَ)
الْقَضَاءُ بِالْوَحْيِ. (وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ
تَعْلَمُ)
يَعْنِي من الشرائع والأحكام. و (تَعْلَمُ)
فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ، لِأَنَّهُ خَبَرُ كَانَ. وَحُذِفَتِ
الضَّمَّةُ مِنَ النُّونِ لِلْجَزْمِ، وَحُذِفَتِ الْوَاوُ
لِالْتِقَاءِ الساكنين.
[سورة النساء (4): آية 114]
لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْواهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ
بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ
وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ
نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً (114)
أَرَادَ مَا تَفَاوَضَ بِهِ قَوْمُ بَنِي أُبَيْرِقٍ مِنَ
التَّدْبِيرِ، وَذَكَرُوهُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَالنَّجْوَى: السربين الِاثْنَيْنِ،
تَقُولُ: نَاجَيْتُ فُلَانًا مُنَاجَاةً وَنِجَاءً وَهُمْ
يَنْتَجُونَ وَيَتَنَاجَوْنَ. وَنَجَوْتُ فُلَانًا أَنْجُوهُ
نَجْوًا، أَيْ نَاجَيْتُهُ، فَنَجْوَى مُشْتَقَّةٌ مِنْ
نَجَوْتُ الشَّيْءَ أَنْجُوهُ، أَيْ خَلَّصْتُهُ
وَأَفْرَدْتُهُ، وَالنَّجْوَةُ مِنَ الْأَرْضِ الْمُرْتَفِعُ
لِانْفِرَادِهِ بِارْتِفَاعِهِ عَمَّا حَوْلَهُ، قَالَ
الشَّاعِرُ:
فَمَنْ بنجوته كمن بعقوته ... والمستكن كَمَنْ يَمْشِي
بِقِرْوَاحِ «2»
فَالنَّجْوَى الْمُسَارَّةُ، مَصْدَرٌ، وَقَدْ تُسَمَّى بِهِ
الْجَمَاعَةُ، كَمَا يُقَالُ: قَوْمٌ عَدْلٌ وَرِضًا. قَالَ
اللَّهُ تَعَالَى: (وَإِذْ هُمْ نَجْوى «3»)، فَعَلَى
الْأَوَّلِ يَكُونُ الْأَمْرُ أَمْرُ اسْتِثْنَاءٍ مِنْ غير
الجنس، وهو
__________
(1). من ج.
(2). البيت لأوس بن حجر. ويروى لعبيد. والعقوة: الساحة وما حول
الدار والمحلة. والقرواح: البارز الذي ليس يستره من السماء شي.
في ى حاشية: الناقة الطويلة وكذلك النخلة الطويلة، يقال لها
قرواح.
(3). راجع ج 10 ص 272.
(5/382)
الِاسْتِثْنَاءُ الْمُنْقَطِعُ. وَقَدْ
تَقَدَّمَ، وَتَكُونُ (مَنْ) فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ، أَيْ لَكِنْ
مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ
النَّاسِ وَدَعَا إِلَيْهِ فَفِي نَجْوَاهُ خَيْرٌ. وَيَجُوزُ
أَنْ تَكُونَ (مَنْ) فِي مَوْضِعِ خَفْضٍ وَيَكُونُ
التَّقْدِيرُ: لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا
نَجْوَى مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ ثُمَّ حُذِفَ. وَعَلَى
الثَّانِي وَهُوَ أَنْ يَكُونَ النَّجْوَى اسْمًا
لِلْجَمَاعَةِ الْمُنْفَرِدِينَ، فَتَكُونُ (مَنْ) فِي
مَوْضِعِ خَفْضٍ عَلَى الْبَدَلِ، أَيْ لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ
مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا فِيمَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ. أَوْ
تَكُونُ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلَى قَوْلِ مَنْ قَالَ: مَا
مَرَرْتُ بِأَحَدٍ إِلَّا زَيْدًا. وَقَالَ بَعْضُ
الْمُفَسِّرِينَ مِنْهُمُ الزَّجَّاجُ: النَّجْوَى كَلَامُ
الْجَمَاعَةِ الْمُنْفَرِدَةِ أَوِ الِاثْنَيْنِ كَانَ ذَلِكَ
سِرًّا أَوْ جَهْرًا، وَفِيهِ بُعْدٌ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَالْمَعْرُوفُ لَفْظٌ يَعُمُّ أَعْمَالَ الْبِرِّ كُلَّهَا.
وَقَالَ مُقَاتِلٌ: الْمَعْرُوفُ هُنَا الْفَرْضُ،
وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ. وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: (كُلُّ مَعْرُوفٍ صَدَقَةٌ وَإِنَّ مِنَ
الْمَعْرُوفِ أَنْ تَلْقَى أَخَاكَ بِوَجْهٍ طَلْقٍ). وَقَالَ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (الْمَعْرُوفُ كَاسْمِهِ
وَأَوَّلُ مَنْ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ
الْمَعْرُوفُ وَأَهْلُهُ). وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: لَا يُزَهِّدَنَّكَ فِي الْمَعْرُوفِ
كُفْرُ مَنْ كَفَرَهُ، فَقَدْ يَشْكُرُ الشَّاكِرُ بِأَضْعَافِ
جُحُودِ الْكَافِرِ. وَقَالَ الْحُطَيْئَةُ:
مَنْ يَفْعَلِ الْخَيْرَ لَا يَعْدَمْ جَوَازِيَهُ «1» ... لَا
يَذْهَبُ الْعُرْفُ بَيْنَ اللَّهِ وَالنَّاسِ
وَأَنْشَدَ الرَّيَاشِيُّ:
يَدُ الْمَعْرُوفِ غُنْمٌ حَيْثُ كَانَتْ ... تَحَمَّلَهَا
كَفُورٌ أَوْ شَكُورُ
فَفِي شُكْرِ الشَّكُورِ لَهَا جَزَاءٌ ... وَعِنْدَ اللَّهِ
مَا كَفَرَ الْكَفُورُ
وَقَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: (فَيَنْبَغِي لِمَنْ يَقْدِرُ عَلَى
إِسْدَاءِ الْمَعْرُوفِ أَنْ يُعَجِّلَهُ حَذَارِ فَوَاتِهِ،
وَيُبَادِرَ بِهِ خِيفَةَ عَجْزِهِ، وَلْيَعْلَمْ أَنَّهُ مِنْ
فُرَصِ زَمَانِهِ، وَغَنَائِمِ إِمْكَانِهِ، وَلَا يُهْمِلْهُ
ثِقَةً بِالْقُدْرَةِ عَلَيْهِ، فَكَمْ مِنْ وَاثِقٍ
بِالْقُدْرَةِ فَاتَتْ فَأَعْقَبَتْ نَدَمًا، وَمُعَوِّلٍ
عَلَى مُكْنَةٍ زَالَتْ فَأَوْرَثَتْ خَجَلًا، كَمَا قَالَ
الشَّاعِرُ:
مَا زِلْتُ أَسْمَعُ كَمْ مِنْ وَاثِقٍ خَجِلٍ ... حَتَّى
ابْتُلِيتُ فَكُنْتُ الْوَاثِقَ الْخَجِلَا
وَلَوْ فَطِنَ لِنَوَائِبِ دَهْرِهِ، وَتَحَفَّظَ مِنْ
عَوَاقِبِ أَمْرِهِ لَكَانَتْ مَغَانِمُهُ مَذْخُورَةً،
وَمَغَارِمُهُ مَجْبُورَةً، فَقَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: (من فتح
عليه باب من الخير
__________
(1). في كل الأصول: جوائزه.
(5/383)
فَلْيَنْتَهِزْهُ فَإِنَّهُ لَا يَدْرِي
مَتَى يُغْلَقُ عَنْهُ (. وَرُوِيَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ:) لِكُلِّ شي ثَمَرَةٌ
وَثَمَرَةُ الْمَعْرُوفِ السَّرَاحُ «1» (. وَقِيلَ
لِأَنُوشِرْوَانَ: مَا أَعْظَمُ الْمَصَائِبَ عِنْدَكُمْ؟
قَالَ: أَنْ تَقْدِرَ عَلَى الْمَعْرُوفِ فَلَا تَصْطَنِعَهُ
حَتَّى يَفُوتَ. وَقَالَ عَبْدُ الْحَمِيدِ: مَنْ أَخَّرَ
الْفُرْصَةَ عَنْ وَقْتِهَا فَلْيَكُنْ عَلَى ثِقَةٍ مِنْ
فَوْتِهَا. وَقَالَ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ:
إِذَا هَبَّتْ رِيَاحُكَ فَاغْتَنِمْهَا ... فَإِنَّ لِكُلِّ
خَافِقَةٍ سُكُونُ
وَلَا تَغْفُلْ عَنِ الْإِحْسَانِ فِيهَا ... فَمَا تَدْرِي
السُّكُونُ مَتَى يَكُونُ
وَكَتَبَ بَعْضُ ذَوِي الْحُرُمَاتِ إِلَى وَالٍ قَصَّرَ فِي
رِعَايَةِ حُرْمَتِهِ:
أَعَلَى الصِّرَاطِ تُرِيدُ رَعِيَّةَ حُرْمَتِي ... أَمْ فِي
الْحِسَابِ تَمَنَّ بِالْإِنْعَامِ
لِلنَّفْعِ فِي الدُّنْيَا أُرِيدُكَ، فَانْتَبِهْ ...
لِحَوَائِجِي مِنْ رَقْدَةِ النُّوَّامِ
وَقَالَ الْعَبَّاسُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: لَا يَتِمُّ
الْمَعْرُوفُ إِلَّا بِثَلَاثِ خِصَالٍ: تَعْجِيلُهُ
وَتَصْغِيرُهُ وَسَتْرُهُ، فَإِذَا عَجَّلْتَهُ هَنَّأْتَهُ،
وَإِذَا صَغَّرْتَهُ عَظَّمْتَهُ، وَإِذَا سَتَرْتَهُ
أَتْمَمْتَهُ. وَقَالَ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ:
زَادَ مَعْرُوفُكَ عِنْدِي عِظَمًا ... أنه عندك مستور حقير
تتناساه كأن لم تَأْتِهِ ... وَهُوَ عِنْدَ النَّاسِ مَشْهُورٌ
خَطِيرُ
وَمِنْ شَرْطِ الْمَعْرُوفِ تَرْكُ الِامْتِنَانِ بِهِ،
وَتَرْكُ الْإِعْجَابِ بِفِعْلِهِ، لِمَا فِيهِمَا مِنْ
إِسْقَاطِ الشُّكْرِ وَإِحْبَاطِ الْأَجْرِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ
فِي (الْبَقَرَةِ «2») بَيَانُهُ. قَوْلُهُ تَعَالَى: (أَوْ
إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ) عَامٌّ فِي الدماء والأموال
والأعراض، وفي كل شي يَقَعُ التَّدَاعِي وَالِاخْتِلَافُ فِيهِ
بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، وَفِي كُلِّ كَلَامٍ يُرَادُ بِهِ
وَجْهُ اللَّهِ تَعَالَى. وَفِي الْخَبَرِ: (كَلَامُ ابْنِ
آدَمَ كُلُّهُ عَلَيْهِ لَا لَهُ إِلَّا مَا كَانَ مِنْ أَمْرٍ
بِمَعْرُوفٍ أَوْ نَهْيٍ عَنْ مُنْكَرٍ أَوْ ذِكْرٍ لِلَّهِ
تَعَالَى (. فَأَمَّا مَنْ طَلَبَ الرِّيَاءَ وَالتَّرَؤُّسَ
فَلَا يَنَالُ الثَّوَابَ. وَكَتَبَ عُمَرُ إِلَى أَبِي مُوسَى
الْأَشْعَرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: رُدَّ الْخُصُومَ
حَتَّى يَصْطَلِحُوا، فَإِنَّ [فَصْلَ «3»] الْقَضَاءِ يُورِثُ
بَيْنَهُمُ الضَّغَائِنَ. وَسَيَأْتِي فِي الْمُجَادَلَةِ «4»
(مَا يَحْرُمُ مِنَ الْمُنَاجَاةِ وَمَا يَجُوزُ إِنْ شَاءَ
اللَّهُ تَعَالَى. وعن أنس بن مالك
__________
(1). السراح: التعجيل.
(2). راجع ج 3 ص 311.
(3). من ج، ط، ى، ز.
(4). راجع ج 17 ص 294 فما بعد.
(5/384)
وَمَنْ يُشَاقِقِ
الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى
وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا
تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (115) إِنَّ
اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ
ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ
ضَلَالًا بَعِيدًا (116)
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: مَنْ
أَصْلَحَ بَيْنَ اثْنَيْنِ أَعْطَاهُ اللَّهُ بِكُلِّ كَلِمَةٍ
عِتْقَ رَقَبَةٍ. وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ لِأَبِي أَيُّوبَ: (أَلَا أَدُلُّكَ عَلَى صَدَقَةٍ
يُحِبُّهَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ، تُصْلِحُ بَيْنَ أُنَاسٍ
إِذَا تَفَاسَدُوا، وَتُقَرِّبُ بَيْنَهُمْ إِذَا تَبَاعَدُوا
(. وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: مَا خُطْوَةٌ أَحَبَّ إِلَى
اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ مِنْ خُطْوَةٍ فِي إِصْلَاحِ ذَاتِ
الْبَيْنِ، وَمَنْ أَصْلَحَ بَيْنَ اثْنَيْنِ كَتَبَ اللَّهُ
لَهُ بَرَاءَةً مِنَ النَّارِ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ
الْمُنْكَدِرِ: تَنَازَعَ رَجُلَانِ فِي نَاحِيَةِ الْمَسْجِدِ
فَمِلْتُ إِلَيْهِمَا، فَلَمْ أَزَلْ بِهِمَا حَتَّى
اصْطَلَحَا، فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ وَهُوَ يَرَانِي:
سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
يَقُولُ: (مَنْ أَصْلَحَ بَيْنَ اثْنَيْنِ اسْتَوْجَبَ ثَوَابَ
شَهِيدٍ). ذَكَرَ هَذِهِ الْأَخْبَارَ أَبُو مُطِيعٍ مَكْحُولُ
بْنُ الْمُفَضَّلِ النَّسَفِيُّ فِي كِتَابِ اللُّؤْلُئِيَّاتِ
لَهُ، وَجَدْتُهُ بِخَطِ الْمُصَنِّفِ فِي وُرَيْقَةٍ وَلَمْ
يُنَبِّهْ عَلَى مَوْضِعِهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. وَ
(ابْتِغاءَ) نصب على المفعول من أجله.
[سورة النساء (4): الآيات 115 الى 116]
وَمَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ
الْهُدى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ
مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَساءَتْ مَصِيراً (115)
إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا
دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ
ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً (116)
فِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الاولى- قال العلماء: هاتان الآيتان
نزلنا بِسَبَبِ ابْنِ أُبَيْرِقٍ السَّارِقِ، لَمَّا حَكَمَ
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ [عَلَيْهِ]
بِالْقَطْعِ وَهَرَبَ إِلَى مَكَّةَ وَارْتَدَّ، قَالَ سَعِيدُ
بْنُ جُبَيْرٍ: لَمَّا صَارَ إِلَى مَكَّةَ نَقَبَ بَيْتًا
بِمَكَّةَ فَلَحِقَهُ الْمُشْرِكُونَ فَقَتَلُوهُ، فَأَنْزَلَ
اللَّهُ تَعَالَى: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ
بِهِ) إِلَى قَوْلِهِ: (فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا بَعِيداً).
وَقَالَ الضَّحَّاكُ: قَدِمَ نَفَرٌ مِنْ قُرَيْشٍ
الْمَدِينَةَ وَأَسْلَمُوا ثُمَّ انْقَلَبُوا إِلَى مَكَّةَ
مُرْتَدِّينَ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ (وَمَنْ يُشاقِقِ
الرَّسُولَ). وَالْمُشَاقَّةُ الْمُعَادَاةُ. وَالْآيَةُ
وَإِنْ نَزَلَتْ فِي سَارِقِ الدِّرْعِ أَوْ غَيْرِهِ فَهِيَ
عَامَّةٌ فِي كُلِّ مَنْ خَالَفَ طَرِيقَ الْمُسْلِمِينَ. و
(الْهُدى):
(5/385)
إِنْ يَدْعُونَ مِنْ
دُونِهِ إِلَّا إِنَاثًا وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطَانًا
مَرِيدًا (117)
الرُّشْدُ وَالْبَيَانُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ
«1». وَقَوْلُهُ تَعَالَى: (نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى) يُقَالُ:
إِنَّهُ نَزَلَ فِيمَنِ ارْتَدَّ، وَالْمَعْنَى: نَتْرُكُهُ
وَمَا يَعْبُدُ، عَنْ مُجَاهِدٍ. أَيْ نَكِلُهُ إِلَى
الْأَصْنَامِ الَّتِي لَا تَنْفَعُ وَلَا تَضُرُّ، وَقَالَهُ
مُقَاتِلٌ. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ، نَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى:
(نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى) فِي ابْنِ أُبَيْرِقٍ، لَمَّا
ظَهَرَتْ حَالُهُ وَسَرِقَتُهُ هَرَبَ إِلَى مَكَّةَ
وَارْتَدَّ وَنَقَبَ حَائِطًا لِرَجُلٍ بِمَكَّةَ يُقَالُ
لَهُ: حَجَّاجُ بْنُ عِلَاطٍ، فَسَقَطَ فَبَقِيَ فِي النَّقْبِ
حَتَّى وُجِدَ عَلَى حَالِهِ، وَأَخْرَجُوهُ مِنْ مَكَّةَ،
فَخَرَجَ إِلَى الشَّامِ فَسَرَقَ بَعْضَ أَمْوَالِ
الْقَافِلَةِ فَرَجَمُوهُ وَقَتَلُوهُ، فَنَزَلَتْ: (نُوَلِّهِ
مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَساءَتْ مَصِيراً).
وَقَرَأَ عَاصِمٌ وَحَمْزَةُ وَأَبُو عَمْرٍو (نُوَلِّهِ)
(وَنُصْلِهِ) بِجَزْمِ الْهَاءِ، وَالْبَاقُونَ بِكَسْرِهَا،
وَهُمَا لُغَتَانِ. الثَّانِيةُ- قَالَ الْعُلَمَاءُ فِي
قَوْلِهِ تَعَالَى: (وَمَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ) دَلِيلٌ
عَلَى صِحَّةِ القول بالإجماع، في قوله تَعَالَى: (إِنَّ
اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ) رَدٌّ عَلَى
الْخَوَارِجِ، حَيْثُ زَعَمُوا أَنَّ مُرْتَكِبَ الْكَبِيرَةِ
كَافِرٌ. وَقَدْ تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِي هَذَا الْمَعْنَى.
وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنْ عَلِيِّ ابن أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: مَا فِي الْقُرْآنِ آيَةٌ أَحَبُّ
إِلَيَّ مِنْ هَذِهِ الآية: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ
يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ)
[قَالَ]: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ. قَالَ ابْنُ فُورَكَ:
وَأَجْمَعَ أَصْحَابُنَا عَلَى أَنَّهُ لَا تَخْلِيدَ إِلَّا
لِلْكَافِرِ، وَأَنَّ الْفَاسِقَ مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ
إِذَا مَاتَ غَيْرَ تَائِبٍ فَإِنَّهُ إِنْ عُذِّبَ بِالنَّارِ
فَلَا مَحَالَةَ أَنَّهُ يَخْرُجُ مِنْهَا بِشَفَاعَةِ
الرَّسُولِ، أَوْ بِابْتِدَاءِ رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ
تَعَالَى. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: إِنَّ شَيْخًا مِنَ
الْأَعْرَابِ جَاءَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي شَيْخٌ
مُنْهَمِكٌ فِي الذُّنُوبِ وَالْخَطَايَا، إِلَّا أَنِّي لَمْ
أُشْرِكْ بِاللَّهِ شَيْئًا مُنْذُ عَرَفْتُهُ وَآمَنْتُ بِهِ،
فَمَا حَالِي عِنْدَ اللَّهِ؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى:
(إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ
مَا دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ) الآية.
[سورة النساء (4): آية 117]
إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلاَّ إِناثاً وَإِنْ يَدْعُونَ
إِلاَّ شَيْطاناً مَرِيداً (117)
__________
(1). راجع ج 1 ص 160
(5/386)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (إِنْ يَدْعُونَ مِنْ
دُونِهِ) أَيْ مِنْ دُونِ اللَّهِ (إِلَّا إِناثاً)، نَزَلَتْ
فِي أهل مكة إذ عبدوا الأصنام. و (إِنْ) نافية بمعنى (ما). و
(إِناثاً) أَصْنَامًا، يَعْنِي اللَّاتَ وَالْعُزَّى
وَمَنَاةَ. وَكَانَ لِكُلِّ حَيٍّ صَنَمٌ يَعْبُدُونَهُ
وَيَقُولُونَ: أُنْثَى بَنِي فُلَانٍ، قاله الْحَسَنُ وَابْنُ
عَبَّاسٍ، وَأَتَى مَعَ كُلِّ صَنَمٍ شَيْطَانُهُ يَتَرَاءَى
«1» لِلسَّدَنَةِ وَالْكَهَنَةِ وَيُكَلِّمُهُمْ، فَخَرَجَ
الْكَلَامُ مَخْرَجَ التَّعَجُّبِ، لِأَنَّ الْأُنْثَى مِنْ
كُلِّ جِنْسٍ أَخَسُّهُ، فَهَذَا جَهْلٌ مِمَّنْ يُشْرِكُ
بِاللَّهِ جَمَادًا فَيُسَمِّيهِ أُنْثَى، أَوْ يَعْتَقِدُهُ
أُنْثَى. وَقِيلَ: (إِلَّا إِناثاً) مَوَاتًا، لِأَنَّ
الْمَوَاتَ لَا رُوحَ لَهُ، كَالْخَشَبَةِ وَالْحَجَرِ.
وَالْمَوَاتُ يُخْبَرُ عَنْهُ كَمَا يُخْبَرُ عن المؤنث لا
تضاع المنزلة، تقول: الأحجار تجبني، كَمَا تَقُولُ:
الْمَرْأَةُ تُعْجِبُنِي. وَقِيلَ: (إِلَّا إِناثاً)
مَلَائِكَةً، لِقَوْلِهِمُ: الْمَلَائِكَةُ بَنَاتُ اللَّهِ،
وَهِيَ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ، عَنِ الضَّحَّاكِ.
وَقِرَاءَةُ ابْنِ عَبَّاسٍ (إِلَّا وَثَنًا) بِفَتْحِ
الْوَاوِ وَالثَّاءِ عَلَى إِفْرَادِ اسْمِ الْجِنْسِ،
وَقَرَأَ أَيْضًا (وُثُنًا) بِضَمِّ الثَّاءِ وَالْوَاوِ،
جَمْعُ وَثَنٍ. وَأَوْثَانٌ أَيْضًا جَمْعُ وَثَنٍ مِثْلَ
أَسَدٍ وَآسَادٍ. النَّحَّاسُ: وَلَمْ يَقْرَأْ بِهِ فِيمَا
عَلِمْتُ. قُلْتُ: قَدْ ذَكَرَ أَبُو بَكْرٍ الْأَنْبَارِيُّ-
حَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثَنَا نَصْرُ بْنُ دَاوُدَ حَدَّثَنَا
أَبُو عُبَيْدٍ حَدَّثَنَا حَجَّاجٌ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ
هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا كَانَتْ تَقْرَأُ: (إِنْ يَدْعُونَ
مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَوْثَانًا). وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ
أَيْضًا (إِلَّا أُثُنًا) كَأَنَّهُ جَمَعَ وَثَنًا عَلَى
وِثَانٍ، كَمَا تَقُولُ: جَمَلٌ وَجِمَالٌ، ثُمَّ جَمَعَ
أَوْثَانًا عَلَى وُثُنٍ، كَمَا «2» تَقُولُ: مِثَالٌ
وَمُثُلٌ، ثُمَّ أَبْدَلَ مِنَ الْوَاوِ هَمْزَةً لَمَّا
انْضَمَّتْ، كَمَا قَالَ عَزَّ وَجَلَّ: (وَإِذَا الرُّسُلُ
أُقِّتَتْ «3») مِنَ الْوَقْتِ، فَأُثُنٌ جَمْعُ الْجَمْعِ.
وَقَرَأَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
(إِلَّا اثْنَا) جَمْعُ أَنِيثٍ، كَغَدِيرِ وَغُدُرٍ. وَحَكَى
الطَّبَرِيُّ أَنَّهُ جَمْعُ إِنَاثٍ كَثِمَارٍ وَثُمُرٍ.
حَكَى هَذِهِ الْقِرَاءَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَبُو عَمْرٍو الدَّانِيُّ، قَالَ:
وَقَرَأَ بِهَا ابْنُ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنُ وَأَبُو حَيْوَةَ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطاناً
مَرِيداً) يُرِيدُ إِبْلِيسَ، لِأَنَّهُمْ إِذَا أَطَاعُوهُ
فِيمَا سَوَّلَ لَهُمْ فَقَدْ عَبَدُوهُ، وَنَظِيرُهُ فِي
الْمَعْنَى: (اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ
أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ «4») أَيْ أَطَاعُوهُمْ فِيمَا
أَمَرُوهُمْ بِهِ، لَا أَنَّهُمْ عَبَدُوهُمْ. وَسَيَأْتِي.
وَقَدْ تَقَدَّمَ اشْتِقَاقُ لفظ الشيطان «5». والمريد:
__________
(1). في ج: وأتى مع كل منهم شيطان يتزايا إلخ. وفى ط: شيطانة
تتزايا. وفى ز: (شيطانة تغر) أي السدنة إلخ.
(2). من ج وط.
(3). راجع ج 19 ص 155.
(4). راجع ج 8 ص 119. [ ..... ]
(5). راجع ج 1 ص 90
(5/387)
لَعَنَهُ اللَّهُ
وَقَالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا
(118)
الْعَاتِي الْمُتَمَرِّدُ، فَعِيلٌ مِنْ
مَرَدَ إِذَا عَتَا. قَالَ الْأَزْهَرِيُّ: الْمَرِيدُ
الْخَارِجُ عَنِ الطَّاعَةِ، وَقَدْ مَرَدَ الرَّجُلُ يَمْرَدُ
مُرُودًا إِذَا عَتَا وَخَرَجَ عَنِ الطَّاعَةِ، فَهُوَ
مَارِدٌ وَمَرِيدٌ وَمُتَمَرِّدٌ. ابْنُ عَرَفَةَ: هُوَ
الَّذِي ظَهَرَ شَرُّهُ، وَمِنْ هَذَا يُقَالُ: شَجَرَةٌ
مَرْدَاءُ إِذَا تَسَاقَطَ وَرَقُهَا فَظَهَرَتْ عيد انها،
وَمِنْهُ قِيلَ لِلرَّجُلِ: أَمْرَدُ، أَيْ ظَاهِرُ مَكَانِ
الشعر من عارضيه.
[سورة النساء (4): آية 118]
لَعَنَهُ اللَّهُ وَقالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبادِكَ
نَصِيباً مَفْرُوضاً (118)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (لَعَنَهُ اللَّهُ) أَصْلُ اللَّعْنِ
الْإِبْعَادُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ «1». وَهُوَ فِي الْعُرْفِ
إِبْعَادٌ مقترن بسخط وغضب، فلعنة [الله على «2»] إِبْلِيسَ
عَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى التَّعْيِينِ جَائِزَةٌ،
وَكَذَلِكَ [سَائِرُ «3»] الْكَفَرَةِ الْمَوْتَى كَفِرْعَوْنَ
وَهَامَانَ وَأَبِي جَهْلٍ، فَأَمَّا الْأَحْيَاءُ فَقَدْ
مَضَى الْكَلَامُ فِيهِ فِي (الْبَقَرَةِ «4»). قَوْلُهُ
تَعَالَى: (وَقالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبادِكَ نَصِيباً
مَفْرُوضاً) أَيْ وَقَالَ الشَّيْطَانُ، وَالْمَعْنَى:
لَأَسْتَخْلِصَنَّهُمْ بِغِوَايَتِي وَأُضِلَّنَّهُمْ
بِإِضْلَالِي، وَهُمُ الْكَفَرَةُ وَالْعُصَاةُ. وَفِي
الْخَبَرِ (مِنْ كُلِّ أَلْفٍ وَاحِدٌ لِلَّهِ وَالْبَاقِي
لِلشَّيْطَانِ). قُلْتُ: وَهَذَا صَحِيحٌ مَعْنًى، يُعَضِّدُهُ
قَوْلُهُ تَعَالَى لِآدَمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: (ابْعَثْ
بَعْثَ النَّارِ) فَيَقُولُ: وَمَا بَعْثُ النَّارِ؟ فَيَقُولُ
مِنْ كُلِّ أَلْفٍ تِسْعُمِائَةٍ وَتِسْعَةٌ وَتِسْعِينَ (.
أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ. وَبَعْثُ النَّارِ هُوَ نَصِيبُ
الشَّيْطَانِ. وَاللَّهُ أَعْلُمُ. وَقِيلَ: مِنَ النَّصِيبِ
طَاعَتُهُمْ إِيَّاهُ فِي أَشْيَاءَ، مِنْهَا أَنَّهُمْ
كَانُوا يَضْرِبُونَ لِلْمَوْلُودِ مِسْمَارًا عِنْدَ
وِلَادَتِهِ، وَدَوَرَانِهِمْ بِهِ يَوْمَ أُسْبُوعِهِ،
يَقُولُونَ: لِيَعْرِفَهُ العمار «5».
[سورة النساء (4): آية 119]
وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ
فَلَيُبَتِّكُنَّ آذانَ الْأَنْعامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ
فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطانَ
وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْراناً مُبِيناً
(119)
__________
(1). راجع ج 2 ص 25.
(2). من ط.
(3). من ج وط
(4). راجع ج 2 ص 188.
(5). عمار البيوت: سكانها من الجن. وفى ابن عطية: المفروض
معناه في هذا الموضع: المنحاز، من الفرض وهو الحز في العود
وغيره.
(5/388)
فِيهِ تِسْعُ مَسَائِلَ: الْأُولَى-
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَلَأُضِلَّنَّهُمْ) أَيْ
لَأَصْرِفَنَّهُمْ عَنْ طَرِيقِ الْهُدَى.
(وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ) أَيْ لَأُسَوِّلَنَّ لَهُمْ، مِنَ
التَّمَنِّي، وَهَذَا لَا يَنْحَصِرُ إِلَى وَاحِدٍ مِنَ
الْأُمْنِيَّةِ، لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ فِي نَفْسِهِ إِنَّمَا
يُمَنِّيهِ بِقَدْرِ رَغْبَتِهِ وَقَرَائِنِ حَالِهِ. وَقِيلَ:
لَأُمَنِّيَنَّهُمْ طُولَ الْحَيَاةِ الْخَيْرَ وَالتَّوْبَةَ
وَالْمَعْرِفَةَ مَعَ الْإِصْرَارِ. (وَلَآمُرَنَّهُمْ
فَلَيُبَتِّكُنَّ آذانَ الْأَنْعامِ) الْبَتْكُ الْقَطْعُ،
وَمِنْهُ سَيْفٌ بَاتِكٌ. أَيْ أَحْمِلُهُمْ عَلَى قَطْعِ
آذَانِ الْبَحِيرَةِ وَالسَّائِبَةِ وَنَحْوِهِ. يُقَالُ:
بَتَكَهُ وَبَتَّكَهُ، (مُخَفَّفًا وَمُشَدَّدًا) وَفِي يَدِهِ
بِتْكَةٌ أي قطعة، والجمع بتك، قال زهير «1»:
طَارَتْ وَفِي كَفِّهِ مِنْ رِيشِهَا بِتَكُ
الثَّانِيةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَلَآمُرَنَّهُمْ
فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ) اللَّامَاتُ كُلُّهَا
لِلْقَسَمِ. وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي هَذَا التَّغْيِيرِ
«2» إِلَى مَاذَا يَرْجِعُ، فَقَالَتْ طَائِفَةٌ: هُوَ
الْخِصَاءُ وَفَقْءُ الْأَعْيُنِ وَقَطْعُ الْآذَانِ، قَالَ
مَعْنَاهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَأَنَسٌ وَعِكْرِمَةُ وَأَبُو
صَالِحٍ. وَذَلِكَ كُلُّهُ تَعْذِيبٌ لِلْحَيَوَانِ،
وَتَحْرِيمٌ وَتَحْلِيلٌ بِالطُّغْيَانِ، وَقَوْلٌ بِغَيْرِ
حُجَّةٍ وَلَا بُرْهَانٍ. وَالْآذَانُ فِي الْأَنْعَامِ
جَمَالٌ وَمَنْفَعَةٌ، وَكَذَلِكَ غَيْرُهَا مِنَ
الْأَعْضَاءِ، فَلِذَلِكَ رَأَى الشَّيْطَانُ أَنْ يُغَيِّرَ
[بِهَا «3»] خَلْقَ اللَّهِ تَعَالَى. وَفِي حَدِيثِ عِيَاضِ
بْنِ حِمَارٍ الْمُجَاشِعِيِّ: (وَإِنِّي خَلَقْتُ عِبَادِي
حُنَفَاءَ كُلَّهُمْ وَأَنَّ الشَّيَاطِينَ أَتَتْهُمْ
فَاجْتَالَتْهُمْ «4» عَنْ دِينِهِمْ فَحَرَّمَتْ عَلَيْهِمْ
مَا أَحْلَلْتُ لَهُمْ وَأَمَرَتْهُمْ أَنْ يُشْرِكُوا بِي مَا
لَمْ أُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَمَرَتْهُمْ أَنْ
يُغَيِّرُوا خَلْقِي (. الْحَدِيثُ، أَخْرَجَهُ الْقَاضِي
إِسْمَاعِيلُ وَمُسْلِمٌ أَيْضًا. وَرَوَى إسماعيل قال حدثنا
أبو الوليد وسليمان ابن حَرْبٍ قَالَا حَدَّثَنَا شُعْبَةُ
عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ أَبِي الْأَحْوَصِ عَنْ أَبِيهِ
قَالَ: أَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ وَأَنَا قَشِفُ الْهَيْئَةِ، قَالَ: (هَلْ لَكَ مِنْ
مَالٍ)؟ [قَالَ «5»] قُلْتُ: نَعَمْ. قَالَ (مِنْ أَيِّ
الْمَالِ)؟ قُلْتُ: مِنْ كُلِّ الْمَالِ، مِنَ الْخَيْلِ
وَالْإِبِلِ وَالرَّقِيقِ- قَالَ أَبُو الْوَلِيدِ:
وَالْغَنَمِ- قَالَ: (فَإِذَا آتَاكَ اللَّهُ مَالًا فَلْيُرَ
عَلَيْكَ أَثَرُهُ) ثُمَّ قال: (هل تنتج إبل «6» قومك صحاحا
__________
(1). هذا عجز بيت، وصدره
حتى إذا ما هوت كف الغلام لها.
(2). في اوح: التفسير. وهو تصحيف وصوابه ما أثبتناه من ج وط
وابن عطية، والزيادة منها أيضا.
(3). في اوح: التفسير. وهو تصحيف وصوابه ما أثبتناه من ج وط
وابن عطية، والزيادة منها أيضا.
(4). اجتالتهم: استخفتهم فجالوا معهم في الضلال.
(5). في اوح: التفسير. وهو تصحيف وصوابه ما أثبتناه من ج وط
وابن عطية، والزيادة منها أيضا.
(6). نتجت الناقة (من باب ضرب): إذا ولدتها ووليت نتاجها. وفي
النهاية: هل تنتج إبلك. أي تولدها وتلى نتاجها.
(5/389)
آذَانُهَا فَتَعْمِدُ إِلَى مُوسَى
فَتَشُقُّ آذَانَهَا وَتَقُولُ هذه بمر وَتَشُقُّ جُلُودَهَا
وَتَقُولُ هَذِهِ صُرُمٌ «1» لِتُحَرِّمَهَا عَلَيْكَ وَعَلَى
أَهْلِكَ (؟ قَالَ: قُلْتُ أَجَلْ. قَالَ:) وَكُلُّ مَا آتَاكَ
اللَّهُ حِلٌّ وَمُوسَى اللَّهِ أَحَدُّ مِنْ مُوسَاكَ،
وَسَاعِدُ اللَّهِ أَشَدُّ مِنْ سَاعِدِكَ (. قَالَ قُلْتُ:
يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَرَأَيْتَ رَجُلًا نَزَلْتُ بِهِ فَلَمْ
يُقْرِنِي ثُمَّ نَزَلَ بِي أفأقريه أم أكافئه؟ فقال:) بل أقره
(. الثانية- وَلَمَّا كَانَ هَذَا مِنْ فِعْلِ الشَّيْطَانِ
وَأَثَرِهِ أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ (أَنْ نَسْتَشْرِفَ «2» الْعَيْنَ وَالْأُذُنَ وَلَا
نُضَحِّيَ بِعَوْرَاءَ وَلَا مُقَابَلَةٍ وَلَا مُدَابَرَةٍ
وَلَا خَرْقَاءَ وَلَا شَرْقَاءَ) أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ
عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: أَمَرَنَا، فَذَكَرَهُ. الْمُقَابَلَةُ:
الْمَقْطُوعَةُ طَرَفَ الْأُذُنِ. وَالْمُدَابَرَةُ
الْمَقْطُوعَةُ مُؤَخَّرَ الْأُذُنِ. وَالشَّرْقَاءُ:
مَشْقُوقَةُ الْأُذُنِ. وَالْخَرْقَاءُ الَّتِي تَخْرِقُ
أُذُنَهَا السِّمَةُ. وَالْعَيْبُ فِي الْأُذُنِ مُرَاعًى
عِنْدَ جَمَاعَةِ الْعُلَمَاءِ. قَالَ مَالِكٌ وَاللَّيْثُ:
الْمَقْطُوعَةُ الْأُذُنَ أَوْ جُلُّ الْأُذُنِ لَا تُجْزِئُ،
وَالشَّقُّ لِلْمِيسَمِ يُجْزِئُ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ
وَجَمَاعَةُ الْفُقَهَاءِ. فَإِنْ كَانَتْ سَكَّاءَ، وَهِيَ
الَّتِي خُلِقَتْ بِلَا أُذُنٍ فَقَالَ مَالِكٌ
وَالشَّافِعِيُّ: لَا تَجُوزُ. وَإِنْ كَانَتْ صَغِيرَةَ
الْأُذُنِ أَجْزَأَتْ، وَرُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ مِثْلَ
ذَلِكَ. الرَّابِعَةُ- وَأَمَّا خِصَاءُ الْبَهَائِمِ
فَرَخَّصَ فِيهِ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ إِذَا
قُصِدَتْ فِيهِ الْمَنْفَعَةُ إِمَّا لِسِمَنٍ أَوْ غَيْرِهِ.
وَالْجُمْهُورُ مِنَ الْعُلَمَاءِ وَجَمَاعَتِهِمْ عَلَى
أَنَّهُ لَا بَأْسَ أَنْ يُضَحَّى بِالْخَصِيِّ،
وَاسْتَحْسَنَهُ بَعْضُهُمْ إِذَا كَانَ أَسْمَنَ مِنْ
غَيْرِهِ. وَرَخَّصَ فِي خِصَاءِ الْخَيْلِ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ
الْعَزِيزِ. وَخَصَى عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ بَغْلًا لَهُ.
وَرَخَّصَ مَالِكٌ فِي خِصَاءِ ذُكُورِ الْغَنَمِ، وَإِنَّمَا
جَازَ ذَلِكَ لِأَنَّهُ لَا يُقْصَدُ بِهِ تَعْلِيقُ «3»
الْحَيَوَانِ بِالدِّينِ لِصَنَمٍ يُعْبَدُ، وَلَا لِرَبٍّ
يُوَحَّدُ، وَإِنَّمَا يُقْصَدُ بِهِ تَطْيِيبُ اللَّحْمِ
[فِيمَا «4» يُؤْكَلُ]، وَتَقْوِيَةُ الذَّكَرِ إِذَا
انْقَطَعَ أَمَلُهُ «5» عَنِ الْأُنْثَى. وَمِنْهُمْ مَنْ
كَرِهَ ذَلِكَ، لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: (إِنَّمَا يَفْعَلُ ذَلِكَ الَّذِينَ لَا
يَعْلَمُونَ). واختاره ابن المنذر وقال: لان ذلك
__________
(1). صرم: (جمع صريم)، وهو المقطوع الاذن. وفى ج وط وز: حرم.
(2). أي تأمل سلامتهما من آفة تكون بهما، وآفة العين عورها،
وآفة الاذن قطعها. أو من الشرفة وهي خيار المال. أي أمرنا أن
نتخيرها. [ ..... ]
(3). كذا في الأصول. في ابن العربي: (تعليق الحال بالدين).
(4). عن ابن العربي.
(5). في اوح: انقطع عن الأنثى. وفى ط وج وز: انقطع أصله.
والمثيت من ابن العربي.
(5/390)
ثَابِتٌ عَنِ ابْنِ عُمَرَ، وَكَانَ
يَقُولُ: هُوَ نَمَاءُ «1» خَلْقِ اللَّهِ، وَكَرِهَ ذَلِكَ
عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مَرْوَانَ. وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ:
كَانُوا يَكْرَهُونَ خِصَاءَ كل شي لَهُ نَسْلٌ. وَقَالَ ابْنُ
الْمُنْذِرِ: وَفِيهِ حَدِيثَانِ: أَحَدُهُمَا عَنِ ابْنِ
عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
نَهَى عَنْ خِصَاءِ الْغَنَمِ وَالْبَقَرِ وَالْإِبِلِ
وَالْخَيْلِ. وَالْآخَرُ حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ
صَبْرِ «2» الرُّوحِ وَخِصَاءِ الْبَهَائِمِ. وَالَّذِي فِي
الْمُوَطَّأِ مِنْ هَذَا الْبَابِ مَا ذَكَرَهُ عَنْ نَافِعٍ
عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ يَكْرَهُ الْإِخْصَاءَ
وَيَقُولُ: فِيهِ تَمَامُ الْخَلْقِ. قَالَ أَبُو عُمَرَ:
يَعْنِي فِي تَرْكِ الْإِخْصَاءِ تَمَامُ الْخَلْقِ، وَرُوِيَ
نَمَاءُ الْخَلْقِ. قُلْتُ: أَسْنَدَهُ أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ
الْغَنِيِّ مِنْ حَدِيثِ عُمَرَ بْنِ إِسْمَاعِيلَ عَنْ
نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: (لَا تَخْصُوا مَا
يُنَمِّي خَلْقَ اللَّهِ). رَوَاهُ عَنِ الدَّارَقُطْنِيِّ
شَيْخُهُ، قَالَ: حَدَّثَنَا [أَبُو عَبْدِ اللَّهِ
الْمُعَدِّلُ حَدَّثَنَا «3»] عَبَّاسُ بْنُ مُحَمَّدٍ
حَدَّثَنَا أَبُو مَالِكٍ النَّخَعِيُّ عَنْ عُمَرَ بْنِ
إِسْمَاعِيلَ، فَذَكَرَهُ. قَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ: وَرَوَاهُ
عَبْدُ الصَّمَدِ بْنُ النُّعْمَانِ عَنْ أَبِي مَالِكٍ.
الْخَامِسَةُ- وَأَمَّا الْخِصَاءُ فِي الْآدَمِيِّ
فَمُصِيبَةٌ، فَإِنَّهُ إِذَا خُصِيَ بَطَلَ قَلْبُهُ
وَقُوَّتُهُ، عَكْسُ الْحَيَوَانِ، وَانْقَطَعَ نَسْلُهُ
الْمَأْمُورُ بِهِ فِي قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ:
(تَنَاكَحُوا تَنَاسَلُوا فَإِنِّي مُكَاثِرٌ بِكُمُ الْأُمَمَ
«4») ثُمَّ إِنَّ فِيهِ أَلَمًا عَظِيمًا رُبَّمَا يُفْضِي
بِصَاحِبِهِ إِلَى الْهَلَاكِ، فَيَكُونُ فِيهِ تَضْيِيعُ
مَالٍ وَإِذْهَابُ نَفْسٍ، وَكُلُّ ذَلِكَ مَنْهِيٌّ عَنْهُ.
