تفسير القرطبي

بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (1)

تفسير سورة براءة
مدنية باتفاق

[سورة التوبة (9): آية 1]
بَراءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (1)
فِيهِ خَمْسُ مَسَائِلَ: الْأُولَى- فِي أَسْمَائِهَا قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: سَأَلْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ سُورَةِ بَرَاءَةٌ فَقَالَ: تِلْكَ الْفَاضِحَةُ مَا زَالَ يَنْزِلُ: وَمِنْهُمْ وَمِنْهُمْ، حَتَّى خِفْنَا أَلَّا تَدَعَ أَحَدًا. قَالَ القشيري أبو نصر عبد الرحيم: هَذِهِ السُّورَةُ نَزَلَتْ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ وَنَزَلَتْ بَعْدَهَا. وَفِي أَوَّلِهَا نَبْذُ عُهُودِ الْكُفَّارِ إِلَيْهِمْ. وَفِي السُّورَةِ كَشْفُ أَسْرَارِ الْمُنَافِقِينَ. وَتُسَمَّى الْفَاضِحَةَ وَالْبَحُوثَ، لِأَنَّهَا تَبْحَثُ عَنْ أَسْرَارِ الْمُنَافِقِينَ. وَتُسَمَّى الْمُبَعْثِرَةَ وَالْبَعْثَرَةُ: الْبَحْثُ. الثَّانِيَةُ- وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي سَبَبِ سُقُوطِ الْبَسْمَلَةِ مِنْ أَوَّلِ هَذِهِ السُّورَةِ عَلَى أَقْوَالٍ خَمْسَةٍ: الْأَوَّلُ- أَنَّهُ قِيلَ كَانَ مِنْ شَأْنِ الْعَرَبِ فِي زَمَانِهَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ إِذَا كَانَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ قَوْمٍ عَهْدٌ فَإِذَا أَرَادُوا نَقْضَهُ كَتَبُوا إِلَيْهِمْ كِتَابًا وَلَمْ يَكْتُبُوا فِيهِ بَسْمَلَةً فَلَمَّا نَزَلَتْ سُورَةُ بَرَاءَةٌ بِنَقْضِ الْعَهْدِ الَّذِي كَانَ بَيْنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والمش ركين بَعَثَ بِهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ علي ابن أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقَرَأَهَا عَلَيْهِمْ فِي الْمَوْسِمِ وَلَمْ يُبَسْمِلْ فِي ذَلِكَ عَلَى ما جرت به عاد تهم فِي نَقْضِ الْعَهْدِ مِنْ تَرْكِ الْبَسْمَلَةِ. وَقَوْلٌ ثَانٍ- رَوَى النَّسَائِيُّ قَالَ حَدَّثَنَا أَحْمَدُ قَالَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ قَالَ حَدَّثَنَا عَوْفٌ قَالَ حَدَّثَنَا يَزِيدُ الرقاشي «1» قال قال
__________
(1). في ب وج وك وز وهـ: (الرواسي). والذي في صحيح الترمذي: (الفارسي). قال الترمذي تعقيبا عليه: ( ... حسن صحيح، لا نعرفه إلا من حديث عوف عن يزيد الفارسي عن ابن عباس. ويزيد الفارسي قد روى عن ابن عباس غير حديث. ويقال: هو يزيد بن هرمز، ويزيد الرقاشي هو يزيد بن أبان الرقاشي ولم يدرك ابن عباس، إنما روى عن أنس بن مالك وكلاهما من البصرة. ويزيد الفارسي أقدم من يزيد الرقاشي).

(8/61)


لَنَا ابْنُ عَبَّاسٍ: قُلْتُ لِعُثْمَانَ مَا حَمَلَكُمْ إِلَى أَنْ عَمَدْتُمْ إِلَى [الْأَنْفَالِ] وَهِيَ مِنَ الْمَثَانِي وَإِلَى" بَرَاءَةٌ" وَهِيَ مِنَ الْمِئِينَ فَقَرَنْتُمْ بَيْنَهُمَا وَلَمْ تَكْتُبُوا سَطْرَ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وَوَضَعْتُمُوهَا فِي السَّبْعِ الطُّوَلِ «1» فَمَا حَمَلَكُمْ عَلَى ذَلِكَ؟ قَالَ عُثْمَانُ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا نَزَلَ عَلَيْهِ الشَّيْءُ يَدْعُو بَعْضَ مَنْ يَكْتُبُ عِنْدَهُ فَيَقُولُ: (ضَعُوا هَذَا فِي السُّورَةِ الَّتِي فِيهَا كَذَا وَكَذَا). وَتَنْزِلُ عَلَيْهِ الْآيَاتُ فَيَقُولُ: (ضَعُوا هَذِهِ الْآيَاتِ فِي السُّورَةِ الَّتِي يُذْكَرُ فِيهَا كَذَا وَكَذَا). وَكَانَتِ" الْأَنْفَالُ" مِنْ أَوَائِلِ مَا أُنْزِلَ «2»، وَ" بَرَاءَةٌ" مِنْ آخِرِ الْقُرْآنِ، وَكَانَتْ قِصَّتُهَا شَبِيهَةً بِقِصَّتِهَا وَقُبِضَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يُبَيِّنْ لَنَا أَنَّهَا مِنْهَا فَظَنَنْتُ أَنَّهَا مِنْهَا فَمِنْ ثَمَّ قَرَنْتُ بَيْنَهُمَا وَلَمْ أَكْتُبْ بَيْنَهُمَا سَطْرَ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ. وَخَرَّجَهُ أَبُو عِيسَى التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ. وَقَوْلٌ ثَالِثٌ- رُوِيَ عَنْ عُثْمَانَ أَيْضًا. وَقَالَ مَالِكٌ فِيمَا رَوَاهُ ابْنُ وَهْبٍ وَابْنُ الْقَاسِمِ وَابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ: إِنَّهُ لما سقط أو لها سَقَطَ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مَعَهُ. وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ عَجْلَانَ أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ سُورَةَ" بَرَاءَةٌ" كَانَتْ تَعْدِلُ الْبَقَرَةَ أَوْ قُرْبَهَا فَذَهَبَ مِنْهَا فَلِذَلِكَ لَمْ يُكْتَبْ بَيْنَهُمَا بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: كَانَتْ مِثْلَ سُورَةِ الْبَقَرَةِ. وَقَوْلٌ رَابِعٌ- قَالَهُ خَارِجَةُ وَأَبُو عِصْمَةَ وَغَيْرُهُمَا. قَالُوا: لَمَّا كَتَبُوا الْمُصْحَفَ فِي خِلَافَةِ عُثْمَانَ اخْتَلَفَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: بَرَاءَةٌ وَالْأَنْفَالُ سُورَةٌ وَاحِدَةٌ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُمَا سُورَتَانِ. فَتُرِكَتْ بَيْنَهُمَا فُرْجَةٌ لِقَوْلِ مَنْ قَالَ إِنَّهُمَا سُورَتَانِ وَتُرِكَتْ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ لِقَوْلِ مَنْ قَالَ هُمَا سُورَةٌ وَاحِدَةٌ فَرَضِيَ الفريقان معا وثبتت حجتاهما فِي الْمُصْحَفِ. وَقَوْلٌ خَامِسٌ- قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ: سَأَلْتُ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ لِمَ لَمْ يُكْتَبْ فِي بَرَاءَةٌ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ؟ قَالَ: لِأَنَّ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرحيم أمان وبراءة نَزَلَتْ بِالسَّيْفِ لَيْسَ فِيهَا أَمَانٌ. وَرُوِيَ مَعْنَاهُ عَنِ الْمُبَرِّدِ قَالَ: وَلِذَلِكَ لَمْ يُجْمَعْ بَيْنَهُمَا فإن بسم الله الرحمن الرحيم رحمة وبراءة نَزَلَتْ سَخْطَةً «3». وَمِثْلُهُ عَنْ سُفْيَانَ. قَالَ سُفْيَانُ بن عيينة: إنما لم
__________
(1). السبع الطول: سبع سور وهي سورة الْبَقَرَةُ، وَآلُ عِمْرَانَ، وَالنِّسَاءُ، وَالْمَائِدَةُ، وَالْأَنْعَامُ، وَالْأَعْرَافُ فهذه ست سور متواليات. واختلفوا في السابعة فمنهم من قال: السابعة الأنفال وبراءة وعدهما سورة واحدة. ومنهم من جعل السابعة سورة يونس.
(2). أي بعد الهجرة.
(3). في الجمل عن القرطبي: بسخطه.

(8/62)


تُكْتَبْ فِي صَدْرِ هَذِهِ السُّورَةِ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ لِأَنَّ التَّسْمِيَةَ رَحْمَةٌ وَالرَّحْمَةُ أَمَانٌ وَهَذِهِ السُّورَةُ نَزَلَتْ فِي الْمُنَافِقِينَ وَبِالسَّيْفِ وَلَا أَمَانَ لِلْمُنَافِقِينَ. وَالصَّحِيحُ أَنَّ التَّسْمِيَةَ لَمْ تُكْتَبْ لِأَنَّ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ مَا نَزَلَ بِهَا فِي هَذِهِ السُّورَةِ قَالَهُ الْقُشَيْرِيُّ. وَفِي قَوْلِ عُثْمَانَ: قُبِضَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يُبَيِّنْ لَنَا أَنَّهَا مِنْهَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ السُّوَرَ كُلَّهَا انْتَظَمَتْ بِقَوْلِهِ وَتَبْيِينِهِ وَأَنَّ بَرَاءَةٌ وَحْدَهَا ضُمَّتْ إِلَى الْأَنْفَالِ مِنْ غَيْرِ عَهْدٍ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمَا عَاجَلَهُ مِنَ الْحِمَامِ قَبْلَ تَبْيِينِهِ ذَلِكَ. وَكَانَتَا تُدْعَيَانِ الْقَرِينَتَيْنِ فَوَجَبَ أَنْ تُجْمَعَا وَتُضَمَّ إِحْدَاهُمَا إِلَى الْأُخْرَى لِلْوَصْفِ الَّذِي لَزِمَهُمَا مِنَ الِاقْتِرَانِ وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَيٌّ. الثَّالِثَةُ- قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْقِيَاسَ أَصْلٌ فِي الدِّينِ أَلَا تَرَى إِلَى عُثْمَانَ وَأَعْيَانِ الصَّحَابَةِ كَيْفَ لَجَئُوا إِلَى قِيَاسِ الشَّبَهِ عِنْدَ عَدَمِ النَّصِّ وَرَأَوْا أَنَّ قِصَّةَ" بَرَاءَةٌ" شَبِيهَةٌ بِقِصَّةِ" الْأَنْفَالِ" فَأَلْحَقُوهَا بِهَا؟ فَإِذَا كَانَ اللَّهُ تَعَالَى قَدْ بَيَّنَ دُخُولَ الْقِيَاسِ فِي تَأْلِيفِ الْقُرْآنِ فَمَا ظَنُّكَ بِسَائِرِ الْأَحْكَامِ. الرَّابِعَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى:" بَراءَةٌ" تَقُولُ: بَرِئْتُ مِنَ الشَّيْءِ أَبْرَأُ بَرَاءَةً فَأَنَا منه برئ إِذَا أَزَلْتَهُ عَنْ نَفْسِكَ وَقَطَعْتَ سَبَبَ مَا بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ. وَ" بَراءَةٌ" رَفْعٌ عَلَى خَبَرِ ابْتِدَاءٍ مُضْمَرٍ تَقْدِيرُهُ هَذِهِ بَرَاءَةٌ. وَيَصِحُّ أَنْ تُرْفَعَ بِالِابْتِدَاءِ. وَالْخَبَرُ فِي قَوْلِهِ:" إِلَى الَّذِينَ". وَجَازَ الِابْتِدَاءُ بِالنَّكِرَةِ لِأَنَّهَا مَوْصُوفَةٌ فَتَعَرَّفَتْ تَعْرِيفًا ما وجاز الاخبار عنها. وقرا عيسى ابن عُمَرَ" بَرَاءَةً" بِالنَّصْبِ عَلَى تَقْدِيرٍ الْتَزِمُوا بَرَاءَةً فَفِيهَا مَعْنَى الْإِغْرَاءِ. وَهِيَ مَصْدَرٌ عَلَى فَعَالَةٍ كَالشَّنَاءَةِ وَالدَّنَاءَةِ. الْخَامِسَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (إِلَى الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) يَعْنِي إِلَى الَّذِينَ عَاهَدَهُمْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَنَّهُ كَانَ المتولي للعقود وأصحا به بذلك كلهم راضون فكأنهم عاقد وا وعاهد وا فَنُسِبَ الْعَقْدُ إِلَيْهِمْ. وَكَذَلِكَ مَا عَقَدَهُ أَئِمَّةُ الْكُفْرِ عَلَى قَوْمِهِمْ مَنْسُوبٌ إِلَيْهِمْ مَحْسُوبٌ عَلَيْهِمْ يُؤَاخَذُونَ بِهِ إِذْ لَا يُمْكِنُ غَيْرُ ذَلِكَ فَإِنَّ تَحْصِيلَ الرِّضَا مِنَ الْجَمِيعِ مُتَعَذَّرٌ فَإِذَا عَقَدَ الْإِمَامُ لِمَا يَرَاهُ مِنَ الْمَصْلَحَةِ أَمْرًا لزم جميع الرعايا.

(8/63)


فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ (2)

[سورة التوبة (9): آية 2]
فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكافِرِينَ (2)
فِيهِ ثَلَاثُ مَسَائِلَ: الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى:" فَسِيحُوا" رَجَعَ مِنَ الْخَبَرِ إِلَى الْخِطَابِ أَيْ قُلْ لَهُمْ سِيحُوا أَيْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ مُقْبِلِينَ وَمُدْبِرِينَ آمِنِينَ غَيْرَ خَائِفِينَ أَحَدًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ بِحَرْبٍ وَلَا سَلْبٍ وَلَا قَتْلٍ وَلَا أَسْرٍ. يُقَالُ سَاحَ فُلَانٌ فِي الْأَرْضِ يَسِيحُ سِيَاحَةً وَسُيُوحًا وَسَيَحَانًا وَمِنْهُ السَّيْحُ فِي الْمَاءِ الْجَارِي الْمُنْبَسِطِ وَمِنْهُ قَوْلُ طَرَفَةَ بْنِ الْعَبْدِ:
لَوْ خِفْتُ هَذَا مِنْكَ مَا نِلْتَنِي ... حَتَّى تَرَى أَمَامِي تَسِيحُ الثَّانِيَةُ
- وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي كَيْفِيَّةِ هَذَا التَّأْجِيلِ وَفِي هَؤُلَاءِ الَّذِينَ بَرِئَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَرَسُولُهُ. فَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ وَغَيْرُهُ: هُمَا صِنْفَانِ مِنَ الْمُشْرِكِينَ أَحَدُهُمَا كَانَتْ مُدَّةُ عَهْدِهِ أَقَلَّ مِنْ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَأُمْهِلَ تَمَامَ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَالْآخَرُ كَانَتْ مُدَّةُ عَهْدِهِ بِغَيْرِ أَجَلٍ مَحْدُودٍ فَقُصِرَ بِهِ عَلَى أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ لِيَرْتَادَ لِنَفْسِهِ. ثُمَّ هُوَ حَرْبٌ بَعْدَ ذَلِكَ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يُقْتَلُ حَيْثُ مَا أُدْرِكَ وَيُؤْسَرُ إِلَّا أَنْ يَتُوبَ. وَابْتِدَاءُ هَذَا الْأَجَلِ يَوْمُ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ وَانْقِضَاؤُهُ إِلَى عَشْرٍ مِنْ شَهْرِ رَبِيعٍ الْآخَرِ. فَأَمَّا مَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ عَهْدٌ فَإِنَّمَا أَجَلُهُ انْسِلَاخُ الْأَرْبَعَةِ الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ. وَذَلِكَ خَمْسُونَ يَوْمًا: عِشْرُونَ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ وَالْمُحَرَّمُ. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: إِنَّمَا كَانَتِ الْأَرْبَعَةُ الْأَشْهُرُ لِمَنْ كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَهْدٌ دُونَ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَمَنْ كَانَ عَهْدُهُ أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَهُوَ الَّذِي أَمَرَ اللَّهُ أَنْ يُتَمَّ لَهُ عَهْدُهُ بِقَوْلِهِ" فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلى مُدَّتِهِمْ" [التوبة: 4] وَهَذَا اخْتِيَارُ الطَّبَرِيِّ وَغَيْرِهِ. وَذَكَرَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ وَمُجَاهِدٌ وَغَيْرُهُمَا: أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي أَهْلِ مَكَّةَ. وَذَلِكَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَالَحَ قُرَيْشًا عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ، عَلَى أَنْ يَضَعُوا الْحَرْبَ عَشْرَ سِنِينَ، يَأْمَنُ فِيهَا النَّاسُ وَيَكُفُّ بَعْضُهُمْ عَنْ بَعْضٍ، فَدَخَلَتْ خُزَاعَةُ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَدَخَلَ بَنُو بَكْرٍ فِي عَهْدِ قُرَيْشٍ، فَعَدَتْ

(8/64)


بَنُو بَكْرٍ عَلَى خُزَاعَةَ وَنَقَضُوا عَهْدَهُمْ. وَكَانَ سَبَبُ ذَلِكَ دَمًا كَانَ لِبَنِي بَكْرٍ عِنْدَ خُزَاعَةَ قَبْلَ الْإِسْلَامِ بِمُدَّةٍ، فَلَمَّا كَانَتِ الْهُدْنَةُ الْمُنْعَقِدَةُ يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ، أَمِنَ النَّاسُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، فَاغْتَنَمَ بَنُو الدِّيلِ مِنْ بَنِي بَكْرٍ- وَهُمُ الَّذِينَ كَانَ الدَّمُ لَهُمْ- تِلْكَ الْفُرْصَةَ وَغَفْلَةَ خُزَاعَةَ، وَأَرَادُوا إِدْرَاكَ ثَأْرِ بَنِي الْأَسْوَدِ بْنِ رَزْنٍ «1»، الَّذِينَ قَتَلَهُمْ خُزَاعَةُ، فَخَرَجَ نَوْفَلُ بْنُ معاوية ألد يلي فِيمَنْ أَطَاعَهُ مِنْ بَنِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ مَنَاةَ، حَتَّى بَيَّتُوا «2» خُزَاعَةَ وَاقْتَتَلُوا، وَأَعَانَتْ قُرَيْشٌ بَنِي بَكْرٍ بِالسِّلَاحِ، وَقَوْمٌ مِنْ قُرَيْشٍ أَعَانُوهُمْ بِأَنْفُسِهِمْ، فَانْهَزَمَتْ خُزَاعَةُ إِلَى الْحَرَمِ عَلَى مَا هُوَ مَشْهُورٌ مَسْطُورٌ «3»، فَكَانَ ذَلِكَ نَقْضًا لِلصُّلْحِ الْوَاقِعِ يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ، فَخَرَجَ عَمْرُو بْنُ سَالِمٍ الْخُزَاعِيُّ وَبُدَيْلُ بْنُ وَرْقَاءَ الْخُزَاعِيُّ وَقَوْمٌ مِنْ خُزَاعَةَ، فَقَدِمُوا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مستغيثين به فيما أصابهم به بنو بكر وقريش، وأنشده عَمْرُو بْنُ سَالِمٍ فَقَالَ:
يَا رَبِّ إِنِّي نَاشِدٌ مُحَمَّدَا ... حِلْفَ أَبِينَا وَأَبِيهِ الْأَتْلَدَا
كُنْتَ لَنَا أَبًا وَكُنَّا وَلَدَا ... ثُمَّتَ أَسْلَمْنَا وَلَمْ نَنْزِعْ يَدَا
فَانْصُرْ هَدَاكَ اللَّهُ نَصْرًا عَتَدَا ... وَادْعُ عِبَادَ اللَّهِ يَأْتُوا مَدَدَا
فِيهِمْ رَسُولُ اللَّهِ قَدْ تَجَرَّدَا ... أَبْيَضَ مِثْلَ الشَّمْسِ يَنْمُو صُعُدَا
إِنْ سِيمَ خَسْفًا وَجْهُهُ تَرَبَّدَا ... فِي فَيْلَقٍ كَالْبَحْرِ يَجْرِي مُزْبِدَا
إِنَّ قُرَيْشًا أَخْلَفُوكَ الْمَوْعِدَا ... وَنَقَضُوا مِيثَاقَكَ الْمُؤَكَّدَا
وَزَعَمُوا أَنْ لَسْتَ تَدْعُو أَحَدَا ... وَهُمْ أَذَلُّ وَأَقَلُّ عَدَدَا
هُمْ بَيَّتُونَا بِالْوَتِيرِ «4» هُجَّدَا ... وَقَتَلُونَا رُكَّعًا وَسُجَّدَا
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (لا نصرت إن لم أنصر كَعْبٍ). ثُمَّ نَظَرَ إِلَى سَحَابَةٍ فَقَالَ: (إِنَّهَا لَتَسْتَهِلُّ لِنَصْرِ بَنِي كَعْبٍ) يَعْنِي خُزَاعَةَ. وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
__________
(1). في هامش تاريخ الطبري طبع أوربا قسم 1 ص 1619: (رزين).
(2). بيت القوم والعدو أوقع بهم ليلا.
(3). راجع تاريخ الطبري وسيرة ابن هشام في فتح مكة.
(4). في الأصول: (الحطيم). والتصويب عن سيرة ابن هشام وتاريخ الطبري ومعجم ياقوت وكتب الصحابة في ترجمة (عمرو بن سالم الخزاعي). والوتير: اسم ماء بأسفل مكة لخزاعة.

(8/65)


لِبُدَيْلِ بْنِ وَرْقَاءَ وَمَنْ مَعَهُ: (إِنَّ أَبَا سُفْيَانَ سَيَأْتِي لِيَشُدَّ الْعَقْدَ وَيَزِيدَ فِي الصُّلْحِ «1» وَسَيَنْصَرِفُ بِغَيْرِ حَاجَةٍ). فَنَدِمَتْ قُرَيْشٌ عَلَى مَا فَعَلَتْ، فَخَرَجَ أَبُو سُفْيَانَ إِلَى الْمَدِينَةِ لِيَسْتَدِيمَ الْعَقْدَ وَيَزِيدَ فِي الصُّلْحِ، فَرَجَعَ بِغَيْرِ حَاجَةٍ كَمَا أَخْبَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، عَلَى مَا هُوَ مَعْرُوفٌ مِنْ خَبَرِهِ. وَتَجَهَّزَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى مَكَّةَ فَفَتَحَهَا اللَّهُ، وَذَلِكَ فِي سَنَةِ ثَمَانٍ مِنَ الْهِجْرَةِ. فَلَمَّا بَلَغَ هَوَازِنَ فَتْحُ مَكَّةَ جَمَعَهُمْ مَالِكُ بْنُ عَوْفٍ النَّصْرِيُّ، عَلَى مَا هُوَ مَعْرُوفٌ مَشْهُورٌ مِنْ غَزَاةِ حُنَيْنٍ. وَسَيَأْتِي بَعْضُهَا. وَكَانَ الظَّفَرُ وَالنَّصْرُ لِلْمُسْلِمِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ. وَكَانَتْ وَقْعَةُ هَوَازِنَ يَوْمَ حُنَيْنٍ فِي أَوَّلِ شَوَّالٍ مِنَ السَّنَةِ الثَّامِنَةِ مِنَ الْهِجْرَةِ. وَتَرَكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَسْمَ الْغَنَائِمِ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالنِّسَاءِ، فَلَمْ يَقْسِمْهَا حَتَّى أَتَى الطَّائِفَ، فَحَاصَرَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِضْعًا وَعِشْرِينَ لَيْلَةً. وَقِيلَ غير ذلك. ونصب عليهم المنجنيق ورما هم بِهِ، عَلَى مَا هُوَ مَعْرُوفٌ مِنْ تِلْكَ الْغَزَاةِ. ثُمَّ انْصَرَفَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْجِعْرَانَةِ، وَقَسَمَ غَنَائِمَ حُنَيْنٍ، عَلَى مَا هُوَ مَشْهُورٌ مِنْ أَمْرِهَا وَخَبَرِهَا. ثُمَّ انْصَرَفَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَفَرَّقُوا، وَأَقَامَ الْحَجَّ لِلنَّاسِ عَتَّابُ بْنُ أُسَيْدٍ فِي تِلْكَ السَّنَةِ. وَهُوَ أَوَّلُ أَمِيرٍ أَقَامَ الْحَجَّ فِي الْإِسْلَامِ. وَحَجَّ الْمُشْرِكُونَ عَلَى مَشَاعِرِهِمْ. وَكَانَ عَتَّابُ بْنُ أُسَيْدٍ خَيِّرًا فَاضِلًا وَرِعًا. وَقَدِمَ كَعْبُ بْنُ زُهَيْرِ بْنِ أَبِي سُلْمَى إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَامْتَدَحَهُ، وَأَقَامَ عَلَى رَأْسِهِ بِقَصِيدَتِهِ الَّتِي أولها:
بانت سعاد فقلبي اليوم متبول

وأنشد ها إلى آخر ها، وَذَكَرَ فِيهَا الْمُهَاجِرِينَ فَأَثْنَى عَلَيْهِمْ- وَكَانَ قَبْلَ دلك قَدْ حُفِظَ لَهُ هِجَاءٌ فِي النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَعَابَ عَلَيْهِ الْأَنْصَارُ إِذْ لَمْ يَذْكُرْهُمْ، فَغَدَا عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَصِيدَةٍ يَمْتَدِحُ فِيهَا الْأَنْصَارَ فَقَالَ:
مَنْ سَرَّهُ كَرَمُ الْحَيَاةِ فَلَا يَزَلْ ... فِي مِقْنَبٍ مِنْ صَالِحِي الْأَنْصَارِ «2»
وَرِثُوا الْمَكَارِمَ كَابِرًا عَنْ كَابِرٍ ... إِنَّ الْخِيَارَ هُمُ بَنُو الْأَخْيَارِ
الْمُكْرِهِينَ السَّمْهَرِيَّ بِأَذْرُعٍ ... كَسَوَافِلِ الْهِنْدِيِّ غَيْرِ قِصَارِ «3»
__________
(1). في ابن هشام: (في المدة).
(2). المقنب: الجماعة من الفوارس. [ ..... ]
(3). السمهري: الرمح. وسافلة القناة: أعظمها وأقصر ها كعوبا. والهندي: الرماح.

(8/66)


وَالنَّاظِرِينَ بِأَعْيُنٍ مُحْمَرَّةٍ ... كَالْجَمْرِ غَيْرِ كَلِيلَةِ الْأَبْصَارِ
وَالْبَائِعِينَ نُفُوسَهُمْ لِنَبِيِّهِمْ ... لِلْمَوْتِ يَوْمَ تَعَانُقٍ وَكِرَارِ
يَتَطَهَّرُونَ يَرَوْنَهُ نُسُكًا لَهُمْ ... بِدِمَاءِ مَنْ عَلِقُوا مِنَ الْكُفَّارِ
دَرِبُوا كَمَا دَرِبَتْ بِبَطْنِ خَفِيَّةٍ ... غُلْبُ الرِّقَابِ مِنَ الْأُسُودِ ضَوَارِ «1»
وَإِذَا حَلَلْتَ لِيَمْنَعُوكَ إِلَيْهِمُ ... أَصْبَحْتَ عِنْدَ مَعَاقِلِ الْأَغْفَارِ «2»
ضَرَبُوا عَلِيًّا يَوْمَ بَدْرٍ ضَرْبَةً ... دَانَتْ لِوَقْعَتِهَا جَمِيعُ نِزَارِ «3»
لَوْ يَعْلَمُ الْأَقْوَامُ عِلْمِي كُلَّهُ ... فِيهِمْ لَصَدَّقَنِي الَّذِينَ أُمَارِي
قَوْمٌ إِذَا خَوَتِ النُّجُومُ فَإِنَّهُمْ ... لِلطَّارِقِينَ النَّازِلِينَ مَقَارِي «4»
ثُمَّ أَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْمَدِينَةِ بَعْدَ انصرافه من الطائف ذا الحجة والمحرم وصفر وربيع الأول وربيع الآخر وجمادى الأول وَجُمَادَى الْآخِرَةَ، وَخَرَجَ فِي رَجَبٍ مِنْ سَنَةِ تِسْعٍ بِالْمُسْلِمِينَ إِلَى غَزْوَةِ الرُّومِ غَزْوَةِ تَبُوكَ. وهي آخر غزوة غزا ها. قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ عَنْ مُجَاهِدٍ: لَمَّا انْصَرَفَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من تَبُوكَ أَرَادَ الْحَجَّ ثُمَّ قَالَ: (إِنَّهُ يَحْضُرُ الْبَيْتَ عُرَاةٌ مُشْرِكُونَ يَطُوفُونَ بِالْبَيْتِ فَلَا أُحِبُّ أَنْ أَحُجَّ حَتَّى لَا يَكُونُ ذَلِكَ). فَأَرْسَلَ أَبَا بَكْرٍ أَمِيرًا عَلَى الْحَجِّ، وَبَعَثَ مَعَهُ بِأَرْبَعِينَ آيَةً مِنْ صَدْرِ" بَرَاءَةٌ" لِيَقْرَأَهَا عَلَى أَهْلِ الْمَوْسِمِ. فَلَمَّا خَرَجَ دَعَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلِيًّا وَقَالَ: (اخْرُجْ بِهَذِهِ الْقِصَّةِ مِنْ صَدْرِ بَرَاءَةٌ فَأَذِّنْ بِذَلِكَ فِي النَّاسِ إِذَا اجْتَمَعُوا). فَخَرَجَ عَلِيٌّ عَلَى نَاقَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْعَضْبَاءِ حَتَّى أَدْرَكَ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا بِذِي الْحُلَيْفَةِ. فَقَالَ لَهُ أَبُو بَكْرٍ لَمَّا رَآهُ: أَمِيرٌ أَوْ مَأْمُورٌ؟ فَقَالَ: بَلْ مَأْمُورٌ ثُمَّ نَهَضَا، فَأَقَامَ أَبُو بَكْرٍ لِلنَّاسِ الْحَجَّ عَلَى مَنَازِلِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ. فِي كِتَابِ النَّسَائِيِّ عَنْ جَابِرٍ: وَأَنَّ عَلِيًّا قَرَأَ عَلَى النَّاسِ" بَرَاءَةٌ" حَتَّى خَتَمَهَا قَبْلَ يوم التروية بيوم.
__________
(1). دربوا: اعتادوا. وخفية: موضع كثير الأسد. والغلب: الغلاظ الرقاب. والضواري: اللواتي قد ضرين بأكل لحوم الناس الواحد ضار.
(2). المعاقل: الحصون. والاغفار: أولاد الاروية (الوعل) واحد ها غفر.
(3). علي: هو علي بن بكر بن وائل. ويقال: هو على أخو عبد مناة بن خزيمة من أمه. وقالوا: هو علي بن مسعود بن مازن.
(4). خوت: إذا لم يكن لها مطر. والمقاري: جمع مقرى الذي يقرى الضيف.

(8/67)


وَفِي يَوْمِ عَرَفَةَ وَفِي يَوْمِ النَّحْرِ عِنْدَ انقضاء خطبة أبي بكر في الثلاثة الأيام. فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ النَّفْرِ الْأَوَّلُ قَامَ أَبُو بَكْرٍ فَخَطَبَ النَّاسَ، فَحَدَّثَهُمْ كَيْفَ يَنْفِرُونَ وَكَيْفَ يَرْمُونَ، يُعَلِّمُهُمْ مَنَاسِكَهُمْ. فَلَمَّا فَرَغَ قَامَ عَلِيٌّ فَقَرَأَ عَلَى النَّاسِ" بَرَاءَةٌ" حَتَّى خَتَمَهَا. وَقَالَ سُلَيْمَانُ بْنُ مُوسَى: لَمَّا خَطَبَ أَبُو بَكْرٍ بِعَرَفَةَ قَالَ: قُمْ يَا عَلِيٌّ فَأَدِّ رِسَالَةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَامَ عَلِيٌّ فَفَعَلَ. قَالَ: ثُمَّ وَقَعَ فِي نَفْسِي أَنَّ جَمِيعَ النَّاسِ لَمْ يُشَاهِدُوا خُطْبَةَ أَبِي بَكْرٍ، فَجَعَلْتُ أَتَتَبَّعُ الْفَسَاطِيطَ يَوْمَ النَّحْرِ. وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنْ زَيْدِ بْنِ يُثَيْعٍ قَالَ: سَأَلْتُ عليا بأي شي بُعِثْتَ فِي الْحَجِّ؟ قَالَ: بُعِثْتُ بِأَرْبَعٍ: أَلَّا يَطُوفَ بِالْبَيْتِ عُرْيَانٌ، وَمَنْ كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَهْدٌ فَهُوَ إِلَى مُدَّتِهِ، وَمَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ عَهْدٌ فَأَجَلُهُ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ، وَلَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ إِلَّا نَفْسٌ مُؤْمِنَةٌ، وَلَا يَجْتَمِعُ الْمُسْلِمُونَ وَالْمُشْرِكُونَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا. قَالَ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ. وَأَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ وَقَالَ: فَكُنْتُ أُنَادِي حَتَّى صَحِلَ «1» صَوْتِي. قَالَ أَبُو عُمَرَ: بُعِثَ عَلِيٌّ لِيَنْبِذَ إِلَى كُلِّ ذِي عَهْدٍ عَهْدَهَ، وَيَعْهَدَ إِلَيْهِمْ أَلَّا يَحُجُّ بَعْدَ الْعَامِ مُشْرِكٌ، وَلَا يَطُوفُ بِالْبَيْتِ عُرْيَانُ. وَأَقَامَ الْحَجَّ فِي ذَلِكَ الْعَامِ سَنَةَ تِسْعٍ أَبُو بَكْرٍ. ثُمَّ حَجَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ قَابِلٍ حجته التي لم يحج غير ها مِنَ الْمَدِينَةِ، فَوَقَعَتْ حَجَّتُهُ فِي ذِي الْحِجَّةِ. فَقَالَ: (إِنَّ الزَّمَانَ قَدِ اسْتَدَارَ ... ) الْحَدِيثَ، عَلَى ما يأتي في آية النسي بَيَانُهُ «2». وَثَبَتَ الْحَجُّ فِي ذِي الْحِجَّةِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ. وَذَكَرَ مُجَاهِدٌ: أَنَّ أَبَا بَكْرٍ حَجَّ فِي ذِي الْقِعْدَةِ مِنْ سَنَةِ تِسْعٍ. ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَكَانَتِ الْحِكْمَةُ فِي إِعْطَاءِ" بَرَاءَةٌ" لِعَلِيٍّ أَنَّ بَرَاءَةٌ تَضَمَّنَتْ نَقْضَ الْعَهْدِ الَّذِي كَانَ عَقَدَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَانَتْ سِيرَةُ الْعَرَبِ أَلَّا يَحُلَّ الْعَقْدَ إِلَّا الَّذِي عَقَدَهُ أَوْ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ، فَأَرَادَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَقْطَعَ أَلْسِنَةَ الْعَرَبِ بِالْحُجَّةِ، وَيُرْسِلَ ابْنَ عَمِّهِ الْهَاشِمِيَّ مِنْ بَيْتِهِ يَنْقُضُ الْعَهْدَ، حَتَّى لَا يبقى لهم متكلم. قال معناه الزجاج. الثالثة- قَالَ الْعُلَمَاءُ: وَتَضَمَّنَتِ الْآيَةُ جَوَازَ قَطْعِ الْعَهْدِ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْمُشْرِكِينَ. وَلِذَلِكَ حَالَتَانِ: حَالَةٌ تَنْقَضِي الْمُدَّةُ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ فَنُؤْذِنُهُمْ بِالْحَرْبِ. وَالْإِيذَانُ اخْتِيَارٌ.
__________
(1). الصحل: حدة الصوت مع بحح.
(2). راجع ج 136 ص؟؟؟

(8/68)


وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (3)

والثانية- أن نخاف منهم غدرا، فننبذ إليهم عهد هم كَمَا سَبَقَ. ابْنُ عَبَّاسٍ: وَالْآيَةُ مَنْسُوخَةٌ، فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَاهَدَ ثُمَّ نبذ العهد لما أمر بالقتال.

[سورة التوبة (9): آية 3]
وَأَذانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذابٍ أَلِيمٍ (3)
فِيهِ ثلاث مائل: الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَأَذانٌ" الْأَذَانُ: الْإِعْلَامُ لُغَةً مِنْ غَيْرِ خِلَافٍ. وَهُوَ عَطْفٌ عَلَى" بَراءَةٌ"." إِلَى النَّاسِ" النَّاسُ هُنَا جَمِيعُ الْخَلْقِ." يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ" ظَرْفٌ، وَالْعَامِلُ فِيهِ" أَذانٌ". وَإِنْ كَانَ قَدْ وُصِفَ بِقَوْلِهِ:" مِنَ اللَّهِ"، فَإِنَّ رَائِحَةَ الْفِعْلِ فِيهِ بَاقِيَةٌ، وَهِيَ عَامِلَةٌ فِي الظُّرُوفِ. وَقِيلَ: الْعَامِلُ فِيهِ" مُخْزِي" وَلَا يَصِحُّ عَمَلُ" أَذانٌ"، لِأَنَّهُ قَدْ وُصِفَ فَخَرَجَ عَنْ حُكْمِ الْفِعْلِ. الثَّانِيَةُ- وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي الْحَجِّ الْأَكْبَرِ، فَقِيلَ: يَوْمُ عَرَفَةَ. رُوِيَ عَنْ عُمَرَ وَعُثْمَانَ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَطَاوُسٍ وَمُجَاهِدٍ. وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ. وَعَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا وَابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ أَبِي أَوْفَى وَالْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ أَنَّهُ يَوْمُ النَّحْرِ. وَاخْتَارَهُ الطَّبَرِيُّ. وَرَوَى ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَفَ يَوْمَ النَّحْرِ فِي الْحَجَّةِ الَّتِي حَجَّ فِيهَا فَقَالَ: (أَيُّ يَوْمٍ هَذَا) فَقَالُوا: يَوْمُ النَّحْرِ فَقَالَ: هَذَا يَوْمُ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ (. أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ. وَخَرَّجَ الْبُخَارِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: بَعَثَنِي أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِيمَنْ يُؤَذِّنُ يَوْمَ النَّحْرِ بِمِنًى: لَا يَحُجُّ بَعْدَ الْعَامِ مُشْرِكٌ وَلَا يَطُوفُ بِالْبَيْتِ عُرْيَانٌ. وَيَوْمُ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ يَوْمُ النَّحْرِ. وَإِنَّمَا قِيلَ الْأَكْبَرِ مِنْ أَجْلِ قَوْلِ النَّاسِ: الْحَجُّ الْأَصْغَرُ. فَنَبَذَ أَبُو بَكْرٍ إِلَى النَّاسِ فِي ذَلِكَ الْعَامِ، فَلَمْ يَحُجَّ عَامَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ الَّذِي حَجَّ فِيهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُشْرِكٌ. وَقَالَ ابْنُ أَبِي أَوْفَى: يَوْمُ النَّحْرِ يَوْمُ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ، يُهْرَاقُ فِيهِ الدَّمُ، وَيُوضَعُ فِيهِ الشَّعْرُ، وَيُلْقَى فِيهِ التَّفَثُ،

(8/69)


وَتَحِلُّ فِيهِ الْحُرُمُ. وَهَذَا مَذْهَبُ مَالِكٍ، لِأَنَّ يَوْمَ النَّحْرِ فِيهِ كَالْحَجِّ كُلِّهِ، لِأَنَّ الْوُقُوفَ إِنَّمَا هُوَ لَيْلَتُهُ، وَالرَّمْيُ وَالنَّحْرُ وَالْحَلْقُ وَالطَّوَافُ فِي صَبِيحَتِهِ. احْتَجَّ الْأَوَّلُونَ بِحَدِيثِ مَخْرَمَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (يوم الْحَجِّ الْأَكْبَرِ يَوْمُ عَرَفَةَ). رَوَاهُ إِسْمَاعِيلُ الْقَاضِي. وَقَالَ الثَّوْرِيُّ وَابْنُ جُرَيْجٍ: الْحَجُّ الْأَكْبَرُ أَيَّامُ مِنًى كُلُّهَا. وَهَذَا كَمَا يُقَالُ: يَوْمُ صِفِّينَ وَيَوْمُ الْجَمَلِ وَيَوْمُ بُعَاثَ «1»، فَيُرَادُ بِهِ الْحِينُ وَالزَّمَانُ لَا نَفْسُ الْيَوْمِ. وَرُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ: الْحَجُّ الْأَكْبَرُ الْقِرَانُ «2»، وَالْأَصْغَرُ الْإِفْرَادُ. وَهَذَا لَيْسَ من الآية في شي. وَعَنْهُ وَعَنْ عَطَاءٍ: الْحَجُّ الْأَكْبَرُ الَّذِي فِيهِ الْوُقُوفُ بِعَرَفَةَ، وَالْأَصْغَرُ الْعُمْرَةُ. وَعَنْ مُجَاهِدٍ أَيْضًا: أَيَّامُ الْحَجِّ كُلُّهَا. وَقَالَ الْحَسَنُ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ نَوْفَلٍ: إِنَّمَا سُمِّيَ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ لِأَنَّهُ حَجَّ ذَلِكَ الْعَامَ الْمُسْلِمُونَ وَالْمُشْرِكُونَ، وَاتَّفَقَتْ فِيهِ يَوْمَئِذٍ أَعْيَادُ الْمِلَلِ: الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهَذَا ضَعِيفٌ أَنْ يَصِفَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِي كِتَابِهِ بِالْأَكْبَرِ لِهَذَا. وَعَنِ الْحَسَنِ أَيْضًا: إِنَّمَا سُمِّيَ الْأَكْبَرَ لِأَنَّهُ حَجَّ فِيهِ أَبُو بَكْرٍ وَنُبِذَتْ فِيهِ الْعُهُودُ. وَهَذَا الَّذِي يُشْبِهُ نَظَرَ الْحَسَنِ. وَقَالَ ابْنُ سِيرِينَ: يَوْمُ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ الْعَامُ الَّذِي حَجَّ فِيهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَجَّةَ الْوَدَاعِ، وَحَجَّتْ مَعَهُ فِيهِ الْأُمَمُ. الثالثة- قوله تعالى:" (أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ) "" أَنَّ" بِالْفَتْحِ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ. وَالتَّقْدِيرُ بِأَنَّ اللَّهَ. وَمَنْ قَرَأَ بِالْكَسْرِ قدره بمعنى قال إن الله." بَرِيءٌ" خَبَرُ" أَنَّ"." وَرَسُولِهِ" عَطْفٌ عَلَى الْمَوْضِعِ، وَإِنْ شئت على المضمر المرفوع في" بَرِيءٌ". كِلَاهُمَا حَسَنٌ، لِأَنَّهُ قَدْ طَالَ الْكَلَامُ. وَإِنْ شِئْتَ عَلَى الِابْتِدَاءِ وَالْخَبَرُ مَحْذُوفٌ، التَّقْدِيرُ: وَرَسُولُهُ برئ مِنْهُمْ. وَمَنْ قَرَأَ" وَرَسُولَهُ" بِالنَّصْبِ- وَهُوَ الْحَسَنُ وَغَيْرُهُ- عَطَفَهُ عَلَى اسْمِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ
__________
(1). صفين (بكسرتين وتشديد الفاء): موضع بقرب الرقة على شاطئ الفرات. كان فيه وقعة بين علي رضى الله عنه ومعاوية في سنة 37 هـ. ويوم الجمل كان فيه وقعة بين علي وعائشة أم المؤمنين رضى الله عنهما، قتل فيه عدة من الصحابة وغير هم. وكان في سنة 36 هـ. يوم بعاث (بضم أوله والعين المهملة، وحكاه بعضهم بالغين المعجمة): موضع من المدينة على ليلتين. كانت به وقائع بين الأوس والخزرج في الجاهلية.
(2). القران (بالكسر): الجمع بين الحج والعمرة. والافراد: هو أن يحرم بالحج وحده.

(8/70)


إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (4)

عَلَى اللَّفْظِ. وَفِي الشَّوَاذِّ" وَرَسُولِهِ" بِالْخَفْضِ عَلَى الْقَسَمِ، أَيْ وَحَقِّ رَسُولِهِ، وَرُوِيَتْ عَنِ الْحَسَنِ. وَقَدْ تَقَدَّمَتْ قِصَّةُ عُمَرَ فِيهَا أَوَّلَ «1» الْكِتَابِ. (فَإِنْ تُبْتُمْ) أَيْ عَنِ الشِّرْكِ. (فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ) أَيْ أَنْفَعُ لَكُمْ. (وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ) أَيْ عَنِ الْإِيمَانِ. (فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ) أَيْ فَائِتِيهِ، فَإِنَّهُ مُحِيطٌ بِكُمْ وَمُنْزِلٌ عِقَابَهُ عليكم.

[سورة التوبة (9): آية 4]
إِلاَّ الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً وَلَمْ يُظاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَداً فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (4)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ بِالِاسْتِثْنَاءِ الْمُتَّصِلِ، الْمَعْنَى: أن الله برئ مِنَ الْمُشْرِكِينَ إِلَّا مِنَ الْمُعَاهِدِينَ فِي مُدَّةِ عهد هم. وقيل: الاستثناء منقطع، أي أن الله برئ مِنْهُمْ وَلَكِنَّ الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ فَثَبَتُوا عَلَى الْعَهْدِ فأتموا إليهم عهد هم. وقوله: (ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ) يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْعَهْدِ مَنْ خَاسَ «2» بِعَهْدِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ ثَبَتَ عَلَى الْوَفَاءِ، فَأَذِنَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي نَقْضِ عَهْدِ مَنْ خَاسَ، وَأَمَرَ بِالْوَفَاءِ لِمَنْ بَقِيَ عَلَى عَهْدِهِ إِلَى مُدَّتِهِ. وَمَعْنَى" لَمْ يَنْقُصُوكُمْ" أَيْ من شروط العهد شيئا. (وَلَمْ يُظاهِرُوا) لَمْ يُعَاوِنُوا. وَقَرَأَ عِكْرِمَةُ وَعَطَاءُ بْنُ يَسَارٍ" ثُمَّ لَمْ يَنْقُضُوكُمْ" بِالضَّادِ مُعْجَمَةً عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، التَّقْدِيرُ ثُمَّ لَمْ يَنْقُضُوا عَهْدَهُمْ «3». يُقَالُ: إِنَّ هَذَا مَخْصُوصٌ يُرَادُ بِهِ بَنُو ضَمْرَةَ خاصة. ثم قال: (فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلى مُدَّتِهِمْ) أَيْ وَإِنْ كانت أكثر من أربعة أشهر.

[سورة التوبة (9): آية 5]
فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5)
فِيهِ سِتُّ مَسَائِلَ:
__________
(1). راجع ج 1 ص 24.
(2). خاس عهده وبعهده: نقضه.
(3). في ج وك وز: عهد كم.

(8/71)


الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى: (فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ) أَيْ خَرَجَ. وَسَلَخْتُ الشَّهْرَ إِذَا صِرْتُ فِي أَوَاخِرِ أَيَّامِهِ، تَسْلَخُهُ سَلْخًا وَسُلُوخًا بِمَعْنَى خَرَجْتَ مِنْهُ. وَقَالَ الشَّاعِرُ:
إِذَا مَا سَلَخْتُ الشَّهْرَ أَهْلَلْتُ قَبْلَهُ «1» ... كَفَى قَاتِلًا سَلْخِي الشُّهُورَ وَإِهْلَالِي
وَانْسَلَخَ الشَّهْرُ وَانْسَلَخَ النَّهَارُ مِنَ اللَّيْلِ الْمُقْبِلِ. وَسَلَخَتِ الْمَرْأَةُ دِرْعَهَا نَزَعَتْهُ. وَفِي التَّنْزِيلِ:" وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ" «2» [يس: 37]. ونخلة مسلاخ، وهي التي ينتثر بسر ها أَخْضَرَ. وَالْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فِيهَا لِلْعُلَمَاءِ قَوْلَانِ: قِيلَ هِيَ الْأَشْهُرُ الْمَعْرُوفَةُ، ثَلَاثَةٌ سَرْدٌ وَوَاحِدٌ فَرْدٌ. قَالَ الْأَصَمُّ: أُرِيدَ بِهِ مَنْ لَا عَقْدَ لَهُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، فَأَوْجَبَ أَنْ يُمْسَكَ عَنْ قِتَالِهِمْ حَتَّى يَنْسَلِخَ الْحُرُمُ، وَهُوَ مُدَّةُ خَمْسِينَ يَوْمًا عَلَى مَا ذَكَرَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، لِأَنَّ النِّدَاءَ كَانَ بِذَلِكَ يَوْمَ النَّحْرِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ هَذَا. وَقِيلَ: شُهُورُ الْعَهْدِ أَرْبَعَةٌ، قَالَهُ مُجَاهِدٌ وَابْنُ إِسْحَاقَ وَابْنُ زَيْدٍ وَعَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ. وَقِيلَ لَهَا حُرُمٌ لِأَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ فِيهَا دِمَاءَ الْمُشْرِكِينَ وَالتَّعَرُّضَ لَهُمْ إِلَّا عَلَى سَبِيلِ الْخَيْرِ. الثَّانِيَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ) عَامٌّ فِي كُلِّ مُشْرِكٍ، لَكِنَّ السُّنَّةَ خَصَّتْ مِنْهُ مَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي سُورَةِ" الْبَقَرَةِ" «3» مِنَ امْرَأَةٍ وَرَاهِبٍ وَصَبِيٍّ وَغَيْرِهِمْ. وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي أَهْلِ الْكِتَابِ:" حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ" «4». إِلَّا أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لَفْظُ الْمُشْرِكِينَ لَا يَتَنَاوَلُ أَهْلَ الْكِتَابِ «5»، وَيَقْتَضِي ذَلِكَ مَنْعَ أَخْذِ الْجِزْيَةِ مِنْ عَبَدَةِ الْأَوْثَانِ وَغَيْرِهِمْ، عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانُهُ. وَاعْلَمْ أَنَّ مُطْلَقَ قوله:" فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ" يَقْتَضِي جَوَازَ قَتْلِهِمْ بِأَيِّ وَجْهٍ كَانَ، إِلَّا أَنَّ الْأَخْبَارَ وَرَدَتْ بِالنَّهْيِ عَنِ الْمُثْلَةِ. وَمَعَ هَذَا فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حِينَ قَتَلَ أَهْلَ الرِّدَّةِ بِالْإِحْرَاقِ بِالنَّارِ، وَبِالْحِجَارَةِ وَبِالرَّمْيِ مِنْ رُءُوسِ الْجِبَالِ، وَالتَّنْكِيسِ فِي الْآبَارِ، تَعَلَّقَ بِعُمُومِ الْآيَةِ. وَكَذَلِكَ إِحْرَاقُ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَوْمًا مِنْ أَهْلِ الرِّدَّةِ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَيْلًا إِلَى هَذَا الْمَذْهَبِ، وَاعْتِمَادًا عَلَى عُمُومِ اللَّفْظِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
__________
(1). في اللسان والبحر المحيط: (أهللت مثله).
(2). راجع ج 15 ص 26. [ ..... ]
(3). راجع ج 2 ص 348.
(4). راجع ص 109 فما بعد من هذا الجزء.
(5). في ب وج وز وك وهـ: للكتابين.

(8/72)


الثَّالِثَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ) عَامٌّ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ. وَخَصَّ أَبُو حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ، كَمَا سَبَقَ فِي سُورَةِ" الْبَقَرَةِ" «1». ثُمَّ اخْتَلَفُوا، فَقَالَ الْحُسَيْنُ بْنُ الْفَضْلِ: نَسَخَتْ هَذِهِ كُلَّ آيَةٍ فِي الْقُرْآنِ فِيهَا ذِكْرُ الْإِعْرَاضِ وَالصَّبْرِ عَلَى أَذَى الْأَعْدَاءِ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ وَالسُّدِّيُّ وَعَطَاءٌ: هِيَ مَنْسُوخَةٌ بِقَوْلِهِ:" فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً" «2» [محمد: 4]. وَأَنَّهُ لَا يُقْتَلُ أَسِيرٌ صَبْرًا، إِمَّا أَنْ يُمَنَّ عَلَيْهِ وَإِمَّا أَنْ يُفَادَى. وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ: بَلْ هِيَ نَاسِخَةٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى:" فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً" وَأَنَّهُ لَا يَجُوزُ فِي الْأُسَارَى مِنَ الْمُشْرِكِينَ إِلَّا الْقَتْلُ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: الْآيَتَانِ مُحْكَمَتَانِ. وَهُوَ الصَّحِيحُ، لِأَنَّ الْمَنَّ وَالْقَتْلَ وَالْفِدَاءَ لَمْ يَزَلْ مِنْ حَكَمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيهم مِنْ أَوَّلِ حَرْبٍ حَارَبَهُمْ، وَهُوَ يَوْمُ بَدْرٍ كما سبق. وقوله: (وَخُذُوهُمْ) يدل عليه. وَالْأَخْذُ هُوَ الْأَسْرُ. وَالْأَسْرُ إِنَّمَا يَكُونُ لِلْقَتْلِ أَوِ الْفِدَاءِ أَوِ الْمَنِّ عَلَى مَا يَرَاهُ الامام. ومعنى (احْصُرُوهُمْ) يُرِيدُ عَنِ التَّصَرُّفِ إِلَى بِلَادِكُمْ وَالدُّخُولِ إِلَيْكُمْ، إِلَّا أَنْ تَأْذَنُوا لَهُمْ فَيَدْخُلُوا إِلَيْكُمْ بِأَمَانٍ. الرَّابِعَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ) الْمَرْصَدُ: الْمَوْضِعُ الَّذِي يُرْقَبُ فِيهِ الْعَدُوُّ، يُقَالُ: رَصَدْتُ فُلَانًا أَرْصُدُهُ، أَيْ رَقَبْتُهُ. أَيِ اقْعُدُوا لَهُمْ فِي مَوَاضِعِ الْغِرَّةِ حَيْثُ يُرْصَدُونَ. قَالَ عَامِرُ بْنُ الطُّفَيْلِ:
وَلَقَدْ عَلِمْتُ وَمَا إِخَالَكَ نَاسِيَا ... أَنَّ الْمَنِيَّةَ لِلْفَتَى بِالْمَرْصَدِ
وَقَالَ عَدِيٌّ «3»:
أعاذل إن الجاهل مِنْ لَذَّةِ الْفَتَى ... وَإِنَّ الْمَنَايَا لِلنُّفُوسِ بِمَرْصَدِ
وَفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ اغْتِيَالِهِمْ قَبْلَ الدَّعْوَةِ. وَنَصْبُ" كُلَّ" عَلَى الظَّرْفِ، وَهُوَ اخْتِيَارُ الزَّجَّاجِ، وَيُقَالُ: ذَهَبْتُ طَرِيقًا وَذَهَبْتُ كُلَّ طَرِيقٍ. أَوْ بِإِسْقَاطِ الْخَافِضِ، التَّقْدِيرُ: فِي كُلِّ مَرْصَدٍ وَعَلَى كُلِّ مَرْصَدٍ، فَيُجْعَلُ الْمَرْصَدُ اسْمًا لِلطَّرِيقِ. وخطأ أبو علي الزجاج
__________
(1). راجع ج 2 ص 351.
(2). راجع ج 16 ص 225.
(3). في الأصول: (النابغة) والتصويب عن اللسان.

(8/73)


فِي جَعْلِهِ الطَّرِيقَ ظَرْفًا وَقَالَ: الطَّرِيقُ مَكَانٌ مَخْصُوصٌ كَالْبَيْتِ وَالْمَسْجِدِ، فَلَا يَجُوزُ حَذْفُ حَرْفِ الْجَرِّ مِنْهُ إِلَّا فِيمَا وَرَدَ فِيهِ الْحَذْفُ سَمَاعًا، كَمَا حَكَى سِيبَوَيْهِ: دَخَلْتُ الشَّامَ وَدَخَلْتُ الْبَيْتَ، وَكَمَا قِيلَ:
كَمَا عَسَلَ الطَّرِيقَ الثَّعْلَبُ «1»

الْخَامِسَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (فَإِنْ تابُوا) أَيْ مِنَ الشِّرْكِ. (وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ) هَذِهِ الْآيَةُ فِيهَا تَأَمُّلٌ، وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى عَلَّقَ الْقَتْلَ عَلَى الشِّرْكِ، ثُمَّ قَالَ:" فَإِنْ تابُوا". وَالْأَصْلُ أَنَّ الْقَتْلَ مَتَى كَانَ الشرك يَزُولُ بِزَوَالِهِ، وَذَلِكَ يَقْتَضِي زَوَالَ الْقَتْلِ بِمُجَرَّدِ التَّوْبَةِ، مِنْ غَيْرِ اعْتِبَارِ إِقَامَةِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَلِذَلِكَ سَقَطَ الْقَتْلُ بِمُجَرَّدِ التَّوْبَةِ قَبْلَ وَقْتِ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ. وَهَذَا بَيِّنٌ فِي هَذَا الْمَعْنَى، غَيْرَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذَكَرَ التَّوْبَةَ وَذَكَرَ مَعَهَا شَرْطَيْنِ آخَرَيْنِ، فَلَا سَبِيلَ إِلَى إِلْغَائِهِمَا. نَظِيرُهُ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماء هم وَأَمْوَالَهُمْ إِلَّا بِحَقِّهَا وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللَّهِ (. وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: وَاللَّهِ لَأُقَاتِلَنَّ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ، فَإِنَّ الزَّكَاةَ حَقُّ الْمَالِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: رَحِمَ اللَّهُ أَبَا بَكْرٍ مَا كَانَ أَفْقَهَهُ. وَقَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: فَانْتَظَمَ الْقُرْآنُ وَالسُّنَّةُ وَاطَّرَدَا. وَلَا خِلَافَ بَيْنِ الْمُسْلِمِينَ أَنَّ مَنْ تَرَكَ الصَّلَاةَ وَسَائِرَ الْفَرَائِضِ مُسْتَحِلًّا كَفَرَ، وَمَنْ تَرَكَ السُّنَنَ مُتَهَاوِنًا فَسَقَ، وَمَنْ تَرَكَ النَّوَافِلَ لَمْ يَحْرَجْ، إِلَّا أَنْ يَجْحَدَ فَضْلَهَا فَيَكْفُرُ، لِأَنَّهُ يَصِيرُ رَادًّا عَلَى الرَّسُولِ عَلَيْهِ السَّلَامُ مَا جَاءَ بِهِ وَأَخْبَرَ عَنْهُ. وَاخْتَلَفُوا فِيمَنْ تَرَكَ الصَّلَاةَ مِنْ غَيْرِ جَحْدٍ لَهَا وَلَا اسْتِحْلَالٍ، فَرَوَى يونس ابن عبد الا على قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ وَهْبٍ يَقُولُ قَالَ مَالِكٌ: مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ وَأَبَى أَنْ يُصَلِّيَ قُتِلَ، وَبِهِ قَالَ أَبُو ثَوْرٍ وَجَمِيعُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ. وَهُوَ قَوْلُ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ وَمَكْحُولٍ وَوَكِيعٍ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يُسْجَنُ وَيُضْرَبُ وَلَا يُقْتَلُ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ شِهَابٍ وَبِهِ يقول داود ابن عَلِيٍّ. وَمِنْ حُجَّتِهِمْ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا لا إله
__________
(1). القائل هو ساعدة بن جوية: وتمامه كما في اللسان وكتاب سيبويه:
لدن بهز الكف بعسل متنه ... فيه كما عسل .........

(8/74)


وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْلَمُونَ (6)

إِلَّا اللَّهُ فَإِذَا قَالُوا ذَلِكَ عَصَمُوا مِنِّي دماء هم وَأَمْوَالَهُمْ إِلَّا بِحَقِّهَا (. وَقَالُوا: حَقُّهَا الثَّلَاثُ الَّتِي قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:) لَا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إِلَّا بِإِحْدَى ثَلَاثٍ كُفْرٌ بَعْدَ إِيمَانٍ أَوْ زِنًى بَعْدَ إِحْصَانٍ أَوْ قَتْلِ نَفْسٍ بِغَيْرِ نَفْسٍ (. وَذَهَبَتْ جَمَاعَةٌ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ إِلَى أَنَّ مَنْ تَرَكَ صَلَاةً وَاحِدَةً مُتَعَمِّدًا حَتَّى يَخْرُجَ وَقْتُهَا لِغَيْرِ عُذْرٍ، وَأَبَى مِنْ أَدَائِهَا وَقَضَائِهَا وَقَالَ لَا أُصَلِّي فَإِنَّهُ كَافِرٌ، وَدَمُهُ وَمَالُهُ حَلَالَانِ، وَلَا يَرِثُهُ وَرَثَتُهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَيُسْتَتَابُ، فَإِنْ تَابَ وَإِلَّا قُتِلَ، وَحُكْمُ مَالِهِ كَحُكْمِ مَالِ الْمُرْتَدِّ، وَهُوَ قَوْلُ إِسْحَاقَ. قَالَ إِسْحَاقُ: وَكَذَلِكَ كَانَ رَأْيُ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنْ لَدُنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى زَمَانِنَا هَذَا. وَقَالَ ابن خويز منداد: وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا مَتَى يُقْتَلُ تَارِكُ الصَّلَاةِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ فِي آخِرِ الْوَقْتِ الْمُخْتَارِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ آخِرُ وَقْتِ الضَّرُورَةِ، وَهُوَ الصَّحِيحُ مِنْ ذَلِكَ. وَذَلِكَ أَنْ يَبْقَى مِنْ وَقْتِ الْعَصْرِ «1» أَرْبَعُ رَكَعَاتٍ إِلَى مَغِيبِ الشَّمْسِ، وَمِنَ اللَّيْلِ أَرْبَعُ رَكَعَاتٍ لِوَقْتِ الْعِشَاءِ، وَمِنَ الصُّبْحِ رَكْعَتَانِ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ. وَقَالَ إِسْحَاقُ: وَذَهَابُ الْوَقْتِ أَنْ يُؤَخِّرَ الظُّهْرَ إِلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ وَالْمَغْرِبَ إِلَى طُلُوعِ الْفَجْرِ. السَّادِسَةُ- هَذِهِ الْآيَةُ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّ مَنْ قَالَ: قَدْ تُبْتُ أَنَّهُ لَا يُجْتَزَأُ بِقَوْلِهِ حَتَّى يَنْضَافَ إِلَى ذَلِكَ أَفْعَالُهُ الْمُحَقِّقَةُ لِلتَّوْبَةِ، لِأَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ شَرَطَ هُنَا مَعَ التَّوْبَةِ إِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ لِيُحَقِّقَ بِهِمَا التَّوْبَةَ. وَقَالَ فِي آيَةِ الرِّبَا" وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُسُ أَمْوالِكُمْ" «2» [البقرة: 279]. وقال:" إِلَّا الَّذِينَ تابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا" [البقرة: 160] وَقَدْ تَقَدَّمَ مَعْنَى هَذَا فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ «3».

[سورة التوبة (9): آية 6]
وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْلَمُونَ (6)
فِيهِ أَرْبَعُ مَسَائِلَ: الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) أَيْ مِنَ الَّذِينَ أَمَرْتُكَ بِقِتَالِهِمْ." اسْتَجارَكَ" أَيْ سَأَلَ جِوَارَكَ، أَيْ أَمَانَكَ وَذِمَامَكَ، فَأَعْطِهِ إِيَّاهُ ليسمع القرآن، أي يفهم
__________
(1). في ب: من وقت الصلاة.
(2). راجع ج 3 ص 365.
(3). راجع ج 2 ص 187.

(8/75)


أَحْكَامَهُ وَأَوَامِرَهُ وَنَوَاهِيَهِ. فَإِنْ قَبِلَ أَمْرًا فَحَسَنٌ، وَإِنْ أَبَى فَرُدَّهُ إِلَى مَأْمَنِهِ. وَهَذَا مَا لَا خِلَافَ فِيهِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ «1». قَالَ مَالِكٌ: إِذَا وُجِدَ الْحَرْبِيُّ فِي طَرِيقِ بِلَادِ الْمُسْلِمِينَ فَقَالَ: جِئْتُ أَطْلُبُ الْأَمَانَ. قَالَ مَالِكٌ: هَذِهِ أُمُورٌ مُشْتَبِهَةٌ، وَأَرَى أَنْ يُرَدَّ إِلَى مَأْمَنِهِ. وقال ابن القاسم: وَكَذَلِكَ الَّذِي يُوجَدُ وَقَدْ نَزَلَ تَاجِرًا بِسَاحِلِنَا فَيَقُولُ: ظَنَنْتُ أَلَّا تَعْرِضُوا لِمَنْ جَاءَ تَاجِرًا حتى يبيع. وظاهر الآية إنما هي فيمن يُرِيدُ سَمَاعَ الْقُرْآنِ وَالنَّظَرَ فِي الْإِسْلَامِ، فَأَمَّا الْإِجَارَةُ لِغَيْرِ ذَلِكَ فَإِنَّمَا هِيَ لِمَصْلَحَةِ الْمُسْلِمِينَ وَالنَّظَرِ فِيمَا تَعُودُ عَلَيْهِمْ بِهِ مَنْفَعَتُهُ. الثَّانِيَةُ- وَلَا خِلَافَ بَيْنَ كَافَّةِ الْعُلَمَاءِ أَنَّ أَمَانَ السُّلْطَانِ جَائِزٌ، لِأَنَّهُ مُقَدَّمٌ لِلنَّظَرِ وَالْمَصْلَحَةِ، نَائِبٌ عَنِ الْجَمِيعِ فِي جَلْبِ الْمَنَافِعِ وَدَفْعِ الْمَضَارِّ. وَاخْتَلَفُوا فِي أَمَانِ غَيْرِ الْخَلِيفَةِ، فَالْحُرُّ يَمْضِي أَمَانُهُ عِنْدَ كَافَّةِ الْعُلَمَاءِ. إِلَّا أَنَّ ابْنَ حَبِيبٍ قَالَ: يَنْظُرُ الْإِمَامُ فِيهِ. وَأَمَّا الْعَبْدُ فَلَهُ الْأَمَانُ فِي مَشْهُورِ الْمَذْهَبِ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَصْحَابُهُ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَالثَّوْرِيُّ وَأَبُو ثَوْرٍ وَدَاوُدُ وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا أَمَانَ لَهُ، وَهُوَ الْقَوْلُ الثَّانِي لِعُلَمَائِنَا. وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (الْمُسْلِمُونَ تَتَكَافَأُ دِمَاؤُهُمْ ويسعى بذمتهم أدنا هم). قالوا: فلما قال (أدنا هم) جَازَ أَمَانُ الْعَبْدِ، وَكَانَتِ الْمَرْأَةُ الْحُرَّةُ أَحْرَى بِذَلِكَ، وَلَا اعْتِبَارَ بِعِلَّةِ (لَا يُسْهَمُ لَهُ). وَقَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ الْمَاجِشُونَ: لَا يَجُوزُ أَمَانُ الْمَرْأَةِ إِلَّا أَنْ يُجِيزَهُ الْإِمَامُ، فَشَذَّ بِقَوْلِهِ عَنِ الْجُمْهُورِ. وَأَمَّا الصَّبِيُّ فَإِذَا أَطَاقَ الْقِتَالَ جَازَ أَمَانُهُ، لِأَنَّهُ مِنْ جُمْلَةِ الْمُقَاتِلَةِ، وَدَخَلَ فِي الْفِئَةِ الْحَامِيَةِ. وَقَدْ ذَهَبَ الضَّحَّاكُ وَالسُّدِّيُّ إِلَى أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مَنْسُوخَةٌ بِقَوْلِهِ:" فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ". وَقَالَ الْحَسَنُ: هِيَ مُحْكَمَةٌ سُنَّةٌ «2» إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَقَالَهُ مُجَاهِدٌ. وَقِيلَ: هَذِهِ الْآيَةُ إِنَّمَا كَانَ حُكْمُهَا بَاقِيًا مُدَّةَ الْأَرْبَعَةِ الْأَشْهُرِ الَّتِي ضُرِبَتْ لَهُمْ أَجَلًا، وَلَيْسَ بِشَيْءٍ. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: جَاءَ رَجُلٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ إِلَى عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ فَقَالَ: إِنْ أَرَادَ الرَّجُلُ مِنَّا أَنْ يَأْتِيَ مُحَمَّدًا بَعْدَ انْقِضَاءِ الْأَرْبَعَةِ الْأَشْهُرِ فَيَسْمَعُ كَلَامَ اللَّهِ أو يأتيه بحاجة قتل!
__________
(1). في ج وك وهـ وى: والحمد لله.
(2). كذا في الأصول وتفسير ابن عطية. إلا ب، ففيها: محكمة مثبتة. ولا وجود لهذه الكلمة في قول الحسن في المراجع.

(8/76)


كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (7)

فَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ: لَا، لِأَنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى يَقُولُ:" وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ". وهذا هو صحيح. وَالْآيَةُ مُحْكَمَةٌ." الثَّالِثَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَإِنْ أَحَدٌ) " أَحَدٌ" مَرْفُوعٌ بِإِضْمَارِ فِعْلٍ كَالَّذِي بَعْدَهُ. وَهَذَا حَسَنٌ فِي" إِنْ" وَقَبِيحٌ فِي أَخَوَاتِهَا. وَمَذْهَبُ سِيبَوَيْهِ فِي الْفَرْقِ بَيْنَ" إِنْ" وَأَخَوَاتِهَا، أَنَّهَا لَمَّا كَانَتْ أُمَّ حُرُوفِ الشَّرْطِ خُصَّتْ بِهَذَا، وَلِأَنَّهَا لَا تَكُونُ فِي غَيْرِهِ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ يَزِيدَ: أَمَّا قَوْلُهُ- لِأَنَّهَا لَا تَكُونُ فِي غَيْرِهِ- فَغَلَطٌ، لِأَنَّهَا تَكُونُ بِمَعْنَى (مَا) وَمُخَفَّفَةً مِنَ الثَّقِيلَةِ وَلَكِنَّهَا مُبْهَمَةٌ، وَلَيْسَ كَذَا غير ها. وَأَنْشَدَ سِيبَوَيْهِ:
لَا تَجْزَعِي إِنْ مُنْفِسًا أَهْلَكْتُهُ ... وَإِذَا هَلَكْتُ فَعِنْدَ ذَلِكَ فَاجْزَعِي «1»

الرَّابِعَةُ- قَالَ الْعُلَمَاءُ: فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:" حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ" دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ كَلَامَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ مَسْمُوعٌ عِنْدَ قِرَاءَةِ الْقَارِئِ، قَالَهُ الشَّيْخُ أَبُو الْحَسَنِ وَالْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ وَأَبُو الْعَبَّاسِ القلانسي وابن مجاهد وأبو إسحاق الأسفرايني وغير هم، لِقَوْلِهِ تَعَالَى:" حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ". فَنَصَّ عَلَى أَنَّ كَلَامَهُ مَسْمُوعٌ عِنْدَ قِرَاءَةِ الْقَارِئِ لِكَلَامِهِ. وَيَدُلُّ عَلَيْهِ إِجْمَاعُ الْمُسْلِمِينَ عَلَى أَنَّ الْقَارِئَ إِذَا قَرَأَ فَاتِحَةَ الْكِتَابِ أَوْ سُورَةً قَالُوا: سَمِعْنَا كَلَامَ اللَّهِ. وَفَرَّقُوا بَيْنَ أَنْ يَقْرَأَ كَلَامَ اللَّهِ تَعَالَى وَبَيْنَ أَنْ يَقْرَأَ شِعْرَ امْرِئِ الْقَيْسِ. وَقَدْ مَضَى فِي سُورَةِ" الْبَقَرَةِ" «2» مَعْنَى كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى، وَأَنَّهُ لَيْسَ بحرف ولا صوت، والحمد لله.

[سورة التوبة (9): آية 7]
كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ إِلاَّ الَّذِينَ عاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ فَمَا اسْتَقامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (7)
__________
(1). البيت للنمر بن تولب. وصف أن امرأته لامته على إتلاف ماله جزعا من الفقر، فقال لها: لا تجزعي من إهلاكي لنفيس المال، فإني كفيل بإخلافه بعد التلف، وإذا هلكت فاجزعي فلا خلف لك مني. (عن شرح الشواهد).
(2). راجع ج 2 ص 1. [ ..... ]

(8/77)


كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لَا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً يُرْضُونَكُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ (8)

قَوْلُهُ تَعَالَى: (كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) كَيْفَ هُنَا لِلتَّعَجُّبِ، كَمَا تَقُولُ: كَيْفَ يَسْبِقُنِي فُلَانٌ أَيْ لَا يَنْبَغِي أَنْ يَسْبِقَنِي. وَ" عَهْدٌ" اسْمُ يَكُونُ. وَفِي الْآيَةِ إِضْمَارٌ، أَيْ كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ مَعَ إِضْمَارِ الْغَدْرِ، كَمَا قَالَ:
وَخَبَّرْتُمَانِي إِنَّمَا الْمَوْتُ بِالْقُرَى ... فَكَيْفَ وَهَاتَا هَضْبَةٌ «1» وَكَثِيبُ
التَّقْدِيرُ: فَكَيْفَ مَاتَ، عَنِ الزَّجَّاجِ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ يَأْمَنُونَ بِهِ عَذَابَهُ غَدًا، وَكَيْفَ يَكُونُ لَهُمْ عِنْدَ رَسُولِهِ عَهْدٌ يَأْمَنُونَ بِهِ عَذَابَ الدُّنْيَا. ثُمَّ اسْتَثْنَى فَقَالَ:" إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ". قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: هُمْ بَنُو بَكْرٍ، أَيْ لَيْسَ الْعَهْدُ إِلَّا لِهَؤُلَاءِ الَّذِينَ لَمْ يَنْقُضُوا وَلَمْ يَنْكُثُوا. قَوْلُهُ تَعَالَى: (فَمَا اسْتَقامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ) أي فما أقاموا على الوفاء بعهد كم فَأَقِيمُوا لَهُمْ عَلَى مِثْلِ ذَلِكَ. ابْنُ زَيْدٍ: فَلَمْ يَسْتَقِيمُوا فَضَرَبَ لَهُمْ أَجَلًا أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ. فَأَمَّا مَنْ لَا عَهْدَ لَهُ فَقَاتِلُوهُ حَيْثُ وجدتموه إلا أن يتوب.

[سورة التوبة (9): آية 8]
كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لَا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلاًّ وَلا ذِمَّةً يُرْضُونَكُمْ بِأَفْواهِهِمْ وَتَأْبى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فاسِقُونَ (8)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ) أَعَادَ التَّعَجُّبَ مِنْ أَنْ يَكُونَ لَهُمْ عَهْدٌ مَعَ خُبْثِ أَعْمَالِهِمْ، أَيْ كَيْفَ يَكُونُ لَهُمْ عَهْدٌ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لَا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً. يُقَالُ: ظَهَرْتُ عَلَى فُلَانٍ أَيْ غَلَبْتُهُ، وَظَهَرْتُ الْبَيْتَ عَلَوْتُهُ، وَمِنْهُ" فَمَا اسْطاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ" «2» [الكهف: 97] أي يعلوا عليه.
__________
(1). كذا في الأصول والبحر. والذي في شواهد سيبويه وجمهرة أشعار العرب: (وقليب) قال الشنتمري: (وأراد بالقليب القبر وأصله البئر. كأنه حذر من وباء الأمصار وهي القرى فخرج إلى البادية فرأى قبرا فعلم أن الموت لا ينجى منه فقال هذا منكرا على من حذره من الإقامة بالقرى).
(2). راجع ج 11 ص 62.)

(8/78)


قوله تعالى: (لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلا ذِمَّةً) " يَرْقُبُوا" يُحَافِظُوا. وَالرَّقِيبُ الْحَافِظُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ «1». (إِلًّا) عَهْدًا، عَنْ مُجَاهِدٍ وَابْنِ زَيْدٍ. وَعَنْ مُجَاهِدٍ أَيْضًا: هُوَ اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. ابْنُ عَبَّاسٍ وَالضَّحَّاكُ: قَرَابَةً. الْحَسَنُ: جِوَارًا. قتادة: حلفا، و" ذِمَّةً" عَهْدًا. أَبُو عُبَيْدَةَ: يَمِينًا. وَعَنْهُ أَيْضًا: إِلَّا الْعَهْدَ، وَالذِّمَّةُ التَّذَمُّمُ. الْأَزْهَرِيُّ: اسْمُ اللَّهِ بِالْعِبْرَانِيَّةِ، وَأَصْلُهُ مِنَ الْأَلِيلِ وَهُوَ الْبَرِيقُ، يُقَالُ أَلَّ لونه يول أَلًّا، أَيْ صَفَا وَلَمَعَ. وَقِيلَ: أَصْلُهُ مِنَ الْحِدَّةِ، وَمِنْهُ الْأَلَّةُ لِلْحَرْبَةِ، وَمِنْهُ أُذُنٌ مُؤَلَّلَةٌ أَيْ مُحَدَّدَةٌ. وَمِنْهُ قَوْلُ طَرَفَةَ بْنِ الْعَبْدِ يَصِفُ أُذُنَيْ نَاقَتِهِ بِالْحِدَّةِ وَالِانْتِصَابِ:
مُؤَلَّلَتَانِ تَعْرِفُ الْعِتْقَ فِيهِمَا ... كَسَامِعَتَيْ شَاةٍ بِحَوْمَلَ مُفْرَدِ «2»
فَإِذَا قِيلَ لِلْعَهْدِ وَالْجِوَارِ وَالْقَرَابَةِ" إِلٌّ" فَمَعْنَاهُ أَنَّ الْأُذُنَ تُصْرَفُ إِلَى تِلْكَ الْجِهَةِ، أَيْ تُحَدَّدُ لَهَا. وَالْعَهْدُ يُسَمَّى" إِلًّا" لِصَفَائِهِ وَظُهُورِهِ. وَيُجْمَعُ فِي الْقِلَّةِ آلَالٌ. وَفِي الْكَثْرَةِ إِلَالٌ. وَقَالَ الْجَوْهَرِيُّ وَغَيْرُهُ: الْإِلُّ بِالْكَسْرِ هُوَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ، وَالْإِلُّ أَيْضًا الْعَهْدُ وَالْقَرَابَةُ. قَالَ حَسَّانُ:
لَعَمْرِكَ إِنَّ إِلَّكَ مِنْ قُرَيْشٍ ... كَإِلِّ السَّقْبِ مِنْ رَأَلِ النَّعَامِ «3»
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَلا ذِمَّةً) أَيْ عَهْدًا. وَهِيَ كُلُّ حُرْمَةٍ يَلْزَمُكَ إِذَا ضَيَّعْتَهَا ذَنْبٌ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالضَّحَّاكُ وَابْنُ زَيْدٍ: الذِّمَّةُ الْعَهْدُ. وَمَنْ جَعَلَ الْإِلَّ الْعَهْدَ فَالتَّكْرِيرُ لِاخْتِلَافِ اللَّفْظَيْنِ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ مَعْمَرٌ: الذِّمَّةُ التَّذَمُّمُ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: الذِّمَّةُ الْأَمَانُ فِي قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: (وَيَسْعَى بِذِمَّتِهِمْ أَدْنَاهُمْ). وَجَمْعُ ذِمَّةٍ ذِمَمٌ. وَبِئْرٌ ذَمَّةٌ (بِفَتْحِ الذَّالِ) قَلِيلَةُ الْمَاءِ، وَجَمْعُهَا ذِمَامٌ. قَالَ ذُو الرِّمَّةِ:
__________
(1). راجع ج 5 ص 8.
(2). السامعتان: الأذنان. والمراد بالشاة هنا: الثور الوحشي وحومل: اسم رملة. شبة أذنيها بأذني ثور وحشي لتحد يدهما وصدق سمعهما، وأذن الوحشي أصدق من عينيه وجعله (مفردا) لأنه أشد لسمعه وارتياعه. (عن شرح الديوان).
(3). السقب: ولد الناقة. والرأل: ولد النعام.

(8/79)


اشْتَرَوْا بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (9)

على حمير يأت كَأَنَّ عُيُونَهَا ... ذِمَامُ الرَّكَايَا أَنْكَزَتْهَا الْمَوَاتِحُ «1»
أَنْكَزَتْهَا أَذْهَبَتْ مَاءَهَا. وَأَهْلُ الذِّمَّةِ أَهْلُ الْعَقْدِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: (يُرْضُونَكُمْ بِأَفْواهِهِمْ) أَيْ يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا يُرْضِي «2» ظَاهِرُهُ. (وَتَأْبى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فاسِقُونَ) أَيْ نَاقِضُونَ الْعَهْدَ. وَكُلُّ كَافِرٍ فَاسِقٌ، وَلَكِنَّهُ أَرَادَ ها هنا المجاهرين بالقبائح ونقض العهد.

[سورة التوبة (9): آية 9]
اشْتَرَوْا بِآياتِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ ساءَ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ (9)
يَعْنِي الْمُشْرِكِينَ فِي نَقْضِهِمُ الْعُهُودَ بِأَكْلَةٍ أَطْعَمَهُمْ إِيَّاهَا أَبُو سُفْيَانَ، قَالَهُ مُجَاهِدٌ. وَقِيلَ: إِنَّهُمُ اسْتَبْدَلُوا بِالْقُرْآنِ مَتَاعَ الدُّنْيَا. (فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ) أَيْ أَعْرَضُوا، مِنَ الصُّدُودِ. أَوْ مَنَعُوا عَنْ سَبِيلِ الله، من الصد.

[سورة التوبة (9): آية 10]
لَا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلاًّ وَلا ذِمَّةً وَأُولئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ (10)
قَالَ النَّحَّاسُ: لَيْسَ هَذَا تَكْرِيرًا، وَلَكِنَّ الْأَوَّلَ لِجَمِيعِ الْمُشْرِكِينَ وَالثَّانِي لِلْيَهُودِ خَاصَّةً. وَالدَّلِيلُ عَلَى هَذَا" اشْتَرَوْا بِآياتِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلًا" يَعْنِي الْيَهُودَ، بَاعُوا حُجَجَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَبَيَانَهُ بِطَلَبِ الرِّيَاسَةِ وَطَمَعٍ فِي شي. (وَأُولئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ) أَيِ الْمُجَاوِزُونَ الْحَلَالَ إِلَى الحرام بنقض العهد.

[سورة التوبة (9): آية 11]
فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (11)
__________
(1). الحميريات: إبل منسوبة إلى حمير، وهي قبيلة من اليمن. الذمام: القليلة الماء. والركايا: جمع ركية، وهي البئر. أنكزتها- بزاء- يقال: نكزت الركية قل ماؤها. والمواتح: جمع ماتح، وهو الذي يسقى من البئر. وصف إبلا غارت عيونها من الكلال.
(2). في الأصول: (ما لا يَرْضى) وهو تحريف.

(8/80)


وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ (12)

قَوْلُهُ تَعَالَى: (فَإِنْ تابُوا) أَيْ عَنِ الشِّرْكِ وَالْتَزَمُوا أَحْكَامَ الْإِسْلَامِ. (فَإِخْوانُكُمْ) أَيْ فَهُمْ إِخْوَانُكُمْ (فِي الدِّينِ). قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: حَرَّمَتْ هَذِهِ دِمَاءَ أَهْلِ الْقِبْلَةِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ هَذَا الْمَعْنَى. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: افْتَرَضَ اللَّهُ الصَّلَاةَ وَالزَّكَاةَ وَأَبَى أَنْ يُفَرِّقَ بَيْنَهُمَا وَأَبَى أَنْ يَقْبَلَ الصَّلَاةَ إِلَّا بِالزَّكَاةِ. وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: أُمِرْتُمْ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ فَمَنْ لَمْ يُزَكِّ فَلَا صَلَاةَ لَهُ. وَفِي حَدِيثٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ ثَلَاثٍ فَرَّقَ اللَّهُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَحْمَتِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَنْ قَالَ أُطِيعُ اللَّهَ وَلَا أُطِيعُ الرَّسُولَ وَاللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ:" أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ" [النساء: 59] وَمَنْ قَالَ أُقِيمُ الصَّلَاةَ وَلَا أُوتِي الزَّكَاةَ وَاللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ:" وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ" [البقرة: 43] وَمَنْ فَرَّقَ بَيْنَ شُكْرِ اللَّهِ وَشُكْرِ وَالِدَيْهِ وَاللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ:" أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ" [لقمان: 14] (. قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَنُفَصِّلُ الْآياتِ) أَيْ نُبَيِّنُهَا. (لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) خَصَّهُمْ لِأَنَّهُمْ هُمُ الْمُنْتَفِعُونَ بِهَا. وَاللَّهُ أعلم.

[سورة التوبة (9): آية 12]
وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَا أَيْمانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ (12)
فِيهِ سَبْعُ مَسَائِلَ: الاولى- قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَإِنْ نَكَثُوا) النَّكْثُ النَّقْضُ، وَأَصْلُهُ فِي كُلِّ مَا فُتِلَ ثُمَّ حُلَّ. فَهِيَ فِي الْأَيْمَانِ وَالْعُهُودِ مُسْتَعَارَةٌ. قَالَ:
وَإِنْ حَلَفَتْ لَا يَنْقُضُ النَّأْيُ عَهْدَهَا ... فَلَيْسَ لِمَخْضُوبِ الْبَنَانِ يَمِينُ
أَيْ عَهْدٌ. وَقَوْلُهُ: (وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ) أي بالاستنقاض وَالْحَرْبِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَفْعَلُهُ الْمُشْرِكُ. يُقَالُ: طَعَنَهُ بِالرُّمْحِ وَطَعَنَ بِالْقَوْلِ السَّيِّئِ فِيهِ يَطْعَنُ، بِضَمِّ الْعَيْنِ فِيهِمَا. وَقِيلَ: يَطْعُنُ بِالرُّمْحِ (بِالضَّمِّ) وَيَطْعَنُ بِالْقَوْلِ (بِالْفَتْحِ). وَهِيَ هُنَا اسْتِعَارَةٌ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ

(8/81)


عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ أَمَّرَ أُسَامَةَ: (إِنْ تَطْعَنُوا فِي إِمَارَتِهِ فَقَدْ طَعَنْتُمْ فِي إِمَارَةِ أَبِيهِ مِنْ قَبْلُ وَايْمِ اللَّهِ إِنْ كَانَ لَخَلِيقًا لِلْإِمَارَةِ). خَرَّجَهُ الصَّحِيحُ «1». الثَّانِيَةُ- اسْتَدَلَّ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى وُجُوبِ قَتْلِ كُلِّ مَنْ طَعَنَ فِي الدِّينِ، إِذْ هُوَ كَافِرٌ. وَالطَّعْنُ أَنْ يَنْسُبَ إِلَيْهِ مَا لَا يَلِيقُ بِهِ، أَوْ يَعْتَرِضُ بِالِاسْتِخْفَافِ عَلَى مَا هُوَ مِنَ الدِّينِ، لِمَا ثَبَتَ مِنَ الدَّلِيلِ الْقَطْعِيِّ عَلَى صِحَّةِ أُصُولِهِ وَاسْتِقَامَةِ فُرُوعِهِ. وَقَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَجْمَعَ عَامَّةُ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ مَنْ سَبَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَيْهِ الْقَتْلُ. وَمِمَّنْ قَالَ ذَلِكَ مَالِكٌ وَاللَّيْثُ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ، وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ. وَقَدْ حُكِيَ عَنِ النُّعْمَانِ أَنَّهُ قَالَ: لَا يُقْتَلُ مَنْ سَبَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ، عَلَى مَا يَأْتِي. وَرُوِيَ أَنَّ رَجُلًا قَالَ فِي مَجْلِسِ عَلِيٍّ: مَا قُتِلَ كَعْبُ بْنُ الْأَشْرَفِ إِلَّا غَدْرًا، فَأَمَرَ عَلِيٌّ بِضَرْبِ عُنُقِهِ. وَقَالَهُ آخَرُ فِي مَجْلِسِ مُعَاوِيَةَ فَقَامَ مُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ فَقَالَ: أَيُقَالُ هَذَا فِي مَجْلِسِكَ وَتَسْكُتُ! وَاللَّهِ لَا أُسَاكِنُكَ تَحْتَ سَقْفٍ «2» أبدا، ولين خَلَوْتُ بِهِ لَأَقْتُلَنَّهُ. قَالَ عُلَمَاؤُنَا: هَذَا يُقْتَلُ وَلَا يُسْتَتَابُ إِنْ نَسَبَ الْغَدْرَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَهُوَ الَّذِي فَهِمَهُ عَلِيٌّ وَمُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمَا مِنْ قَائِلِ ذَلِكَ، لِأَنَّ ذَلِكَ زَنْدَقَةٌ. فَأَمَّا إِنْ نَسَبَهُ لِلْمُبَاشِرِينَ لِقَتْلِهِ بِحَيْثُ يَقُولُ: إِنَّهُمْ أَمَّنُوهُ ثُمَّ غَدَرُوهُ لَكَانَتْ هَذِهِ النِّسْبَةُ كَذِبًا مَحْضًا، فَإِنَّهُ لَيْسَ فِي كَلَامِهِمْ مَعَهُ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ أَمَّنُوهُ وَلَا صَرَّحُوا لَهُ بِذَلِكَ، وَلَوْ فَعَلُوا ذَلِكَ لَمَا كَانَ أَمَانًا، لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّمَا وَجَّهَهُمْ لِقَتْلِهِ لَا لِتَأْمِينِهِ، وَأَذِنَ لِمُحَمَّدِ بْنِ مَسْلَمَةَ فِي أَنْ يَقُولَ. وَعَلَى هَذَا فَيَكُونُ فِي قَتْلِ مَنْ نَسَبَ ذَلِكَ لَهُمْ نَظَرٌ وَتَرَدُّدٌ. وَسَبَبُهُ هَلْ يَلْزَمُ مِنْ نِسْبَةِ الْغَدْرِ لَهُمْ نِسْبَتُهُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لِأَنَّهُ قَدْ صَوَّبَ فِعْلَهُمْ وَرَضِيَ بِهِ فَيَلْزَمُ مِنْهُ أَنَّهُ قَدْ رَضِيَ بِالْغَدْرِ وَمَنْ صَرَّحَ بِذَلِكَ قتل، أولا يَلْزَمُ مِنْ نِسْبَةِ الْغَدْرِ لَهُمْ نِسْبَتُهُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَا يُقْتَلُ. وَإِذَا قُلْنَا لَا يُقْتَلُ، فَلَا بُدَّ مِنْ تَنْكِيلِ ذَلِكَ الْقَائِلِ وَعُقُوبَتِهِ بِالسَّجْنِ، وَالضَّرْبِ الشَّدِيدِ وَالْإِهَانَةِ العظيمة.
__________
(1). راجع صحيح مسلم (كتاب الفضائل).
(2). في ب: سقيفة.