ثُمَّ هَذِهِ مُثْلَةٌ، وَقَدْ نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الْمُثْلَةِ، وَهُوَ صَحِيحٌ.
وَقَدْ كَرِهَ جَمَاعَةٌ مِنْ فُقَهَاءِ الْحِجَازِيِّينَ
وَالْكُوفِيِّينَ شِرَاءَ الْخَصِيِّ مِنَ الصَّقَالِبَةِ
وَغَيْرِهِمْ وَقَالُوا: لَوْ لَمْ يُشْتَرَوْا مِنْهُمْ لَمْ
يُخْصَوْا. وَلَمْ يَخْتَلِفُوا أَنَّ خِصَاءَ بَنِي آدَمَ لَا
يَحِلُّ وَلَا يَجُوزُ، لِأَنَّهُ مُثْلَةٌ وَتَغْيِيرٌ
لِخَلْقِ اللَّهِ تَعَالَى، وَكَذَلِكَ قَطْعُ سَائِرِ
أَعْضَائِهِمْ في غير حد ولا قود، قال أَبُو عُمَرَ.
السَّادِسَةُ- وَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا فَاعْلَمْ أَنَّ
الْوَسْمَ وَالْإِشْعَارَ مُسْتَثْنًى مِنْ نَهْيِهِ عَلَيْهِ
السَّلَامُ عَنْ شَرِيطَةِ الشَّيْطَانِ، وَهِيَ مَا
قَدَّمْنَاهُ مِنْ نَهْيِهِ عَنْ تَعْذِيبِ الْحَيَوَانِ
بِالنَّارِ، وَالْوَسْمُ: الْكَيُّ بِالنَّارِ وَأَصْلُهُ
الْعَلَامَةُ، يُقَالُ: وَسَمَ الشَّيْءَ يَسِمُهُ إِذَا
عَلَّمَهُ بِعَلَامَةٍ يُعْرَفُ بِهَا، وَمِنْهُ قَوْلُهُ
تَعَالَى: (سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ «5»). فَالسِّيمَا
الْعَلَامَةُ وَالْمِيسَمُ الْمِكْوَاةُ. وَثَبَتَ فِي صَحِيحِ
مُسْلِمٍ عَنْ أنس
__________
(1). في ج، ط، ز: هو مما خلق الله.
(2). صبر الإنسان وغيره على القتل: هو أن يحبس ثم يرمى بشيء
حتى يموت.
(3). كذا في كل الأصول بالدال المهملة، ولعله أَبُو عَبْدِ
اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ المعذل بالمعجمة.
(4). كذا في الأصول وكثير من الكتب. وصحته الرواية كما في
البيهق (تناكحوا تكثروا فانى أباهي بكم الأمم يوم القيامة)
راجع كشف الخفا ج 1 ص 318.
(5). راجع ج 16 ص 292
(5/391)
قَالَ: رَأَيْتُ فِي يَدِ رَسُولِ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمِيسَمَ وَهُوَ يَسِمُ
إِبِلَ الصَّدَقَةِ وَالْفَيْءِ وَغَيْرِ ذَلِكَ حَتَّى
يُعْرَفَ كُلُّ مَالٍ فَيُؤَدَّى فِي حَقِّهِ، وَلَا
يُتَجَاوَزُ بِهِ إِلَى غَيْرِهِ. السَّابِعَةُ- وَالْوَسْمُ
جَائِزٌ فِي كُلِّ الْأَعْضَاءِ غَيْرَ الْوَجْهِ، لِمَا
رَوَاهُ جَابِرٌ قَالَ: نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الضَّرْبِ فِي الْوَجْهِ وَعَنِ
الْوَسْمِ فِي الْوَجْهِ، أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ. وَإِنَّمَا
كَانَ ذَلِكَ لِشَرَفِهِ عَلَى الْأَعْضَاءِ، إِذْ هُوَ
مَقَرُّ الْحُسْنِ وَالْجَمَالِ، وَلِأَنَّ بِهِ قِوَامَ
الْحَيَوَانِ، وَقَدْ مَرَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِرَجُلٍ يَضْرِبُ عَبْدَهُ فَقَالَ:
(اتَّقِ الْوَجْهَ «1» فَإِنَّ اللَّهَ خَلَقَ آدَمَ عَلَى
صُورَتِهِ). أَيْ عَلَى صُورَةِ الْمَضْرُوبِ، أَيْ وَجْهِ
هَذَا الْمَضْرُوبِ يُشْبِهُ وَجْهَ آدَمَ، فَيَنْبَغِي أَنْ
يُحْتَرَمَ لِشَبَهِهِ «2». وَهَذَا أَحْسَنُ مَا قِيلَ فِي
تَأْوِيلِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَالَتْ طَائِفَةٌ:
الْإِشَارَةُ بِالتَّغْيِيرِ إِلَيَّ الْوَشْمِ وَمَا جَرَى
مَجْرَاهُ مِنَ التصنع للحسن، قال ابْنُ مَسْعُودٍ
وَالْحَسَنُ. وَمِنْ ذَلِكَ الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ عَنْ عَبْدِ
اللَّهِ قَالَ [قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
«3» وَسَلَّمَ]: (لَعَنَ اللَّهُ الْوَاشِمَاتِ
وَالْمُسْتَوْشِمَاتِ [وَالنَّامِصَاتِ «4»]
وَالْمُتَنَمِّصَاتِ [وَالْمُتَفَلِّجَاتِ] لِلْحُسْنِ،
الْمُغَيِّرَاتِ خَلْقَ اللَّهِ) الْحَدِيثُ. أَخْرَجَهُ
مُسْلِمٌ، وَسَيَأْتِي بِكَمَالِهِ فِي الْحَشْرِ «5» إِنْ
شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَالْوَشْمُ يَكُونُ فِي الْيَدَيْنِ،
وَهُوَ أَنْ يَغْرِزَ ظَهْرَ كَفِّ الْمَرْأَةِ وَمِعْصَمِهَا
بِإِبْرَةٍ ثُمَّ يُحْشَى بِالْكُحْلِ أَوْ بِالنَّئُورِ «6»
فَيَخْضَرُّ. وَقَدْ وَشَمَتْ تَشِمُ وَشْمًا فَهِيَ
وَاشِمَةٌ. وَالْمُسْتَوْشِمَةُ الَّتِي يُفْعَلُ ذَلِكَ
بِهَا، قَالَ الْهَرَوِيُّ. وَقَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ:
وَرِجَالُ صِقِلِّيَةَ وَإِفْرِيقِيَّةَ يَفْعَلُونَهُ،
لِيَدُلَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ عَلَى رُجْلَتِهِ «7» فِي
حَدَاثَتِهِ. قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ: وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ
الْهَرَوِيِّ- أَحَدُ رُوَاةِ مُسْلِمٍ- مَكَانَ (الْوَاشِمَةِ
وَالْمُسْتَوْشِمَةِ) (الْوَاشِيَةَ وَالْمُسْتَوْشِيَةَ)
(بِالْيَاءِ مَكَانَ الْمِيمِ) وَهُوَ مِنَ الْوَشْيِ وَهُوَ
التَّزَيُّنُ، وَأَصْلُ الْوَشْيِ نَسْجُ الثَّوْبِ عَلَى
لَوْنَيْنِ، وَثَوْرٌ مُوَشًّى فِي وَجْهِهِ وَقَوَائِمِهِ
سَوَادٌ، أَيْ تَشِي الْمَرْأَةُ نَفْسَهَا بِمَا تَفْعَلُهُ
فِيهَا مِنَ التَّنْمِيصِ وَالتَّفْلِيجِ وَالْأَشْرِ.
وَالْمُتَنَمِّصَاتُ جَمْعُ مُتَنَمِّصَةٍ وَهِيَ الَّتِي
تَقْلَعُ الشَّعْرَ مِنْ وَجْهِهَا بِالْمِنْمَاصِ، وَهُوَ
الَّذِي يَقْلَعُ الشَّعْرَ، وَيُقَالُ لَهَا النَّامِصَةُ.
ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَأَهْلُ مِصْرَ يَنْتِفُونَ شَعْرَ
الْعَانَةِ وَهُوَ مِنْهُ، فَإِنَّ السُّنَّةَ حَلْقُ
الْعَانَةِ وَنَتْفُ الْإِبْطِ، فَأَمَّا نَتْفُ الْفَرْجِ
فَإِنَّهُ يرخيه ويؤذيه، ويبطل كثيرا من المنفعة
__________
(1). في ج: اتق الله.
(2). في ج: ما يشبهه.
(3). من ج.
(4). الزيادة عن صحيح مسلم.
(5). راجع ج 18 ص 18.
(6). النئور: دخان الشحم. [ ..... ]
(7). كذا في ابن العربي وج، ط، وهو مثلث الراء.
(5/392)
فِيهِ. وَالْمُتَفَلِّجَاتُ جَمْعُ
مُتَفَلِّجَةٍ، وَهِيَ الَّتِي تَفْعَلُ الْفَلَجَ فِي
أَسْنَانِهَا، أَيْ تُعَانِيهِ حَتَّى تَرْجِعَ الْمُصْمَتَةُ
الْأَسْنَانَ خِلْقَةً فَلْجَاءَ صَنْعَةً. وَفِي غَيْرِ
كِتَابِ مُسْلِمٍ: (الْوَاشِرَاتُ)، وَهِيَ جَمْعُ وَاشِرَةٍ،
وَهِيَ الَّتِي تَشِرُ أَسْنَانَهَا، أَيْ تَصْنَعُ فِيهَا
أَشْرًا، وَهِيَ التَّحْزِيزَاتُ الَّتِي تَكُونُ فِي
أَسْنَانِ الشُّبَّانِ «1»، تَفْعَلُ ذَلِكَ الْمَرْأَةُ
الْكَبِيرَةُ تَشَبُّهًا بِالشَّابَّةِ. وَهَذِهِ الْأُمُورُ
كُلُّهَا قَدْ شَهِدَتِ الْأَحَادِيثُ بِلَعْنِ فَاعِلِهَا
وَأَنَّهَا مِنَ الْكَبَائِرِ. وَاخْتُلِفَ فِي الْمَعْنَى
الَّذِي نُهِيَ لِأَجْلِهَا، فَقِيلَ: لِأَنَّهَا مِنْ بَابِ
التَّدْلِيسِ. وَقِيلَ: مِنْ بَابِ تَغْيِيرِ خَلْقِ اللَّهِ
تَعَالَى، كَمَا قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ، وَهُوَ أَصَحُّ،
وَهُوَ يَتَضَمَّنُ الْمَعْنَى الْأَوَّلَ. ثُمَّ قِيلَ: هَذَا
الْمَنْهِيُّ عَنْهُ إِنَّمَا هُوَ فِيمَا يَكُونُ بَاقِيًا،
لِأَنَّهُ مِنْ بَابِ تَغْيِيرِ خَلْقِ اللَّهِ تَعَالَى،
فَأَمَّا مالا يَكُونُ بَاقِيًا كَالْكُحْلِ وَالتَّزَيُّنِ
بِهِ لِلنِّسَاءِ فَقَدْ أَجَازَ الْعُلَمَاءُ ذَلِكَ مَالِكٌ
وَغَيْرُهُ، وَكَرِهَهُ مَالِكٌ لِلرِّجَالِ. وَأَجَازَ
مَالِكٌ أَيْضًا أَنْ تَشِيَ الْمَرْأَةُ يَدَيْهَا
بِالْحِنَّاءِ. وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ إِنْكَارُ ذَلِكَ
وَقَالَ: إِمَّا أَنْ تَخْضِبَ يَدَيْهَا كُلَّهَا وَإِمَّا
أَنْ تَدَعَ، وَأَنْكَرَ مَالِكٌ هَذِهِ الرِّوَايَةَ عَنْ
عُمَرَ، وَلَا تَدَعُ الْخِضَابَ بِالْحِنَّاءِ، فَإِنَّ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى امْرَأَةً
لَا تختضب فقال: (لا تدع أحدا كن يَدَهَا كَأَنَّهَا يَدُ
رَجُلٍ) فَمَا زَالَتْ تَخْتَضِبُ وَقَدْ جَاوَزَتِ
التِّسْعِينَ حَتَّى مَاتَتْ. قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ:
وَجَاءَ حَدِيثٌ بِالنَّهْيِ عَنْ تَسْوِيدِ الْحِنَّاءِ،
ذَكَرَهُ صَاحِبُ الْمَصَابِيحِ وَلَا تَتَعَطَّلُ، وَيَكُونُ
فِي عُنُقِهَا قِلَادَةٌ مِنْ سَيْرٍ فِي خَرَزٍ، فَإِنَّهُ
يُرْوَى عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
أَنَّهُ قَالَ لِعَائِشَةَ [رَضِيَ «2» اللَّهُ عَنْهَا]:
(إِنَّهُ لَا يَنْبَغِي أَنْ تَكُونِي بِغَيْرِ قِلَادَةٍ
إِمَّا بِخَيْطٍ وَإِمَّا بِسَيْرٍ. وَقَالَ أَنَسٌ:
يُسْتَحَبُّ لِلْمَرْأَةِ أَنْ تُعَلِّقَ فِي عُنُقِهَا فِي
الصَّلَاةِ وَلَوْ سَيْرًا. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ
الطَّبَرِيُّ: فِي حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ دَلِيلٌ عَلَى
أَنَّهُ لَا يَجُوزُ تغيير شي مِنْ خَلْقِهَا الَّذِي
خَلَقَهَا اللَّهُ عَلَيْهِ بِزِيَادَةٍ أَوْ نُقْصَانٍ،
الْتِمَاسَ الْحُسْنِ لِزَوْجٍ أَوْ غَيْرِهِ، سَوَاءً
فَلَجَتْ أَسْنَانَهَا أَوْ وَشَرَتْهَا، أَوْ كَانَ لَهَا
سِنٌّ زَائِدَةٌ فَأَزَالَتْهَا أَوْ أَسْنَانٌ طِوَالٌ
فَقَطَعَتْ أَطْرَافَهَا. وَكَذَا لَا يَجُوزُ لَهَا حَلْقُ
لِحْيَةٍ أَوْ شَارِبٍ أَوْ عَنْفَقَةٍ إِنْ نَبَتَتْ لَهَا،
لِأَنَّ كُلَّ ذَلِكَ تَغْيِيرُ خَلْقِ اللَّهِ. قَالَ
عِيَاضٌ: وَيَأْتِي عَلَى مَا ذَكَرَهُ أَنَّ مَنْ خُلِقَ
بِأُصْبُعٍ زَائِدَةٍ أَوْ عُضْوٍ زَائِدٍ لَا يَجُوزُ لَهُ
قَطْعُهُ وَلَا نَزْعُهُ، لِأَنَّهُ مِنْ تَغْيِيرِ خَلْقِ
اللَّهِ تَعَالَى، إِلَّا أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الزَّوَائِدُ
تُؤْلِمُهُ فَلَا بَأْسَ بِنَزْعِهَا عند أبي جعفر وغيره.
__________
(1). في ج: الشباب.
(2). من ج وط.
(5/393)
الثَّامِنَةُ- قُلْتُ: وَمِنْ هَذَا
الْبَابِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (لَعَنَ
اللَّهُ الْوَاصِلَةَ وَالْمُسْتَوْصِلَةَ وَالْوَاشِمَةَ
وَالْمُسْتَوْشِمَةَ) أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ. فَنَهَى صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ وَصْلِ الْمَرْأَةِ
شَعْرَهَا، وَهُوَ أَنْ يُضَافَ إِلَيْهِ شَعْرٌ آخَرُ
يَكْثُرُ بِهِ، وَالْوَاصِلَةُ هِيَ الَّتِي تَفْعَلُ ذَلِكَ،
وَالْمُسْتَوْصِلَةُ هِيَ الَّتِي تَسْتَدْعِي مَنْ يَفْعَلُ
ذَلِكَ بِهَا. مُسْلِمٌ عَنْ جَابِرٍ قَالَ: زَجَرَ النَّبِيُّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ تَصِلَ الْمَرْأَةُ
بِشَعْرِهَا «1» شَيْئًا. وَخَرَّجَ عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ
أَبِي بَكْرٍ قَالَتْ: جَاءَتِ امْرَأَةٌ إِلَى النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ
اللَّهِ، إِنَّ لِي ابْنَةً عُرَيِّسًا «2» أَصَابَتْهَا
حَصْبَةٌ فَتَمَرَّقَ شَعْرُهَا أَفَأَصِلُهُ؟ فَقَالَ:
(لَعَنَ اللَّهُ الْوَاصِلَةَ وَالْمُسْتَوْصِلَةَ). وَهَذَا
كُلُّهُ نَصٌّ فِي تَحْرِيمِ وَصْلِ الشَّعْرِ، وَبِهِ قَالَ
مالك وجماعة العلماء. ومنعوا الوصل بكل شي مِنَ الصُّوفِ
وَالْخِرَقِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى وَصْلِهِ
«3» بِالشَّعْرِ. وَشَذَّ اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ فَأَجَازَ
وَصْلَهُ بِالصُّوفِ وَالْخِرَقِ وَمَا لَيْسَ بِشَعْرٍ،
وَهَذَا أَشْبَهُ بِمَذْهَبِ أَهْلِ الظَّاهِرِ. وَأَبَاحَ
آخَرُونَ وَضْعَ الشَّعْرِ عَلَى الرَّأْسِ وَقَالُوا:
إِنَّمَا جَاءَ النَّهْيُ عَنِ الْوَصْلِ خَاصَّةً، وَهَذِهِ
ظَاهِرِيَّةٌ مَحْضَةٌ وَإِعْرَاضٌ عَنِ الْمَعْنَى. وَشَذَّ
قَوْمٌ فَأَجَازُوا الْوَصْلَ مُطْلَقًا، وَهُوَ قَوْلٌ
بَاطِلٌ قَطْعًا تَرُدُّهُ الْأَحَادِيثُ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ
عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا وَلَمْ يَصِحَّ. وَرُوِيَ
عَنِ ابْنِ سِيرِينَ أَنَّهُ سَأَلَهُ رَجُلٌ فَقَالَ: إِنَّ
أُمِّي كَانَتْ تَمْشُطُ النِّسَاءَ، أَتَرَانِي آكُلُ مِنْ
مَالِهَا؟ فَقَالَ: إِنْ كَانَتْ تَصِلُ فَلَا. وَلَا يَدْخُلُ
فِي النَّهْيِ مَا رُبِطَ [مِنْهُ «4»] بِخُيُوطِ الْحَرِيرِ
الْمُلَوَّنَةِ عَلَى وَجْهِ الزِّينَةِ وَالتَّجْمِيلِ،
وَاللَّهُ أَعْلَمُ. التَّاسِعَةُ- وَقَالَتْ طَائِفَةٌ:
الْمُرَادُ بِالتَّغْيِيرِ لِخَلْقِ اللَّهِ هُوَ أَنَّ
اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالْأَحْجَارَ
وَالنَّارَ وَغَيْرَهَا مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ، لِيُعْتَبَرَ
بِهَا وَيُنْتَفَعَ بِهَا، فَغَيَّرَهَا الْكُفَّارُ بِأَنْ
جَعَلُوهَا آلِهَةً مَعْبُودَةً. قَالَ الزَّجَّاجُ: إِنَّ
اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَ الْأَنْعَامَ لِتُرْكَبَ وَتُؤْكَلَ
فَحَرَّمُوهَا عَلَى أَنْفُسِهِمْ، وَجَعَلَ الشَّمْسَ
وَالْقَمَرَ وَالْحِجَارَةَ مُسَخَّرَةً لِلنَّاسِ
فَجَعَلُوهَا آلِهَةً يَعْبُدُونَهَا، فَقَدْ غَيَّرُوا مَا
خَلَقَ اللَّهُ. وَقَالَهُ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ
التَّفْسِيرِ: مُجَاهِدٌ وَالضَّحَّاكُ وَسَعِيدُ بْنُ
جُبَيْرٍ وَقَتَادَةُ. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ
(فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ) دين الله، وقاله
النَّخَعِيُّ، وَاخْتَارَهُ الطَّبَرِيُّ قَالَ: وَإِذَا كَانَ
ذَلِكَ معناه
__________
(1). هكذا في الأصول. وفى صحيح مسلم: (برأسها).
(2). مريسا (بضم العين وفتح الراء وتشديد الياء المكسورة)
تصغير عروس والعريس يقع على المرأة والرجل عند الزواج. وتمرق:
انتثر وتساقط.
(3). في ج: وصل الشعر.
(4). من ج، ط.
(5/394)
يَعِدُهُمْ
وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا
(120) أُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَلَا يَجِدُونَ
عَنْهَا مَحِيصًا (121) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا
الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا
الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا
وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا (122)
دَخَلَ فِيهِ [فِعْلُ «1»] كُلِّ مَا نَهَى
اللَّهُ عَنْهُ مِنْ خِصَاءٍ وَوَشْمٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ
الْمَعَاصِي، لِأَنَّ الشَّيْطَانَ يَدْعُو إِلَى جَمِيعِ
الْمَعَاصِي، أَيْ فَلَيُغَيِّرُنَّ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي
دِينِهِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ أَيْضًا: (فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ
اللَّهِ) فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا،
يَعْنِي أَنَّهُمْ وُلِدُوا عَلَى الْإِسْلَامِ فَأَمَرَهُمُ
الشَّيْطَانُ بِتَغْيِيرِهِ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ عَلَيْهِ
السَّلَامُ: (كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ
فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ وَيُنَصِّرَانِهِ
وَيُمَجِّسَانِهِ). فَيَرْجِعُ مَعْنَى الْخَلْقِ إِلَى مَا
أَوْجَدَهُ فِيهِمْ يَوْمَ الذَّرِّ مِنَ الْإِيمَانِ بِهِ فِي
قَوْلِهِ تَعَالَى: (أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى «2»).
قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: رُوِيَ عَنْ طَاوُسٍ أَنَّهُ كَانَ
لَا يَحْضُرُ نِكَاحَ سَوْدَاءَ بِأَبْيَضَ وَلَا بَيْضَاءَ
بِأَسْوَدَ، وَيَقُولُ: هَذَا مِنْ قَوْلِ اللَّهِ
(فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ). قَالَ الْقَاضِي: وَهَذَا
وَإِنْ كَانَ يَحْتَمِلُهُ اللَّفْظُ فَهُوَ مَخْصُوصٌ بِمَا
أَنْفَذَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ
نِكَاحِ مَوْلَاهُ زَيْدٍ وَكَانَ أَبْيَضَ، بِظِئْرِهِ
بَرَكَةَ الْحَبَشِيَّةِ أُمِّ أُسَامَةَ وَكَانَ أَسْوَدَ
مِنْ أَبْيَضَ، وَهَذَا مِمَّا خَفِيَ عَلَى طَاوُسٍ مَعَ
عِلْمِهِ. قُلْتُ: ثُمَّ أَنْكَحَ أُسَامَةَ فَاطِمَةَ بِنْتَ
قَيْسٍ وَكَانَتْ بَيْضَاءَ قُرَشِيَّةً. وَقَدْ كَانَتْ
تَحْتَ بِلَالٍ أُخْتُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ
زُهْرِيَّةُ. وَهَذَا أَيْضًا يَخُصُّ، وَقَدْ خَفِيَ عليهما
«3».
[سورة النساء (4): الآيات 120 الى 122]
يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلاَّ
غُرُوراً (120) أُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَلا يَجِدُونَ
عَنْها مَحِيصاً (121) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا
الصَّالِحاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا
الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا
وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلاً (122)
الْمَعْنَى يَعِدُهُمْ أَبَاطِيلَهُ وَتُرَّهَاتِهِ مِنَ
الْمَالِ وَالْجَاهِ وَالرِّيَاسَةِ، وَأَنْ لَا بَعْثَ وَلَا
عِقَابَ، وَيُوهِمُهُمُ الْفَقْرَ حَتَّى لَا يُنْفِقُوا فِي
الْخَيْرِ (وَيُمَنِّيهِمْ) كَذَلِكَ (وَما يَعِدُهُمُ
الشَّيْطانُ إِلَّا غُرُوراً) أَيْ خَدِيعَةً. قَالَ ابْنُ
عَرَفَةَ: الْغُرُورُ مَا رَأَيْتَ له ظاهرا تحبه وفية
__________
(1). من ج، ط.
(2). راجع ج 7 ص 314.
(3). كذا في الأصول. وحقه الافراد. ولعل الضمير يعود لطاوس
وابن العربي.
(5/395)
لَيْسَ
بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ
يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ
اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (123)
بَاطِنٌ مَكْرُوهٌ أَوْ مَجْهُولٌ.
وَالشَّيْطَانُ غَرُورٌ، لِأَنَّهُ يَحْمِلُ عَلَى مَحَابِّ
النَّفْسِ، وَوَرَاءَ ذَلِكَ مَا يَسُوءُ. (أُولئِكَ)
ابْتِدَاءٌ (مَأْواهُمْ) ابْتِدَاءٌ ثَانٍ (جَهَنَّمُ) خبر
الثاني والجملة خبر الأول. و (مَحِيصاً) مَلْجَأً، وَالْفِعْلُ
مِنْهُ حَاصَ يَحِيصُ. (وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا)
ابْتِدَاءٌ وَخَبَرٌ. (قِيلًا) عَلَى الْبَيَانِ، قَالَ قِيلًا
وَقَوْلًا وَقَالًا، بِمَعْنَى [أَيْ «1»] لَا أَحَدَ أَصْدَقُ
مِنَ اللَّهِ. وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ عَلَى مَا
تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الْآيُ مِنَ المعاني والحمد لله.
[سورة النساء (4): آية 123]
لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ وَلا أَمانِيِّ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ
يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ
اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (123)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ وَلا أَمانِيِّ
أَهْلِ الْكِتابِ). قرأ أَبُو جَعْفَرٍ الْمَدَنِيُّ (لَيْسَ
بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أهل الكتاب) بتخفيف الياء
فيها جَمِيعًا. وَمِنْ أَحْسَنِ مَا رُوِيَ فِي نُزُولِهَا مَا
رَوَاهُ الْحَكَمُ بْنُ أَبَانٍ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ
عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى لَنْ
يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ مِنَّا. وَقَالَتْ
قُرَيْشٌ: لَيْسَ نُبْعَثُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ (لَيْسَ
بِأَمانِيِّكُمْ وَلا أَمانِيِّ أَهْلِ الْكِتابِ). وَقَالَ
قَتَادَةُ وَالسُّدِّيُّ: تَفَاخَرَ الْمُؤْمِنُونَ وَأَهْلُ
الْكِتَابِ فَقَالَ أَهْلُ الْكِتَابِ: نَبِيُّنَا قَبْلَ
نَبِيِّكُمْ وَكِتَابُنَا قَبْلَ كِتَابِكُمْ وَنَحْنُ أَحَقُّ
بِاللَّهِ مِنْكُمْ. وَقَالَ الْمُؤْمِنُونَ: نَبِيُّنَا
خَاتَمُ النَّبِيِّينَ وَكِتَابُنَا يَقْضِي عَلَى سَائِرِ
الْكُتُبِ، فَنَزَلَتِ الْآيَةُ. قَوْلُهُ تَعَالَى: (مَنْ
يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ). السوء ها هنا الشِّرْكُ، قَالَ
الْحَسَنُ: هَذِهِ الْآيَةُ فِي الْكَافِرِ، وَقَرَأَ (وَهَلْ
يُجَازَى إِلَّا الْكَفُورُ «2»). وَعَنْهُ أَيْضًا (مَنْ
يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ) قَالَ: ذَلِكَ لمن أراد الله هو
انه، فَأَمَّا مَنْ أَرَادَ كَرَامَتَهُ فَلَا، قَدْ ذَكَرَ
اللَّهُ قَوْمًا فَقَالَ: (أُولئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ
عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجاوَزُ عَنْ
سَيِّئاتِهِمْ فِي أَصْحابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ
الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ). وَقَالَ الضَّحَّاكُ: يَعْنِي
الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَكُفَّارَ الْعَرَبِ.
وَقَالَ الْجُمْهُورُ: لَفْظُ الْآيَةِ عَامٌّ، وَالْكَافِرُ
وَالْمُؤْمِنُ مُجَازًى بِعَمَلِهِ السُّوءِ، فَأَمَّا
مُجَازَاةُ الْكَافِرِ فالنار، لان كفره أو بقه، وَأَمَّا
الْمُؤْمِنُ فَبِنَكَبَاتِ الدُّنْيَا، كَمَا رَوَى مُسْلِمٌ
فِي صَحِيحِهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ
__________
(1). من ج، ط.
(2). قراءة نافع. راجع ج 14 ص 288
(5/396)
قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ (مَنْ يَعْمَلْ
سُوءاً يُجْزَ بِهِ) بَلَغَتْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ مَبْلَغًا
شَدِيدًا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: (قَارِبُوا وَسَدِّدُوا فَفِي كُلِّ مَا يُصَابُ
بِهِ الْمُسْلِمُ كَفَّارَةٌ حَتَّى النَّكْبَةَ يُنْكَبُهَا
وَالشَّوْكَةَ يُشَاكُهَا). وَخَرَّجَ التِّرْمِذِيُّ
الْحَكِيمُ فِي (نَوَادِرِ الْأُصُولِ، فِي الْفَصْلِ
الْخَامِسِ وَالتِّسْعِينَ) حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ
الْمُسْتَمِرِّ الْهُذَلِيُّ قَالَ حَدَّثَنَا عَبْدُ
الرَّحْمَنِ بْنُ سُلَيْمِ بْنِ حَيَّانَ «1» أَبُو زَيْدٍ
قَالَ: سَمِعْتُ أَبِي يَذْكُرُ عَنْ أَبِيهِ قَالَ صَحِبْتُ
ابْنَ عُمَرَ مِنْ مَكَّةَ إِلَى الْمَدِينَةِ فَقَالَ
لِنَافِعٍ: لَا تَمُرَّ بِي عَلَى الْمَصْلُوبِ، يَعْنِي ابْنَ
الزُّبَيْرِ، قَالَ: فما فجأه «2» فِي جَوْفِ اللَّيْلِ أَنْ
صَكَّ مَحْمَلَهُ جِذْعُهُ، [فَجَلَسَ «3»] فَمَسَحَ
عَيْنَيْهِ ثُمَّ قَالَ: يَرْحَمُكَ اللَّهُ أَبَا خُبَيْبٍ
أَنْ كُنْتَ وَأَنْ كُنْتَ! وَلَقَدْ سَمِعْتُ أَبَاكَ
الزُّبَيْرَ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ فِي
الدُّنْيَا أَوْ فِي الْآخِرَةِ) فَإِنْ يَكُ هَذَا بِذَاكَ
فَهِيهْ. قَالَ التِّرْمِذِيُّ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: فَأَمَّا
فِي التَّنْزِيلِ فَقَدْ أَجْمَلَهُ فَقَالَ: (مَنْ يَعْمَلْ
سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ
وَلِيًّا وَلا نَصِيراً) فَدَخَلَ فِيهِ الْبَرُّ وَالْفَاجِرُ
وَالْعَدُوُّ وَالْوَلِيُّ وَالْمُؤْمِنُ وَالْكَافِرُ، ثُمَّ
مَيَّزَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فِي هَذَا الْحَدِيثِ بَيْنَ الْمَوْطِنَيْنِ فَقَالَ: (يُجْزَ
بِهِ فِي الدُّنْيَا أَوْ فِي الْآخِرَةِ) وَلَيْسَ يُجْمَعُ
عَلَيْهِ الْجَزَاءُ فِي الْمَوْطِنَيْنِ، أَلَا تَرَى أَنَّ
ابْنَ عُمَرَ قَالَ: فَإِنْ يَكُ هَذَا بِذَاكَ فَهِيهْ،
مَعْنَاهُ أَنَّهُ قَاتَلَ فِي حَرَمِ اللَّهِ وَأَحْدَثَ
فِيهِ حَدَثًا عَظِيمًا حَتَّى أُحْرِقَ الْبَيْتُ وَرُمِيَ
الْحَجَرُ الْأَسْوَدُ بِالْمَنْجَنِيقِ فَانْصَدَعَ حَتَّى
ضُبِّبَ بِالْفِضَّةِ فَهُوَ إِلَى يَوْمِنَا [هَذَا «4»]
كَذَلِكَ، وَسُمِعَ لِلْبَيْتِ أَنِينًا: آهْ آهْ! فَلَمَّا
رَأَى ابْنُ عُمَرَ فِعْلَهُ ثُمَّ رَآهُ مَقْتُولًا
مَصْلُوبًا ذَكَرَ قَوْلَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ).
ثُمَّ قَالَ: إِنْ يَكُ هَذَا الْقَتْلُ بِذَاكَ الَّذِي
فَعَلَهُ فَهِيهْ، أَيْ كَأَنَّهُ جُوزِيَ بِذَلِكَ السُّوءِ
هَذَا الْقَتْلُ وَالصَّلْبُ. رَحِمَهُ اللَّهُ! ثُمَّ مَيَّزَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي
حَدِيثٍ آخَرَ بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ، حَدَّثَنَا أَبِي
رَحِمَهُ اللَّهُ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ قَالَ
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُسْلِمٍ عَنْ يَزِيدَ بْنِ عَبْدِ
اللَّهِ بْنِ أُسَامَةَ بْنِ الْهَادِ اللَّيْثِيِّ قَالَ:
لَمَّا نَزَلَتْ (مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ) قَالَ
أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: مَا هَذِهِ
بِمُبْقِيَةٍ مِنَّا، قَالَ: (يَا أَبَا بَكْرٍ إِنَّمَا
يُجْزَى الْمُؤْمِنُ بِهَا فِي الدُّنْيَا وَيُجْزَى بِهَا
الْكَافِرُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ). حَدَّثَنَا الْجَارُودُ
قَالَ حَدَّثَنَا وَكِيعٌ وَأَبُو مُعَاوِيَةَ وَعَبْدَةُ «5»
عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خالد عن أبي بكر
__________
(1). يروى بالياء والباء (التقريب).
(2). فجأه الامر وفجأه (بالكسر والفتح): هجم عليه من غير أن
يشعر به. [ ..... ]
(3). من ج وط.
(4). من ج.
(5). هو ابن سليمان الكلابي، عن إسماعيل بن أبى خالد، التهذيب.
(5/397)
ابن [أَبِي] زُهَيْرٍ «1» الثَّقَفِيِّ
قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ (مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ)
قَالَ أَبُو بَكْرٍ: كَيْفَ الصَّلَاحُ يَا رَسُولَ اللَّهِ
مَعَ هَذَا؟ كل شي عَمِلْنَاهُ جُزِينَا بِهِ، فَقَالَ:
(غَفَرَ اللَّهُ لَكَ يَا أَبَا بَكْرٍ أَلَسْتَ تَنْصَبُ،
أَلَسْتَ تَحْزَنُ، أَلَسْتَ تُصِيبُكَ اللَّأْوَاءُ «2»)؟
قَالَ: بَلَى. قَالَ (فَذَلِكَ مِمَّا تُجْزَوْنَ بِهِ)
فَفَسَّرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
مَا أَجْمَلَهُ التَّنْزِيلُ مِنْ قَوْلِهِ: مَنْ يَعْمَلْ
سُوءاً يُجْزَ بِهِ (. وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنْ أَبِي
بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهَا لَمَّا
نَزَلَتْ قَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ:) أَمَّا أَنْتَ يَا أَبَا بَكْرٍ وَالْمُؤْمِنُونَ
فَتُجْزَوْنَ بِذَلِكَ فِي الدُّنْيَا حَتَّى تَلْقَوُا
اللَّهَ وَلَيْسَ لَكُمْ ذُنُوبٌ وَأَمَّا الْآخَرُونَ
فَيُجْمَعُ ذَلِكَ لَهُمْ حَتَّى يُجْزَوْا بِهِ يَوْمَ
الْقِيَامَةِ (. قَالَ: حَدِيثٌ غَرِيبٌ: وَفِي إِسْنَادِهِ
مَقَالٌ، وَمُوسَى بْنُ عُبَيْدَةَ يُضَعَّفُ فِي الْحَدِيثِ،
ضَعَّفَهُ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الْقَطَّانُ وَأَحْمَدُ بْنُ
حنبل. ومولى بن سِبَاعٍ مَجْهُولٌ، وَقَدْ رُوِيَ هَذَا مِنْ
غَيْرِ وَجْهٍ «3» عَنْ أَبِي بَكْرٍ وَلَيْسَ لَهُ إِسْنَادٌ
صَحِيحٌ أَيْضًا، وَفِي الْبَابِ عَنْ عَائِشَةَ. قُلْتُ:
خَرَّجَهُ إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِسْحَاقَ الْقَاضِي قَالَ
حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بن حرب قال حدثنا حماد ابن سَلَمَةَ
عَنْ عَلِيِّ بْنِ يَزِيدَ عَنْ أُمِّهِ أَنَّهَا سَأَلَتْ
عَائِشَةَ عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ (وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي
أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ «4») وَعَنْ هَذِهِ الْآيَةِ
(مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ) فَقَالَتْ عَائِشَةُ: مَا
سَأَلَنِي أَحَدٌ مُنْذُ سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْهَا، فَقَالَ: (يَا عَائِشَةُ،
هَذِهِ مُبَايَعَةُ اللَّهِ بِمَا يُصِيبُهُ مِنَ الْحُمَّى
وَالنَّكْبَةِ وَالشَّوْكَةِ حَتَّى الْبِضَاعَةِ يَضَعُهَا
فِي كُمِّهِ فَيَفْقِدُهَا فَيَفْزَعُ فَيَجِدُهَا فِي
عَيْبَتِهِ، حَتَّى إِنَّ الْمُؤْمِنَ لَيَخْرُجُ مِنْ
ذُنُوبِهِ كَمَا يَخْرُجُ التِّبْرُ مِنَ الْكِيرِ (. وَاسْمُ
(لَيْسَ) مُضْمَرٌ فِيهَا فِي جَمِيعِ هَذِهِ الْأَقْوَالِ،
وَالتَّقْدِيرُ: لَيْسَ الْكَائِنُ مِنْ أُمُورِكُمْ مَا
تَتَمَنَّوْنَهُ، بَلْ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ.
وَقِيلَ: الْمَعْنَى لَيْسَ ثَوَابُ اللَّهِ بِأَمَانِيِّكُمْ،
إِذْ قَدْ تَقَدَّمَ (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا
الصَّالِحاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ). قَوْلُهُ تَعَالَى:
(وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً)
يَعْنِي الْمُشْرِكِينَ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: (إِنَّا
لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ
الدُّنْيا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ «5») وقيل:
__________
(1). أبو زهير هو معاذ بن رباح الثقفي كذا في أسد الغابة، وفى
التهذيب: أبو زهرة.
(2). للاواء: الشدة والمحنة.
(3). عبارة الترمذي: وقد روى هذا الحديث من غير هذا الوجه.
(4). راجع ج 3 ص 420.
(5). راجع ج 15 ص 322.
(5/398)
وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ
الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ
فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ
نَقِيرًا (124)
(مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ) إِلَّا
أَنْ يَتُوبَ. وَقِرَاءَةُ الْجَمَاعَةِ (وَلا يَجِدْ لَهُ)
بِالْجَزْمِ عَطْفًا عَلَى (يُجْزَ بِهِ). وَرَوَى ابْنُ
بَكَّارٍ عَنِ ابْنِ عَامِرٍ (وَلَا يَجِدْ) بِالرَّفْعِ
اسْتِئْنَافًا. فَإِنْ حُمِلَتِ الْآيَةُ عَلَى الْكَافِرِ
فَلَيْسَ لَهُ غَدًا وَلِيٌّ وَلَا نَصِيرٌ. وَإِنْ حُمِلَتْ
عَلَى الْمُؤْمِنِ فَلَيْسَ [لَهُ «1»] وَلِيٌّ وَلَا نَصِيرٌ
دُونَ الله.
[سورة النساء (4): آية 124]
وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى
وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا
يُظْلَمُونَ نَقِيراً (124)
شَرَطَ الْإِيمَانَ لِأَنَّ الْمُشْرِكِينَ أَدْلَوْا
بِخِدْمَةِ الْكَعْبَةِ وَإِطْعَامِ الْحَجِيجِ وَقَرْيِ
الْأَضْيَافِ، وَأَهْلِ الْكِتَابِ بِسَبْقِهِمْ، وَقَوْلِهِمْ
نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ، فَبَيَّنَ تَعَالَى
أَنَّ الْأَعْمَالَ الْحَسَنَةَ لَا تُقْبَلُ مِنْ غَيْرِ
إِيمَانٍ. وَقَرَأَ (يُدْخَلُونَ الْجَنَّةَ) الشَّيْخَانِ
أَبُو عَمْرٍو وَابْنُ كَثِيرٍ (بِضَمِّ الْيَاءِ وَفَتْحِ
الْخَاءِ) عَلَى مَا لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ. الْبَاقُونَ
بِفَتْحِ الْيَاءِ وَضَمِّ الْخَاءِ، يَعْنِي يَدْخُلُونَ
الْجَنَّةَ بِأَعْمَالِهِمْ. وَقَدْ مَضَى ذِكْرُ النَّقِيرِ
وَهِيَ النُّكْتَةُ في ظهر النواة.
[سورة النساء (4): آية 125]
وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ
وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً
وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلاً (125)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ
وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ
إِبْراهِيمَ حَنِيفاً) فَضَّلَ دِينَ الْإِسْلَامِ عَلَى
سَائِرِ الْأَدْيَانِ وَ (أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ)
مَعْنَاهُ أَخْلَصَ دِينَهُ لِلَّهِ وَخَضَعَ لَهُ وَتَوَجَّهَ
إِلَيْهِ بِالْعِبَادَةِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَرَادَ أَبَا
بَكْرٍ الصِّدِّيقَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. وَانْتَصَبَ
(دِيناً) عَلَى الْبَيَانِ. (وَهُوَ مُحْسِنٌ) ابْتِدَاءٌ
وَخَبَرٌ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، أَيْ مُوَحِّدٌ فَلَا
يَدْخُلُ فِيهِ أَهْلُ الْكِتَابِ، لِأَنَّهُمْ تَرَكُوا
الْإِيمَانَ بِمُحَمَّدٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَالْمِلَّةُ
الدِّينُ، وَالْحَنِيفُ الْمُسْلِمُ وَقَدْ تَقَدَّمَ «2».
__________
(1). من ج وط وز.
(2). راجع ج 2 ص 139
(5/399)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَاتَّخَذَ اللَّهُ
إِبْراهِيمَ خَلِيلًا) قَالَ ثَعْلَبٌ: إِنَّمَا سُمِّيَ
الْخَلِيلُ خَلِيلًا لِأَنَّ مَحَبَّتَهُ تَتَخَلَّلُ
الْقَلْبَ فَلَا تَدَعُ فِيهِ خَلَلًا إِلَّا مَلَأَتْهُ،
وَأَنْشَدَ قَوْلَ بَشَّارٍ:
قَدْ تَخَلَّلْتَ مَسْلَكَ الرُّوحِ مِنِّي ... وَبِهِ سُمِّيَ
الْخَلِيلُ خَلِيلًا
وَخَلِيلٌ فَعِيلٌ بِمَعْنَى فَاعِلٍ كَالْعَلِيمِ بِمَعْنَى
الْعَالِمِ. وَقِيلَ: هُوَ [بِمَعْنَى] الْمَفْعُولِ
كَالْحَبِيبِ بِمَعْنَى الْمَحْبُوبِ، وَإِبْرَاهِيمُ كَانَ
مُحِبًّا لِلَّهِ وَكَانَ مَحْبُوبًا [لِلَّهِ «1»]. وَقِيلَ:
الْخَلِيلُ مِنَ الِاخْتِصَاصِ فَاللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ
أَعْلَمُ اخْتَصَّ إِبْرَاهِيمَ فِي وَقْتِهِ لِلرِّسَالَةِ.
وَاخْتَارَ هَذَا النَّحَّاسُ قَالَ: وَالدَّلِيلُ عَلَى هَذَا
قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (وَقَدِ
اتَّخَذَ اللَّهُ صَاحِبَكُمْ خَلِيلًا) يَعْنِي نَفْسَهُ.
وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (لَوْ كُنْتُ
مُتَّخِذًا خَلِيلًا لَاتَّخَذْتُ أَبَا بَكْرٍ خَلِيلًا) أَيْ
لَوْ كُنْتُ مُخْتَصًّا أَحَدًا بِشَيْءٍ لَاخْتَصَصْتُ أَبَا
بَكْرٍ. رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. وَفِي هَذَا رَدٌّ عَلَى مَنْ
زَعَمَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
اخْتَصَّ بَعْضَ أَصْحَابِهِ بِشَيْءٍ مِنَ الدِّينِ. وَقِيلَ:
الْخَلِيلُ الْمُحْتَاجُ، فَإِبْرَاهِيمُ خَلِيلُ اللَّهِ
عَلَى مَعْنَى أَنَّهُ فَقِيرٌ مُحْتَاجٌ إِلَى اللَّهِ
تَعَالَى، كَأَنَّهُ الَّذِي بِهِ الِاخْتِلَالُ. وَقَالَ
زُهَيْرٌ يَمْدَحُ هَرِمَ بْنَ سِنَانٍ:
وَإِنْ أَتَاهُ خَلِيلٌ يَوْمَ مَسْغَبَةٍ ... يَقُولُ لا غالب
ما لي وَلَا حَرِمُ
أَيْ لَا مَمْنُوعٌ. قَالَ الزَّجَّاجُ: وَمَعْنَى الْخَلِيلِ:
الَّذِي لَيْسَ فِي مَحَبَّتِهِ خَلَلٌ، فَجَائِزٌ أَنْ
يَكُونَ سُمِّيَ خَلِيلًا لِلَّهِ بِأَنَّهُ الَّذِي أَحَبَّهُ
وَاصْطَفَاهُ مَحَبَّةً تَامَّةً. وَجَائِزٌ أَنْ يُسَمَّى
خَلِيلَ اللَّهِ أَيْ فَقِيرًا إِلَى اللَّهِ تَعَالَى،
لِأَنَّهُ لَمْ يَجْعَلْ فَقْرَهُ وَلَا فَاقَتَهُ إِلَّا
إِلَى اللَّهِ تَعَالَى مُخْلِصًا فِي ذَلِكَ. وَالِاخْتِلَالُ
الْفَقْرُ، فَرُوِيَ أَنَّهُ لَمَّا رُمِيَ بِالْمَنْجَنِيقِ
وَصَارَ فِي الْهَوَاءِ أَتَاهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ
فَقَالَ: أَلَكَ حَاجَةٌ؟ قَالَ: أَمَّا إِلَيْكَ فَلَا.
فَخَلَّةُ اللَّهِ تَعَالَى لِإِبْرَاهِيمَ نُصْرَتُهُ
إِيَّاهُ. وَقِيلَ: سُمِّيَ بِذَلِكَ بِسَبَبِ أَنَّهُ مَضَى
إِلَى خَلِيلٍ لَهُ بِمِصْرَ، وَقِيلَ: بِالْمَوْصِلِ
لِيَمْتَارَ مِنْ عِنْدِهِ طَعَامًا فَلَمْ يَجِدْ صَاحِبَهُ،
فَمَلَأَ غَرَائِرَهُ رَمْلًا وَرَاحَ بِهِ إِلَى أَهْلِهِ
فَحَطَّهُ وَنَامَ، فَفَتَحَهُ أَهْلُهُ فَوَجَدُوهُ دَقِيقًا
فَصَنَعُوا لَهُ مِنْهُ، فَلَمَّا قَدَّمُوهُ إِلَيْهِ قَالَ:
مِنْ أَيْنَ لَكُمْ هَذَا؟ قَالُوا: مِنَ الَّذِي جِئْتَ بِهِ
مِنْ عِنْدِ خَلِيلِكَ الْمِصْرِيِّ، فَقَالَ: هُوَ مِنْ
عِنْدِ خَلِيلِي، يَعْنِي اللَّهَ تَعَالَى، فَسُمِّيَ خَلِيلَ
اللَّهِ بِذَلِكَ. وَقِيلَ: إِنَّهُ أَضَافَ رُؤَسَاءَ
الْكُفَّارِ وَأَهْدَى لَهُمْ هَدَايَا وَأَحْسَنَ إِلَيْهِمْ
فَقَالُوا لَهُ: مَا حَاجَتُكَ؟ قال: حاجتي أن تسجدوا
__________
(1). من ج.
(5/400)
سَجْدَةً، فَسَجَدُوا فَدَعَا اللَّهَ
تَعَالَى وَقَالَ: اللَّهُمَّ إِنِّي قَدْ فَعَلْتُ مَا
أَمْكَنَنِي فَافْعَلِ اللَّهُمَّ مَا أَنْتَ أَهْلٌ لِذَلِكَ،
فَوَفَّقَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى لِلْإِسْلَامِ فَاتَّخَذَهُ
اللَّهُ خَلِيلًا لِذَلِكَ. وَيُقَالُ: لَمَّا دَخَلَتْ
عَلَيْهِ الْمَلَائِكَةُ بِشَبَهِ الْآدَمِيِّينَ وَجَاءَ
بِعِجْلٍ سَمِينٍ فَلَمْ يَأْكُلُوا مِنْهُ وَقَالُوا: إِنَّا
لَا نَأْكُلُ شَيْئًا بِغَيْرِ ثَمَنٍ فَقَالَ لَهُمْ:
أَعْطُوا ثَمَنَهُ وَكُلُوا، قَالُوا: وَمَا ثَمَنُهُ؟ قَالَ:
أَنْ تَقُولُوا فِي أَوَّلِهِ بِاسْمِ اللَّهِ وَفِي آخِرِهِ
الْحَمْدُ لِلَّهِ، فَقَالُوا فِيمَا بَيْنَهُمْ: حَقٌّ عَلَى
اللَّهِ أَنْ يَتَّخِذَهُ خَلِيلًا، فَاتَّخَذَهُ اللَّهُ
خَلِيلًا. وروى جابر ابن عَبْدِ اللَّهِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (اتَّخَذَ اللَّهُ
إِبْراهِيمَ خَلِيلًا لِإِطْعَامِهِ الطَّعَامَ وَإِفْشَائِهِ
السَّلَامَ وَصَلَاتِهِ بِاللَّيْلِ وَالنَّاسُ نِيَامٌ (.
وَرَوَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ أَنَّ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:) يَا
جِبْرِيلُ لِمَ اتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا (؟
قَالَ: لِإِطْعَامِهِ الطَّعَامَ يَا مُحَمَّدُ. وَقِيلَ:
مَعْنَى الْخَلِيلِ الَّذِي يُوَالِي فِي اللَّهِ وَيُعَادِي
فِي اللَّهِ. وَالْخُلَّةُ بَيْنَ الْآدَمِيِّينَ
الصَّدَاقَةُ، مُشْتَقَّةٌ مِنْ تَخَلُّلِ الْأُسَرَارِ بَيْنَ
الْمُتَخَالِّينَ. وَقِيلَ: هِيَ مِنَ الْخَلَّةِ فَكُلُّ
وَاحِدٍ مِنَ الْخَلِيلَيْنِ يَسُدُّ خَلَّةَ صَاحِبِهِ. وَفِي
مُصَنَّفِ أَبِي دَاوُدَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
(الرَّجُلُ عَلَى دِينِ خَلِيلِهِ فَلْيَنْظُرْ أَحَدُكُمْ
مَنْ يُخَالِلْ). وَلَقَدْ أَحْسَنَ مَنْ قَالَ:
مَنْ لَمْ تَكُنْ فِي اللَّهِ خُلَّتُهُ ... فَخَلِيلُهُ
مِنْهُ عَلَى خَطَرِ
آخَرُ:
إِذَا مَا كُنْتَ مُتَّخِذًا خَلِيلًا ... فَلَا تَثِقَنْ
بِكُلِّ أَخِي إِخَاءِ
فَإِنْ خُيِّرْتَ بَيْنَهُمُ فَأَلْصِقْ ... بِأَهْلِ
الْعَقْلِ مِنْهُمْ وَالْحَيَاءِ
فَإِنَّ الْعَقْلَ لَيْسَ لَهُ إِذَا مَا ... تَفَاضَلَتِ
الْفَضَائِلُ مِنْ كِفَاءِ
وَقَالَ حَسَّانُ بْنُ ثَابِتٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ:
أَخِلَّاءُ الرِّجَالِ هُمُ كَثِيرٌ ... وَلَكِنْ فِي
الْبَلَاءِ هُمُ قَلِيلُ
فَلَا تَغْرُرْكَ خُلَّةُ مَنْ تُؤَاخِي ... فَمَا لَكَ عِنْدَ
نَائِبَةٍ خَلِيلُ
وَكُلُّ أَخٍ يَقُولُ أَنَا وَفِيٌّ ... وَلَكِنْ لَيْسَ
يَفْعَلُ مَا يَقُولُ
سِوَى خِلٍّ لَهُ حَسَبٌ وَدِينٌ ... فَذَاكَ لِمَا يَقُولُ
هُوَ الفعول
(5/401)
وَلِلَّهِ مَا فِي
السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ
شَيْءٍ مُحِيطًا (126)
[سورة النساء (4): آية 126]
وَلِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكانَ
اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطاً (126)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَلِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي
الْأَرْضِ) أَيْ مِلْكًا وَاخْتِرَاعًا. وَالْمَعْنَى إِنَّهُ
اتَّخَذَ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا بِحُسْنِ طَاعَتِهِ لَا
لِحَاجَتِهِ إِلَى مُخَالَّتِهِ وَلَا لِلتَّكْثِيرِ بِهِ
وَالِاعْتِضَادِ، وَكَيْفَ وَلَهُ مَا في السموات وَمَا فِي
الْأَرْضِ؟ وَإِنَّمَا أَكْرَمَهُ لِامْتِثَالِهِ لِأَمْرِهِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَكانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطاً)
أي أحاط علمه بكل الأشياء.
[سورة النساء (4): آية 127]
وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّساءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ
فِيهِنَّ وَما يُتْلى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ فِي يَتامَى
النِّساءِ اللاَّتِي لَا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ
وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ
الْوِلْدانِ وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتامى بِالْقِسْطِ وَما
تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِهِ عَلِيماً
(127)
نَزَلَتْ بِسَبَبِ سُؤَالِ قَوْمٍ مِنَ الصَّحَابَةِ عَنْ
أَمْرِ النِّسَاءِ وَأَحْكَامِهِنَّ فِي الْمِيرَاثِ وَغَيْرِ
ذَلِكَ، فَأَمَرَ اللَّهُ نَبِيَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنْ
يَقُولَ [لَهُمُ «1»]: اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ، أَيْ
يُبَيِّنُ لَكُمْ حُكْمَ مَا سَأَلْتُمْ عَنْهُ. وَهَذِهِ
الْآيَةُ رُجُوعٌ إِلَى مَا افْتُتِحَتْ بِهِ السُّورَةُ مِنْ
أَمْرِ النِّسَاءِ، وَكَانَ قَدْ بَقِيَتْ لَهُمْ أَحْكَامٌ
لَمْ يَعْرِفُوهَا فَسَأَلُوا فَقِيلَ لَهُمْ: إِنَّ اللَّهَ
يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ. رَوَى أَشْهَبُ عَنْ مَالِكٍ قَالَ:
كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُسْأَلُ
فَلَا يُجِيبُ حَتَّى يَنْزِلَ عَلَيْهِ الْوَحْيُ، وَذَلِكَ
فِي كِتَابِ اللَّهِ (وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّساءِ قُلِ
اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ). (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ
الْيَتامى) «2». و (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ
وَالْمَيْسِرِ) «3». (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْجِبالِ) «4».
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَما يُتْلى عَلَيْكُمْ) (مَا) فِي
مَوْضِعِ رَفْعٍ، عَطْفٌ عَلَى اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى.
وَالْمَعْنَى: وَالْقُرْآنُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ، وَهُوَ
قوله: (فَانْكِحُوا مَا طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ) وَقَدْ
تَقَدَّمَ «5». وَقَوْلُهُ تَعَالَى: (وَتَرْغَبُونَ أَنْ
تَنْكِحُوهُنَّ) أَيْ وَتَرْغَبُونَ عَنْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ،
ثُمَّ حُذِفَتْ (عَنْ).
__________
(1). من ط.
(2). راجع ج 3 ص 6 وص 51.
(3). راجع ج 3 ص 6 وص 51. [ ..... ]
(4). راجع ج 11 ص 245.
(5). راجع ص 12 وما بعد ها من هذا الجزء.
(5/402)
وَإِنِ امْرَأَةٌ
خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلَا
جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا
وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ وَإِنْ
تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا
تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (128)
وَقِيلَ: وَتَرْغَبُونَ فِي أَنْ
تَنْكِحُوهُنَّ ثُمَّ حُذِفَتْ (فِي). قَالَ سَعِيدُ بْنُ
جُبَيْرٍ وَمُجَاهِدٌ: وَيُرْغَبُ في نكاحها وإذا كَانَتْ
كَثِيرَةَ الْمَالِ. وَحَدِيثُ عَائِشَةَ يُقَوِّي حَذْفَ
(عَنْ) فَإِنَّ فِي حَدِيثِهَا: وَتَرْغَبُونَ أَنْ
تَنْكِحُوهُنَّ رَغْبَةَ أَحَدِكُمْ عَنْ يَتِيمَتِهِ الَّتِي
تَكُونُ فِي حِجْرِهِ حِينَ تَكُونُ قَلِيلَةَ الْمَالِ
وَالْجَمَالِ، وَقَدْ تقدم أول السورة.
[سورة النساء (4): آية 128]
وَإِنِ امْرَأَةٌ خافَتْ مِنْ بَعْلِها نُشُوزاً أَوْ
إِعْراضاً فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يُصْلِحا بَيْنَهُما
صُلْحاً وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ
وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِما
تَعْمَلُونَ خَبِيراً (128)
فيه سبع مسائل: الاولى- قوله تعالى: (وَإِنِ امْرَأَةٌ) رُفِعَ
بِإِضْمَارِ فِعْلٍ يُفَسِّرُهُ مَا بعده. و (خافَتْ)
بِمَعْنَى تَوَقَّعَتْ. وَقَوْلُ مَنْ قَالَ: [خَافَتْ «1»
[تَيَقَّنَتْ خَطَأٌ. قَالَ الزَّجَّاجُ: الْمَعْنَى وَإِنِ
امْرَأَةٌ. خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا دَوَامَ النُّشُوزِ. قَالَ
النَّحَّاسُ: الْفَرْقُ بَيْنَ النُّشُوزِ وَالْإِعْرَاضِ
أَنَّ النُّشُوزَ التَّبَاعُدُ، وَالْإِعْرَاضَ أَلَّا
يُكَلِّمَهَا وَلَا يَأْنَسَ بِهَا. وَنَزَلَتِ الْآيَةُ
بِسَبَبِ سَوْدَةَ بِنْتِ زَمْعَةَ. رَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنِ
ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: خَشِيتُ سَوْدَةَ أَنْ يُطَلِّقَهَا
رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ:
لَا تُطَلِّقْنِي وَأَمْسِكْنِي، وَاجْعَلْ يَوْمِي مِنْكَ
لِعَائِشَةَ، فَفَعَلَ فَنَزَلَتْ: (فَلا جُناحَ عَلَيْهِما
أَنْ يُصْلِحا «2» بَيْنَهُما صُلْحاً وَالصُّلْحُ خَيْرٌ)
فَمَا اصْطَلَحَا عَلَيْهِ من شي فَهُوَ جَائِزٌ، قَالَ: هَذَا
حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ. وَرَوَى ابْنُ عُيَيْنَةَ عَنِ
الزُّهْرِيِّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ أَنَّ رَافِعَ
بْنَ خَدِيجٍ كَانَتْ تحته خولة ابنة مُحَمَّدِ بْنِ
مَسْلَمَةَ، فَكَرِهَ مِنْ أَمْرِهَا إِمَّا كِبَرًا وَإِمَّا
غَيْرَهُ، فَأَرَادَ أَنْ يُطَلِّقَهَا فَقَالَتْ: لَا
تُطَلِّقْنِي وَاقْسِمْ لِي مَا شِئْتَ، فَجَرَتِ السنة بذلك
ونزلت (وَإِنِ امْرَأَةٌ خافَتْ مِنْ بَعْلِها نُشُوزاً أَوْ
إِعْراضاً). وَرَوَى الْبُخَارِيُّ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهَا (وَإِنِ امْرَأَةٌ خافَتْ مِنْ بَعْلِها
نُشُوزاً أَوْ إِعْراضاً) قَالَتِ: الرَّجُلُ تَكُونُ عِنْدَهُ
الْمَرْأَةُ لَيْسَ بِمُسْتَكْثِرٍ مِنْهَا يُرِيدُ أَنْ
يُفَارِقَهَا فَتَقُولُ: أَجْعَلُكَ مِنْ شَأْنِي فِي حِلٍّ،
فَنَزَلَتْ هَذِهِ الآية. وقراءة العامة (أن يصالحا).
__________
(1). من ج.
(2). كذا في بعض الأصول، وهى قراءة نافع.
(5/403)
وَقَرَأَ أَكْثَرُ الْكُوفِيِّينَ (أَنْ
يُصْلِحا). وَقَرَأَ الْجَحْدَرِيُّ وَعُثْمَانُ الْبَتِّيُّ
(أَنْ يَصَّلِحَا) وَالْمَعْنَى يَصْطَلِحَا ثُمَّ أُدْغِمَ.
الثَّانِيةُ- فِي هَذِهِ الْآيَةِ مِنَ الْفِقْهِ الرَّدُّ
عَلَى الرُّعْنِ الْجُهَّالِ الَّذِينَ يَرَوْنَ أَنَّ
الرَّجُلَ إِذَا أَخَذَ شَبَابَ الْمَرْأَةِ وَأَسَنَّتْ لَا
يَنْبَغِي أَنْ يَتَبَدَّلَ بِهَا. قَالَ ابْنُ أَبِي
مُلَيْكَةَ: إِنَّ سَوْدَةَ بِنْتَ زَمْعَةَ لَمَّا أَسَنَّتْ
أَرَادَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ
يُطَلِّقَهَا، فَآثَرَتِ الْكَوْنَ مَعَهُ، فَقَالَتْ لَهُ:
أَمْسِكْنِي وَاجْعَلْ يَوْمِي «1» لِعَائِشَةَ، فَفَعَلَ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمَاتَتْ وَهِيَ مِنْ
أَزْوَاجِهِ. قُلْتُ: وَكَذَلِكَ فَعَلَتْ بِنْتُ مُحَمَّدِ
بْنِ مَسْلَمَةَ، رَوَى مَالِكٌ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ
رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ أَنَّهُ تَزَوَّجَ بِنْتَ مُحَمَّدِ بْنِ
مَسْلَمَةَ الْأَنْصَارِيَّةَ، فَكَانَتْ عِنْدَهُ حَتَّى
كَبِرَتْ، فَتَزَوَّجَ عَلَيْهَا فَتَاةً شَابَّةً، فَآثَرَ
الشَّابَّةَ عَلَيْهَا، فَنَاشَدَتْهُ الطَّلَاقَ،
فَطَلَّقَهَا وَاحِدَةً، ثُمَّ أَهْمَلَهَا حَتَّى إِذَا
كَانَتْ تَحِلُّ رَاجَعَهَا، ثُمَّ عَادَ فَآثَرَ الشَّابَّةَ
عَلَيْهَا فَنَاشَدَتْهُ الطَّلَاقَ فَطَلَّقَهَا وَاحِدَةً،
ثُمَّ رَاجَعَهَا فَآثَرَ الشَّابَّةَ عَلَيْهَا فَنَاشَدَتْهُ
الطَّلَاقَ فَقَالَ: [مَا شِئْتِ «2» [إِنَّمَا بَقِيَتْ
وَاحِدَةٌ، فَإِنْ شِئْتِ اسْتَقْرَرْتِ عَلَى مَا تَرَيْنَ
مِنَ الْأَثَرَةِ، وَإِنْ شِئْتِ فَارَقْتُكِ. قَالَتْ: بَلْ
أَسْتَقِرُّ عَلَى الْأَثَرَةِ. فَأَمْسَكَهَا عَلَى ذَلِكَ،
وَلَمْ يَرَ رَافِعٌ عَلَيْهِ إِثْمًا حِينَ قَرَّتْ عِنْدَهُ
عَلَى الْأَثَرَةِ. رَوَاهُ مَعْمَرٌ عَنِ الزُّهْرِيِّ
بِلَفْظِهِ وَمَعْنَاهُ وَزَادَ: فَذَلِكَ الصُّلْحُ الَّذِي
بَلَغَنَا أَنَّهُ نَزَلَ فِيهِ (وَإِنِ امْرَأَةٌ خافَتْ مِنْ
بَعْلِها نُشُوزاً أَوْ إِعْراضاً فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ
يُصْلِحا بَيْنَهُما صُلْحاً وَالصُّلْحُ خَيْرٌ). قَالَ أَبُو
عُمَرَ بْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: قَوْلُهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ:
(فَآثَرَ الشَّابَّةَ عَلَيْهَا) يُرِيدُ فِي الْمَيْلِ
بِنَفْسِهِ إِلَيْهَا وَالنَّشَاطِ لَهَا، لَا أَنَّهُ
آثَرَهَا عَلَيْهَا فِي مَطْعَمٍ وَمَلْبَسٍ وَمَبِيتٍ،
لِأَنَّ هَذَا لَا يَنْبَغِي أَنْ يُظَنَّ بِمِثْلِ رَافِعٍ،
وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَذَكَرَ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي
شَيْبَةَ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو الْأَحْوَصِ عَنْ سِمَاكِ
بْنِ حرب عن خالد ابن عَرْعَرَةَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي
طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَجُلًا سَأَلَهُ عَنْ
هَذِهِ الْآيَةِ فَقَالَ: هِيَ الْمَرْأَةُ تَكُونُ عِنْدَ
الرَّجُلِ فَتَنْبُو عَيْنَاهُ عَنْهَا مِنْ دَمَامَتِهَا أَوْ
فَقْرِهَا أَوْ كِبَرِهَا أَوْ سُوءِ خُلُقِهَا وَتَكْرَهُ
فِرَاقَهُ، فَإِنْ وَضَعَتْ لَهُ مِنْ مَهْرِهَا شَيْئًا حَلَّ
لَهُ] أَنْ يَأْخُذَ «3» [وَإِنْ جَعَلَتْ لَهُ مِنْ
أَيَّامِهَا فَلَا حَرَجَ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: لَا بَأْسَ
أَنْ يَنْقُصَهَا مِنْ حَقِّهَا إِذَا تَزَوَّجَ مَنْ هِيَ
أَشَبُّ مِنْهَا وَأَعْجَبُ إِلَيْهِ. وَقَالَ مُقَاتِلُ بْنُ
حَيَّانَ: هُوَ الرَّجُلُ تَكُونُ تَحْتَهُ الْمَرْأَةُ
الْكَبِيرَةُ فَيَتَزَوَّجُ عَلَيْهَا الشَّابَّةَ، فَيَقُولُ
لِهَذِهِ الْكَبِيرَةِ:
__________
(1). في ج: نوبتي.
(2). من ط وج.
(3). من ج.
(5/404)
أُعْطِيكِ مِنْ مَالِي عَلَى أَنْ أَقْسِمَ
لِهَذِهِ الشَّابَّةِ أَكْثَرَ مِمَّا أَقْسِمُ لَكِ مِنَ
اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، فَتَرْضَى الْأُخْرَى بِمَا
اصْطَلَحَا عَلَيْهِ، وَإِنْ أَبَتْ أَلَّا تَرْضَى فَعَلَيْهِ
أَنْ يَعْدِلَ بَيْنَهُمَا فِي الْقَسْمِ. الثَّالِثَةُ- قَالَ
عُلَمَاؤُنَا: وَفِي هَذَا أَنَّ أَنْوَاعَ الصُّلْحِ كُلَّهَا
مُبَاحَةٌ فِي هَذِهِ النَّازِلَةِ، بِأَنْ يُعْطِيَ الزَّوْجُ
عَلَى أَنْ تَصْبِرَ هِيَ، أَوْ تُعْطِيَ هِيَ عَلَى أَنْ
يُؤْثِرَ الزَّوْجُ، أَوْ عَلَى أَنْ يُؤْثِرَ «1»
وَيَتَمَسَّكَ بِالْعِصْمَةِ، أَوْ يَقَعَ الصُّلْحُ عَلَى
الصَّبْرِ وَالْأَثَرَةِ مِنْ غَيْرِ عَطَاءٍ، فَهَذَا كُلُّهُ
مُبَاحٌ. وَقَدْ يَجُوزُ أَنْ تُصَالِحَ إِحْدَاهُنَّ
صَاحِبَتَهَا عَنْ يَوْمِهَا بِشَيْءٍ تُعْطِيهَا، كَمَا
فَعَلَ أَزْوَاجُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ، وَذَلِكَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ غَضِبَ عَلَى صَفِيَّةَ، فَقَالَتْ
لِعَائِشَةَ: أَصْلِحِي بَيْنِي وَبَيْنَ رَسُولِ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَدْ وَهَبْتُ يَوْمِي
لَكِ. ذَكَرَهُ ابْنُ خُوَيْزِ مَنْدَادُ فِي أَحْكَامِهِ عَنْ
عَائِشَةَ قَالَتْ: وَجَدَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى صفية في شي، فَقَالَتْ لِي
صَفِيَّةُ: هَلْ لَكِ أَنْ تُرْضِينَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِّي وَلَكِ يَوْمِي؟ قَالَتْ:
فَلَبِسْتُ خِمَارًا كَانَ عِنْدِي مَصْبُوغًا بِزَعْفَرَانٍ
وَنَضَحْتُهُ، ثُمَّ جِئْتُ فَجَلَسْتُ إِلَى جَنْبِ رَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: (إِلَيْكِ
عَنِّي فَإِنَّهُ لَيْسَ بِيَوْمِكِ). فَقُلْتُ: ذَلِكَ فَضْلُ
اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ، وَأَخْبَرْتُهُ الْخَبَرَ،
فَرَضِيَ عَنْهَا. وَفِيهِ أَنَّ تَرْكَ التَّسْوِيَةِ بَيْنَ
النِّسَاءِ وَتَفْضِيلِ بَعْضِهِنَّ عَلَى بَعْضٍ لَا يَجُوزُ
إِلَّا بِإِذْنِ الْمَفْضُولَةِ وَرِضَاهَا. الرَّابِعَةُ-
قَرَأَ الْكُوفِيُّونَ (يُصْلِحا). وَالْبَاقُونَ (أَنْ
يَصَّالَحَا). الْجَحْدَرِيُّ (يَصَّلِحَا) فَمَنْ قَرَأَ
(يَصَّالَحَا) فَوَجْهُهُ أَنَّ الْمَعْرُوفَ فِي كَلَامِ
الْعَرَبِ إِذَا كَانَ بَيْنَ قَوْمٍ تَشَاجُرٌ أَنْ يُقَالَ:
تَصَالَحَ الْقَوْمُ، وَلَا يُقَالُ: أَصْلَحَ الْقَوْمُ؟
وَلَوْ كَانَ أَصْلَحَ لَكَانَ مَصْدَرُهُ إِصْلَاحًا. وَمَنْ
قَرَأَ (يُصْلِحا) فَقَدِ اسْتَعْمَلَ مِثْلَهُ فِي
التَّشَاجُرِ وَالتَّنَازُعِ، كَمَا قَالَ (فَأَصْلَحَ
بَيْنَهُمْ). وَنُصِبَ قوله: (يُصْلِحا) عَلَى هَذِهِ
الْقِرَاءَةِ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ، وَهُوَ اسْمٌ مِثْلُ
الْعَطَاءِ مِنْ أَعْطَيْتُ. فَأَصْلَحْتُ صُلْحًا مِثْلُ
أَصْلَحْتُ أَمْرًا، وَكَذَلِكَ هُوَ مَفْعُولٌ أَيْضًا عَلَى
قِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ (يَصَّالَحَا) لِأَنَّ تَفَاعُلَ قَدْ
جَاءَ مُتَعَدِّيًا، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مَصْدَرًا حذفت
زوائده. ومن قرأ (يصلحا)
__________
(1). في ج: أن تؤثر الزوج أو على أن تؤثر إلخ. راجع ج 2 ص 271
(5/405)
فَالْأَصْلُ (يَصْتَلِحَا) ثُمَّ صَارَ
إِلَى يَصْطَلِحَا، ثُمَّ أُبْدِلَتِ الطَّاءُ صَادًا
وَأُدْغِمَتْ فِيهَا الصَّادُ،، وَلَمْ تُبَدَّلِ الصَّادُ
طَاءً لِمَا فِيهَا مِنَ امْتِدَادِ الزَّفِيرِ. الْخَامِسَةُ-
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَالصُّلْحُ خَيْرٌ) لَفْظٌ عَامٌّ
مُطْلَقٌ يَقْتَضِي أَنَّ الصُّلْحَ الْحَقِيقِيَّ الَّذِي
تَسْكُنُ إِلَيْهِ النُّفُوسُ وَيَزُولُ بِهِ الْخِلَافُ
خَيْرٌ عَلَى الْإِطْلَاقِ. وَيَدْخُلُ فِي هَذَا الْمَعْنَى
جَمِيعُ مَا يَقَعُ عَلَيْهِ الصُّلْحُ بَيْنَ الرَّجُلِ
وَامْرَأَتِهِ في مال أو وطئ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ. (خَيْرٌ)
أَيْ خَيْرٌ مِنَ الْفُرْقَةِ، فَإِنَّ التَّمَادِيَ عَلَى
الْخِلَافِ وَالشَّحْنَاءِ وَالْمُبَاغَضَةِ هِيَ قَوَاعِدُ
الشَّرِّ، وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي الْبِغْضَةِ:
(إِنَّهَا الْحَالِقَةُ) يَعْنِي حَالِقَةَ الدِّينِ لَا
حَالِقَةَ الشَّعْرِ. السَّادِسَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى:
(وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ) إِخْبَارٌ بِأَنَّ
الشُّحَّ فِي كُلِّ أَحَدٍ. وَأَنَّ الْإِنْسَانَ لَا بُدَّ
أَنْ يَشِحَّ بِحُكْمِ خِلْقَتِهِ وَجِبِلَّتِهِ حَتَّى
يَحْمِلَ صَاحِبَهُ عَلَى بَعْضِ مَا يَكْرَهُ، يُقَالُ: شَحَّ
يَشِحُّ (بِكَسْرِ الشِّينِ) قَالَ ابْنُ جُبَيْرٍ: هُوَ شُحُّ
الْمَرْأَةِ بِالنَّفَقَةِ مِنْ زَوْجِهَا وَبِقَسْمِهِ لَهَا
أَيَّامَهَا. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: الشُّحُّ هُنَا مِنْهُ
وَمِنْهَا. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهَذَا أَحْسَنُ،
فَإِنَّ الْغَالِبَ عَلَى الْمَرْأَةِ الشُّحُّ بِنَصِيبِهَا
مِنْ زَوْجِهَا، وَالْغَالِبُ عَلَى الزَّوْجِ الشُّحُّ
بِنَصِيبِهِ مِنَ الشَّابَّةِ. وَالشُّحُّ الضَّبْطُ عَلَى
الْمُعْتَقَدَاتِ وَالْإِرَادَةِ وَفِي الْهِمَمِ
وَالْأَمْوَالِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَمَا أَفْرَطَ مِنْهُ عَلَى
الدِّينِ فَهُوَ مَحْمُودٌ، وَمَا أَفْرَطَ مِنْهُ فِي
غَيْرِهِ فَفِيهِ بَعْضُ الْمَذَمَّةِ، وَهُوَ الَّذِي قَالَ
اللَّهُ فِيهِ: (وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ
الْمُفْلِحُونَ) «1». وَمَا صَارَ إِلَى حَيِّزِ مَنْعِ
الْحُقُوقِ الشَّرْعِيَّةِ] أَوِ «2» [الَّتِي تَقْتَضِيهَا
الْمُرُوءَةُ فَهُوَ الْبُخْلُ وَهِيَ رَذِيلَةٌ. وَإِذَا آلَ
الْبُخْلُ إِلَى هَذِهِ الْأَخْلَاقِ الْمَذْمُومَةِ
وَالشِّيَمِ اللَّئِيمَةِ لَمْ يَبْقَ مَعَهُ خَيْرٌ مَرْجُوٌّ
وَلَا صَلَاحٌ مَأْمُولٌ. قُلْتُ: وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ
لِلْأَنْصَارِ: (مَنْ سَيِّدُكُمْ)؟ قَالُوا: الْجَدُّ بْنُ
قَيْسٍ عَلَى بُخْلٍ فِيهِ. فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (وَأَيُّ دَاءٍ أَدْوَى مِنَ الْبُخْلِ)!
قَالُوا: وَكَيْفَ ذَاكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: (إِنَّ
قَوْمًا نَزَلُوا بِسَاحِلِ [الْبَحْرِ] «3» فَكَرِهُوا
لِبُخْلِهِمْ نُزُولَ الْأَضْيَافِ بِهِمْ فَقَالُوا
لِيَبْعُدِ الرِّجَالُ مِنَّا عَنِ النِّسَاءِ حَتَّى
يَعْتَذِرَ الرِّجَالُ إِلَى الْأَضْيَافِ بِبُعْدِ النساء
وتعتذر
__________
(1). راجع ج 18 ص 2
(2). الزيادة عن ابن عطية.
(3). من ج 4 ص 292
(5/406)
وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا
أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلَا
تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ
وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا
رَحِيمًا (129)
النِّسَاءُ بِبُعْدِ الرِّجَالِ،
فَفَعَلُوا وَطَالَ ذَلِكَ بِهِمْ، فَاشْتَغَلَ الرِّجَالُ
بِالرِّجَالِ وَالنِّسَاءُ بِالنِّسَاءِ (. وَقَدْ تَقَدَّمَ
«1»، ذِكْرُهُ الْمَاوَرْدِيُّ. السَّابِعَةُ- قَوْلُهُ
تَعَالَى:) وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا) شَرْطٌ (فَإِنَّ
اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً) جَوَابُهُ. وَهَذَا
خِطَابٌ لِلْأَزْوَاجِ مِنْ حَيْثُ إِنَّ لِلزَّوْجِ أَنْ
يَشِحَّ وَلَا يُحْسِنَ، أَيْ إِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فِي
عِشْرَةِ النِّسَاءِ بِإِقَامَتِكُمْ عَلَيْهِنَّ مَعَ
كَرَاهِيَتِكُمْ لِصُحْبَتِهِنَّ وَاتِّقَاءِ ظُلْمِهِنَّ
فَهُوَ أفضل لكم.
[سورة النساء (4): آية 129]
وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّساءِ وَلَوْ
حَرَصْتُمْ فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوها
كَالْمُعَلَّقَةِ وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ
اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (129)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا
بَيْنَ النِّساءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلا تَمِيلُوا كُلَّ
الْمَيْلِ) أَخْبَرَ تَعَالَى بِنَفْيِ الِاسْتِطَاعَةِ فِي
الْعَدْلِ بَيْنَ النِّسَاءِ، وَذَلِكَ فِي مَيْلِ الطَّبْعِ
بِالْمَحَبَّةِ وَالْجِمَاعِ وَالْحَظِّ مِنَ الْقَلْبِ.
فَوَصَفَ اللَّهُ تَعَالَى حَالَةَ الْبَشَرِ وَأَنَّهُمْ
بِحُكْمِ الْخِلْقَةِ لَا يَمْلِكُونَ مَيْلَ قُلُوبِهِمْ
إِلَى بَعْضٍ دُونَ بَعْضٍ، وَلِهَذَا كَانَ عَلَيْهِ
السَّلَامُ يَقُولُ: (اللَّهُمَّ إِنَّ هَذِهِ قِسْمَتِي
فِيمَا أَمْلِكُ فَلَا تَلُمْنِي فِيمَا تَمْلِكُ وَلَا
أَمْلِكُ). ثُمَّ نَهَى فَقَالَ: (فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ
الْمَيْلِ). قَالَ مُجَاهِدٌ: لَا تَتَعَمَّدُوا الْإِسَاءَةَ
بَلِ الْزَمُوا التَّسْوِيَةَ فِي الْقَسْمِ وَالنَّفَقَةِ،
لِأَنَّ هَذَا مِمَّا يُسْتَطَاعُ. وَسَيَأْتِي بَيَانُ هَذَا
فِي (الْأَحْزَابِ «2») مَبْسُوطًا إِنْ شَاءَ اللَّهُ
تَعَالَى. وَرَوَى قَتَادَةُ عَنِ النَّضْرِ بْنِ أَنَسٍ عَنْ
بَشِيرِ بْنِ نَهِيكٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (مَنْ
كَانَتْ لَهُ امْرَأَتَانِ فَلَمْ يَعْدِلْ بَيْنَهُمَا جَاءَ
يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَشِقُّهُ مَائِلٌ). قَوْلُهُ تَعَالَى:
(فَتَذَرُوها كَالْمُعَلَّقَةِ) أَيْ لَا هِيَ مُطَلَّقَةٌ
وَلَا ذَاتُ زَوْجٍ، قَالَهُ الْحَسَنُ. وَهَذَا تَشْبِيهٌ
بِالشَّيْءِ الْمُعَلَّقِ من شي، لِأَنَّهُ لَا عَلَى
الْأَرْضِ اسْتَقَرَّ وَلَا عَلَى مَا عُلِّقَ عَلَيْهِ
انْحَمَلَ، وَهَذَا مُطَّرِدٌ فِي قَوْلِهِمْ فِي الْمَثَلِ:
(ارْضَ مِنَ الْمَرْكَبِ بِالتَّعْلِيقِ). وفي عرف النحويين
فمن «3» تعليق
__________
(1). راجع ج 4 ص 292.
(2). راجع ج 14 ص 214
(3). في اوز وط: في تعليق. [ ..... ]
(5/407)
وَإِنْ يَتَفَرَّقَا
يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ وَكَانَ اللَّهُ وَاسِعًا
حَكِيمًا (130) وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي
الْأَرْضِ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ
مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ وَإِنْ
تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي
الْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ غَنِيًّا حَمِيدًا (131) وَلِلَّهِ
مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ
وَكِيلًا (132)
الْفِعْلِ. وَمِنْهُ فِي حَدِيثِ أُمِّ
زَرْعٍ فِي قَوْلِ الْمَرْأَةِ: زَوْجِي الْعَشَنَّقُ «1»،
إِنْ أَنْطِقْ أُطَلَّقْ، وَإِنْ أَسْكُتْ أُعَلَّقْ. وَقَالَ
قَتَادَةُ: كَالْمَسْجُونَةِ، وَكَذَا قَرَأَ أُبَيٌّ
(فَتَذَرُوهَا كَالْمَسْجُونَةِ). وَقَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ
(فَتَذَرُوهَا كَأَنَّهَا مُعَلَّقَةٌ). وَمَوْضِعُ
(فَتَذَرُوها) نَصْبٌ، لِأَنَّهُ جَوَابُ النَّهْيِ.
وَالْكَافُ فِي (كَالْمُعَلَّقَةِ) فِي مَوْضِعِ نصب أيضا.
[سورة النساء (4): الآيات 130 الى 132]
وَإِنْ يَتَفَرَّقا يُغْنِ اللَّهُ كُلاًّ مِنْ سَعَتِهِ
وَكانَ اللَّهُ واسِعاً حَكِيماً (130) وَلِلَّهِ مَا فِي
السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ
أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا
اللَّهَ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي
السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكانَ اللَّهُ غَنِيًّا
حَمِيداً (131) وَلِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي
الْأَرْضِ وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلاً (132)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَإِنْ يَتَفَرَّقا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا
مِنْ سَعَتِهِ) أَيْ وَإِنْ لَمْ يَصْطَلِحَا بَلْ تَفَرَّقَا
فَلْيُحْسِنَا ظَنَّهُمَا بِاللَّهِ، فَقَدْ يُقَيَّضُ
لِلرَّجُلِ امْرَأَةٌ تَقَرُّ بِهَا عَيْنُهُ، وَلِلْمَرْأَةِ
مَنْ يُوَسِّعُ عَلَيْهَا. وَرُوِيَ عَنْ جَعْفَرِ بْنِ
مُحَمَّدٍ أَنَّ رَجُلًا شَكَا إِلَيْهِ الْفَقْرَ، فَأَمَرَهُ
بِالنِّكَاحِ، فَذَهَبَ الرَّجُلُ وَتَزَوَّجَ، ثُمَّ جَاءَ
إِلَيْهِ وَشَكَا إِلَيْهِ الْفَقْرَ، فَأَمَرَهُ
بِالطَّلَاقِ، فَسُئِلَ عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ فَقَالَ:
أَمَرْتُهُ بِالنِّكَاحِ لَعَلَّهُ مِنْ أَهْلِ هَذِهِ
الْآيَةِ: (إِنْ يَكُونُوا فُقَراءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ
فَضْلِهِ «2» فَلَمَّا لَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِ تِلْكَ
الْآيَةِ أَمَرْتُهُ بِالطَّلَاقِ فَقُلْتُ: فَلَعَلَّهُ مِنْ
أَهْلِ هَذِهِ الْآيَةِ (وَإِنْ يَتَفَرَّقا يُغْنِ اللَّهُ
كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ). قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَلَقَدْ
وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ) أَيِ
الْأَمْرُ بِالتَّقْوَى كَانَ عَامًّا لِجَمِيعِ الْأُمَمِ:
وَقَدْ مَضَى الْقَوْلُ فِي التَّقْوَى «3». (وَإِيَّاكُمْ)
عَطْفٌ عَلَى (الَّذِينَ). (أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ) فِي
مَوْضِعِ نَصْبٍ، قَالَ الْأَخْفَشُ: أَيْ بِأَنِ اتَّقُوا
اللَّهَ. وَقَالَ بَعْضُ الْعَارِفِينَ: هَذِهِ الْآيَةُ هِيَ
رَحَى آيِ الْقُرْآنِ، لِأَنَّ جَمِيعَهُ يَدُورُ عَلَيْهَا.
__________
(1). العشنق: الطويل الممتد القامة، أرادت أن له منظرا بلا
مخبر.
(2). راجع ج 12 ص 241.
(3). راجع ج 1 ص 161
(5/408)
إِنْ يَشَأْ
يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ وَكَانَ
اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ قَدِيرًا (133)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَإِنْ تَكْفُرُوا
فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ
وَكانَ اللَّهُ غَنِيًّا حَمِيداً. وَلِلَّهِ مَا فِي
السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلًا)
إِنْ قَالَ قَائِلٌ: مَا فَائِدَةُ هَذَا التَّكْرِيرِ؟
فَعَنْهُ جَوَابَانِ: أَحَدُهُمَا- أَنَّهُ كُرِّرَ
تَأْكِيدًا، لِيَتَنَبَّهَ الْعِبَادُ وَيَنْظُرُوا مَا فِي
مَلَكُوتِهِ وَمُلْكِهِ وَأَنَّهُ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ.
الْجَوَابُ الثَّانِي- أَنَّهُ كُرِّرَ لِفَوَائِدَ:
فَأَخْبَرَ فِي الْأَوَّلِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُغْنِي
كُلًّا من سعته، لان له ما في السموات وَمَا فِي الْأَرْضِ
فَلَا تَنْفَدُ خَزَائِنُهُ. ثُمَّ قَالَ: أَوْصَيْنَاكُمْ
وَأَهْلَ الْكِتَابِ بِالتَّقْوَى (وَإِنْ تَكْفُرُوا) [أَيْ
وَإِنْ «1» تَكْفُرُوا] فَإِنَّهُ غَنِيٌّ عَنْكُمْ، لِأَنَّ
له ما في السموات وَمَا فِي الْأَرْضِ. ثُمَّ أَعْلَمَ فِي
الثَّالِثِ بِحِفْظِ خَلْقِهِ وَتَدْبِيرِهِ إِيَّاهُمْ
بِقَوْلِهِ: (وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلًا) لان له ما في السموات
وَمَا فِي الْأَرْضِ. وَقَالَ: (مَا فِي السَّماواتِ) ولم يقل
من في السموات، لأنه ذهب به مذهب الجنس، وفي السموات والأرض من
يعقل ومن لا يعقل.