(8/82)


الثَّالِثَةُ- فَأَمَّا الذِّمِّيُّ إِذَا طَعَنَ فِي الدِّينِ انْتَقَضَ عَهْدُهُ فِي الْمَشْهُورِ مِنْ مَذْهَبِ مَالِكٍ، لِقَوْلِهِ:" وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ" الْآيَةَ. فَأَمَرَ بِقَتْلِهِمْ وَقِتَالِهِمْ. وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ فِي هَذَا: إِنَّهُ يُسْتَتَابُ، وَإِنَّ مُجَرَّدَ الطَّعْنِ لَا يُنْقَضُ بِهِ الْعَهْدُ إِلَّا مَعَ وُجُودِ النَّكْثِ، لِأَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ إِنَّمَا أَمَرَ بِقَتْلِهِمْ بِشَرْطَيْنِ: أَحَدُهُمَا نَقْضُهُمُ الْعَهْدَ، وَالثَّانِي طَعْنُهُمْ فِي الدِّينِ. قُلْنَا: إِنْ عَمِلُوا بِمَا يُخَالِفُ الْعَهْدَ انْتَقَضَ عَهْدُهُمْ، وَذِكْرُ الْأَمْرَيْنِ لا يقتضي توقف قتاله على وجود هما، فَإِنَّ النَّكْثَ يُبِيحُ لَهُمْ ذَلِكَ بِانْفِرَادِهِ عَقْلًا وَشَرْعًا. وَتَقْدِيرُ الْآيَةِ عِنْدَنَا: فَإِنْ نَكَثُوا عَهْدَهُمْ حَلَّ قِتَالُهُمْ، وَإِنْ لَمْ يَنْكُثُوا بَلْ طَعَنُوا فِي الدِّينِ مَعَ الْوَفَاءِ بِالْعَهْدِ حَلَّ قِتَالُهُمْ. وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ رُفِعَ إِلَيْهِ: ذِمِّيٌّ نَخَسَ دَابَّةً عَلَيْهَا امْرَأَةٌ مُسْلِمَةٌ فَرَمَحَتْ فَأَسْقَطَتْهَا فَانْكَشَفَتْ بَعْضُ عَوْرَتِهَا، فَأَمَرَ بِصَلْبِهِ فِي الْمَوْضِعِ. الرَّابِعَةُ- إِذَا حَارَبَ الذِّمِّيُّ نُقِضَ عَهْدُهُ وَكَانَ ماله وولده فيئا معه. وقال محمد ابن مَسْلَمَةَ: لَا يُؤَاخَذُ وَلَدُهُ بِهِ، لِأَنَّهُ نَقَضَ وَحْدَهُ. وَقَالَ: أَمَّا مَالُهُ فَيُؤْخَذُ. وَهَذَا تَعَارُضٌ لَا يُشْبِهُ مَنْصِبَ مُحَمَّدَ بْنَ مَسْلَمَةَ، لِأَنَّ عَهْدَهُ هُوَ الَّذِي حَمَى مَالَهُ وَوَلَدَهُ، فَإِذَا ذَهَبَ عَنْهُ مَالُهُ ذَهَبَ عَنْهُ وَلَدُهُ. وَقَالَ أَشْهَبُ: إِذَا نَقَضَ الذِّمِّيُّ الْعَهْدَ فَهُوَ عَلَى عَهْدِهِ وَلَا يَعُودُ فِي الرِّقِّ أَبَدًا. وَهَذَا مِنَ الْعَجَبِ، وَكَأَنَّهُ رَأَى الْعَهْدَ مَعْنًى مَحْسُوسًا. وَإِنَّمَا الْعَهْدُ حُكْمٌ اقْتَضَاهُ النَّظَرُ، وَالْتَزَمَهُ الْمُسْلِمُونَ لَهُ، فَإِذَا نَقَضَهُ انْتَقَضَ كَسَائِرِ الْعُقُودِ. الْخَامِسَةُ- أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّ مَنْ سَبَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ أَوْ عَرَّضَ أَوِ اسْتَخَفَّ «1» بِقَدْرِهِ أَوْ وَصَفَهُ بِغَيْرِ الْوَجْهِ الَّذِي كَفَرَ بِهِ فَإِنَّهُ يُقْتَلُ، فَإِنَّا «2» لَمْ نُعْطِهِ الذِّمَّةَ أَوِ الْعَهْدَ عَلَى هَذَا. إِلَّا أَبَا حَنِيفَةَ وَالثَّوْرِيَّ وَأَتْبَاعَهُمَا مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ فَإِنَّهُمْ قَالُوا: لَا يُقْتَلُ، مَا هُوَ عَلَيْهِ مِنَ الشِّرْكِ أَعْظَمُ، وَلَكِنْ يُؤَدَّبُ وَيُعَزَّرُ. وَالْحُجَّةُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَإِنْ نَكَثُوا" الْآيَةَ. وَاسْتَدَلَّ عَلَيْهِ بَعْضُهُمْ بِأَمْرِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَتْلِ كَعْبِ بْنِ الْأَشْرَفِ وَكَانَ مُعَاهِدًا. وَتَغَيَّظَ أَبُو بَكْرٍ عَلَى رَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِهِ فَقَالَ أَبُو بَرْزَةَ: أَلَا أَضْرِبُ عُنُقَهُ! فَقَالَ: مَا كَانَتْ لِأَحَدٍ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَرَوَى الدَّارَقُطْنِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ رَجُلًا أَعْمَى كَانَتْ لَهُ
__________
(1). في ب: فاستخف.
(2). في ى: لأنا.

(8/83)


أُمُّ وَلَدٍ، لَهُ مِنْهَا ابْنَانِ مِثْلُ اللُّؤْلُؤَتَيْنِ، فَكَانَتْ تَشْتُمُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَقَعُ فِيهِ، فَيَنْهَاهَا فَلَمْ تَنْتَهِ، وَيَزْجُرُهَا فَلَمْ تَنْزَجِرْ، فَلَمَّا كَانَ ذَاتَ لَيْلَةٍ ذَكَرَتِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَمَا صَبَرَ سَيِّدُهَا أَنْ قَامَ إِلَى مِعْوَلٍ فَوَضَعَهُ فِي بَطْنِهَا ثُمَّ اتَّكَأَ عَلَيْهَا حَتَّى أَنْفَذَهُ. فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (أَلَا اشْهَدُوا إِنَّ دَمَهَا هَدَرٌ). وَفِي رِوَايَةٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: فَقَتَلَهَا، فَلَمَّا أَصْبَحَ قِيلَ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَامَ الْأَعْمَى فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَنَا صَاحِبُهَا، كَانَتْ تَشْتُمُكَ وَتَقَعُ فِيكَ «1» فَأَنْهَاهَا فَلَا تَنْتَهِي، وَأَزْجُرُهَا فَلَا تَنْزَجِرُ، وَلِي مِنْهَا ابْنَانِ مِثْلُ اللُّؤْلُؤَتَيْنِ، وَكَانَتْ بِي رَفِيقَةً فَلَمَّا كَانَ الْبَارِحَةُ جَعَلَتْ تَشْتُمُكَ وَتَقَعُ فِيكَ فَقَتَلْتُهَا، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (أَلَا اشْهَدُوا إِنَّ دَمَهَا هَدَرٌ). السَّادِسَةُ- وَاخْتَلَفُوا إِذَا سَبَّهُ ثُمَّ أَسْلَمَ تَقِيَّةً مِنَ الْقَتْلِ، فَقِيلَ: يُسْقِطُ إِسْلَامُهُ قَتْلَهُ، وَهُوَ الْمَشْهُورُ مِنَ الْمَذْهَبِ، لِأَنَّ الْإِسْلَامَ يَجُبُّ مَا قَبْلَهُ. بِخِلَافِ الْمُسْلِمِ إِذَا سَبَّهُ ثُمَّ تَابَ قَالَ الله عز وجل:" قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ" «2» [الأنفال: 38]. وَقِيلَ: لَا يُسْقِطُ الْإِسْلَامُ قَتْلَهُ، قَالَهُ فِي الْعُتْبِيَّةِ لِأَنَّهُ حَقٌّ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَجَبَ لِانْتِهَاكِهِ حُرْمَتَهُ وَقَصْدِهِ إِلْحَاقَ النَّقِيصَةِ وَالْمَعَرَّةِ بِهِ، فَلَمْ يَكُنْ رُجُوعُهُ إِلَى الْإِسْلَامِ بِالَّذِي يُسْقِطُهُ، وَلَا يَكُونُ أَحْسَنَ حَالًا مِنَ المسلم. السابعة- قوله تعالى: (فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ) " أَئِمَّةَ" جَمْعُ إِمَامٍ، وَالْمُرَادُ صَنَادِيدُ قُرَيْشٍ- فِي قَوْلِ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ- كَأَبِي جَهْلٍ وَعُتْبَةَ وَشَيْبَةَ وَأُمَيَّةَ بْنَ خَلَفٍ. وَهَذَا بَعِيدٌ، فَإِنَّ الْآيَةَ فِي سُورَةِ" بَرَاءَةٌ" وَحِينَ نَزَلَتْ وَقُرِئَتْ عَلَى النَّاسِ كَانَ اللَّهُ قَدِ اسْتَأْصَلَ شَأْفَةَ قُرَيْشٍ فَلَمْ يَبْقَ إِلَّا مُسْلِمٌ أَوْ مُسَالِمٌ، فَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ" فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ" «3». أَيْ مَنْ أَقْدَمَ عَلَى نَكْثِ الْعَهْدِ وَالطَّعْنِ فِي الدِّينِ يَكُونُ أَصْلًا وَرَأْسًا فِي الْكُفْرِ، فَهُوَ مِنْ أَئِمَّةِ الْكُفْرِ عَلَى هَذَا. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُعْنَى بِهِ الْمُتَقَدِّمُونَ وَالرُّؤَسَاءُ مِنْهُمْ، وَأَنَّ قِتَالَهُمْ قِتَالٌ لِأَتْبَاعِهِمْ وَأَنَّهُمْ لَا حُرْمَةَ لَهُمْ. وَالْأَصْلُ أَأْمِمَةٌ كَمِثَالٍ وَأَمْثِلَةٍ، ثُمَّ أُدْغِمَتِ الْمِيمُ فِي الْمِيمِ وَقُلِبَتِ الْحَرَكَةُ عَلَى الهمزة فاجتمعت
__________
(1). في ج: في حقك.
(2). راجع ج 7 ص 401.
(3). في ب وج: وك أن يكون المراد بقاتلوا ... أن من أقدم ... إلخ. [ ..... ]

(8/84)


هَمْزَتَانِ، فَأُبْدِلَتْ مِنَ الثَّانِيَةِ يَاءً. وَزَعَمَ الْأَخْفَشُ أَنَّكَ تَقُولُ: هَذَا أَيَمُّ مِنْ هَذَا، بِالْيَاءِ. وَقَالَ الْمَازِنِيُّ: أَوَمُّ مِنْ هَذَا، بِالْوَاوِ. وَقَرَأَ حَمْزَةُ" أَئِمَّةَ". وَأَكْثَرُ النَّحْوِيِّينَ يَذْهَبُ إِلَى أَنَّ هَذَا لَحْنٌ «1»، لِأَنَّهُ جَمَعَ بَيْنَ هَمْزَتَيْنِ فِي كَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ. (إِنَّهُمْ لَا أَيْمانَ لَهُمْ) أَيْ لا عهود لهم، أي ليست عهود هم صَادِقَةً يُوفُونَ بِهَا. وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ" لَا أَيْمانَ لَهُمْ" بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ مِنَ الْإِيمَانِ، أَيْ لَا إِسْلَامَ لَهُمْ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مَصْدَرَ آمَنْتُهُ إِيمَانًا، مِنَ الْأَمْنِ الَّذِي ضِدُّهُ الْخَوْفُ، أَيْ لَا يُؤْمِنُونَ، مِنْ أَمَنْتُهُ إِيمَانًا أَيْ أَجَرْتُهُ، فَلِهَذَا قَالَ:" فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ"." لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ" أَيْ عَنِ الشِّرْكِ. قَالَ الْكَلْبِيُّ: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَادَعَ أَهْلَ مَكَّةَ سَنَةً وَهُوَ بِالْحُدَيْبِيَةَ فَحَبَسُوهُ عَنِ الْبَيْتِ، ثُمَّ صَالَحُوهُ عَلَى أَنْ يَرْجِعَ فَمَكَثُوا مَا شَاءَ اللَّهُ، ثُمَّ قَاتَلَ حُلَفَاءَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ خُزَاعَةَ حُلَفَاءُ بَنِي أُمَيَّةَ مِنْ كِنَانَةَ، فَأَمَدَّتْ بَنُو أُمَيَّةَ حلفاء هم بِالسِّلَاحِ وَالطَّعَامِ، فَاسْتَعَانَتْ «2» خُزَاعَةُ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ وَأُمِرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يُعِينَ حُلَفَاءَهُ كَمَا سَبَقَ. وَفِي الْبُخَارِيِّ عَنْ زَيْدِ بْنِ وَهْبٍ قَالَ: كُنَّا عِنْدَ حُذَيْفَةَ فَقَالَ مَا بَقِيَ مِنْ أَصْحَابِ هَذِهِ الْآيَةِ- يَعْنِي" فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَا أَيْمانَ لَهُمْ"- إِلَّا ثَلَاثَةٌ، وَلَا بَقِيَ مِنَ الْمُنَافِقِينَ إِلَّا أَرْبَعَةٌ. فَقَالَ أَعْرَابِيٌّ: إِنَّكُمْ أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ تُخْبِرُونَ أَخْبَارًا لَا نَدْرِي مَا هِيَ! تَزْعُمُونَ أَلَّا مُنَافِقَ إِلَّا أَرْبَعَةٌ، فَمَا بَالُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَبْقُرُونَ «3» بُيُوتَنَا وَيَسْرِقُونَ أَعَلَاقَنَا «4». قَالَ: أُولَئِكَ الْفُسَّاقُ. أَجَلْ لَمْ يَبْقَ مِنْهُمْ إِلَّا أَرْبَعَةٌ، أَحَدُهُمْ شَيْخٌ كَبِيرٌ لَوْ شَرِبَ الْمَاءَ الْبَارِدَ لما وجد برده «5».
__________
(1). قال الزمخشري في كشافه: (فإن قلت كيف لفظ أئمة؟ قلت: همزة بعدها همزة بين بين، أي بين مخرج الهمزة والياء، وتحقيق الهمزتين قراءة مشهورة وإن لم تكن مقبولة عند البصريين. وأما التصريح بالياء فليس بقراءة، ولا يجوز أن تكون قراءة، ومن صرح بها فهو لاحن محرف (. وعقب على هذا أبو حيان في البحر بقوله:) وذلك دأبه في تلحين المقرءين وكيف يكون ذلك لحنا وقد قرأ به رأس البصريين النحاة أبو عمرو بن العلاء وقارئ مكة ابن كثير وقارئ مدينة الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نافع (. وقال الألوسي في روح المعاني:) ... وقرا نافع وابن كثير وأبو عمرو (أئمة) بهمزتين ثانيتهما بين بين أي بين مخرج الهمزة والياء والألف بينهما. والكوفيون وابن ذكوان عن ابن عامر بتحقيقهما من غير إدخال ألف وهشام كذلك إلا أنه أدخل بينهما الالف. هذا هو المشهور عن القراء السبعة ... ).
(2). في ج وز: استغاثه.
(3). بقره شقه وفتحه.
(4). الأعلاق: نفائس الأموال.
(5). قال القسطلاني:) لذهاب شهوته وفساد معدته بسبب عقوبة الله له في الدنيا، فلا يفرق بين الأشياء).

(8/85)


أَلَا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (13) قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ (14) وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (15)

قَوْلُهُ تَعَالَى: (لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ) أَيْ عَنْ كُفْرِهِمْ وَبَاطِلِهِمْ وَأَذِيَّتِهِمْ لِلْمُسْلِمِينَ. وَذَلِكَ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ الْغَرَضُ مِنْ قِتَالِهِمْ دَفْعَ ضَرَرِهِمْ لِيَنْتَهُوا عَنْ مقاتلتنا ويدخلوا في ديننا.

[سورة التوبة (9): آية 13]
أَلا تُقاتِلُونَ قَوْماً نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْراجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَؤُكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (13)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (أَلا تُقاتِلُونَ قَوْماً نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ) تَوْبِيخٌ وَفِيهِ مَعْنَى التَّحْضِيضِ. نَزَلَتْ فِي كُفَّارِ مَكَّةَ كَمَا ذَكَرْنَا آنِفًا. (وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ) أَيْ كَانَ مِنْهُمْ سَبَبُ الْخُرُوجِ، فَأُضِيفَ الْإِخْرَاجُ إِلَيْهِمْ. وَقِيلَ: أَخْرَجُوا الرَّسُولَ عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنَ الْمَدِينَةِ لِقِتَالِ أَهْلِ مَكَّةَ لِلنَّكْثِ الَّذِي كَانَ مِنْهُمْ: عَنِ الْحَسَنِ. (وَهُمْ بَدَؤُكُمْ) بِالْقِتَالِ. (أَوَّلَ مَرَّةٍ) أَيْ نَقَضُوا الْعَهْدَ وَأَعَانُوا بَنِي بَكْرٍ عَلَى خُزَاعَةَ. وَقِيلَ: بَدَءُوكُمْ بِالْقِتَالِ يَوْمَ بَدْرٍ، لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ لِلْعِيرِ وَلَمَّا أَحْرَزُوا عِيرَهُمْ كَانَ يُمْكِنُهُمُ الِانْصِرَافُ، فَأَبَوْا إِلَّا الْوُصُولَ إِلَى بَدْرٍ وشرب الخمر بها، كما تقدم. (فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ) أَيْ تَخَافُوا عِقَابَهُ فِي تَرْكِ قِتَالِهِمْ مِنْ أَنْ تَخَافُوا أَنْ يَنَالَكُمْ فِي قِتَالِهِمْ مَكْرُوهٌ. وَقِيلَ: إِخْرَاجُهُمُ الرَّسُولَ مَنْعُهُمْ إِيَّاهُ مِنَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ وَالطَّوَافِ، وَهُوَ ابتداؤهم. والله أعلم.

[سورة التوبة (9): الآيات 14 الى 15]
قاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ (14) وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (15)
قَوْلُهُ تَعَالَى:" قاتِلُوهُمْ" أَمْرٌ." يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ" جَوَابُهُ. وَهُوَ جَزْمٌ بِمَعْنَى الْمُجَازَاةِ. وَالتَّقْدِيرُ: إِنْ تقاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم ويخز هم وينصر كم عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ. (وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ) دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ غَيْظَهُمْ كَانَ قَدِ اشْتَدَّ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ:

(8/86)


يَعْنِي خُزَاعَةَ حُلَفَاءَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَكُلُّهُ عَطْفٌ، وَيَجُوزُ فِيهِ كُلِّهِ الرَّفْعُ عَلَى الْقَطْعِ مِنَ الْأَوَّلِ. وَيَجُوزُ النَّصْبُ عَلَى إِضْمَارِ (أَنْ) وَهُوَ الصَّرْفُ عِنْدَ الْكُوفِيِّينَ، كَمَا قَالَ:
فَإِنْ يَهْلِكْ أَبُو قَابُوسَ يَهْلِكْ ... رَبِيعُ النَّاسِ وَالشَّهْرُ الْحَرَامُ

وَنَأْخُذَ بَعْدَهُ بِذِنَابِ عَيْشٍ ... أَجَبَّ الظَّهْرِ لَيْسَ لَهُ سَنَامُ «1»
وَإِنْ شِئْتَ رَفَعْتَ (وَنَأْخُذُ) وَإِنْ شِئْتَ نَصَبْتَهُ. وَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: (وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ) بَنُو خُزَاعَةَ عَلَى مَا ذَكَرْنَا عَنْ مُجَاهِدٍ. فَإِنَّ قُرَيْشًا أَعَانَتْ بَنِي بَكْرٍ عَلَيْهِمْ وَكَانَتْ خُزَاعَةُ حُلَفَاءَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَأَنْشَدَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي بَكْرٍ هِجَاءَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ لَهُ بَعْضُ خُزَاعَةَ: لَئِنْ أَعَدْتَهُ لَأَكْسِرَنَّ فَمَكَ فَأَعَادَهُ فَكَسَرَ فَاهُ وَثَارَ بَيْنَهُمْ قِتَالٌ فَقَتَلُوا مِنَ الْخُزَاعِيِّينَ أَقْوَامًا فَخَرَجَ عَمْرُو بْنُ سَالِمٍ الْخُزَاعِيُّ فِي نَفَرٍ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَخْبَرَهُ بِهِ فَدَخَلَ مَنْزِلَ مَيْمُونَةَ وَقَالَ: (اسْكُبُوا إِلَيَّ مَاءً) فَجَعَلَ يَغْتَسِلُ وَهُوَ يَقُولُ: (لَا نُصِرْتُ إِنْ لَمْ أَنْصُرْ بَنِي كَعْبٍ) «2». ثُمَّ أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالتَّجَهُّزِ وَالْخُرُوجِ إِلَى مَكَّةَ فَكَانَ الْفَتْحُ. قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلى مَنْ يَشاءُ) الْقِرَاءَةُ بِالرَّفْعِ عَلَى الِاسْتِئْنَافِ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ جِنْسِ الْأَوَّلِ وَلِهَذَا لَمْ يَقُلْ (وَيَتُبْ) بِالْجَزْمِ لِأَنَّ الْقِتَالَ غَيْرُ مُوجِبٍ لَهُمُ التَّوْبَةَ مِنَ الله عز وجل وَهُوَ مُوجِبٌ لَهُمُ الْعَذَابَ وَالْخِزْيَ وَشِفَاءَ صُدُورِ الْمُؤْمِنِينَ وَذَهَابَ غَيْظِ قُلُوبِهِمْ وَنَظِيرُهُ:" فَإِنْ يَشَإِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلى قَلْبِكَ" [الشورى: 24] تَمَّ الْكَلَامُ. ثُمَّ قَالَ:" وَيَمْحُ اللَّهُ الْباطِلَ" «3» [الشورى: 24]. وَالَّذِينَ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِثْلُ أَبِي سُفْيَانَ وَعِكْرِمَةَ بْنِ أَبِي جَهْلٍ وَسُلَيْمِ بْنِ أَبِي عَمْرٍو، فَإِنَّهُمْ أَسْلَمُوا. وَقَرَأَ ابْنُ أَبِي إِسْحَاقَ" وَيَتُوبَ" بِالنَّصْبِ. وَكَذَا رُوِيَ عَنْ عِيسَى الثَّقَفِيِّ وَالْأَعْرَجِ، وَعَلَيْهِ فَتَكُونُ التَّوْبَةُ دَاخِلَةً فِي جَوَابِ الشَّرْطِ، لِأَنَّ الْمَعْنَى: إِنْ تُقَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ.
__________
(1). الذناب (بكسر الذال): عقب كل شي ومؤخره. والأجب: الجمل المقطوع السنام. والبيتان للنابغة الذبياني. وصف مرض النعمان بن المنذر وأنه أن هلك صار الناس بعده في أسوأ حال وأضيق عيش وتمسكوا منه مثل ذنب بعير أجب. وفي البيت شاهد آخر. راجع خزانة الأدب للبغدادي في الشاهد السادس والخمسين بعد السبعمائة وشواهد سيبويه ج 1 ص 100 طبع بولاق.
(2). بنو كعب في خزاعة وهم قوم عمرو.
(3). راجع ج 16 ص 24 فما بعد.

(8/87)


أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَا رَسُولِهِ وَلَا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (16)

وَكَذَلِكَ مَا عُطِفَ عَلَيْهِ. ثُمَّ قَالَ:" وَيَتُوبُ اللَّهُ" أَيْ إِنْ تُقَاتِلُوهُمْ. فَجَمَعَ بَيْنَ تَعْذِيبِهِمْ بِأَيْدِيكُمْ وَشِفَاءِ صُدُورِكُمْ وَإِذْهَابِ غَيْظِ قُلُوبِكُمْ وَالتَّوْبَةِ عَلَيْكُمْ. وَالرَّفْعُ أَحْسَنُ، لِأَنَّ التَّوْبَةَ لَا يَكُونُ سَبَبُهَا الْقِتَالَ، إِذْ قَدْ تُوجَدُ بِغَيْرِ قِتَالٍ لِمَنْ شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِ فِي كل حال.

[سورة التوبة (9): آية 16]
أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلا رَسُولِهِ وَلا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (16)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (أَمْ حَسِبْتُمْ) خروج من شي إلى شي. (أَنْ تُتْرَكُوا) فِي مَوْضِعِ الْمَفْعُولَيْنِ عَلَى قَوْلِ سِيبَوَيْهِ. وَعِنْدَ الْمُبَرِّدِ أَنَّهُ قَدْ حُذِفَ الثَّانِي. وَمَعْنَى الْكَلَامِ: أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا مِنْ غَيْرِ أَنْ تُبْتَلَوْا بِمَا يَظْهَرُ بِهِ الْمُؤْمِنُ وَالْمُنَافِقُ الظُّهُورَ الَّذِي يَسْتَحِقُّ بِهِ الثَّوَابَ وَالْعِقَابَ. وَقَدْ تَقَدَّمَ هَذَا الْمَعْنَى فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ." وَلَمَّا يَعْلَمِ" جُزِمَ بِلَمَّا وَإِنْ كَانَتْ مَا زَائِدَةً، فَإِنَّهَا تَكُونُ عِنْدَ سِيبَوَيْهِ جَوَابًا لِقَوْلِكَ: قَدْ فَعَلَ كَمَا تَقَدَّمَ «1». وَكُسِرَتِ الْمِيمُ لِالْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ." وَلِيجَةً" بِطَانَةً وَمُدَاخَلَةً مِنَ الْوُلُوجِ وَهُوَ الدُّخُولُ وَمِنْهُ سُمِّيَ الْكِنَاسُ «2» الَّذِي تَلِجُ فِيهِ الْوُحُوشُ تَوْلَجًا. وَلَجَ يَلِجُ وُلُوجًا إِذَا دَخَلَ. وَالْمَعْنَى: دَخِيلَةُ مَوَدَّةٍ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ. وقال أبو عبيدة: كل شي أدخلته في شي لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ وَلِيجَةٌ وَالرَّجُلُ يَكُونُ فِي الْقَوْمِ وَلَيْسَ مِنْهُمْ وَلِيجَةٌ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: الْوَلِيجَةُ الدَّخِيلَةُ وَالْوُلَجَاءُ الدُّخَلَاءُ فَوَلِيجَةُ الرَّجُلِ مَنْ يَخْتَصُّ بِدَخْلَةِ أَمْرِهِ دُونَ النَّاسِ. تَقُولُ: هُوَ وَلِيجَتِي وَهُمْ وَلِيجَتِي الْوَاحِدُ وَالْجَمْعُ فِيهِ سَوَاءٌ. قَالَ أَبَانُ بْنُ تَغْلِبَ رَحِمَهُ اللَّهُ:
فَبِئْسَ الْوَلِيجَةُ لِلْهَارِبِينَ ... وَالْمُعْتَدِينَ وَأَهْلِ الرِّيَبِ
وَقِيلَ: وَلِيجَةٌ بِطَانَةٌ، وَالْمَعْنَى وَاحِدٌ، نَظِيرُهُ" لَا تَتَّخِذُوا بِطانَةً مِنْ دُونِكُمْ" «3» [آل عمران: 118]. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: وَلِيجَةٌ بِطَانَةٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ يَتَّخِذُونَهُمْ ويفشون إليهم أسرارهم ويعلمونهم أمورهم.
__________
(1). راجع ج 4 ص 220 وص 178.
(2). مكانها في الإدغال.
(3). راجع ج 4 ص 220 وص 178.

(8/88)


مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ (17)

[سورة التوبة (9): آية 17]
مَا كانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَساجِدَ اللَّهِ شاهِدِينَ عَلى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خالِدُونَ (17)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (مَا كانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَساجِدَ اللَّهِ) الْجُمْلَةُ مِنْ" أَنْ يَعْمُرُوا" فِي مَوْضِعِ رَفْعِ اسْمِ كَانَ." شاهِدِينَ" عَلَى الْحَالِ. وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي تَأْوِيلِ هَذِهِ الْآيَةِ، فَقِيلَ: أَرَادَ لَيْسَ لَهُمُ الْحَجُّ بَعْدَ مَا نُودِيَ فِيهِمْ بِالْمَنْعِ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَكَانَتْ أُمُورُ الْبَيْتِ كَالسَّدَانَةِ وَالسِّقَايَةِ وَالرِّفَادَةِ إِلَى الْمُشْرِكِينَ، فَبَيَّنَ أَنَّهُمْ لَيْسُوا أَهْلًا لِذَلِكَ، بَلْ أَهْلُهُ الْمُؤْمِنُونَ. وَقِيلَ: إِنَّ الْعَبَّاسَ لَمَّا أُسِرَ وَعُيِّرَ بِالْكُفْرِ وَقَطِيعَةِ الرَّحِمِ قَالَ: تذكرون مساوينا وَلَا تَذْكُرُونَ مَحَاسِنَنَا. فَقَالَ عَلِيٌّ: أَلَكُمْ مَحَاسِنُ؟ قَالَ: نَعَمْ إِنَّا لَنَعْمُرُ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ وَنَحْجُبُ الْكَعْبَةَ وَنَسْقِي الْحَاجَّ وَنَفُكُّ الْعَانِيَ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ رَدًّا عَلَيْهِ. فَيَجِبُ إِذًا عَلَى الْمُسْلِمِينَ تَوَلِّي أَحْكَامِ الْمَسَاجِدِ وَمَنْعِ الْمُشْرِكِينَ مِنْ دُخُولِهَا. وَقِرَاءَةُ الْعَامَّةِ" يَعْمُرُ" بِفَتْحِ الْيَاءِ وَضَمِّ الْمِيمِ، مِنْ عَمَرَ يَعْمُرُ. وَقَرَأَ ابْنُ السَّمَيْقَعِ بِضَمِّ الْيَاءِ وَكَسْرِ الْمِيمِ أَيْ يَجْعَلُوهُ عَامِرًا أَوْ يعينوا على عمارته. وقرى" مَسْجِدَ اللَّهِ" عَلَى التَّوْحِيدِ أَيِ الْمَسْجِدُ الْحَرَامُ. وَهِيَ قِرَاءَةُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَعَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ وَمُجَاهِدٍ وَابْنِ كَثِيرٍ وَأَبِي عَمْرٍو وَابْنِ مُحَيْصِنٍ وَيَعْقُوبَ. وَالْبَاقُونَ" مَسَاجِدَ" عَلَى التَّعْمِيمِ. وَهُوَ اخْتِيَارُ أَبِي عُبَيْدٍ، لِأَنَّهُ أعم وَالْخَاصُّ يَدْخُلُ تَحْتَ الْعَامِّ. وَقَدْ يَحْتَمِلُ أَنْ يُرَادَ بِقِرَاءَةِ الْجَمْعِ الْمَسْجِدُ الْحَرَامُ خَاصَّةً. وَهَذَا جَائِزٌ فِيمَا كَانَ مِنْ أَسْمَاءِ الْجِنْسِ، كَمَا يُقَالُ: فُلَانٌ يَرْكَبُ الْخَيْلَ وَإِنْ لَمْ يَرْكَبْ إِلَّا فَرَسًا. وَالْقِرَاءَةُ" مَسَاجِدَ" أَصْوَبُ، لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ الْمَعْنَيَيْنِ. وَقَدْ أَجْمَعُوا عَلَى قِرَاءَةِ قَوْلِهِ:" إِنَّما يَعْمُرُ مَساجِدَ اللَّهِ" عَلَى الْجَمْعِ، قَالَهُ النَّحَّاسُ. وَقَالَ الْحَسَنُ: إِنَّمَا قَالَ مَسَاجِدَ وَهُوَ الْمَسْجِدُ الحرام، لأنه قبلة المساجد كلها وإمامها. قوله تعالى: (شاهِدِينَ). قيل: أراد وهم شاهدون فلما طرح و" هم" نَصَبَ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: شَهَادَتُهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بالكفر سجودهم لأصنامهم، وأقر أرهم أنها مخلوقة.

(8/89)


إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (18)

وَقَالَ السُّدِّيُّ: شَهَادَتُهُمْ بِالْكُفْرِ هُوَ أَنَّ النَّصْرَانِيَّ تَقُولُ «1» لَهُ مَا دِينُكَ؟ فَيَقُولُ نَصْرَانِيٌّ، وَالْيَهُودِيُّ فَيَقُولُ يَهُودِيٌّ وَالصَّابِئُ فَيَقُولُ صَابِئٌ. وَيُقَالُ لِلْمُشْرِكِ مَا دِينُكُ فَيَقُولُ مُشْرِكٌ. (أُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خالِدُونَ) تقدم معناه.

[سورة التوبة (9): آية 18]
إِنَّما يَعْمُرُ مَساجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللَّهَ فَعَسى أُولئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (18)
فِيهِ ثَلَاثُ مَسَائِلَ: الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى:" إِنَّما يَعْمُرُ مَساجِدَ اللَّهِ" دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الشَّهَادَةَ لِعُمَّارِ الْمَسَاجِدِ بِالْإِيمَانِ صَحِيحَةٌ لِأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ رَبَطَهُ بِهَا وَأَخْبَرَ عَنْهُ بِمُلَازَمَتِهَا. وَقَدْ قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: إِذَا رَأَيْتُمُ الرَّجُلَ يَعْمُرُ الْمَسْجِدَ فَحَسِّنُوا بِهِ الظَّنَّ. وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قَالَ (إِذَا رَأَيْتُمُ الرَّجُلَ يَعْتَادُ الْمَسْجِدَ فَاشْهَدُوا لَهُ بِالْإِيمَانِ) قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:" إِنَّما يَعْمُرُ مَساجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ". وَفِي رِوَايَةٍ: (يَتَعَاهَدُ الْمَسْجِدَ). قَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَهَذَا فِي ظَاهِرِ الصَّلَاحِ لَيْسَ فِي مَقَاطِعِ الشَّهَادَاتِ، فَإِنَّ الشَّهَادَاتِ لَهَا أَحْوَالٌ عِنْدَ الْعَارِفِينَ بِهَا فَإِنَّ مِنْهُمُ الذَّكِيَّ الْفَطِنَ الْمُحَصِّلَ لِمَا يَعْلَمُ اعْتِقَادًا وَإِخْبَارًا وَمِنْهُمُ الْمُغَفَّلُ، وَكُلُّ وَاحِدٍ يُنَزَّلُ عَلَى مَنْزِلَتِهِ وَيُقَدَّرُ عَلَى صِفَتِهِ. الثَّانِيَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ) إِنْ قِيلَ: مَا مِنْ مُؤْمِنٍ إِلَّا وَقَدْ خَشِيَ غَيْرَ اللَّهِ، وَمَا زَالَ الْمُؤْمِنُونَ وَالْأَنْبِيَاءُ «2» يخشون الاعداء من غير هم. قِيلَ لَهُ: الْمَعْنَى وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ مِمَّا يُعْبَدُ: فَإِنَّ الْمُشْرِكِينَ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْأَوْثَانَ وَيَخْشَوْنَهَا وَيَرْجُونَهَا. جَوَابٌ ثَانٍ- أَيْ لَمْ يَخَفْ فِي بَابِ الدِّينِ إِلَّا اللَّهَ. الثَّالِثَةُ- فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ أَثْبَتَ الْإِيمَانَ فِي الْآيَةِ لِمَنْ عَمَرَ الْمَسَاجِدَ بِالصَّلَاةِ فِيهَا، وَتَنْظِيفِهَا وَإِصْلَاحِ مَا وَهَى مِنْهَا، وَآمَنَ بِاللَّهِ. وَلَمْ يَذْكُرِ الْإِيمَانَ بِالرَّسُولِ فِيهَا وَلَا إِيمَانَ لِمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ
__________
(1). في ج وك: يسأل وفي ب وى: تسأله.
(2). في ك: الأولياء.

(8/90)


أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (19)

بِالرَّسُولِ. قِيلَ لَهُ: دَلَّ عَلَى الرَّسُولِ مَا ذُكِرَ مِنْ إِقَامَةِ الصَّلَاةِ وَغَيْرِهَا لِأَنَّهُ مِمَّا جَاءَ بِهِ، فَإِقَامَةُ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءُ الزَّكَاةِ إِنَّمَا يَصِحُّ مِنَ الْمُؤْمِنِ بِالرَّسُولِ، فَلِهَذَا لَمْ يُفْرِدْهُ بِالذِّكْرِ. وَ (عَسَى) مِنَ اللَّهِ وَاجِبَةٌ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِ. وَقِيلَ: عَسَى بِمَعْنَى خَلِيقٌ أي فخليق" أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ".

[سورة التوبة (9): آية 19]
أَجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الْحاجِّ وَعِمارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (19)
فِيهِ مَسْأَلَتَانِ «1»: الْأُولَى- قَوْلُهُ تعالى:" أَجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الْحاجِّ" التَّقْدِيرُ فِي الْعَرَبِيَّةِ: أَجَعَلْتُمْ أَصْحَابَ سِقَايَةِ الْحَاجِّ أَوْ أَهْلَ سِقَايَةِ الْحَاجِّ مِثْلَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِهِ. وَيَصِحُّ أَنْ يُقَدَّرَ الْحَذْفُ فِي" مَنْ آمَنَ" أَيْ أَجَعَلْتُمْ عَمَلَ سَقْيِ الْحَاجِّ كَعَمَلِ مَنْ آمَنَ. وَقِيلَ: التَّقْدِيرُ كَإِيمَانِ مَنْ آمَنَ. وَالسِّقَايَةُ مَصْدَرٌ كَالسِّعَايَةِ وَالْحِمَايَةِ. فَجَعَلَ الِاسْمَ بِمَوْضِعِ الْمَصْدَرِ إِذْ عُلِمَ مَعْنَاهُ، مِثْلَ إِنَّمَا السَّخَاءُ حَاتِمٌ، وَإِنَّمَا الشِّعْرُ زُهَيْرٌ. وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ مِثْلُ" وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ" [يوسف: 82]. وَقَرَأَ أَبُو «2» وَجْزَةَ" أَجَعَلْتُمْ سُقَاةَ الْحَاجِّ وَعَمَرَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ" سُقَاةُ جَمْعُ سَاقٍ وَالْأَصْلُ سُقْيَةٌ عَلَى فُعْلَةٍ، كَذَا يُجْمَعُ الْمُعْتَلُّ مِنْ هَذَا، نَحْوَ قَاضٍ وَقُضَاةٍ وَنَاسٍ وَنُسَاةٍ. فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُعْتَلًّا جُمِعَ عَلَى فُعَلَةٍ نَحْوَ نَاسِئٍ وَنُسَأَةٍ، لِلَّذِينَ كَانُوا يُنْسِئُونَ الشُّهُورَ. وَكَذَا قَرَأَ ابْنُ الزُّبَيْرِ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ" سُقَاةَ وَعَمَرَةَ" إِلَّا أَنَّ ابْنَ جُبَيْرٍ نَصَبَ" الْمَسْجِدَ" عَلَى إِرَادَةِ التَّنْوِينِ فِي" عَمَرَةً". وَقَالَ الضَّحَّاكُ: سُقَايَةً بِضَمِّ السِّينِ، وَهِيَ لُغَةٌ. وَالْحَاجُّ اسْمُ جِنْسِ الْحُجَّاجِ. وَعِمَارَةُ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ: مُعَاهَدَتُهُ وَالْقِيَامُ بِمَصَالِحِهِ. وَظَاهِرُ هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّهَا مُبْطِلَةٌ قَوْلَ مَنِ افْتَخَرَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ بِسِقَايَةِ الْحَاجِّ وَعِمَارَةِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، كَمَا ذَكَرَهُ السُّدِّيُّ. قَالَ: افْتَخَرَ عَبَّاسٌ بِالسِّقَايَةِ، وَشَيْبَةٌ بِالْعِمَارَةِ، وَعَلِيٌّ بِالْإِسْلَامِ وَالْجِهَادِ، فَصَدَّقَ اللَّهُ عَلِيًّا وَكَذَّبَهُمَا، وَأَخْبَرَ أَنَّ الْعِمَارَةَ لَا تكون بالكفر،
__________
(1). كذا في جميع الأصول. [ ..... ]
(2). في نسخ الأصل: (ابن أبي وجزة) إلا ى: وجزة. وهو تحريف.

(8/91)


وَإِنَّمَا تَكُونُ بِالْإِيمَانِ وَالْعِبَادَةِ وَأَدَاءِ الطَّاعَةِ. وَهَذَا بَيِّنٌ لَا غُبَارَ عَلَيْهِ. وَيُقَالُ: إِنَّ الْمُشْرِكِينَ سَأَلُوا الْيَهُودَ وَقَالُوا: نَحْنُ سُقَاةُ الْحَاجِّ وَعُمَّارُ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، أَفَنَحْنُ أَفْضَلُ أَمْ مُحَمَّدٌ وَأَصْحَابُهُ؟ فَقَالَتْ لَهُمُ الْيَهُودُ عِنَادًا لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنْتُمْ أَفْضَلُ. وَقَدِ اعْتَرَضَ هُنَا إِشْكَالٌ وَهُوَ مَا جَاءَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ قَالَ: كُنْتُ عِنْدَ مِنْبَرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ رَجُلٌ: مَا أُبَالِي أَلَّا أَعْمَلَ عَمَلًا بَعْدَ الْإِسْلَامِ إِلَّا أَنْ أَسْقِيَ الْحَاجَّ. وَقَالَ آخَرُ: مَا أُبَالِي أَلَّا أَعْمَلَ عَمَلًا بَعْدَ الْإِسْلَامِ إِلَّا أَنْ أَعْمُرَ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ. وَقَالَ آخَرُ: الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَفْضَلُ مما قلتم. فزجر هم عُمَرُ وَقَالَ: لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ عِنْدَ مِنْبَرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وهو يَوْمُ الْجُمُعَةِ- وَلَكِنْ إِذَا صُلِّيَتِ الْجُمُعَةُ دَخَلْتُ وَاسْتَفْتَيْتُهُ فِيمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ. فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ:" أَجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الْحاجِّ وَعِمارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ" إِلَى آخِرِ الْآيَةِ. وَهَذَا الْمَسَاقُ يَقْتَضِي أَنَّهَا إِنَّمَا نَزَلَتْ عِنْدَ اخْتِلَافِ الْمُسْلِمِينَ فِي الْأَفْضَلِ مِنْ هَذِهِ الْأَعْمَالِ. وَحِينَئِذٍ لَا يَلِيقُ أَنْ يُقَالَ لَهُمْ فِي آخِرِ الْآيَةِ:" وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ" فَتَعَيَّنَ الْإِشْكَالُ. وَإِزَالَتُهُ بِأَنْ يُقَالَ: إِنَّ بَعْضَ الرُّوَاةِ تَسَامَحَ فِي قَوْلِهِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ الْآيَةَ. وَإِنَّمَا قَرَأَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْآيَةَ عَلَى عُمَرَ حِينَ سَأَلَهُ فَظَنَّ الرَّاوِي أَنَّهَا نَزَلَتْ حِينَئِذٍ. وَاسْتَدَلَّ بِهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أَنَّ الْجِهَادَ أَفْضَلُ مِمَّا قَالَ أُولَئِكَ الَّذِينَ سَمِعَهُمْ عُمَرُ، فَاسْتَفْتَى لَهُمْ فَتَلَا عَلَيْهِ مَا قَدْ كَانَ أُنْزِلَ عَلَيْهِ، لَا أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي هَؤُلَاءِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَإِنْ قِيلَ: فَعَلَى هَذَا يَجُوزُ الِاسْتِدْلَالُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ بِمَا أُنْزِلَ فِي الْكَافِرِينَ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ أَحْكَامَهُمْ مُخْتَلِفَةٌ. قِيلَ لَهُ: لَا يُسْتَبْعَدُ أَنْ يُنْتَزَعَ مِمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ فِي الْمُشْرِكِينَ أَحْكَامٌ تَلِيقُ بِالْمُسْلِمِينَ. وَقَدْ قَالَ عُمَرُ: إِنَّا لَوْ شِئْنَا لَاتَّخَذْنَا سَلَائِقَ «1» وَشِوَاءً وَتُوضَعُ صَحْفَةٌ وَتُرْفَعُ أُخْرَى وَلَكِنَّا سَمِعْنَا قَوْلَ اللَّهِ تَعَالَى:" أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ الدُّنْيا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِها" «2» [الأحقاف: 20]. وَهَذِهِ الْآيَةُ نَصٌّ فِي الْكُفَّارِ، وَمَعَ ذَلِكَ فَفَهِمَ مِنْهَا عُمَرُ الزَّجْرَ عَمَّا يُنَاسِبُ أَحْوَالَهُمْ بَعْضَ الْمُنَاسَبَةِ، وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ أَحَدٌ مِنَ الصَّحَابَةِ. فَيُمْكِنُ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْآيَةُ مِنْ هَذَا النَّوْعِ. وَهَذَا نَفِيسٌ وَبِهِ يَزُولُ الْإِشْكَالُ ويرتفع الإبهام، والله أعلم.
__________
(1). سلائق: الحملان المشوية ويروى بالصاد.
(2). راجع ج 16 ص 199.

(8/92)


الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ (20)

[سورة التوبة (9): آية 20]
الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ (20)
قَوْلُهُ تَعَالَى:" الَّذِينَ آمَنُوا" فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ بِالِابْتِدَاءِ. وَخَبَرُهُ" أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ". وَ" دَرَجَةً" نُصِبَ عَلَى الْبَيَانِ، أَيْ مِنَ الَّذِينَ افْتَخَرُوا بِالسَّقْيِ وَالْعِمَارَةِ. وَلَيْسَ لِلْكَافِرِينَ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ حَتَّى يُقَالَ: الْمُؤْمِنُ أَعْظَمُ دَرَجَةً. وَالْمُرَادُ أَنَّهُمْ قَدَّرُوا لِأَنْفُسِهِمُ الدَّرَجَةَ بِالْعِمَارَةِ وَالسَّقْيِ فَخَاطَبَهُمْ عَلَى مَا قَدَّرُوهُ فِي أَنْفُسِهِمْ وَإِنْ كَانَ التَّقْدِيرُ خَطَأً كَقَوْلِهِ تَعَالَى:" أَصْحابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا" «1» [ان الفرق: 24]. وَقِيلَ:" أَعْظَمُ دَرَجَةً" مِنْ كُلِّ ذِي دَرَجَةٍ، أَيْ لَهُمُ الْمَزِيَّةُ وَالْمَرْتَبَةُ الْعَلِيَّةُ." وَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ" بذلك.

[سورة التوبة (9): الآيات 21 الى 22]
يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيها نَعِيمٌ مُقِيمٌ (21) خالِدِينَ فِيها أَبَداً إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (22)
قَوْلُهُ تَعَالَى:" يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ" أَيْ يُعْلِمُهُمْ فِي الدُّنْيَا مَا لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الثَّوَابِ الْجَزِيلِ وَالنَّعِيمِ الْمُقِيمِ. وَالنَّعِيمُ: لِينُ الْعَيْشِ وَرَغَدُهُ. (خالِدِينَ) نُصِبَ عَلَى الْحَالِ. وَالْخُلُودُ الْإِقَامَةُ. (إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ) أَيْ أَعَدَّ لَهُمْ فِي دَارِ كَرَامَتِهِ ذلك الثواب.