[سورة النساء (4): آية 133]
إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ
بِآخَرِينَ وَكانَ اللَّهُ عَلى ذلِكَ قَدِيراً (133)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ) يَعْنِي
بِالْمَوْتِ (أَيُّهَا النَّاسُ). يُرِيدُ الْمُشْرِكِينَ
وَالْمُنَافِقِينَ. (وَيَأْتِ بِآخَرِينَ) يَعْنِي
بِغَيْرِكُمْ. وَلَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ ضَرَبَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى
ظَهْرِ سَلْمَانَ وَقَالَ: (هُمْ قَوْمُ هَذَا). وَقِيلَ:
الْآيَةُ عَامَّةٌ، أَيْ وَإِنْ تَكْفُرُوا يُذْهِبْكُمْ
وَيَأْتِ بِخَلْقٍ أَطْوَعَ لِلَّهِ مِنْكُمْ. وَهَذَا كَمَا
قَالَ فِي آيَةٍ أُخْرَى: (وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ
قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ «2»).
وَفِي الْآيَةِ تَخْوِيفٌ وَتَنْبِيهٌ لجميع من كانت له ولاية
وإمارة ورئاسة فَلَا يَعْدِلُ فِي رَعِيَّتِهِ، أَوْ كَانَ
عَالِمًا فَلَا يَعْمَلُ بِعِلْمِهِ وَلَا يَنْصَحُ النَّاسَ،
أَنْ يُذْهِبَهُ وَيَأْتِيَ بِغَيْرِهِ. (وَكانَ اللَّهُ عَلى
ذلِكَ قَدِيراً) وَالْقُدْرَةُ صِفَةٌ أَزَلِيَّةٌ، لَا
تَتَنَاهَى مَقْدُورَاتُهُ، كَمَا لَا تَتَنَاهَى
مَعْلُومَاتُهُ، وَالْمَاضِي وَالْمُسْتَقْبَلُ فِي صِفَاتِهِ
بِمَعْنًى وَاحِدٍ، وَإِنَّمَا خُصَّ الْمَاضِي بِالذِّكْرِ
لِئَلَّا يُتَوَهَّمُ أَنَّهُ يَحْدُثُ «3» فِي ذَاتِهِ
وَصِفَاتِهِ. وَالْقُدْرَةُ هِيَ الَّتِي يَكُونُ بِهَا
الْفِعْلُ وَلَا يجوز وجود العجز معها.
[سورة النساء (4): آية 134]
مَنْ كانَ يُرِيدُ ثَوابَ الدُّنْيا فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوابُ
الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَكانَ اللَّهُ سَمِيعاً بَصِيراً
(134)
__________
(1). من ج.
(2). راجع ج 16 ص 258.
(3). في ج: محدث.
(5/409)
يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ
لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ
وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا
فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ
تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ
كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (135)
أَيْ مَنْ عَمِلَ بِمَا افْتَرَضَهُ
اللَّهُ عَلَيْهِ طَلَبًا لِلْآخِرَةِ آتَاهُ اللَّهُ ذَلِكَ
فِي الْآخِرَةِ، وَمَنْ عَمِلَ طَلَبًا لِلدُّنْيَا آتَاهُ
بِمَا كُتِبَ لَهُ فِي الدُّنْيَا وَلَيْسَ لَهُ فِي
الْآخِرَةِ مِنْ ثَوَابٍ، لِأَنَّهُ عَمِلَ لِغَيْرِ اللَّهِ
كَمَا قَالَ تَعَالَى: (وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ
«1»). وَقَالَ تَعَالَى: (أُولئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ
فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ «2»). وَهَذَا عَلَى أَنْ
يَكُونَ الْمُرَادُ بِالْآيَةِ الْمُنَافِقُونَ وَالْكُفَّارُ،
وَهُوَ اخْتِيَارُ الطَّبَرِيِّ. وَرُوِيَ أَنَّ
الْمُشْرِكِينَ كَانُوا لَا يُؤْمِنُونَ بِالْقِيَامَةِ،
وَإِنَّمَا يَتَقَرَّبُونَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى لِيُوَسِّعَ
عَلَيْهِمْ فِي الدُّنْيَا وَيَرْفَعَ عَنْهُمْ مَكْرُوهَهَا،
فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ (مَنْ كانَ يُرِيدُ ثَوابَ
الدُّنْيا فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوابُ الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ
وَكانَ اللَّهُ سَمِيعاً بَصِيراً) أَيْ يَسْمَعُ مَا
يَقُولُونَهُ ويبصر ما يسرونه.
[سورة النساء (4): آية 135]
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ
بِالْقِسْطِ شُهَداءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلى أَنْفُسِكُمْ أَوِ
الْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ
فَقِيراً فَاللَّهُ أَوْلى بِهِما فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوى
أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ
اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (135)
قَوْلُهُ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا
قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَداءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلى
أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ
غَنِيًّا أَوْ فَقِيراً فَاللَّهُ أَوْلى بِهِما فَلا
تَتَّبِعُوا الْهَوى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ
تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً
(135) فيه عشر مسائل: الاولى- قوله تعالى: (كُونُوا
قَوَّامِينَ) (قَوَّامِينَ) بِنَاءُ مُبَالَغَةٍ، أَيْ
لِيَتَكَرَّرْ مِنْكُمُ الْقِيَامُ بِالْقِسْطِ، وَهُوَ
الْعَدْلُ فِي شَهَادَتِكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ، وَشَهَادَةُ
الْمَرْءِ عَلَى نَفْسِهِ إِقْرَارُهُ بِالْحُقُوقِ عَلَيْهَا.
ثُمَّ ذَكَرَ الْوَالِدَيْنِ لِوُجُوبِ بِرِّهِمَا وَعِظَمِ
قَدْرِهِمَا، ثُمَّ ثَنَّى بِالْأَقْرَبِينَ إِذْ هُمْ
مَظِنَّةُ الْمَوَدَّةِ وَالتَّعَصُّبِ، فَكَانَ
الْأَجْنَبِيُّ مِنَ النَّاسِ أَحْرَى أَنْ يُقَامَ عَلَيْهِ
بِالْقِسْطِ وَيُشْهَدَ عَلَيْهِ، فَجَاءَ الْكَلَامُ فِي
السُّورَةِ فِي حِفْظِ حُقُوقِ الْخَلْقِ فِي الْأَمْوَالِ.
الثَّانِيةُ- لَا خِلَافَ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي صِحَّةِ
أَحْكَامِ هَذِهِ الْآيَةِ، وَأَنَّ شَهَادَةَ الْوَلَدِ عَلَى
الْوَالِدَيْنِ [الْأَبِ وَالْأُمِّ «3»] مَاضِيَةٌ، وَلَا
يَمْنَعُ ذَلِكَ مِنْ بِرِّهِمَا، بَلْ مِنْ بِرِّهِمَا أَنْ
يَشْهَدَ عَلَيْهِمَا وَيُخَلِّصَهُمَا مِنَ الْبَاطِلِ،
وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: (قُوا أَنْفُسَكُمْ
وَأَهْلِيكُمْ نَارًا «4») فَإِنْ شَهِدَ لَهُمَا أَوْ شَهِدَا
له وهي:
__________
(1). راجع ج 6 ص 2
(2). راجع ج 9 ص 15.
(3). من ج وط.
(4). راجع ج 18 ص 194
(5/410)
الثَّالِثَةُ- فَقَدِ اخْتُلِفَ فِيهَا
قَدِيمًا وَحَدِيثًا، فَقَالَ ابْنُ شِهَابٍ الزُّهْرِيُّ:
كَانَ مَنْ مَضَى مِنَ السَّلَفِ الصَّالِحِ يُجِيزُونَ
شَهَادَةَ الْوَالِدَيْنِ «1» وَالْأَخِ، وَيَتَأَوَّلُونَ فِي
ذَلِكَ قَوْلَ اللَّهِ تَعَالَى: (كُونُوا قَوَّامِينَ
بِالْقِسْطِ شُهَداءَ لِلَّهِ) فلم يكن أحديتهم فِي ذَلِكَ
مِنَ السَّلَفِ الصَّالِحِ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ.
ثُمَّ ظَهَرَتْ مِنَ النَّاسِ أُمُورٌ حَمَلَتِ الْوُلَاةَ
عَلَى اتِّهَامِهِمْ، فَتُرِكَتْ شَهَادَةُ مَنْ يُتَّهَمُ،
وَصَارَ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ فِي الْوَلَدِ وَالْوَالِدِ
وَالْأَخِ وَالزَّوْجِ وَالزَّوْجَةِ، وَهُوَ مَذْهَبُ
الْحَسَنِ وَالنَّخَعِيِّ وَالشَّعْبِيِّ وَشُرَيْحٍ وَمَالِكٍ
وَالثَّوْرِيِّ وَالشَّافِعِيِّ وَابْنِ حَنْبَلٍ. وَقَدْ
أَجَازَ قَوْمٌ شَهَادَةَ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ إِذَا كَانُوا
عُدُولًا. وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَنَّهُ
أَجَازَهُ، وَكَذَلِكَ رُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ
الْعَزِيزِ، وَبِهِ قَالَ إِسْحَاقُ وَالثَّوْرِيُّ
وَالْمُزَنِيُّ. وَمَذْهَبُ مَالِكٍ جَوَازُ شَهَادَةِ الْأَخِ
لِأَخِيهِ إِذَا كَانَ عَدْلًا إِلَّا فِي النَّسَبِ. وَرَوَى
عَنْهُ ابْنُ وَهْبٍ أَنَّهَا لَا تَجُوزُ إِذَا كَانَ فِي
عِيَالِهِ أَوْ فِي نَصِيبٍ مِنْ مَالٍ يَرِثُهُ. وَقَالَ
مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ: شَهَادَةُ الزَّوْجِ لِزَوْجَتِهِ
لَا تُقْبَلُ، لِتَوَاصُلِ مَنَافِعِ الْأَمْلَاكِ بَيْنَهُمَا
وَهِيَ مَحِلُّ الشَّهَادَةِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: تَجُوزُ
شَهَادَةُ الزَّوْجَيْنِ بَعْضُهُمَا لِبَعْضٍ، لِأَنَّهُمَا
أَجْنَبِيَّانِ، وَإِنَّمَا بَيْنَهُمَا عَقْدُ الزَّوْجِيَّةِ
وَهُوَ مُعَرَّضٌ لِلزَّوَالِ. وَالْأَصْلُ قَبُولُ
الشَّهَادَةِ إِلَّا حَيْثُ خُصَّ فِيمَا عَدَا الْمَخْصُوصِ
فَبَقِيَ عَلَى الْأَصْلِ، وَهَذَا ضَعِيفٌ، فَإِنَّ
الزَّوْجِيَّةَ تُوجِبُ الْحَنَانَ وَالْمُوَاصَلَةَ
وَالْأُلْفَةَ وَالْمَحَبَّةَ، فَالتُّهَمَةُ قَوِيَّةٌ
ظَاهِرَةٌ. وَقَدْ رَوَى أَبُو دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ سليمان بن
موسى عن عمرو ابن شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ
رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَدَّ
شَهَادَةَ الْخَائِنِ وَالْخَائِنَةِ وَذِي الْغِمْرِ عَلَى
أَخِيهِ، وَرَدَّ شَهَادَةَ الْقَانِعِ لِأَهْلِ الْبَيْتِ
وَأَجَازَهَا لِغَيْرِهِمْ. قَالَ الخطابي: ذو الغمر هو
الَّذِي بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ عَدَاوَةٌ
ظَاهِرَةٌ، فَتُرَدُّ شَهَادَتُهُ [عَلَيْهِ «2»]
لِلتُّهَمَةِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: شَهَادَتُهُ عَلَى
الْعَدُوِّ مَقْبُولَةٌ إِذَا كَانَ عَدْلًا. وَالْقَانِعُ
السَّائِلُ وَالْمُسْتَطْعِمُ، وَأَصْلُ الْقُنُوعِ
السُّؤَالُ. وَيُقَالُ فِي الْقَانِعِ: إِنَّهُ الْمُنْقَطِعُ
إِلَى الْقَوْمِ يَخْدُمُهُمْ وَيَكُونُ فِي حَوَائِجِهِمْ،
وَذَلِكَ مِثْلُ الْأَجِيرِ أَوِ الْوَكِيلِ وَنَحْوِهِ.
وَمَعْنَى رَدِّ هَذِهِ الشَّهَادَةِ التُّهَمَةُ فِي جَرِّ
الْمَنْفَعَةِ إِلَى نَفْسِهِ، لِأَنَّ الْقَانِعَ لِأَهْلِ
الْبَيْتِ يَنْتَفِعُ بِمَا يَصِيرُ إِلَيْهِمْ مِنْ نَفْعٍ.
وَكُلُّ مَنْ جَرَّ إِلَى نَفْسِهِ بِشَهَادَتِهِ نفعا
__________
(1). غباره ابن العربي: ( ... الوالد والأخ لأخيه ... إلخ).
(2). من ج.
(5/411)
فَشَهَادَتُهُ مَرْدُودَةٌ، كَمَنْ شَهِدَ
لِرَجُلٍ عَلَى شِرَاءِ دَارٍ هُوَ شَفِيعُهَا، أَوْ كَمَنْ
حُكِمَ لَهُ عَلَى رَجُلٍ بِدَيْنٍ وَهُوَ مُفْلِسٌ، فَشَهِدَ
الْمُفْلِسُ عَلَى رَجُلٍ بِدَيْنٍ وَنَحْوِهِ. قَالَ
الْخَطَّابِيُّ: وَمَنْ رَدَّ شَهَادَةَ الْقَانِعِ لِأَهْلِ
الْبَيْتِ بِسَبَبِ جَرِّ الْمَنْفَعَةِ فَقِيَاسُ قَوْلِهِ
أَنْ يَرُدَّ شَهَادَةَ الزَّوْجِ لِزَوْجَتِهِ، لِأَنَّ مَا
بَيْنَهُمَا مِنَ التُّهَمَةِ فِي جَرِّ الْمَنْفَعَةِ
أَكْثَرُ، وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ. وَالْحَدِيثُ
حُجَّةٌ عَلَى مَنْ أَجَازَ شَهَادَةَ الْأَبِ لِابْنِهِ،
لِأَنَّهُ يَجُرُّ بِهِ النَّفْعَ لِمَا جبل عليه من حبه
والميل إليه، ولان يمتلك عليه مَالَهُ، وَقَدْ قَالَ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (أَنْتَ وَمَالُكَ لِأَبِيكَ).
وَمِمَّنْ تُرَدُّ شَهَادَتُهُ عِنْدَ مالك البدوي على الفروي،
قَالَ: إِلَّا أَنْ يَكُونَ فِي بَادِيَةٍ أَوْ قَرْيَةٍ،
فَأَمَّا الَّذِي يُشْهِدُ فِي الْحَضَرِ بَدَوِيًّا وَيَدَعُ
جِيرَتَهُ مِنْ أَهْلِ الْحَضَرِ عِنْدِي مُرِيبٌ. وقد روى أبو
داود والدرا قطني عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ سَمِعَ
رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ:
(لَا تَجُوزُ شَهَادَةُ بَدَوِيٍّ عَلَى صَاحِبِ قَرْيَةٍ).
قَالَ [مُحَمَّدُ «1»] ابن [عَبْدِ «2»] الْحَكَمِ: تَأَوَّلَ
مَالِكٌ هَذَا الْحَدِيثَ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ
الشَّهَادَةُ فِي الْحُقُوقِ وَالْأَمْوَالِ، وَلَا تُرَدُّ
الشَّهَادَةُ فِي الدِّمَاءِ وَمَا فِي مَعْنَاهَا مِمَّا
يَطْلُبُ بِهِ الْخَلْقَ. وَقَالَ عَامَّةُ أَهْلِ الْعِلْمِ:
شَهَادَةُ الْبَدَوِيِّ إِذَا كَانَ عَدْلًا يُقِيمُ
الشَّهَادَةَ عَلَى وَجْهِهَا جَائِزَةٌ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَدْ مَضَى الْقَوْلُ فِي هَذَا فِي (الْبَقَرَةِ «3»)،
وَيَأْتِي فِي (بَرَاءَةٌ «4») تَمَامُهَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ
تَعَالَى. الرَّابِعَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (شُهَداءَ
لِلَّهِ) نَصْبٌ عَلَى النَّعْتِ لِ (قَوَّامِينَ)، وَإِنْ
شِئْتَ كَانَ خَبَرًا بَعْدَ خَبَرٍ. قَالَ النَّحَّاسُ:
وَأَجْوَدُ مِنْ هَذَيْنَ أَنْ يَكُونَ نَصْبًا عَلَى الْحَالِ
بِمَا فِي (قَوَّامِينَ) مِنْ ذِكْرِ الَّذِينَ آمَنُوا،
لِأَنَّهُ نَفْسُ الْمَعْنَى، أَيْ كُونُوا قَوَّامِينَ
بِالْعَدْلِ عِنْدَ شَهَادَتِكُمْ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ:
وَالْحَالُ فِيهِ ضَعِيفَةٌ فِي الْمَعْنَى، لِأَنَّهَا
تَخْصِيصُ الْقِيَامِ بِالْقِسْطِ إِلَى مَعْنَى الشَّهَادَةِ
فَقَطْ. وَلَمْ يَنْصَرِفْ (شُهَداءَ) لِأَنَّ فِيهِ أَلِفَ
التَّأْنِيثِ. الْخَامِسَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (لِلَّهِ)
مَعْنَاهُ لِذَاتِ اللَّهِ وَلِوَجْهِهِ وَلِمَرْضَاتِهِ
وَثَوَابِهِ. (وَلَوْ عَلى أَنْفُسِكُمْ) مُتَعَلِّقٌ بِ
(شُهَداءَ)، هَذَا هُوَ الظَّاهِرُ الَّذِي فَسَّرَ عَلَيْهِ
النَّاسُ، وَأَنَّ هَذِهِ الشَّهَادَةَ الْمَذْكُورَةَ هِيَ
فِي الْحُقُوقِ فَيُقِرُّ بِهَا لِأَهْلِهَا، فَذَلِكَ
قِيَامُهُ بِالشَّهَادَةِ عَلَى نَفْسِهِ، كَمَا تقدم.
__________
(1). من ج وط.
(2). من ج وط. [ ..... ]
(3). راجع ج 3 ص 389 وما بعدها.
(4). راجع ج 8 ص 232
(5/412)
أَدَّبَ اللَّهُ جَلَّ وَعَزَّ
الْمُؤْمِنِينَ بِهَذَا، كَمَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أُمِرُوا
أَنْ يَقُولُوا الْحَقَّ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ.
وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: (شُهَداءَ لِلَّهِ)
مَعْنَاهُ بِالْوَحْدَانِيَّةِ لِلَّهِ، وَيَتَعَلَّقُ
قَوْلُهُ: (وَلَوْ عَلى أَنْفُسِكُمْ) بِ (قَوَّامِينَ)
وَالتَّأْوِيلُ الْأَوَّلُ أَبْيَنُ. السَّادِسَةُ- قَوْلُهُ
تَعَالَى: (إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيراً فَاللَّهُ
أَوْلى بِهِما) فِي الْكَلَامِ إِضْمَارٌ وَهُوَ اسْمُ كَانَ،
أَيْ إِنْ يَكُنِ الطَّالِبُ أَوِ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ
غَنِيًّا فَلَا يُرَاعَى لِغِنَاهُ وَلَا يُخَافُ مِنْهُ،
وَإِنْ يَكُنْ فَقِيرًا فَلَا يُرَاعَى إِشْفَاقًا عَلَيْهِ.
(فَاللَّهُ أَوْلى بِهِما) [أَيْ «1»] فِيمَا اخْتَارَ لَهُمَا
مِنْ فَقْرٍ وَغِنًى. قَالَ السُّدِّيُّ: اخْتَصَمَ «2» إِلَى
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَنِيٌّ
وَفَقِيرٌ، فَكَانَ ضَلْعُهُ «3» [صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ «4»] مَعَ الْفَقِيرِ، وَرَأَى أَنَّ الْفَقِيرَ لَا
يَظْلِمُ الْغَنِيَّ، فَنَزَلَتِ الْآيَةُ. السَّابِعَةُ-
قَوْلُهُ تَعَالَى: (فَاللَّهُ أَوْلى بِهِما) إِنَّمَا قَالَ
(بِهِما) وَلَمْ يَقُلْ (بِهِ) وَإِنْ كَانَتْ (أَوْ) إِنَّمَا
تَدُلُّ عَلَى الْحُصُولِ الْوَاحِدِ، لِأَنَّ الْمَعْنَى
فَاللَّهُ أَوْلَى بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا. وَقَالَ
الْأَخْفَشُ: تَكُونُ (أَوْ) بِمَعْنَى الْوَاوِ، أَيْ إِنْ
يَكُنْ غَنِيًّا وَفَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِالْخَصْمَيْنِ
كَيْفَمَا كَانَا، وَفِيهِ ضَعْفٌ. وَقِيلَ: إِنَّمَا قَالَ
(بِهِما) لِأَنَّهُ قد تقدم ذكر هما، كَمَا قَالَ تَعَالَى:
(وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا
السُّدُسُ «5»). الثامنة- قولع تَعَالَى: (فَلا تَتَّبِعُوا
الْهَوى) نَهْيٌ، فَإِنَّ اتِّبَاعَ الْهَوَى مُرْدٍ، أَيْ
مُهْلِكٌ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: (فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ
بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ
اللَّهِ «6») فَاتِّبَاعُ الْهَوَى يَحْمِلُ عَلَى
الشَّهَادَةِ بِغَيْرِ الْحَقِّ، وَعَلَى الْجَوْرِ فِي
الْحُكْمِ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ. وَقَالَ الشَّعْبِيُّ: أَخَذَ
اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى الْحُكَّامِ ثَلَاثَةَ أَشْيَاءَ:
أَلَّا يَتَّبِعُوا الْهَوَى، وَأَلَّا يَخْشَوُا النَّاسَ
وَيَخْشَوْهُ، وَأَلَّا يَشْتَرُوا بِآيَاتِهِ ثَمَنًا
قَلِيلًا. (أَنْ تَعْدِلُوا) فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ.
التَّاسِعَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ
تُعْرِضُوا) قُرِئَ (وَإِنْ تَلْوُوا) مِنْ لَوَيْتُ فُلَانًا
حَقَّهُ لَيًّا إِذَا دَفَعْتُهُ بِهِ، وَالْفِعْلُ مِنْهُ
(لَوَى) وَالْأَصْلُ فِيهِ (لَوَى) قُلِبَتِ الْيَاءُ أَلِفًا
لِحَرَكَتِهَا وَحَرَكَةِ مَا قَبْلَهَا، وَالْمَصْدَرُ
(لَيًّا) وَالْأَصْلُ لَوْيًا، وَلِيَّانًا وَالْأَصْلُ
لِوْيَانًا، ثُمَّ أدغمت الواو
__________
(1). من ج، ط.
(2). في ج: إذا اختصم.
(3). الضلع: الميل.
(4). من ج، ط.
(5). راجع ص 71 من هذا الجزء.
(6). راجع ج 15 ص 188
(5/413)
فِي الْيَاءِ. وَقَالَ الْقُتَبِيُّ:
(تَلْوُوا) مِنَ اللَّيِّ فِي الشَّهَادَةِ وَالْمَيْلِ إِلَى
أَحَدِ الْخَصْمَيْنِ. وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ
وَالْكُوفِيُّونَ (تَلُوا) أَرَادَ قُمْتُمْ بِالْأَمْرِ
[وَأَعْرَضْتُمْ، مِنْ قَوْلِكَ: وَلَّيْتُ الْأَمْرَ،
فَيَكُونُ فِي الكلام معنى التَّوْبِيخُ لِلْإِعْرَاضِ عَنِ
الْقِيَامِ بِالْأَمْرِ «1»]. وَقِيلَ: إِنَّ مَعْنَى (تَلُوا)
الْإِعْرَاضُ. فَالْقِرَاءَةُ بِضَمِّ اللَّامِ تُفِيدُ
مَعْنَيَيْنِ: الْوِلَايَةُ وَالْإِعْرَاضُ، وَالْقِرَاءَةُ
بِوَاوَيْنِ تُفِيدُ مَعْنًى وَاحِدًا وَهُوَ الْإِعْرَاضُ.
وَزَعَمَ بَعْضُ النَّحْوِيِّينَ أَنَّ مَنْ قَرَأَ (تَلُوا)
فَقَدْ لَحَنَ، لِأَنَّهُ لَا معنى للولاية ها هنا. قَالَ
النَّحَّاسُ وَغَيْرُهُ: وَلَيْسَ يَلْزَمُ هَذَا [وَلَكِنْ
«2» تَكُونُ] (تَلُوا) بِمَعْنَى (تَلْوُوا) وَذَلِكَ أَنَّ
أَصْلَهُ (تَلْوُوا) فَاسْتُثْقِلَتِ الضَّمَّةُ عَلَى
الْوَاوِ بَعْدَهَا وَاوٌ أُخْرَى، فَأُلْقِيَتِ الْحَرَكَةُ
عَلَى اللَّامِ وَحُذِفَتْ إِحْدَى الْوَاوَيْنِ لِالْتِقَاءِ
السَّاكِنَيْنِ، وَهِيَ كَالْقِرَاءَةِ بِإِسْكَانِ اللَّامِ
وَوَاوَيْنِ، ذَكَرَهُ مَكِّيٌّ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ:
الْمَعْنَى عَلَى قِرَاءَتِهِ (وَإِنْ تَلْوُوا) ثُمَّ هَمَزَ
الْوَاوَ الْأُولَى فصارت (تلووا) ثُمَّ خُفِّفَتِ الْهَمْزَةُ
بِإِلْقَاءِ حَرَكَتِهَا عَلَى اللَّامِ فَصَارَتْ (تَلُوا)
وَأَصْلُهَا (تَلْوُوا). فَتَتَّفِقُ «3» الْقِرَاءَتَانِ
عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ. وَذَكَرَهُ النَّحَّاسُ وَمَكِّيٌّ
وَابْنُ الْعَرَبِيِّ وَغَيْرُهُمْ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ:
هُوَ فِي الْخَصْمَيْنِ يَجْلِسَانِ بَيْنَ يَدَيِ الْقَاضِي
فَيَكُونُ لَيُّ الْقَاضِي وَإِعْرَاضُهُ لِأَحَدِهِمَا عَلَى
الْآخَرِ، فَاللَّيُّ عَلَى هَذَا مَطْلُ الْكَلَامِ وَجَرُّهُ
حَتَّى يَفُوتَ فَصْلُ الْقَضَاءِ وَإِنْفَاذُهُ لِلَّذِي
يَمِيلُ الْقَاضِي إِلَيْهِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَقَدْ
شَاهَدْتُ بَعْضَ الْقُضَاةِ يَفْعَلُونَ ذَلِكَ، وَاللَّهُ
حَسِيبُ الْكُلِّ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَيْضًا
وَالسُّدِّيُّ وَابْنُ زَيْدٍ وَالضَّحَّاكُ وَمُجَاهِدٌ: هِيَ
فِي الشُّهُودِ يَلْوِي الشَّاهِدُ الشَّهَادَةَ بِلِسَانِهِ
وَيُحَرِّفُهَا فَلَا يَقُولُ الْحَقَّ فِيهَا، أَوْ يُعْرِضُ
عَنْ أَدَاءِ الْحَقِّ فِيهَا. وَلَفْظُ الْآيَةِ يَعُمُّ
الْقَضَاءَ وَالشَّهَادَةَ، وَكُلُّ إِنْسَانٍ مَأْمُورٌ
بِأَنْ يَعْدِلَ. وَفِي الْحَدِيثِ: (لَيُّ الْوَاجِدِ يُحِلُّ
عِرْضَهُ وَعُقُوبَتَهُ). قَالَ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ:
عُقُوبَتُهُ حَبْسُهُ، وَعِرْضُهُ شِكَايَتُهُ. الْعَاشِرَةُ-
وَقَدِ اسْتَدَلَّ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ فِي رَدِّ شَهَادَةِ
الْعَبْدِ بِهَذِهِ الْآيَةِ، فَقَالَ: جَعَلَ اللَّهُ
تَعَالَى الْحَاكِمَ شَاهِدًا فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَذَلِكَ
أَدَلُّ دَلِيلٍ عَلَى أَنَّ الْعَبْدَ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ
الشَّهَادَةِ، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهُ الِاسْتِقْلَالُ
بِهَذَا الْمُهِمِّ إِذَا دَعَتِ الْحَاجَةُ إِلَيْهِ، وَلَا
يَتَأَتَّى ذَلِكَ مِنَ العبد أصلا فلذلك ردت الشهادة.
__________
(1). من ج، ط، ز.
(2). من ج، ط والنحاس.
(3). في ج: فتستوي.
(5/414)
يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ
الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي
أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ
وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ
فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا (136)
[سورة النساء (4): آية 136]
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ
وَالْكِتابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلى رَسُولِهِ وَالْكِتابِ
الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ
وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ
فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً (136)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا)
الْآيَةُ. نَزَلَتْ فِي جَمِيعِ الْمُؤْمِنِينَ، وَالْمَعْنَى:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ صَدَّقُوا أَقِيمُوا عَلَى
تَصْدِيقِكُمْ وَاثْبُتُوا عَلَيْهِ. (وَالْكِتابِ الَّذِي
نَزَّلَ عَلى رَسُولِهِ) أَيِ الْقُرْآنُ. (وَالْكِتابِ
الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ) أَيْ كُلُّ كِتَابٍ أَنْزَلَ
عَلَى النَّبِيِّينَ. وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو
وَابْنُ عَامِرٍ (نُزِّلَ) وَ (أُنْزِلَ) بِالضَّمِّ.
الْبَاقُونَ (نَزَّلَ) وَ (أَنْزَلَ) بِالْفَتْحِ. وَقِيلَ:
نَزَلَتْ فِيمَنْ آمَنَ بِمَنْ تَقَدَّمَ مُحَمَّدًا صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ عليهم السلام.
قيل: إِنَّهُ خِطَابٌ لِلْمُنَافِقِينَ، وَالْمَعْنَى عَلَى
هَذَا يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا فِي الظَّاهِرِ
أَخْلِصُوا لِلَّهِ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ الْمُشْرِكُونَ،
وَالْمَعْنَى يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّاتِ
وَالْعُزَّى وَالطَّاغُوتِ آمِنُوا بِاللَّهِ، أَيْ صدقوا
بالله وبكتبه.
[سورة النساء (4): آية 137]
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ
كَفَرُوا ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً لَمْ يَكُنِ اللَّهُ
لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلاً (137)
قِيلَ: الْمَعْنَى آمَنُوا بِمُوسَى وَكَفَرُوا بِعُزَيْرٍ،
ثُمَّ آمَنُوا بِعُزَيْرٍ ثُمَّ كَفَرُوا بِعِيسَى، ثُمَّ
ازْدَادُوا كُفْرًا بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ. وَقِيلَ: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا بِمُوسَى ثُمَّ
آمَنُوا بِعُزَيْرٍ، ثُمَّ كَفَرُوا بَعْدَ عُزَيْرٍ
بِالْمَسِيحِ، وَكَفَرَتِ النَّصَارَى بِمَا جَاءَ بِهِ مُوسَى
وَآمَنُوا بِعِيسَى، ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا بِمُحَمَّدٍ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَا جَاءَ بِهِ مِنَ
الْقُرْآنِ. فَإِنْ قِيلَ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا
يَغْفِرُ شَيْئًا مِنَ الْكُفْرِ فَكَيْفَ قَالَ: (إِنَّ
الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ
كَفَرُوا ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً لَمْ يَكُنِ اللَّهُ
لِيَغْفِرَ لَهُمْ) فَالْجَوَابُ أَنَّ الْكَافِرَ إِذَا آمَنَ
غُفِرَ لَهُ كُفْرُهُ، فَإِذَا رَجَعَ فَكَفَرَ لَمْ يُغْفَرْ
لَهُ الْكُفْرُ الْأَوَّلُ، وَهَذَا كَمَا جَاءَ فِي صَحِيحِ
مُسْلِمٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: قَالَ أُنَاسٌ لِرَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
(5/415)
بَشِّرِ
الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (138)
[يَا رَسُولَ «1» اللَّهِ] أَنُؤَاخَذُ
بِمَا عَمِلْنَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ؟ قَالَ: (أَمَّا مَنْ
أَحْسَنَ مِنْكُمْ فِي الْإِسْلَامِ فَلَا يُؤَاخَذُ بِهَا
وَمَنْ أَسَاءَ أُخِذَ بِعَمَلِهِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ
وَالْإِسْلَامِ (. وَفِي رِوَايَةٍ (وَمَنْ أَسَاءَ فِي
الْإِسْلَامِ أُخِذَ بِالْأَوَّلِ وَالْآخِرِ). الْإِسَاءَةُ
هُنَا بِمَعْنَى الْكُفْرِ، إِذْ لَا يَصِحُّ أَنْ يُرَادَ
بِهَا [هُنَا «2»] ارْتِكَابُ سَيِّئَةٍ، فَإِنَّهُ يَلْزَمُ
عَلَيْهِ أَلَّا يَهْدِمَ الْإِسْلَامُ مَا سَبَقَ قَبْلَهُ
إِلَّا لِمَنْ يُعْصَمُ مِنْ جَمِيعِ السَّيِّئَاتِ إِلَّا
حِينَ مَوْتِهِ، وَذَلِكَ بَاطِلٌ بِالْإِجْمَاعِ. وَمَعْنَى:
(ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً) أَصَرُّوا عَلَى الْكُفْرِ. (لَمْ
يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ)
يُرْشِدَهُمْ. (سَبِيلًا) طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ. وَقِيلَ:
لَا يَخُصُّهُمْ بِالتَّوْفِيقِ كَمَا يَخُصُّ أَوْلِيَاءَهُ.
وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ رَدٌّ عَلَى أَهْلِ الْقَدَرِ، فَإِنَّ
اللَّهَ تَعَالَى بَيَّنَ أَنَّهُ لَا يَهْدِي الْكَافِرِينَ
طَرِيقَ خَيْرٍ لِيَعْلَمَ الْعَبْدُ أَنَّهُ إِنَّمَا يَنَالُ
الْهُدَى بِاللَّهِ تَعَالَى، وَيُحْرَمُ الْهُدَى بِإِرَادَةِ
اللَّهِ تَعَالَى أَيْضًا. وَتَضَمَّنَتِ الْآيَةُ أَيْضًا
حُكْمَ الْمُرْتَدِّينَ، وَقَدْ مَضَى الْقَوْلُ فِيهِمْ فِي
(الْبَقَرَةِ «3») عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: (وَمَنْ
يَرْتَدِدْ «4» مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ
كافِرٌ).
[سورة النساء (4): آية 138]
بَشِّرِ الْمُنافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً (138)
التَّبْشِيرُ الْإِخْبَارُ بِمَا ظَهَرَ أَثَرُهُ عَلَى
الْبَشَرَةِ، وَقَدْ تقدم بيانه في (البقرة «5») ومعنى النفاق.
[سورة النساء (4): آية 139]
الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ
الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ
الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً (139)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكافِرِينَ
أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ) (الَّذِينَ) نَعْتٌ
لِلْمُنَافِقِينَ. وَفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مَنْ
عَمِلَ مَعْصِيَةً مِنَ الْمُوَحِّدِينَ لَيْسَ بِمُنَافِقٍ،
لِأَنَّهُ لَا يَتَوَلَّى الْكُفَّارَ. وَتَضَمَّنَتِ
الْمَنْعَ مِنْ مُوَالَاةِ الْكَافِرِ، وَأَنْ يُتَّخَذُوا
أَعْوَانًا عَلَى الْأَعْمَالِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالدِّينِ.
وَفِي الصَّحِيحِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ
رَجُلًا مِنَ الْمُشْرِكِينَ لَحِقَ بِالنَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُقَاتِلُ مَعَهُ، فَقَالَ لَهُ:
(ارْجِعْ فَإِنَّا لَا نَسْتَعِينُ بِمُشْرِكٍ). (الْعِزَّةَ)
أَيِ الْغَلَبَةُ، عَزَّهُ يعزه
__________
(1). الزيادة عن صحيح مسلم وط.
(2). من ج وط.
(3). راجع ج 3 ص 47. [ ..... ]
(4). بفك الإدغام قراءة نافع. راجع ج 3 ص 40.
(5). راجع ج 1 ص 198، 238
(5/416)
وَقَدْ نَزَّلَ
عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ
اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا
مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ
إِذًا مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ
وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا (140) الَّذِينَ
يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ
اللَّهِ قَالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَإِنْ كَانَ
لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ
عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَاللَّهُ
يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَنْ يَجْعَلَ
اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا (141)
عِزًّا إِذَا غَلَبَهُ. (فَإِنَّ
الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً) أَيِ الْغَلَبَةُ وَالْقُوَّةُ
لِلَّهِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: (يَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ) يريد
عند بَنِي قَيْنُقَاعَ، فَإِنَّ ابْنَ أُبَيٍّ كَانَ
يُوَالِيهِمْ.
[سورة النساء (4): الآيات 140 الى 141]
وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ أَنْ إِذا سَمِعْتُمْ
آياتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِها وَيُسْتَهْزَأُ بِها فَلا
تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ
إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جامِعُ
الْمُنافِقِينَ وَالْكافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً (140)
الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كانَ لَكُمْ فَتْحٌ
مِنَ اللَّهِ قالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَإِنْ كانَ
لِلْكافِرِينَ نَصِيبٌ قالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ
وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَاللَّهُ يَحْكُمُ
بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ
لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً (141)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ
أَنْ إِذا سَمِعْتُمْ آياتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِها
وَيُسْتَهْزَأُ بِها) الْخِطَابُ لِجَمِيعِ مَنْ أَظْهَرَ
الْإِيمَانَ مِنْ مُحِقٍّ وَمُنَافِقٍ، لِأَنَّهُ إِذَا
أَظْهَرَ الْإِيمَانَ فَقَدْ لَزِمَهُ أَنْ يَمْتَثِلَ
أَوَامِرَ كِتَابِ اللَّهِ. فَالْمُنَزَّلُ قَوْلُهُ تَعَالَى:
(وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا فَأَعْرِضْ
عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ «1»). وكان
المنافقين يَجْلِسُونَ إِلَى أَحْبَارِ الْيَهُودِ
فَيَسْخَرُونَ مِنَ الْقُرْآنِ. وَقَرَأَ عَاصِمٌ وَيَعْقُوبُ
(وَقَدْ نَزَّلَ) بِفَتْحِ النُّونِ وَالزَّايِ وَشَدِّهَا،
لِتَقَدُّمِ اسْمِ اللَّهِ جَلَّ جَلَالُهُ فِي قَوْلِهِ
تَعَالَى: (فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً). وَقَرَأَ
حُمَيْدٌ كَذَلِكَ، إِلَّا أَنَّهُ خَفَّفَ الزَّايَ.
الْبَاقُونَ (نُزِّلَ) غَيْرُ مُسَمَّى الْفَاعِلِ. (أَنْ إِذا
سَمِعْتُمْ آياتِ اللَّهِ) مَوْضِعُ (أَنْ إِذا سَمِعْتُمْ)
عَلَى قِرَاءَةِ عَاصِمٍ وَيَعْقُوبَ نَصْبٌ بِوُقُوعِ
الْفِعْلِ عَلَيْهِ. وَفِي قِرَاءَةِ الْبَاقِينَ رَفْعٌ،
لِكَوْنِهِ اسْمَ مَا لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ. (يُكْفَرُ بِها)
أَيْ إِذَا سَمِعْتُمُ الْكُفْرَ وَالِاسْتِهْزَاءَ بِآيَاتِ
اللَّهِ، فَأَوْقَعَ السماع
__________
(1). راجع ج 7 ص 12
(5/417)
عَلَى الْآيَاتِ، وَالْمُرَادُ سَمَاعُ
الْكُفْرِ وَالِاسْتِهْزَاءِ، كَمَا تَقُولُ: سَمِعْتُ عَبْدَ
اللَّهِ يُلَامُ، أَيْ سَمِعْتُ اللَّوْمَ فِي عَبْدِ اللَّهِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: (فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى
يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ) أَيْ غَيْرِ الْكُفْرِ.
(إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ) فَدَلَّ بِهَذَا عَلَى وُجُوبِ
اجْتِنَابِ أَصْحَابِ الْمَعَاصِي إِذَا ظَهَرَ مِنْهُمْ
مُنْكَرٌ، لِأَنَّ مَنْ لَمْ يَجْتَنِبْهُمْ فَقَدْ رَضِيَ
فِعْلَهُمْ، وَالرِّضَا بِالْكُفْرِ كُفْرٌ، قَالَ اللَّهُ
عَزَّ وَجَلَّ: (إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ). فَكُلُّ مَنْ
جَلَسَ فِي مَجْلِسِ «1» مَعْصِيَةٍ وَلَمْ يُنْكِرْ
عَلَيْهِمْ يَكُونُ مَعَهُمْ فِي الْوِزْرِ سَوَاءً،
وَيَنْبَغِي أَنْ يُنْكِرَ عَلَيْهِمْ إِذَا تَكَلَّمُوا
بِالْمَعْصِيَةِ وَعَمِلُوا بِهَا، فَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى
النَّكِيرِ عَلَيْهِمْ فَيَنْبَغِي أَنْ يَقُومَ عَنْهُمْ
حَتَّى لَا يَكُونَ مِنْ أَهْلِ هَذِهِ الْآيَةِ. وَقَدْ
رُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ [رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ «2»] أَنَّهُ أَخَذَ قَوْمًا يَشْرَبُونَ الْخَمْرَ،
فَقِيلَ لَهُ عَنْ أَحَدِ الْحَاضِرِينَ: إِنَّهُ صَائِمٌ،
فَحَمَلَ عَلَيْهِ الْأَدَبَ وَقَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ
(إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ) أَيْ إِنَّ الرِّضَا
بِالْمَعْصِيَةِ مَعْصِيَةٌ، وَلِهَذَا يُؤَاخَذُ الْفَاعِلُ
وَالرَّاضِي بِعُقُوبَةِ الْمَعَاصِي حَتَّى يَهْلَكُوا
بِأَجْمَعِهِمْ. وَهَذِهِ الْمُمَاثَلَةُ لَيْسَتْ فِي جَمِيعِ
الصِّفَاتِ، وَلَكِنَّهُ إِلْزَامٌ شُبِّهَ بِحُكْمِ
الظَّاهِرِ مِنَ الْمُقَارَنَةِ، كَمَا قَالَ:
فَكُلُّ قَرِينٍ بِالْمُقَارِنِ يَقْتَدِي
وَقَدْ تَقَدَّمَ «3». وَإِذَا ثَبَتَ تَجَنُّبُ أَصْحَابِ
الْمَعَاصِي كَمَا بَيَّنَّا فَتَجَنُّبُ أَهْلِ الْبِدَعِ
وَالْأَهْوَاءِ أَوْلَى. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: قَوْلُهُ
تَعَالَى (فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي
حَدِيثٍ غَيْرِهِ) نُسِخَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: (وَما عَلَى
الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ «4»).
وَقَالَ عَامَّةُ الْمُفَسِّرِينَ: هِيَ مُحْكَمَةٌ. وَرَوَى
جُوَيْبِرٌ عَنِ الضَّحَّاكِ قَالَ: دَخَلَ فِي هَذِهِ
الْآيَةِ كُلُّ مُحْدِثٍ فِي الدِّينِ مُبْتَدِعٌ إِلَى يَوْمِ
الْقِيَامَةِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: (إِنَّ اللَّهَ جامِعُ
الْمُنافِقِينَ) الْأَصْلُ (جَامِعٌ) بِالتَّنْوِينِ فَحُذِفَ
اسْتِخْفَافًا، فَإِنَّهُ بِمَعْنَى يَجْمَعُ. (الَّذِينَ
يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ) يَعْنِي الْمُنَافِقِينَ، أَيْ ينتظرون
بكم الدوائر.
__________
(1). في ج: موضع.
(2). من ج وط.
(3). راجع ص 194 من هذا الجزء.