[سورة التوبة (9): آية 23]
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا آباءَكُمْ وَإِخْوانَكُمْ أَوْلِياءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (23)
ظَاهِرُ هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّهَا خِطَابٌ لِجَمِيعِ الْمُؤْمِنِينَ كَافَّةً، وَهِيَ بَاقِيَةُ الْحُكْمِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ فِي قَطْعِ الْوِلَايَةِ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْكَافِرِينَ. وَرَوَتْ فِرْقَةٌ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ إِنَّمَا نَزَلَتْ فِي الْحَضِّ عَلَى الْهِجْرَةِ وَرَفْضِ بِلَادِ الْكَفَرَةِ. فَالْمُخَاطَبَةُ عَلَى هَذَا إِنَّمَا هِيَ لِلْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ كَانُوا بِمَكَّةَ وغيرها
__________
(1). راجع ج 13 ص 21 فما بعد.

(8/93)


قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (24)

مِنْ بِلَادِ الْعَرَبِ، خُوطِبُوا بِأَلَّا يُوَالُوا الْآبَاءَ وَالْإِخْوَةَ فَيَكُونُوا لَهُمْ تَبَعًا فِي سُكْنَى بِلَادِ الْكُفْرِ." إِنِ اسْتَحَبُّوا" أَيْ أَحَبُّوا، كَمَا يُقَالُ: اسْتَجَابَ بِمَعْنَى أَجَابَ. أَيْ لَا تُطِيعُوهُمْ وَلَا تَخُصُّوهُمْ. وَخَصَّ اللَّهُ سُبْحَانَهُ الْآبَاءَ وَالْإِخْوَةَ إِذْ لَا قَرَابَةَ أَقْرَبُ مِنْهَا. فَنَفَى الْمُوَالَاةَ بَيْنَهُمْ كَمَا نَفَاهَا بَيْنَ النَّاسِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى:" يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ" «1» [المائدة: 51] لِيُبَيِّنَ أَنَّ الْقُرْبَ قُرْبُ الْأَدْيَانِ لَا قُرْبُ الْأَبْدَانِ. وَفِي مِثْلِهِ تُنْشِدُ الصُّوفِيَّةُ:
يَقُولُونَ لِي دَارُ الْأَحِبَّةِ قَدْ دَنَتْ ... وَأَنْتَ كَئِيبٌ إِنَّ ذَا لَعَجِيبُ
فَقُلْتُ وَمَا تُغْنِي دِيَارٌ قَرِيبَةٌ ... إِذَا لَمْ يَكُنْ بَيْنَ الْقُلُوبِ قَرِيبُ
فَكَمْ مِنْ بَعِيدِ الدَّارِ نَالَ مُرَادَهُ ... وَآخَرُ جَارُ الْجَنْبِ مَاتَ كَئِيبُ
وَلَمْ يَذْكُرِ الْأَبْنَاءَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ إِذِ الْأَغْلَبُ مِنَ الْبَشَرِ أَنَّ الْأَبْنَاءَ هُمُ التَّبَعُ لِلْآبَاءِ. وَالْإِحْسَانُ وَالْهِبَةُ مُسْتَثْنَاةٌ مِنَ الْوِلَايَةِ. قَالَتْ أَسْمَاءُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ أُمِّي قَدِمَتْ عَلَيَّ رَاغِبَةً وَهِيَ مُشْرِكَةٌ أفأصلها؟ قال: (صلي أمك) خرجه البخاري. قوله تعالى: (وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هُوَ مُشْرِكٌ مِثْلُهُمْ لِأَنَّ مَنْ رضي بالشرك فهو مشرك.

[سورة التوبة (9): آية 24]
قُلْ إِنْ كانَ آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ وَإِخْوانُكُمْ وَأَزْواجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوالٌ اقْتَرَفْتُمُوها وَتِجارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسادَها وَمَساكِنُ تَرْضَوْنَها أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (24)
لَمَّا أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْهِجْرَةِ مِنْ مَكَّةَ إِلَى الْمَدِينَةِ جَعَلَ الرَّجُلُ يَقُولُ لِأَبِيهِ وَالْأَبُ لِابْنِهِ وَالْأَخُ لِأَخِيهِ وَالرَّجُلُ لِزَوْجَتِهِ: إِنَّا قَدْ أُمِرْنَا بِالْهِجْرَةِ، فَمِنْهُمْ مَنْ تَسَارَعَ
__________
(1). راجع ج 6 ص 216.

(8/94)


لِذَلِكَ، وَمِنْهُمْ مَنْ أَبَى أَنْ يُهَاجِرَ، فَيَقُولُ: وَاللَّهِ لَئِنْ لَمْ تَخْرُجُوا إِلَى دَارِ الْهِجْرَةِ لَا أَنْفَعُكُمْ وَلَا أُنْفِقُ عَلَيْكُمْ شَيْئًا أَبَدًا. وَمِنْهُمْ مَنْ تَتَعَلَّقُ بِهِ امْرَأَتُهُ وَوَلَدُهُ وَيَقُولُونَ لَهُ: أَنْشُدُكَ بِاللَّهِ أَلَّا تَخْرُجَ فَنَضِيعَ بَعْدَكَ، فَمِنْهُمْ مَنْ يَرِقُّ فَيَدَعُ الْهِجْرَةَ وَيُقِيمُ مَعَهُمْ، فَنَزَلَتْ" يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا آباءَكُمْ وَإِخْوانَكُمْ أَوْلِياءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمانِ". يَقُولُ: [إِنِ اخْتَارُوا] الْإِقَامَةَ عَلَى الْكُفْرِ بِمَكَّةَ عَلَى الْإِيمَانِ بِاللَّهِ وَالْهِجْرَةِ إِلَى الْمَدِينَةِ." وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ" بَعْدَ نُزُولِ الْآيَةِ" فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ". ثُمَّ نَزَلَ فِي الَّذِينَ تَخَلَّفُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا:" قُلْ إِنْ كانَ آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ وَإِخْوانُكُمْ وَأَزْواجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ" وَهِيَ الْجَمَاعَةُ الَّتِي تَرْجِعُ إِلَى عَقْدٍ وَاحِدٍ كَعَقْدِ الْعَشَرَةِ فَمَا زَادَ، وَمِنْهُ الْمُعَاشَرَةُ وَهِيَ الِاجْتِمَاعُ عَلَى الشَّيْءِ. (وَأَمْوالٌ اقْتَرَفْتُمُوها) يَقُولُ: اكْتَسَبْتُمُوهَا بِمَكَّةَ. وَأَصْلُ الِاقْتِرَافِ اقْتِطَاعُ الشَّيْءِ مِنْ مَكَانِهِ إِلَى غَيْرِهِ. (وَتِجارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسادَها) قَالَ ابْنُ الْمُبَارَكِ: هِيَ الْبَنَاتُ وَالْأَخَوَاتُ إِذَا كَسَدْنَ فِي الْبَيْتِ لَا يَجِدْنَ لَهُنَّ خَاطِبًا. قَالَ الشَّاعِرُ:
كَسَدْنَ مِنَ الْفَقْرِ فِي قَوْمِهِنَّ ... وَقَدْ زَادَهُنَّ مَقَامِي كُسُودَا
(وَمَساكِنُ تَرْضَوْنَها) يَقُولُ: وَمَنَازِلُ تُعْجِبُكُمُ الْإِقَامَةُ فِيهَا. (أَحَبَّ إِلَيْكُمْ) مِنْ أَنْ تُهَاجِرُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ بِالْمَدِينَةِ. وَ" أَحَبَّ" خَبَرُ كَانَ. وَيَجُوزُ فِي غَيْرِ الْقُرْآنِ رَفْعُ" أَحَبَّ" عَلَى الِابْتِدَاءِ وَالْخَبَرِ، وَاسْمُ كَانَ مُضْمَرٌ فِيهَا. وَأَنْشَدَ سِيبَوَيْهِ:
إِذَا مِتُّ كَانَ النَّاسُ صِنْفَانِ: شَامِتٌ ... وَآخَرُ مُثْنٍ بِالَّذِي كُنْتُ أَصْنَعُ «1»
وَأَنْشَدَ:
هِيَ الشِّفَاءُ لِدَائِي لَوْ ظَفِرْتُ بِهَا ... وَلَيْسَ مِنْهَا شِفَاءُ الدَّاءِ مَبْذُولُ «2»
وَفِي الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى وُجُوبِ حُبِّ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَلَا خِلَافَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ الْأُمَّةِ، وَأَنَّ ذَلِكَ مُقَدَّمٌ عَلَى كُلِّ مَحْبُوبٍ. وَقَدْ مَضَى فِي" آلِ عِمْرَانَ" «3» مَعْنَى مَحَبَّةِ اللَّهِ تَعَالَى وَمَحَبَّةِ رَسُولِهِ. (وَجِهادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا) صِيغَتُهُ صِيغَةُ أَمْرٍ وَمَعْنَاهُ التَّهْدِيدُ. يَقُولُ: انْتَظِرُوا. (حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ)
__________
(1). البيت للعجير السلولي.
(2). البيت لهشام أخى ذي الرمة. (عن كتاب سيبويه).
(3). راجع ج 4 ص 59.

(8/95)


لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ (25) ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ (26) ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (27)

يعني بالقتال وفتح مكة عن مجاهد. الحسن: بعقوبة آجلة أو عاجلة، وَفِي قَوْلِهِ:" وَجِهادٍ فِي سَبِيلِهِ" دَلِيلٌ عَلَى فَضْلِ الْجِهَادِ، وَإِيثَارِهِ عَلَى رَاحَةِ النَّفْسِ وَعَلَائِقِهَا بِالْأَهْلِ وَالْمَالِ. وَسَيَأْتِي فَضْلُ الْجِهَادِ فِي آخِرِ السُّورَةِ. وَقَدْ مَضَى مِنْ أَحْكَامِ الْهِجْرَةِ فِي" النِّسَاءِ" «1» مَا فِيهِ كِفَايَةٌ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ. وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ (إِنَّ الشَّيْطَانَ قَعَدَ لِابْنِ آدَمَ ثَلَاثَ مَقَاعِدَ قَعَدَ لَهُ فِي طَرِيقِ الْإِسْلَامِ فَقَالَ لِمَ تَذَرُ دِينَكَ وَدِينَ آبَائِكَ فَخَالَفَهُ وَأَسْلَمَ وَقَعَدَ لَهُ فِي طَرِيقِ الْهِجْرَةِ فَقَالَ لَهُ أَتَذَرُ مَالَكَ وَأَهْلَكَ فَخَالَفَهُ وَهَاجَرَ ثُمَّ قَعَدَ فِي طَرِيقِ الْجِهَادِ فَقَالَ لَهُ تُجَاهِدُ فَتُقْتَلُ فَيُنْكَحُ أَهْلُكَ وَيُقْسَمُ مَالُكَ فَخَالَفَهُ وَجَاهَدَ فَحَقٌّ عَلَى اللَّهِ أَنْ يُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ (. وَأَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ سَبَرَةَ بْنِ أَبِي فَاكِهٍ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: (إِنَّ الشَّيْطَانَ ... ) فَذَكَرَهُ. قَالَ الْبُخَارِيُّ: (ابن الفاكه) ولم يذكر فيه اخْتِلَافًا. وَقَالَ ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ: يُقَالُ ابْنُ الفاكه وابن أبي الفاكه. انتهى.

[سورة التوبة (9): الآيات 25 الى 27]
لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَواطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً وَضاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ (25) ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُوداً لَمْ تَرَوْها وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ (26) ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (27)
فِيهِ ثَمَانِ مَسَائِلَ: الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى: (لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَواطِنَ كَثِيرَةٍ) لَمَّا بَلَغَ هَوَازِنَ فَتْحُ مَكَّةَ جَمَعَهُمْ مَالِكُ بْنُ عَوْفٍ النَّصْرِيُّ مِنْ بَنِي نَصْرِ بْنِ مَالِكٍ، وَكَانَتِ الرِّيَاسَةُ فِي جَمِيعِ الْعَسْكَرِ إِلَيْهِ،
__________
(1). راجع ج 5 ص 308، 350.

(8/96)


وساق مع الكفار أموالهم ومواشيهم ونساء هم وَأَوْلَادَهُمْ، وَزَعَمَ أَنَّ ذَلِكَ يَحْمِي بِهِ نُفُوسَهُمْ وَتَشْتَدُّ فِي الْقِتَالِ عِنْدَ ذَلِكَ شَوْكَتُهُمْ. وَكَانُوا ثَمَانِيَةَ آلَافٍ فِي قَوْلِ الْحَسَنِ وَمُجَاهِدٍ. وَقِيلَ: أَرْبَعَةُ آلَافٍ، مِنْ هَوَازِنَ وَثَقِيفٍ. وَعَلَى هَوَازِنَ مَالِكُ بْنُ عَوْفٍ، وَعَلَى ثَقِيفٍ كِنَانَةُ بْنُ عَبْدٍ، فَنَزَلُوا بِأَوْطَاسَ «1». وَبَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أَبِي حَدْرَدٍ الْأَسْلَمِيَّ عَيْنًا، فَأَتَاهُ وَأَخْبَرَهُ بِمَا شَاهَدَ مِنْهُمْ، فَعَزَمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على قصدهم، واستعار من صفوان ابن أُمَيَّةَ بْنِ خَلَفٍ الْجُمَحِيِّ دُرُوعًا. قِيلَ: مِائَةُ دِرْعٍ. وَقِيلَ: أَرْبَعُمِائَةِ دِرْعٍ. وَاسْتَسْلَفَ مِنْ رَبِيعَةَ الْمَخْزُومِيِّ ثَلَاثِينَ أَلْفًا أَوْ أَرْبَعِينَ أَلْفًا، فَلَمَّا قَدِمَ قَضَاهُ إِيَّاهَا. ثُمَّ قَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (بَارَكَ اللَّهُ لَكَ فِي أَهْلِكَ وَمَالِكَ إِنَّمَا جَزَاءُ السَّلَفِ الْوَفَاءُ وَالْحَمْدُ) خَرَّجَهُ ابْنُ مَاجَهْ فِي السُّنَنِ. وَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ، مِنْهُمْ عَشَرَةُ آلَافٍ صَحِبُوهُ مِنَ الْمَدِينَةِ وَأَلْفَانِ مِنْ مُسْلِمَةِ الْفَتْحِ وَهُمُ الطُّلَقَاءُ إِلَى مَنِ انْضَافَ إِلَيْهِ مِنَ الْأَعْرَابِ، مِنْ سُلَيْمٍ وَبَنِي كِلَابٍ وَعَبْسٍ وَذُبْيَانَ. وَاسْتَعْمَلَ عَلَى مَكَّةَ عَتَّابَ بْنَ أُسَيْدٍ. وَفِي مَخْرَجِهِ هَذَا رَأَى جُهَّالُ الْأَعْرَابِ شَجَرَةً خَضْرَاءَ وَكَانَ لَهُمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ شَجَرَةٌ مَعْرُوفَةٌ تُسَمَّى ذَاتَ أَنْوَاطٍ يَخْرُجُ إِلَيْهَا الْكُفَّارُ يَوْمًا مَعْلُومًا فِي السَّنَةِ يُعَظِّمُونَهَا، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، اجْعَلْ لَنَا ذَاتَ أَنْوَاطٍ كَمَا لَهُمْ ذَاتُ أَنْوَاطٍ. فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: (اللَّهُ أَكْبَرُ قُلْتُمْ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ كَمَا قَالَ قَوْمُ مُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ لَتَرْكَبُنَّ سُنَنَ مَنْ قبلكم حذو القذة بالقذة حتى إنهم لو دَخَلُوا جُحْرَ ضَبٍّ لَدَخَلْتُمُوهُ (. فَنَهَضَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى أَتَى وَادِي حنين، وهو من أودية تهامة، وكانت هو ازن قَدْ كَمَنَتْ فِي جَنْبَتَيِ الْوَادِي وَذَلِكَ فِي غَبَشِ الصُّبْحِ فَحَمَلَتْ عَلَى الْمُسْلِمِينَ حَمْلَةَ رَجُلٍ وَاحِدٍ، فَانْهَزَمَ جُمْهُورُ الْمُسْلِمِينَ وَلَمْ يَلْوِ «2» أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ، وَثَبَتَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَثَبَتَ مَعَهُ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ، وَمِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ عَلِيٌّ وَالْعَبَّاسُ وَأَبُو سُفْيَانَ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ وَابْنُهُ جَعْفَرُ، وَأُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ، وَأَيْمَنُ بْنُ عُبَيْدٍ- وَهُوَ أَيْمَنُ بْنُ أُمِّ أَيْمَنَ قُتِلَ يَوْمَئِذٍ بِحُنَيْنٍ- وربيعة
__________
(1). أرطاس: واد في ديار هوازن، فيه كانت وقعة حنين.
(2). أي لم يلتفت ولم يعطف.

(8/97)


ابن الْحَارِثِ، وَالْفَضْلُ بْنُ عَبَّاسٍ، وَقِيلَ فِي مَوْضِعِ جَعْفَرِ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ: قُثَمُ بْنُ الْعَبَّاسِ. فَهَؤُلَاءِ عَشَرَةُ رِجَالٍ، وَلِهَذَا قَالَ الْعَبَّاسُ:
نَصَرْنَا رَسُولَ اللَّهِ فِي الْحَرْبِ تِسْعَةً ... وَقَدْ فَرَّ مَنْ قَدْ فَرَّ عَنْهُ «1» وَأَقْشَعُوا
وَعَاشِرُنَا لَاقَى الْحِمَامَ بِنَفْسِهِ ... بِمَا مَسَّهُ فِي اللَّهِ لَا يَتَوَجَّعُ
وَثَبَتَتْ أُمُّ سُلَيْمٍ فِي جُمْلَةِ مَنْ ثَبَتَ مُحْتَزِمَةً مُمْسِكَةً بَعِيرًا لِأَبِي طَلْحَةَ وَفِي يَدِهَا خِنْجَرٌ. وَلَمْ يَنْهَزِمْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا أَحَدٌ مِنْ هَؤُلَاءِ، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى بَغْلَتِهِ الشَّهْبَاءِ وَاسْمُهَا دُلْدُلُ. وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ أَنَسٍ قَالَ عَبَّاسٌ «2»: وَأَنَا آخُذٌ بِلِجَامِ بَغْلَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَكُفُّهَا إِرَادَةَ أَلَّا تُسْرِعَ وَأَبُو سُفْيَانَ آخِذٌ بِرِكَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (أَيُّ عَبَّاسُ نَادِ أَصْحَابَ السَّمُرَةِ) «3». فَقَالَ عَبَّاسٌ- وَكَانَ رَجُلًا صَيِّتًا. وَيُرْوَى مِنْ شِدَّةِ صَوْتِهِ أَنَّهُ أُغِيرَ يَوْمًا عَلَى مَكَّةَ فَنَادَى وا صباحاه! فَأَسْقَطَتْ كُلُّ حَامِلٍ سَمِعَتْ صَوْتَهُ جَنِينَهَا-: فَقُلْتُ بِأَعْلَى صَوْتِي: أَيْنَ أَصْحَابُ السَّمُرَةِ؟ قَالَ: فَوَاللَّهِ لَكَأَنَّ عَطَفْتَهُمْ حِينَ سَمِعُوا صَوْتِي عَطْفَةُ الْبَقَرِ عَلَى أَوْلَادِهَا. فَقَالُوا: يَا لَبَّيْكَ يَا لَبَّيْكَ. قَالَ: فَاقْتَتَلُوا وَالْكُفَّارُ ... (الْحَدِيثَ. وَفِيهِ:) قَالَ ثُمَّ أَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَصَيَاتٍ فَرَمَى بِهِنَّ وُجُوهَ الْكُفَّارِ (. ثُمَّ قَالَ:) انْهَزَمُوا وَرَبِّ مُحَمَّدٍ (. قَالَ فَذَهَبْتُ أَنْظُرُ فَإِذَا الْقِتَالُ عَلَى هَيْئَتِهِ فِيمَا أَرَى. قَالَ: فَوَاللَّهِ مَا هُوَ إِلَّا أَنْ رَمَاهُمْ بِحَصَيَاتِهِ، فَمَا زِلْتُ أَرَى حَدَّهُمْ كَلِيلًا وَأَمْرَهُمْ مُدْبِرًا. قَالَ أَبُو عُمَرَ: رَوَيْنَا مِنْ وُجُوهٍ عَنْ بَعْضِ مَنْ أَسْلَمَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ مِمَّنْ شَهِدَ حُنَيْنًا أَنَّهُ قَالَ- وَقَدْ سُئِلَ عَنْ يَوْمِ حُنَيْنٍ-: لَقِينَا الْمُسْلِمِينَ فَمَا لَبِثْنَا أَنْ هَزَمْنَاهُمْ وَأَتْبَعْنَاهُمْ حَتَّى انْتَهَيْنَا إِلَى رَجُلٍ رَاكِبٍ عَلَى بَغْلَةٍ بَيْضَاءَ، فَلَمَّا رَآنَا زَجَرَنَا زَجْرَةً وَانْتَهَرَنَا، وَأَخَذَ بِكَفِّهِ حَصًى «4» وَتُرَابًا فَرَمَى بِهِ وَقَالَ: (شَاهَتِ الْوُجُوهُ) فَلَمْ تَبْقَ عَيْنٌ إِلَّا دَخَلَهَا مِنْ ذَلِكَ، وَمَا مَلَكْنَا أَنْفُسَنَا أَنْ رَجَعْنَا عَلَى أعقابنا. وقال سعيد بن جبير: حدثنا
__________
(1). في الأصول: (منهم) والتصويب عن المواهب اللدنية.
(2). في ا، ج، ح، ل، هـ، ز. قال ابن عباس: والصواب ما أثبتناه من ك، ب، ى.
(3). أي أصحاب الشجرة المسماة بالسمرة، وهي الشجرة التي كانت عندها بيعة الرضوان عام الحديبية. [ ..... ]
(4). في ب وج: أو ترابا.

(8/98)


رَجُلٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، يَوْمَ حُنَيْنٍ قَالَ: لَمَّا الْتَقَيْنَا مَعَ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَقِفُوا لَنَا حَلْبَ شَاةٍ، حَتَّى إِذَا انْتَهَيْنَا إِلَى صَاحِبِ الْبَغْلَةِ الشَّهْبَاءِ- يَعْنِي رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- تَلَقَّانَا رِجَالٌ بِيضُ الْوُجُوهِ حِسَانٌ، فَقَالُوا لَنَا: شَاهَتِ الْوُجُوهُ، ارْجِعُوا، فَرَجَعْنَا وَرَكِبُوا أَكْتَافَنَا فَكَانَتْ إِيَّاهَا. يَعْنِي الْمَلَائِكَةَ. قُلْتُ: وَلَا تَعَارُضَ فَإِنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ شَاهَتِ الْوُجُوهُ مِنْ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمِنْ قَوْلِ الْمَلَائِكَةِ مَعًا وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمَلَائِكَةَ قَاتَلَتْ يَوْمَ حُنَيْنٍ. فَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَتَلَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَوْمَ حُنَيْنٍ أَرْبَعِينَ رَجُلًا بِيَدِهِ. وَسَبَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرْبَعَةٌ آلَافِ رَأْسٍ. وَقِيلَ: سِتَّةَ آلَافٍ، وَاثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَلْفِ نَاقَةٍ سِوَى مَا لَا يُعْلَمُ مِنَ الْغَنَائِمِ. الثَّانِيَةُ- قَالَ الْعُلَمَاءُ فِي هَذِهِ الْغَزَاةِ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا لَهُ عَلَيْهِ بَيِّنَةٌ فَلَهُ سَلَبُهُ). وَقَدْ مَضَى فِي" الْأَنْفَالِ" «1» بَيَانُهُ. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَلِهَذِهِ النُّكْتَةِ وَغَيْرِهَا أَدْخَلَ الْأَحْكَامِيُّونَ هَذِهِ الْآيَةَ فِي الْأَحْكَامِ. قُلْتُ: وَفِيهِ أَيْضًا جَوَازُ اسْتِعَارَةِ السِّلَاحِ وَجَوَازُ الِاسْتِمْتَاعِ بِمَا اسْتُعِيرَ إِذَا كَانَ عَلَى الْمَعْهُودِ مِمَّا يُسْتَعَارُ لَهُ مِثْلُهُ، وَجَوَازُ اسْتِلَافِ الْإِمَامِ الْمَالَ عِنْدَ الْحَاجَةِ إِلَى ذَلِكَ وَرَدِّهِ إِلَى صَاحِبِهِ. وَحَدِيثُ صَفْوَانَ أَصْلٌ فِي هَذَا الْبَابِ. وَفِي هَذِهِ الْغَزَاةِ أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (إلا تُوطَأُ حَامِلٌ حَتَّى تَضَعَ وَلَا حَائِلٌ حَتَّى تَحِيضَ حَيْضَةً). وَهُوَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ السَّبْيَ يَقْطَعُ الْعِصْمَةَ. وَقَدْ مَضَى بَيَانُهُ فِي سُورَةِ" النِّسَاءِ" مُسْتَوْفًى «2». وَفِي حَدِيثِ مَالِكٍ أَنَّ صَفْوَانَ خَرَجَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ كَافِرٌ، فَشَهِدَ حُنَيْنًا وَالطَّائِفَ وَامْرَأَتُهُ مُسْلِمَةٌ. الْحَدِيثَ. قَالَ مَالِكٌ: وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ بِأَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَا أَرَى أَنْ يُسْتَعَانَ بِالْمُشْرِكِينَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ إِلَّا أَنْ يَكُونُوا خَدَمًا أَوْ نَوَاتِيَّةً. وَقَالَ أبو حنيفة والشافعي والثوري والأوزاعي:
__________
(1). راجع ج 7 ص 363.
(2). راجع ج 5 ص 121.

(8/99)


لَا بَأْسَ بِذَلِكَ إِذَا كَانَ حُكْمُ الْإِسْلَامِ هُوَ الْغَالِبُ، وَإِنَّمَا تُكْرَهُ الِاسْتِعَانَةُ بِهِمْ إِذَا كَانَ حُكْمُ الشِّرْكِ هُوَ الظَّاهِرُ. وَقَدْ مَضَى الْقَوْلُ فِي الْإِسْهَامِ لَهُمْ فِي" الْأَنْفَالِ" «1» الثَّالِثَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى (وَيَوْمَ حُنَيْنٍ) " حُنَيْنٍ" وَادٍ بَيْنَ مَكَّةَ وَالطَّائِفِ، وَانْصَرَفَ لِأَنَّهُ اسْمٌ مُذَكَّرٌ، وَهِيَ لُغَةُ الْقُرْآنِ. وَمِنَ الْعَرَبِ مَنْ لَا يَصْرِفُهُ، يَجْعَلُهُ اسْمًا لِلْبُقْعَةِ. وَأَنْشَدَ:
نَصَرُوا نَبِيَّهُمْ وَشَدُّوا أَزْرَهُ ... بِحُنَيْنٍ يَوْمَ تَوَاكُلِ الْأَبْطَالِ «2»
" وَيَوْمَ" ظَرْفٌ، وَانْتَصَبَ هُنَا عَلَى مَعْنَى: وَنَصَرَكُمْ يَوْمَ حُنَيْنٍ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: لَمْ تَنْصَرِفْ" مَواطِنَ" لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهَا نَظِيرٌ فِي الْمُفْرَدِ وَلَيْسَ لَهَا جِمَاعٌ، إِلَّا أَنَّ الشَّاعِرَ رُبَّمَا اضْطَرَّ فَجَمَعَ، وَلَيْسَ يجوز في الكلام كلما يَجُوزُ فِي الشِّعْرِ. وَأَنْشَدَ:
فَهُنَّ يَعْلُكْنَ حَدَائِدَاتِهَا

وَقَالَ النَّحَّاسُ: رَأَيْتُ أَبَا إِسْحَاقَ يَتَعَجَّبُ مِنْ هَذَا قَالَ: أَخَذَ قَوْلَ الْخَلِيلِ وَأَخْطَأَ فِيهِ، لِأَنَّ الْخَلِيلَ يَقُولُ فِيهِ: لَمْ يَنْصَرِفْ لِأَنَّهُ جَمْعٌ لَا نَظِيرَ لَهُ فِي الْوَاحِدِ، وَلَا يُجْمَعُ جَمْعَ التَّكْسِيرِ، وَأَمَّا بِالْأَلِفِ وَالتَّاءِ فَلَا يَمْتَنِعُ. الرَّابِعَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ) قِيلَ: كَانُوا اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفًا. وَقِيلَ: أَحَدَ عَشَرَ أَلْفًا وَخَمْسُمِائَةٍ. وَقِيلَ: سِتَّةَ عَشَرَ أَلْفًا. فَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَنْ نُغْلَبَ الْيَوْمَ عَنْ قِلَّةٍ. فَوُكِلُوا إِلَى هَذِهِ الْكَلِمَةِ، فَكَانَ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ الْهَزِيمَةِ فِي الِابْتِدَاءِ إِلَى أَنْ تَرَاجَعُوا، فَكَانَ النَّصْرُ وَالظَّفَرُ لِلْمُسْلِمِينَ بِبَرَكَةِ سَيِّدِ الْمُرْسَلِينَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَبَيَّنَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ الْغَلَبَةَ إِنَّمَا تَكُونُ بِنَصْرِ اللَّهِ لَا بِالْكَثْرَةِ وَقَدْ قَالَ:" وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ" «3» [آل عمران: 160]. الْخَامِسَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَضاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ) أَيْ مِنَ الْخَوْفِ، كَمَا قَالَ:
كَأَنَّ بِلَادَ اللَّهِ وَهْيَ عَرِيضَةٌ ... عَلَى الْخَائِفِ الْمَطْلُوبِ كفة حابل «4»
__________
(1). راجع المسألة الموفية العشرين ص 18 من هذا الجزء.
(2). البيت لحسان بن ثابت.
(3). راجع ج 4 ص 253 فما بعد
(4). الكفة (بالكسر): حبالة الصائد. والحابل: الذي ينصب الحبالة.

(8/100)


وَالرُّحْبُ (بِضَمِّ الرَّاءِ) السَّعَةُ. تَقُولُ مِنْهُ: فُلَانٌ رُحْبُ الصَّدْرِ. وَالرَّحْبُ (بِالْفَتْحِ): الْوَاسِعُ. تَقُولُ مِنْهُ: بَلَدٌ رَحْبٌ، وَأَرْضٌ رَحْبَةٌ. وَقَدْ رَحُبَتْ تَرْحُبُ رُحْبًا وَرَحَابَةً. وَقِيلَ: الْبَاءُ بِمَعْنَى مَعَ أَيْ مَعَ رَحْبِهَا. وَقِيلَ: بِمَعْنَى عَلَى، أَيْ عَلَى رَحْبِهَا. وَقِيلَ: الْمَعْنَى بِرَحْبِهَا، فَ"- مَا" مَصْدَرِيَّةٌ. السَّادِسَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ) رَوَى مُسْلِمٌ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى الْبَرَاءِ فَقَالَ: أَكُنْتُمْ وَلَّيْتُمْ يَوْمَ حُنَيْنٍ يَا أَبَا عُمَارَةَ. فَقَالَ: أَشْهَدُ عَلَى نَبِيِّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا وَلَّى، وَلَكِنَّهُ انْطَلَقَ أَخِفَّاءُ «1» مِنَ النَّاسِ، وَحُسَّرٌ إِلَى هَذَا الْحَيِّ مِنْ هَوَازِنَ. وَهُمْ قَوْمٌ رُمَاةٌ فَرَمَوْهُمْ بِرِشْقٍ مِنْ نَبْلٍ كَأَنَّهَا رِجْلٌ مِنْ جَرَادٍ فَانْكَشَفُوا، فَأَقْبَلَ الْقَوْمُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبُو سُفْيَانَ يَقُودُ بِهِ بَغْلَتَهُ، فَنَزَلَ وَدَعَا وَاسْتَنْصَرَ وَهُوَ يَقُولُ: (أَنَا النَّبِيُّ لَا كَذِبَ. أَنَا ابْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ. اللَّهُمَّ نَزِّلْ نَصْرَكَ). قَالَ الْبَرَاءُ: كُنَّا وَاللَّهِ إِذَا احْمَرَّ الْبَأْسُ نَتَّقِي بِهِ، وَإِنَّ الشُّجَاعَ مِنَّا لَلَّذِي يُحَاذِي بِهِ، يَعْنِي النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. السَّابِعَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ) أَيْ أَنْزَلَ عَلَيْهِمْ مَا يُسَكِّنُهُمْ وَيُذْهِبُ خَوْفَهُمْ، حَتَّى اجْتَرَءُوا عَلَى قِتَالِ الْمُشْرِكِينَ بَعْدَ أَنْ وَلَّوْا. (وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا) وَهُمُ الْمَلَائِكَةُ، يُقَوُّونَ الْمُؤْمِنِينَ بِمَا يُلْقُونَ فِي قُلُوبِهِمْ مِنَ الْخَوَاطِرِ وَالتَّثْبِيتِ، وَيُضَعِّفُونَ الْكَافِرِينَ بِالتَّجْبِينِ لَهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَرَوْنَهُمْ وَمِنْ غَيْرِ قِتَالٍ، لِأَنَّ الْمَلَائِكَةَ لَمْ تُقَاتِلْ إِلَّا يَوْمَ بَدْرٍ. وَرُوِيَ أَنَّ رَجُلًا مِنْ بَنِي نَصْرٍ قَالَ لِلْمُؤْمِنِينَ بَعْدَ الْقِتَالِ: أَيْنَ الْخَيْلُ الْبُلْقُ، وَالرِّجَالُ الَّذِينَ كَانُوا عَلَيْهَا بِيضٌ، مَا كُنَّا فِيهِمْ إِلَّا كَهَيْئَةِ الشَّامَةِ، وَمَا كَانَ قَتْلُنَا إِلَّا بِأَيْدِيهِمْ. أَخْبَرُوا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذَلِكَ فَقَالَ: (تِلْكَ الْمَلَائِكَةُ). (وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا)
__________
(1). أخفاء: جمع خفيف كطبيب وأطباء. وأراد بهم المتعجلين. والحسر: جمع حاسر كساجد وسجد. وهو من لا درع له ولا مغفر. أي ليس عليهم سلاح. والرشق (بالكسر): اسم للسهام التي ترميها الجماعة دفعة واحدة. والرجل (بالكسر): القطعة. وقوله (احمر البأس) أي اشتد الحرب. (راجع شرح النووي على صحيح مسلم كتاب المغازي).

(8/101)


أَيْ بِأَسْيَافِكُمْ. (وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ. ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَلَى مَنْ يَشَاءُ) أَيْ عَلَى مَنِ انْهَزَمَ فَيَهْدِيهِ إِلَى الْإِسْلَامِ. كَمَالِكِ بْنِ عَوْفٍ النَّصْرِيِّ رَئِيسِ حُنَيْنٍ وَمَنْ أسلم معه من قومه. الثانية- وَلَمَّا قَسَمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غنائم حنين بالجعرانة «1»، أتاه وفد هو ازن مُسْلِمِينَ رَاغِبِينَ فِي الْعَطْفِ عَلَيْهِمْ وَالْإِحْسَانِ إِلَيْهِمْ، وَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّكَ خَيْرُ النَّاسِ وَأَبَرُّ النَّاسِ، وَقَدْ أَخَذْتَ أَبْنَاءَنَا وَنِسَاءَنَا وَأَمْوَالَنَا. فَقَالَ لَهُمْ: (إِنِّي قَدْ كُنْتُ اسْتَأْنَيْتُ بِكُمْ وَقَدْ وَقَعَتِ الْمَقَاسِمُ وَعِنْدِي مَنْ تَرَوْنَ وَإِنَّ خَيْرَ الْقَوْلِ أَصْدَقُهُ فَاخْتَارُوا إِمَّا ذَرَارِيَكُمْ وَإِمَّا أَمْوَالَكُمْ (. فَقَالُوا: لَا نَعْدِلُ بِالْأَنْسَابِ شَيْئًا. فَقَامَ خَطِيبًا وَقَالَ:) هَؤُلَاءِ جَاءُونَا مُسْلِمِينَ وَقَدْ خَيَّرْنَاهُمْ فَلَمْ يَعْدِلُوا بِالْأَنْسَابِ فَرَضَوْا بِرَدِّ الذُّرِّيَّةِ وَمَا كَانَ لِي وَلِبَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ وَبَنِي هَاشِمٍ فَهُوَ لَهُمْ (. وَقَالَ الْمُهَاجِرُونَ وَالْأَنْصَارُ: أَمَّا مَا كَانَ لَنَا فَهُوَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَامْتَنَعَ الْأَقْرَعُ بْنُ حَابِسٍ وَعُيَيْنَةُ بْنُ حِصْنٍ فِي قَوْمِهِمَا مِنْ أَنْ يَرُدُّوا عَلَيْهِمْ شَيْئًا مِمَّا وَقَعَ لَهُمْ فِي سِهَامِهِمْ. وَامْتَنَعَ الْعَبَّاسُ بْنُ مِرْدَاسٍ السُّلَمِيُّ كَذَلِكَ، وَطَمِعَ أَنْ يُسَاعِدَهُ قَوْمُهُ كَمَا سَاعَدَ الْأَقْرَعَ وَعُيَيْنَةَ قَوْمُهُمَا. فَأَبَتْ بَنُو سُلَيْمٍ وَقَالُوا: بَلْ مَا كَانَ لَنَا فَهُوَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (مَنْ ضَنَّ مِنْكُمْ بِمَا فِي يَدَيْهِ فَإِنَّا نُعَوِّضُهُ مِنْهُ). فَرَدَّ عَلَيْهِمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نساء هم وَأَوْلَادَهُمْ، وَعَوَّضَ مَنْ لَمْ تَطِبْ نَفْسُهُ بِتَرْكِ نَصِيبِهِ أَعْوَاضًا رَضَوْا بِهَا. وَقَالَ قَتَادَةُ: ذُكِرَ لَنَا أَنَّ ظِئْرَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّتِي أَرْضَعَتْهُ مِنْ بَنِي سَعْدٍ أَتَتْهُ يَوْمَ حُنَيْنٍ فَسَأَلَتْهُ سَبَايَا حُنَيْنٍ. فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إِنِّي لَا أَمْلِكُ إِلَّا مَا يُصِيبُنِي مِنْهُمْ وَلَكِنِ ايِتِينِي غَدًا فَاسْأَلِينِي وَالنَّاسُ عِنْدِي فَإِذَا أَعْطَيْتُكِ حِصَّتِي أَعْطَاكِ النَّاسُ). فجاءت الغد فبسط لها ثوبه فأقعد ها عَلَيْهِ. ثُمَّ سَأَلَتْهُ فَأَعْطَاهَا نَصِيبَهُ فَلَمَّا رَأَى ذلك الناس أعطوها أنصباء هم. وكان عدد سبي هو زان فِي قَوْلِ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ سِتَّةَ آلَافِ رَأْسٍ. وَقِيلَ: أَرْبَعَةُ آلَافٍ قَالَ أَبُو عُمَرَ: فِيهِنَّ الشَّيْمَاءُ أُخْتُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الرَّضَاعَةِ، وَهِيَ بِنْتُ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الْعُزَّى مِنْ بَنِي سَعْدِ بْنِ بَكْرٍ [وَبِنْتُ] حَلِيمَةَ السَّعْدِيَّةِ، فَأَكْرَمَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَعْطَاهَا وَأَحْسَنَ إِلَيْهَا، وَرَجَعَتْ مسرورة
__________
(1). الجعرانة: موضع على سبعة أميال من مكة إلى الطائف.

(8/102)


يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (28)

إِلَى بِلَادِهَا بِدِينِهَا وَبِمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْهَا. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: رَأَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ أَوْطَاسٍ امْرَأَةً تَعْدُو وَتَصِيحُ وَلَا تَسْتَقِرُّ، فَسَأَلَ عَنْهَا فَقِيلَ: فَقَدَتْ بُنَيًّا لَهَا. ثُمَّ رَآهَا وَقَدْ وَجَدَتِ ابْنَهَا وَهِيَ تُقَبِّلُهُ وَتُدْنِيهِ، فَدَعَاهَا وَقَالَ لِأَصْحَابِهِ: (أَطَارِحَةٌ هَذِهِ وَلَدَهَا فِي النَّارِ)؟ قَالُوا: لَا. قَالَ: (لِمَ)؟ قَالُوا: لِشَفَقَتِهَا. قَالَ: (اللَّهُ أَرْحَمُ بِكُمْ منها). وخرجه مسلم بمعناه، والحمد لله.

[سورة التوبة (9): آية 28]
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هَذَا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شاءَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (28)
فِيهِ سَبْعُ مَسَائِلَ: الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ) ابْتِدَاءٌ وَخَبَرٌ. وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي مَعْنَى وَصْفِ الْمُشْرِكِ بالنجس، فقال قتادة ومعمر بن راشد وغير هما: لِأَنَّهُ جُنُبٌ إِذْ غُسْلُهُ مِنَ الْجَنَابَةِ لَيْسَ بِغُسْلٍ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ: بَلْ مَعْنَى الشِّرْكِ هُوَ الَّذِي نَجَّسَهُ. قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ مَنْ صَافَحَ مُشْرِكًا فَلْيَتَوَضَّأْ. وَالْمَذْهَبُ كُلُّهُ عَلَى إِيجَابِ الْغُسْلِ عَلَى الْكَافِرِ إِذَا أَسْلَمَ إِلَّا ابْنَ عَبْدِ الْحَكَمِ فَإِنَّهُ قَالَ: لَيْسَ بِوَاجِبٍ، لِأَنَّ الْإِسْلَامَ يَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهُ. وَبِوُجُوبِ الْغُسْلِ عَلَيْهِ قَالَ أَبُو ثَوْرٍ وَأَحْمَدُ. وَأَسْقَطَهُ الشَّافِعِيُّ وَقَالَ: أَحَبُّ إِلَيَّ أَنْ يَغْتَسِلَ. وَنَحْوُهُ لِابْنِ الْقَاسِمِ. وَلِمَالِكٍ قَوْلُ: إِنَّهُ لَا يَعْرِفُ الْغُسْلَ، رَوَاهُ عَنْهُ ابْنُ وَهْبٍ وَابْنُ أَبِي أُوَيْسٍ. وَحَدِيثُ ثُمَامَةَ وَقَيْسِ بْنِ عَاصِمٍ يَرُدُّ هَذِهِ الْأَقْوَالَ. رَوَاهُمَا أَبُو حَاتِمٍ الْبُسْتِيُّ فِي صَحِيحِ مُسْنَدِهِ. وَأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّ بِثُمَامَةَ يَوْمًا فَأَسْلَمَ فَبَعَثَ بِهِ إِلَى حَائِطِ «1» أَبِي طَلْحَةَ فَأَمَرَهُ أَنْ يَغْتَسِلَ، فَاغْتَسَلَ وَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (لَقَدْ حَسُنَ إِسْلَامُ صَاحِبِكُمْ) وأخرجه مسلم بمعناه. وفية: أن ثمامة
__________
(1). الحائط: البستان.

(8/103)


لَمَّا مَنَّ عَلَيْهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ انْطَلَقَ إِلَى نَخْلٍ قَرِيبٍ مِنَ الْمَسْجِدِ فاغتسل. وأمر قيس ابن عَاصِمٍ أَنْ يَغْتَسِلَ بِمَاءٍ وَسِدْرٍ. فَإِنْ كَانَ إِسْلَامُهُ قُبَيْلَ احْتِلَامِهِ فَغُسْلُهُ مُسْتَحَبٌّ. وَمَتَى أَسْلَمَ بَعْدَ بُلُوغِهِ لَزِمَهُ أَنْ يَنْوِيَ بِغُسْلِهِ الْجَنَابَةَ. هَذَا قَوْلُ عُلَمَائِنَا، وَهُوَ تَحْصِيلُ الْمَذْهَبِ. وَقَدْ أَجَازَ ابْنُ الْقَاسِمِ لِلْكَافِرِ أَنْ يَغْتَسِلَ قَبْلَ إِظْهَارِهِ لِلشَّهَادَةِ بِلِسَانِهِ إِذَا اعْتَقَدَ الْإِسْلَامَ بِقَلْبِهِ وَهُوَ قَوْلٌ ضَعِيفٌ فِي النَّظَرِ مُخَالِفٌ لِلْأَثَرِ. وَذَلِكَ أَنَّ أَحَدًا لَا يَكُونُ بِالنِّيَّةِ مُسْلِمًا دُونَ الْقَوْلِ. هَذَا قَوْلُ جَمَاعَةِ أَهْلِ السُّنَّةِ فِي الْإِيمَانِ: إِنَّهُ قَوْلٌ بِاللِّسَانِ وَتَصْدِيقٌ بِالْقَلْبِ، وَيَزْكُو بِالْعَمَلِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:" إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ «1» يَرْفَعُهُ" [فاطر: 01]. الثَّانِيَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ) " فَلَا يَقْرَبُوا" نَهْيٌ، وَلِذَلِكَ حُذِفَتْ مِنْهُ النُّونُ." الْمَسْجِدَ الْحَرامَ" هَذَا اللَّفْظُ يُطْلَقُ عَلَى جَمِيعِ الْحَرَمِ، وَهُوَ مَذْهَبُ عَطَاءٍ فَإِذًا يَحْرُمُ تَمْكِينُ الْمُشْرِكِ مِنْ دُخُولِ الْحَرَمِ أَجْمَعَ. فَإِذَا جَاءَنَا رَسُولٌ مِنْهُمْ خَرَجَ الْإِمَامُ إِلَى الْحِلِّ لِيَسْمَعَ مَا يَقُولُ. وَلَوْ دَخَلَ مُشْرِكٌ الْحَرَمَ مَسْتُورًا وَمَاتَ نُبِشَ قَبْرُهُ وَأُخْرِجَتْ عِظَامُهُ. فَلَيْسَ لَهُمُ الِاسْتِيطَانُ وَلَا الِاجْتِيَازُ. وَأَمَّا جَزِيرَةُ الْعَرَبِ، وَهِيَ مَكَّةُ وَالْمَدِينَةُ وَالْيَمَامَةُ وَالْيَمَنُ وَمَخَالِيفُهَا «2»، فَقَالَ مَالِكٌ: يُخْرَجُ مِنْ هَذِهِ الْمَوَاضِعِ كُلُّ مَنْ كَانَ عَلَى غَيْرِ الْإِسْلَامِ، وَلَا يُمْنَعُونَ مِنَ التَّرَدُّدِ بِهَا مُسَافِرِينَ. وَكَذَلِكَ قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ، غَيْرَ أَنَّهُ اسْتَثْنَى مِنْ ذَلِكَ الْيَمَنَ. وَيُضْرَبُ لَهُمْ أَجَلُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ كَمَا ضَرَبَهُ لَهُمْ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حِينَ أَجْلَاهُمْ. وَلَا يُدْفَنُونَ فِيهَا وَيُلْجَئُونَ إِلَى الْحِلِّ. الثَّالِثَةُ- وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي دُخُولِ الْكُفَّارِ الْمَسَاجِدَ وَالْمَسْجِدَ الْحَرَامَ عَلَى خَمْسَةِ أَقْوَالٍ، فَقَالَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ: الْآيَةُ عَامَّةٌ فِي سَائِرِ الْمُشْرِكِينَ وَسَائِرِ الْمَسَاجِدِ. وَبِذَلِكَ كتب عمر ابن عَبْدِ الْعَزِيزِ إِلَى عُمَّالِهِ وَنَزَعَ فِي كِتَابِهِ بِهَذِهِ الْآيَةِ. وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى:" فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ" «3» [النور: 36]. وَدُخُولُ الْكُفَّارِ فِيهَا مُنَاقِضٌ لِتَرْفِيعِهَا. وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ: (إِنَّ هَذِهِ الْمَسَاجِدَ لَا تَصْلُحُ لِشَيْءٍ مِنَ الْبَوْلِ وَالْقَذَرِ). الْحَدِيثَ. وَالْكَافِرُ لَا يخلو عن
__________
(1). راجع ج 14 ص 328.
(2). مخاليف جمع مخلاف، وهي قرى اليمن.
(3). راجع ج 12 ص 264.