(4). راجع ج 6 ص 431
(5/418)
(فَإِنْ كانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ)
أَيْ غَلَبَةٌ عَلَى الْيَهُودِ وَغَنِيمَةٌ. (قالُوا أَلَمْ
نَكُنْ مَعَكُمْ) أَيْ أَعْطُونَا مِنَ الْغَنِيمَةِ. (وَإِنْ
كانَ لِلْكافِرِينَ نَصِيبٌ) أَيْ ظَفَرٌ. (قالُوا أَلَمْ
نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ) أَيْ أَلَمْ نَغْلِبْ عَلَيْكُمْ
حَتَّى هَابَكُمُ الْمُسْلِمُونَ وَخَذَلْنَاهُمْ عَنْكُمْ.
يُقَالُ: اسْتَحْوَذَ عَلَى كَذَا أَيْ غَلَبَ عَلَيْهِ،
وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: (اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ
الشَّيْطانُ) «1». وَقِيلَ: أَصْلُ الِاسْتِحْوَاذِ الْحَوْطُ،
حَاذَهُ يَحُوذُهُ حَوْذًا إِذَا حَاطَهُ. وَهَذَا الْفِعْلُ
جَاءَ عَلَى الْأَصْلِ، وَلَوْ أُعِلَّ لَكَانَ أَلَمْ
نَسْتَحِذْ، وَالْفِعْلُ عَلَى الْإِعْلَالِ اسْتَحَاذَ
يَسْتَحِيذُ، وَعَلَى غَيْرِ الْإِعْلَالِ اسْتَحْوَذَ
يَسْتَحْوِذُ. (وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) أَيْ
بِتَخْذِيلِنَا إِيَّاهُمْ عَنْكُمْ، وَتَفْرِيقِنَا
إِيَّاهُمْ مِمَّا يُرِيدُونَهُ مِنْكُمْ. وَالْآيَةُ تَدُلُّ
عَلَى أَنَّ الْمُنَافِقِينَ [كَانُوا يَخْرُجُونَ فِي
الْغَزَوَاتِ مَعَ الْمُسْلِمِينَ وَلِهَذَا قَالُوا: أَلَمْ
نَكُنْ مَعَكُمْ؟ وَتَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ «2»] كَانُوا لَا
يُعْطُونَهُمُ الْغَنِيمَةَ وَلِهَذَا طَلَبُوهَا وَقَالُوا:
أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ! وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدُوا
بِقَوْلِهِمْ (أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ) الِامْتِنَانَ عَلَى
الْمُسْلِمِينَ. أَيْ كُنَّا نُعْلِمُكُمْ بِأَخْبَارِهِمْ
وَكُنَّا أَنْصَارًا لَكُمْ. قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَلَنْ
يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ
سَبِيلًا) فِيهِ ثَلَاثُ مَسَائِلَ: الْأُولَى- قَوْلُهُ
تَعَالَى: (وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى
الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا) لِلْعُلَمَاءِ فِيهِ تَأْوِيلَاتٌ
خَمْسٌ: أَحَدُهَا- مَا رُوِيَ عَنْ يُسَيْعَ «3»
الْحَضْرَمِيِّ قَالَ: كُنْتُ عِنْدَ عَلِيِّ [بْنِ أَبِي
طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ «4»] فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ يَا
أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، أَرَأَيْتَ قَوْلَ اللَّهِ: (وَلَنْ
يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ
سَبِيلًا) كَيْفَ ذَلِكَ، وَهُمْ يُقَاتِلُونَنَا
وَيَظْهَرُونَ عَلَيْنَا أَحْيَانًا! فَقَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ: مَعْنَى ذَلِكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَوْمَ
الْحُكْمِ. وَكَذَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: ذَاكَ يَوْمُ
الْقِيَامَةِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَبِهَذَا قَالَ جَمِيعُ
أَهْلِ التَّأْوِيلِ. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَهَذَا
ضَعِيفٌ: لِعَدَمِ فَائِدَةِ الْخَبَرِ فِيهِ، وإن أو هم
صَدْرُ الْكَلَامِ مَعْنَاهُ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: فَاللَّهُ
يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَأَخَّرَ الْحُكْمَ
إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَجَعَلَ الْأَمْرَ فِي الدُّنْيَا
دُوَلًا تَغْلِبُ الكفار تارة وتغلب أخرى،
__________
(1). راجع ج 17 ص 305.
(2). من ى وط وج.
(3). كذا في ج وفي اوط وى وابن عطية يثيع، وفي التهذيب: يسيع-
بالتصغير ابن معدان إلخ ويقال فيه: أسيع، وفى القاموس وشرحه:
(أثيع) كزبير أو (يثيع) يقلب الهمزياء.
(4). من ج وط.
(5/419)
بِمَا رَأَى مِنَ الْحِكْمَةِ وَسَبَقَ
مِنَ الْكَلِمَةِ. ثُمَّ قَالَ: (وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ
لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا) فَتَوَهَّمَ
مَنْ تَوَهَّمَ أَنَّ آخِرَ الْكَلَامِ يَرْجِعُ إِلَى
أَوَّلِهِ، وَذَلِكَ يُسْقِطُ فَائِدَتَهُ، إِذْ يَكُونُ
تَكْرَارًا. الثَّانِي- إِنَّ اللَّهَ لَا يَجْعَلُ لَهُمْ
سَبِيلًا يَمْحُو بِهِ دَوْلَةَ الْمُؤْمِنِينَ، ويذهب ءاثارهم
وَيَسْتَبِيحُ بَيْضَتَهُمْ، كَمَا جَاءَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ
مِنْ حَدِيثِ ثَوْبَانَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (وَإِنِّي سَأَلْتُ رَبِّي أَلَّا
يُهْلِكَهَا بِسَنَةٍ عَامَّةٍ وَأَلَّا يُسَلَّطَ عَلَيْهِمْ
عَدُوًّا مِنْ سِوَى أَنْفُسِهِمْ فَيَسْتَبِيحُ بَيْضَتَهُمْ
وَإِنَّ رَبِّي قَالَ يَا مُحَمَّدُ إِنِّي إِذَا قَضَيْتُ
قَضَاءً فَإِنَّهُ لَا يُرَدُّ وَإِنِّي قَدْ أَعْطَيْتُكَ
لِأُمَّتِكَ أَلَّا أُهْلِكَهُمْ بِسَنَةٍ عَامَّةٍ وَأَلَّا
أُسَلِّطَ عَلَيْهِمْ عَدُوًّا مِنْ سِوَى أَنْفُسِهِمْ
فَيَسْتَبِيحُ بَيْضَتَهُمْ وَلَوِ اجْتَمَعَ عَلَيْهِمْ مَنْ
بِأَقْطَارِهَا حَتَّى يَكُونَ بَعْضُهُمْ يُهْلِكُ بَعْضًا
وَيَسْبِي بَعْضُهُمْ بَعْضًا (. الثَّالِثُ- إِنَّ اللَّهَ
سُبْحَانَهُ لَا يَجْعَلُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ
سَبِيلًا [مِنْهُ «1»] إِلَّا أَنْ يَتَوَاصَوْا بِالْبَاطِلِ
وَلَا يَتَنَاهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَيَتَقَاعَدُوا عَنِ
التَّوْبَةِ فَيَكُونُ تَسْلِيطُ الْعَدُوِّ مِنْ قِبَلِهِمْ،
كَمَا قَالَ تَعَالَى: (وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما
كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ «2»). قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَهَذَا
نَفِيسٌ «3» جِدًّا. قُلْتُ: وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ
عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي حَدِيثِ ثَوْبَانَ (حَتَّى يَكُونَ
بَعْضُهُمْ يُهْلِكُ بَعْضًا وَيَسْبِي بَعْضُهُمْ بَعْضًا)
وَذَلِكَ أَنَّ (حَتَّى) غَايَةٌ، فَيَقْتَضِي ظَاهِرُ
الْكَلَامِ أَنَّهُ لَا يُسَلِّطُ عَلَيْهِمْ عَدُوَّهُمْ
فَيَسْتَبِيحُهُمْ إِلَّا إِذَا كَانَ مِنْهُمْ إِهْلَاكُ
بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ، وَسَبْيُ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ، وَقَدْ
وُجِدَ ذَلِكَ فِي هَذِهِ الْأَزْمَانِ بِالْفِتَنِ
الْوَاقِعَةِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، فَغَلُظَتْ شَوْكَةُ
الْكَافِرِينَ وَاسْتَوْلَوْا عَلَى بِلَادِ الْمُسْلِمِينَ
حَتَّى لَمْ يَبْقَ مِنَ الْإِسْلَامِ إِلَّا أَقَلُّهُ،
فَنَسْأَلُ اللَّهَ أَنْ يَتَدَارَكَنَا بِعَفْوِهِ وَنَصْرِهِ
وَلُطْفِهِ. الرَّابِعُ- إِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ لَا
يَجْعَلُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا
شَرْعًا، فَإِنْ وُجِدَ فَبِخِلَافِ الشَّرْعِ. الْخَامِسُ-
(وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ
سَبِيلًا) أَيْ حُجَّةً عَقْلِيَّةً وَلَا شَرْعِيَّةً
يستظهرون بها إلا أبطلها ودحضت.
__________
(1). من ج وى.
(2). راجع ج 16 ص 30.
(3). في ج: بين. [ ..... ]
(5/420)
الثَّانِيةُ- ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَنَزَعَ
عُلَمَاؤُنَا بِهَذِهِ الْآيَةِ فِي الِاحْتِجَاجِ عَلَى أَنَّ
الْكَافِرَ لَا يَمْلِكُ الْعَبْدَ الْمُسْلِمَ. وَبِهِ قَالَ
أَشْهَبُ وَالشَّافِعِيُّ: لِأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ نَفَى
السَّبِيلَ لِلْكَافِرِ عَلَيْهِ، [وَالْمِلْكُ «1»
[بِالشِّرَاءِ سَبِيلٌ، فَلَا يُشْرَعُ لَهُ وَلَا يَنْعَقِدُ
الْعَقْدُ بِذَلِكَ. وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ،
وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ: إِنَّ مَعْنَى (وَلَنْ
يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ
سَبِيلًا) فِي دَوَامِ الْمِلْكِ، لِأَنَّا نَجِدُ
الِابْتِدَاءَ يَكُونُ لَهُ [عَلَيْهِ «2» [وَذَلِكَ
بِالْإِرْثِ. وَصُورَتُهُ أَنْ يُسْلِمَ عَبْدٌ كَافِرٌ فِي
يَدِ كَافِرٍ فَيَلْزَمُ الْقَضَاءَ عَلَيْهِ بِبَيْعِهِ،
فَقَبْلَ الْحُكْمِ عَلَيْهِ بِبَيْعِهِ مَاتَ، فَيَرِثُ العبد
المسلم [وارث «3» [الكافر. فهده سَبِيلٌ قَدْ ثَبَتَ «4»
قَهْرًا لَا قَصْدَ فِيهِ، وَإِنْ مَلَكَ الشِّرَاءَ ثَبَتَ
بِقَصْدِ النِّيَّةِ، فَقَدْ أَرَادَ الْكَافِرُ تَمَلُّكَهُ
بِاخْتِيَارِهِ، فَإِنْ حُكِمَ بِعَقْدِ بَيْعِهِ وَثُبُوتِ
مِلْكِهِ فَقَدْ حُقِّقَ فِيهِ قَصْدُهُ، وَجُعِلَ لَهُ
سَبِيلٌ عَلَيْهِ. قَالَ أَبُو عُمَرَ: وَقَدْ أَجْمَعَ
الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّ عِتْقَ النَّصْرَانِيِّ أَوِ
الْيَهُودِيِّ لِعَبْدِهِ الْمُسْلِمِ صَحِيحٌ نَافِذٌ
عَلَيْهِ. وَأَجْمَعُوا أَنَّهُ إِذَا أَسْلَمَ عَبْدُ
الْكَافِرِ فَبِيعَ عَلَيْهِ أَنَّ ثَمَنَهُ يُدْفَعُ
إِلَيْهِ. فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ عَلَى مِلْكِهِ بِيعَ وَعَلَى
مِلْكِهِ ثَبَتَ الْعِتْقُ لَهُ، إِلَّا أَنَّهُ مِلْكٌ غَيْرُ
مُسْتَقِرٍّ لِوُجُوبِ بَيْعِهِ عَلَيْهِ، وَذَلِكَ وَاللَّهُ
أَعْلَمُ لِقَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: (وَلَنْ يَجْعَلَ
اللَّهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا) يُرِيدُ
الِاسْتِرْقَاقَ وَالْمِلْكَ وَالْعُبُودِيَّةَ مِلْكًا
مُسْتَقِرًّا دَائِمًا. وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي شِرَاءِ
الْعَبْدِ الْكَافِرِ الْعَبْدَ الْمُسْلِمَ عَلَى قَوْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا- الْبَيْعُ مَفْسُوخٌ. وَالثَّانِي- الْبَيْعُ
صَحِيحٌ وَيُبَاعُ عَلَى الْمُشْتَرِي. الثَّالِثَةُ-
وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ أَيْضًا مِنْ هَذَا الْبَابِ فِي
رَجُلٍ نَصْرَانِيٍّ دَبَّرَ عَبْدًا لَهُ نَصْرَانِيًّا
فَأَسْلَمَ الْعَبْدُ، فَقَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ فِي
أَحَدِ قَوْلَيْهِ: يُحَالُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْعَبْدِ،
وَيُخَارَجُ عَلَى سَيِّدِهِ النَّصْرَانِيِّ، وَلَا يُبَاعُ
عَلَيْهِ حَتَّى يُتَبَيَّنَ أَمْرُهُ. فَإِنْ هَلَكَ
النَّصْرَانِيُّ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ قُضِيَ دَيْنُهُ مِنْ
ثَمَنِ الْعَبْدِ الْمُدَبَّرِ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ فِي
مَالِهِ مَا يَحْمِلُ الْمُدَبَّرَ فَيَعْتِقُ الْمُدَبَّرَ.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ فِي الْقَوْلِ الْآخَرِ: إِنَّهُ
يُبَاعُ عَلَيْهِ سَاعَةَ أَسْلَمَ، وَاخْتَارَهُ
الْمُزَنِيُّ، لِأَنَّ الْمُدَبَّرَ وَصِيَّةٌ وَلَا يَجُوزُ
تَرْكُ مُسْلِمٍ
__________
(1). من ط وى.
(2). من ط وى.
(3). زيادة عن ابن العربي.
(4). في ط: ثبتت. والسبيل تذكر وتؤنث وتأنيثها أفصح.
(5/421)
إِنَّ الْمُنَافِقِينَ
يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا
إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا
يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا (142)
فِي مِلْكِ «1» مُشْرِكٍ يُذِلُّهُ
وَيُخَارِجُهُ، وَقَدْ صَارَ بِالْإِسْلَامِ عَدُوًّا لَهُ.
وَقَالَ اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ: يُبَاعُ النَّصْرَانِيُّ مِنْ
مُسْلِمٍ فَيُعْتِقُهُ، وَيَكُونُ وَلَاؤُهُ لِلَّذِي
اشْتَرَاهُ وَأَعْتَقَهُ، وَيُدْفَعُ إِلَى النَّصْرَانِيِّ
ثَمَنُهُ. وَقَالَ سُفْيَانُ وَالْكُوفِيُّونَ: إِذَا أَسْلَمَ
مُدَبَّرُ النَّصْرَانِيِّ قُوِّمَ قِيمَتَهُ فَيُسْعَى فِي
قِيمَتِهِ، فَإِنْ مَاتَ النَّصْرَانِيُّ قَبْلَ أَنْ يَفْرُغَ
الْمُدَبَّرُ مِنْ سِعَايَتِهِ عتق العبد وبطلت السعاية.
[سورة النساء (4): آية 142]
إِنَّ الْمُنافِقِينَ يُخادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خادِعُهُمْ
وَإِذا قامُوا إِلَى الصَّلاةِ قامُوا كُسالى يُراؤُنَ
النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلاَّ قَلِيلاً (142)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (إِنَّ الْمُنافِقِينَ يُخادِعُونَ اللَّهَ
وَهُوَ خادِعُهُمْ)
قَدْ مَضَى فِي (الْبَقَرَةِ) مَعْنَى الْخَدْعِ «2».
وَالْخِدَاعُ مِنَ اللَّهِ مُجَازَاتُهُمْ «3» عَلَى
خِدَاعِهِمْ أَوْلِيَاءَهُ وَرُسُلَهُ. قَالَ الْحَسَنُ:
يُعْطَى كُلُّ إِنْسَانٍ مِنْ مُؤْمِنٍ ومنافق نور يوم القيامة
فيفرج الْمُنَافِقُونَ وَيَظُنُّونَ أَنَّهُمْ قَدْ نَجَوْا،
فَإِذَا جَاءُوا إِلَى الصِّرَاطِ طُفِئَ نُورُ كُلِّ
مُنَافِقٍ، فَذَلِكَ قَوْلُهُمْ: (انْظُرُونا نَقْتَبِسْ مِنْ
نُورِكُمْ «4»). قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَإِذا قامُوا إِلَى
الصَّلاةِ قامُوا كُسالى)
أَيْ يُصَلُّونَ مُرَاءَاةً وَهُمْ مُتَكَاسِلُونَ
مُتَثَاقِلُونَ، لَا يَرْجُونَ ثوابا ولا يعتقدون على
تَرْكَهَا عِقَابًا. وَفِي صَحِيحِ الْحَدِيثِ: (إِنَّ
أَثْقَلَ صَلَاةٍ عَلَى الْمُنَافِقِينَ الْعَتَمَةُ
وَالصُّبْحُ). فَإِنَّ الْعَتَمَةَ تَأْتِي وَقَدْ
أَتْعَبَهُمْ «5» عَمَلُ النَّهَارِ فَيَثْقُلُ عَلَيْهِمْ
الْقِيَامُ إِلَيْهَا، وَصَلَاةُ الصُّبْحِ تَأْتِي
وَالنَّوْمُ أَحَبُّ إِلَيْهِمْ مِنْ مَفْرُوحٍ بِهِ،
وَلَوْلَا السَّيْفُ مَا قَامُوا. وَالرِّيَاءُ: إِظْهَارُ
الْجَمِيلِ لِيَرَاهُ النَّاسُ، لَا لِاتِّبَاعِ أَمْرِ
اللَّهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهُ «6». ثُمَّ وَصَفَهُمْ
بِقِلَّةِ الذِّكْرِ عِنْدَ الْمُرَاءَاةِ وَعِنْدَ الْخَوْفِ.
وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَامًّا لِمَنْ
أَخَّرَ الصَّلَاةَ: (تِلْكَ صَلَاةُ الْمُنَافِقِينَ-
ثَلَاثًا- يَجْلِسُ أَحَدُهُمْ يَرْقُبُ الشَّمْسَ حَتَّى
إِذَا كَانَتْ بَيْنَ قَرْنَيِ الشيطان- أوعلى قَرْنَيِ
الشَّيْطَانِ قَامَ فَنَقَرَ أَرْبَعًا لَا يَذْكُرُ اللَّهَ
فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا) رَوَاهُ مَالِكٌ وَغَيْرُهُ. فَقِيلَ:
وَصَفَهُمْ بِقِلَّةِ الذِّكْرِ لِأَنَّهُمْ كَانُوا لَا
يَذْكُرُونَ اللَّهَ بِقِرَاءَةٍ وَلَا تَسْبِيحٍ، وَإِنَّمَا
كَانُوا يَذْكُرُونَهُ بِالتَّكْبِيرِ. وَقِيلَ: وَصَفَهُ
بِالْقِلَّةِ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يَقْبَلُهُ.
وَقِيلَ: لِعَدَمِ الْإِخْلَاصِ فِيهِ. وهنا مسألتان:
__________
(1). كذا في ج وط وى وز. وفي اوح: يد.
(2). راجع ج 1 ص 195.
(3). في ج: مجازاته.
(4). راجع ج 17 ص 245 ففيه بحث.
(5). في ج وط وى: أنصبهم.
(6). راج ج 3 ص 312
(5/422)
الْأُولَى- بَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى فِي
هَذِهِ الْآيَةِ صَلَاةَ الْمُنَافِقِينَ، وَبَيَّنَهَا
رَسُولُهُ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
فَمَنْ صَلَّى كَصَلَاتِهِمْ وَذَكَرَ كَذِكْرِهِمْ لَحِقَ
بِهِمْ فِي عَدَمِ الْقَبُولِ، وَخَرَجَ مِنْ مُقْتَضَى
قَوْلِهِ تَعَالَى: (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ. الَّذِينَ
هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ «1»). وَسَيَأْتِي. اللَّهُمَّ
إِلَّا أَنْ يَكُونَ لَهُ عُذْرٌ فَيُقْتَصَرُ عَلَى الْفَرْضِ
«2» حَسَبَ مَا عَلَّمَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ لِلْأَعْرَابِيِّ حِينَ رَآهُ أَخَلَّ بِالصَّلَاةِ
فَقَالَ لَهُ: (إِذَا قُمْتَ إِلَى الصَّلَاةِ فَأَسْبِغِ
الْوُضُوءَ ثم استقبل القبلة فكبر ثُمَّ اقْرَأْ مَا تَيَسَّرَ
مَعَكَ مِنَ الْقُرْآنِ ثُمَّ ارْكَعْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ
رَاكِعًا ثُمَّ ارْفَعْ حَتَّى تَعْتَدِلَ قَائِمًا ثُمَّ
اسْجُدْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ سَاجِدًا ثُمَّ ارْفَعْ حَتَّى
تَطْمَئِنَّ جَالِسًا ثُمَّ افْعَلْ ذَلِكَ فِي صَلَاتِكَ
كُلِّهَا (. رَوَاهُ الْأَئِمَّةُ. وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:) لَا صَلَاةَ لِمَنْ لَمْ يَقْرَأْ
بِأُمِّ الْقُرْآنِ (. وَقَالَ:) لَا تُجْزِئُ صَلَاةٌ لَا
يُقِيمُ الرَّجُلُ فِيهَا صُلْبَهُ. الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ
(. أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ
صَحِيحٌ، وَالْعَمَلُ عَلَى هَذَا عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ
مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَمَنْ بَعْدَهُمْ، يَرَوْنَ أَنْ يُقِيمَ الرَّجُلُ صُلْبَهُ
فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ. قَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ
وَإِسْحَاقُ: مَنْ لَا يُقِيمُ صُلْبَهُ فِي الرُّكُوعِ
وَالسُّجُودِ فَصَلَاتُهُ فَاسِدَةٌ، لِحَدِيثِ النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (لَا تُجْزِئُ صَلَاةٌ لَا
يُقِيمُ الرَّجُلُ فِيهَا صُلْبَهُ فِي الرُّكُوعِ
وَالسُّجُودِ). قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَذَهَبَ ابْنُ
الْقَاسِمِ وَأَبُو حَنِيفَةَ إِلَى أَنَّ الطُّمَأْنِينَةَ
لَيْسَتْ بِفَرْضٍ. وَهِيَ رِوَايَةٌ عِرَاقِيَّةٌ لَا
يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنَ الْمَالِكِيِّينَ أَنْ يَشْتَغِلَ
بِهَا. وَقَدْ مَضَى فِي (الْبَقَرَةِ «3») هَذَا الْمَعْنَى.
الثَّانِيةُ- قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: إِنَّ مَنْ صَلَّى
صَلَاةً لِيَرَاهَا النَّاسُ وَيَرَوْنَهُ فِيهَا
فَيَشْهَدُونَ لَهُ بِالْإِيمَانِ، أَوْ أَرَادَ طَلَبَ
الْمَنْزِلَةِ وَالظُّهُورَ لِقَبُولِ الشَّهَادَةِ وَجَوَازِ
الْإِمَامَةِ فَلَيْسَ ذَلِكَ بِالرِّيَاءِ الْمَنْهِيِّ
عَنْهُ، وَلَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ حَرَجٌ، وَإِنَّمَا الرِّيَاءُ
الْمَعْصِيَةُ أَنْ يُظْهِرَهَا صَيْدًا لِلنَّاسِ وَطَرِيقًا
إِلَى الْأَكْلِ، فَهَذِهِ نِيَّةٌ لَا تُجْزِئُ وَعَلَيْهِ
الْإِعَادَةُ.
__________
(1). راجع ج 12 ص 10.
(2). من ج وط وى. وفي أوح وز: الحسن.
(3). راجع ج 1 ص 170، وص 103 - 4 ج 12.
(5/423)
مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ
ذَلِكَ لَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَلَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَمَنْ
يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا (143)
قلت: قوله (وَأَرَادَ طَلَبَ الْمَنْزِلَةِ
وَالظُّهُورَ لِقَبُولِ. الشَّهَادَةِ) فِيهِ نَظَرٌ. وَقَدْ
تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي (النِّسَاءِ «1») فَتَأَمَّلْهُ
هُنَاكَ. وَدَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ الرِّيَاءَ
يَدْخُلُ الْفَرْضَ وَالنَّفْلَ، لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى:
(وَإِذا قامُوا إِلَى الصَّلاةِ قامُوا)
فَعَمَّ. وَقَالَ قَوْمٌ: إِنَّمَا يَدْخُلُ النَّفْلَ
خَاصَّةً، لِأَنَّ الْفَرْضَ وَاجِبٌ عَلَى جَمِيعِ النَّاسِ
وَالنَّفْلُ عُرْضَةٌ لِذَلِكَ. وَقِيلَ بِالْعَكْسِ،
لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَأْتِ بِالنَّوَافِلِ لَمْ يؤاخذ بها.
[سورة النساء (4): آية 143]
مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذلِكَ لَا إِلى هؤُلاءِ وَلا إِلى
هؤُلاءِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً
(143)
الْمُذَبْذَبُ: الْمُتَرَدِّدُ بَيْنَ أَمْرَيْنِ،
وَالذَّبْذَبَةُ الِاضْطِرَابُ. يُقَالُ: ذَبْذَبْتُهُ
فَتَذَبْذَبَ، وَمِنْهُ قَوْلُ النَّابِغَةُ:
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَعْطَاكَ سُورَةً ... تَرَى كُلَّ
مَلِكٍ دُونَهَا يَتَذَبْذَبُ
آخَرُ:
خَيَالٌ لِأُمِّ السَّلْسَبِيلِ وَدُونَهَا ... مَسِيرَةُ
شَهْرٍ لِلْبَرِيدِ الْمُذَبْذِبِ
كَذَا رُوِيَ بِكَسْرِ الذَّالِ الثَّانِيةِ. قَالَ ابْنُ
جِنِّي: أَيِ الْمُهْتَزِّ «2» الْقَلِقِ الَّذِي لَا يَثْبُتُ
وَلَا يَتَمَهَّلُ. فَهَؤُلَاءِ الْمُنَافِقُونَ
مُتَرَدِّدُونَ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُشْرِكِينَ، لَا
مُخْلِصِينَ الْإِيمَانَ وَلَا مُصَرِّحِينَ بِالْكُفْرِ.
وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ عَنِ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (مَثَلُ
الْمُنَافِقِ كَمَثَلِ الشَّاةِ الْعَائِرَةِ «3» بَيْنَ
الْغَنَمَيْنِ تَعِيرُ إِلَى هَذِهِ مَرَّةً وَإِلَى هَذِهِ
أُخْرَى) وَفِي رِوَايَةٍ (تَكِرُّ) بَدَلَ (تَعِيرُ).
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ (مُذَبْذَبِينَ) بِضَمِّ الْمِيمِ
وَفَتْحِ الذَّالَيْنِ. وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ بِكَسْرِ
الذَّالِ الثَّانِيةِ. وَفِي حَرْفِ أُبَيٍّ
(مُتَذَبْذِبِينَ). وَيَجُوزُ الْإِدْغَامُ عَلَى هَذِهِ
الْقِرَاءَةِ (مُذَّبْذِبِينَ) بِتَشْدِيدِ الذَّالِ الْأُولَى
وَكَسْرِ الثَّانِيةِ. وَعَنِ الْحَسَنِ (مَذَبْذَبِينَ)
بِفَتْحِ الميم والذالين.
__________
(1). راجع ص 180 فما بعد من هذا الجزء وص 212 ج 20. [ ..... ]
(2). في الأصول: الممتر. والتصحيح من ابن عطية وفى الراغب:
الذبذبة حكاية صوت الحركة للشيء المعلق ثم استعير لكل اضطراب
وحركة.
(3). العائرة: المترددة بين قطيعين لا تدرى أيهما تتبع.
(5/424)
يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ
مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا
لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا مُبِينًا (144)
[سورة النساء (4): آية 144]
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْكافِرِينَ
أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَنْ
تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً مُبِيناً (144)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا
تَتَّخِذُوا الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ) مَفْعُولَانِ، أَيْ لَا
تَجْعَلُوا خَاصَّتَكُمْ وَبِطَانَتَكُمْ مِنْهُمْ، وَقَدْ
تَقَدَّمَ «1» هَذَا الْمَعْنَى. (أَتُرِيدُونَ أَنْ
تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً مُبِيناً) أَيْ فِي
تَعْذِيبِهِ إِيَّاكُمْ بِإِقَامَتِهِ حُجَّتَهُ عَلَيْكُمْ
إِذْ قَدْ نَهَاكُمْ.
[سورة النساء (4): آية 145]
إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ
وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً (145)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (فِي الدَّرْكِ) قَرَأَ الْكُوفِيُّونَ
(الدَّرْكِ) بِإِسْكَانِ الرَّاءِ، وَالْأُولَى أَفْصَحُ،
لِأَنَّهُ يُقَالُ فِي الْجَمْعِ: أَدْرَاكٌ مِثْلَ جَمَلٍ
وَأَجْمَالٍ، قَالَهُ النَّحَّاسُ. وَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ:
هُمَا لُغَتَانِ كَالشَّمْعِ وَالشَّمَعِ وَنَحْوِهِ،
وَالْجَمْعُ أَدْرَاكٌ. وَقِيلَ: جَمْعُ الدَّرْكِ أَدْرُكٌ،
كَفَلْسٍ وَأَفْلُسٍ. وَالنَّارُ دَرَكَاتٌ سَبْعَةٌ، أَيْ
طَبَقَاتٌ وَمَنَازِلُ، إِلَّا أَنَّ اسْتِعْمَالَ الْعَرَبِ
لِكُلِّ مَا تَسَافَلَ أَدْرَاكٌ. يُقَالُ: لِلْبِئْرِ
أَدْرَاكٌ، وَلِمَا تَعَالَى دَرَجٌ، فَلِلْجَنَّةِ دَرَجٌ،
وَلِلنَّارِ أَدْرَاكٌ. وَقَدْ تَقَدَّمَ هَذَا «2».
فَالْمُنَافِقُ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ وَهِيَ
الْهَاوِيَةُ، لِغِلَظِ كُفْرِهِ وَكَثْرَةِ غَوَائِلِهِ
وَتَمَكُّنِهِ مِنْ أَذَى الْمُؤْمِنِينَ. وَأَعْلَى
الدَّرَكَاتِ جَهَنَّمُ ثُمَّ لَظَى ثُمَّ الْحُطَمَةُ ثُمَّ
السَّعِيرُ ثُمَّ سَقَرُ ثُمَّ الْجَحِيمُ ثُمَّ الْهَاوِيَةُ،
وَقَدْ يُسَمَّى جَمِيعُهَا بِاسْمِ الطَّبَقَةِ الْأُولَى،
أَعَاذَنَا اللَّهُ مِنْ عَذَابِهَا بِمَنِّهِ وَكَرَمِهِ.
وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: (فِي
الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ) قَالَ: تَوَابِيتُ مِنْ
حَدِيدٍ مُقْفَلَةٍ فِي النَّارِ تُقْفَلُ عَلَيْهِمْ. وَقَالَ
ابْنُ عُمَرَ: إِنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَذَابًا يَوْمَ
الْقِيَامَةِ [ثَلَاثَةٌ «3»]: الْمُنَافِقُونَ، وَمَنْ كَفَرَ
مِنْ أَصْحَابِ الْمَائِدَةِ، وَآلُ فِرْعَوْنَ، تَصْدِيقُ
ذَلِكَ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:
(إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ
النَّارِ). وقال تعالى أَصْحَابِ الْمَائِدَةِ: (فَإِنِّي
أُعَذِّبُهُ عَذاباً لَا أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِنَ
الْعالَمِينَ «4»). وَقَالَ فِي آلَ فِرْعَوْنَ: (أَدْخِلُوا
آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ «5»).
__________
(1). راجع ج 4 ص 178.
(2). راجع ص 344 من هذا الجزء.
(3). من ج وز وى.
(4). راجع ج 6 ص 398.
(5). راجع ج 15 ص 318
(5/425)
إِلَّا الَّذِينَ
تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا
دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ
يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا (146)
[سورة النساء (4): آية 146]
إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ
وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولئِكَ مَعَ
الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ
أَجْراً عَظِيماً (146)
اسْتِثْنَاءٌ مِمَّنْ نَافَقَ. وَمِنْ شَرْطِ التَّائِبِ مِنَ
النِّفَاقِ أَنْ يُصْلِحَ فِي قَوْلِهِ وَفِعْلِهِ،
وَيَعْتَصِمَ بِاللَّهِ أَيْ يَجْعَلُهُ مَلْجَأً وَمَعَاذًا،
وَيُخْلِصَ دِينَهُ لِلَّهِ، كَمَا نَصَّتْ عَلَيْهِ هَذِهِ
الْآيَةُ، وَإِلَّا فَلَيْسَ بِتَائِبٍ، وَلِهَذَا أَوْقَعَ
أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ فِي التَّسْوِيفِ «1» لِانْضِمَامِ
الْمُنَافِقِينَ إِلَيْهِمْ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. رَوَى
الْبُخَارِيُّ «2» عَنِ الْأَسْوَدِ قَالَ: كُنَّا فِي
حَلْقَةِ عَبْدِ اللَّهِ فَجَاءَ حُذَيْفَةُ حَتَّى قَامَ
عَلَيْنَا فَسَلَّمَ ثُمَّ قَالَ: لَقَدْ نَزَلَ النِّفَاقُ
عَلَى قَوْمٍ خَيْرٍ مِنْكُمْ، قَالَ الْأَسْوَدُ: سُبْحَانَ
اللَّهِ! إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: (إِنَّ
الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ).
فَتَبَسَّمَ عَبْدُ اللَّهِ وَجَلَسَ حُذَيْفَةُ فِي نَاحِيَةِ
الْمَسْجِدِ، فَقَامَ عَبْدُ اللَّهِ فَتَفَرَّقَ أَصْحَابُهُ
فَرَمَانِي بِالْحَصَى فَأَتَيْتُهُ. فَقَالَ حُذَيْفَةُ:
عَجِبْتُ مِنْ ضَحِكِهِ وَقَدْ عَرَفَ مَا قُلْتُ: لَقَدْ
أُنْزِلَ النِّفَاقُ عَلَى قَوْمٍ كَانُوا خَيْرًا مِنْكُمْ
ثُمَّ تَابُوا فَتَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ. وَقَالَ
الْفَرَّاءُ: مَعْنَى (فَأُولئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ) أَيْ
مِنَ الْمُؤْمِنِينَ. وَقَالَ الْقُتَبِيُّ: حَادَ عَنْ
كَلَامِهِمْ غَضَبًا عَلَيْهِمْ «3» فَقَالَ: (فَأُولئِكَ مَعَ
الْمُؤْمِنِينَ) وَلَمْ يَقُلْ: هُمُ الْمُؤْمِنُونَ.
وَحُذِفَتِ الْيَاءُ مِنْ (يُؤْتِ) فِي الْخَطِّ كَمَا
حُذِفَتْ فِي اللَّفْظِ، لِسُكُونِهَا وَسُكُونِ اللَّامِ
بَعْدَهَا، ومثله (يَوْمَ يُنادِ الْمُنادِ «4») و (سَنَدْعُ
الزَّبانِيَةَ) و (يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ) حذفت الواوات
لالتقاء الساكنين.
[سورة النساء (4): آية 147]
مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ
وَآمَنْتُمْ وَكانَ اللَّهُ شاكِراً عَلِيماً (147)
اسْتِفْهَامٌ بِمَعْنَى التَّقْرِيرِ لِلْمُنَافِقِينَ.
التَّقْدِيرُ: أَيُّ مَنْفَعَةٍ لَهُ فِي عَذَابِكُمْ إِنْ
شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ، فَنَبَّهَ تَعَالَى أَنَّهُ لَا
يُعَذِّبُ الشَّاكِرَ الْمُؤْمِنَ، وَأَنَّ تَعْذِيبَهُ
عِبَادَهُ لَا يَزِيدُ فِي مُلْكِهِ، وَتَرْكَهُ عُقُوبَتَهُمْ
عَلَى فِعْلِهِمْ لَا يَنْقُصُ مِنْ سُلْطَانِهِ. وَقَالَ
مَكْحُولٌ: أَرْبَعٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ كُنَّ لَهُ، وَثَلَاثٌ
مِنْ كن
__________
(1). في ج: التسوية.
(2). في ج: ومسلم.
(3). كذا في الأصول. وفى البحر: لم يحكم عليهم بأنهم المؤمنون
إلخ. تنفيرا مما كانوا عليه من عظم كفر النفاق.
(4). راجع ج 17 ص 26 وص 125 وج 20 ص 126
(5/426)
فِيهِ كُنَّ عَلَيْهِ، فَالْأَرْبَعُ
اللَّاتِي لَهُ: فَالشُّكْرُ وَالْإِيمَانُ وَالدُّعَاءُ
وَالِاسْتِغْفَارُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: (مَا يَفْعَلُ
اللَّهُ بِعَذابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ) وَقَالَ
اللَّهُ تَعَالَى: (وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ
وَأَنْتَ فِيهِمْ وَما كانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ
يَسْتَغْفِرُونَ) «1» وقال تعالى: (قُلْ ما يَعْبَؤُا بِكُمْ
رَبِّي لَوْلا دُعاؤُكُمْ) «2». وَأَمَّا الثَّلَاثُ اللَّاتِي
عَلَيْهِ: فَالْمَكْرُ وَالْبَغْيُ وَالنَّكْثُ، قَالَ اللَّهُ
تَعَالَى: (فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ)
«3». وَقَالَ تَعَالَى: (وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ
إِلَّا بِأَهْلِهِ) «4» وَقَالَ تَعَالَى: (إِنَّما بَغْيُكُمْ
عَلى أَنْفُسِكُمْ «5».) (وَكانَ اللَّهُ شاكِراً عَلِيماً)
أَيْ يَشْكُرُ عِبَادَهُ عَلَى طَاعَتِهِ. وَمَعْنَى
(يَشْكُرُهُمْ) يُثِيبُهُمْ، فَيَتَقَبَّلُ الْعَمَلَ
الْقَلِيلَ وَيُعْطِي عَلَيْهِ الثَّوَابَ الْجَزِيلَ،
وَذَلِكَ شُكْرٌ مِنْهُ عَلَى عِبَادَتِهِ. وَالشُّكْرُ فِي
اللُّغَةِ الظُّهُورُ، يُقَالُ: دَابَّةٌ شَكُورٌ إِذَا
أَظْهَرَتْ مِنَ السِّمَنِ فَوْقَ مَا تُعْطَى مِنَ الْعَلَفِ،
وَقَدْ تَقَدَّمَ هَذَا الْمَعْنَى مُسْتَوْفًى «6».
وَالْعَرَبُ تَقُولُ فِي الْمَثَلِ: (أَشْكَرُ مِنْ
بَرْوَقَةٍ) «7» لِأَنَّهَا يُقَالُ: تَخْضَرُّ وَتَنْضُرُ
بِظِلِّ السَّحَابِ دُونَ مَطَرٍ. والله أعلم.
تم الجزء الخامس مِنْ تَفْسِيرِ الْقُرْطُبِيِّ يَتْلُوهُ إِنْ
شَاءَ اللَّهُ تعالى الجزء السادس، وأوله قَوْلُهُ تَعَالَى:"
لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ"
مصححه أبو إسحاق إبراهيم اطفيش
__________
(1). راجع ج 7 ص 398.
(2). راجع ج 13 ص 84.
(3). راجع ج 16 ص 268. [ ..... ]
(4). راجع ج 14 ص 259.
(5). راجع ج 8 ص 324.
(6). راجع ج 1 ص 397.
(7). البروق: ما يكسو الأرض من أول خضرة النبات. وقيل: هو نبت
معروف.
(5/427)
لَا يُحِبُّ اللَّهُ
الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ
وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا عَلِيمًا (148) إِنْ تُبْدُوا
خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ
اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا (149)
الجزء السادس
[تتمة تفسير سُورَةُ النِّسَاءِ]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
[سُورَةُ النساء (4): الآيات 148 الى 149]
لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ
إِلاَّ مَنْ ظُلِمَ وَكانَ اللَّهُ سَمِيعاً عَلِيماً (148)
إِنْ تُبْدُوا خَيْراً أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ
سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كانَ عَفُوًّا قَدِيراً (149)
فِيهِ ثَلَاثُ مَسَائِلَ: الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى: (لَا
يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ) وَتَمَّ
الكلام. ثم قال جل وعز" إِلَّا مَنْ ظُلِمَ" اسْتِثْنَاءٌ
لَيْسَ مِنَ الْأَوَّلِ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ، أَيْ لَكِنْ مَنْ
ظُلِمَ فَلَهُ أَنْ يَقُولَ ظَلَمَنِي فُلَانٌ. وَيَجُوزُ أَنْ
يَكُونَ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ وَيَكُونُ التَّقْدِيرُ: لَا
يُحِبُّ اللَّهُ أَنْ يَجْهَرَ أَحَدٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَنْ
ظُلِمَ. وَقِرَاءَةُ الْجُمْهُورِ" ظُلِمَ" بِضَمِّ الظَّاءِ
وَكَسْرِ اللَّامِ، وَيَجُوزُ إِسْكَانُهَا. وَمَنْ قَرَأَ"
ظَلَمَ" بِفَتْحِ الظَّاءِ وَفَتْحِ اللَّامِ وَهُوَ زَيْدُ
بْنُ أَسْلَمَ وَابْنُ أَبِي إِسْحَاقَ وَغَيْرُهُمَا عَلَى
مَا يَأْتِي، فَلَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُسَكِّنَ اللَّامَ
لِخِفَّةِ الْفَتْحَةِ. فَعَلَى الْقِرَاءَةِ الْأُولَى
قَالَتْ طَائِفَةٌ: الْمَعْنَى لَا يُحِبُّ اللَّهُ أَنْ
يَجْهَرَ أَحَدٌ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ
فَلَا يُكْرَهُ لَهُ الْجَهْرُ بِهِ. ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي
كَيْفِيَّةِ الْجَهْرِ بِالسُّوءِ وَمَا هُوَ الْمُبَاحُ مِنْ
ذَلِكَ، فَقَالَ الْحَسَنُ: هُوَ الرَّجُلُ يَظْلِمُ الرَّجُلَ
فَلَا يَدْعُ «1» عَلَيْهِ، وَلَكِنْ لِيَقُلِ: اللَّهُمَّ
أَعِنِّي عَلَيْهِ، اللَّهُمَّ اسْتَخْرِجْ حَقِّي، اللَّهُمَّ
حُلْ بَيْنَهُ «2» وَبَيْنَ مَا يُرِيدُ مِنْ ظُلْمِي. فَهَذَا
دُعَاءٌ فِي الْمُدَافَعَةِ وَهِيَ أَقَلُّ مَنَازِلِ
السُّوءِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ: الْمُبَاحُ
لِمَنْ ظُلِمَ أَنْ يَدْعُوَ عَلَى مَنْ ظَلَمَهُ، وَإِنْ
صَبَرَ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ، فَهَذَا إِطْلَاقٌ فِي نَوْعِ
الدُّعَاءِ عَلَى الظَّالِمِ. وَقَالَ أَيْضًا هُوَ
وَالسُّدِّيُّ: لَا بَأْسَ لِمَنْ ظُلِمَ أَنْ يَنْتَصِرَ
مِمَّنْ ظَلَمَهُ بِمِثْلِ ظُلْمِهِ وَيَجْهَرَ لَهُ
بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ. وَقَالَ ابْنُ الْمُسْتَنِيرِ:"
إِلَّا مَنْ ظُلِمَ" مَعْنَاهُ، إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ عَلَى
أَنْ يَجْهَرَ بِسُوءٍ مِنَ الْقَوْلِ كُفْرٍ أَوْ نَحْوِهِ
فَذَلِكَ مُبَاحٌ. وَالْآيَةُ عَلَى هَذَا فِي الْإِكْرَاهِ،
وَكَذَا قَالَ قطرب:
__________
(1). كذا في الأصول: نهى، والظاهر ثبوت الواو: خبر.
(2). في و، ا: حل بيني.
(6/1)
" إِلَّا مَنْ ظُلِمَ" يُرِيدُ
الْمُكْرَهَ، لِأَنَّهُ مَظْلُومٌ فَذَلِكَ مَوْضُوعٌ عَنْهُ
وَإِنْ كَفَرَ، قَالَ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى"
إِلَّا مَنْ ظُلِمَ" عَلَى الْبَدَلِ، كَأَنَّهُ قَالَ: لَا
يُحِبُّ اللَّهُ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ، أَيْ لَا يُحِبُّ اللَّهُ
الظَّالِمَ، فَكَأَنَّهُ يَقُولُ: يُحِبُّ مَنْ ظُلِمَ أَيْ
يَأْجُرُ مَنْ ظُلِمَ. وَالتَّقْدِيرُ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ:
لَا يُحِبُّ اللَّهُ ذَا الْجَهْرِ بِالسُّوءِ إِلَّا مَنْ
ظُلِمَ، عَلَى الْبَدَلِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: نَزَلَتْ فِي
الضِّيَافَةِ فَرُخِّصَ لَهُ أَنْ يَقُولَ فِيهِ. قَالَ ابْنُ
جُرَيْجٍ عَنْ مُجَاهِدٍ: نَزَلَتْ فِي رَجُلٍ ضاف رجلا بفلاة
من الأرض فلم يضيفه فَنَزَلَتْ" إِلَّا مَنْ ظُلِمَ" وَرَوَاهُ
ابْنُ أَبِي نَجِيحٍ أَيْضًا عَنْ مُجَاهِدٍ، قَالَ: نَزَلَتْ
هَذِهِ الْآيَةُ" لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ
مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ" فِي الرَّجُلِ يَمُرُّ
بِالرَّجُلِ فَلَا يُضِيفُهُ فَرُخِّصَ لَهُ أَنْ يَقُولَ
فِيهِ: إِنَّهُ لَمْ يُحْسِنْ ضِيَافَتَهُ. وَقَدِ اسْتَدَلَّ
مَنْ أَوْجَبَ الضِّيَافَةَ بِهَذِهِ الْآيَةِ، قَالُوا:
لِأَنَّ الظُّلْمَ مَمْنُوعٌ مِنْهُ فَدَلَّ عَلَى وُجُوبِهَا،
وَهُوَ قَوْلُ اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ. وَالْجُمْهُورُ عَلَى
أَنَّهَا مِنْ مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ وَسَيَأْتِي بَيَانُهَا
فِي" هُودٍ" «1» وَالَّذِي يَقْتَضِيهِ ظَاهِرُ الْآيَةِ أَنَّ
لِلْمَظْلُومِ أَنْ ينتصر من ظالمه- ولكن مع اقتصاد- إن كَانَ
مُؤْمِنًا كَمَا قَالَ الْحَسَنُ، فَأَمَّا أَنْ يُقَابِلَ
الْقَذْفَ بِالْقَذْفِ وَنَحْوِهِ فَلَا، وَقَدْ تَقَدَّمَ
فِي" الْبَقَرَةِ" «2». وَإِنْ كَانَ كَافِرًا فَأَرْسِلْ
لِسَانَكَ وَادْعُ بِمَا شِئْتَ مِنَ الْهَلَكَةِ وَبِكُلِّ
دُعَاءٍ، كَمَا فَعَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ حَيْثُ قَالَ: (اللَّهُمَّ اشْدُدْ وَطْأَتَكَ عَلَى
مُضَرٍ وَاجْعَلْهَا عَلَيْهِمْ سِنِينَ كَسِنِي يُوسُفَ)
وَقَالَ: (اللَّهُمَّ عَلَيْكَ بِفُلَانٍ وَفُلَانٍ)
سَمَّاهُمْ. وَإِنْ كَانَ مُجَاهِرًا بِالظُّلْمِ دُعِيَ «3»
عَلَيْهِ جَهْرًا، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ عِرْضٌ مُحْتَرَمٌ وَلَا
بَدَنٌ مُحْتَرَمٌ وَلَا مَالٌ مُحْتَرَمٌ. وَقَدْ رَوَى أَبُو
دَاوُدَ عَنْ عَائِشَةَ قال: سرق لها شي فَجَعَلَتْ تَدْعُو
عَلَيْهِ «4»، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (لَا تُسَبِّخِي عَنْهُ) «5» أَيْ لَا
تُخَفِّفِي عَنْهُ الْعُقُوبَةَ بِدُعَائِكِ عَلَيْهِ.
وَرُوِيَ أَيْضًا عَنْ عَمْرِو بْنِ الشَّرِيدِ عَنْ أَبِيهِ
عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
قَالَ: (لَيُّ الْوَاجِدِ «6» ظُلْمٌ يُحِلُّ عِرْضَهُ
وَعُقُوبَتَهُ). قَالَ ابْنُ الْمُبَارَكِ: يُحِلُّ عِرْضَهُ
يُغَلِّظُ لَهُ، وَعُقُوبَتُهُ يُحْبَسُ] لَهُ [«7». وَفِي
صَحِيحِ مُسْلِمٍ (مَطْلُ الْغَنِيِّ ظُلْمٌ). فَالْمُوسِرُ
الْمُتَمَكِّنُ إِذَا طُولِبَ بِالْأَدَاءِ ومطل ظلم، وذلك
يبيح من
__________
(1). راجع ج 9 ص 64.
(2). راجع ج 2 ص 360.
(3). في ج وز: دعا.
(4). أي السارق.
(5). في ى: المعنى.
(6). اللي: المطل. الواجد: القادر على أداء دينه.
(7). من ج وز وك.
(6/2)
عِرْضِهِ أَنْ يُقَالَ فِيهِ: فُلَانٌ
يَمْطُلُ النَّاسَ وَيَحْبِسُ حُقُوقَهُمْ وَيُبِيحُ
لِلْإِمَامِ أَدَبَهُ وَتَعْزِيرَهُ حَتَّى يَرْتَدِعَ عَنْ
ذَلِكَ، حُكِيَ مَعْنَاهُ عَنْ سُفْيَانَ، وَهُوَ مَعْنَى
قَوْلِ ابْنِ الْمُبَارَكِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا.
الثَّانِيةُ- وَلَيْسَ مِنْ هَذَا الْبَابِ مَا وَقَعَ فِي
صَحِيحِ مُسْلِمٍ مِنْ قَوْلِ الْعَبَّاسِ فِي عَلِيٍّ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُمَا بِحَضْرَةِ عُمَرَ وَعُثْمَانَ
وَالزُّبَيْرِ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ: يَا أَمِيرَ
الْمُؤْمِنِينَ اقْضِ بَيْنِي وَبَيْنَ هَذَا الْكَاذِبِ
الْآثِمِ الْغَادِرِ الْخَائِنِ. الْحَدِيثَ. وَلَمْ يَرُدَّ
عَلَيْهِ وَاحِدٌ مِنْهُمْ، لِأَنَّهَا كَانَتْ حُكُومَةً،
كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَعْتَقِدُهَا لِنَفْسِهِ، حَتَّى
أَنْفَذَ فِيهَا عَلَيْهِمْ عُمَرُ الْوَاجِبَ، قَالَهُ ابْنُ
الْعَرَبِيِّ. وَقَالَ عُلَمَاؤُنَا: هَذَا إِنَّمَا يَكُونُ
فِيمَا إِذَا اسْتَوَتِ الْمَنَازِلُ أَوْ تَقَارَبَتْ،
وَأَمَّا إِذَا تَفَاوَتَتْ، فَلَا تُمَكَّنُ الْغَوْغَاءُ
مِنْ أَنْ تَسْتَطِيلَ «1» عَلَى الْفُضَلَاءِ، وَإِنَّمَا
تَطْلُبُ حَقَّهَا بِمُجَرَّدِ الدَّعْوَى مِنْ غَيْرِ
تَصْرِيحٍ بِظُلْمٍ وَلَا غَضَبٍ، وَهَذَا صَحِيحٌ وَعَلَيْهِ
تَدُلُّ الْآثَارُ. وَوَجْهٌ آخَرُ- وَهُوَ أَنَّ هَذَا
الْقَوْلَ أَخْرَجَهُ مِنَ الْعَبَّاسِ الْغَضَبُ وَصَوْلَةُ
سُلْطَةِ الْعُمُومَةِ! فَإِنَّ الْعَمَّ صِنْوُ «2» الْأَبِ،
وَلَا شَكَّ أَنَّ الْأَبَ إِذَا أَطْلَقَ هَذِهِ الْأَلْفَاظَ
عَلَى وَلَدِهِ إِنَّمَا يَحْمِلُ ذَلِكَ مِنْهُ عَلَى أَنَّهُ
قَصَدَ الْإِغْلَاظَ وَالرَّدْعَ مُبَالَغَةً فِي تَأْدِيبِهِ،
لَا أَنَّهُ مَوْصُوفٌ بِتِلْكَ الْأُمُورِ، ثُمَّ انْضَافَ
إِلَى هَذَا أَنَّهُمْ فِي مُحَاجَّةِ وِلَايَةٍ دِينِيَّةٍ،
فَكَانَ الْعَبَّاسُ يَعْتَقِدُ أَنَّ مُخَالَفَتَهُ فِيهَا
لَا تَجُوزُ، وَأَنَّ مُخَالَفَتَهُ فِيهَا تُؤَدِّي إِلَى
أَنْ يَتَّصِفَ الْمُخَالِفُ بِتِلْكَ الْأُمُورِ،
فَأَطْلَقَهَا بِبَوَادِرِ الْغَضَبِ عَلَى هَذِهِ
الْأَوْجُهِ، وَلَمَّا عَلِمَ الْحَاضِرُونَ ذَلِكَ لَمْ
يُنْكِرُوا عَلَيْهِ، أَشَارَ إِلَى هَذَا الْمَازِرِيُّ
وَالْقَاضِي عِيَاضٌ وَغَيْرُهُمَا. الثَّالِثَةُ- فَأَمَّا
مَنْ قَرَأَ" ظَلَمَ" بِالْفَتْحِ فِي الظَّاءِ وَاللَّامِ-
وَهِيَ قِرَاءَةُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، وَكَانَ مِنَ
الْعُلَمَاءِ بِالْقُرْآنِ بِالْمَدِينَةِ بَعْدَ مُحَمَّدِ
بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ، وَقِرَاءَةُ ابْنِ أَبِي إِسْحَاقَ
وَالضَّحَّاكِ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ جُبَيْرٍ وَعَطَاءِ
بْنِ السَّائِبِ- فَالْمَعْنَى: إِلَّا مَنْ ظَلَمَ فِي فِعْلٍ
أَوْ قَوْلٍ فَاجْهَرُوا لَهُ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ، فِي
مَعْنَى النَّهْيِ عَنْ فِعْلِهِ وَالتَّوْبِيخِ لَهُ
وَالرَّدِّ عَلَيْهِ، الْمَعْنَى لَا يُحِبُّ اللَّهُ أَنْ
يُقَالَ لِمَنْ تَابَ مِنَ النِّفَاقِ: أَلَسْتَ نَافَقْتَ؟
إِلَّا مَنْ ظَلَمَ، أَيْ أَقَامَ عَلَى النِّفَاقِ، وَدَلَّ
عَلَى هَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى:" إِلَّا الَّذِينَ تابُوا".
قَالَ ابْنُ زَيْدٍ: وَذَلِكَ أَنَّهُ سبحانه لما أخبر عن
المنافقين
__________
(1). في ز: تسلط. [ ..... ]
(2). الصنو: المثل.
(6/3)
أَنَّهُمْ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ
النَّارِ كَانَ ذَلِكَ جَهْرًا بِسُوءٍ مِنَ الْقَوْلِ، ثُمَّ
قَالَ لَهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ:" مَا يَفْعَلُ اللَّهُ
بِعَذابِكُمْ"] النساء: 147] عَلَى مَعْنَى التَّأْنِيسِ
وَالِاسْتِدْعَاءِ إِلَى الشُّكْرِ وَالْإِيمَانِ. ثُمَّ قَالَ
لِلْمُؤْمِنِينَ:" لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ
مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ" فِي إِقَامَتِهِ عَلَى
النِّفَاقِ، فَإِنَّهُ يُقَالُ لَهُ: أَلَسْتَ الْمُنَافِقَ
الْكَافِرَ الَّذِي لَكَ فِي الْآخِرَةِ الدَّرْكُ الْأَسْفَلُ
مِنَ النَّارِ؟ وَنَحْوَ هَذَا مِنَ الْقَوْلِ. وَقَالَ
قَوْمٌ: مَعْنَى الْكَلَامِ: لَا يُحِبُّ اللَّهُ أَنْ
يَجْهَرَ أَحَدٌ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ، ثُمَّ اسْتَثْنَى
اسْتِثْنَاءً مُنْقَطِعًا، أَيْ لَكِنْ مَنْ ظُلِمَ فَإِنَّهُ
يَجْهَرُ بِالسُّوءِ ظُلْمًا وَعُدْوَانًا وَهُوَ ظَالِمٌ فِي
ذَلِكَ. قُلْتُ: وَهَذَا شَأْنُ كَثِيرٍ مِنَ الظَّلَمَةِ
وَدَأْبِهِمْ، فَإِنَّهُمْ مَعَ ظُلْمِهِمْ يَسْتَطِيلُونَ
بِأَلْسِنَتِهِمْ وَيَنَالُونَ مِنْ عِرْضِ مَظْلُومِهِمْ مَا
حُرِّمَ عَلَيْهِمْ. وَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ الزَّجَّاجُ:
يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى" إِلَّا مَنْ ظُلِمَ" فَقَالَ
سُوءًا، فَإِنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ تَأْخُذُوا عَلَى يَدَيْهِ،
وَيَكُونُ الِاسْتِثْنَاءُ لَيْسَ مِنَ الْأَوَّلِ. قُلْتُ:
وَيَدُلُّ عَلَى هَذَا أَحَادِيثُ مِنْهَا قَوْلُهُ عَلَيْهِ
السَّلَامُ: (خُذُوا عَلَى أَيْدِي سُفَهَائِكُمْ).
وَقَوْلُهُ: (انْصُرْ أَخَاكَ ظَالِمًا أَوْ مَظْلُومًا)
قَالُوا: هَذَا نَنْصُرُهُ مَظْلُومًا فَكَيْفَ نَنْصُرُهُ
ظَالِمًا؟ قَالَ: (تَكُفُّهُ عَنِ الظُّلْمِ). وَقَالَ
الْفَرَّاءُ:" إِلَّا مَنْ ظُلِمَ" يَعْنِي وَلَا مَنْ ظَلَمَ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَكانَ اللَّهُ سَمِيعاً عَلِيماً)
تَحْذِيرٌ لِلظَّالِمِ حَتَّى لَا يَظْلِمَ، وَلِلْمَظْلُومِ
حَتَّى لَا يَتَعَدَّى الْحَدَّ فِي الِانْتِصَارِ. ثُمَّ
أَتْبَعَ هَذَا بِقَوْلِهِ:" إِنْ تُبْدُوا خَيْراً أَوْ
تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ" فَنَدَبَ إِلَى الْعَفْوِ
وَرَغَّبَ فِيهِ. وَالْعَفْوُ مِنْ صِفَةِ اللَّهِ تَعَالَى
مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الِانْتِقَامِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي"
آلِ عِمْرَانَ" «1» فَضْلُ الْعَافِينَ] عَنِ النَّاسِ [«2».
فَفِي هَذِهِ الْأَلْفَاظِ الْيَسِيرَةِ مَعَانٍ كَثِيرَةٌ
لِمَنْ تَأَمَّلَهَا. وَقِيلَ: إِنْ عَفَوْتَ فَإِنَّ اللَّهَ
يَعْفُو عَنْكَ. رَوَى ابْنُ الْمُبَارَكِ قَالَ: حَدَّثَنِي
مَنْ سَمِعَ الْحَسَنَ يقول: إذا جئت الْأُمَمُ بَيْنَ يَدَيْ
رَبِّ الْعَالَمِينَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ نُودِيَ لِيَقُمْ
مَنْ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ فَلَا يَقُومُ إِلَّا مَنْ عَفَا
فِي الدُّنْيَا، يُصَدِّقُ هَذَا الْحَدِيثَ قَوْلُهُ
تَعَالَى:" فَمَنْ عَفا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ"
[الشورى: 40] «3»
__________
(1). راجع ج 4 ص 207.
(2). من ز.
(3). راجع ج 16 ص 38.
(6/4)
إِنَّ الَّذِينَ
يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ
يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ
بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا
بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا (150) أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ
حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا (151)
[سورة النساء (4): الآيات 150 الى 151]
إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ
وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ
وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ
وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلاً (150)
أُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ
عَذاباً مُهِيناً (151)
فِيهِ ثَلَاثُ مَسَائِلَ: الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى:
(إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ) لَمَّا ذَكَرَ الْمُشْرِكِينَ
وَالْمُنَافِقِينَ ذَكَرَ الْكُفَّارَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ،
الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، إِذْ كَفَرُوا بِمُحَمَّدٍ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَبَيَّنَ أَنَّ الْكُفْرَ بِهِ
كُفْرٌ بِالْكُلِّ، لِأَنَّهُ مَا مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا وَقَدْ
أَمَرَ قومه بالايمان بحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَبِجَمِيعِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ
وَالسَّلَامُ. وَمَعْنَى (يُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ
اللَّهِ وَرُسُلِهِ) أَيْ بَيْنَ الْإِيمَانِ بِاللَّهِ
وَرُسُلِهِ، فَنَصَّ سُبْحَانَهُ عَلَى أَنَّ التَّفْرِيقَ
بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ كُفْرٌ، وَإِنَّمَا كَانَ كُفْرًا
لِأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ فَرَضَ عَلَى النَّاسِ أَنْ
يَعْبُدُوهُ بِمَا شَرَعَ لَهُمْ عَلَى أَلْسِنَةِ الرُّسُلِ،
فَإِذَا جَحَدُوا الرُّسُلَ رَدُّوا عَلَيْهِمْ شَرَائِعَهُمْ
وَلَمْ يَقْبَلُوهَا مِنْهُمْ، فَكَانُوا مُمْتَنِعِينَ مِنَ
الْتِزَامِ الْعُبُودِيَّةِ الَّتِي أُمِرُوا بِالْتِزَامِهَا،
فَكَانَ كَجَحْدِ الصَّانِعِ سُبْحَانَهُ، وَجَحْدُ الصَّانِعِ
كُفْرٌ لِمَا فِيهِ مِنْ تَرْكِ الْتِزَامِ الطَّاعَةِ
وَالْعُبُودِيَّةِ. وَكَذَلِكَ التَّفْرِيقُ بَيْنَ رُسُلِهِ
فِي الْإِيمَانِ بهم كفر، وهي: المسألة الثانية- لقوله
تَعَالَى: (وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ
بِبَعْضٍ) وَهُمُ الْيَهُودُ آمَنُوا بِمُوسَى وَكَفَرُوا
بِعِيسَى وَمُحَمَّدٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ هَذَا مِنْ قَوْلِهِمْ
فِي" الْبَقَرَةِ" «1». وَيَقُولُونَ لِعَوَامِّهِمْ: لَمْ
نَجِدْ ذِكْرَ مُحَمَّدٍ فِي كُتُبِنَا. (وَيُرِيدُونَ أَنْ
يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلًا) أَيْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ
الْإِيمَانِ وَالْجَحْدِ طَرِيقًا، أَيْ دِينًا مُبْتَدَعًا
بَيْنَ الْإِسْلَامِ وَالْيَهُودِيَّةِ. وَقَالَ:" ذلِكَ"
وَلَمْ يَقُلْ ذَيْنَكَ، لِأَنَّ ذَلِكَ تَقَعُ لِلِاثْنَيْنِ
وَلَوْ كَانَ «2» ذَيْنُكَ لَجَازَ. الثَّالِثَةُ- قَوْلُهُ
تَعَالَى: (أُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ حَقًّا) تَأْكِيدٌ
يُزِيلُ التَّوَهُّمَ فِي إِيمَانِهِمْ حِينَ وَصَفَهُمْ
بِأَنَّهُمْ يَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ، وَأَنَّ ذَلِكَ لَا
يَنْفَعُهُمْ إِذَا كَفَرُوا بِرَسُولِهِ، وإذا
__________
(1). راجع ج 2 ص 92.
(2). في ك: ولو قال. أي في غير القرآن.
(6/5)
وَالَّذِينَ آمَنُوا
بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ
مِنْهُمْ أُولَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكَانَ
اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (152)
كَفَرُوا بِرَسُولِهِ فَقَدْ كَفَرُوا بِهِ
عَزَّ وَجَلَّ، وَكَفَرُوا بِكُلِّ رَسُولٍ مُبَشِّرٍ بِذَلِكَ
الرَّسُولِ، فَلِذَلِكَ صاروا الكافرين حقا. و (لِلْكافِرِينَ)
يقوم مقام المفعول الثاني لاعتدنا، أَيْ أَعْتَدْنَا لِجَمِيعِ
أَصْنَافِهِمْ (عَذاباً مُهِيناً) أَيْ مذلا.
[سورة النساء (4): آية 152]
وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا
بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُولئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ
أُجُورَهُمْ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (152)
يَعْنِي بِهِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وأمته.
[سورة النساء (4): آية 153]
يَسْئَلُكَ أَهْلُ الْكِتابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ
كِتاباً مِنَ السَّماءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسى أَكْبَرَ مِنْ
ذلِكَ فَقالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ
الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ
بَعْدِ مَا جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ فَعَفَوْنا عَنْ ذلِكَ
وَآتَيْنا مُوسى سُلْطاناً مُبِيناً (153)
سَأَلَتِ الْيَهُودُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَنْ يَصْعَدَ إِلَى السَّمَاءِ وَهُمْ يَرَوْنَهُ
فَيُنَزِّلُ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مَكْتُوبًا فِيمَا يَدَّعِيهِ
عَلَى صِدْقِهِ دَفْعَةً وَاحِدَةً، كَمَا أَتَى مُوسَى
بِالتَّوْرَاةِ، تَعَنُّتًا لَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ، فَأَعْلَمَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَنَّ آبَاءَهُمْ
قَدْ عَنَّتُوا مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ بِأَكْبَرَ مِنْ
هَذَا" فَقالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً" أَيْ عِيَانًا،
وَقَدْ تَقَدَّمَ في" البقرة" «1». و" جهرة" نَعْتٌ لِمَصْدَرٍ
مَحْذُوفٍ أَيْ رُؤْيَةً جَهْرَةً، فَعُوقِبُوا بِالصَّاعِقَةِ
لِعِظَمِ مَا جَاءُوا بِهِ مِنَ السُّؤَالِ وَالظُّلْمِ] مِنْ
[«2» بَعْدِ مَا رَأَوْا مِنَ الْمُعْجِزَاتِ. قَوْلُهُ
تَعَالَى: (ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ) فِي الْكَلَامِ حَذْفٌ
تَقْدِيرُهُ: فَأَحْيَيْنَاهُمْ فَلَمْ يَبْرَحُوا
فَاتَّخَذُوا الْعِجْلَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي" الْبَقَرَةِ"
«3» وَيَأْتِي ذِكْرُهُ فِي" طه" «4»] إِنْ شَاءَ اللَّهُ
[«5». (مِنْ بَعْدِ مَا جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ) أَيِ
الْبَرَاهِينُ وَالدَّلَالَاتُ وَالْمُعْجِزَاتُ الظَّاهِرَاتُ
من اليد والعصا وفلق البحر وغيرها
__________
(1). راجع ج 1 ص 403.
(2). من ز.
(3). راجع ج 1 ص 693
(4). راجع ج 11 ص 23.
(5). من ز.
(6/6)
وَرَفَعْنَا
فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثَاقِهِمْ وَقُلْنَا لَهُمُ
ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُلْنَا لَهُمْ لَا تَعْدُوا
فِي السَّبْتِ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا (154)
فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآيَاتِ
اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ
وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا
بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا (155)
وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا
عَظِيمًا (156)
بِأَنَّهُ لَا مَعْبُودَ إِلَّا اللَّهُ
عَزَّ وَجَلَّ. (فَعَفَوْنا عَنْ ذلِكَ) أَيْ عَمَّا كَانَ
مِنْهُمْ مِنَ التَّعَنُّتِ. (وَآتَيْنا مُوسى سُلْطاناً
مُبِيناً) أَيْ حُجَّةً بَيِّنَةً وَهِيَ الْآيَاتُ الَّتِي
جَاءَ بِهَا، وَسُمِّيَتْ سُلْطَانًا لِأَنَّ مَنْ جَاءَ بِهَا
قَاهِرٌ بِالْحُجَّةِ، وَهِيَ قَاهِرَةٌ لِلْقُلُوبِ، بِأَنْ
تَعْلَمَ أَنَّهُ لَيْسَ فِي قُوَى الْبَشَرِ أَنْ يَأْتُوا
بِمِثْلِهَا.
[سورة النساء (4): آية 154]
وَرَفَعْنا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثاقِهِمْ وَقُلْنا لَهُمُ
ادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً وَقُلْنا لَهُمْ لَا تَعْدُوا فِي
السَّبْتِ وَأَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً (154)
قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَرَفَعْنا فَوْقَهُمُ الطُّورَ
بِمِيثاقِهِمْ" أَيْ بِسَبَبِ نَقْضِهِمُ الْمِيثَاقَ الَّذِي
أُخِذَ مِنْهُمْ، وَهُوَ الْعَمَلُ بِمَا فِي التَّوْرَاةِ،
وَقَدْ تَقَدَّمَ رَفْعُ الْجَبَلِ وَدُخُولُهُمُ الباب في"
البقرة" «1». و" سُجَّداً" نَصْبٌ عَلَى الْحَالِ. وَقَرَأَ
وَرْشٌ وَحْدَهُ" وَقُلْنا لَهُمْ لَا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ"
بِفَتْحِ الْعَيْنِ مِنْ عَدَا يَعْدُو عَدْوًا وَعُدْوَانًا
وَعُدُوًّا وَعَدَاءً، أَيْ بِاقْتِنَاصِ الْحِيتَانِ كَمَا
تَقَدَّمَ فِي" الْبَقَرَةِ" «2». والأصل فيه «3» وتعتدوا
أُدْغِمَتِ التَّاءُ فِي الدَّالِ، قَالَ النَّحَّاسُ: وَلَا
يَجُوزُ إِسْكَانُ الْعَيْنِ وَلَا يُوصَلُ إِلَى الْجَمْعِ
بَيْنَ سَاكِنَيْنِ فِي هَذَا، وَالَّذِي يَقْرَأُ بِهِ
إِنَّمَا يَرُومُ «4» الْخَطَأَ. (وَأَخَذْنا مِنْهُمْ
مِيثاقاً غَلِيظاً) يَعْنِي الْعَهْدَ الَّذِي أُخِذَ
عَلَيْهِمْ فِي التَّوْرَاةِ. وَقِيلَ: عَهْدٌ مُؤَكَّدٌ
بِالْيَمِينِ فَسُمِّيَ غَلِيظًا لِذَلِكَ.
[سورة النساء (4): الآيات 155 الى 156]
فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآياتِ اللَّهِ
وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ
قُلُوبُنا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ
فَلا يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً (155) وَبِكُفْرِهِمْ
وَقَوْلِهِمْ عَلى مَرْيَمَ بُهْتاناً عَظِيماً (156)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ) " فَبِما
نَقْضِهِمْ" خفض بالباء و" فَبِما" زَائِدَةٌ مُؤَكِّدَةٌ
كَقَوْلِهِ:" فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ" [آل عمران: 159]
وَقَدْ تَقَدَّمَ «5»، وَالْبَاءُ مُتَعَلِّقَةٌ بِمَحْذُوفٍ،
التَّقْدِيرُ: فَبِنَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ، عَنْ
قَتَادَةَ وَغَيْرِهِ. وَحُذِفَ هَذَا لِعِلْمِ السَّامِعِ.
وَقَالَ أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ حَمْزَةَ الْكِسَائِيُّ:
هُوَ مُتَعَلِّقٌ بِمَا قَبْلَهُ، وَالْمَعْنَى فأخذتهم
الصاعقة بظلمهم
__________
(1). راجع ج 1 ص 410، ص 436.
(2). راجع ج 1 ص 439.
(3). أي فيما قرأ به ورش. [ ..... ]
(4). في ز: يدفعه.
(5). راجع ج 4 ص 248
(6/7)
إِلَى قَوْلِهِ:" فَبِما نَقْضِهِمْ
مِيثاقَهُمْ" قَالَ: فَفَسَّرَ ظُلْمَهُمُ الَّذِي
أَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ مِنْ أَجْلِهِ بِمَا بَعْدَهُ مِنْ
نَقْضِهِمُ الْمِيثَاقَ وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِيَاءَ وَسَائِرِ
مَا بَيَّنَ مِنَ الْأَشْيَاءِ الَّتِي ظَلَمُوا فِيهَا
أَنْفُسَهُمْ. وَأَنْكَرَ ذَلِكَ الطَّبَرِيُّ وَغَيْرُهُ،
لِأَنَّ الَّذِينَ أَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ كَانُوا عَلَى
عَهْدِ مُوسَى، وَالَّذِينَ قَتَلُوا الْأَنْبِيَاءَ وَرَمَوْا
مَرْيَمَ بِالْبُهْتَانِ كَانُوا بَعْدَ مُوسَى بِزَمَانٍ،
فَلَمْ تَأْخُذِ الصَّاعِقَةُ الَّذِينَ أَخَذَتْهُمْ
بِرَمْيِهِمْ مَرْيَمَ بِالْبُهْتَانِ. قَالَ الْمَهْدَوِيُّ
وَغَيْرُهُ: وَهَذَا لَا يَلْزَمُ، لِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ
يُخْبِرَ عَنْهُمْ وَالْمُرَادُ آبَاؤُهُمْ، عَلَى مَا
تَقَدَّمَ فِي" الْبَقَرَةِ" «1».] قَالَ [«2» الزَّجَّاجُ:
الْمَعْنَى فَبِنَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ
طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ، لِأَنَّ هَذِهِ الْقِصَّةَ
مُمْتَدَّةٌ إِلَى قَوْلِهِ:" فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ
هادُوا حَرَّمْنا"] النساء: 160]. وَنَقْضِهِمُ الْمِيثَاقَ
أَنَّهُ أُخِذَ عَلَيْهِمْ أَنْ يُبَيِّنُوا صِفَةَ النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى
فَبِنَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ وَفِعْلِهِمْ كَذَا وَفِعْلِهِمْ
كَذَا طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى
فَبِنَقْضِهِمْ لا يؤمنون إلا قليلا، والفاء مقحمة. و"
كُفْرِهِمْ" عطف، وكذا و" قَتْلِهِمُ". والمراد" بِآياتِ
اللَّهِ" كتبهم التي حرفوها. و" غُلْفٌ" جَمْعُ غِلَافٍ، أَيْ
قُلُوبُنَا أَوْعِيَةٌ لِلْعِلْمِ فَلَا حَاجَةَ بِنَا إِلَى
عِلْمٍ سِوَى مَا عِنْدَنَا. وَقِيلَ: هُوَ جَمْعُ أَغْلَفَ
وَهُوَ الْمُغَطَّى بِالْغِلَافِ، أَيْ قُلُوبُنَا فِي
أَغْطِيَةٍ فَلَا نَفْقَهُ مَا تقول، وهو كقوله:" قُلُوبُنا
فِي أَكِنَّةٍ" [فصلت: 5] «3» وَقَدْ تَقَدَّمَ هَذَا فِي"
الْبَقَرَةِ" «4» وَغَرَضُهُمْ بِهَذَا دَرْءُ «5» حُجَّةِ
الرُّسُلِ. وَالطَّبْعُ الْخَتْمُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي"
الْبَقَرَةِ" «6»." بِكُفْرِهِمْ" أَيْ جَزَاءً لَهُمْ عَلَى
كُفْرِهِمْ، كَمَا قَالَ:" بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ
بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ" [البقرة: 88] «7»
أَيْ إِلَّا إِيمَانًا قَلِيلًا أَيْ بِبَعْضِ الْأَنْبِيَاءِ،
وَذَلِكَ غَيْرُ نَافِعٍ لَهُمْ. ثُمَّ كَرَّرَ"
وَبِكُفْرِهِمْ" لِيُخْبِرَ أَنَّهُمْ كَفَرُوا كُفْرًا بَعْدَ
كُفْرٍ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى" وَبِكُفْرِهِمْ" بِالْمَسِيحِ،
فَحُذِفَ لِدَلَالَةِ مَا بَعْدَهُ عَلَيْهِ، وَالْعَامِلُ
فِي" بِكُفْرِهِمْ" هُوَ الْعَامِلُ فِي" نَقْضِهِمْ"
لِأَنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلَيْهِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ
الْعَامِلُ فِيهِ" طَبَعَ". وَالْبُهْتَانُ الْعَظِيمُ
رَمْيُهَا بِيُوسُفَ النَّجَّارِ وَكَانَ مِنَ الصَّالِحِينَ
مِنْهُمْ. وَالْبُهْتَانُ الْكَذِبُ الْمُفْرِطُ الَّذِي
يُتَعَجَّبُ مِنْهُ وَقَدْ تَقَدَّمَ «8». [وَاللَّهُ سبحانه
وتعالى أعلم] «9».
__________
(1). راجع ج 1 ص 246.
(2). من ك.
(3). راجع ح 15 ص 339.
(4). راجع ح 2 ص 25.
(5). في ج: ر د.
(6). راجع ج 1 ص 185.
(7). راجع ج 5 ص 243 وص 381.
(8). راجع ج 5 ص 243 وص 381.
(9). من ز.
(6/8)
وَقَوْلِهِمْ إِنَّا
قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ
وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ
وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا
لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا
قَتَلُوهُ يَقِينًا (157) بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ
وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (158)
[سورة النساء (4): الآيات 157 الى 158]
وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ
مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَما قَتَلُوهُ وَما صَلَبُوهُ
وَلكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ
لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ
اتِّباعَ الظَّنِّ وَما قَتَلُوهُ يَقِيناً (157) بَلْ
رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً
(158)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ
عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ) كُسِرَتْ" إِنَّ" لِأَنَّهَا
مُبْتَدَأَةٌ بَعْدَ الْقَوْلِ وَفَتْحُهَا لُغَةٌ. وَقَدْ
تَقَدَّمَ فِي" آلِ عِمْرَانَ" «1» اشْتِقَاقُ لَفْظِ
الْمَسِيحِ. (رَسُولَ اللَّهِ) بَدَلٌ، وَإِنْ شِئْتَ عَلَى
مَعْنَى أَعْنِي. (وَما قَتَلُوهُ وَما صَلَبُوهُ) رَدٌّ
لِقَوْلِهِمْ. (وَلكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ) أَيْ أُلْقِيَ
شَبَهُهُ عَلَى غَيْرِهِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي" آلِ عِمْرَانَ"
«2». وَقِيلَ: لَمْ يَكُونُوا يَعْرِفُونَ شَخْصَهُ وَقَتَلُوا
الَّذِي قَتَلُوهُ وَهُمْ شَاكُّونَ فِيهِ، كَمَا قَالَ
تَعَالَى: (وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ
مِنْهُ). وَالْإِخْبَارُ قِيلَ: إِنَّهُ عَنْ جَمِيعِهِمْ.
وَقِيلَ: إِنَّهُ لَمْ يَخْتَلِفْ فِيهِ إِلَّا عَوَامُّهُمْ،
وَمَعْنَى اخْتِلَافِهِمْ قَوْلُ بَعْضِهِمْ إِنَّهُ إِلَهٌ،
وَبَعْضُهُمْ هُوَ ابْنُ اللَّهِ. قَالَهُ الْحَسَنُ: وَقِيلَ
اخْتِلَافُهُمْ أَنَّ عَوَامَّهُمْ قَالُوا قَتَلْنَا عِيسَى.
وَقَالَ مَنْ عَايَنَ رَفْعَهُ إِلَى السَّمَاءِ: مَا
قَتَلْنَاهُ. وَقِيلَ: اخْتِلَافُهُمْ أَنَّ النُّسْطُورِيَّةَ
مِنَ النَّصَارَى قَالُوا: صُلِبَ عِيسَى مِنْ جِهَةِ
نَاسُوتِهِ لَا مِنْ جِهَةِ لَاهُوتِهِ. وَقَالَتِ
الْمَلْكَانِيَّةُ: وَقَعَ الصَّلْبُ وَالْقَتْلُ عَلَى
الْمَسِيحِ بِكَمَالِهِ نَاسُوتِهِ وَلَاهُوتِهِ. وَقِيلَ:
اخْتِلَافُهُمْ هُوَ أَنَّهُمْ قَالُوا: إِنْ كَانَ هَذَا
صَاحِبَنَا فَأَيْنَ عِيسَى؟! وَإِنْ كَانَ هَذَا عِيسَى
فَأَيْنَ صَاحِبُنَا؟! وَقِيلَ: اخْتِلَافُهُمْ هُوَ أَنَّ
الْيَهُودَ قَالُوا: نَحْنُ قَتَلْنَاهُ، لِأَنَّ يَهُوذَا
رَأْسَ الْيَهُودِ هُوَ الَّذِي سَعَى فِي قَتْلِهِ. وَقَالَتْ
طَائِفَةٌ مِنَ النَّصَارَى: بَلْ قَتَلْنَاهُ نَحْنُ.
وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ: بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَى
السَّمَاءِ وَنَحْنُ نَنْظُرُ إِلَيْهِ. (مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ
عِلْمٍ) مِنْ زائدة، وتم الكلام. ثم قال عز وجل: (إِلَّا
اتِّباعَ الظَّنِّ) استثناء ليس من
__________
(1). راجع ج 4 ص 88.
(2). راجع ج 4 ص 100
(6/9)
وَإِنْ مِنْ أَهْلِ
الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ
وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا (159)
الْأَوَّلِ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ، وَيَجُوزُ
أَنْ يَكُونَ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ عَلَى الْبَدَلِ، أَيْ مَا
لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ.
وَأَنْشَدَ سِيبَوَيْهِ:
وَبَلْدَةٍ لَيْسَ بِهَا أَنِيسُ ... إِلَّا الْيَعَافِيرُ «1»
وَإِلَّا الْعِيسُ
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَما قَتَلُوهُ يَقِيناً) قَالَ ابْنُ
عَبَّاسٍ وَالسُّدِّيُّ: الْمَعْنَى مَا قَتَلُوا ظَنَّهُمْ
يَقِينًا، كَقَوْلِكَ: قَتَلْتُهُ عِلْمًا إِذَا عَلِمْتَهُ
عِلْمًا تَامًّا، فَالْهَاءُ عَائِدَةٌ عَلَى الظَّنِّ. قَالَ
أَبُو عُبَيْدٍ: وَلَوْ كَانَ الْمَعْنَى وَمَا قَتَلُوا
عِيسَى يَقِينًا لَقَالَ: وَمَا قَتَلُوهُ فَقَطْ. وَقِيلَ:
الْمَعْنَى وَمَا قَتَلُوا الَّذِي شُبِّهَ لَهُمْ أَنَّهُ
عِيسَى يَقِينًا، فَالْوَقْفُ عَلَى هَذَا عَلَى" يَقِيناً".
وَقِيلَ: الْمَعْنَى وَمَا قَتَلُوا عِيسَى، وَالْوَقْفُ على"
وَما قَتَلُوهُ" و" يَقِيناً" نَعْتٌ لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ،
وَفِيهِ تَقْدِيرَانِ: أَحَدُهُمَا- أَيْ قَالُوا هَذَا
قَوْلًا يَقِينًا، أَوْ قَالَ اللَّهُ هَذَا قَوْلًا يَقِينًا.
وَالْقَوْلُ الْآخَرُ- أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى وَمَا
عَلِمُوهُ عِلْمًا يَقِينًا. النَّحَّاسُ: إِنْ قَدَّرْتَ
الْمَعْنَى بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ يَقِينًا فَهُوَ
خَطَأٌ، لِأَنَّهُ لَا يَعْمَلُ مَا بَعْدَ" بَلْ" فِيمَا
قَبْلَهَا لِضَعْفِهَا. وَأَجَازَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ
الْوَقْفَ عَلَى" وَما قَتَلُوهُ" عَلَى أَنْ يُنْصَبَ"
يَقِيناً" بِفِعْلٍ مُضْمَرٍ هُوَ جَوَابُ الْقَسَمِ،
تَقْدِيرُهُ: وَلَقَدْ صَدَّقْتُمْ يَقِينًا أَيْ صِدْقًا
يَقِينًا. (بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ) ابْتِدَاءُ
كَلَامٍ مُسْتَأْنَفٍ، أَيْ إِلَى السَّمَاءِ، وَاللَّهُ
تَعَالَى مُتَعَالٍ عَنِ الْمَكَانِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ
كَيْفِيَّةُ رَفْعِهِ فِي" آلِ عِمْرَانَ" «2». (وَكانَ
اللَّهُ عَزِيزاً) أَيْ قَوِيًّا بِالنِّقْمَةِ مِنْ
الْيَهُودِ فَسَلَّطَ عَلَيْهِمْ بُطْرُسَ «3» بْنَ
أَسْتِيسَانُوسَ الرُّومِيَّ فَقَتَلَ مِنْهُمْ مَقْتَلَةً
عَظِيمَةً. (حَكِيماً) حَكَمَ عَلَيْهِمْ باللعنة والغضب.
[سورة النساء (4): آية 159]
وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ
قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ
شَهِيداً (159)
قوله تعالى: (وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلَّا
لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ). قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ
وَالْحَسَنُ وَمُجَاهِدٌ وَعِكْرِمَةُ: الْمَعْنَى
لَيُؤْمِنَنَّ بِالْمَسِيحِ" قَبْلَ مَوْتِهِ" أَيِ
الْكِتَابِيِّ، فَالْهَاءُ الْأُولَى عَائِدَةٌ عَلَى عِيسَى،
وَالثَّانِيةُ عَلَى الْكِتَابِيِّ، وَذَلِكَ أَنَّهُ لَيْسَ
أحد من أهل الكتاب
__________
(1). اليعافير: أولاد الظباء واحدها يعفور. والعيس بقر الوحش
لبياضها والعيسي البياض وأصله في الإبل استعاره للبقر. [ .....
]
(2). راجع ج 4 ص 99 وما بعدها
(3). في ج، ز، ك: نطوس بن أستينانوس.
(6/10)
الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى إِلَّا
وَيُؤْمِنُ بِعِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ إِذَا عَايَنَ
الْمَلَكَ، وَلَكِنَّهُ إِيمَانٌ لَا يَنْفَعُ، لِأَنَّهُ
إِيمَانٌ عِنْدَ الْيَأْسِ وَحِينَ التَّلَبُّسِ بِحَالَةِ
الْمَوْتِ، فَالْيَهُودِيُّ يُقِرُّ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ
بِأَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ، وَالنَّصْرَانِيُّ يُقِرُّ
بِأَنَّهُ كَانَ رَسُولَ اللَّهِ. وَرُوِيَ أَنَّ الْحَجَّاجَ
سَأَلَ شَهْرَ بْنَ حَوْشَبٍ عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ فَقَالَ:
إِنِّي لَأُوتَى بِالْأَسِيرِ مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى
فَآمُرُ بِضَرْبِ عُنُقِهِ، وَأَنْظُرُ إِلَيْهِ فِي ذَلِكَ
الْوَقْتِ فَلَا أَرَى مِنْهُ الْإِيمَانَ، فَقَالَ لَهُ
شَهْرُ بْنُ حَوْشَبٍ: إِنَّهُ حِينَ عَايَنَ أَمْرَ
الْآخِرَةِ يُقِرُّ بِأَنَّ عِيسَى عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ
فَيُؤْمِنُ بِهِ وَلَا يَنْفَعُهُ، فَقَالَ لَهُ الْحَجَّاجُ:
مِنْ أَيْنَ أَخَذْتَ هَذَا؟ قَالَ: أَخَذْتُهُ مِنْ مُحَمَّدِ
بْنِ الْحَنَفِيَّةِ، فَقَالَ لَهُ الْحَجَّاجُ: أَخَذْتَ مِنْ
عَيْنٍ صَافِيَةٍ. وَرُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ أَنَّهُ قَالَ: مَا
مِنْ أَحَدٍ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا يُؤْمِنُ بِعِيسَى
قَبْلَ مَوْتِهِ، فَقِيلَ لَهُ: إِنْ غَرِقَ أَوِ احْتَرَقَ
أَوْ أَكَلَهُ السَّبُعُ يُؤْمِنُ بِعِيسَى؟ فَقَالَ: نَعَمْ!