(8/104)


ذَلِكَ. وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (لَا أُحِلُّ الْمَسْجِدَ لِحَائِضٍ وَلَا لِجُنُبٍ) وَالْكَافِرُ جُنُبٌ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى:" إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ" فَسَمَّاهُ اللَّهُ تَعَالَى نَجَسًا. فَلَا يَخْلُو أَنْ يَكُونَ نَجَسَ الْعَيْنِ أَوْ مُبْعَدًا مِنْ طَرِيقِ الْحُكْمِ. وَأَيُّ ذَلِكَ كَانَ فَمَنْعُهُ مِنَ الْمَسْجِدِ وَاجِبٌ لِأَنَّ الْعِلَّةَ وَهِيَ النَّجَاسَةُ مَوْجُودَةٌ فِيهِمْ، وَالْحُرْمَةُ مَوْجُودَةٌ فِي الْمَسْجِدِ. يُقَالُ: رَجُلٌ نَجَسٌ، وَامْرَأَةٌ نَجَسٌ، وَرَجُلَانِ نَجَسٌ، وَامْرَأَتَانِ نَجَسٌ، وَرِجَالٌ نَجَسٌ، وَنِسَاءٌ نَجَسٌ، لَا يُثَنَّى وَلَا يُجْمَعُ لِأَنَّهُ مَصْدَرٌ. فَأَمَّا النِّجْسُ (بِكَسْرِ النُّونِ وَجَزْمِ الْجِيمِ) فَلَا يُقَالُ إِلَّا إِذَا قِيلَ مَعَهُ رِجْسٌ. فَإِذَا أُفْرِدَ قِيلَ نَجِسٌ (بِفَتْحِ النُّونِ وَكَسْرِ الْجِيمِ) وَنَجُسٌ (بِضَمِّ الْجِيمِ). وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: الْآيَةُ عَامَّةٌ فِي سَائِرِ الْمُشْرِكِينَ، خَاصَّةً فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَلَا يُمْنَعُونَ مِنْ دُخُولِ غَيْرِهِ، فَأَبَاحَ دُخُولَ الْيَهُودِيِّ وَالنَّصْرَانِيِّ فِي سَائِرِ الْمَسَاجِدِ. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَهَذَا جُمُودٌ مِنْهُ عَلَى الظَّاهِرِ، لِأَنَّ قَوْلَهُ عَزَّ وَجَلَّ:" إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ" تَنْبِيهٌ عَلَى الْعِلَّةِ بِالشِّرْكِ وَالنَّجَاسَةِ. فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ رَبَطَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَامَةَ فِي الْمَسْجِدِ وَهُوَ مُشْرِكٌ. قِيلَ لَهُ: أَجَابَ عُلَمَاؤُنَا عَنْ هَذَا الْحَدِيثِ- وَإِنْ كَانَ صَحِيحًا- بِأَجْوِبَةٍ: أَحَدُهَا- أَنَّهُ كَانَ مُتَقَدِّمًا عَلَى نُزُولِ الْآيَةِ. الثَّانِي- أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ قَدْ عَلِمَ بِإِسْلَامِهِ فَلِذَلِكَ رَبَطَهُ. الثَّالِثُ- أَنَّ ذَلِكَ قَضِيَّةٌ فِي عَيْنٍ فَلَا يَنْبَغِي أَنْ تُدْفَعَ بِهَا الْأَدِلَّةُ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا، لِكَوْنِهَا مُقَيِّدَةً حُكْمَ الْقَاعِدَةِ الْكُلِّيَّةِ. وَقَدْ يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّمَا رَبَطَهُ فِي الْمَسْجِدِ لِيَنْظُرَ حُسْنَ صَلَاةِ الْمُسْلِمِينَ وَاجْتِمَاعَهُمْ عَلَيْهَا، وحسن آدا بهم فِي جُلُوسِهِمْ فِي الْمَسْجِدِ، فَيَسْتَأْنِسُ بِذَلِكَ وَيُسْلِمُ، وَكَذَلِكَ كَانَ. وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُمْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ مَوْضِعٌ يَرْبِطُونَهُ فِيهِ إِلَّا فِي الْمَسْجِدِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ: لَا يُمْنَعُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى مِنْ دُخُولِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَلَا غَيْرِهِ، وَلَا يُمْنَعُ دُخُولُ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَّا الْمُشْرِكُونَ وَأَهْلُ الْأَوْثَانِ. وَهَذَا قَوْلٌ يَرُدُّهُ كُلُّ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ الْآيَةِ وَغَيْرِهَا. قَالَ الْكِيَا الطَّبَرِيُّ: وَيَجُوزُ لِلذِّمِّيِّ دُخُولُ سَائِرِ الْمَسَاجِدِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ. وقال الشافعي: تعتبر الحاجة، ومع الْحَاجَةِ لَا يَجُوزُ دُخُولُ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ. وَقَالَ عَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ: الْحَرَمُ كُلُّهُ قِبْلَةٌ وَمَسْجِدٌ، فَيَنْبَغِي أَنْ يُمْنَعُوا مِنْ دُخُولِ

(8/105)


الْحَرَمِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى:" سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ" «1» [الاسراء: 1]. وَإِنَّمَا رُفِعَ مِنْ بَيْتِ أُمِّ هَانِئٍ. وَقَالَ قَتَادَةُ: لَا يَقْرَبُ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ مُشْرِكٌ إِلَّا أَنْ يَكُونَ صَاحِبَ جِزْيَةٍ أَوْ عَبْدًا كَافِرًا لِمُسْلِمٍ. وَرَوَى إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِسْحَاقَ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ عَبْدِ الْحَمِيدِ قَالَ حَدَّثَنَا شَرِيكٌ عَنْ أَشْعَثَ عَنِ الْحَسَنِ عَنْ جَابِرٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (لَا يَقْرُبُ الْمَسْجِدَ مُشْرِكٌ إِلَّا أَنْ يَكُونَ عَبْدًا أَوْ أَمَةً فَيَدْخُلُهُ لِحَاجَةٍ). وَبِهَذَا قَالَ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ فَإِنَّهُ قَالَ: الْعُمُومُ يَمْنَعُ الْمُشْرِكَ عَنْ قُرْبَانِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَهُوَ مَخْصُوصٌ فِي الْعَبْدِ وَالْأَمَةِ. الرَّابِعَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (بَعْدَ عامِهِمْ هذا) فيه قولان: أحد هما- أَنَّهُ سَنَةَ تِسْعٍ الَّتِي حَجَّ فِيهَا أَبُو بَكْرٍ. الثَّانِي- سَنَةَ عَشْرٍ قَالَهُ قَتَادَةُ. ابْنُ الْعَرَبِيِّ:" وَهُوَ الصَّحِيحُ الَّذِي يُعْطِيهِ مُقْتَضَى اللَّفْظِ وَإِنَّ مِنَ الْعَجَبِ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ سَنَةَ تِسْعٍ وَهُوَ الْعَامُ الَّذِي وَقَعَ فِيهِ الْأَذَانُ. وَلَوْ دَخَلَ غُلَامُ رَجُلٍ دَارَهُ يَوْمًا فَقَالَ لَهُ مَوْلَاهُ: لَا تَدْخُلْ هَذِهِ الدَّارَ بَعْدَ يَوْمِكَ لَمْ يَكُنِ الْمُرَادُ الْيَوْمَ الَّذِي دَخَلَ فيه". الخامسة- قوله تعالى: (وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً) قَالَ عَمْرُو بْنُ فَائِدٍ: الْمَعْنَى وَإِذْ خِفْتُمْ. وَهَذِهِ عُجْمَةٌ، وَالْمَعْنَى بَارِعٌ بِ"- إِنْ". وَكَانَ الْمُسْلِمُونَ لَمَّا مَنَعُوا الْمُشْرِكِينَ مِنَ الْمَوْسِمِ وَهُمْ كَانُوا يَجْلِبُونَ الْأَطْعِمَةَ وَالتِّجَارَاتِ، قَذَفَ الشَّيْطَانُ فِي قُلُوبِهِمُ الْخَوْفَ مِنَ الْفَقْرِ وَقَالُوا: مِنْ أَيْنَ نَعِيشُ. فَوَعَدَهُمُ اللَّهُ أَنْ يُغْنِيَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ. قَالَ الضَّحَّاكُ: فَفَتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ بَابَ الْجِزْيَةِ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ بِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ:" قاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ" [التوبة: 29] الْآيَةَ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ: أَغْنَاهُمُ اللَّهُ بِإِدْرَارِ الْمَطَرِ وَالنَّبَاتِ وَخِصْبِ الْأَرْضِ. فَأَخْصَبَتْ تَبَالَةُ «2» وَجُرَشُ وَحَمَلُوا إِلَى مَكَّةَ الطَّعَامَ وَالْوَدَكَ «3» وَكَثُرَ الْخَيْرُ. وَأَسْلَمَتِ الْعَرَبُ: أَهْلُ نَجْدٍ وَصَنْعَاءَ وَغَيْرُهُمْ فَتَمَادَى حَجُّهُمْ وَتَجْرُهُمْ. وَأَغْنَى اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ بِالْجِهَادِ وَالظُّهُورِ عَلَى الْأُمَمِ. وَالْعَيْلَةُ: الْفَقْرُ. يُقَالُ: عَالَ الرَّجُلُ يَعِيلُ إِذَا افْتَقَرَ. قَالَ الشَّاعِرِ «4»:
وَمَا يَدْرِي الْفَقِيرُ مَتَى غِنَاهُ ... وَمَا يَدْرِي الْغَنِيُّ مَتَى يعيل
__________
(1). راجع ج 10 ص 204. [ ..... ]
(2). تبالة: بلد باليمن خصبة. وجرش كزفر من مخاليف اليمن.
(3). الودك: هو دسم اللحم ودهنه الذي يستخرج منه.
(4). هو أحيحة كما في اللسان.

(8/106)


وَقَرَأَ عَلْقَمَةُ وَغَيْرُهُ مِنْ أَصْحَابِ ابْنِ مَسْعُودٍ" عَائِلَةً" وَهُوَ مَصْدَرٌ كَالْقَائِلَةِ مِنْ قَالَ يَقِيلُ. وَكَالْعَافِيَةِ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ نَعْتًا لِمَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ: حَالًا عَائِلَةً، وَمَعْنَاهُ خَصْلَةٌ شَاقَّةٌ. يُقَالُ مِنْهُ: عَالَنِي الْأَمْرُ يَعُولُنِي: أَيْ شَقَّ عَلَيَّ وَاشْتَدَّ. وَحَكَى الطَّبَرِيُّ أَنَّهُ يُقَالُ: عَالَ يَعُولُ إِذَا افْتَقَرَ. السَّادِسَةُ- فِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ تَعَلُّقَ الْقَلْبِ بِالْأَسْبَابِ فِي الرِّزْقِ جَائِزٌ وَلَيْسَ ذَلِكَ بِمُنَافٍ لِلتَّوَكُّلِ وَإِنْ كَانَ الرِّزْقُ مُقَدَّرًا وَأَمْرُ اللَّهِ وَقَسْمُهُ مَفْعُولًا وَلَكِنَّهُ عَلَّقَهُ بِالْأَسْبَابِ حِكْمَةً لِيَعْلَمَ الْقُلُوبَ الَّتِي تَتَعَلَّقُ بِالْأَسْبَابِ مِنَ الْقُلُوبِ الَّتِي تَتَوَكَّلُ عَلَى رَبِّ الْأَرْبَابِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ السَّبَبَ لَا يُنَافِي التَّوَكُّلَ. قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (لَوْ تَوَكَّلْتُمْ عَلَى اللَّهِ حَقَّ تَوَكُّلِهِ لَرَزَقَكُمْ كَمَا يَرْزُقُ الطَّيْرَ تَغْدُو خِمَاصًا وَتَرُوحُ بِطَانًا) «1». أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ. فَأَخْبَرَ أَنَّ التَّوَكُّلَ الْحَقِيقِيَّ لَا يُضَادُّهُ الْغُدُوُّ وَالرَّوَاحُ فِي طَلَبِ الرِّزْقِ. ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَلَكِنَّ شُيُوخَ الصُّوفِيَّةِ قَالُوا: إِنَّمَا يَغْدُو وَيَرُوحُ فِي الطَّاعَاتِ فَهُوَ [السَّبَبُ «2»] الَّذِي يَجْلِبُ الرِّزْقَ". قَالُوا: وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَمْرَانِ: أَحَدُهُمَا- قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْها لا نَسْئَلُكَ رِزْقاً نَحْنُ نَرْزُقُكَ" «3» [طه: 132] الثَّانِي- قَوْلُهُ تَعَالَى:" إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ" «4» [فاطر: 10]. فَلَيْسَ يُنْزِلُ الرِّزْقَ مِنْ مَحَلِّهِ، وَهُوَ السَّمَاءُ، إِلَّا مَا يَصْعَدُ وَهُوَ الذِّكْرُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ وَلَيْسَ بِالسَّعْيِ فِي الْأَرْضِ فَإِنَّهُ لَيْسَ فِيهَا رِزْقٌ. وَالصَّحِيحُ مَا أَحْكَمَتْهُ السُّنَّةُ عِنْدَ فُقَهَاءِ الظَّاهِرِ وَهُوَ الْعَمَلُ بِالْأَسْبَابِ الدُّنْيَوِيَّةِ مِنَ الْحَرْثِ وَالتِّجَارَةِ فِي الْأَسْوَاقِ وَالْعِمَارَةِ لِلْأَمْوَالِ وَغَرْسِ الثِّمَارِ. وَقَدْ كَانَتِ الصَّحَابَةُ تَفْعَلُ ذَلِكَ وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بين أظهر هم. قَالَ أَبُو الْحَسَنِ بْنُ بَطَّالٍ: أَمَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ عِبَادَهُ بِالْإِنْفَاقِ مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبُوا، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيِ. وَقَالَ:" فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ" «5» [البقرة: 173]. فأحل للمضطر
__________
(1). الخمص والمخمصة: الجوع. والبطنة: امتلاء البطن من الطعام. أي تغدو بكرة وهي جياع وتروح عشية وهي ممتلئة الأجواف.
(2). زيادة عن ابن العربي.
(3). راجع ج 11 ص 263.
(4). راجع ص 104 من هذا الجزء.
(5). راجع ج 2 ص 216.

(8/107)


مَا كَانَ حَرُمَ عَلَيْهِ عِنْدَ عَدَمِهِ لِلْغِذَاءِ الَّذِي أَمَرَهُ بِاكْتِسَابِهِ وَالِاغْتِذَاءِ بِهِ، وَلَمْ يَأْمُرْهُ بِانْتِظَارِ طَعَامٍ يَنْزِلُ عَلَيْهِ مِنَ السَّمَاءِ، وَلَوْ تَرَكَ السَّعْيَ فِي تَرْكِ مَا يَتَغَذَّى بِهِ لَكَانَ لِنَفْسِهِ قَاتِلًا. وَقَدْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَلَوَّى مِنَ الْجُوعِ مَا يَجِدُ مَا يَأْكُلُهُ، وَلَمْ يَنْزِلْ عَلَيْهِ طَعَامٌ مِنَ السَّمَاءِ، وَكَانَ يَدَّخِرُ لِأَهْلِهِ قُوتَ سَنَتِهِ حَتَّى فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْفُتُوحَ. وَقَدْ رَوَى أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ أَنَّ رَجُلًا أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِبَعِيرٍ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَعْقِلُهُ وَأَتَوَكَّلُ أَوْ أُطْلِقُهُ وَأَتَوَكَّلُ؟ قَالَ: (اعْقِلْهُ وَتَوَكَّلْ). قُلْتُ: وَلَا حُجَّةَ لَهُمْ فِي أَهْلِ الصُّفَّةِ، فَإِنَّهُمْ كَانُوا فُقَرَاءَ يَقْعُدُونَ فِي الْمَسْجِدِ مَا يَحْرُثُونَ وَلَا يَتَّجِرُونَ، لَيْسَ لَهُمْ كَسْبٌ وَلَا مَالٌ، إِنَّمَا هُمْ أَضْيَافُ الْإِسْلَامِ عِنْدَ ضِيقِ الْبُلْدَانِ، وَمَعَ ذَلِكَ فَإِنَّهُمْ كَانُوا يَحْتَطِبُونَ بِالنَّهَارِ وَيَسُوقُونَ الْمَاءَ إِلَى بَيْتُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَيَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ بِاللَّيْلِ وَيُصَلُّونَ. هَكَذَا وَصَفَهُمِ الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ. فَكَانُوا يَتَسَبَّبُونَ. وَكَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا جَاءَتْهُ هَدِيَّةٌ أَكَلَهَا مَعَهُمْ، وَإِنْ كَانَتْ صَدَقَةً خَصَّهُمْ بِهَا، فَلَمَّا كَثُرَ الْفَتْحُ وَانْتَشَرَ الْإِسْلَامُ خَرَجُوا وَتَأَمَّرُوا- كَأَبِي هُرَيْرَةَ وَغَيْرِهِ- وَمَا قَعَدُوا. ثُمَّ قِيلَ: الْأَسْبَابُ الَّتِي يُطْلَبُ بِهَا الرِّزْقُ سِتَّةُ أَنْوَاعٍ: أَعْلَاهَا كَسْبُ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: (جُعِلَ رِزْقِي تَحْتَ ظِلِّ رُمْحِي وَجُعِلَ الذِّلَّةُ وَالصَّغَارُ عَلَى مَنْ خَالَفَ أَمْرِي). خَرَّجَهُ التِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ. فَجَعَلَ اللَّهُ رِزْقَ نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي كَسْبِهِ لِفَضْلِهِ، وَخَصَّهُ بِأَفْضَلِ أَنْوَاعِ الْكَسْبِ، وَهُوَ أَخْذُ الْغَلَبَةِ وَالْقَهْرِ لِشَرَفِهِ. الثَّانِي- أَكْلُ الرَّجُلِ مِنْ عَمَلِ يَدِهِ، قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إِنَّ أَطْيَبَ مَا أَكَلَ الرَّجُلَ مِنْ عَمَلِ يَدِهِ وَإِنَّ نَبِيَّ اللَّهِ دَاوُدَ كَانَ يَأْكُلُ مِنْ عَمَلِ يَدِهِ) خَرَّجَهُ الْبُخَارِيُّ. وَفِي التَّنْزِيلِ" وَعَلَّمْناهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ" «1» [الأنبياء: 80]، وَرُوِيَ أَنَّ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ يَأْكُلُ مِنْ غَزْلِ أُمِّهِ. الثَّالِثُ- التِّجَارَةُ، وَهِيَ كَانَتْ عَمَلَ جُلِّ الصَّحَابَةِ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ، وَخَاصَّةً الْمُهَاجِرِينَ، وَقَدْ دَلَّ عَلَيْهَا التَّنْزِيلُ فِي غَيْرِ موضع.
__________
(1). راجع ج 11 ص 320.

(8/108)


قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ (29)

الرَّابِعُ- الْحَرْثُ وَالْغَرْسُ. وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي سُورَةِ" الْبَقَرَةِ" «1» الْخَامِسُ- إِقْرَاءُ الْقُرْآنِ وَتَعْلِيمُهُ وَالرُّقْيَةُ، وَقَدْ مَضَى فِي الْفَاتِحَةِ «2». السَّادِسُ- يَأْخُذُ بِنِيَّةِ الْأَدَاءِ إِذَا احْتَاجَ، قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (مَنْ أَخَذَ أَمْوَالَ النَّاسِ يُرِيدُ أَدَاءَهَا أَدَّى اللَّهُ عَنْهُ، وَمَنْ أَخَذَهَا يُرِيدُ إِتْلَافَهَا أَتْلَفَهُ اللَّهُ (. خَرَّجَهُ الْبُخَارِيُّ. رَوَاهُ أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. السَّابِعَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى:) إِنْ شَاءَ) دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الرِّزْقَ لَيْسَ بِالِاجْتِهَادِ، وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ تَوَلَّى قِسْمَتَهُ بَيْنَ عِبَادِهِ وَذَلِكَ بَيِّنٌ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:" نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا" «3» [الزخرف: 32] الآية.

[سورة التوبة (9): آية 29]
قاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صاغِرُونَ (29)
فيه خمس مَسْأَلَةً: الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى: (قاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ) لَمَّا حَرَّمَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى الْكُفَّارِ أَنْ يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ، وَجَدَ الْمُسْلِمُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ بِمَا قُطِعَ عَنْهُمْ مِنَ التِّجَارَةِ الَّتِي كَانَ الْمُشْرِكُونَ يُوَافُونَ بِهَا، قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ:" وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً" [التوبة: 28] الْآيَةَ. عَلَى مَا تَقَدَّمَ. ثُمَّ أَحَلَّ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْجِزْيَةَ وَكَانَتْ لَمْ تُؤْخَذْ قَبْلَ ذَلِكَ، فَجَعَلَهَا عِوَضًا مِمَّا مَنَعَهُمْ مِنْ مُوَافَاةِ الْمُشْرِكِينَ بِتِجَارَتِهِمْ. فَقَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ:" قاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ" الْآيَةَ. فَأَمَرَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بِمُقَاتَلَةِ جَمِيعِ الْكُفَّارِ لِإِصْفَاقِهِمْ «4» عَلَى هَذَا الْوَصْفِ، وَخَصَّ أَهْلَ الْكِتَابِ بِالذِّكْرِ إِكْرَامًا لِكِتَابِهِمْ، وَلِكَوْنِهِمْ عَالِمِينَ بِالتَّوْحِيدِ وَالرُّسُلِ
__________
(1). راجع ج 3 ص 17.
(2). راجع ج 1 ص 112، 13 1.
(3). راجع ج 16 ص 82.
(4). أصفق القوم على أمر واحد: أجمعوا عليه.

(8/109)


وَالشَّرَائِعِ وَالْمِلَلِ، وَخُصُوصًا ذِكْرَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمِلَّتَهُ وَأُمَّتَهُ. فَلَمَّا أَنْكَرُوهُ تَأَكَّدَتْ عَلَيْهِمُ الْحُجَّةُ وَعَظُمَتْ مِنْهُمُ الْجَرِيمَةُ، فَنَبَّهَ عَلَى مَحَلِّهِمْ ثُمَّ جَعَلَ لِلْقِتَالِ غَايَةً وَهِيَ إِعْطَاءُ الْجِزْيَةِ بَدَلًا عَنِ الْقَتْلِ. وَهُوَ الصَّحِيحُ. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: سَمِعْتُ أَبَا الْوَفَاءِ عَلِيَّ بْنَ عَقِيلٍ فِي مَجْلِسِ النَّظَرِ يَتْلُوهَا وَيَحْتَجُّ بِهَا. فَقَالَ:" قاتِلُوا" وَذَلِكَ أَمْرٌ بِالْعُقُوبَةِ. ثُمَّ قَالَ:" الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ" وَذَلِكَ بَيَانٌ لِلذَّنْبِ الَّذِي أَوْجَبَ الْعُقُوبَةَ. وَقَوْلُهُ:" وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ" تَأْكِيدٌ لِلذَّنْبِ فِي جَانِبِ الِاعْتِقَادِ. ثُمَّ قَالَ:" وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ" زِيَادَةٌ لِلذَّنْبِ فِي مُخَالَفَةِ الْأَعْمَالِ. ثُمَّ قَالَ:" وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ" إِشَارَةٌ إِلَى تَأْكِيدِ الْمَعْصِيَةِ بِالِانْحِرَافِ وَالْمُعَانَدَةِ وَالْأَنَفَةِ عَنِ الِاسْتِسْلَامِ. ثُمَّ قَالَ:" مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ" تَأْكِيدٌ لِلْحُجَّةِ، لِأَنَّهُمْ كَانُوا يجدونه مكتوبا عند هم فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ. ثُمَّ قَالَ:" حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ" فَبَيَّنَ الْغَايَةَ الَّتِي تَمْتَدُّ إِلَيْهَا الْعُقُوبَةُ وَعَيَّنَ الْبَدَلَ الَّذِي تَرْتَفِعُ بِهِ. الثَّانِيَةُ- وَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِيمَنْ تُؤْخَذُ مِنْهُ الْجِزْيَةُ، قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: لَا تُقْبَلُ الْجِزْيَةُ إِلَّا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ خَاصَّةً عَرَبًا كَانُوا أَوْ عَجَمًا لِهَذِهِ الْآيَةِ، فَإِنَّهُمْ هُمُ الَّذِينَ خُصُّوا بِالذِّكْرِ فَتَوَجَّهَ الْحُكْمُ إِلَيْهِمْ دُونَ من سوا هم لِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ:" فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ" «1» [التوبة: 5]. وَلَمْ يَقُلْ: حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ كَمَا قَالَ فِي أَهْلِ الْكِتَابِ. وَقَالَ: وَتُقْبَلُ مِنَ الْمَجُوسِ بِالسُّنَّةِ «2»، وَبِهِ قَالَ أَحْمَدُ وَأَبُو ثَوْرٍ. وَهُوَ مَذْهَبُ الثَّوْرِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَأَصْحَابِهِ. وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: تُؤْخَذُ الْجِزْيَةُ مِنْ كُلِّ عَابِدِ وَثَنٍ أَوْ نَارٍ أَوْ جَاحِدٍ أَوْ مُكَذِّبٍ. وَكَذَلِكَ مَذْهَبُ مالك، فإنه رأى أن الْجِزْيَةَ تُؤْخَذُ مِنْ جَمِيعِ أَجْنَاسِ الشِّرْكِ وَالْجَحْدِ، عَرَبِيًّا أَوْ عَجَمِيًّا، تَغْلِبِيًّا أَوْ قُرَشِيًّا، كَائِنًا مَنْ كَانَ، إِلَّا الْمُرْتَدَّ. وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ وَأَشْهَبُ وَسَحْنُونُ: تُؤْخَذُ الْجِزْيَةُ مِنْ مَجُوسِ الْعَرَبِ وَالْأُمَمِ كُلِّهَا. وَأَمَّا عَبَدَةُ الْأَوْثَانِ مِنَ الْعَرَبِ فَلَمْ يَسْتَنَّ اللَّهُ فِيهِمْ جِزْيَةً، وَلَا يَبْقَى عَلَى الْأَرْضِ مِنْهُمْ أَحَدٌ، وَإِنَّمَا لَهُمُ الْقِتَالُ أَوِ الْإِسْلَامُ. وَيُوجَدُ لِابْنِ الْقَاسِمِ: أَنَّ الْجِزْيَةَ تُؤْخَذُ مِنْهُمْ، كَمَا يَقُولُ مَالِكٌ. وَذَلِكَ فِي التَّفْرِيعِ لِابْنِ الْجَلَّابِ وَهُوَ احْتِمَالٌ لَا نَصٌّ. وقال ابن وهب:
__________
(1). راجع ص 72 من هذا الجزء. [ ..... ]
(2). لقوله عليه الصلاة والسلام:" سنوا بهم سنة أهل الكتاب".

(8/110)


لَا تُقْبَلُ الْجِزْيَةُ مِنْ مَجُوسِ الْعَرَبِ وَتُقْبَلُ مِنْ غَيْرِهِمْ. قَالَ: لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي الْعَرَبِ مَجُوسِيٌّ إِلَّا وَجَمِيعُهُمْ أَسْلَمَ، فَمَنْ وُجِدَ مِنْهُمْ بِخِلَافِ الْإِسْلَامِ فَهُوَ مُرْتَدٌّ، يُقْتَلُ بِكُلِّ حَالٍ إِنْ لَمْ يُسْلِمْ وَلَا تُقْبَلُ مِنْهُمْ جِزْيَةٌ. وَقَالَ ابْنُ الْجَهْمِ: تُقْبَلُ الْجِزْيَةُ مِنْ كُلِّ مَنْ دَانَ بِغَيْرِ الْإِسْلَامِ إِلَّا مَا أُجْمِعَ عَلَيْهِ مِنْ كُفَّارِ قُرَيْشٍ. وَذَكَرَ فِي تَعْلِيلِ ذَلِكَ أَنَّهُ إِكْرَامٌ لَهُمْ عَنِ الذِّلَّةِ وَالصَّغَارِ، لِمَكَانِهِمْ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَالَ غَيْرُهُ: إِنَّمَا ذَلِكَ لِأَنَّ جَمِيعَهُمْ أَسْلَمَ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الثَّالِثَةُ- وَأَمَّا الْمَجُوسُ فَقَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: لَا أَعْلَمُ خِلَافًا أَنَّ الْجِزْيَةَ تُؤْخَذُ مِنْهُمْ. وَفِي الْمُوَطَّإِ: مَالِكٌ عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ ذَكَرَ أَمْرَ الْمَجُوسِ فَقَالَ: مَا أَدْرِي كَيْفَ أَصْنَعُ فِي أَمْرِهِمْ. فَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ: أَشْهَدُ لَسَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: (سُنُّوا بِهِمْ سُنَّةَ أَهْلِ الْكِتَابِ). قَالَ أَبُو عُمَرَ: يَعْنِي فِي الْجِزْيَةِ خَاصَّةً. وَفِي قَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (سُنُّوا بِهِمْ سُنَّةَ أَهْلِ الْكِتَابِ) دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُمْ لَيْسُوا أَهْلَ كِتَابٍ. وَعَلَى هَذَا جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ. وَقَدْ رُوِيَ عَنِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُمْ كَانُوا أَهْلَ كِتَابٍ فَبَدَّلُوا. وَأَظُنُّهُ ذَهَبَ فِي ذَلِكَ إِلَى شي رُوِيَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مِنْ وَجْهٍ فِيهِ ضَعْفٌ، يَدُورُ عَلَى أَبِي سَعِيدٍ الْبَقَّالِ، ذَكَرَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَغَيْرُهُ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَرُوِيَ أَنَّهُ قَدْ كَانَ بُعِثَ فِي الْمَجُوسِ نَبِيٌّ اسْمُهُ زَرَادِشْتُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الرَّابِعَةُ- لَمْ يَذْكُرِ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فِي كِتَابِهِ مِقْدَارًا لِلْجِزْيَةِ الْمَأْخُوذَةِ مِنْهُمْ. وَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي مِقْدَارِ الْجِزْيَةِ الْمَأْخُوذَةِ مِنْهُمْ، فَقَالَ عَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ: لَا تَوْقِيتَ فِيهَا، وَإِنَّمَا هُوَ عَلَى مَا صُولِحُوا عَلَيْهِ. وَكَذَلِكَ قَالَ يَحْيَى بْنُ آدَمَ وَأَبُو عُبَيْدٍ وَالطَّبَرِيُّ، إِلَّا أَنَّ الطَّبَرِيَّ قَالَ: أَقَلُّهُ دِينَارٌ وَأَكْثَرُهُ لَا حَدَّ لَهُ. وَاحْتَجُّوا بِمَا رَوَاهُ أَهْلُ الصَّحِيحِ عَنْ عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ: أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَالَحَ أَهْلَ الْبَحْرَيْنِ عَلَى الْجِزْيَةِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: دِينَارٌ عَلَى الْغَنِيِّ وَالْفَقِيرِ مِنَ الْأَحْرَارِ الْبَالِغِينَ لا ينقص منه شي وَاحْتَجَّ بِمَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَغَيْرُهُ عَنْ مُعَاذٍ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَهُ إِلَى الْيَمَنِ وَأَمَرَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ كُلِّ حَالِمٍ

(8/111)


دِينَارًا فِي الْجِزْيَةِ. قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَهُوَ الْمُبَيِّنُ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى مُرَادَهُ. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي ثَوْرٍ. قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَإِنْ صُولِحُوا عَلَى أَكْثَرِ مِنْ دِينَارٍ جَازَ، وَإِنْ زَادُوا وَطَابَتْ بِذَلِكَ أَنْفُسُهُمْ قُبِلَ مِنْهُمْ. وَإِنْ صُولِحُوا عَلَى ضِيَافَةِ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ جَازَ، إِذَا كَانَتِ الضِّيَافَةُ مَعْلُومَةً فِي الْخُبْزِ وَالشَّعِيرِ وَالتِّبْنِ «1» وَالْإِدَامِ، وَذَكَرَ مَا عَلَى الْوَسَطِ مِنْ ذَلِكَ وَمَا عَلَى الْمُوسِرِ وَذَكَرَ مَوْضِعَ النُّزُولِ وَالْكِنَّ مِنَ الْبَرْدِ وَالْحَرِّ. وَقَالَ مَالِكٌ فِيمَا رَوَاهُ عَنْهُ ابْنُ الْقَاسِمِ وَأَشْهَبُ وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ زَنْجَوَيْهِ: إِنَّهَا أَرْبَعَةُ دَنَانِيرَ عَلَى أَهْلِ الذَّهَبِ وَأَرْبَعُونَ دِرْهَمًا عَلَى أَهْلِ الْوَرِقِ، الْغَنِيُّ وَالْفَقِيرُ سَوَاءٌ وَلَوْ كَانَ مَجُوسِيًّا. لَا يُزَادُ وَلَا يُنْقَصُ عَلَى مَا فَرَضَ عُمَرُ لَا يُؤْخَذُ مِنْهُمْ غَيْرُهُ. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ الضَّعِيفَ يُخَفَّفُ عَنْهُ بِقَدْرِ مَا يَرَاهُ الْإِمَامُ. وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: لَا يُنْقَصُ مِنْ فَرْضِ عُمَرَ لِعُسْرٍ وَلَا يُزَادُ عَلَيْهِ لِغِنًى. قَالَ أَبُو عُمَرَ: وَيُؤْخَذُ مِنْ فُقَرَائِهِمْ بِقَدْرِ مَا يَحْتَمِلُونَ وَلَوْ دِرْهَمًا. وَإِلَى هَذَا رَجَعَ مَالِكٌ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ: اثْنَا عَشَرَ، وَأَرْبَعَةٌ وَعِشْرُونَ، وَأَرْبَعُونَ. قَالَ الثَّوْرِيُّ: جَاءَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فِي ذَلِكَ ضَرَائِبُ مُخْتَلِفَةٌ، فَلِلْوَالِي أَنْ يَأْخُذَ بِأَيِّهَا شَاءَ، إِذَا كَانُوا أَهْلَ ذِمَّةٍ. وَأَمَّا أَهْلُ الصُّلْحِ فَمَا صُولِحُوا عَلَيْهِ لَا غَيْرَ. الْخَامِسَةُ- قَالَ عُلَمَاؤُنَا رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ: وَالَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ أَنَّ الْجِزْيَةَ تُؤْخَذُ مِنَ الرِّجَالِ الْمُقَاتِلِينَ، لِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ:" قاتِلُوا الَّذِينَ" إِلَى قَوْلِهِ:" حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ" فيقتضي ذلك وجو بها عَلَى مَنْ يُقَاتِلُ. وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ عَلَى الْعَبْدِ وَإِنْ كَانَ مُقَاتِلًا، لِأَنَّهُ لَا مَالَ لَهُ، وَلِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ:" حَتَّى يُعْطُوا". وَلَا يُقَالُ لِمَنْ لَا يَمْلِكُ حَتَّى يُعْطِيَ. وَهَذَا إِجْمَاعٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّ الْجِزْيَةَ إِنَّمَا تُوضَعُ عَلَى جَمَاجِمِ الرِّجَالِ الْأَحْرَارِ الْبَالِغِينَ، وَهُمُ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ دُونَ النِّسَاءِ وَالذُّرِّيَّةِ وَالْعَبِيدِ وَالْمَجَانِينَ الْمَغْلُوبِينَ عَلَى عُقُولِهِمْ وَالشَّيْخِ الْفَانِي. وَاخْتُلِفَ فِي الرُّهْبَانِ، فَرَوَى ابْنُ وَهْبٍ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهَا لَا تُؤْخَذُ مِنْهُمْ. قَالَ مُطَرِّفٌ وَابْنُ الْمَاجِشُونَ: هَذَا إِذَا لَمْ يَتَرَهَّبْ بَعْدَ فَرْضِهَا فَإِنْ
فُرِضَتْ ثُمَّ تَرَهَّبَ لَمْ يُسْقِطْهَا تَرَهُّبُهُ. السَّادِسَةُ- إِذَا أَعْطَى أَهْلُ الْجِزْيَةِ الْجِزْيَةَ لَمْ يؤخذ منهم شي من ثمار هم وَلَا تِجَارَتِهِمْ وَلَا زُرُوعِهِمْ إِلَّا أَنْ يَتَّجِرُوا فِي بِلَادٍ غَيْرِ بِلَادِهِمُ الَّتِي أُقِرُّوا فِيهَا وصولحوا عليها. فإن خرجوا
__________
(1). كذا في ب، ج، هـ، ى. وفي ك: التين.

(8/112)


تُجَّارًا عَنْ بِلَادِهِمُ الَّتِي أُقِرُّوا فِيهَا إِلَى غير ها أُخِذَ مِنْهُمُ الْعُشْرُ إِذَا بَاعُوا وَنَضَّ «1» ثَمَنُ ذَلِكَ بِأَيْدِيهِمْ وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ فِي السَّنَةِ مِرَارًا إِلَّا فِي حَمْلِهِمُ الطَّعَامَ الْحِنْطَةَ وَالزَّيْتَ إِلَى الْمَدِينَةِ وَمَكَّةَ خَاصَّةً، فَإِنَّهُ يُؤْخَذُ مِنْهُمْ نِصْفُ الْعُشْرِ عَلَى مَا فَعَلَ عُمَرُ. وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَنْ لَا يَرَى أَنْ يُؤْخَذَ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ الْعُشْرُ فِي تِجَارَتِهِمْ إِلَّا مَرَّةً فِي الْحَوْلِ، مِثْلَ مَا يُؤْخَذُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ. وَهُوَ مَذْهَبُ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَجَمَاعَةٍ مِنْ أَئِمَّةِ الْفُقَهَاءِ. وَالْأَوَّلُ قَوْلُ مَالِكٍ وَأَصْحَابِهِ. السَّابِعَةُ- إِذَا أَدَّى أَهْلُ الْجِزْيَةِ جِزْيَتَهُمْ الَّتِي ضُرِبَتْ عَلَيْهِمْ أَوْ صُولِحُوا عَلَيْهَا خُلِّيَ بينهم وبين أموالهم كلها، وبين كرومهم وعصر ها ما ستروا خمور هم وَلَمْ يُعْلِنُوا بَيْعَهَا مِنْ مُسْلِمٍ وَمُنِعُوا مِنْ إِظْهَارِ الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ فِي أَسْوَاقِ الْمُسْلِمِينَ، فَإِنْ أَظْهَرُوا شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ أُرِيقَتِ الْخَمْرُ عَلَيْهِمْ، وَأُدِّبَ مَنْ أَظْهَرَ الْخِنْزِيرَ. وَإِنْ أَرَاقَهَا مُسْلِمٌ مِنْ غَيْرِ إِظْهَارِهَا فَقَدْ تَعَدَّى، وَيَجِبُ عَلَيْهِ الضَّمَانُ. وَقِيلَ: لَا يَجِبُ وَلَوْ غَصَبَهَا وَجَبَ عَلَيْهِ رَدُّهَا. وَلَا يُعْتَرَضُ لَهُمْ فِي أَحْكَامِهِمْ وَلَا مُتَاجَرَتِهِمْ فِيمَا بَيْنَهُمْ بِالرِّبَا. فَإِنْ تَحَاكَمُوا إِلَيْنَا فَالْحَاكِمُ مُخَيَّرٌ، إِنْ شَاءَ حَكَمَ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِنْ شَاءَ أَعْرَضَ. وَقِيلَ: يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي الْمَظَالِمِ عَلَى كُلِّ حَالٍ، وَيُؤْخَذُ مِنْ قَوِيِّهِمْ لِضَعِيفِهِمْ، لِأَنَّهُ مِنْ بَابِ الدَّفْعِ عَنْهُمْ وَعَلَى الْإِمَامِ أَنْ يُقَاتِلَ عَنْهُمْ عدو هم وَيَسْتَعِينَ بِهِمْ فِي قِتَالِهِمْ. وَلَا حَظَّ لَهُمْ فِي الْفَيْءِ، وَمَا صُولِحُوا عَلَيْهِ مِنَ الْكَنَائِسِ لَمْ يَزِيدُوا عَلَيْهَا، وَلَمْ يُمْنَعُوا مِنْ إِصْلَاحٍ مَا وَهَى مِنْهَا، وَلَا سَبِيلَ لَهُمْ إِلَى إِحْدَاثِ غَيْرِهَا. وَيَأْخُذُونَ مِنَ اللِّبَاسِ وَالْهَيْئَةِ بِمَا يَبِينُونَ «2» بِهِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَيُمْنَعُونَ مِنَ التَّشَبُّهِ بِأَهْلِ الْإِسْلَامِ. وَلَا بَأْسَ بِاشْتِرَاءِ أَوْلَادِ الْعَدُوِّ مِنْهُمْ إِذَا لَمْ تَكُنْ لَهُمْ ذِمَّةٌ. وَمَنْ لَدَّ فِي أَدَاءِ جِزْيَتِهِ أُدِّبَ عَلَى لَدَدِهِ «3» وَأُخِذَتْ مِنْهُ صَاغِرًا. الثَّامِنَةُ- اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِيمَا وَجَبَتِ الْجِزْيَةُ عَنْهُ، فَقَالَ عُلَمَاءُ الْمَالِكِيَّةِ: وَجَبَتْ بَدَلًا عَنِ الْقَتْلِ بِسَبَبِ الْكُفْرِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: وَجَبَتْ بَدَلًا عَنِ الدَّمِ وَسُكْنَى الدَّارِ. وَفَائِدَةُ الْخِلَافِ أَنَّا إِذَا قُلْنَا وَجَبَتْ بَدَلًا عَنِ الْقَتْلِ فَأَسْلَمَ سَقَطَتْ عَنْهُ الْجِزْيَةُ لِمَا مَضَى، وَلَوْ أَسْلَمَ قَبْلَ تَمَامِ الْحَوْلِ بِيَوْمٍ أَوْ بَعْدَهُ عِنْدَ مَالِكٍ. وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ أَنَّهَا دَيْنٌ مستقر في الذمة فلا يسقطه
__________
(1). نض المال: صار عينا بعد أن كان متاعا.
(2). في ج: ما يتبينون.
(3). اللدد: الخصومة الشديدة.

(8/113)


الْإِسْلَامُ كَأُجْرَةِ الدَّارِ. وَقَالَ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ بِقَوْلِنَا. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّمَا وَجَبَتْ بَدَلًا عَنِ النَّصْرِ وَالْجِهَادِ. وَاخْتَارَهُ الْقَاضِي أَبُو زَيْدٍ وَزَعَمَ أَنَّهُ سِرُّ اللَّهِ فِي الْمَسْأَلَةِ. وَقَوْلُ مَالِكٍ أَصَحُّ، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (لَيْسَ عَلَى مُسْلِمٍ جِزْيَةٌ). قَالَ سُفْيَانُ: مَعْنَاهُ إِذَا أَسْلَمَ الذِّمِّيُّ بَعْدَ مَا وَجَبَتِ الْجِزْيَةُ عَلَيْهِ بَطَلَتْ عَنْهُ. أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ وَأَبُو دَاوُدَ. قَالَ عُلَمَاؤُنَا: وَعَلَيْهِ يَدُلُّ قَوْلُهُ تَعَالَى:" حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صاغِرُونَ" لِأَنَّ بِالْإِسْلَامِ يَزُولُ هَذَا الْمَعْنَى. وَلَا خِلَافَ أَنَّهُمْ إِذَا أَسْلَمُوا فَلَا يُؤَدُّونَ الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ. وَالشَّافِعِيُّ لَا يَأْخُذُ بَعْدَ الْإِسْلَامِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي قَالَهُ اللَّهُ تَعَالَى. وَإِنَّمَا يَقُولُ: إِنَّ الْجِزْيَةَ دَيْنٌ، وَجَبَتْ عَلَيْهِ بِسَبَبٍ سَابِقٍ وَهُوَ السُّكْنَى أَوْ تَوَقِّي شَرِّ الْقَتْلِ، فَصَارَتْ كَالدُّيُونِ كُلِّهَا. التَّاسِعَةُ- لَوْ عَاهَدَ الْإِمَامُ أَهْلَ بَلَدٍ أَوْ حِصْنٍ ثُمَّ نَقَضُوا عَهْدَهُمْ وَامْتَنَعُوا مِنْ أداء ما يلزمهم من الجزية وغير ها وَامْتَنَعُوا مِنْ حُكْمِ الْإِسْلَامِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُظْلَمُوا وَكَانَ الْإِمَامُ غَيْرَ جَائِرٍ عَلَيْهِمْ وَجَبَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ غَزْوُهُمْ وَقِتَالُهُمْ مَعَ إِمَامِهِمْ. فَإِنْ قَاتَلُوا وَغُلِبُوا حَكَمَ فِيهِمْ بِالْحُكْمِ فِي دَارِ الحرب سواء. وقد قيل: هم ونساؤهم في وَلَا خُمُسَ فِيهِمْ، وَهُوَ مَذْهَبٌ. الْعَاشِرَةُ- فَإِنْ خَرَجُوا مُتَلَصِّصِينَ قَاطِعِينَ الطَّرِيقَ فَهُمْ بِمَنْزِلَةِ الْمُحَارِبِينَ الْمُسْلِمِينَ إِذَا لَمْ يَمْنَعُوا الْجِزْيَةَ. وَلَوْ خَرَجُوا متظلمين نظر في أمر هم وَرُدُّوا إِلَى الذِّمَّةِ وَأُنْصِفُوا مِنْ ظَالِمِهِمْ وَلَا يُسْتَرَقُّ مِنْهُمْ أَحَدٌ وَهُمْ أَحْرَارٌ. فَإِنْ نَقَضَ بَعْضُهُمْ دُونَ بَعْضٍ فَمَنْ لَمْ يَنْقُضْ عَلَى عَهْدِهِ، وَلَا يُؤْخَذُ بِنَقْضِ غَيْرِهِ وَتُعْرَفُ إِقَامَتُهُمْ على العهد بإنكار هم عَلَى النَّاقِضِينَ. الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ- الْجِزْيَةُ وَزْنُهَا فِعْلَةٌ، مِنْ جَزَى يَجْزِي إِذَا كَافَأَ عَمَّا أُسْدِيَ إِلَيْهِ، فَكَأَنَّهُمْ أَعْطَوْهَا جَزَاءَ مَا مُنِحُوا مِنَ الْأَمْنِ، وَهِيَ كَالْقِعْدَةِ وَالْجِلْسَةِ. وَمِنْ هَذَا الْمَعْنَى قَوْلُ الشَّاعِرِ:
يُجْزِيكَ أَوْ يُثْنِي عَلَيْكَ وَإِنَّ مَنْ ... أَثْنَى عَلَيْكَ بِمَا فَعَلْتَ كَمَنْ جَزَى

(8/114)


الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ- رَوَى مُسْلِمٌ عَنْ هِشَامِ بْنِ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ وَمَرَّ عَلَى نَاسٍ مِنَ الْأَنْبَاطِ «1» بِالشَّامِ قَدْ أُقِيمُوا فِي الشَّمْسِ- فِي رواية: وصب على رؤوسهم الزَّيْتُ- فَقَالَ: مَا شَأْنُهُمْ؟ فَقَالَ يُحْبَسُونَ فِي الْجِزْيَةِ. فَقَالَ هِشَامٌ: أَشْهَدُ لَسَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: (إِنَّ اللَّهَ يُعَذِّبُ الَّذِينَ يُعَذِّبُونَ النَّاسَ فِي الدُّنْيَا). فِي رواية: وأمير هم يَوْمَئِذٍ عُمَيْرُ بْنُ سَعْدٍ عَلَى فِلَسْطِينَ، فَدَخَلَ عَلَيْهِ فَحَدَّثَهُ فَأَمَرَ بِهِمْ فَخُلُّوا. قَالَ عُلَمَاؤُنَا: أَمَّا عُقُوبَتُهُمْ إِذَا امْتَنَعُوا مِنْ أَدَائِهَا مَعَ التَّمْكِينِ فَجَائِزٌ، فَأَمَّا مَعَ تَبَيُّنِ عَجْزِهِمْ فَلَا تَحِلُّ عُقُوبَتُهُمْ، لِأَنَّ مَنْ عَجَزَ عَنِ الْجِزْيَةِ سَقَطَتْ عَنْهُ. وَلَا يُكَلَّفُ الْأَغْنِيَاءُ أَدَاءَهَا عَنِ الْفُقَرَاءِ. وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ عَنْ صَفْوَانَ بْنِ سُلَيْمٍ عَنْ عِدَّةٍ مِنْ أَبْنَاءِ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ آبَائِهِمْ أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (مَنْ ظَلَمَ مُعَاهَدًا أَوِ انْتَقَصَهُ أَوْ كَلَّفَهُ فَوْقَ طَاقَتِهِ أَوْ أَخَذَ شَيْئًا مِنْهُ بِغَيْرِ طِيبِ نَفْسٍ فَأَنَا حَجِيجُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ (. الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ- قَوْلُهُ تَعَالَى:" عَنْ يَدٍ" قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يَدْفَعُهَا بِنَفْسِهِ غَيْرَ مُسْتَنِيبٍ فِيهَا أَحَدًا. رَوَى أَبُو الْبَخْتَرِيِّ عَنْ سَلْمَانَ قَالَ: مَذْمُومِينَ. وَرَوَى مَعْمَرٌ عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: عَنْ قَهْرٍ وَقِيلَ:" عَنْ يَدٍ" عَنْ إِنْعَامٍ مِنْكُمْ عَلَيْهِمْ، لِأَنَّهُمْ إِذَا أُخِذَتْ مِنْهُمُ الْجِزْيَةُ فَقَدْ أُنْعِمَ عَلَيْهِمْ بِذَلِكَ. عِكْرِمَةُ: يَدْفَعُهَا وَهُوَ قَائِمٌ وَالْآخِذُ جَالِسٌ وَقَالَهُ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ. ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَهَذَا لَيْسَ مِنْ قَوْلِهِ:" عَنْ يَدٍ" وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ قَوْلِهِ:" وَهُمْ صاغِرُونَ". الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ- رَوَى الْأَئِمَّةُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (الْيَدُ الْعُلْيَا خَيْرٌ مِنَ الْيَدِ السُّفْلَى وَالْيَدُ الْعُلْيَا الْمُنْفِقَةُ وَالسُّفْلَى السَّائِلَةُ) وَرُوِيَ: (وَالْيَدُ الْعُلْيَا هِيَ الْمُعْطِيَةُ). فَجَعَلَ يَدَ الْمُعْطِي فِي الصَّدَقَةِ عُلْيَا، وَجَعَلَ يَدَ الْمُعْطِي فِي الجزية سفلي. وئد الْآخِذِ عُلْيَا، ذَلِكَ بِأَنَّهُ الرَّافِعُ الْخَافِضُ، يَرْفَعُ مَنْ يَشَاءُ وَيَخْفِضُ مَنْ يَشَاءُ، لَا إِلَهَ غَيْرُهُ. الْخَامِسَةَ عَشْرَةَ- عَنْ حَبِيبِ بْنِ أَبِي ثَابِتٍ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ فَقَالَ: إِنَّ أَرْضَ الْخَرَاجِ يَعْجِزُ عَنْهَا أَهْلُهَا أَفَأَعْمُرُهَا وَأَزْرَعُهَا وَأُؤَدِّي خَرَاجَهَا؟ فَقَالَ: لَا. وَجَاءَهُ آخر
__________
(1). الأنباط: فلاحو العجم.

(8/115)


وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (30)

فَقَالَ لَهُ ذَلِكَ فَقَالَ: لَا وَتَلَا قَوْلَهُ تَعَالَى:" قاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ" إِلَى قَوْلِهِ:" وَهُمْ صاغِرُونَ" أَيَعْمِدُ أَحَدُكُمْ إِلَى الصَّغَارِ فِي عُنُقِ أَحَدِهِمْ فَيَنْتَزِعُهُ فَيَجْعَلُهُ فِي عُنُقِهِ! وَقَالَ كُلَيْبُ بْنُ وَائِلٍ: قُلْتُ لِابْنِ عُمَرَ اشْتَرَيْتُ أَرْضًا قَالَ الشِّرَاءُ حَسَنٌ. قُلْتُ: فَإِنِّي أُعْطِي عَنْ كُلِّ جَرِيبِ «1» أَرْضٍ دِرْهَمًا وَقَفِيزَ طَعَامٍ. قَالَ: لَا تَجْعَلُ فِي عُنُقِكَ صَغَارًا. وَرَوَى مَيْمُونُ بْنُ مِهْرَانَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: مَا يَسُرُّنِي أَنَّ لِي الْأَرْضَ كُلَّهَا بِجِزْيَةِ خَمْسَةِ دَرَاهِمَ أُقِرُّ فِيهَا بِالصَّغَارِ عَلَى نَفْسِي.

[سورة التوبة (9): آية 30]
وَقالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقالَتِ النَّصارى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْواهِهِمْ يُضاهِؤُنَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (30)
فيه سبع مسائل: الاولى- قَرَأَ عَاصِمٌ وَالْكِسَائِيُّ" عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ" بِتَنْوِينِ عُزَيْرٌ. وَالْمَعْنَى أَنَّ" ابْنًا" عَلَى هَذَا خَبَرُ ابْتِدَاءٍ عَنْ عُزَيْرٌ وَ" عُزَيْرٌ" يَنْصَرِفُ عَجَمِيًّا كَانَ أَوْ عَرَبِيًّا. وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَنَافِعٌ وَأَبُو عَمْرٍو وَابْنُ عَامِرٍ" عُزَيْرُ ابْنُ" بِتَرْكِ التَّنْوِينِ لِاجْتِمَاعِ السَّاكِنَيْنِ، وَمِنْهُ قِرَاءَةُ مَنْ قَرَأَ" قل هو الله أحد الله الصمد" «2» [الإخلاص: 2 - 1]. قَالَ أَبُو عَلِيٍّ: وَهُوَ كَثِيرٌ فِي الشِّعْرِ. وَأَنْشَدَ الطَّبَرِيُّ فِي ذَلِكَ:
لَتَجِدَنِّي بِالْأَمِيرِ بَرَّا ... وَبِالْقَنَاةِ مِدْعَسًا «3» مِكَرَّا

إِذَا غُطَيْفُ السُّلَمِيُّ فَرَّا

الثَّانِيَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَقالَتِ الْيَهُودُ) هَذَا لَفْظٌ خَرَجَ عَلَى الْعُمُومِ وَمَعْنَاهُ الْخُصُوصُ، لِأَنَّ لَيْسَ كُلُّ الْيَهُودِ قَالُوا ذَلِكَ. وَهَذَا مِثْلُ قَوْلِهِ تعالى:" الَّذِينَ قالَ لَهُمُ
__________
(1). الجريب من الأرض: قال بعضهم عشرة آلاف ذراع. راجع المصباح ففيه الخلاف. والقفيز: مكيال، وهو ثمانية مكاكيك.
(2). راجع ج 20 ص 244.
(3). رجل مدعس (بالسين والصاد): طعان.

(8/116)


الناس" «1» [آل عمران: 173] وَلَمْ يَقُلْ ذَلِكَ كُلُّ النَّاسِ. وَقِيلَ: إِنَّ قَائِلَ مَا حُكِيَ عَنِ الْيَهُودِ سَلَّامُ بْنُ مِشْكَمٍ وَنُعْمَانُ بْنُ أَبِي أَوْفَى وَشَاسُ بْنُ قَيْسٍ وَمَالِكُ بْنُ الصَّيْفِ، قَالُوهُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَالَ النَّقَّاشُ: لَمْ يَبْقَ يَهُودِيٌّ يَقُولُهَا بَلِ انْقَرَضُوا فَإِذَا قَالَهَا وَاحِدٌ فَيَتَوَجَّهُ أَنْ تَلْزَمَ الْجَمَاعَةَ شُنْعَةُ الْمَقَالَةِ، لِأَجْلِ نَبَاهَةِ الْقَائِلِ فِيهِمْ. وَأَقْوَالُ النُّبَهَاءِ أَبَدًا مَشْهُورَةٌ في الناس يحتج بها. فمن ها هنا صح أن تقول الجماعة قول نبيها. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ سَبَبَ ذَلِكَ الْقَوْلِ أَنَّ الْيَهُودَ قَتَلُوا الْأَنْبِيَاءَ بَعْدَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فَرَفَعَ اللَّهُ عَنْهُمُ التَّوْرَاةَ وَمَحَاهَا مِنْ قُلُوبِهِمْ، فَخَرَجَ عُزَيْرٌ يَسِيحُ فِي الْأَرْضِ، فَأَتَاهُ جِبْرِيلُ فَقَالَ: (أَيْنَ تَذْهَبُ)؟ قَالَ: أَطْلُبُ الْعِلْمَ، فَعَلَّمَهُ التَّوْرَاةَ كُلَّهَا فَجَاءَ عُزَيْرٌ بِالتَّوْرَاةِ إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فَعَلَّمَهُمْ. وَقِيلَ: بَلْ حَفَّظَهَا اللَّهُ عُزَيْرًا كَرَامَةً مِنْهُ لَهُ، فَقَالَ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ: إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَفَّظَنِي التَّوْرَاةَ، فَجَعَلُوا يَدْرُسُونَهَا مِنْ عِنْدِهِ. وَكَانَتِ التَّوْرَاةُ مَدْفُونَةً، كَانَ دَفَنَهَا عُلَمَاؤُهُمْ حِينَ أَصَابَهُمْ مِنَ الْفِتَنِ وَالْجَلَاءِ والمرض ما أصاب وقتل بخت نصر إِيَّاهُمْ. ثُمَّ إِنَّ التَّوْرَاةَ الْمَدْفُونَةَ وُجِدَتْ فَإِذَا هِيَ مُتَسَاوِيَةٌ لِمَا كَانَ عُزَيْرٌ يُدَرِّسُ فَضَلُّوا عِنْدَ ذَلِكَ وَقَالُوا: إِنَّ هَذَا لَمْ يَتَهَيَّأْ لِعُزَيْرٍ إِلَّا وَهُوَ ابْنُ اللَّهِ حَكَاهُ الطَّبَرِيُّ. وَظَاهِرُ قَوْلِ النَّصَارَى أَنَّ الْمَسِيحَ ابْنُ اللَّهِ، إِنَّمَا أَرَادُوا بُنُوَّةَ النَّسْلِ كَمَا قَالَتِ الْعَرَبُ فِي الْمَلَائِكَةِ. وَكَذَلِكَ يَقْتَضِي قَوْلُ الضَّحَّاكِ وَالطَّبَرِيِّ وغير هما. وَهَذَا أَشْنَعُ الْكُفْرِ. قَالَ أَبُو الْمَعَالِي: أَطْبَقَتِ النَّصَارَى عَلَى أَنَّ الْمَسِيحَ إِلَهٌ وَأَنَّهُ ابْنُ إِلَهٍ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَيُقَالُ إِنَّ بَعْضَهُمْ يعتقد ها بُنُوَّةَ حُنُوٍّ وَرَحْمَةٍ. وَهَذَا الْمَعْنَى أَيْضًا لَا يَحِلُّ أَنْ تُطْلَقَ الْبُنُوَّةُ عَلَيْهِ وَهُوَ كُفْرٌ. الثَّالِثَةُ- قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: فِي هَذَا دَلِيلٌ مِنْ قَوْلِ رَبِّنَا تَبَارَكَ وَتَعَالَى عَلَى أَنَّ مَنْ أَخْبَرَ عَنْ كُفْرِ غَيْرِهِ الَّذِي لَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ أَنْ يَبْتَدِئَ بِهِ لَا حَرَجَ عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ إِنَّمَا يَنْطِقُ بِهِ عَلَى مَعْنَى الِاسْتِعْظَامِ لَهُ وَالرَّدِّ عَلَيْهِ وَلَوْ شَاءَ رَبُّنَا مَا تَكَلَّمَ بِهِ أَحَدٌ، فَإِذَا مَكَّنَ مِنْ إِطْلَاقِ الْأَلْسُنِ بِهِ فَقَدْ أَذِنَ بِالْإِخْبَارِ عَنْهُ عَلَى مَعْنَى إِنْكَارِهِ بِالْقَلْبِ وَاللِّسَانِ وَالرَّدِّ عَلَيْهِ بالحجة والبرهان.
__________
(1). راجع ج 4 ص 279.

(8/117)


الرَّابِعَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (ذلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْواهِهِمْ) قِيلَ: مَعْنَاهُ التَّأْكِيدُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:" يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بأيديهم" «1» [البقرة: 79] وقوله:" وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ" «2» [الانعام: 38] وَقَوْلُهُ:" فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ واحِدَةٌ" «3» [الحاقة: 13] وَمِثْلُهُ كَثِيرٌ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى أَنَّهُ لَمَّا كَانَ قَوْلٌ سَاذَجٌ لَيْسَ فِيهِ بَيَانٌ وَلَا بُرْهَانٌ، وَإِنَّمَا هُوَ قَوْلٌ بِالْفَمِ مُجَرَّدٌ نَفْسِ دَعْوَى لَا مَعْنَى تَحْتَهُ صَحِيحٌ لِأَنَّهُمْ مُعْتَرِفُونَ بِأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ لَمْ يَتَّخِذْ صَاحِبَةً فَكَيْفَ يَزْعُمُونَ أَنَّ لَهُ وَلَدًا، فَهُوَ كَذِبٌ وَقَوْلٌ لِسَانِيٌّ فقط بخلاف الأقوال الصحيحة التي تعضد ها الْأَدِلَّةُ وَيَقُومُ عَلَيْهَا الْبُرْهَانُ. قَالَ أَهْلُ الْمَعَانِي: إِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ لَمْ يَذْكُرْ قَوْلًا مَقْرُونًا بِذِكْرِ الْأَفْوَاهِ وَالْأَلْسُنِ إِلَّا وَكَانَ قَوْلًا زُورًا، كَقَوْلِهِ:" يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ" «4» [آل عمران: 167] وَ" كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْواهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِباً" «5» [الكهف: 5] وَ" يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ" [الفتح: 11] «6». الخامسة- قوله تعالى: (يُضاهِؤُنَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ) " يُضاهِؤُنَ" يُشَابِهُونَ، وَمِنْهُ قَوْلُ الْعَرَبِ: امْرَأَةٌ ضَهْيَأٌ لِلَّتِي لَا تَحِيضُ أَوِ الَّتِي لَا ثَدْيَ لَهَا، كَأَنَّهَا أَشْبَهَتِ الرِّجَالَ. وَلِلْعُلَمَاءِ فِي" قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا" ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ- قَوْلُ عَبَدَةِ الْأَوْثَانِ: اللَّاتُ وَالْعُزَّى وَمَنَاةُ الثَّالِثَةُ الْأُخْرَى. الثَّانِي- قَوْلُ الْكَفَرَةِ: الْمَلَائِكَةُ بَنَاتُ اللَّهِ. الثَّالِثُ- قَوْلُ أَسْلَافِهِمْ، فَقَلَّدُوهُمْ فِي الْبَاطِلِ وَاتَّبَعُوهُمْ عَلَى الْكُفْرِ، كَمَا أَخْبَرَ عَنْهُمْ بِقَوْلِهِ تَعَالَى:" إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ" «7» [الزخرف: 23]. السَّادِسَةُ- اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ «8» فِي" ضَهْيَأٍ" هَلْ يُمَدُّ أَوْ لَا، فَقَالَ ابْنُ وَلَّادٍ: امْرَأَةٌ ضَهْيَأٌ، وَهِيَ الَّتِي لَا تَحِيضُ، مَهْمُوزٌ غَيْرُ مَمْدُودٍ. وَمِنْهُمْ مَنْ يَمُدُّ وَهُوَ سِيبَوَيْهِ فَيَجْعَلُهَا عَلَى فَعَلَاءَ بِالْمَدِّ، وَالْهَمْزَةُ فِيهَا زَائِدَةٌ لِأَنَّهُمْ يَقُولُونَ نِسَاءٌ ضُهْيٌ فَيَحْذِفُونَ الْهَمْزَةَ. قَالَ أَبُو الْحَسَنِ قال لي
__________
(1). راجع ج 2 ص 7.
(2). راجع ج 6 ص 419.
(3). راجع ج 18 ص 264.
(4). راجع ج 4 ص 265 فما بعد. [ ..... ]
(5). راجع ج 10 ص 353.
(6). راجع ج 16 ص 268 وص 74.
(7). راجع ج 16 ص 74.
(8). في ج: النحاة.

(8/118)


اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (31)

النَّجِيرَمِيُّ: ضَهْيَأَةٌ بِالْمَدِّ وَالْهَاءِ. جَمَعَ بَيْنَ عَلَامَتَيْ تَأْنِيثٍ، حَكَاهُ عَنْ أَبِي عَمْرٍو الشَّيْبَانِيِّ فِي النَّوَادِرِ. وَأَنْشَدَ:
ضَهْيَأَةٌ أَوْ عَاقِرُ جَمَادٍ «1»

ابْنُ عطية: من قال" يُضاهِؤُنَ" مَأْخُوذٌ مِنْ قَوْلِهِمْ: امْرَأَةٌ ضَهْيَاءُ فَقَوْلُهُ خَطَأٌ، قَالَهُ أَبُو عَلِيٍّ، لِأَنَّ الْهَمْزَةَ فِي (ضَاهَأَ) أَصْلِيَّةٌ، وَفِي (ضَهْيَاءَ) زَائِدَةٌ كَحَمْرَاءَ. السَّابِعَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ) أَيْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ، يَعْنِي الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى، لِأَنَّ الْمَلْعُونَ كَالْمَقْتُولِ. قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ:" قاتَلَهُمُ اللَّهُ" هُوَ بِمَعْنَى التعجب. وقال ابن عباس: كل شي فِي الْقُرْآنِ قَتْلٌ فَهُوَ لَعْنٌ، وَمِنْهُ قَوْلُ أبان ابن تَغْلِبَ:
قَاتَلَهَا اللَّهُ تَلْحَانِي وَقَدْ عَلِمَتْ ... أَنِّي لِنَفْسِي إِفْسَادِي وَإِصْلَاحِي
وَحَكَى النَّقَّاشُ أَنَّ أَصْلَ" قَاتَلَ اللَّهُ" الدُّعَاءُ، ثُمَّ كَثُرَ فِي اسْتِعْمَالِهِمْ حَتَّى قَالُوهُ عَلَى التَّعَجُّبِ فِي الْخَيْرِ وَالشَّرِّ، وَهُمْ لَا يُرِيدُونَ الدُّعَاءَ. وَأَنْشَدَ الْأَصْمَعِيُّ:
يَا قَاتَلَ اللَّهُ لَيْلَى كَيْفَ تُعْجِبُنِي ... وَأُخْبِرُ النَّاسَ أني لا أباليها

[سورة التوبة (9): آية 31]
اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَما أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا إِلهاً واحِداً لَا إِلهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (31)
قَوْلِهِ تَعَالَى: (اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ) الْأَحْبَارُ جَمْعُ حَبْرٍ، وَهُوَ الَّذِي يُحَسِّنُ الْقَوْلَ وَيُنَظِّمُهُ وَيُتْقِنُهُ بِحُسْنِ الْبَيَانِ عَنْهُ. وَمِنْهُ ثَوْبٌ مُحَبَّرٌ أَيْ جَمَعَ الزِّينَةَ. وَقَدْ قِيلَ فِي واحد الأحبار: حبر بكسر الحاء، والمفسرون على فتحها. واهل اللغة على كسرها. قال يونس: لم أسمعه إلا بِكَسْرِ الْحَاءِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ أَنَّهُمْ قَالُوا: [مِدَادُ] «2» حِبْرٍ يُرِيدُونَ مِدَادَ عَالِمٍ، ثُمَّ كَثُرَ الِاسْتِعْمَالُ حَتَّى قَالُوا لِلْمِدَادِ حِبْرٌ. قَالَ الْفَرَّاءُ: الكسر
__________
(1). في الأصول (جناد) بالنون، وهو تحريف. والجماد: الناقة التي لا لبن بها.
(2). من ج وك وهـ وى.

(8/119)


وَالْفَتْحُ لُغَتَانِ. وَقَالَ ابْنُ السِّكِّيتِ: الْحِبْرُ بِالْكَسْرِ الْمِدَادُ، وَالْحَبْرُ بِالْفَتْحِ الْعَالِمُ. وَالرُّهْبَانُ جَمْعُ رَاهِبٍ مَأْخُوذٌ مِنَ الرَّهْبَةِ، وَهُوَ الَّذِي حَمَلَهُ خَوْفُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى أَنْ يُخْلِصَ لَهُ النِّيَّةَ دُونَ النَّاسِ، وَيَجْعَلُ زَمَانَهُ لَهُ وَعَمَلَهُ مَعَهُ وَأُنْسَهُ بِهِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: (أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ) قَالَ أَهْلُ الْمَعَانِي: جَعَلُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ كالأرباب حيث أطاعوهم في كل شي، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:" قالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذا جَعَلَهُ ناراً" «1» [الكهف: 96] أَيْ كَالنَّارِ. قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ:
وَهَلْ أَفْسَدَ الدِّينَ إِلَّا الْمُلُوكُ ... وَأَحْبَارُ سُوءٍ وَرُهْبَانُهَا
رَوَى الْأَعْمَشُ وَسُفْيَانُ عَنْ حَبِيبِ بْنِ أَبِي ثَابِتٍ عَنْ أَبَى الْبَخْتَرِيِّ قَالَ: سُئِلَ حُذَيْفَةُ عَنْ قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ:" اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ" هَلْ عبد وهم؟ فَقَالَ لَا، وَلَكِنْ أَحَلُّوا لَهُمُ الْحَرَامَ فَاسْتَحَلُّوهُ، وَحَرَّمُوا عَلَيْهِمُ الْحَلَالَ فَحَرَّمُوهُ. وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ قَالَ: أَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفِي عُنُقِي صَلِيبٌ مِنْ ذَهَبٍ. فَقَالَ: (مَا هَذَا يَا عَدِيُّ اطْرَحْ عَنْكَ هَذَا الْوَثَنَ) وَسَمِعْتُهُ يَقْرَأُ فِي سُورَةِ" بَرَاءَةٌ"" اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ" ثُمَّ قَالَ: (أَمَا إنهم لم يكونوا يعبد ونهم وَلَكِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا أَحَلُّوا لَهُمْ شَيْئًا اسْتَحَلُّوهُ وَإِذَا حَرَّمُوا عَلَيْهِمْ شَيْئًا حَرَّمُوهُ). قَالَ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ لَا يُعْرَفُ إِلَّا مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ السَّلَامِ بْنِ حَرْبٍ. وَغُطَيْفُ بْنُ أَعْيَنَ لَيْسَ بِمَعْرُوفٍ فِي الْحَدِيثِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ) مَضَى الْكَلَامُ فِي اشْتِقَاقِهِ فِي [آلِ عِمْرَانَ «2»]. وَالْمَسِيحُ: الْعَرَقُ يَسِيلُ مِنَ الْجَبِينِ. وَلَقَدْ أَحْسَنَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ فَقَالَ:
افْرَحْ فَسَوْفَ تَأْلَفُ الْأَحْزَانَا ... إِذَا شَهِدْتَ الْحَشْرَ وَالْمِيزَانَا
وَسَالَ مِنْ جَبِينِكَ الْمَسِيحُ ... كَأَنَّهُ جَدَاوِلٌ تَسِيحُ
وَمَضَى فِي [النِّسَاءِ] «3» مَعْنَى إِضَافَتِهِ إِلَى مَرْيَمَ أُمِّهِ.
__________
(1). راجع ج 11 ص 55 فما بعد.
(2). راجع ج 4 ص 88.
(3). راجع ج 6 ص 21.

(8/120)


يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (32)

[سورة التوبة (9): آية 32]
يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُا نُورَ اللَّهِ بِأَفْواهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلاَّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ (32)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُا نُورَ اللَّهِ) أَيْ دَلَالَتَهُ وَحُجَجَهُ عَلَى تَوْحِيدِهِ. جَعَلَ الْبَرَاهِينَ بِمَنْزِلَةِ النُّورِ لِمَا فِيهَا مِنَ الْبَيَانِ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى نُورُ الْإِسْلَامِ، أَيْ أَنْ يُخْمِدُوا دِينَ اللَّهِ بِتَكْذِيبِهِمْ. (بِأَفْواهِهِمْ) جَمْعُ فَوْهٍ عَلَى الْأَصْلِ، لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي فَمٍ فَوْهٍ، مِثْلُ حَوْضٍ وَأَحْوَاضٍ. (وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ) يُقَالُ: كَيْفَ دَخَلَتْ" إِلَّا" وَلَيْسَ فِي الْكَلَامِ حَرْفُ نَفْيٍ، وَلَا يَجُوزُ ضَرَبْتُ إِلَّا زَيْدًا. فَزَعَمَ الْفَرَّاءُ أَنَّ" إِلَّا" إِنَّمَا دَخَلَتْ لِأَنَّ فِي الْكَلَامِ طَرَفًا مِنَ الْجَحْدِ. قَالَ الزَّجَّاجُ: الْجَحْدُ وَالتَّحْقِيقُ لَيْسَا بِذَوِي أَطْرَافٍ. وَأَدَوَاتُ الْجَحْدِ: مَا، وَلَا، وَإِنْ، وَلَيْسَ: وَهَذِهِ لَا أَطْرَافَ لَهَا يُنْطَقُ بِهَا وَلَوْ كَانَ الْأَمْرُ كَمَا أَرَادَ لَجَازَ كَرِهْتُ إِلَّا زَيْدًا، وَلَكِنَّ الْجَوَابَ أَنَّ الْعَرَبَ تَحْذِفُ مَعَ أَبَى. والتقدير: ويأبى الله كل شي إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ. وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ سُلَيْمَانَ: إِنَّمَا جَازَ هَذَا فِي" أَبَى" لِأَنَّهَا مَنْعٌ أَوِ امْتِنَاعٌ فَضَارَعَتِ النَّفْيَ. قَالَ النَّحَّاسُ: فَهَذَا حَسَنٌ، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ:
وَهَلْ لِي أُمٌّ غَيْرُهَا إِنْ تَرَكْتُهَا ... أَبَى اللَّهُ إِلَّا أن أكون لها ابنما

[سورة التوبة (9): آية 33]
هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (33)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ) يُرِيدُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. (بِالْهُدى) أَيْ بِالْفُرْقَانِ. (وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ) أَيْ بِالْحُجَّةِ وَالْبَرَاهِينِ. وَقَدْ أَظْهَرَهُ عَلَى شَرَائِعِ الدين حتى لا يخفى عليه شي مِنْهَا، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِ. وَقِيلَ:" لِيُظْهِرَهُ" أَيْ لِيُظْهِرَ الدِّينَ دِينَ الْإِسْلَامِ عَلَى كُلِّ دِينٍ. قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ وَالضَّحَّاكُ: هَذَا عِنْدَ نُزُولِ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَقَالَ السُّدِّيُّ: ذَاكَ عِنْدَ خُرُوجِ الْمَهْدِيِّ، لَا يَبْقَى أَحَدٌ إِلَّا دَخَلَ فِي الْإِسْلَامِ أَوْ أَدَّى الْجِزْيَةَ. وَقِيلَ: الْمَهْدِيُّ هُوَ عِيسَى فَقَطْ وَهُوَ غَيْرُ صَحِيحٍ لِأَنَّ الْأَخْبَارَ الصِّحَاحَ قَدْ

(8/121)


يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (34)

تَوَاتَرَتْ عَلَى أَنَّ الْمَهْدِيَّ مِنْ عِتْرَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَا يَجُوزُ حَمْلُهُ عَلَى عِيسَى. وَالْحَدِيثُ الَّذِي وَرَدَ فِي أَنَّهُ (لَا مَهْدِيَّ إِلَّا عِيسَى) غَيْرُ صَحِيحٍ. قَالَ الْبَيْهَقِيُّ فِي كِتَابِ الْبَعْثِ وَالنُّشُورِ: لِأَنَّ رَاوِيَهُ مُحَمَّدُ بْنُ خَالِدٍ الْجُنْدِيُّ وَهُوَ مَجْهُولٌ، يَرْوِي عَنْ أَبَانِ بْنِ أَبِي عَيَّاشٍ- وَهُوَ مَتْرُوكٌ- عَنِ الْحَسَنِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُوَ مُنْقَطِعٌ. وَالْأَحَادِيثُ الَّتِي قَبْلَهُ فِي التَّنْصِيصِ عَلَى خُرُوجِ الْمَهْدِيِّ، وَفِيهَا بَيَانُ كَوْنِ الْمَهْدِيِّ مِنْ عِتْرَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَصَحُّ إِسْنَادًا. قُلْتُ: قَدْ ذَكَرْنَا هَذَا وَزِدْنَاهُ بَيَانًا فِي كِتَابِنَا (كِتَابِ التَّذْكِرَةِ) وَذَكَرْنَا أَخْبَارَ الْمَهْدِيِّ مُسْتَوْفَاةً وَالْحَمْدُ لِلَّهِ. وَقِيلَ: أَرَادَ" لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ" فِي جزيرة العرب، وقد فعل.

[سورة التوبة (9): آية 34]
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيراً مِنَ الْأَحْبارِ وَالرُّهْبانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (34)
فِيهِ إِحْدَى عَشْرَةَ مَسْأَلَةً: الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى" لَيَأْكُلُونَ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ" دَخَلَتِ اللَّامُ عَلَى يَفْعَلُ، وَلَا تَدْخُلُ عَلَى فَعَلَ لِمُضَارَعَةِ يفعل الأسماء. والأحبار علماء اليهود. والرهبان مُجْتَهِدُو النَّصَارَى فِي الْعِبَادَةِ." بِالْباطِلِ" قِيلَ: إِنَّهُمْ كَانُوا يَأْخُذُونَ مِنْ أَمْوَالِ أَتْبَاعِهِمْ ضَرَائِبَ وَفُرُوضًا بِاسْمِ الْكَنَائِسِ وَالْبِيَعِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، مِمَّا يُوهِمُونَهُمْ أَنَّ النَّفَقَةَ فِيهِ مِنَ الشَّرْعِ وَالتَّزَلُّفِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَهُمْ خِلَالَ ذَلِكَ يَحْجُبُونَ تِلْكَ الْأَمْوَالَ، كَالَّذِي ذَكَرَهُ سَلْمَانُ الْفَارِسِيُّ عَنِ الرَّاهِبِ الَّذِي اسْتَخْرَجَ كَنْزَهُ، ذَكَرَهُ ابْنُ إِسْحَاقَ فِي السِّيَرِ. وَقِيلَ: كَانُوا يَأْخُذُونَ مِنْ غَلَّاتِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ ضَرَائِبَ بِاسْمِ حِمَايَةِ الدِّينِ وَالْقِيَامِ بِالشَّرْعِ. وَقِيلَ: كَانُوا يَرْتَشُونَ فِي الْأَحْكَامِ، كَمَا يَفْعَلُهُ الْيَوْمَ

(8/122)


كَثِيرٌ مِنَ الْوُلَاةِ وَالْحُكَّامِ. وَقَوْلُهُ:" بِالْباطِلِ" يَجْمَعُ ذَلِكَ كُلَّهُ. (وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ) أَيْ يَمْنَعُونَ أَهْلَ دِينِهِمْ عَنِ الدُّخُولِ فِي دِينِ الْإِسْلَامِ، وَاتِّبَاعِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. الثَّانِيَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ) الْكَنْزُ أَصْلُهُ فِي اللُّغَةِ الضَّمُّ وَالْجَمْعُ وَلَا يَخْتَصُّ ذَلِكَ بِالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ. أَلَا تَرَى قَوْلَهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: (أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِخَيْرِ مَا يَكْنِزُ الْمَرْءُ الْمَرْأَةُ الصَّالِحَةُ). أَيْ يَضُمُّهُ لِنَفْسِهِ وَيَجْمَعُهُ. قَالَ:
وَلَمْ تَزَوَّدْ مِنْ جَمِيعِ الْكَنْزِ ... غَيْرَ خيوط ورثيث بَزَّ «1»
وَقَالَ آخَرُ:
لَا دَرَّ دَرِّي إِنْ أَطْعَمْتُ جَائِعَهُمْ ... قِرْفَ الْحَتِيِّ وَعِنْدِي الْبُرُّ مَكْنُوزُ
قِرْفُ الْحَتِيِّ هُوَ سَوِيقُ الْمُقِلِّ «2». يَقُولُ: إِنَّهُ نَزَلَ بِقَوْمٍ فَكَانَ قِرَاهُ عِنْدَهُمْ سَوِيقُ الْمُقِلِّ، وَهُوَ الْحَتِيُّ، فَلَمَّا نَزَلُوا بِهِ قَالَ هُوَ: لَا دَرَّ دَرِّي ... الْبَيْتُ. وَخَصَّ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ بِالذِّكْرِ لِأَنَّهُ مِمَّا لَا يُطَّلَعُ عَلَيْهِ، بِخِلَافِ سائر الأموال. قال الطبري: الكنز كل شي مَجْمُوعٌ بَعْضُهُ إِلَى بَعْضٍ، فِي بَطْنِ الْأَرْضِ كَانَ أَوْ عَلَى ظَهْرِهَا. وَسُمِّيَ الذَّهَبُ ذَهَبًا لِأَنَّهُ يَذْهَبُ، وَالْفِضَّةُ لِأَنَّهَا تَنْفَضُّ فَتَتَفَرَّقُ، وَمِنْهُ قوله تعالى:" انْفَضُّوا إِلَيْها" «3» [الجمعة: 11]-" لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ" «4» [آل عمران: 159] وَقَدْ مَضَى هَذَا الْمَعْنَى فِي [آلِ عِمْرَانَ] الثالثة- واختلفت الصَّحَابَةُ «5» فِي الْمُرَادِ بِهَذِهِ الْآيَةِ، فَذَهَبَ مُعَاوِيَةُ إِلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهَا أَهْلُ الْكِتَابِ وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْأَصَمُّ لِأَنَّ قَوْلَهُ:" وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ" مَذْكُورٌ بَعْدَ قَوْلِهِ:" إِنَّ كَثِيراً مِنَ الْأَحْبارِ وَالرُّهْبانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ". وَقَالَ أَبُو ذَرٍّ وغيره: المراد بها أهل الكتاب وغير هم مِنَ الْمُسْلِمِينَ. وَهُوَ الصَّحِيحُ، لِأَنَّهُ لَوْ أَرَادَ أَهْلَ الْكِتَابِ خَاصَّةً لَقَالَ: وَيَكْنِزُونَ، بِغَيْرِ وَالَّذِينَ. فَلَمَّا قَالَ:" وَالَّذِينَ" فَقَدِ اسْتَأْنَفَ مَعْنًى آخَرَ يُبَيِّنُ أَنَّهُ عَطَفَ جُمْلَةً عَلَى جُمْلَةٍ. فَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ كَلَامٌ مُسْتَأْنَفٌ، وَهُوَ رَفْعٌ عَلَى الِابْتِدَاءِ. قَالَ السُّدِّيُّ: عَنَى أَهْلَ الْقِبْلَةِ. فَهَذِهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ. وَعَلَى قَوْلِ الصَّحَابَةِ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أن الكفار عند هم
__________
(1). الرثيث: البالي، والبز: نوع من الثياب
(2). المقل ثمر شجر الدوم ينضج ويؤكل
(3). راجع ج 18 ص 109.
(4). راجع ج 4 ص 249.
(5). في ج وز: من؟. [ ..... ]

(8/123)


مُخَاطَبُونَ بِفُرُوعِ الشَّرِيعَةِ. رَوَى الْبُخَارِيُّ عَنْ زَيْدِ بْنِ وَهْبٍ قَالَ: مَرَرْتُ بِالرَّبَذَةِ «1» فَإِذَا أَنَا بِأَبِي ذَرٍّ فَقُلْتُ لَهُ: مَا أَنْزَلَكَ مَنْزِلَكَ هَذَا؟ قَالَ: كُنْتُ بِالشَّامِ فَاخْتَلَفْتُ أَنَا وَمُعَاوِيَةُ فِي" الَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللَّهِ"، فَقَالَ مُعَاوِيَةُ: نَزَلَتْ فِي أَهْلِ الْكِتَابِ. فَقُلْتُ: نَزَلَتْ فِينَا وَفِيهِمْ، وَكَانَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ فِي ذَلِكَ. فَكَتَبَ إِلَى عُثْمَانَ يَشْكُونِي، فَكَتَبَ إِلَيَّ عُثْمَانُ أَنِ اقْدُمِ الْمَدِينَةَ، فَقَدِمْتُهَا فَكَثُرَ عَلَيَّ النَّاسُ حَتَّى كَأَنَّهُمْ لَمْ يَرَوْنِي قَبْلَ ذَلِكَ، فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِعُثْمَانَ فَقَالَ: إِنْ شِئْتَ تَنَحَّيْتَ فَكُنْتَ قَرِيبًا، فَذَاكَ الَّذِي أَنْزَلَنِي هَذَا الْمَنْزِلَ وَلَوْ أَمَّرُوا عَلَيَّ حَبَشِيًّا لَسَمِعْتُ وَأَطَعْتُ. الرَّابِعَةُ- قَالَ ابْنُ خُوَيْزِ مَنْدَادٍ: تَضَمَّنَتْ هَذِهِ الْآيَةُ زَكَاةَ الْعَيْنِ، وَهِيَ تَجِبُ بِأَرْبَعَةِ شُرُوطٍ: حُرِّيَّةٍ، وَإِسْلَامٍ، وَحَوْلٍ، وَنِصَابٍ سَلِيمٍ مِنَ الدَّيْنِ. وَالنِّصَابُ مِائَتَا دِرْهَمٍ أَوْ عِشْرُونَ دِينَارًا. أَوْ يُكَمِّلُ نِصَابَ أَحَدِهِمَا مِنَ الْآخَرِ وَأَخْرَجَ رُبْعَ الْعُشْرِ مِنْ هَذَا وَرُبْعَ الْعُشْرِ مِنْ هَذَا. وَإِنَّمَا قُلْنَا إِنَّ الْحُرِّيَّةَ شَرْطٌ، فَلِأَنَّ الْعَبْدَ نَاقِصُ الْمِلْكِ. وَإِنَّمَا قُلْنَا إِنَّ الْإِسْلَامَ شَرْطٌ، فَلِأَنَّ الزَّكَاةَ طُهْرَةٌ وَالْكَافِرُ لَا تَلْحَقُهُ طُهْرَةٌ، وَلِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ:" وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ" «2» [البقرة: 43] فَخُوطِبَ بِالزَّكَاةِ مَنْ خُوطِبَ بِالصَّلَاةِ. وَإِنَّمَا قُلْنَا إِنَّ الْحَوْلَ شَرْطٌ، فَلِأَنَّ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (لَيْسَ فِي مَالٍ زَكَاةٌ حَتَّى يَحُولَ عَلَيْهِ الْحَوْلُ). وَإِنَّمَا قُلْنَا إِنَّ النِّصَابَ شَرْطٌ، فَلِأَنَّ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (لَيْسَ فِي أَقَلَّ مِنْ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ زَكَاةٌ وَلَيْسَ فِي أَقَلَّ مِنْ عِشْرِينَ دِينَارًا زَكَاةٌ). وَلَا يُرَاعَى كَمَالُ النِّصَابِ فِي أَوَّلِ الْحَوْلِ، وَإِنَّمَا يُرَاعَى عِنْدَ آخِرِ الْحَوْلِ، لِاتِّفَاقِهِمْ أَنَّ الرِّبْحَ فِي حُكْمِ الْأَصْلِ. يَدُلُّ عَلَى هَذَا أَنَّ مَنْ كَانَتْ مَعَهُ مِائَتَا دِرْهَمٍ فَتَجَرَ فِيهَا فَصَارَتْ آخِرَ الْحَوْلِ أَلْفًا أَنَّهُ يُؤَدِّي زَكَاةَ الْأَلْفِ، وَلَا يَسْتَأْنِفُ لِلرِّبْحِ حَوْلًا. فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَخْتَلِفْ حُكْمُ الرِّبْحِ، كَانَ صَادِرًا عَنْ نِصَابٍ أَوْ دُونَهُ. وَكَذَلِكَ اتَّفَقُوا أَنَّهُ لَوْ كَانَ لَهُ أَرْبَعُونَ مِنَ الْغَنَمِ، فَتَوَالَدَتْ لَهُ رَأْسَ الْحَوْلِ ثُمَّ مَاتَتِ الْأُمَّهَاتُ إِلَّا وَاحِدَةً مِنْهَا، وَكَانَتِ السِّخَالُ تتمة النصاب فإن الزكاة تخرج عنها.
__________
(1). الربذة: موضع قريب من المدينة.
(2). راجع ج 1 ص 342 فما بعد.