وَقِيلَ: إِنَّ الْهَاءَيْنِ جَمِيعًا لِعِيسَى عَلَيْهِ
السَّلَامُ، وَالْمَعْنَى لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ مَنْ كَانَ
حَيًّا حين نزوله يوم «1» القيامة، قاله قَتَادَةُ وَابْنُ
زَيْدٍ وَغَيْرُهُمَا وَاخْتَارَهُ الطَّبَرِيُّ. وَرَوَى
يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ عَنْ رَجُلٍ عَنِ الْحَسَنِ فِي
قَوْلِهِ تَعَالَى:" وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلَّا
لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ" قَالَ: قَبْلَ مَوْتِ
عِيسَى، وَاللَّهِ إِنَّهُ لَحَيٌّ عِنْدَ اللَّهِ الْآنَ،
وَلَكِنْ إِذَا نَزَلَ آمَنُوا بِهِ أَجْمَعُونَ، وَنَحْوَهُ
عَنِ الضَّحَّاكِ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ. وَقِيلَ:"
لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ" أَيْ بِمُحَمَّدٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ
وَإِنْ لَمْ يَجْرِ لَهُ ذِكْرٌ، لِأَنَّ هَذِهِ الْأَقَاصِيصَ
أُنْزِلَتْ عَلَيْهِ وَالْمَقْصُودُ الْإِيمَانُ بِهِ،
وَالْإِيمَانُ بِعِيسَى يَتَضَمَّنُ الْإِيمَانَ بِمُحَمَّدٍ
عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَيْضًا، إِذْ لَا يَجُوزُ
أَنْ يُفَرَّقَ بَيْنَهُمْ. وَقِيلَ:" لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ"
أَيْ بِاللَّهِ تَعَالَى قَبْلَ أَنْ يَمُوتَ وَلَا يَنْفَعُهُ
الْإِيمَانُ عِنْدَ الْمُعَايَنَةِ. وَالتَّأْوِيلَانِ
الْأَوَّلَانِ أَظْهَرُ. وَرَوَى الزُّهْرِيُّ عَنْ سَعِيدِ
بْنِ الْمُسَيَّبِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ:
لَيَنْزِلَنَّ ابْنُ مَرْيَمَ حَكَمًا عَدْلًا فَلَيَقْتُلَنَّ
الدَّجَّالَ وَلَيَقْتُلَنَّ الْخِنْزِيرَ وَلَيَكْسِرَنَّ
الصَّلِيبَ وَتَكُونُ السَّجْدَةُ وَاحِدَةً لِلَّهِ رَبِّ
الْعَالَمِينَ (، ثُمَّ قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: وَاقْرَءُوا
إِنْ شِئْتُمْ وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا
لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ" قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ:
قَبْلَ مَوْتِ عِيسَى، يُعِيدُهَا ثَلَاثَ مَرَّاتٍ.
وَتَقْدِيرُ الْآيَةِ عِنْدَ سِيبَوَيْهِ: وَإِنْ مِنْ أَهْلِ
الْكِتَابِ أَحَدٌ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ. وَتَقْدِيرُ
الْكُوفِيِّينَ: وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا مَنْ
لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ، وَفِيهِ قُبْحٌ، لِأَنَّ فِيهِ حَذْفَ
الْمَوْصُولِ، وَالصِّلَةُ بَعْضُ الموصول فكأنه حذف بعض
الاسم.
__________
(1). أي قرب قيام الساعة.
(6/11)
فَبِظُلْمٍ مِنَ
الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ
لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا (160)
وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ
أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ
مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (161)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَيَوْمَ الْقِيامَةِ
يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً) أَيْ بِتَكْذِيبِ مَنْ كَذَّبَهُ
وَتَصْدِيقِ مَنْ صَدَّقَهُ.
[سورة النساء (4): الآيات 160 الى 161]
فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ
طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ
اللَّهِ كَثِيراً (160) وَأَخْذِهِمُ الرِّبَوا وَقَدْ نُهُوا
عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ
وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ مِنْهُمْ عَذاباً أَلِيماً (161)
فِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى:"
فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا" قَالَ الزَّجَّاجُ: هَذَا
بَدَلٌ مِنْ" فَبِما نَقْضِهِمْ". وَالطَّيِّبَاتُ مَا نَصَّهُ
فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:" وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا
كُلَّ ذِي ظُفُرٍ" [الانعام: 146] «1». وَقَدَّمَ الظُّلْمَ
عَلَى التَّحْرِيمِ إِذْ هُوَ الْغَرَضُ الَّذِي قَصَدَ إِلَى
الْإِخْبَارِ عَنْهُ بِأَنَّهُ سَبَبُ التَّحْرِيمِ.
(وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ) أَيْ وَبِصَدِّهِمْ
أَنْفُسَهُمْ وَغَيْرَهُمْ عَنِ اتِّبَاعِ مُحَمَّدٍ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. (وَأَخْذِهِمُ الرِّبَوا وَقَدْ
نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ)
كُلُّهُ تَفْسِيرٌ لِلظُّلْمِ الَّذِي تَعَاطَوْهُ، وَكَذَلِكَ
مَا قَبْلَهُ مِنْ نَقْضِهِمُ الْمِيثَاقَ وَمَا بَعْدَهُ،
وَقَدْ مَضَى فِي" آلِ عِمْرَانَ" «2» أَنَّ اخْتِلَافَ
الْعُلَمَاءِ فِي سَبَبِ التَّحْرِيمِ عَلَى ثَلَاثَةِ
أَقْوَالٍ هَذَا أَحَدُهَا. الثَّانِيةُ- قَالَ ابْنُ
الْعَرَبِيِّ: لَا خِلَافَ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ أَنَّ
الْكُفَّارَ مُخَاطَبُونَ، وَقَدْ بَيَّنَ اللَّهُ فِي هَذِهِ
الْآيَةِ أَنَّهُمْ قَدْ نُهُوا عَنِ الرِّبَا وَأَكْلِ
الْأَمْوَالِ بِالْبَاطِلِ، فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ خَبَرًا
عَمَّا نَزَلَ عَلَى مُحَمَّدٍ فِي الْقُرْآنِ وَأَنَّهُمْ
دَخَلُوا فِي الْخِطَابِ فَبِهَا وَنِعْمَتْ، وَإِنْ كَانَ
خَبَرًا عَمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى مُوسَى فِي
التَّوْرَاةِ، وَأَنَّهُمْ بَدَّلُوا وَحَرَّفُوا وَعَصَوْا
وَخَالَفُوا فَهَلْ يَجُوزُ لَنَا مُعَامَلَتُهُمْ وَالْقَوْمُ
قَدْ أَفْسَدُوا أَمْوَالَهُمْ فِي دِينِهِمْ أَمْ لَا؟
فَظَنَّتْ طَائِفَةٌ أَنَّ مُعَامَلَتَهُمْ لَا تَجُوزُ،
وَذَلِكَ لِمَا فِي أَمْوَالِهِمْ مِنْ هَذَا الْفَسَادِ.
وَالصَّحِيحُ جَوَازُ مُعَامَلَتِهِمْ مَعَ رِبَاهُمْ
وَاقْتِحَامِ مَا حَرَّمَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ عَلَيْهِمْ،
فَقَدْ قَامَ الدَّلِيلُ الْقَاطِعُ عَلَى ذَلِكَ قُرْآنًا
وَسُنَّةً، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:" وَطَعامُ الَّذِينَ
أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ" [المائدة: 5] «3»
__________
(1). راجع ج 7 ص 124.
(2). راجع ج 4 ص 134 وما بعدها.
(3). راجع ص 75 من هذا الجزء.
(6/12)
لَكِنِ الرَّاسِخُونَ
فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا
أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ
وَالْمُقِيمِينَ الصَّلَاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ
وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أُولَئِكَ
سَنُؤْتِيهِمْ أَجْرًا عَظِيمًا (162)
وَهَذَا نَصٌّ، وَقَدْ عَامَلَ النَّبِيُّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْيَهُودَ وَمَاتَ
وَدِرْعُهُ مَرْهُونَةٌ عِنْدَ يَهُودِيٍّ فِي شَعِيرٍ
أَخَذَهُ لِعِيَالِهِ «1». وَالْحَاسِمُ لِدَاءِ الشَّكِّ
وَالْخِلَافِ اتِّفَاقُ الْأُمَّةِ عَلَى جَوَازِ التِّجَارَةِ
مَعَ أَهْلِ الْحَرْبِ، وَقَدْ سَافَرَ النَّبِيُّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَيْهِمْ تَاجِرًا، وَذَلِكَ
مِنْ سَفَرِهِ أَمْرٌ قَاطِعٌ عَلَى جَوَازِ السَّفَرِ
إِلَيْهِمْ وَالتِّجَارَةِ مَعَهُمْ. فَإِنْ قِيلَ: كَانَ
ذَلِكَ قَبْلَ النُّبُوَّةِ، قُلْنَا: إِنَّهُ لَمْ
يَتَدَنَّسْ قَبْلَ النُّبُوَّةِ بِحَرَامٍ- ثَبَتَ ذَلِكَ
تَوَاتُرًا- وَلَا اعْتَذَرَ عَنْهُ إِذْ بُعِثَ، وَلَا مَنَعَ
مِنْهُ إِذْ نُبِّئَ، وَلَا قَطَعَهُ أَحَدٌ مِنَ الصَّحَابَةِ
فِي حَيَاتِهِ، وَلَا أَحَدٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ بَعْدَ
وَفَاتِهِ، فَقَدْ كَانُوا يُسَافِرُونَ فِي فَكِّ الْأَسْرَى
وَذَلِكَ وَاجِبٌ، وَفِي الصُّلْحِ كَمَا أَرْسَلَ عُثْمَانُ
وَغَيْرُهُ، وَقَدْ يَجِبُ وَقَدْ يَكُونُ نَدْبًا، فَأَمَّا
السَّفَرُ إِلَيْهِمْ لمجرد التجارة فمباح.
[سورة النساء (4): آية 162]
لكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ
يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ
قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكاةَ
وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أُولئِكَ
سَنُؤْتِيهِمْ أَجْراً عَظِيماً (162)
قَوْلُهُ تَعَالَى:" لكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ
مِنْهُمْ" اسْتَثْنَى مُؤْمِنِي أَهْلِ الْكِتَابِ، وَذَلِكَ
أَنَّ الْيَهُودَ أَنْكَرُوا وَقَالُوا: إِنَّ هَذِهِ
الْأَشْيَاءَ كَانَتْ حَرَامًا فِي الْأَصْلِ وَأَنْتَ
تُحِلُّهَا وَلَمْ تَكُنْ حُرِّمَتْ بِظُلْمِنَا، فَنَزَلَ"
لكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ" وَالرَّاسِخُ هُوَ
الْمَبَالِغُ فِي عِلْمِ الْكِتَابِ الثَّابِتِ فِيهِ،
وَالرُّسُوخُ الثُّبُوتُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي" آلِ
عِمْرَانَ" «2» وَالْمُرَادُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ
وَكَعْبُ الْأَحْبَارِ وَنُظَرَاؤُهُمَا." وَالْمُؤْمِنُونَ"
أَيْ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ، أَصْحَابِ
مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ." وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ"
وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَمَالِكُ بْنُ دِينَارٍ وَجَمَاعَةٌ:"
وَالْمُقِيمُونَ" عَلَى الْعَطْفِ، وَكَذَا هُوَ فِي حَرْفِ
عَبْدِ اللَّهِ، وَأَمَّا حَرْفُ أُبَيٍّ فَهُوَ فِيهِ"
وَالْمُقِيمِينَ" كَمَا فِي الْمَصَاحِفِ. وَاخْتُلِفَ فِي
نَصْبِهِ عَلَى أَقْوَالٍ سِتَّةٍ، أَصَحُّهَا قَوْلُ
سِيبَوَيْهِ بِأَنَّهُ نَصْبٌ عَلَى الْمَدْحِ، أَيْ وَأَعْنِي
الْمُقِيمِينَ، قَالَ سِيبَوَيْهِ: هَذَا بَابُ مَا يَنْتَصِبُ
عَلَى التَّعْظِيمِ، وَمِنْ ذَلِكَ" وَالْمُقِيمِينَ
الصَّلاةَ" وَأَنْشَدَ:
__________
(1). يلاحظ هذا على شهرته، مع ما صح أنه صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أمر بتفريق سبعة دنانير كانت له عند عائشة
رضى الله عنها وهو في حال الاحتضار. راجع نهاية الارب ج 18 ص
380.
(2). راجع ج 4 ص 16 وما بعدها.
(6/13)
وَكُلُّ قَوْمٍ أَطَاعُوا أَمْرَ
سَيِّدِهِمْ ... إِلَّا نُمَيْرًا أَطَاعَتْ أَمْرَ غَاوِيهَا
وَيُرْوَى (أَمْرَ مُرْشِدِهِمْ).
الظَّاعِنِينَ «1» وَلَمَّا يُظْعِنُوا أَحَدًا ...
وَالْقَائِلُونَ لِمَنْ دَارٌ نُخَلِّيهَا
وَأَنْشَدَ «2»:
لَا يَبْعَدْنَ قَوْمِي الَّذِينَ هُمْ ... سُمُّ الْعُدَاةِ
وَآفَةُ الْجُزْرِ
النَّازِلِينَ بِكُلِ مُعْتَرَكٍ ... وَالطَّيِّبُونَ
مَعَاقِدَ الْأُزْرِ
قَالَ النَّحَّاسُ: وَهَذَا أَصَحُّ مَا قِيلَ فِي"
الْمُقِيمِينَ". وَقَالَ الْكِسَائِيُّ:" وَالْمُقِيمِينَ"
مَعْطُوفٌ على" بِما". قَالَ النَّحَّاسُ قَالَ الْأَخْفَشُ:
وَهَذَا بَعِيدٌ، لِأَنَّ الْمَعْنَى يَكُونُ وَيُؤْمِنُونَ
بِالْمُقِيمِينَ. وَحَكَى مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ «3» أَنَّهُ
قِيلَ لَهُ: إِنَّ الْمُقِيمِينَ هَاهُنَا الْمَلَائِكَةُ
عَلَيْهِمُ السَّلَامُ، لِدَوَامِهِمْ عَلَى الصَّلَاةِ
وَالتَّسْبِيحِ وَالِاسْتِغْفَارِ، وَاخْتَارَ هَذَا
الْقَوْلَ، وَحَكَى أَنَّ النَّصْبَ عَلَى الْمَدْحِ بَعِيدٌ،
لِأَنَّ الْمَدْحَ إِنَّمَا يَأْتِي بَعْدَ تَمَامِ الْخَبَرِ،
وَخَبَرُ الرَّاسِخِينَ فِي" أُولئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْراً
عَظِيماً" فَلَا يَنْتَصِبُ" الْمُقِيمِينَ" عَلَى الْمَدْحِ.
قَالَ النَّحَّاسُ: وَمَذْهَبُ سِيبَوَيْهِ فِي قَوْلِهِ:"
وَالْمُؤْتُونَ" رُفِعَ بِالِابْتِدَاءِ. وَقَالَ غَيْرُهُ:
هُوَ مَرْفُوعٌ عَلَى إِضْمَارِ مُبْتَدَأٍ، أَيْ هُمُ
الْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ. وَقِيلَ:" وَالْمُقِيمِينَ" عَطْفٌ
عَلَى الْكَافِ الَّتِي فِي" قَبْلِكَ". أَيْ مِنْ قَبْلِكَ
وَمِنْ قَبْلِ الْمُقِيمِينَ. وَقِيلَ:" الْمُقِيمِينَ" عَطْفٌ
عَلَى الْكَافِ الَّتِي فِي" إِلَيْكَ". وَقِيلَ: هُوَ عَطْفٌ
عَلَى الْهَاءِ وَالْمِيمِ، أَيْ مِنْهُمْ وَمِنَ
الْمُقِيمِينَ، وَهَذِهِ الْأَجْوِبَةُ الثَّلَاثَةُ لَا
تَجُوزُ، لِأَنَّ فِيهَا عَطْفَ مُظْهَرٍ عَلَى مُضْمَرٍ
مَخْفُوضٍ. وَالْجَوَابُ السَّادِسُ- مَا رُوِيَ أَنَّ
عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا سُئِلَتْ عَنْ هَذِهِ الآية
وعن قوله:" إِنْ هذانِ لَساحِرانِ 20: 63" [طه: 63] «4»
وَقَوْلِهِ:" وَالصَّابِئُونَ" «5» فِي] الْمَائِدَةِ: 69]،
فَقَالَتْ لِلسَّائِلِ: يَا ابن أخي «6» الكتاب أخطئوا. وقال
__________
(1). قوله: (الظاعنين ولما يظعنوا أحدا) أي يخافون من عدوهم
لقلتهم وذلهم فيظعنون، ولا يخاف منهم عدوهم فيظعن عن دارهم
خوفا منهم. وقوله: (لمن دار نخليها) أي إذا ظعنوا عن دار لم
يعرفوا من يحلها بعدهم لخوفهم من جميع القبائل. والبيتان لابن
خياط.
(2). البيتان لخرنق بنت عفان من بني قيس، وصفت قومها بالظهور
على العدو، ونحر الجزر للأضياف والملازمة للحرب: والعفة عن
الفواحش.
(3). في الأصول: محمد بن يزيد.
(4). راجع ج 11 ص 215.
(5). راجع ج 246 من هذا الجزء.
(6). في الطبري (بابن أختي). [ ..... ]
(6/14)
إِنَّا أَوْحَيْنَا
إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ
بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ
وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ
وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ
زَبُورًا (163)
أَبَانُ بْنُ عُثْمَانَ: كَانَ الْكَاتِبُ
يُمْلَى عَلَيْهِ فَيَكْتُبُ فَكَتَبَ" لكِنِ الرَّاسِخُونَ
فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ" ثُمَّ قَالَ لَهُ:
مَا أَكْتُبُ؟ فَقِيلَ لَهُ: اكْتُبْ" وَالْمُقِيمِينَ
الصَّلاةَ" فَمِنْ ثَمَّ وَقَعَ هَذَا. قَالَ الْقُشَيْرِيُّ:
وَهَذَا الْمَسْلَكُ بَاطِلٌ، لِأَنَّ الَّذِينَ جَمَعُوا
الْكِتَابَ كَانُوا قُدْوَةً فِي اللُّغَةِ، فَلَا يُظَنُّ
بِهِمْ أَنَّهُمْ يُدْرِجُونَ فِي الْقُرْآنِ مَا لَمْ
يُنْزَلْ. وَأَصَحُّ هَذِهِ الْأَقْوَالِ قَوْلُ سِيبَوَيْهِ
وَهُوَ قَوْلُ الْخَلِيلِ، وَقَوْلُ الْكِسَائِيِّ هُوَ اختيار
القفال والطبري، [والله أعلم] «1»
[سورة النساء (4): آية 163]
إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ
وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنا إِلى إِبْراهِيمَ
وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَعِيسى
وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهارُونَ وَسُلَيْمانَ وَآتَيْنا داوُدَ
زَبُوراً (163)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما
أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ) هَذَا متصل بقوله:" يَسْئَلُكَ أَهْلُ
الْكِتابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتاباً مِنَ السَّماءِ"
[النساء: 153]، فَأَعْلَمَ تَعَالَى أَنَّ أَمْرَ مُحَمَّدٍ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَأَمْرِ مَنْ تَقَدَّمَهُ
مِنَ الْأَنْبِيَاءِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِيمَا ذَكَرَهُ
ابْنُ إِسْحَاقَ: نَزَلَتْ فِي قَوْمٍ مِنَ الْيَهُودِ-
مِنْهُمْ سُكَيْنٌ وَعَدِيُّ بْنُ زَيْدٍ- قَالُوا لِلنَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا أَوْحَى اللَّهُ إِلَى
أَحَدٍ مِنْ بَعْدِ مُوسَى فَكَذَّبَهُمُ اللَّهُ. وَالْوَحْيُ
إِعْلَامٌ فِي خَفَاءٍ، يُقَالُ: وَحَى إِلَيْهِ بِالْكَلَامِ
يَحِي وَحْيًا، وَأَوْحَى يُوحِي إِيحَاءً." إِلى نُوحٍ"
قَدَّمَهُ لِأَنَّهُ أَوَّلُ نَبِيٍّ شُرِعَتْ عَلَى لِسَانِهِ
الشَّرَائِعُ. وَقِيلَ غَيْرُ هَذَا، ذَكَرَ الزُّبَيْرُ بْنُ
بَكَّارٍ حَدَّثَنِي أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ
الْمُغِيرَةِ عَنْ هِشَامِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ السَّائِبِ
عَنْ أَبِيهِ قَالَ: أَوَّلُ نَبِيٍّ بَعَثَهُ اللَّهُ]
تَبَارَكَ «2» وَتَعَالَى [فِي الْأَرْضِ إِدْرِيسُ وَاسْمُهُ
أَخْنُوخُ «3»، ثُمَّ انْقَطَعَتِ الرُّسُلُ حَتَّى بَعَثَ
اللَّهُ نُوحَ بْنَ لَمَكِ «4» بْنِ مَتُّوشَلَخَ «5» بْنِ
أَخْنُوخَ، وَقَدْ كَانَ سَامُ بْنُ نُوحٍ نَبِيًّا، ثُمَّ
انْقَطَعَتِ الرُّسُلُ حَتَّى بَعَثَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ
نَبِيًّا وَاتَّخَذَهُ خَلِيلًا، وَهُوَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ
تَارَخَ وَاسْمُ تَارَخَ آزَرُ، ثُمَّ بُعِثَ إِسْمَاعِيلُ
بْنُ إِبْرَاهِيمَ فَمَاتَ بِمَكَّةَ، ثُمَّ إسحاق بن إبراهيم
__________
(1). من ك.
(2). في ج وز.
(3). أخنوخ: (بفتح الهمزة) وحكى صاحب تاج العروس عن شيخه
(بالضم).
(4). لمك: بفتحتين. وقيل: (بفتح فسكون). (روح المعاني). أين
هذا مع قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى آدَمَ. وما روى أن
شيث بن آدم أنزل عليه خمسون صحيفة. مصححه.
(5). متوشلخ (بضم الميم وفتح التاء الفوقية والواو وسكون الشين
المعجمة وقيل: بفتح الميم وضم المثناة الفوقية المشددة وسكون
الواو ولام مفتوحة وخاء معجمة (روح المعاني).
(6/15)
فَمَاتَ بِالشَّامِ، ثُمَّ لُوطٌ
وَإِبْرَاهِيمُ عَمُّهُ، ثُمَّ يَعْقُوبُ وَهُوَ إِسْرَائِيلُ
بْنُ إِسْحَاقُ ثُمَّ يُوسُفُ ابن يَعْقُوبَ ثُمَّ شُعَيْبُ
بْنُ يَوْبَبَ «1»، ثُمَّ هُودُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، ثُمَّ
صَالِحُ بْنُ أَسِفَ، ثُمَّ مُوسَى وَهَارُونُ ابْنَا
عِمْرَانَ، ثُمَّ أَيُّوبُ ثُمَّ الْخَضِرُ وَهُوَ «2»
خَضِرُونُ، ثُمَّ دَاوُدُ بْنُ إيشا، ثم سليمان ابن دَاوُدَ،
ثُمَّ يُونُسُ بْنُ مَتَّى، ثُمَّ إِلْيَاسُ «3»، ثُمَّ ذَا
الْكِفْلِ وَاسْمُهُ عُوَيْدِنَا مِنْ سِبْطِ يهوذا ابن
يَعْقُوبَ، قَالَ: وَبَيْنَ مُوسَى بْنِ عِمْرَانَ وَمَرْيَمَ
بِنْتِ عِمْرَانَ أُمِّ عِيسَى أَلْفُ سَنَةٍ وَسَبْعُمِائَةِ
سَنَةٍ وَلَيْسَا مِنْ سِبْطٍ «4»، ثُمَّ مُحَمَّدُ بْنُ
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ النَّبِيُّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَالَ الزُّبَيْرُ: كُلُّ نَبِيٍّ
ذُكِرَ فِي الْقُرْآنِ مِنْ وَلَدِ إِبْرَاهِيمَ غَيْرَ
إِدْرِيسَ وَنُوحٍ وَلُوطٍ وَهُودٍ وَصَالِحٍ. وَلَمْ يَكُنْ
مِنَ الْعَرَبِ أَنْبِيَاءٌ إِلَّا خَمْسَةٌ: هُودٌ وَصَالِحٌ
وَإِسْمَاعِيلُ وَشُعَيْبٌ وَمُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَعَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ «5»، وَإِنَّمَا سُمُّوا
عَرَبًا لِأَنَّهُ لَمْ يَتَكَلَّمْ بِالْعَرَبِيَّةِ
غَيْرُهُمْ. قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَالنَّبِيِّينَ مِنْ
بَعْدِهِ) هَذَا يَتَنَاوَلُ جَمِيعَ الْأَنْبِيَاءِ، ثُمَّ
قَالَ:" وَأَوْحَيْنا إِلى إِبْراهِيمَ" فَخَصَّ أَقْوَامًا
بِالذِّكْرِ تَشْرِيفًا لَهُمْ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى:"
وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ" «6» ثُمَّ
قَالَ: (وَعِيسى وَأَيُّوبَ) قَدَّمَ عِيسَى عَلَى قَوْمٍ
كَانُوا قَبْلَهُ، لِأَنَّ الْوَاوَ لَا تَقْتَضِي
التَّرْتِيبَ، وَأَيْضًا فِيهِ تَخْصِيصُ عِيسَى رَدًّا عَلَى
الْيَهُودِ. وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ تَنْبِيهٌ عَلَى قَدْرِ
نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَشَرَفِهِ،
حَيْثُ قَدَّمَهُ فِي الذِّكْرِ عَلَى أَنْبِيَائِهِ،
وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ
النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ" «7»]
الأحزاب: 7] الْآيَةَ، وَنُوحٌ مُشْتَقٌّ مِنَ النَّوْحِ،
وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مُوعَبًا فِي" آلِ عِمْرَانَ" «8»
وَانْصَرَفَ وَهُوَ اسْمٌ أَعْجَمِيٌّ، لِأَنَّهُ عَلَى
ثَلَاثَةِ أَحْرُفٍ فَخَفَّ، فَأَمَّا إِبْرَاهِيمُ
وَإِسْمَاعِيلُ [وَإِسْحَاقُ] «9» فَأَعْجَمِيَّةٌ وَهِيَ
مُعَرَّفَةٌ وَلِذَلِكَ لَمْ تَنْصَرِفْ، وَكَذَا يَعْقُوبُ
وَعِيسَى وَمُوسَى إِلَّا أَنَّ عِيسَى وَمُوسَى يَجُوزُ أَنْ
تَكُونَ الْأَلِفُ فِيهِمَا لِلتَّأْنِيثِ فَلَا يَنْصَرِفَانِ
فِي مَعْرِفَةٍ وَلَا نَكِرَةٍ، فَأَمَّا يُونُسُ وَيُوسُفُ
فَرُوِيَ عَنِ الْحَسَنِ أَنَّهُ قَرَأَ" وَيُونِسَ" بِكَسْرِ
النُّونِ وَكَذَا" يُوسِفَ" يَجْعَلُهُمَا مِنْ آنَسَ وَآسَفَ،
وَيَجِبُ عَلَى هَذَا أَنْ يُصْرَفَا وَيُهْمَزَا وَيَكُونُ
جَمْعُهُمَا يَآنِسُ ويآسف. ومن لم يهمز قال: يوانس
__________
(1). يوبب: (بمثناة تحتية وواو موحدتين) بوزن جعفر. (روح
المعاني).
(2). في ز: ثم خضرون.
(3). في ز: ثم إلياس ثم بشير إلخ. ولا يعرف في الأنبياء بشير.
(4). ذكروا من أنبياء العرب حنظلة ابن صفوان رسول إلى أصحاب
الرس. وخالد بن سنان العبسي.
(5). ذكروا من أنبياء العرب حنظلة ابن صفوان رسول إلى أصحاب
الرس. وخالد بن سنان العبسي.
(6). راجع ج 2 ص 63.
(7). راجع ج 14 ص 126.
(8). راجع ج 4 ص 62.
(9). الزيادة عن (إعراب القرآن) للنحاس. [ ..... ]
(6/16)
وَرُسُلًا قَدْ
قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ
نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا
(164)
وَيَوَاسِفُ. وَحَكَى أَبُو زَيْدٍ:
يُونَسَ وَيُوسَفَ بِفَتْحِ النُّونِ وَالسِّينِ، قَالَ
الْمَهْدَوِيُّ: وَكَأَنَّ" يُونِسَ" فِي الْأَصْلِ فِعْلٌ
مَبْنِيٌّ لِلْفَاعِلِ، وَ" يُونَسَ" فِعْلٌ مَبْنِيٌّ
لِلْمَفْعُولِ، فَسُمِّيَ بِهِمَا. قَوْلُهُ تَعَالَى:
(وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً) الزَّبُورُ كِتَابُ دَاوُدَ
وَكَانَ مِائَةً وَخَمْسِينَ سُورَةً لَيْسَ فِيهَا حُكْمٌ
وَلَا حَلَالٌ وَلَا حَرَامٌ، وَإِنَّمَا هِيَ حِكَمٌ
وَمَوَاعِظُ. وَالزُّبُرُ الْكِتَابَةُ، وَالزَّبُورُ
بِمَعْنَى الْمَزْبُورِ أَيِ الْمَكْتُوبِ، كَالرَّسُولِ
وَالرَّكُوبِ وَالْحَلُوبِ. وَقَرَأَ حَمْزَةُ" زُبُورًا"
بِضَمِّ الزَّايِ جَمْعُ زَبْرٍ كَفَلْسٍ وَفُلُوسٍ، وَزَبْرٌ
بِمَعْنَى الْمَزْبُورِ، كَمَا يُقَالُ: هَذَا الدِّرْهَمُ
ضَرْبُ الْأَمِيرِ أَيْ مَضْرُوبُهُ، وَالْأَصْلُ فِي
الْكَلِمَةِ التَّوْثِيقُ، يُقَالُ: بِئْرٌ مَزْبُورَةٌ أَيْ
مَطْوِيَّةٌ بِالْحِجَارَةِ، وَالْكِتَابُ يُسَمَّى زَبُورًا
لِقُوَّةِ الْوَثِيقَةِ بِهِ. وَكَانَ دَاوُدُ عَلَيْهِ
السَّلَامُ حَسَنَ الصَّوْتِ، فَإِذَا أَخَذَ فِي قِرَاءَةِ
الزَّبُورِ اجْتَمَعَ إِلَيْهِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ
وَالطَّيْرُ وَالْوَحْشُ لِحُسْنِ صَوْتِهِ، وَكَانَ
مُتَوَاضِعًا يَأْكُلُ مِنْ عَمَلِ يَدِهِ، رَوَى أَبُو بَكْرِ
بْنُ أَبِي شَيْبَةَ حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ عَنْ هِشَامِ
بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: أَنْ كَانَ دَاوُدُ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيَخْطُبُ النَّاسَ وَفِي يَدِهِ
الْقُفَّةُ مِنَ الْخُوصِ، فَإِذَا فَرَغَ نَاوَلَهَا بَعْضَ
مَنْ إِلَى جَنْبِهِ يَبِيعُهَا، وَكَانَ يَصْنَعُ الدُّرُوعَ،
وَسَيَأْتِي «1». وَفِي الْحَدِيثِ: (الزُّرْقَةُ فِي
الْعَيْنِ يُمْنٌ) وَكَانَ داود أزرق.
[سورة النساء (4): آية 164]
وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْناهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلاً
لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسى
تَكْلِيماً (164)
قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْناهُمْ عَلَيْكَ
مِنْ قَبْلُ" يَعْنِي بِمَكَّةَ." وَرُسُلًا" مَنْصُوبٌ
بِإِضْمَارِ فِعْلٍ، أي وأرسلنا رسلا، لان معنى" أَوْحَيْنا
إِلى نُوحٍ" وَأَرْسَلْنَا نُوحًا. وَقِيلَ: هُوَ مَنْصُوبٌ
بِفِعْلٍ دَلَّ عَلَيْهِ" قَصَصْناهُمْ" أَيْ وَقَصَصْنَا
رُسُلًا، وَمِثْلُهُ مَا أَنْشَدَ سِيبَوَيْهِ «2»:
أَصْبَحْتُ لَا أَحْمِلُ السِّلَاحَ وَلَا ... أَمْلِكُ رَأْسَ
الْبَعِيرِ إِنْ نَفَرَا
وَالذِّئْبَ أَخْشَاهُ إِنْ مَرَرْتُ بِهِ ... وَحْدِي
وَأَخْشَى الرياح والمطرا
__________
(1). راجع ج 11 ص 330.
(2). البيتان للربيع بن ضبع الفزاري، وهو أحد المعمرين، وصف
فيهما انتهاء شبيبته وذهاب قوته.
(6/17)
رُسُلًا مُبَشِّرِينَ
وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ
حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا
(165)
أَيْ وَأَخْشَى الذِّئْبَ. وَفِي حَرْفِ
أُبَيٍّ" وَرُسُلٌ" بِالرَّفْعِ عَلَى تَقْدِيرِ وَمِنْهُمْ
رُسُلٌ. ثُمَّ قِيلَ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا قَصَّ فِي
كِتَابِهِ بَعْضَ أَسْمَاءِ أَنْبِيَائِهِ، وَلَمْ يَذْكُرْ
أَسْمَاءَ بَعْضٍ، وَلِمَنْ ذَكَرَ فَضْلٌ عَلَى مَنْ لَمْ
يَذْكُرْ. قَالَتِ الْيَهُودُ: ذَكَرَ مُحَمَّدٌ
الْأَنْبِيَاءَ وَلَمْ يَذْكُرْ مُوسَى، فَنَزَلَتْ" وَكَلَّمَ
اللَّهُ مُوسى تَكْلِيماً"" تَكْلِيماً" مَصْدَرٌ مَعْنَاهُ
التَّأْكِيدُ، يَدُلُّ عَلَى بُطْلَانِ مَنْ يَقُولُ: خَلَقَ
لِنَفْسِهِ كَلَامًا فِي شَجَرَةٍ فَسَمِعَهُ مُوسَى، بَلْ
هُوَ الْكَلَامُ الْحَقِيقِيُّ الَّذِي يَكُونُ بِهِ
الْمُتَكَلِّمُ مُتَكَلِّمًا. قَالَ النَّحَّاسُ: وَأَجْمَعَ
النَّحْوِيُّونَ عَلَى أَنَّكَ إِذَا أَكَّدْتَ الْفِعْلَ
بِالْمَصْدَرِ لَمْ يَكُنْ مَجَازًا، وَأَنَّهُ لَا يَجُوزُ
فِي قَوْلِ الشَّاعِرِ:
امْتَلَأَ الْحَوْضُ وَقَالَ قَطْنِي
أَنْ يَقُولَ: قَالَ قَوْلًا، فَكَذَا لَمَّا قَالَ:"
تَكْلِيماً" وَجَبَ أَنْ يَكُونَ كَلَامًا عَلَى الْحَقِيقَةِ
مِنَ الْكَلَامِ الَّذِي يُعْقَلُ. وَقَالَ وَهْبُ بْنُ
مُنَبِّهٍ: إِنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ:" يَا
رَبِّ بِمَ اتَّخَذْتَنِي كَلِيمًا"؟ طَلَبَ الْعَمَلَ الَّذِي
أَسْعَدَهُ اللَّهُ بِهِ لِيُكْثِرَ مِنْهُ، فَقَالَ اللَّهُ
تَعَالَى لَهُ: أَتَذْكُرُ إِذْ نَدَّ مِنْ غَنَمِكَ جَدْيٌ
فَاتَّبَعْتَهُ أَكْثَرَ النَّهَارِ وَأَتْعَبَكَ، ثُمَّ
أَخَذْتَهُ وَقَبَّلْتَهُ وَضَمَمْتَهُ إِلَى صَدْرِكَ
وَقُلْتَ لَهُ: أَتْعَبْتَنِي وَأَتْعَبْتَ نَفْسَكَ، وَلَمْ
تَغْضَبْ عَلَيْهِ، مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ اتَّخَذْتُكَ كليما.
[سورة النساء (4): آية 165]
رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ
لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكانَ
اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً (165)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ) هُوَ
نَصْبٌ عَلَى الْبَدَلِ مِنْ" وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْناهُمْ"
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَلَى إِضْمَارِ فِعْلٍ، وَيَجُوزُ
نَصْبُهُ عَلَى الْحَالِ، أَيْ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ
وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ رُسُلًا. (لِئَلَّا يَكُونَ
لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ)
فَيَقُولُوا مَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا، وَمَا
أَنْزَلْتَ عَلَيْنَا كِتَابًا، وَفِي التَّنْزِيلِ:" وَما
كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا" «1» [الاسراء:
15]، وَقَوْلُهُ تَعَالَى:" وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْناهُمْ
بِعَذابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقالُوا رَبَّنا لَوْلا أَرْسَلْتَ
إِلَيْنا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ «2» آياتِكَ 20: 134" [طه: 134]
وفي هذا كله دليل واضح على أنه لا يجب شي مِنْ نَاحِيَةِ
الْعَقْلِ. وَرُوِيَ عَنْ كَعْبِ الْأَحْبَارِ أَنَّهُ قَالَ:
كَانَ الْأَنْبِيَاءُ أَلْفَيْ أَلْفٍ وَمِائَتَيْ «3» ألف.
وقال مقاتل: «4» كان الأنبياء
__________
(1). راجع ج 10 ص 230.
(2). راجع ج 11 ص 264.
(3). في ك: مائة.
(4). هذه الرواية نسبها (البحر) و (روح المعاني) إلى كعب
الأحبار.
(6/18)
لَكِنِ اللَّهُ
يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ
وَالْمَلَائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا
(166)
أَلْفَ أَلْفٍ وَأَرْبَعَمِائَةِ أَلْفٍ
وَأَرْبَعَةً وَعِشْرِينَ أَلْفًا. وَرَوَى أَنَسُ بْنُ
مَالِكٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: (بُعِثْتُ عَلَى أَثَرِ ثَمَانِيَةِ
آلَافٍ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ مِنْهُمْ أَرْبَعَةُ آلَافٍ مِنْ
بَنِي إِسْرَائِيلَ) ذَكَرَهُ أَبُو اللَّيْثِ
السَّمَرْقَنْدِيُّ فِي التَّفْسِيرِ لَهُ، ثُمَّ أَسْنَدَ
عَنْ شُعْبَةَ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنِ الْحَارِثِ
الْأَعْوَرِ عَنْ أَبِي ذَرٍّ الْغِفَارِيِّ قَالَ: قُلْتُ يَا
رَسُولَ اللَّهِ كَمْ كَانَتِ الْأَنْبِيَاءُ وَكَمْ كَانَ
الْمُرْسَلُونَ؟ قَالَ: (كَانَتِ الْأَنْبِيَاءُ مِائَةَ
أَلْفِ نَبِيٍّ وَأَرْبَعَةً وَعِشْرِينَ أَلْفَ نَبِيٍّ
وَكَانَ الْمُرْسَلُونَ ثَلَاثَمِائَةٍ وَثَلَاثَةَ عَشَرَ).
قُلْتُ: هَذَا أَصَحُّ مَا رُوِيَ فِي ذَلِكَ، خَرَّجَهُ
الْآجُرِّيُّ وَأَبُو حَاتِمٍ البستي في المسند الصحيح له.
[سورة النساء (4): آية 166]
لكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِما أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ
بِعِلْمِهِ وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفى بِاللَّهِ
شَهِيداً (166)
قَوْلُهُ تَعَالَى:" لكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ" رَفْعٌ
بِالِابْتِدَاءِ، وَإِنْ شِئْتَ شَدَّدْتَ النُّونَ
وَنَصَبْتَ. وَفِي الْكَلَامِ حَذْفٌ دَلَّ عَلَيْهِ
الْكَلَامُ، كَأَنَّ الْكُفَّارَ قَالُوا: مَا نَشْهَدُ لَكَ
يَا مُحَمَّدُ فِيمَا تَقُولُ فَمَنْ يَشْهَدُ لَكَ؟ فَنَزَلَ"
لكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ". وَمَعْنَى (أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ)
أَيْ وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّكَ أَهْلٌ لِإِنْزَالِهِ عَلَيْكَ،
وَدَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى عَالِمٌ بِعِلْمٍ.
(وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ) ذَكَرَ شَهَادَةَ
الْمَلَائِكَةِ لِيُقَابِلَ بِهَا نَفْيَ شَهَادَتِهِمْ.
(وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً) أي كفى الله شاهدا، والباء زائدة.
[سورة النساء (4): آية 167]
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ قَدْ
ضَلُّوا ضَلالاً بَعِيداً (167)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا) يَعْنِي
الْيَهُودَ] أَيْ ظَلَمُوا [«1». (وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ
اللَّهِ) أَيْ عَنِ اتِّبَاعِ] الرَّسُولِ [«2» مُحَمَّدٍ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَوْلِهِمْ: مَا نَجِدُ
صِفَتَهُ «3» فِي كِتَابِنَا، وَإِنَّمَا النُّبُوَّةُ فِي
وَلَدِ هَارُونَ وَدَاوُدَ، وَإِنَّ فِي التَّوْرَاةِ أَنَّ
شَرْعَ مُوسَى لَا يُنْسَخُ. (قَدْ ضَلُّوا ضَلالًا بَعِيداً)
لِأَنَّهُمْ كَفَرُوا وَمَعَ ذَلِكَ مَنَعُوا النَّاسَ من
الإسلام.
__________
(1). من ك.
(2). من ز.
(3). في ك: صفاته.
(6/19)
إِنَّ الَّذِينَ
كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ
وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقًا (168)
[سورة النساء (4): الآيات 168 الى 169]
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ
لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً (168) إِلاَّ
طَرِيقَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أَبَداً وَكانَ ذلِكَ عَلَى
اللَّهِ يَسِيراً (169)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا)
يَعْنِي الْيَهُودَ، أَيْ ظَلَمُوا مُحَمَّدًا بِكِتْمَانِ
نَعْتِهِ، وَأَنْفُسَهُمْ إِذْ كَفَرُوا، وَالنَّاسَ إِذْ
كَتَمُوهُمْ. (لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ) هَذَا
فِيمَنْ يموت على كفره ولم يتب.
[سورة النساء (4): آية 170]
يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ
مِنْ رَبِّكُمْ فَآمِنُوا خَيْراً لَكُمْ وَإِنْ تَكْفُرُوا
فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَكانَ
اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً (170)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ) هَذَا خِطَابٌ
لِلْكُلِّ. (قَدْ جاءَكُمُ الرَّسُولُ) 170 يُرِيدُ مُحَمَّدًا
عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ. (بِالْحَقِّ) بِالْقُرْآنِ.
وَقِيلَ: بِالدِّينِ الْحَقِّ، وَقِيلَ: بِشَهَادَةِ أَنْ لَا
إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَقِيلَ: الْبَاءُ لِلتَّعْدِيَةِ،
أَيْ جَاءَكُمْ وَمَعَهُ الْحَقُّ، فَهُوَ فِي مَوْضِعِ
الْحَالِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: (فَآمِنُوا خَيْراً لَكُمْ) 170
فِي الْكَلَامِ إِضْمَارٌ، أَيْ وَأْتُوا خَيْرًا لَكُمْ،
هَذَا مَذْهَبُ سِيبَوَيْهِ، وَعَلَى قَوْلِ الْفَرَّاءِ
نَعْتٌ لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ إِيمَانًا خَيْرًا لَكُمْ،
وَعَلَى قَوْلِ أَبِي عبيدة يكن خيرا لكم.