(8/124)


الْخَامِسَةُ- وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي الْمَالِ الَّذِي أُدِّيَتْ زَكَاتُهُ هَلْ يُسَمَّى كَنْزًا أَمْ لَا؟ فَقَالَ قوم: نعم. ورواه أبو الضحا عَنْ جَعْدَةَ بْنِ هُبَيْرَةَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ عَلِيٌّ: أَرْبَعَةُ آلَافٍ فَمَا دُونَهَا نَفَقَةٌ، وَمَا كَثُرَ فَهُوَ كَنْزٌ وَإِنْ أَدَّيْتَ زَكَاتَهُ، وَلَا يَصِحُّ. وَقَالَ قَوْمٌ: مَا أَدَّيْتَ زَكَاتَهُ مِنْهُ أَوْ مِنْ غَيْرِهِ عَنْهُ فَلَيْسَ بِكَنْزٍ. قَالَ ابْنُ عُمَرَ: مَا أُدِّيَ زَكَاتُهُ فَلَيْسَ بِكَنْزٍ وَإِنْ كَانَ تَحْتَ سَبْعِ أَرَضِينَ، وَكُلُّ مَا لَمْ تُؤَدَّ زَكَاتُهُ فَهُوَ كَنْزٌ وَإِنْ كَانَ فَوْقَ الْأَرْضِ. وَمِثْلُهُ عَنْ جَابِرٍ، وَهُوَ الصَّحِيحُ. وَرَوَى الْبُخَارِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (مَنْ آتَاهُ اللَّهُ مَالًا فَلَمْ يُؤَدِّ زَكَاتَهُ مُثِّلَ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ شُجَاعًا أَقْرَعَ لَهُ زَبِيبَتَانِ يُطَوِّقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ يَأْخُذُ بِلِهْزِمَتَيْهِ- يَعْنِي شِدْقَيْهِ- ثُمَّ يَقُولُ أَنَا مَالُكَ أَنَا كَنْزُكَ- ثُمَّ تَلَا-" وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ" «1» [آل عمران: 180] الْآيَةَ. وَفِيهِ أَيْضًا عَنْ أَبِي ذَرٍّ، قَالَ: انْتَهَيْتُ إِلَيْهِ- يَعْنِي النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: (وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ- أَوْ وَالَّذِي لَا إِلَهَ غَيْرُهُ أَوْ كَمَا حَلَفَ- مَا مِنْ رَجُلٍ تَكُونُ لَهُ إِبِلٌ أَوْ بَقَرٌ أَوْ غَنَمٌ لَا يُؤَدِّي حَقَّهَا إِلَّا أُتِيَ بِهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْظَمَ مَا تَكُونُ وَأَسْمَنَهُ تَطَؤُهُ بِأَخْفَافِهَا وَتَنْطَحُهُ بِقُرُونِهَا كُلَّمَا جَازَتْ أُخْرَاهَا رُدَّتْ عَلَيْهِ أُولَاهَا حَتَّى يُقْضَى بَيْنَ النَّاسِ (. فَدَلَّ دَلِيلُ خِطَابِ هَذَيْنِ الْحَدِيثَيْنِ عَلَى صِحَّةِ مَا ذَكَرْنَا. وَقَدْ بَيَّنَ ابْنُ عُمَرَ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ هَذَا الْمَعْنَى، قَالَ لَهُ أَعْرَابِيٌّ: أَخْبِرْنِي عَنْ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى:" وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ" قَالَ ابْنُ عُمَرَ: مَنْ كَنَزَهَا فَلَمْ يُؤَدِّ زَكَاتَهَا فَوَيْلٌ لَهُ، إِنَّمَا كَانَ هَذَا قَبْلَ أَنْ تَنْزِلَ الزَّكَاةُ، فَلَمَّا أُنْزِلَتْ جَعَلَهَا اللَّهُ طُهْرًا لِلْأَمْوَالِ. وَقِيلَ: الْكَنْزُ مَا فَضَلَ عَنِ الْحَاجَةِ. رُوِيَ عَنْ أَبِي ذَرٍّ، وَهُوَ مِمَّا نُقِلَ مِنْ مَذْهَبِهِ، وَهُوَ مِنْ شَدَائِدِهِ وَمِمَّا انْفَرَدَ بِهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. قُلْتُ: وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مُجْمَلُ مَا رُوِيَ عَنْ أَبِي ذَرٍّ فِي هَذَا، مَا رُوِيَ أَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي وَقْتِ شِدَّةِ الْحَاجَةِ وَضَعْفِ الْمُهَاجِرِينَ وَقِصَرِ يَدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ كِفَايَتِهِمْ، وَلَمْ يَكُنْ فِي بَيْتِ الْمَالِ مَا يَسَعُهُمْ، وَكَانَتِ السُّنُونُ الجوائح هاجمة عليهم، فنهوا عن إمساك شي مِنَ الْمَالِ إِلَّا عَلَى قَدْرِ الْحَاجَةِ وَلَا يَجُوزُ ادِّخَارُ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ فِي مِثْلِ ذَلِكَ الوقت.
__________
(1). راجع ج 4 ص 290.

(8/125)


فَلَمَّا فَتَحَ اللَّهُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَوَسَّعَ عَلَيْهِمْ أَوْجَبَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مِائَتَيْ دِرْهَمٍ خَمْسَةَ دَرَاهِمَ وَفِي عِشْرِينَ دِينَارًا نِصْفَ دِينَارٍ وَلَمْ يُوجِبِ الْكُلَّ وَاعْتَبَرَ مُدَّةَ الِاسْتِنْمَاءِ، فَكَانَ ذَلِكَ مِنْهُ بَيَانًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقِيلَ: الْكَنْزُ مَا لَمْ تُؤَدَّ مِنْهُ الْحُقُوقُ الْعَارِضَةُ، كَفَكِّ الْأَسِيرِ وَإِطْعَامِ الْجَائِعِ وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَقِيلَ: الْكَنْزُ لُغَةً الْمَجْمُوعُ مِنَ النَّقْدَيْنِ، وغير هما مِنَ الْمَالِ مَحْمُولٍ عَلَيْهِمَا بِالْقِيَاسِ. وَقِيلَ: الْمَجْمُوعُ مِنْهُمَا مَا لَمْ يَكُنْ حُلِيًّا، لِأَنَّ الْحُلِيَّ مَأْذُونٌ فِي اتِّخَاذِهِ وَلَا حَقَّ فِيهِ. وَالصَّحِيحُ مَا بَدَأْنَا بِذِكْرِهِ، وَأَنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ يُسَمَّى كَنْزًا لُغَةً وَشَرْعًا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. السَّادِسَةُ- وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي زَكَاةِ الْحُلِيِّ، فَذَهَبَ مَالِكٌ وَأَصْحَابُهُ وأحمد وَإِسْحَاقُ وَأَبُو ثَوْرٍ وَأَبُو عُبَيْدٍ إِلَى أَنْ لَا زَكَاةَ فِيهِ. وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ بِالْعِرَاقِ، وَوَقَفَ فِيهِ بَعْدَ ذَلِكَ بِمِصْرَ وَقَالَ: أَسْتَخِيرُ اللَّهَ فِيهِ. وَقَالَ الثَّوْرِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ وَالْأَوْزَاعِيُّ: فِي ذَلِكَ كُلِّهِ الزَّكَاةُ. احْتَجَّ الْأَوَّلُونَ فَقَالُوا: قَصْدُ النَّمَاءِ يُوجِبُ الزَّكَاةَ فِي الْعُرُوضِ وَهِيَ لَيْسَتْ بِمَحَلٍّ لِإِيجَابِ الزَّكَاةِ، كَذَلِكَ قَطْعُ النَّمَاءِ فِي الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ بِاتِّخَاذِهِمَا حُلِيًّا لِلْقِنْيَةِ «1» يُسْقِطُ الزَّكَاةَ. احْتَجَّ أَبُو حَنِيفَةَ بِعُمُومِ الْأَلْفَاظِ فِي إِيجَابِ الزَّكَاةِ فِي النَّقْدَيْنِ، وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ حُلِيٍّ وَغَيْرِهِ. وَفَرَّقَ اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ فَأَوْجَبَ الزَّكَاةَ فِيمَا صُنِعَ حُلِيًّا لِيُفَرَّ بِهِ مِنَ الزَّكَاةِ وَأَسْقَطَهَا فِيمَا كَانَ مِنْهُ يُلْبَسُ وَيُعَارُ. وَفِي الْمَذْهَبِ فِي الْحُلِيِّ تَفْصِيلٌ بَيَانُهُ فِي كُتُبِ الْفُرُوعِ. السَّابِعَةُ- رَوَى أَبُو دَاوُدَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ" وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ" قَالَ: كَبُرَ ذَلِكَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، فَقَالَ عُمَرُ: أَنَا أُفَرِّجُ عَنْكُمْ فَانْطَلَقَ فَقَالَ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ إِنَّهُ كَبُرَ عَلَى أَصْحَابِكَ هَذِهِ الْآيَةُ. فَقَالَ: (إِنَّ اللَّهَ لَمْ يَفْرِضِ الزَّكَاةَ إِلَّا لِيُطَيِّبَ مَا بَقِيَ مِنْ أَمْوَالِكُمْ وَإِنَّمَا فَرَضَ الْمَوَارِيثَ- وَذَكَرَ «2» كَلِمَةً- لِتَكُونَ لِمَنْ بَعْدَكُمْ) قَالَ: فَكَبَّرَ عُمَرُ. ثُمَّ قَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (أَلَا أُخْبِرُكَ بِخَيْرِ مَا يَكْنِزُ الْمَرْءُ الْمَرْأَةُ الصَّالِحَةُ إِذَا نَظَرَ إِلَيْهَا سَرَّتْهُ وَإِذَا أَمَرَهَا أَطَاعَتْهُ وَإِذَا غَابَ عَنْهَا حَفِظَتْهُ). وروى
__________
(1). الفنية: ما يقتنيه المرء لنفسه لا للتجارة.
(2). ما بين الخطين موجود في نسخ الأصل غير موجود في سنن أبي داود. والذي في كتاب الدر المنثور للسيوطي: ( ... وإنما فرض المواريث من أموال تبقى بعدكم).

(8/126)


التِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُ عَنْ ثَوْبَانَ أَنَّ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالُوا: قَدْ ذَمَّ اللَّهُ سُبْحَانَهُ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ، فَلَوْ عَلِمْنَا أَيَّ الْمَالِ خَيْرٌ حَتَّى نَكْسِبَهُ. فَقَالَ عُمَرُ: أنا أسأل لكم رسول الله صلى اله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَسَأَلَهُ فَقَالَ: (لِسَانٌ ذَاكِرٌ وَقَلْبٌ شَاكِرٌ وَزَوْجَةٌ تُعِينُ الْمَرْءَ عَلَى دِينِهِ). قَالَ حديث حسن. الثامنة- قوله تعالى: (وَلا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللَّهِ) وَلَمْ يَقُلْ يُنْفِقُونَهُمَا، فَفِيهِ أَجْوِبَةٌ سِتَّةٌ: الْأَوَّلُ- قَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: قَصَدَ الْأَغْلَبَ وَالْأَعَمَّ وَهِيَ الْفِضَّةُ، وَمِثْلُهُ قوله:" وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّها لَكَبِيرَةٌ" «1» [البقرة: 45] رَدَّ الْكِنَايَةَ إِلَى الصَّلَاةِ لِأَنَّهَا أَعَمُّ. وَمِثْلُهُ" وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا «2» إِلَيْها" [الجمعة: 11] فَأَعَادَ الْهَاءَ إِلَى التِّجَارَةِ لِأَنَّهَا الْأَهَمُّ وَتَرَكَ اللَّهْوَ قَالَهُ كَثِيرٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ. وَأَبَاهُ بَعْضُهُمْ وَقَالَ: لَا يُشْبِهُهَا، لِأَنَّ" أَوْ" قَدْ فَصَلَتِ التِّجَارَةَ مِنَ اللَّهْوِ فَحَسُنَ عَوْدُ الضَّمِيرِ عَلَى أحد هما. الثَّانِي- الْعَكْسُ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ" يُنْفِقُونَها" لِلذَّهَبِ وَالثَّانِي مَعْطُوفًا عَلَيْهِ. وَالذَّهَبُ تُؤَنِّثُهُ الْعَرَبُ تَقُولُ: هِيَ الذَّهَبُ الْحَمْرَاءُ. وَقَدْ تُذَكَّرُ وَالتَّأْنِيثُ أَشْهَرُ. الثَّالِثُ- أَنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ لِلْكُنُوزِ. الرَّابِعُ- لِلْأَمْوَالِ الْمَكْنُوزَةِ. الْخَامِسُ- لِلزَّكَاةِ التَّقْدِيرُ وَلَا يُنْفِقُونَ زَكَاةَ الْأَمْوَالِ الْمَكْنُوزَةِ. السَّادِسُ- الِاكْتِفَاءُ بِضَمِيرِ الْوَاحِدِ عَنْ ضَمِيرِ الْآخَرِ إِذَا فُهِمَ الْمَعْنَى، وَهَذَا كَثِيرٌ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ. أَنْشَدَ سِيبَوَيْهِ:
نَحْنُ بِمَا عِنْدَنَا وَأَنْتَ بِمَا ... عِنْدَكَ رَاضٍ والرأي مختلف «3»
وَلَمْ يَقُلْ رَاضُونَ. وَقَالَ آخَرُ «4»:
رَمَانِي بِأَمْرٍ كُنْتُ مِنْهُ وَوَالِدِي ... بَرِيئًا وَمِنْ أَجْلِ الطَّوِيِّ رَمَانِي
وَلَمْ يَقُلْ بَرِيئَيْنِ. وَنَحْوُهُ قَوْلُ حَسَّانَ بْنِ ثَابِتٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ:
__________
(1). راجع ج 1 ص 371.
(2). راجع ج 18 ص 109.
(3). البيت لقيس بن الخطيم.
(4). هو ابن أحمر واسمه عمرو وصف في البيت رجلا كان بينه وبينه مشاجرة في بئر- وهو الطوى- فذكر أنه رماه بأمر يكرهه ورمى أباه بمثله على براءتهما منه من أجل المشاجرة التي كانت بينهما. (عن شرح الشواهد).

(8/127)


إن شرخ الشَّبَابِ وَالشَّعْرَ الْأَسْ ... وَدَ مَا لَمْ يُعَاصَ كَانَ جُنُونًا
وَلَمْ يَقُلْ يُعَاصَيَا. التَّاسِعَةُ- إِنْ قِيلَ: مَنْ لَمْ يَكْنِزْ وَلَمْ يُنْفِقْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأَنْفَقَ فِي الْمَعَاصِي، هَلْ يَكُونُ حُكْمُهُ فِي الْوَعِيدِ حُكْمَ مَنْ كَنَزَ وَلَمْ يُنْفِقْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ. قِيلَ لَهُ: إِنَّ ذَلِكَ أَشَدُّ، فَإِنَّ مَنْ بَذَّرَ مَالَهُ فِي الْمَعَاصِي عَصَى مِنْ جِهَتَيْنِ: بِالْإِنْفَاقِ وَالتَّنَاوُلِ، كَشِرَاءِ الْخَمْرِ وَشُرْبِهَا. بَلْ مِنْ جِهَاتٍ إِذَا كَانَتِ الْمَعْصِيَةُ مِمَّا تَتَعَدَّى، كَمَنْ أَعَانَ عَلَى ظُلْمِ مُسْلِمٍ مِنْ قَتْلِهِ أَوْ أَخْذِ مَالِهِ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ. وَالْكَانِزُ عَصَى مِنْ جِهَتَيْنِ، وَهُمَا مَنْعُ الزَّكَاةِ وَحَبْسُ الْمَالِ لَا غَيْرَ. وَقَدْ لَا يُرَاعَى حَبْسُ الْمَالِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الْعَاشِرَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ) قَدْ تَقَدَّمَ مَعْنَاهُ. وَقَدْ فَسَّرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذَا الْعَذَابَ بِقَوْلِهِ: (بَشِّرِ الكنازين بكي في ظهور هم يَخْرُجُ مِنْ جُنُوبِهِمْ وَبِكَيٍّ مِنْ قِبَلِ أَقْفَائِهِمْ يَخْرُجُ مِنْ جِبَاهِهِمْ) الْحَدِيثَ. أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ. رَوَاهُ أبو ذر في رِوَايَةٍ: (بَشِّرِ الْكَنَّازِينَ بِرَضْفٍ «1» يُحْمَى عَلَيْهِ فِي نار جهنم فيوضع على حلمة ثدي أحد هم حَتَّى يَخْرُجَ مِنْ نُغْضِ «2» كَتِفَيْهِ وَيُوضَعُ عَلَى نُغْضِ كَتِفَيْهِ حَتَّى يَخْرُجَ مِنْ حَلَمَةِ ثَدْيَيْهِ فَيَتَزَلْزَلُ) الْحَدِيثَ. قَالَ عُلَمَاؤُنَا: فَخُرُوجُ الرَّضْفِ مِنْ حَلَمَةِ ثَدْيِهِ إِلَى نُغْضِ كَتِفِهِ لِتَعْذِيبِ قَلْبِهِ وَبَاطِنِهِ حِينَ امْتَلَأَ بِالْفَرَحِ بِالْكَثْرَةِ فِي الْمَالِ وَالسُّرُورِ فِي الدُّنْيَا، فَعُوقِبَ فِي الْآخِرَةِ بِالْهَمِّ وَالْعَذَابِ. الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ- قَالَ عُلَمَاؤُنَا: ظَاهِرُ الْآيَةِ تَعْلِيقُ الْوَعِيدِ عَلَى مَنْ كَنَزَ وَلَا يُنْفِقُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَيَتَعَرَّضُ لِلْوَاجِبِ وَغَيْرِهِ، غَيْرَ أَنَّ صِفَةَ الْكَنْزِ لَا يَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ مُعْتَبَرَةً، فَإِنَّ مَنْ لَمْ يَكْنِزْ وَمَنَعَ الْإِنْفَاقَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ كَذَلِكَ، إِلَّا أَنَّ الَّذِي يُخَبَّأُ تَحْتَ الْأَرْضِ هُوَ الَّذِي يُمْنَعُ إِنْفَاقُهُ فِي الْوَاجِبَاتِ عُرْفًا، فلذلك خص الوعيد به. والله أعلم.
__________
(1). الرضف: الحجارة المحماة.
(2). النغض (بالضم والفتح): أعلى الكتف وقيل: هو العظم الرقيق الذي على طرفه.

(8/128)


يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ (35)

[سورة التوبة (9): آية 35]
يَوْمَ يُحْمى عَلَيْها فِي نارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوى بِها جِباهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ (35)
فِيهِ أَرْبَعُ مَسَائِلَ: الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى: (يَوْمَ يُحْمى عَلَيْها فِي نارِ جَهَنَّمَ) " يَوْمَ" ظَرْفٌ، وَالتَّقْدِيرُ يُعَذَّبُونَ يَوْمَ يُحْمَى. وَلَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ عَلَى تقدير: فبشر هم يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا، لِأَنَّ الْبِشَارَةَ لَا تَكُونُ حِينَئِذٍ. يُقَالُ: أَحْمَيْتُ الْحَدِيدَةَ فِي النَّارِ، أَيْ أَوْقَدْتُ عَلَيْهَا. وَيُقَالُ: أَحْمَيْتُهُ، وَلَا يُقَالُ: أَحْمَيْتُ عليه. وها هنا قَالَ عَلَيْهَا، لِأَنَّهُ جَعَلَ" عَلَى" مِنْ صِلَةِ مَعْنَى الْإِحْمَاءِ، وَمَعْنَى الْإِحْمَاءِ الْإِيقَادُ. أَيْ يُوقَدُ عَلَيْهَا فَتُكْوَى. الْكَيُّ: إِلْصَاقُ الْحَارِّ مِنَ الْحَدِيدِ وَالنَّارِ بِالْعُضْوِ حَتَّى يَحْتَرِقَ الْجِلْدُ. وَالْجِبَاهُ جَمْعُ الْجَبْهَةِ، وَهُوَ مُسْتَوى مَا بَيْنَ الْحَاجِبِ إِلَى النَّاصِيَةِ. وَجَبَهْتُ فُلَانًا بِكَذَا، أَيِ اسْتَقْبَلْتُهُ بِهِ وَضَرَبْتُ جَبْهَتَهُ. وَالْجُنُوبُ جَمْعُ الْجَنْبِ. وَالْكَيُّ فِي الْوَجْهِ أَشْهَرُ وَأَشْنَعُ، وَفِي الْجَنْبِ وَالظَّهْرِ آلَمُ وَأَوْجَعُ، فَلِذَلِكَ خَصَّهَا بِالذِّكْرِ مِنْ بَيْنِ سَائِرِ الْأَعْضَاءِ. وَقَالَ عُلَمَاءُ الصُّوفِيَّةِ: لَمَّا طَلَبُوا الْمَالَ وَالْجَاهَ شَانَ اللَّهُ وُجُوهَهُمْ، وَلَمَّا طَوَوْا كَشْحًا «1» عَنِ الْفَقِيرِ إِذَا جَالَسَهُمْ كُوِيَتْ جُنُوبُهُمْ، وَلَمَّا أسندوا ظهور هم إِلَى أَمْوَالِهِمْ ثِقَةً بِهَا وَاعْتِمَادًا عَلَيْهَا كُوِيَتْ ظهور هم. وَقَالَ عُلَمَاءُ الظَّاهِرِ: إِنَّمَا خَصَّ هَذِهِ الْأَعْضَاءَ لِأَنَّ الْغَنِيَّ إِذَا رَأَى الْفَقِيرَ زَوَى مَا بَيْنَ عَيْنَيْهِ «2» وَقَبَضَ وَجْهَهُ. كَمَا قَالَ «3»:
يَزِيدُ يَغُضُّ الطَّرْفَ عَنِّي «4» كَأَنَّمَا ... زَوَى بَيْنَ عَيْنَيْهِ عَلَيَّ الْمَحَاجِمُ
فَلَا يَنْبَسِطُ مِنْ بَيْنِ عَيْنَيْكَ مَا انْزَوَى ... وَلَا تَلْقَنِي إِلَّا وَأَنْفُكَ رَاغِمُ
وَإِذَا سَأَلَهُ طَوَى كَشْحَهُ، وَإِذَا زَادَهُ فِي السُّؤَالِ وَأَكْثَرَ عَلَيْهِ وَلَّاهُ ظَهْرَهُ. فَرَتَّبَ اللَّهُ العقوبة على حال المعصية.
__________
(1). طوى كشحه عنه: إذا أعرض عنه.
(2). جمعه وقبضه.
(3). القائل هو الأعشى كما في ديوانه. [ ..... ]
(4). وفية: يغض الطرف دوني.

(8/129)


الثَّانِيَةُ- وَاخْتَلَفَتِ الْآثَارُ فِي كَيْفِيَّةِ الْكَيِّ بِذَلِكَ، فَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ مَا ذَكَرْنَا مِنْ ذِكْرِ الرَّضْفِ. وَفِيهِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (مَا مِنْ صَاحِبِ ذَهَبٍ وَلَا فِضَّةٍ لَا يُؤَدِّي مِنْهَا حَقَّهَا إِلَّا إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ صُفِّحَتْ لَهُ صَفَائِحُ مِنْ نَارٍ فَأُحْمِيَ عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَيُكْوَى بِهَا جَنْبُهُ وَجَبِينُهُ وَظَهْرُهُ كُلَّمَا بَرَدَتْ أُعِيدَتْ لَهُ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ حَتَّى يُقْضَى بَيْنَ الْعِبَادِ فَيَرَى سَبِيلَهُ إِمَّا إِلَى الْجَنَّةِ وَإِمَّا إِلَى النَّارِ (. الْحَدِيثَ. وَفِي الْبُخَارِيِّ: أَنَّهُ يُمَثَّلُ لَهُ كَنْزُهُ شُجَاعًا أَقْرَعَ. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي غَيْرِ الصَّحِيحِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ قَالَ: (مَنْ كَانَ لَهُ مَالٌ فَلَمْ يُؤَدِّ زَكَاتَهُ طُوِّقَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ شُجَاعًا أَقْرَعَ يَنْقُرُ رَأْسَهُ. قُلْتُ: وَلَعَلَّ هَذَا يَكُونُ فِي مَوَاطِنَ: مَوْطِنٌ يُمَثَّلُ الْمَالُ فِيهِ ثُعْبَانًا، وَمَوْطِنٌ يَكُونُ صَفَائِحَ وَمَوْطِنٌ يَكُونُ رَضْفًا. فَتَتَغَيَّرُ الصِّفَاتُ وَالْجِسْمِيَّةُ وَاحِدَةٌ، فَالشُّجَاعُ جِسْمٌ وَالْمَالُ جِسْمٌ. وَهَذَا التَّمْثِيلُ حَقِيقَةٌ، بِخِلَافِ قَوْلِهِ: (يُؤْتَى بِالْمَوْتِ كَأَنَّهُ كَبْشٌ أَمْلَحُ) فَإِنَّ تِلْكَ طَرِيقَةٌ أُخْرَى، وَلِلَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَنْ يَفْعَلَ مَا يَشَاءُ. وَخَصَّ الشُّجَاعَ بِالذِّكْرِ لِأَنَّهُ الْعَدُوُّ الثَّانِي لِلْخَلْقِ. وَالشُّجَاعُ مِنَ الْحَيَّاتِ هُوَ الْحَيَّةُ الذَّكَرُ الَّذِي يُوَاثِبُ الْفَارِسَ وَالرَّاجِلَ، وَيَقُومُ عَلَى ذَنَبِهِ وَرُبَّمَا بَلَغَ الْفَارِسَ، وَيَكُونُ فِي الصَّحَارِي. وَقِيلَ: هُوَ الثُّعْبَانُ. قَالَ اللِّحْيَانِيُّ: يُقَالُ لِلْحَيَّةِ شُجَاعٌ، وَثَلَاثَةُ أَشْجِعَةٍ، ثُمَّ شُجْعَانٌ. وَالْأَقْرَعُ مِنَ الْحَيَّاتِ هُوَ الَّذِي تَمَعَّطَ رَأْسُهُ وَابْيَضَّ مِنَ السُّمِّ. فِي الْمُوَطَّإِ: لَهُ زَبِيبَتَانِ، أَيْ نُقْطَتَانِ مُنْتَفِخَتَانِ فِي شِدْقَيْهِ كَالرَّغْوَتَيْنِ. وَيَكُونُ ذَلِكَ فِي شِدْقَيِ الْإِنْسَانِ إِذَا غَضِبَ وَأَكْثَرَ مِنَ الْكَلَامِ. قَالَتْ [أُمُّ] غَيْلَانَ بِنْتُ جَرِيرٍ رُبَّمَا أَنْشَدْتُ أَبِي حَتَّى يَتَزَبَّبَ شِدْقَايَ. ضُرِبَ مَثَلًا لِلشُّجَاعِ الَّذِي كَثُرَ سُمُّهُ فَيُمَثَّلُ الْمَالُ بِهَذَا الْحَيَوَانِ فَيَلْقَى صَاحِبَهُ غَضْبَانَ. وَقَالَ ابْنُ دُرَيْدٍ: نُقْطَتَانِ سَوْدَاوَانِ فَوْقَ عَيْنَيْهِ. فِي رِوَايَةٍ: مُثِّلَ لَهُ شُجَاعٌ يَتْبَعُهُ فَيَضْطَرُّهُ فَيُعْطِيهِ يَدَهُ فَيَقْضِمُهَا كَمَا يَقْضِمُ الْفَحْلُ. وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: وَاللَّهُ لَا يُعَذِّبُ اللَّهُ أَحَدًا بِكَنْزٍ فَيَمَسُّ دِرْهَمٌ دِرْهَمًا وَلَا دِينَارٌ دِينَارًا، وَلَكِنْ يُوَسِّعُ جِلْدَهُ حَتَّى يُوضَعَ كُلُّ دِرْهَمٍ وَدِينَارٍ عَلَى حِدَتِهِ. وَهَذَا إِنَّمَا يَصِحُّ فِي الْكَافِرِ- كَمَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ- لَا فِي الْمُؤْمِنِ. والله أعلم.

(8/130)


الثَّالِثَةُ- أَسْنَدَ الطَّبَرِيُّ إِلَى أَبِي أُمَامَةَ الْبَاهِلِيِّ قَالَ: مَاتَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الصُّفَّةِ فَوُجِدَ فِي بُرْدَتِهِ دِينَارٌ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (كَيَّةٌ). ثُمَّ مَاتَ آخَرُ فَوُجِدَ لَهُ دِينَارَانِ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (كَيَّتَانِ). وَهَذَا إِمَّا لِأَنَّهُمَا كَانَا يَعِيشَانِ مِنَ الصَّدَقَةِ وَعِنْدَهُمَا التِّبْرُ، وَإِمَّا لِأَنَّ هَذَا كَانَ فِي صَدْرِ الْإِسْلَامِ، ثُمَّ قَرَّرَ الشَّرْعُ ضَبْطَ الْمَالِ وَأَدَاءَ حَقِّهِ. وَلَوْ كَانَ ضَبْطُ الْمَالِ مَمْنُوعًا لَكَانَ حَقُّهُ أَنْ يُخْرَجَ كُلُّهُ، وَلَيْسَ فِي الْأُمَّةِ مَنْ يُلْزَمُ هَذَا. وَحَسْبُكَ حَالُ الصَّحَابَةِ وَأَمْوَالُهُمْ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ. وَأَمَّا مَا ذُكِرَ عَنْ أَبِي ذَرٍّ فَهُوَ مَذْهَبٌ لَهُ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. وَقَدْ رَوَى مُوسَى بْنُ عُبَيْدَةَ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ أَبِي أَنَسٍ عَنْ مَالِكِ بْنِ أَوْسِ بْنِ الْحَدَثَانِ عَنْ أَبِي ذَرٍّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (مَنْ جَمَعَ دينارا أو در هما أَوْ تِبْرًا أَوْ فِضَّةً وَلَا يَعُدُّهُ لِغَرِيمٍ وَلَا يُنْفِقُهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَهُوَ كَنْزٌ يُكْوَى بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ (. قُلْتُ: هَذَا الَّذِي يَلِيقُ بِأَبِي ذَرٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنْ يَقُولَ بِهِ، وَأَنَّ مَا فَضَلَ عَنِ الْحَاجَةِ فَلَيْسَ بِكَنْزٍ إِذَا كَانَ مُعَدًّا لِسَبِيلِ اللَّهِ. وَقَالَ أَبُو أُمَامَةَ: مَنْ خَلَّفَ بِيضًا أَوْ صُفْرًا كُوِيَ بِهَا مَغْفُورًا لَهُ أَوْ غَيْرَ مَغْفُورٍ لَهُ، أَلَا إِنَّ حِلْيَةَ السَّيْفِ مِنْ ذَلِكَ. وَرَوَى ثَوْبَانُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (مَا مِنْ رَجُلٍ يَمُوتُ وَعِنْدَهُ أَحْمَرُ أَوْ أَبْيَضُ إِلَّا جَعَلَ اللَّهُ لَهُ بِكُلِّ قِيرَاطٍ صَفِيحَةً يُكْوَى بِهَا مِنْ فَرْقِهِ «1» إِلَى قَدَمِهِ مَغْفُورًا لَهُ بَعْدَ ذَلِكَ أَوْ مُعَذَّبًا). قُلْتُ: وَهَذَا مَحْمُولٌ عَلَى مَا لَمْ تُؤَدَّ زَكَاتُهُ بِدَلِيلِ مَا ذَكَرْنَا فِي الْآيَةِ قَبْلَ هَذَا. فَيَكُونُ التَّقْدِيرُ: وَعِنْدَهُ أَحْمَرُ أَوْ أَبْيَضُ لَمْ يُؤَدِّ زَكَاتَهُ. وَكَذَلِكَ مَا رُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: مَنْ تَرَكَ عَشَرَةَ آلَافٍ جُعِلَتْ صَفَائِحَ يُعَذَّبُ بِهَا صَاحِبُهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ. أَيْ إِنْ لَمْ يُؤَدِّ زَكَاتَهَا، لِئَلَّا تَتَنَاقَضَ الْأَحَادِيثُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الرَّابِعَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ) أَيْ يُقَالُ لَهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ، فَحَذَفَ. (فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ) أَيْ عَذَابَ ما كنتم تكنزون.
__________
(1). الفرق: الطريق في شعر الرأس.

(8/131)


إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (36)

[سورة التوبة (9): آية 36]
إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ مِنْها أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَما يُقاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (36)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ مِنْها أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ.) فِيهِ ثَمَانِ مَسَائِلَ «1»: الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى: (إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ) جَمْعُ شَهْرٍ. فَإِذَا قَالَ الرَّجُلُ لِأَخِيهِ: لَا أُكَلِّمُكَ الشُّهُورَ، وَحَلَفَ عَلَى ذَلِكَ فَلَا يُكَلِّمُهُ حَوْلًا، قَالَهُ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ. وَقِيلَ: لَا يُكَلِّمُهُ أَبَدًا. ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَأَرَى إِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ أَنْ يَقْتَضِيَ ذَلِكَ ثَلَاثَةَ أَشْهُرٍ لِأَنَّهُ أَقَلُّ الْجَمْعِ الَّذِي يَقْتَضِيهِ صيغة فعول في جمع فعل. ومعنى (عِنْدَ اللَّهِ) أَيْ فِي حُكْمِ اللَّهِ وَفِيمَا كَتَبَ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ. (اثْنا عَشَرَ شَهْراً) أعربت" اثْنا عَشَرَ شَهْراً" دون نظائر ها، لِأَنَّ فِيهَا حَرْفَ الْإِعْرَابِ وَدَلِيلَهُ. وَقَرَأَ الْعَامَّةُ" عَشَرَ" بِفَتْحِ الْعَيْنِ وَالشِّينِ. وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ" عَشْرَ" بِجَزْمِ الشِّينِ. (فِي كِتابِ اللَّهِ) يُرِيدُ اللَّوْحَ الْمَحْفُوظَ. وَأَعَادَهُ بَعْدَ أَنْ قَالَ" عِنْدَ اللَّهِ" لِأَنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَشْيَاءِ يُوصَفُ بِأَنَّهُ عِنْدَ اللَّهِ، وَلَا يُقَالُ إِنَّهُ مَكْتُوبٌ فِي كِتَابِ اللَّهِ، كَقَوْلِهِ:" إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ" «2» [لقمان: 34]. الثَّانِيَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (يَوْمَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) إِنَّمَا قَالَ" يَوْمَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ" لِيُبَيِّنَ أَنَّ قَضَاءَهُ وَقَدَرَهُ كَانَ قَبْلَ ذَلِكَ، وَأَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَضَعَ هَذِهِ الشُّهُورَ وَسَمَّاهَا بِأَسْمَائِهَا عَلَى ما رتبها عليه يوم خلق السموات وَالْأَرْضَ، وَأَنْزَلَ ذَلِكَ عَلَى أَنْبِيَائِهِ فِي كُتُبِهِ الْمُنَزَّلَةِ. وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى:" إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنا عَشَرَ شَهْراً". وَحُكْمُهَا باق
__________
(1). يلاحظ أن في الأصول سبع مسائل وهو خطأ.
(2). راجع ج 14 ص 82.

(8/132)


عَلَى مَا كَانَتْ عَلَيْهِ لَمْ يُزِلْهَا عَنْ تَرْتِيبِهَا تَغْيِيرُ الْمُشْرِكِينَ لِأَسْمَائِهَا، وَتَقْدِيمُ الْمُقَدَّمِ فِي الِاسْمِ مِنْهَا. وَالْمَقْصُودُ مِنْ ذَلِكَ اتِّبَاعُ أَمْرِ اللَّهِ فِيهَا وَرَفْضُ مَا كَانَ عَلَيْهِ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ مِنْ تَأْخِيرِ أَسْمَاءِ الشُّهُورِ وَتَقْدِيمِهَا، وَتَعْلِيقِ الْأَحْكَامِ عَلَى الْأَسْمَاءِ الَّتِي رَتَّبُوهَا عَلَيْهِ، وَلِذَلِكَ قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي خُطْبَتِهِ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ: (أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ الزَّمَانَ قَدِ اسْتَدَارَ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ خَلَقَ الله السموات وَالْأَرْضَ) عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانُهُ. وَأَنَّ الَّذِي فَعَلَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ مِنْ جَعْلِ الْمُحَرَّمِ صَفَرًا وَصَفَرٍ مُحَرَّمًا لَيْسَ يَتَغَيَّرُ بِهِ مَا وَصَفَهُ اللَّهُ تَعَالَى. وَالْعَامِلُ فِي" يَوْمِ" الْمَصْدَرُ الَّذِي هُوَ" فِي كِتابِ اللَّهِ" وَلَيْسَ يَعْنِي بِهِ واحد الكتب، لان الا عيان لَا تَعْمَلُ فِي الظُّرُوفِ. وَالتَّقْدِيرُ: فِيمَا كَتَبَ الله يوم خلق السموات وَالْأَرْضَ. وَ" عِنْدَ" مُتَعَلِّقٌ بِالْمَصْدَرِ الَّذِي هُوَ الْعِدَّةُ، وَهُوَ الْعَامِلُ فِيهِ. وَ" فِي" مِنْ قَوْلِهِ:" فِي كِتابِ اللَّهِ" مُتَعَلِّقَةٌ بِمَحْذُوفٍ، هُوَ صِفَةٌ لِقَوْلِهِ:" اثْنا عَشَرَ". وَالتَّقْدِيرُ: اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا مَعْدُودَةٌ أَوْ مَكْتُوبَةٌ فِي كِتَابِ اللَّهِ. ولا يجوز أن تتعلق بعدة لِمَا فِيهِ مِنَ التَّفْرِقَةِ بَيْنَ الصِّلَةِ وَالْمَوْصُولِ بِخَبَرِ إِنَّ. الثَّالِثَةُ- هَذِهِ الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْوَاجِبَ تَعْلِيقُ الْأَحْكَامِ مِنَ الْعِبَادَاتِ وَغَيْرِهَا إِنَّمَا يَكُونُ بِالشُّهُورِ وَالسِّنِينَ الَّتِي تَعْرِفُهَا الْعَرَبُ، دون الشهور التي تعتبر ها الْعَجَمُ وَالرُّومُ وَالْقِبْطُ وَإِنْ لَمْ تَزِدْ عَلَى اثْنَيْ عَشَرَ شَهْرًا، لِأَنَّهَا مُخْتَلِفَةُ الْأَعْدَادِ، مِنْهَا مَا يَزِيدُ عَلَى ثَلَاثِينَ وَمِنْهَا مَا يَنْقُصُ، وَشُهُورُ الْعَرَبِ لَا تَزِيدُ عَلَى ثَلَاثِينَ وَإِنْ كَانَ مِنْهَا مَا يَنْقُصُ، وَالَّذِي يَنْقُصُ لَيْسَ يَتَعَيَّنُ لَهُ شَهْرٌ، وَإِنَّمَا تَفَاوُتُهَا فِي النُّقْصَانِ وَالتَّمَامِ عَلَى حَسَبِ اخْتِلَافِ سَيْرِ الْقَمَرِ فِي الْبُرُوجِ. الرَّابِعَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (مِنْها أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ) الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ الْمَذْكُورَةُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ ذُو الْقِعْدَةِ وَذُو الْحِجَّةِ وَالْمُحَرَّمُ وَرَجَبُ الَّذِي بَيْنَ جُمَادَى الْآخِرَةِ وَشَعْبَانَ، وَهُوَ رَجَبُ مُضَرَ، وَقِيلَ لَهُ رَجَبُ مُضَرَ لِأَنَّ رَبِيعَةَ بْنَ نِزَارٍ كَانُوا يُحَرِّمُونَ شَهْرَ رَمَضَانَ وَيُسَمُّونَهُ رَجَبًا. وَكَانَتْ مُضَرُ تُحَرِّمُ رَجَبًا نَفْسَهُ، فَلِذَلِكَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهِ: (الَّذِي بَيْنَ جُمَادَى وَشَعْبَانَ) وَرَفَعَ مَا وَقَعَ فِي اسْمِهِ مِنَ الِاخْتِلَالِ بِالْبَيَانِ. وَكَانَتِ الْعَرَبُ أَيْضًا تُسَمِّيهِ منصل الاسنة «1»،
__________
(1). منصل الاسنة: مخرجها من أماكنها. كانوا إذا دخل رجب نزعوا أسنة الرماح ونصال السهام إبطالا للقتال فيه، وقطعا لأسباب الفتن لحرمته.

(8/133)


رَوَى الْبُخَارِيُّ عَنْ أَبِي رَجَاءٍ الْعُطَارِدِيِّ- وَاسْمُهُ عِمْرَانُ بْنُ مِلْحَانَ وَقِيلَ عِمْرَانُ بْنُ تَيْمٍ- قَالَ: كُنَّا نَعْبُدُ الْحَجَرَ، فَإِذَا وَجَدْنَا حَجَرًا هُوَ خَيْرٌ مِنْهُ أَلْقَيْنَاهُ وَأَخَذْنَا الْآخَرَ، فَإِذَا لَمْ نَجِدْ حَجَرًا جَمَعْنَا حَثْوَةً مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ جِئْنَا بِالشَّاءِ فَحَلَبْنَا عَلَيْهِ ثُمَّ طُفْنَا بِهِ فَإِذَا دَخَلَ شَهْرُ رَجَبٍ قُلْنَا مُنْصِلُ الْأَسِنَّةِ، فَلَمْ نَدَعْ رُمْحًا فِيهِ حَدِيدَةٌ وَلَا سَهْمًا فِيهِ حَدِيدَةٌ إِلَّا نَزَعْنَاهَا فَأَلْقَيْنَاهُ. الْخَامِسَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ) أَيِ الْحِسَابُ الصَّحِيحُ وَالْعَدَدُ الْمُسْتَوْفًى. وَرَوَى عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ:" ذلِكَ الدِّينُ" أَيْ ذَلِكَ الْقَضَاءُ. مُقَاتِلٌ: الْحَقُّ. ابْنُ عَطِيَّةَ: وَالْأَصْوَبُ عندي أن يكون الدين ها هنا عَلَى أَشْهَرِ وُجُوهِهِ، أَيْ ذَلِكَ الشَّرْعُ وَالطَّاعَةُ." الْقَيِّمُ" أَيِ الْقَائِمُ الْمُسْتَقِيمُ، مِنْ قَامَ يَقُومُ. بِمَنْزِلَةِ سَيِّدٍ، مَنْ سَادَ يَسُودُ. أَصْلُهُ قَيُّومٌ. السَّادِسَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ) عَلَى قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَاجِعٌ إِلَى جَمِيعِ الشُّهُورِ. وَعَلَى قَوْلِ بَعْضِهِمْ إِلَى الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ خَاصَّةً، لِأَنَّهُ إِلَيْهَا أَقْرَبُ وَلَهَا مَزِيَّةٌ فِي تَعْظِيمِ الظُّلْمِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى:" فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدالَ فِي الْحَجِّ" «1» [البقرة: 197] لَا أَنَّ الظُّلْمَ فِي غَيْرِ هَذِهِ الْأَيَّامِ جَائِزٌ عَلَى مَا نُبَيِّنُهُ. ثُمَّ قِيلَ: فِي الظُّلْمِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا لَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ بِالْقِتَالِ، ثُمَّ نُسِخَ بِإِبَاحَةِ الْقِتَالِ فِي جَمِيعِ الشُّهُورِ، قَالَهُ قَتَادَةُ وَعَطَاءٌ الْخُرَاسَانِيُّ وَالزُّهْرِيُّ وَسُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ. وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: حَلَفَ بِاللَّهِ عَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ أَنَّهُ مَا يَحِلُّ لِلنَّاسِ أَنْ يَغْزُوَا فِي الْحَرَمِ وَلَا فِي الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ إِلَّا أَنْ يُقَاتَلُوا فِيهَا، وَمَا نُسِخَتْ. وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ، لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غزا هو ازن بحنين وثقيفا بالطائف، وحاصر هم فِي شَوَّالٍ وَبَعْضِ ذِي الْقِعْدَةِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ هَذَا الْمَعْنَى فِي الْبَقَرَةِ. الثَّانِي «2» - لَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ بِارْتِكَابِ الذُّنُوبِ، لِأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ إِذَا عَظَّمَ شَيْئًا مِنْ جِهَةٍ وَاحِدَةٍ صَارَتْ لَهُ حُرْمَةٌ وَاحِدَةٌ وَإِذَا عَظَّمَهُ مِنْ جِهَتَيْنِ أَوْ جِهَاتٍ صَارَتْ حُرْمَتُهُ مُتَعَدِّدَةً فَيُضَاعَفُ فِيهِ الْعِقَابُ بِالْعَمَلِ السَّيِّئِ كَمَا يُضَاعَفُ الثَّوَابُ بِالْعَمَلِ الصَّالِحِ. فَإِنَّ مَنْ أَطَاعَ اللَّهَ فِي الشَّهْرِ الحرام في البلد الحرام ليس
__________
(1). راجع ج 2 ص 404 فما بعد.
(2). راجع ج 3 ص 43.

(8/134)


ثَوَابُهُ ثَوَابَ مَنْ أَطَاعَهُ فِي الشَّهْرِ الْحَلَالِ فِي الْبَلَدِ الْحَرَامِ. وَمَنْ أَطَاعَهُ فِي الشَّهْرِ الْحَلَالِ فِي الْبَلَدِ الْحَرَامِ لَيْسَ ثَوَابُهُ ثَوَابَ مَنْ أَطَاعَهُ فِي شَهْرٍ حَلَالٍ فِي بَلَدٍ حَلَالٍ. وَقَدْ أَشَارَ تَعَالَى إِلَى هَذَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى:" يَا نِساءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ ضِعْفَيْنِ" «1» [الأحزاب: 30]. السَّابِعَةُ- وَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ مِنْ هَذَا الْمَعْنَى فِيمَنْ قَتَلَ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ خَطَأً، هَلْ تُغَلَّظُ عَلَيْهِ الدِّيَةُ أَمْ لَا، فَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: الْقَتْلُ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ تُغَلَّظُ فِيهِ الدِّيَةُ فِيمَا بَلَغَنَا وَفِي الْحَرَمِ فَتُجْعَلُ دِيَةً وَثُلُثًا. وَيُزَادُ فِي شَبَهِ الْعَمْدِ فِي أَسْنَانِ الْإِبِلِ. قَالَ الشَّافِعِيُّ: تُغَلَّظُ الدِّيَةُ فِي النَّفْسِ وَفِي الْجِرَاحِ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ وَفِي الْبَلَدِ الْحَرَامِ وذوي الرحم. وروي عن القاسم ابن مُحَمَّدٍ وَسَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ وَابْنِ شِهَابٍ وَأَبَانِ بْنِ عُثْمَانَ: مَنْ قُتِلَ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ أَوْ فِي الْحَرَمِ زِيدَ عَلَى دِيَتِهِ مِثْلُ ثُلُثِهَا. وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ أَيْضًا. وَقَالَ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُمَا وَابْنُ أَبِي لَيْلَى: الْقَتْلُ فِي الْحِلِّ وَالْحَرَمِ سَوَاءٌ، وَفِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ وَغَيْرِهِ سَوَاءٌ، وَهُوَ قَوْلُ جَمَاعَةٍ مِنَ التَّابِعِينَ. وَهُوَ الصَّحِيحُ، لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَنَّ الدِّيَاتِ وَلَمْ يَذْكُرْ فِيهَا الْحَرَمَ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ. وَأَجْمَعُوا أَنَّ الْكَفَّارَةَ عَلَى مَنْ قَتَلَ خَطَأً فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ وَغَيْرِهِ سَوَاءٌ. فَالْقِيَاسُ أَنْ تَكُونَ الدِّيَةُ كَذَلِكَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الثَّامِنَةُ- خَصَّ اللَّهُ تَعَالَى الْأَرْبَعَةَ الْأَشْهُرَ الْحُرُمَ بِالذِّكْرِ، وَنَهَى عَنِ الظُّلْمِ فِيهَا تَشْرِيفًا لَهَا وَإِنْ كَانَ مَنْهِيًّا عَنْهُ فِي كُلِّ الزَّمَانِ. كَمَا قَالَ:" فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدالَ فِي الْحَجِّ" [البقرة: 197] عَلَى هَذَا أَكْثَرُ أَهْلِ التَّأْوِيلِ. أَيْ لَا تَظْلِمُوا فِي الْأَرْبَعَةِ الْأَشْهُرِ أَنْفُسَكُمْ. وَرَوَى حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ زَيْدٍ عَنْ يُوسُفَ بْنِ مِهْرَانَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ:" فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ" فِي الِاثْنَيْ عَشَرَ. وَرَوَى قَيْسُ بْنُ مُسْلِمٍ عَنِ الْحَسَنِ عَنْ محمد بن الْحَنَفِيَّةِ قَالَ: فِيهِنَّ كُلِّهِنَّ. فَإِنْ قِيلَ عَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ: لِمَ قَالَ فِيهِنَّ وَلَمْ يَقُلْ فِيهَا؟ وَذَلِكَ أَنَّ الْعَرَبَ يَقُولُونَ لِمَا بَيْنَ الثَّلَاثَةِ إِلَى الْعَشَرَةِ: هُنَّ وَهَؤُلَاءِ فَإِذَا جَاوَزُوا الْعَشَرَةَ قَالُوا: هِيَ وَهَذِهِ، إِرَادَةَ أَنْ تُعْرَفَ تَسْمِيَةُ الْقَلِيلِ مِنْ الْكَثِيرِ. وَرُوِيَ عَنِ الْكِسَائِيِّ أنه قال: إني لا تعجب من فعل
__________
(1). راجع ج 14 ص 173 فما بعد.