[سورة النساء (4): آية 171]
يَا أَهْلَ الْكِتابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا
تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ
عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقاها
إِلى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ
وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ انْتَهُوا خَيْراً لَكُمْ إِنَّمَا
اللَّهُ إِلهٌ واحِدٌ سُبْحانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ
لَهُ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكَفى بِاللَّهِ
وَكِيلاً (171)
(6/20)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (يَا أَهْلَ الْكِتابِ
لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ) نَهْيٌ عَنِ الْغُلُوِّ.
وَالْغُلُوُّ التَّجَاوُزُ فِي الْحَدِّ، وَمِنْهُ غَلَا
السِّعْرُ يَغْلُو غَلَاءً، وَغَلَا الرَّجُلُ فِي الْأَمْرِ
غُلُوًّا، وَغَلَا بِالْجَارِيَةِ لَحْمُهَا وَعَظْمُهَا إِذَا
أَسْرَعَتِ الشَّبَابَ فَجَاوَزَتْ لِدَاتِهَا «1»، وَيَعْنِي
بِذَلِكَ فِيمَا ذَكَرَهُ الْمُفَسِّرُونَ غُلُوَّ الْيَهُودِ
فِي عِيسَى حَتَّى قَذَفُوا مَرْيَمَ، وَغُلُوَّ النَّصَارَى
فِيهِ حَتَّى جَعَلُوهُ رَبًّا، فَالْإِفْرَاطُ وَالتَّقْصِيرُ
كُلُّهُ سَيِّئَةٌ وَكُفْرٌ، وَلِذَلِكَ قَالَ مُطَرِّفُ بْنُ
عَبْدِ اللَّهِ: الْحَسَنَةُ بَيْنَ سَيِّئَتَيْنِ، وَقَالَ
الشَّاعِرُ:
وَأَوْفِ ولا تسوف حَقَّكَ كُلَّهُ ... وَصَافِحْ فَلَمْ
يَسْتَوْفِ قَطُّ كَرِيمُ
وَلَا تَغْلُ فِي شَيْءٍ مِنَ الْأَمْرِ وَاقْتَصِدْ ... كِلَا
طَرَفَيْ قَصْدِ الْأُمُورِ ذَمِيمُ
وَقَالَ آخَرُ:
عَلَيْكَ بِأَوْسَاطِ الْأُمُورِ فَإِنَّهَا ... نَجَاةٌ وَلَا
تَرْكَبْ ذَلُولًا وَلَا صَعْبَا
وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: (لَا
تُطْرُونِي «2» كَمَا أَطْرَتِ النَّصَارَى عِيسَى وَقُولُوا
عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ). قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَلا
تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ) أَيْ لا تقولوا إن
له شريكا أو أبناء ثُمَّ بَيَّنَ تَعَالَى حَالَ عِيسَى
عَلَيْهِ السَّلَامُ وَصِفَتَهُ فَقَالَ:" إِنَّمَا الْمَسِيحُ
عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ" وَفِيهِ
ثَلَاثُ مَسَائِلَ: الْأَوْلَى: قَوْلُهُ تَعَالَى:" إِنَّمَا
الْمَسِيحُ" الْمَسِيحُ رَفْعٌ بِالِابْتِدَاءِ، وَ" عِيسَى"
بَدَلٌ مِنْهُ وَكَذَا" ابْنُ مَرْيَمَ". وَيَجُوزُ أَنْ
يَكُونَ خَبَرَ الِابْتِدَاءِ وَيَكُونُ الْمَعْنَى: إِنَّمَا
الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ. وَدَلَّ بِقَوْلِهِ:" عِيسَى ابْنُ
مَرْيَمَ" عَلَى أَنَّ مَنْ كَانَ مَنْسُوبًا بِوَالِدَتِهِ
كَيْفَ يَكُونُ إِلَهًا، وَحَقُّ الْإِلَهِ أَنْ يَكُونَ
قَدِيمًا لَا مُحْدَثًا. وَيَكُونُ" رَسُولُ اللَّهِ" خَبَرًا
بَعْدَ خَبَرٍ. الثَّانِيةُ: لَمْ يَذْكُرِ اللَّهُ عَزَّ
وَجَلَّ امْرَأَةً وَسَمَّاهَا بِاسْمِهَا فِي كِتَابِهِ
إِلَّا مَرْيَمَ ابْنَةَ عِمْرَانَ، فَإِنَّهُ ذَكَرَ اسْمَهَا
فِي نَحْوٍ مِنْ ثَلَاثِينَ مَوْضِعًا لِحِكْمَةٍ ذَكَرَهَا
بعض الأشياخ، فإن الملوك والاشراف
__________
(1). اللدات (جمع لدة كعدة): الترب، وهو الذي ولد معك وتربى.
(2). الإطراء: مجاوزة الحد في المدح والكذب فيه.
(6/21)
لَا يَذْكُرُونَ حَرَائِرَهُمْ فِي
الْمَلَإِ، وَلَا يَبْتَذِلُونَ أَسْمَاءَهُنَّ، بَلْ
يُكَنُّونَ عَنِ الزَّوْجَةِ بِالْعِرْسِ وَالْأَهْلِ
وَالْعِيَالِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَإِنْ ذَكَرُوا الْإِمَاءَ
لَمْ يُكَنُّوا عَنْهُنَّ وَلَمْ يَصُونُوا أَسْمَاءَهُنَّ
عَنِ الذِّكْرِ وَالتَّصْرِيحِ بِهَا، فَلَمَّا قَالَتِ
النَّصَارَى فِي مَرْيَمَ مَا قَالَتْ، وَفِي ابْنِهَا صَرَّحَ
اللَّهُ بِاسْمِهَا، وَلَمْ يُكَنِّ عَنْهَا بِالْأُمُوَّةِ
وَالْعُبُودِيَّةِ الَّتِي هِيَ صِفَةٌ لَهَا، وَأَجْرَى
الْكَلَامَ عَلَى عَادَةِ الْعَرَبِ فِي ذِكْرِ إِمَائِهَا.
الثَّالِثَةُ- اعْتِقَادُ أَنَّ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ
لَا أَبَ لَهُ وَاجِبٌ، فَإِذَا تَكَرَّرَ اسْمُهُ «1»
مَنْسُوبًا لِلْأُمِّ اسْتَشْعَرَتِ الْقُلُوبُ مَا يَجِبُ
عَلَيْهَا اعْتِقَادُهُ مِنْ نَفْيِ الْأَبِ عَنْهُ،
وَتَنْزِيهِ الْأُمِّ الطَّاهِرَةِ عَنْ مَقَالَةِ الْيَهُودِ
لَعَنَهُمُ اللَّهُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. قَوْلُهُ تَعَالَى:
(وَكَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ) أَيْ هُوَ مُكَوَّنٌ
بِكَلِمَةِ" كُنْ" فَكَانَ بَشَرًا مِنْ غَيْرِ أَبٍ،
وَالْعَرَبُ تُسَمِّي الشَّيْءَ بِاسْمِ الشَّيْءِ إِذَا كَانَ
صَادِرًا عَنْهُ. وَقِيلَ:" كَلِمَتُهُ" بِشَارَةُ اللَّهِ
تَعَالَى مَرْيَمَ عَلَيْهَا السَّلَامُ، وَرِسَالَتُهُ
إِلَيْهَا عَلَى لِسَانِ جِبْرِيلَ] عَلَيْهِ السَّلَامُ [«2»،
وَذَلِكَ قَوْلُهُ:" إِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ
إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ" «3»] آل عمران:
45]. وَقِيلَ:" الْكَلِمَةُ" هَاهُنَا بِمَعْنَى الْآيَةِ،
قَالَ اللَّهُ تعالى:" وَصَدَّقَتْ بِكَلِماتِ رَبِّها" «4»]
التحريم: 12] و" ما نَفِدَتْ كَلِماتُ اللَّهِ" «5»] لقمان:
27]. وَكَانَ لِعِيسَى أَرْبَعَةُ أَسْمَاءٍ، الْمَسِيحُ
وَعِيسَى وَكَلِمَةٌ وَرُوحٌ، وَقِيلَ غَيْرُ هَذَا مِمَّا
لَيْسَ فِي الْقُرْآنِ. وَمَعْنَى" أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ"
أَمَرَ بِهَا مَرْيَمَ «6». قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَرُوحٌ
مِنْهُ). هَذَا الَّذِي أَوْقَعَ النَّصَارَى فِي
الْإِضْلَالِ، فَقَالُوا: عِيسَى جُزْءٌ مِنْهُ فَجَهِلُوا
وَضَلُّوا، وَعَنْهُ أَجْوِبَةٌ ثَمَانِيَةٌ: الْأَوَّلُ-
قَالَ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ: خَلَقَ اللَّهُ أَرْوَاحَ بَنِي
آدَمَ لَمَّا أَخَذَ عَلَيْهِمُ الْمِيثَاقَ، ثُمَّ رَدَّهَا
إِلَى صُلْبِ آدَمَ وَأَمْسَكَ عِنْدَهُ رُوحَ عِيسَى عَلَيْهِ
السَّلَامُ، فَلَمَّا أَرَادَ خَلْقَهُ أَرْسَلَ ذَلِكَ
الرُّوحَ إِلَى مَرْيَمَ، فَكَانَ مِنْهُ عِيسَى عَلَيْهِ
السَّلَامُ، فَلِهَذَا قَالَ:" وَرُوحٌ مِنْهُ". وَقِيلَ:
هَذِهِ الْإِضَافَةُ لِلتَّفْضِيلِ وَإِنْ كَانَ جَمِيعُ
الْأَرْوَاحِ مِنْ خَلْقِهِ، وَهَذَا كَقَوْلِهِ:" وَطَهِّرْ
بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ" «7»] الحج: 26]، وَقِيلَ: قَدْ
يُسَمَّى مَنْ تَظْهَرُ مِنْهُ الْأَشْيَاءُ الْعَجِيبَةُ
رُوحًا، وَتُضَافُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى فَيُقَالُ: هَذَا
رُوحٌ مِنَ اللَّهِ أَيْ مِنْ خَلْقِهِ، كَمَا يُقَالُ فِي
النِّعْمَةِ إِنَّهَا مِنَ اللَّهِ. وَكَانَ عِيسَى يُبْرِئُ
الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَيُحْيِي الْمَوْتَى فاستحق هذا
الاسم. وقيل:
__________
(1). في ج: ذكره.
(2). من ك.
(3). راجع ج 4 ص 88. [ ..... ]
(4). راجع ج 18 ص 23.
(5). راجع ج 14 ص 76.
(6). في البحر: ألقاها إلى مريم أوجد هذا الحادث في مريم وحصله
فيها.
(7). راجع ج 2 ص 110
(6/22)
يُسَمَّى رُوحًا بِسَبَبِ نَفْخَةِ
جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَيُسَمَّى النَّفْخُ رُوحًا،
لِأَنَّهُ رِيحٌ يَخْرُجُ مِنَ الرُّوحِ. قَالَ الشَّاعِرُ-
هُوَ ذُو الرُّمَّةِ-:
فَقُلْتُ له أرفعها إليك وأحبها ... بِرُوحِكَ «1» وَاقْتَتْهُ
لَهَا قِيتَةً قَدْرَا
وَقَدْ وَرَدَ أَنَّ جِبْرِيلَ نَفَخَ فِي دِرْعِ مَرْيَمَ
فَحَمَلَتْ مِنْهُ بِإِذْنِ اللَّهِ، وَعَلَى هَذَا يَكُونُ"
وَرُوحٌ مِنْهُ" مَعْطُوفًا عَلَى الْمُضْمَرِ الَّذِي هُوَ
اسْمُ اللَّهِ فِي" أَلْقاها" التَّقْدِيرُ: أَلْقَى اللَّهُ
وَجِبْرِيلُ الْكَلِمَةَ إِلَى مَرْيَمَ. وَقِيلَ:" رُوحٌ
مِنْهُ «2» " أَيْ مِنْ خَلْقِهِ، كَمَا قَالَ:" وَسَخَّرَ
لَكُمْ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً
مِنْهُ"] الجاثية: 13] أَيْ مِنْ خَلْقِهِ. وَقِيلَ:" رُوحٌ
مِنْهُ" أَيْ رَحْمَةٌ مِنْهُ، فَكَانَ عِيسَى رَحْمَةٌ مِنَ
اللَّهِ لِمَنِ اتَّبَعَهُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:"
وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ" «3»] المجادلة: 22] أي برحمة،
وقرى:" فَرُوحٌ وَرَيْحَانٌ" «4». وَقِيلَ:" وَرُوحٌ مِنْهُ"
وَبُرْهَانٌ مِنْهُ، وَكَانَ عِيسَى بُرْهَانًا وَحُجَّةً
عَلَى قَوْمِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَوْلُهُ
تَعَالَى: (فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ) أَيْ آمِنُوا
بِأَنَّ اللَّهَ إِلَهٌ وَاحِدٌ خَالِقُ الْمَسِيحِ
وَمُرْسِلُهُ، وَآمِنُوا بِرُسُلِهِ وَمِنْهُمْ عِيسَى فَلَا
تَجْعَلُوهُ إِلَهًا. (وَلا تَقُولُوا) آلِهَتُنَا" ثَلاثَةٌ"
عَنِ الزَّجَّاجِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يُرِيدُ
بِالتَّثْلِيثِ اللَّهَ تَعَالَى وَصَاحِبَتَهُ وَابْنَهُ.
وَقَالَ الْفَرَّاءُ وَأَبُو عُبَيْدٍ: أَيْ لَا تَقُولُوا
هُمْ ثَلَاثَةٌ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى:" سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ"
«5» [الكهف: 22].] قَالَ [«6» أَبُو عَلِيٍّ: التَّقْدِيرُ
وَلَا تَقُولُوا هُوَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ، فَحُذِفَ
الْمُبْتَدَأُ وَالْمُضَافُ. وَالنَّصَارَى مَعَ فِرَقِهِمْ
مُجْمِعُونَ عَلَى التَّثْلِيثِ وَيَقُولُونَ: إِنَّ اللَّهَ
جَوْهَرٌ وَاحِدٌ وَلَهُ ثَلَاثَةُ أَقَانِيمَ، فَيَجْعَلُونَ
كُلَّ أُقْنُومٍ إِلَهًا وَيَعْنُونَ بِالْأَقَانِيمِ
الْوُجُودَ وَالْحَيَاةَ وَالْعِلْمَ، وَرُبَّمَا يُعَبِّرُونَ
عَنِ الْأَقَانِيمِ بِالْأَبِ وَالِابْنِ وَرُوحِ الْقُدُسِ،
فَيَعْنُونَ بِالْأَبِ الْوُجُودَ، وَبِالرُّوحِ الْحَيَاةَ،
وَبِالِابْنِ الْمَسِيحَ، فِي كَلَامٍ لَهُمْ فِيهِ تَخَبُّطٌ
بَيَانُهُ فِي أُصُولِ الدِّينِ. وَمَحْصُولُ كَلَامِهِمْ
يَئُولُ إِلَى التَّمَسُّكِ بِأَنَّ عِيسَى إِلَهٌ بِمَا كَانَ
يُجْرِيهِ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَلَى يَدَيْهِ مِنْ
خَوَارِقِ الْعَادَاتِ عَلَى حَسَبِ دَوَاعِيهِ وَإِرَادَتِهِ،
وَقَالُوا: قَدْ عَلِمْنَا خُرُوجَ هَذِهِ الْأُمُورِ عَنْ
مَقْدُورِ الْبَشَرِ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْمُقْتَدِرُ
عَلَيْهَا مَوْصُوفًا بِالْإِلَهِيَّةِ، فَيُقَالُ لَهُمْ:
لَوْ كَانَ ذَلِكَ مِنْ مَقْدُورَاتِهِ وكان مستقلا به
__________
(1). بروحك: بنفخك. (واقتته لها قيتة): يأمره بالرفق والنفخ
القليل في النار. وأن يطعمها حطبا قليلا قليلا.
(2). راجع ج 16 ص 160.
(3). راجع ج 17 ص 308، ص 232.
(4). راجع ج 17 ص 308، ص 232.
(5). راجع ج 10 ص 322.
(6). من ك.
(6/23)
كَانَ تَخْلِيصُ نَفْسِهِ مِنْ أَعْدَائِهِ
وَدَفْعُ شَرِّهِمْ عَنْهُ مِنْ مَقْدُورَاتِهِ، وَلَيْسَ
كَذَلِكَ، فَإِنِ اعْتَرَفَتِ النَّصَارَى بِذَلِكَ فَقَدْ
سَقَطَ قَوْلُهُمْ وَدَعْوَاهُمْ أَنَّهُ كَانَ يَفْعَلُهَا
مُسْتَقِلًّا بِهِ، وَإِنْ لَمْ يُسَلِّمُوا ذَلِكَ فَلَا
حُجَّةَ لَهُمْ أَيْضًا، لِأَنَّهُمْ مُعَارَضُونَ بِمُوسَى
عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَمَا كَانَ يَجْرِي عَلَى يَدَيْهِ مِنَ
الْأُمُورِ الْعِظَامِ، مِثْلَ قَلْبِ الْعَصَا ثُعْبَانًا،
وَفَلْقِ الْبَحْرِ وَالْيَدِ الْبَيْضَاءِ وَالْمَنِّ
وَالسَّلْوَى، وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَكَذَلِكَ مَا جَرَى عَلَى
يَدِ الْأَنْبِيَاءِ، فَإِنْ أَنْكَرُوا ذَلِكَ فَنُنْكِرُ مَا
يَدَّعُونَهُ هُمْ أَيْضًا مِنْ ظُهُورِهِ عَلَى يَدِ عِيسَى
عليه السلام، فلا يمكنهم إثبات شي مِنْ ذَلِكَ لِعِيسَى،
فَإِنَّ طَرِيقَ إِثْبَاتِهِ عِنْدَنَا نُصُوصُ الْقُرْآنِ
وَهُمْ يُنْكِرُونَ الْقُرْآنَ، وَيُكَذِّبُونَ مَنْ أَتَى
بِهِ، فَلَا يُمْكِنُهُمْ إِثْبَاتُ ذَلِكَ بِأَخْبَارِ
التَّوَاتُرِ. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ النَّصَارَى كَانُوا عَلَى
دين الإسلام إحدى وثمانين سنة بعد ما رُفِعَ عِيسَى،
يُصَلُّونَ إِلَى الْقِبْلَةِ، وَيَصُومُونَ شَهْرَ رَمَضَانَ،
حَتَّى وَقَعَ فِيمَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْيَهُودِ حَرْبٌ،
وَكَانَ فِي الْيَهُودِ رَجُلٌ شُجَاعٌ يُقَالُ لَهُ بُولِسُ،
قَتَلَ جَمَاعَةً مِنْ أَصْحَابِ عِيسَى فَقَالَ: إِنْ كَانَ
الْحَقُّ مَعَ عِيسَى فَقَدْ كَفَرْنَا وَجَحَدْنَا وَإِلَى
النَّارِ مَصِيرُنَا، وَنَحْنُ مَغْبُونُونَ «1» إِنْ دَخَلُوا
الْجَنَّةَ وَدَخَلْنَا النَّارَ، وَإِنِّي أَحْتَالُ فِيهِمْ
فَأَضِلُّهُمْ فَيَدْخُلُونَ النَّارَ، وَكَانَ لَهُ فَرَسٌ
يُقَالُ لَهَا الْعُقَابُ، فَأَظْهَرَ النَّدَامَةَ وَوَضَعَ
عَلَى رَأْسِهِ التُّرَابَ وَقَالَ لِلنَّصَارَى: أَنَا
بُولِسُ عَدُوُّكُمْ قَدْ نُودِيتُ مِنَ السَّمَاءِ أَنْ
لَيْسَتْ لَكَ تَوْبَةٌ إِلَّا أَنْ تَتَنَصَّرَ،
فَأَدْخَلُوهُ فِي الْكَنِيسَةِ بَيْتًا فَأَقَامَ فِيهِ
سَنَةً لَا يَخْرُجُ لَيْلًا وَلَا نَهَارًا حَتَّى تَعَلَّمَ
الْإِنْجِيلَ، فَخَرَجَ وَقَالَ: نُودِيتُ مِنَ السَّمَاءِ
أَنَّ اللَّهَ قَدْ قَبِلَ تَوْبَتَكَ فَصَدَّقُوهُ
وَأَحَبُّوهُ، ثُمَّ مَضَى إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ
وَاسْتَخْلَفَ عَلَيْهِمْ نُسْطُورَا وَأَعْلَمَهُ أَنَّ
عِيسَى بن مريم إله، ثم توجه إلى الروم وعلمهم اللَّاهُوتِ
وَالنَّاسُوتِ وَقَالَ: لَمْ يَكُنْ عِيسَى بِإِنْسٍ
فَتَأَنَّسَ وَلَا بِجِسْمٍ فَتَجَسَّمَ وَلَكِنَّهُ ابْنُ
اللَّهِ. وَعَلَّمَ رَجُلًا يُقَالُ لَهُ يَعْقُوبُ ذَلِكَ،
ثُمَّ دَعَا رَجُلًا يُقَالُ لَهُ الْمَلِكُ «2» فَقَالَ لَهُ،
إِنَّ الْإِلَهَ لَمْ يَزَلْ وَلَا يَزَالُ عِيسَى، فَلَمَّا
اسْتَمْكَنَ مِنْهُمْ دَعَا هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَةَ وَاحِدًا
وَاحِدًا وَقَالَ لَهُ: أَنْتَ خَالِصَتِي وَلَقَدْ رَأَيْتُ
الْمَسِيحَ فِي النَّوْمِ وَرَضِيَ عَنِّي، وَقَالَ لِكُلِّ
وَاحِدٍ مِنْهُمْ: إِنِّي غَدًا أَذْبَحُ نَفْسِي
وَأَتَقَرَّبُ
__________
(1). في ج وز مفتونون.
(2). كذا في الأصول: والذي في كتاب (الملل والنحل) الملكانية
أصحاب ملكا الذي ظهر ببلاد الروم واستولى عليها. في (صبح
الأعشى) الملكانية هم اتباع ملكان الذي ظهر ببلاد الروم، فهو
ملكا أو ملكان. وسيأتي ذكر الملكانية ص 118
(6/24)
بِهَا، فَادْعُ النَّاسَ إِلَى نِحْلَتِكَ،
ثُمَّ دَخَلَ الْمَذْبَحَ فَذَبَحَ نَفْسَهُ، فَلَمَّا كَانَ
يَوْمُ ثَالِثِهِ دَعَا كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمُ النَّاسَ إِلَى
نِحْلَتِهِ، فَتَبِعَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ طَائِفَةً،
فَاقْتَتَلُوا وَاخْتَلَفُوا إِلَى يَوْمِنَا هَذَا، فَجَمِيعُ
النَّصَارَى مِنَ الْفِرَقِ الثَّلَاثِ، فَهَذَا كَانَ سَبَبَ
شِرْكِهِمْ فِيمَا يُقَالُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَدْ
رَوَيْتُ هَذِهِ الْقِصَّةَ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى:"
فَأَغْرَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ إِلى
يَوْمِ الْقِيامَةِ" [المائدة: 14] «1» وَسَيَأْتِي إِنْ شَاءَ
اللَّهُ تَعَالَى. قَوْلُهُ تَعَالَى: (انْتَهُوا خَيْراً
لَكُمْ) " خَيْراً" مَنْصُوبٌ عِنْدَ سِيبَوَيْهِ بِإِضْمَارِ
فِعْلٍ، كَأَنَّهُ قَالَ: ائْتُوا خَيْرًا لَكُمْ، لِأَنَّهُ
إِذَا نَهَاهُمْ عَنِ الشِّرْكِ فَقَدْ أَمَرَهُمْ بِإِتْيَانِ
مَا هُوَ خَيْرٌ لَهُمْ، قَالَ سِيبَوَيْهِ: وَمِمَّا
يَنْتَصِبُ عَلَى إِضْمَارِ الْفِعْلِ الْمَتْرُوكِ
إِظْهَارُهُ" انْتَهُوا خَيْراً لَكُمْ" لِأَنَّكَ إِذَا
قُلْتَ: ائْتِهِ فَأَنْتَ تُخْرِجُهُ مِنْ أَمْرٍ وَتُدْخِلُهُ
فِي آخَرَ، وَأَنْشَدَ:
فَوَاعِدِيهِ سَرْحَتَيْ «2» مَالِكٍ ... أَوِ الرُّبَا
بَيْنَهُمَا أَسْهَلَا
وَمَذْهَبُ أَبِي عُبَيْدَةَ: انْتَهُوا يَكُنْ خَيْرًا
لَكُمْ، قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ يَزِيدَ: هَذَا خَطَأٌ،
لِأَنَّهُ يُضْمِرُ الشَّرْطَ وَجَوَابَهُ «3»، وَهَذَا لَا
يُوجَدُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ. وَمَذْهَبُ الْفَرَّاءِ
أَنَّهُ نَعْتٌ لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ، قَالَ عَلِيُّ بْنُ
سُلَيْمَانَ: هَذَا خَطَأٌ فَاحِشٌ، لِأَنَّهُ يَكُونُ
الْمَعْنَى: انْتَهُوا الِانْتِهَاءَ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ
لَكُمْ. قَوْلُهُ تَعَالَى: (إِنَّمَا اللَّهُ إِلهٌ واحِدٌ)
هذا ابتداء وخبر، و" واحِدٌ" نَعْتٌ لَهُ. وَيَجُوزُ أَنْ
يَكُونَ" إِلهٌ" بَدَلًا من اسم الله عز وجل و" واحِدٌ"
خَبَرُهُ، التَّقْدِيرُ إِنَّمَا الْمَعْبُودُ وَاحِدٌ.
(سُبْحانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ) أَيْ تَنْزِيهًا «4»
عَنْ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ، فَلَمَّا سَقَطَ" عَنْ" كَانَ"
أَنْ" فِي مَحَلِّ النَّصْبِ بِنَزْعِ الْخَافِضِ، أَيْ كَيْفَ
يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ؟ وَوَلَدُ الرَّجُلِ مُشْبِهٌ لَهُ، وَلَا
شَبِيهَ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. (لَهُ مَا فِي السَّماواتِ
وَما فِي الْأَرْضِ) فَلَا شَرِيكَ لَهُ، وَعِيسَى] وَمَرْيَمُ
[«5» مِنْ جُمْلَةِ مَا في السموات وَمَا فِي الْأَرْضِ، وَمَا
فِيهِمَا مَخْلُوقٌ، فَكَيْفَ يَكُونُ عِيسَى إِلَهًا وَهُوَ
مَخْلُوقٌ! وَإِنْ جَازَ وَلَدٌ فَلْيَجُزْ أَوْلَادٌ حَتَّى
يَكُونَ كُلُّ مَنْ ظَهَرَتْ عَلَيْهِ مُعْجِزَةٌ وَلَدًا
لَهُ. (وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلًا) أي لأوليائه، وقد تقدم.
__________
(1). راجع ص 116 من هذا الجزء.
(2). البيت لعمر بن أبي ربيعة، و (سرحتا مالك): موضع بعينه:
والسرحتان شجرتان شهر الموضع بهما، والزبا: جمع ربوة وهي
المشرف من الأرض. [ ..... ]
(3). في السمين: لان تقدير إن تؤمنوا يكن الايمان خيرا لكم.
(4). في ك تنزيه.
(5). من ز.
(6/25)
لَنْ يَسْتَنْكِفَ
الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلَا الْمَلَائِكَةُ
الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ
وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعًا (172)
فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ
فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ
وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا
فَيُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَلَا يَجِدُونَ لَهُمْ
مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (173)
[سورة النساء (4): الآيات 172 الى 173]
لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ
وَلا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ
عِبادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعاً
(172) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ
فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ
وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا
فَيُعَذِّبُهُمْ عَذاباً أَلِيماً وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ
دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (173)
قوله تعالى: َنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ)
أَيْ لَنْ يَأْنَفَ وَلَنْ يَحْتَشِمَ. َنْ يَكُونَ عَبْداً
لِلَّهِ)
أَيْ مِنْ أَنْ يَكُونَ، فَهُوَ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ. وَقَرَأَ
الْحَسَنُ: (إِنْ يَكُونُ) بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ عَلَى
أَنَّهَا نَفْيُ هُوَ «1» بِمَعْنَى (مَا) وَالْمَعْنَى مَا
يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وينبغي رفع يكون ولم يذكره الرواة «2».َ-
لَا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ)
أَيْ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ وَرِضَاهُ، فَدَلَّ بِهَذَا عَلَى
أَنَّ الْمَلَائِكَةَ أَفْضَلُ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ صَلَوَاتُ
اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ، وَكَذَا (وَلا أَقُولُ إِنِّي
مَلَكٌ «3») وَقَدْ تَقَدَّمَتِ الْإِشَارَةُ إِلَى هذا المعنى
في (البقرة) «4».َ- مَنْ يَسْتَنْكِفْ)
أي يأنفَ نْ عِبادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ)
فلا يفعلها. َسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ)
أي إلى المحشر. َمِيعاً)
فَيُجَازِي كُلًّا بِمَا يَسْتَحِقُّ، كَمَا بَيَّنَهُ فِي
الْآيَةِ بَعْدَ هَذَا (فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا
الصَّالِحاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ
فَضْلِهِ)
إِلَى قوله: (نَصِيراً). واصل"سْتَنْكِفَ
" نَكِفَ، فَالْيَاءُ وَالسِّينُ وَالتَّاءُ زَوَائِدُ،
يُقَالُ: نَكِفْتُ مِنَ الشَّيْءِ وَاسْتَنْكَفْتُ مِنْهُ
وَأَنْكَفْتُهُ أَيْ نَزَّهْتُهُ عَمَّا يُسْتَنْكَفُ مِنْهُ،
وَمِنْهُ الْحَدِيثُ سُئِلَ عَنْ" سُبْحَانَ اللَّهُ" فَقَالَ:
(إِنْكَافُ اللَّهِ مِنْ كُلِّ سُوءٍ) يَعْنِي تَنْزِيهَهُ
وَتَقْدِيسَهُ عَنِ الْأَنْدَادِ وَالْأَوْلَادِ. وَقَالَ
الزَّجَّاجُ: اسْتَنْكَفَ أَيْ أَنِفَ مَأْخُوذٌ مِنْ نَكَفْتَ
الدَّمْعَ إِذَا نَحَّيْتَهُ بِإِصْبَعِكَ عَنْ خَدِّكَ،
وَمِنْهُ الْحَدِيثُ (مَا يُنْكَفُ الْعَرَقُ عَنْ جَبِينِهِ)
أَيْ مَا يَنْقَطِعُ، وَمِنْهُ الْحَدِيثُ (جَاءَ بِجَيْشٍ لَا
يُنْكَفُ آخِرُهُ) أَيْ لَا يَنْقَطِعُ آخِرُهُ. وقيل: هو من
النكف وهو العيب،
__________
(1). من ز.
(2). في مختصر الشواذ لابن خالويه: إن يكون بكسر الهمزة ورفع
يكون. الحسن وقتادة وأبو وافد يجعل إن بمعنى ما.
(3). راجع ج 9 ص 27.
(4). راجع ج 1 ص 289.
(6/26)
يَا أَيُّهَا النَّاسُ
قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا
إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا (174)
يُقَالُ: مَا عَلَيْهِ فِي هَذَا الْأَمْرِ
«1» نَكَفٌ وَلَا وَكَفٌ أَيْ عَيْبٌ: أَيْ لَنْ يَمْتَنِعَ
الْمَسِيحُ وَلَنْ يَتَنَزَّهَ مِنَ الْعُبُودِيَّةِ وَلَنْ
يَنْقَطِعَ عنها ولن يعيبها.
[سورة النساء (4): آية 174]
يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمْ بُرْهانٌ مِنْ رَبِّكُمْ
وَأَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً (174)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمْ
بُرْهانٌ مِنْ رَبِّكُمْ) يَعْنِي مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، عَنِ الثَّوْرِيِّ، وَسَمَّاهُ بُرْهَانًا
لِأَنَّ مَعَهُ الْبُرْهَانَ وَهُوَ الْمُعْجِزَةُ. وَقَالَ
مُجَاهِدٌ: الْبُرْهَانُ هَاهُنَا الْحُجَّةُ، وَالْمَعْنَى
مُتَقَارِبٌ، فَإِنَّ الْمُعْجِزَاتِ حُجَّتُهُ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَالنُّورُ الْمُنَزَّلُ هُوَ الْقُرْآنُ،
عَنِ الْحَسَنِ، وَسَمَّاهُ نُورًا لِأَنَّ بِهِ تُتَبَيَّنُ
الْأَحْكَامُ وَيُهْتَدَى بِهِ مِنَ الضَّلَالَةِ، فَهُوَ
نُورٌ مُبِينٌ، أي واضح بين.
[سورة النساء (4): آية 175]
فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ
فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ
إِلَيْهِ صِراطاً مُسْتَقِيماً (175)
قَوْلُهُ تَعَالَى:" فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ
وَاعْتَصَمُوا بِهِ" أَيْ بِالْقُرْآنِ عَنْ مَعَاصِيهِ،
وَإِذَا اعْتَصَمُوا بِكِتَابِهِ] فَقَدِ [«2» اعْتَصَمُوا
بِهِ وَبِنَبِيِّهِ. وَقِيلَ:" اعْتَصَمُوا بِهِ" أَيْ
بِاللَّهِ. وَالْعِصْمَةُ الِامْتِنَاعُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ «3»
(وَيَهْدِيهِمْ) أَيْ وَهُوَ يَهْدِيهِمْ، فَأَضْمَرَ هُوَ
لِيَدُلَّ عَلَى أَنَّ الْكَلَامَ مَقْطُوعٌ مِمَّا قَبْلَهُ.
(إِلَيْهِ) أَيْ إِلَى ثَوَابِهِ. وَقِيلَ: إِلَى الْحَقِّ
لِيَعْرِفُوهُ. (صِراطاً مُسْتَقِيماً) أَيْ دِينًا
مُسْتَقِيمًا. وَ" صِراطاً" مَنْصُوبٌ بِإِضْمَارِ فِعْلٍ
دَلَّ عَلَيْهِ" وَيَهْدِيهِمْ" التَّقْدِيرُ، وَيُعَرِّفُهُمْ
صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا. وَقِيلَ: هُوَ مَفْعُولٌ ثَانٍ عَلَى
تَقْدِيرِ، وَيَهْدِيهِمْ إِلَى ثَوَابِهِ صِرَاطًا
مُسْتَقِيمًا. وَقِيلَ: هُوَ حَالٌ. وَالْهَاءُ فِي" إِلَيْهِ"
قِيلَ: هِيَ لِلْقُرْآنِ، وَقِيلَ: لِلْفَضْلِ، وَقِيلَ:
لِلْفَضْلِ وَالرَّحْمَةِ، لِأَنَّهُمَا بِمَعْنَى الثَّوَابِ.
وَقِيلَ: هِيَ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى حَذْفِ الْمُضَافِ
كَمَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّ الْمَعْنَى وَيَهْدِيهِمْ إِلَى
ثَوَابِهِ. أَبُو عَلِيٍّ: الْهَاءُ رَاجِعَةٌ إِلَى مَا
تَقَدَّمَ مِنَ اسْمِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَالْمَعْنَى
وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطِهِ، فَإِذَا جَعَلْنَا" صِراطاً
مُسْتَقِيماً" نَصْبًا عَلَى الحال كانت الحال من
__________
(1). في ج: من نكف.
(2). في ج وز.
(3). راجع ج 4 ص 156
(6/27)
يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ
اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ
لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ
وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ فَإِنْ
كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ
وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالًا وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ
مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ
تَضِلُّوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (176)
هَذَا الْمَحْذُوفِ. وَفِي قَوْلِهِ:
(وَفَضْلٍ) دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى يَتَفَضَّلُ عَلَى
عِبَادِهِ بِثَوَابِهِ، إِذْ لَوْ كَانَ فِي مُقَابَلَةِ
الْعَمَلِ لَمَا كَانَ فضلا. والله أعلم.
[سورة النساء (4): آية 176]
يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ
إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَها
نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُها إِنْ لَمْ يَكُنْ لَها
وَلَدٌ فَإِنْ كانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثانِ
مِمَّا تَرَكَ وَإِنْ كانُوا إِخْوَةً رِجالاً وَنِساءً
فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللَّهُ
لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (176)
فِيهِ خَمْسُ مَسَائِلَ: الْأُولَى- قَالَ الْبَرَاءُ بْنُ
عَازِبٍ: هَذِهِ آخِرُ آيَةٍ نَزَلَتْ مِنَ الْقُرْآنِ، كَذَا
فِي كِتَابِ مُسْلِمٍ. وَقِيلَ: نَزَلَتْ وَالنَّبِيُّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُتَجَهِّزٌ لِحَجَّةِ الْوَدَاعِ،
وَنَزَلَتْ بِسَبَبِ جابر، قال جابر ابن عَبْدِ اللَّهِ:
مَرِضْتُ فَأَتَانِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ وَأَبُو بَكْرٍ يَعُودَانِي مَاشِيَيْنِ، فَأُغْمِيَ
عَلَيَّ، فَتَوَضَّأَ] رَسُولُ «1» اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ [ثُمَّ صَبَّ عَلَيَّ مِنْ وَضُوئِهِ
فَأَفَقْتُ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ أَقْضِي فِي
مَالِيَ؟ فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيَّ شَيْئًا حَتَّى نَزَلَتْ
آيَةُ الْمِيرَاثِ" يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ
فِي الْكَلالَةِ" رَوَاهُ مُسْلِمٌ، وَقَالَ: آخِرُ آيَةٍ
نَزَلَتْ:" وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى
اللَّهِ" [البقرة: 281] «2» وَقَدْ تَقَدَّمَ. وَمَضَى فِي
أَوَّلِ السُّورَةِ الْكَلَامُ فِي" الْكَلالَةِ" مُسْتَوْفًى،
«3» وَأَنَّ الْمُرَادَ بِالْإِخْوَةِ هُنَا الْإِخْوَةُ
لِلْأَبِ وَالْأُمِّ] أَوْ لِلْأَبِ [«4» وَكَانَ لِجَابِرٍ
تسع أخوات. الثانية- قوله تَعَالَى:" إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ
لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ" أَيْ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَا وَالِدٌ،
فَاكْتَفَى بِذِكْرِ أَحَدِهِمَا، قَالَ الْجُرْجَانِيُّ:
لَفْظُ الْوَلَدِ يَنْطَلِقُ عَلَى الْوَالِدِ وَالْمَوْلُودِ،
فَالْوَالِدُ يُسَمَّى، وَالِدًا لِأَنَّهُ وَلَدَ،
وَالْمَوْلُودُ يُسَمَّى وَلَدًا لِأَنَّهُ وُلِدَ،
كَالذُّرِّيَّةِ فَإِنَّهَا مِنْ ذَرَا ثُمَّ تُطْلَقُ عَلَى
الْمَوْلُودِ وَعَلَى الْوَالِدِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:"
وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ
الْمَشْحُونِ" «5»] يس: 41].
__________
(1). من ك.
(2). راجع ج 3 ص 375.
(3). راجع ج 5 ص 76 وما بعدها.
(4). من ج وز وك. [ ..... ]
(5). راجع ج 15 ص 34
(6/28)
الثَّالِثَةُ- وَالْجُمْهُورُ مِنَ
الْعُلَمَاءِ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ يَجْعَلُونَ
الْأَخَوَاتِ عَصَبَةَ الْبَنَاتِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ
مَعَهُنَّ أَخٌ، غَيْرُ ابْنِ عَبَّاسٍ، فَإِنَّهُ كَانَ لَا
يَجْعَلُ الْأَخَوَاتِ عَصَبَةَ الْبَنَاتِ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ
دَاوُدُ وَطَائِفَةٌ، وَحُجَّتُهُمْ ظَاهِرُ قَوْلِ اللَّهِ
تَعَالَى:" إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ
أُخْتٌ فَلَها نِصْفُ مَا تَرَكَ" وَلَمْ يُوَرِّثِ الْأُخْتَ
إِلَّا إِذَا لَمْ يَكُنْ لِلْمَيِّتِ وَلَدٌ، قَالُوا:
وَمَعْلُومٌ أَنَّ الِابْنَةَ مِنَ الْوَلَدِ، فَوَجَبَ أَلَّا
تَرِثَ الْأُخْتُ مَعَ وُجُودِهَا. وَكَانَ ابْنُ الزُّبَيْرِ
يَقُولُ بِقَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ
حَتَّى أَخْبَرَهُ الْأَسْوَدُ بْنُ يَزِيدَ: أَنَّ مُعَاذًا
قَضَى فِي بِنْتٍ وَأُخْتٍ فَجَعَلَ الْمَالَ بَيْنَهُمَا
نِصْفَيْنِ. الرَّابِعَةُ- هَذِهِ الْآيَةُ تُسَمَّى بِآيَةِ
الصَّيْفِ، لِأَنَّهَا نَزَلَتْ فِي زَمَنِ الصَّيْفِ، قَالَ
عُمَرُ: إِنِّي وَاللَّهِ لَا أَدَّعِ شَيْئًا أَهَمَّ إِلَيَّ
مِنْ أَمْرِ الْكَلَالَةِ، وَقَدْ سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ [عَنْهَا] «1» فَمَا أغلظ
لي في شي مَا أَغْلَظَ لِي فِيهَا، حَتَّى طَعَنَ بِإِصْبَعِهِ
فِي جَنْبِي أَوْ فِي صَدْرِي ثُمَّ قَالَ: (يَا عُمَرُ أَلَا
تَكْفِيكَ آيَةُ الصَّيْفِ الَّتِي أُنْزِلَتْ فِي آخِرِ
سُورَةِ النِّسَاءِ). وَعَنْهُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ:
ثَلَاثٌ لَأَنْ يَكُونُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيَّنَهُنَّ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنَ
الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا: الْكَلَالَةُ وَالرِّبَا
وَالْخِلَافَةُ، خَرَّجَهُ ابْنُ مَاجَهْ فِي سُنَنِهِ.
الْخَامِسَةُ- طَعَنَ بَعْضُ الرَّافِضَةِ بِقَوْلِ عُمَرَ:
(وَاللَّهِ لَا أَدَّعِ) الْحَدِيثَ. السَّادِسَةُ- قَوْلُهُ
تَعَالَى: (يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا) قَالَ
الْكِسَائِيُّ: الْمَعْنَى يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ لِئَلَّا
تَضِلُّوا. قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ، فَحَدَّثْتُ الْكِسَائِيَّ
بِحَدِيثٍ رَوَاهُ ابْنُ عُمَرَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: (لَا يَدْعُوَنَّ
أَحَدُكُمْ عَلَى وَلَدِهِ أَنْ يُوَافِقَ مِنَ اللَّهِ
إِجَابَةً) فَاسْتَحْسَنَهُ. قَالَ النَّحَّاسُ: وَالْمَعْنَى
عِنْدَ أَبِي عُبَيْدٍ لِئَلَّا يُوَافِقَ مِنَ اللَّهِ
إِجَابَةً، وَهَذَا الْقَوْلُ عِنْدَ الْبَصْرِيِّينَ خَطَأٌ
[صُرَاحٌ] «2»، [لِأَنَّهُمْ] «3» لَا يُجِيزُونَ إِضْمَارَ
لَا، وَالْمَعْنَى عِنْدَهُمْ: يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ
كَرَاهَةَ أَنْ تَضِلُّوا، ثُمَّ حذف، كما قال:" وَسْئَلِ
الْقَرْيَةَ" «4»] يوسف: 82] وَكَذَا مَعْنَى حَدِيثِ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَيْ
كَرَاهِيَةً أَنْ يُوَافِقَ مِنَ اللَّهِ إِجَابَةً.
(وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) تَقَدَّمَ فِي غَيْرِ
مَوْضِعٍ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ تَمَّتْ سُورَةُ" النِّسَاءِ"
والحمد لله الذي وفق.
__________
(1). من ك.
(2). من ك.
(3). الزيادة عن (إعراب القرآن) للنحاس.
(4). راجع ج 9 ص 245.
(6/29)
|