(8/135)


إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (37)

الْعَرَبِ هَذَا. وَكَذَلِكَ يَقُولُونَ فِيمَا دُونَ الْعَشَرَةِ مِنَ اللَّيَالِي: خَلَوْنَ. وَفِيمَا فَوْقَهَا خَلَتْ. لَا يُقَالُ: كَيْفَ جَعَلَ بَعْضَ الْأَزْمِنَةِ أَعْظَمَ حُرْمَةً مِنْ بَعْضٍ، فَإِنَّا نَقُولُ: لِلْبَارِئِ تَعَالَى أَنْ يَفْعَلَ مَا يَشَاءُ، وَيَخُصُّ بِالْفَضِيلَةِ مَا يَشَاءُ، لَيْسَ لِعَمَلِهِ عِلَّةٌ وَلَا عَلَيْهِ حَجْرٌ، بَلْ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ بِحِكْمَتِهِ، وَقَدْ تَظْهَرُ فِيهِ الْحِكْمَةُ وَقَدْ تَخْفَى. قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً) فِيهِ مَسْأَلَةٌ وَاحِدَةٌ: قَوْلُهُ تَعَالَى:" قاتِلُوا" أَمْرٌ بِالْقِتَالِ. وَ" كَافَّةً" مَعْنَاهُ جَمِيعًا، وَهُوَ مَصْدَرٌ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ. أَيْ مُحِيطِينَ بِهِمْ وَمُجْتَمِعِينَ. قَالَ الزَّجَّاجُ: مِثْلُ هَذَا مِنَ الْمَصَادِرِ عَافَاهُ اللَّهُ عَافِيَةً وَعَاقَبَهُ عَاقِبَةً. وَلَا يُثَنَّى وَلَا يُجْمَعُ، وَكَذَا عَامَّةً وَخَاصَّةً. قَالَ بَعْضُ العلماء: كان الغرض بهذه الآية قد توجه على الا عيان ثُمَّ نُسِخَ ذَلِكَ وَجُعِلَ فَرْضَ كِفَايَةٍ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ لَمْ يُعْلَمْ قَطُّ مِنْ شَرْعِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ أَلْزَمَ الْأُمَّةَ جَمِيعًا النَّفْرَ، وَإِنَّمَا مَعْنَى هَذِهِ الْآيَةِ الْحَضُّ عَلَى قِتَالِهِمْ وَالتَّحَزُّبُ عَلَيْهِمْ وَجَمْعُ الْكَلِمَةِ. ثُمَّ قَيَّدَهَا بِقَوْلِهِ:" كَما يُقاتِلُونَكُمْ كَافَّةً" فَبِحَسَبِ قِتَالِهِمْ وَاجْتِمَاعِهِمْ لَنَا يَكُونُ فرض اجتماعنا لهم. والله أعلم.

[سورة التوبة (9): آية 37]
إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عاماً وَيُحَرِّمُونَهُ عاماً لِيُواطِؤُا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمالِهِمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ (37)
قوله تعالى: (إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ) هَكَذَا يَقْرَأُ أَكْثَرُ الْأَئِمَّةِ. قَالَ النَّحَّاسُ: وَلَمْ يَرْوِ أَحَدٌ عَنْ نَافِعٍ فيما علمناه" إِنَّمَا النَّسِيءُ" بِلَا هَمْزٍ إِلَّا وَرْشٌ وَحْدَهُ. وَهُوَ مُشْتَقٌّ مِنْ نَسَأَهُ وَأَنْسَأَهُ إِذَا أَخَّرَهُ، حَكَى اللُّغَتَيْنِ الكسائي. الجوهري: النسي فَعِيلٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ، مِنْ قَوْلِكَ: نَسَأْتُ الشَّيْءَ فَهُوَ مَنْسُوءٌ إِذَا أَخَّرْتَهُ. ثُمَّ يُحَوَّلُ مَنْسُوءٌ إلى نسئ كَمَا يُحَوَّلُ مَقْتُولٌ إِلَى قَتِيلٍ. وَرَجُلٌ نَاسِئٌ وَقَوْمٌ نَسَأَةٌ، مِثْلُ فَاسِقٍ وَفَسَقَةٍ. قَالَ الطَّبَرِيُّ: النسي بالهمزة معناه الزيادة، يقال: نَسَأَ يَنْسَأُ إِذَا زَادَ. قَالَ: وَلَا يَكُونُ بِتَرْكِ الْهَمْزِ إِلَّا مِنَ النِّسْيَانِ، كَمَا قَالَ تعالى:

(8/136)


" نَسُوا اللَّهَ «1» فَنَسِيَهُمْ" [التوبة: 67]، وَرَدَّ عَلَى نَافِعٍ قِرَاءَتَهُ، وَاحْتَجَّ بِأَنْ قَالَ: إِنَّهُ يَتَعَدَّى بِحَرْفِ الْجَرِّ يُقَالُ: نَسَأَ اللَّهُ فِي أَجَلِكَ كَمَا تَقُولُ زَادَ اللَّهُ فِي أَجَلِكَ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: (مَنْ سَرَّهُ أَنْ يُبْسَطَ لَهُ فِي رِزْقِهِ وَيُنْسَأُ لَهُ فِي أَثَرِهِ «2» فَلْيَصِلْ رَحِمَهُ). قَالَ الْأَزْهَرِيُّ: أَنْسَأْتُ الشَّيْءَ إِنْسَاءً وَنَسِيئًا اسْمٌ وُضِعَ مَوْضِعَ الْمَصْدَرِ الْحَقِيقِيِّ. وَكَانُوا يُحَرِّمُونَ الْقِتَالَ فِي الْمُحَرَّمِ فَإِذَا احْتَاجُوا إِلَى ذَلِكَ حَرَّمُوا صَفَرًا بَدَلَهُ وَقَاتَلُوا فِي الْمُحَرَّمِ. وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ الْعَرَبَ كَانَتْ أَصْحَابَ حُرُوبٍ وَغَارَاتٍ فَكَانَ يَشُقُّ عَلَيْهِمْ أَنْ يَمْكُثُوا ثَلَاثَةَ أَشْهُرٍ مُتَوَالِيَةٍ لَا يُغِيرُونَ فِيهَا، وَقَالُوا: لَئِنْ تَوَالَتْ عَلَيْنَا ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ لَا نُصِيبُ فِيهَا شَيْئًا لَنَهْلِكَنَّ. فَكَانُوا إِذَا صَدَرُوا عَنْ مِنًى يَقُومُ مِنْ بَنِي كِنَانَةَ، ثُمَّ مِنْ بَنِي فُقَيْمٍ مِنْهُمْ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ الْقَلَمَّسُ، فَيَقُولُ أَنَا الَّذِي لَا يُرَدُّ لِي قَضَاءٌ. فَيَقُولُونَ: أَنْسِئْنَا شَهْرًا، أَيْ أَخِّرْ عَنَّا حُرْمَةَ الْمُحَرَّمِ وَاجْعَلْهَا فِي صَفَرٍ، فَيُحِلُّ لَهُمُ الْمُحَرَّمَ. فَكَانُوا كَذَلِكَ شَهْرًا فَشَهْرًا حَتَّى اسْتَدَارَ التَّحْرِيمُ عَلَى السَّنَةِ كُلِّهَا. فَقَامَ الْإِسْلَامُ وَقَدْ رَجَعَ الْمُحَرَّمُ إِلَى مَوْضِعِهِ الَّذِي وَضَعَهُ اللَّهُ فِيهِ. وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: (إِنَّ الزَّمَانَ قَدِ اسْتَدَارَ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ خَلَقَ الله السموات وَالْأَرْضَ). وَقَالَ مُجَاهِدٌ: كَانَ الْمُشْرِكُونَ يَحُجُّونَ فِي كُلِّ شَهْرٍ عَامَيْنِ، فَحَجُّوا فِي ذِي الْحِجَّةِ عَامَيْنِ، ثُمَّ حَجُّوا فِي الْمُحَرَّمِ عَامَيْنِ، ثُمَّ حَجُّوا فِي صَفَرٍ عَامَيْنِ، وَكَذَلِكَ فِي الشُّهُورِ كُلِّهَا حَتَّى وَافَقَتْ حَجَّةُ أَبِي بَكْرٍ الَّتِي حَجَّهَا قَبْلَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ ذَا الْقِعْدَةِ مِنَ السَّنَةِ التَّاسِعَةِ. ثُمَّ حَجَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْعَامِ الْمُقْبِلِ حَجَّةَ الْوَدَاعِ فَوَافَقَتْ ذَا الْحِجَّةِ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ فِي خُطْبَتِهِ: (إِنَّ الزَّمَانَ قَدِ اسْتَدَارَ) الْحَدِيثَ. أَرَادَ بِذَلِكَ أَنَّ أَشْهُرَ الْحَجِّ رَجَعَتْ إِلَى مَوَاضِعِهَا، وَعَادَ الحج إلى ذي الحجة وبطل النسي. وَقَوْلٌ ثَالِثٌ. قَالَ إِيَاسُ بْنُ مُعَاوِيَةَ: كَانَ الْمُشْرِكُونَ يَحْسِبُونَ السَّنَةَ اثْنَيْ عَشَرَ شَهْرًا وَخَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا، فَكَانَ الْحَجُّ يَكُونُ فِي رَمَضَانَ وَفِي ذِي الْقِعْدَةِ، وَفِي كُلِّ شَهْرٍ مِنَ السَّنَةِ بِحُكْمِ اسْتِدَارَةِ الشَّهْرِ بِزِيَادَةِ الْخَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا فَحَجَّ أَبُو بَكْرٍ سَنَةَ تِسْعٍ فِي ذِي الْقِعْدَةِ بِحُكْمِ الِاسْتِدَارَةِ، وَلَمْ يَحُجَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمَّا كَانَ فِي العام المقبل وافق الحج ذا الحجة
__________
(1). راجع ص 199 من هذا الجزء.
(2). الأثر: الأجل، وسمي به لأنه يتبع العمر، وأصله من أثر مشيه في الأرض فإن من مات لا تبقى له حركة فلا يبقى لاقدامه في الأرض أثر. (عن شرح القسطلاني).

(8/137)


فِي الْعَشْرِ، وَوَافَقَ ذَلِكَ الْأَهِلَّةَ. وَهَذَا الْقَوْلُ أَشْبَهُ بِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إِنَّ الزَّمَانَ قَدِ اسْتَدَارَ). أَيْ زَمَانَ الْحَجِّ عَادَ إِلَى وَقْتِهِ الْأَصْلِيِّ الَّذِي عَيَّنَهُ اللَّهُ يوم خلق السموات وَالْأَرْضَ بِأَصْلِ الْمَشْرُوعِيَّةِ الَّتِي سَبَقَ بِهَا عِلْمُهُ، وَنَفَذَ بِهَا حُكْمُهُ. ثُمَّ قَالَ: السَّنَةُ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا. يَنْفِي بِذَلِكَ الزِّيَادَةَ الَّتِي زَادُوهَا فِي السَّنَةِ- وَهِيَ الْخَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا- بِتَحَكُّمِهِمْ، فَتَعَيَّنَ الْوَقْتُ الْأَصْلِيُّ وَبَطَلَ التَّحَكُّمُ الْجَهْلِيُّ. وَحَكَى الْإِمَامُ الْمَازِرِيُّ عَنِ الْخُوَارَزْمِيِّ أَنَّهُ قَالَ: أَوَّلُ مَا خَلَقَ اللَّهُ الشَّمْسَ أَجْرَاهَا فِي بُرْجِ الْحَمَلِ، وَكَانَ الزَّمَانُ الَّذِي أَشَارَ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَادَفَ حُلُولَ الشَّمْسِ بُرْجَ الْحَمَلِ. وَهَذَا يَحْتَاجُ إِلَى تَوْقِيفٍ، فَإِنَّهُ لَا يُتَوَصَّلُ إِلَيْهِ إِلَّا بِالنَّقْلِ عَنِ الْأَنْبِيَاءِ، وَلَا نَقْلَ صَحِيحًا عَنْهُمْ بِذَلِكَ، وَمَنِ ادَّعَاهُ فَلْيُسْنِدْهُ. ثُمَّ إِنَّ الْعَقْلَ يُجَوِّزُ خِلَافَ مَا قَالَ، وَهُوَ أَنْ يَخْلُقَ اللَّهُ الشَّمْسَ قَبْلَ الْبُرُوجِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَخْلُقَ ذَلِكَ كُلَّهُ دَفْعَةً وَاحِدَةً. ثُمَّ إِنَّ عُلَمَاءَ التَّعْدِيلِ قَدِ اخْتَبَرُوا ذَلِكَ فَوَجَدُوا الشَّمْسَ فِي بُرْجِ الْحُوتِ وَقْتَ قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: (إِنَّ الزَّمَانَ قَدِ اسْتَدَارَ) بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْحَمَلِ عِشْرُونَ دَرَجَةً. وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ عَشْرُ دَرَجَاتٍ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَاخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي أَوَّلِ مَنْ نَسَأَ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةُ وَالضَّحَّاكُ: بَنُو مَالِكِ بْنِ كِنَانَةَ، وَكَانُوا ثَلَاثَةً. وَرَوَى جُوَيْبِرٌ «1» عَنِ الضَّحَّاكِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ أَوَّلَ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ عمرو بن لحي بن قمعة بن خندف. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: أَوَّلُ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي كِنَانَةَ يُقَالُ لَهُ نُعَيْمُ بْنُ ثَعْلَبَةَ، ثُمَّ كَانَ بَعْدَهُ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ: جُنَادَةُ بْنُ عَوْفٍ، وَهُوَ الَّذِي أَدْرَكَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَالَ الزُّهْرِيُّ: حَيٌّ مِنْ بَنِي كِنَانَةَ ثُمَّ مِنْ بَنِي فُقَيْمٍ مِنْهُمْ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ الْقَلَمَّسُ وَاسْمُهُ حُذَيْفَةُ بْنُ عُبَيْدٍ. وَفِي رِوَايَةٍ: مَالِكُ بْنُ كنانة. وكان الذي يلي النسي يظفر بالرئاسة لِتَرَيُّسِ الْعَرَبِ إِيَّاهُ. وَفِي ذَلِكَ يَقُولُ شَاعِرُهُمْ:
وَمِنَّا نَاسِئُ الشَّهْرِ الْقَلَمَّسُ

وَقَالَ الْكُمَيْتُ «2»:
أَلَسْنَا النَّاسِئِينَ عَلَى مَعَدٍّ ... شُهُورَ الْحِلِّ نَجْعَلُهَا حَرَامًا
__________
(1). في نسخ الأصل: (جرير) وهو تحريف.
(2). في اللسان لعمير بن قيس بن جذل الطعان.

(8/138)


قَوْلُهُ تَعَالَى: (زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ) بَيَانٌ لِمَا فَعَلَتْهُ الْعَرَبُ مِنْ جَمْعِهَا مِنْ أَنْوَاعِ الْكُفْرِ فَإِنَّهَا أَنْكَرَتْ وُجُودَ الْبَارِئِ تَعَالَى فَقَالَتْ:" وَمَا الرَّحْمنُ" «1» [الفرقان: 0] في أصح الوجوه. وأنكرت البعث فقالت:" قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ" «2» [يس: 78]. وَأَنْكَرَتْ بَعْثَةَ الرُّسُلِ فَقَالُوا:" أَبَشَراً مِنَّا واحِداً نَتَّبِعُهُ" «3» [القمر: 24]. وَزَعَمَتْ أَنَّ التَّحْلِيلَ وَالتَّحْرِيمَ إِلَيْهَا، فَابْتَدَعَتْهُ مِنْ ذَاتِهَا مُقْتَفِيَةً لِشَهَوَاتِهَا فَأَحَلَّتْ مَا حَرَّمَ اللَّهُ. وَلَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ. قَوْلُهُ تَعَالَى: (يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عاماً لِيُواطِؤُا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمالِهِمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ) فِيهِ ثَلَاثُ قِرَاءَاتٍ. قَرَأَ أَهْلُ الْحَرَمَيْنِ وَأَبُو عَمْرٍو" يُضَلُّ" وَقَرَأَ الْكُوفِيُّونَ" يُضَلُّ" عَلَى الْفِعْلِ الْمَجْهُولِ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَأَبُو رَجَاءٍ" يُضَلُّ" وَالْقِرَاءَاتُ الثَّلَاثُ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهَا تُؤَدِّي عَنْ مَعْنًى، إِلَّا أَنَّ الْقِرَاءَةَ الثَّالِثَةَ حُذِفَ مِنْهَا الْمَفْعُولُ. وَالتَّقْدِيرُ: وَيُضِلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا مَنْ يَقْبَلُ مِنْهُمْ. وَ" الَّذِينَ" فِي مَحَلِّ رَفْعٍ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ رَاجِعًا إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. التَّقْدِيرُ: يُضِلُّ اللَّهُ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى:" يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ" «4» [الرعد: 27]، وَكَقَوْلِهِ فِي آخِرِ الْآيَةِ:" وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ". وَالْقِرَاءَةُ الثَّانِيَةُ" يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا" يَعْنِي الْمَحْسُوبَ لَهُمْ، وَاخْتَارَ هَذِهِ الْقِرَاءَةَ أَبُو عُبَيْدٍ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى:" زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمالِهِمْ". وَالْقِرَاءَةُ الْأُولَى اخْتَارَهَا أَبُو حَاتِمٍ، لِأَنَّهُمْ كَانُوا ضَالِّينَ بِهِ أَيْ بِالنَّسِيءِ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَحْسِبُونَهُ فَيَضِلُّونَ بِهِ. وَالْهَاءُ فِي" يُحِلُّونَهُ" تَرْجِعُ إلى النسي. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي رَجَاءٍ" يَضَلُّ" بِفَتْحِ الْيَاءِ وَالضَّادِ. وَهِيَ لُغَةٌ، يُقَالُ: ضَلِلْتُ أَضَلُّ، وَضَلَلْتُ أضل." لِيُواطِؤُا" نُصِبَ بِلَامِ كَيْ أَيْ لِيُوَافِقُوا. تَوَاطَأَ الْقَوْمُ عَلَى كَذَا أَيِ اجْتَمَعُوا عَلَيْهِ، أَيْ لَمْ يُحِلُّوا شَهْرًا إِلَّا حَرَّمُوا شَهْرًا لِتَبْقَى الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ أَرْبَعَةً. وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ، لَا مَا يُذْكَرُ أَنَّهُمْ جَعَلُوا الْأَشْهُرَ خَمْسَةً. قَالَ قَتَادَةُ: إِنَّهُمْ عَمَدُوا إِلَى صَفَرٍ فَزَادُوهُ فِي الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ، وَقَرَنُوهُ بِالْمُحَرَّمِ فِي التَّحْرِيمِ، وَقَالَهُ عَنْهُ قطرب والطبري. وعليه يكون النسي بمعنى الزيادة. والله أعلم.
__________
(1). راجع ج 13 ص 64.
(2). راجع ج 15 ص 58. [ ..... ]
(3). راجع ج 17 ص 137 فما بعد.
(4). راجع ج 14 ص 324 فما بعد.

(8/139)


يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ (38)

[سورة التوبة (9): آية 38]
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَياةِ الدُّنْيا مِنَ الْآخِرَةِ فَما مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ (38)
فِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى: (مَا لَكُمْ) " مَا" حَرْفُ اسْتِفْهَامٍ مَعْنَاهُ التَّقْرِيرُ وَالتَّوْبِيخُ التقدير: أي شي يمنعكم عن كذا كما تقول: مالك عَنْ فُلَانٍ مُعْرِضًا. وَلَا خِلَافَ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ عِتَابًا عَلَى تَخَلُّفِ مَنْ تَخَلَّفَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ، وَكَانَتْ سَنَةَ تِسْعٍ مِنَ الْهِجْرَةِ بَعْدَ الْفَتْحِ بِعَامٍ، وَسَيَأْتِي ذِكْرُهَا فِي آخِرِ السُّورَةِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ. وَالنَّفْرُ: هُوَ التَّنَقُّلُ بِسُرْعَةٍ مِنْ مَكَانٍ إِلَى مَكَانٍ لِأَمْرٍ يَحْدُثُ، يُقَالُ فِي ابْنِ آدَمَ: نَفَرَ إِلَى الام يَنْفِرُ نُفُورًا. وَقَوْمٌ نُفُورٌ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَلَّوْا عَلى أَدْبارِهِمْ نُفُوراً" «1» [الاسراء: 46]. وَيُقَالُ فِي الدَّابَّةِ: نَفَرَتْ تَنْفُرُ (بِضَمِّ الْفَاءِ وكسر ها) نِفَارًا وَنُفُورًا. يُقَالُ: فِي الدَّابَّةِ نِفَارٌ، وَهُوَ اسْمٌ مِثْلُ الْحِرَانِ. وَنَفَرَ الْحَاجُّ مِنْ مِنًى نفرا. الثانية- قوله تعالى: (اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ) قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: مَعْنَاهُ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى نَعِيمِ الْأَرْضِ، أَوْ إِلَى الْإِقَامَةِ بِالْأَرْضِ. وَهُوَ تَوْبِيخٌ عَلَى تَرْكِ الْجِهَادِ وَعِتَابٌ عَلَى التَّقَاعُدِ عَنِ الْمُبَادَرَةِ إِلَى الْخُرُوجِ، وَهُوَ نَحْوُ مَنْ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ. وَأَصْلُهُ تَثَاقَلْتُمْ، أُدْغِمَتِ التَّاءُ فِي الثَّاءِ لِقُرْبِهَا مِنْهَا، وَاحْتَاجَتْ إِلَى أَلِفِ الْوَصْلِ لِتَصِلَ إلى النطق بالساكن، ومثله" ادَّارَكُوا" «2» [الأعراف: 38] و" فَادَّارَأْتُمْ" «3» [البقرة: 72] و" اطَّيَّرْنا" «4» [النمل: 47] و" ازَّيَّنَتْ" «5» [يونس: 24]. وَأَنْشَدَ الْكِسَائِيُّ:
تُولِي الضَّجِيعَ إِذَا مَا اسْتَافَهَا خَصْرًا ... عَذْبَ الْمَذَاقِ إِذَا مَا اتَّابَعَ الْقُبَلُ «6»
__________
(1). راجع ج 10 ص 721.
(2). راجع ج 7 ص 204.
(3). راجع ج 1 ص 455.
(4). راجع ج 13 ص 214.
(5). راجع ج 8 ص 326.
(6). ساف الشيء يسوفه ويسافه سوفا وساوفه واستافه كله شمه. والخصر: البارد من كل شي.

(8/140)


إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (39)

وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ" تَثَاقَلْتُمْ" عَلَى الْأَصْلِ. حَكَاهُ الْمَهْدَوِيُّ. وَكَانَتْ تَبُوكُ- وَدَعَا النَّاسَ إِلَيْهَا «1» - فِي حَرَارَةِ الْقَيْظِ وَطِيبِ الثِّمَارِ وَبَرْدِ الظِّلَالِ- كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ عَلَى مَا يَأْتِي- فَاسْتَوْلَى عَلَى النَّاسِ الْكَسَلُ فَتَقَاعَدُوا وَتَثَاقَلُوا فَوَبَّخَهُمُ اللَّهُ بِقَوْلِهِ هَذَا وَعَابَ عَلَيْهِمُ الْإِيثَارَ لِلدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ. وَمَعْنَى (أَرَضِيتُمْ بِالْحَياةِ الدُّنْيا مِنَ الْآخِرَةِ) أَيْ بَدَلًا، التَّقْدِيرُ: أَرَضِيتُمْ بِنَعِيمِ الدُّنْيَا بَدَلًا مِنْ نَعِيمِ الْآخِرَةِ فَ"- مِنَ" تَتَضَمَّنُ مَعْنَى الْبَدَلِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى:" وَلَوْ نَشاءُ لَجَعَلْنا مِنْكُمْ مَلائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ" «2» [الزخرف: 60] أَيْ بَدَلًا مِنْكُمْ. وَقَالَ الشَّاعِرُ «3»:
فَلَيْتَ لَنَا مِنْ مَاءِ زَمْزَمَ شَرْبَةً ... مُبَرَّدَةً بَاتَتْ عَلَى طَهَيَانِ
وَيُرْوَى مِنْ مَاءِ حَمْنَانَ «4». أَرَادَ: لَيْتَ لَنَا بَدَلًا مِنْ مَاءِ زَمْزَمَ شَرْبَةً مُبَرَّدَةً. وَالطَّهَيَانُ: عُودٌ يُنْصَبُ فِي نَاحِيَةِ الدَّارِ لِلْهَوَاءِ، يُعَلَّقُ عَلَيْهِ الْمَاءُ حَتَّى يَبْرُدَ. عَاتَبَهُمُ اللَّهُ عَلَى إِيثَارِ الرَّاحَةِ فِي الدُّنْيَا عَلَى الرَّاحَةِ فِي الْآخِرَةِ، إِذْ لَا تُنَالُ رَاحَةُ الْآخِرَةِ إِلَّا بِنَصَبِ الدُّنْيَا. قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَائِشَةَ وَقَدْ طَافَتْ رَاكِبَةً: (أَجْرُكِ عَلَى قدر نصبك). خرجه البخاري.

[سورة التوبة (9): آية 39]
إِلاَّ تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّوهُ شَيْئاً وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (39)
فِيهِ مَسْأَلَةٌ وَاحِدَةٌ- وَهُوَ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى:" إِلَّا تَنْفِرُوا" شَرْطٌ، فَلِذَلِكَ حُذِفَتْ مِنْهُ النُّونُ. وَالْجَوَابُ" يُعَذِّبْكُمْ"،" وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ" وَهَذَا تَهْدِيدٌ شَدِيدٌ وَوَعِيدٌ مُؤَكَّدٌ فِي تَرْكِ النَّفِيرِ. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَمِنْ مُحَقَّقَاتِ الْأُصُولِ أَنَّ الْأَمْرَ إِذَا وَرَدَ فَلَيْسَ فِي وُرُودِهِ أَكْثَرُ مِنِ اقْتِضَاءِ الْفِعْلِ. فَأَمَّا الْعِقَابُ عِنْدَ التَّرْكِ فَلَا يُؤْخَذُ مِنْ نَفْسِ الْأَمْرِ وَلَا يقتضيه
__________
(1). قوله: (ودعا الناس إليها) قال ابن إسحاق: .. وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قلما يخرج في غزوة إلا كنى عنها وأخبر أنه يريد غير الوجه الذي يصمد له، إلا ما كان من غزوة تبوك فإنه بينها للناس لبعد الشقة وشدة الزمان .. إلخ.
(2). راجع ج 16 ص 194.
(3). هو يعلى بن مسلم بن قيس الشكري، كما في اللسان. وقيل إنه الأحول الكندي.
(4). حمنان: مكة.

(8/141)


الِاقْتِضَاءُ، وَإِنَّمَا يَكُونُ الْعِقَابُ بِالْخَبَرِ عَنْهُ، كَقَوْلِهِ: إِنْ لَمْ تَفْعَلْ كَذَا عَذَّبْتُكَ بِكَذَا، كَمَا وَرَدَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ. فَوَجَبَ بِمُقْتَضَاهَا النَّفِيرُ لِلْجِهَادِ وَالْخُرُوجُ إِلَى الْكُفَّارِ لِمُقَاتَلَتِهِمْ عَلَى أَنْ تكون كلمة الله هي العليا. وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ:" إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً" وَ" مَا كانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ" إلى قوله-" يَعْمَلُونَ" «1» [التوبة: 120] نَسَخَتْهَا الْآيَةُ الَّتِي تَلِيهَا:" وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً" [التوبة: 122]. وَهُوَ قَوْلُ الضَّحَّاكِ وَالْحَسَنِ وَعِكْرِمَةَ." يُعَذِّبْكُمْ" قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هُوَ حَبْسُ الْمَطَرِ عَنْهُمْ. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: فَإِنْ صَحَّ ذَلِكَ عَنْهُ فَهُوَ أَعْلَمُ مِنْ أَيْنَ قَالَهُ، وَإِلَّا فَالْعَذَابُ الْأَلِيمُ هُوَ فِي الدُّنْيَا بِاسْتِيلَاءِ الْعَدُوِّ وَبِالنَّارِ فِي الْآخِرَةِ. قُلْتُ: قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ خَرَّجَهُ الْإِمَامُ أَبُو دَاوُدَ فِي سُنَنِهِ عَنِ ابْنِ نُفَيْعٍ قَالَ: سَأَلْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ" إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً" قَالَ: فَأَمْسَكَ عَنْهُمُ الْمَطَرَ فَكَانَ عَذَابَهُمْ. وَذَكَرَهُ الْإِمَامُ أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ عَطِيَّةَ مَرْفُوعًا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: اسْتَنْفَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبِيلَةً مِنَ الْقَبَائِلِ فَقَعَدَتْ، فَأَمْسَكَ اللَّهُ عنهم المطر وعذبها به. و" أليم" بِمَعْنَى مُؤْلِمٍ، أَيْ مُوجِعٍ. وَقَدْ تَقَدَّمَ «2». (وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ) تَوَعَّدَ بِأَنْ يُبَدِّلَ لِرَسُولِهِ قَوْمًا لا يقعدون عند استنفاره أيا هم. قِيلَ: أَبْنَاءُ فَارِسٍ. وَقِيلَ: أَهْلُ الْيَمَنِ. (وَلا تَضُرُّوهُ شَيْئاً) عَطْفٌ. وَالْهَاءُ قِيلَ لِلَّهِ تَعَالَى، وَقِيلَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَالتَّثَاقُلُ عَنِ الْجِهَادِ مَعَ إِظْهَارِ الْكَرَاهَةِ حَرَامٌ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ. فَأَمَّا مِنْ غَيْرِ كَرَاهَةٍ فَمَنْ عَيَّنَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَرُمَ عَلَيْهِ التَّثَاقُلُ وَإِنْ أَمِنَ مِنْهُمَا فَالْفَرْضُ فَرْضُ كِفَايَةٍ، ذَكَرَهُ الْقُشَيْرِيُّ. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ الْمُرَادَ بِهَذِهِ الْآيَةِ وُجُوبُ النَّفِيرِ عِنْدَ الْحَاجَةِ وَظُهُورِ الْكَفَرَةِ وَاشْتِدَادِ شَوْكَتِهِمْ. وَظَاهِرُ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ عَلَى وَجْهِ الِاسْتِدْعَاءِ فَعَلَى هَذَا لَا يَتَّجِهُ الْحَمْلُ عَلَى وَقْتِ ظُهُورِ الْمُشْرِكِينَ فَإِنَّ وُجُوبَ ذَلِكَ لَا يَخْتَصُّ بِالِاسْتِدْعَاءِ، لِأَنَّهُ مُتَعَيِّنٌ. وَإِذَا ثَبَتَ ذَلِكَ فَالِاسْتِدْعَاءُ وَالِاسْتِنْفَارُ يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ مُوجِبًا شَيْئًا لَمْ يَجِبْ مِنْ قَبْلُ إِلَّا أَنَّ الْإِمَامَ إِذَا عَيَّنَ قَوْمًا وَنَدَبَهُمْ إِلَى الْجِهَادِ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ أَنْ يَتَثَاقَلُوا عِنْدَ التَّعْيِينِ وَيَصِيرُ بِتَعْيِينِهِ فَرْضًا عَلَى مَنْ عَيَّنَهُ لَا لِمَكَانِ الْجِهَادِ وَلَكِنْ لِطَاعَةِ الْإِمَامِ. وَاللَّهُ أعلم.
__________
(1). راجع ص 290 من هذا الجزء.
(2). راجع ج 1 ص 198. [ ..... ]

(8/142)


إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (40)

[سورة التوبة (9): آية 40]
إِلاَّ تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُما فِي الْغارِ إِذْ يَقُولُ لِصاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْها وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (40)
فِيهِ إِحْدَى عَشْرَةَ مَسْأَلَةً: الْأُولَى قَوْلُهُ تَعَالَى: (إِلَّا تَنْصُرُوهُ) يَقُولُ: تُعِينُوهُ بِالنَّفْرِ مَعَهُ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ. عَاتَبَهُمُ اللَّهُ بَعْدَ انْصِرَافِ نَبِيِّهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنْ تَبُوكَ. قَالَ النَّقَّاشُ: هَذِهِ أَوَّلُ آيَةٍ نَزَلَتْ مِنْ سُورَةِ [بَرَاءَةٌ]. وَالْمَعْنَى: إِنْ تَرَكْتُمْ نَصْرَهُ فَاللَّهُ يَتَكَفَّلُ بِهِ، إِذْ قَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنِ الْقِلَّةِ وَأَظْهَرَهُ عَلَى عَدُوِّهِ بِالْغَلَبَةِ وَالْعِزَّةِ. وَقِيلَ: فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ بِصَاحِبِهِ فِي الْغَارِ بِتَأْنِيسِهِ لَهُ وَحَمْلِهِ عَلَى عُنُقِهِ، وَبِوَفَائِهِ وَوِقَايَتِهِ لَهُ بِنَفْسِهِ وَمُوَاسَاتِهِ لَهُ بِمَالِهِ. قَالَ اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ: مَا صَحِبَ الْأَنْبِيَاءَ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ مِثْلُ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ. وَقَالَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ. خَرَجَ أَبُو بَكْرٍ بِهَذِهِ الْآيَةِ مِنَ الْمُعَاتَبَةِ الَّتِي فِي قَوْلِهِ:" إِلَّا تَنْصُرُوهُ" الثَّانِيَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا) وَهُوَ خَرَجَ بِنَفْسِهِ فَارًّا، لَكِنْ بِإِلْجَائِهِمْ إِلَى ذَلِكَ حَتَّى فَعَلَهُ، فَنَسَبَ الْفِعْلَ إِلَيْهِمْ وَرَتَّبَ الْحُكْمَ فِيهِ عَلَيْهِمْ، فَلِهَذَا يُقْتَلُ الْمُكْرِهُ عَلَى الْقَتْلِ وَيَضْمَنُ الْمَالَ الْمُتْلَفَ بِالْإِكْرَاهِ، لِإِلْجَائِهِ الْقَاتِلَ وَالْمُتْلِفَ إِلَى الْقَتْلِ وَالْإِتْلَافِ. الثَّالِثَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (ثانِيَ اثْنَيْنِ) أَيْ أَحَدَ اثْنَيْنِ. وَهَذَا كَثَالِثِ ثَلَاثَةٍ وَرَابِعِ أَرْبَعَةٍ. فَإِذَا اخْتَلَفَ اللَّفْظُ فَقُلْتَ رَابِعُ ثَلَاثَةٍ وَخَامِسُ أَرْبَعَةٍ، فَالْمَعْنَى صَيَّرَ الثَّلَاثَةَ أَرْبَعَةً بِنَفْسِهِ وَالْأَرْبَعَةَ خَمْسَةً. وَهُوَ مَنْصُوبٌ عَلَى الْحَالِ، أَيْ أَخْرَجُوهُ مُنْفَرِدًا مِنْ جَمِيعِ النَّاسِ إِلَّا مِنْ أَبِي بَكْرٍ. وَالْعَامِلُ فِيهَا" نَصَرَهُ اللَّهُ" أَيْ نَصَرَهُ مُنْفَرِدًا وَنَصَرَهُ أَحَدُ اثْنَيْنِ. وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ سُلَيْمَانَ: التَّقْدِيرُ فَخَرَجَ ثَانِي اثْنَيْنِ، مِثْلُ" وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ «1» نَباتاً" [نوح: 17]. وقرا جمهور الناس
__________
(1). راجع ج 18 ص 305.

(8/143)


" ثانِيَ" بِنَصْبِ الْيَاءِ. قَالَ أَبُو حَاتِمٍ: لَا يُعْرَفُ غَيْرُ هَذَا. وَقَرَأَتْ فِرْقَةٌ" ثَانِي" بِسُكُونِ الْيَاءِ. قَالَ ابْنُ جِنِّيٍّ: حَكَاهَا أَبُو عَمْرِو بْنُ الْعَلَاءِ وَوَجْهُهُ أَنَّهُ سَكَّنَ الْيَاءَ تَشْبِيهًا لَهَا بِالْأَلِفِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: فَهِيَ كَقِرَاءَةِ الْحَسَنِ" مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا" وَكَقَوْلِ جَرِيرٍ:
هُوَ الْخَلِيفَةُ فَارْضَوْا مَا رَضِي لَكُمْ ... مَاضِي الْعَزِيمَةِ مَا فِي حُكْمِهِ جَنَفَ «1»
الرَّابِعَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (إِذْ هُما فِي الْغارِ) الْغَارُ: ثُقْبٌ فِي الْجَبَلِ، يَعْنِي غَارَ ثَوْرٍ. وَلَمَّا رَأَتْ قُرَيْشٌ أَنَّ الْمُسْلِمِينَ قَدْ صَارُوا إِلَى الْمَدِينَةِ قَالُوا: هَذَا شَرٌّ شَاغِلٌ لَا يُطَاقُ، فَأَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ عَلَى قَتْلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَبَيَّتُوهُ وَرَصَدُوهُ عَلَى بَابِ مَنْزِلِهِ طُولَ لَيْلَتِهِمْ لِيَقْتُلُوهُ إِذَا خَرَجَ، فَأَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ أَنْ يَنَامَ عَلَى فِرَاشِهِ، وَدَعَا اللَّهَ أَنْ يُعَمِّيَ عَلَيْهِمْ أَثَرَهُ، فَطَمَسَ اللَّهُ عَلَى أَبْصَارِهِمْ فَخَرَجَ وَقَدْ غَشِيَهُمُ النَّوْمُ، فَوَضَعَ عَلَى رؤوسهم تُرَابًا وَنَهَضَ فَلَمَّا أَصْبَحُوا خَرَجَ عَلَيْهِمْ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَأَخْبَرَهُمْ أَنْ لَيْسَ فِي الدَّارِ أَحَدٌ فَعَلِمُوا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ فَاتَ وَنَجَا. وَتَوَاعَدَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ لِلْهِجْرَةِ، فَدَفَعَا رَاحِلَتَيْهِمَا إِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَرْقَطَ. وَيُقَالُ ابْنُ أُرَيْقِطٍ، وَكَانَ كَافِرًا لَكِنَّهُمَا وَثِقَا بِهِ، وَكَانَ دَلِيلًا بِالطُّرُقِ فَاسْتَأْجَرَاهُ لِيَدُلَّ بِهِمَا إِلَى الْمَدِينَةِ. وَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من خَوْخَةٍ فِي ظَهْرِ دَارِ أَبِي بَكْرٍ الَّتِي فِي بَنِي جُمَحٍ وَنَهَضَا نَحْوَ الْغَارِ فِي جَبَلِ ثَوْرٍ، وَأَمَرَ أَبُو بَكْرٍ ابْنَهُ عَبْدَ اللَّهِ أَنْ يَسْتَمِعَ مَا يَقُولُ النَّاسُ، وَأَمَرَ مَوْلَاهُ عَامِرَ بْنَ فُهَيْرَةَ أَنْ يَرْعَى غَنَمَهُ وَيُرِيحَهَا «2» عَلَيْهِمَا لَيْلًا فَيَأْخُذُ مِنْهَا حَاجَتَهُمَا. ثُمَّ نَهَضَا فَدَخَلَا الْغَارَ. وَكَانَتْ أَسْمَاءُ بِنْتُ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ تَأْتِيهِمَا بِالطَّعَامِ وَيَأْتِيهِمَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ بِالْأَخْبَارِ، ثُمَّ يَتْلُوهُمَا عَامِرُ بن فهيرة بالغنم فيعفي آثار هما. فَلَمَّا فَقَدَتْهُ قُرَيْشٌ جَعَلَتْ تَطْلُبُهُ بِقَائِفٍ مَعْرُوفٍ بِقِفَاءِ الْأَثَرِ، حَتَّى وَقَفَ عَلَى الْغَارِ فَقَالَ: هُنَا انْقَطَعَ الْأَثَرُ. فَنَظَرُوا فَإِذَا بِالْعَنْكَبُوتِ قَدْ نَسَجَ عَلَى فَمِ الْغَارِ مِنْ سَاعَتِهِ، وَلِهَذَا نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ قَتْلِهِ فَلَمَّا رَأَوْا نَسْجَ الْعَنْكَبُوتِ أَيْقَنُوا أَنْ لَا أَحَدَ فِيهِ فَرَجَعُوا وَجَعَلُوا فِي النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِائَةَ نَاقَةٍ لِمَنْ رده عليهم.
__________
(1). راجع ج 3 ص 369.
(2). يريحها: يردها.

(8/144)


الْخَبَرُ مَشْهُورٌ، وَقِصَّةُ سُرَاقَةَ بْنِ مَالِكِ بْنِ جُعْشُمٍ فِي ذَلِكَ مَذْكُورَةٌ. وَقَدْ رُوِيَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي الدَّرْدَاءِ وَثَوْبَانَ [رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا «1»]: أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ أَمَرَ حَمَامَةً فَبَاضَتْ عَلَى نَسْجِ الْعَنْكَبُوتِ، وَجَعَلَتْ تَرْقُدُ عَلَى بِيضِهَا، فَلَمَّا نَظَرَ الْكُفَّارُ إِلَيْهَا رَدَّهُمْ ذَلِكَ عَنِ الْغَارِ. الْخَامِسَةُ- رَوَى الْبُخَارِيُّ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: اسْتَأْجَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبُو بَكْرٍ رَجُلًا مِنْ بَنِي الدِّيلِ هَادِيًا خِرِّيتًا «2»، وَهُوَ عَلَى دِينِ كُفَّارِ قُرَيْشٍ فَدَفَعَا إليه راحلتيهما وأعداه غَارَ ثَوْرٍ بَعْدَ ثَلَاثِ لَيَالٍ فَأَتَاهُمَا بِرَاحِلَتَيْهِمَا صَبِيحَةَ ثَلَاثٍ فَارْتَحَلَا وَارْتَحَلَ «3» مَعَهُمَا عَامِرُ بْنُ فُهَيْرَةَ وَالدَّلِيلُ الدِّيلِيُّ فَأَخَذَ بِهِمْ طَرِيقَ السَّاحِلِ «4». قَالَ الْمُهَلَّبُ: فِيهِ مِنَ الْفِقْهِ ائْتِمَانُ أَهْلِ الشِّرْكِ «5» عَلَى السِّرِّ وَالْمَالِ إِذَا عُلِمَ مِنْهُمْ وَفَاءٌ وَمُرُوءَةٌ كَمَا ائْتَمَنَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذَا الْمُشْرِكَ عَلَى سِرِّهِ فِي الْخُرُوجِ مِنْ مَكَّةَ وَعَلَى النَّاقَتَيْنِ. وَقَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: فِيهِ اسْتِئْجَارُ الْمُسْلِمِينَ الْكُفَّارَ عَلَى هِدَايَةِ الطَّرِيقِ. وَقَالَ الْبُخَارِيُّ فِي تَرْجَمَتِهِ: [بَابُ اسْتِئْجَارِ الْمُشْرِكِينَ عِنْدَ الضَّرُورَةِ أَوْ إِذَا لَمْ يُوجَدْ أَهْلُ الْإِسْلَامِ [قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: إِنَّمَا قَالَ الْبُخَارِيُّ فِي تَرْجَمَتِهِ] أَوْ إِذَا لَمْ يُوجَدْ أَهْلُ الْإِسْلَامِ [مِنْ أَجْلِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّمَا عَامَلَ أَهْلَ خَيْبَرَ عَلَى الْعَمَلِ فِي أَرْضِهَا إِذْ لَمْ يُوجَدْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ مَنْ يَنُوبُ مَنَابَهُمْ فِي عَمَلِ الْأَرْضِ، حَتَّى قَوِيَ الْإِسْلَامُ وَاسْتُغْنِيَ عَنْهُمْ أَجْلَاهُمْ عمر. وعامة الفقهاء يجيزون استئجار هم عند الضرورة وغير ها. وَفِيهِ: اسْتِئْجَارُ الرَّجُلَيْنِ الرَّجُلَ الْوَاحِدَ عَلَى عَمَلٍ وَاحِدٍ لَهُمَا. وَفِيهِ: دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ الْفِرَارِ بِالدِّينِ خَوْفًا مِنَ الْعَدُوِّ، وَالِاسْتِخْفَاءِ فِي الْغِيرَانِ وغير ها أَلَّا يُلْقِيَ الْإِنْسَانُ بِيَدِهِ إِلَى الْعَدُوِّ تَوَكُّلًا عَلَى اللَّهِ وَاسْتِسْلَامًا لَهُ. وَلَوْ شَاءَ رَبُّكُمْ لَعَصَمَهُ مَعَ كَوْنِهِ مَعَهُمْ وَلَكِنَّهَا سُنَّةُ اللَّهِ في الأنبياء وغير هم، وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا. وَهَذَا أَدَلُّ دَلِيلٍ عَلَى فَسَادِ مَنْ مَنَعَ ذَلِكَ وَقَالَ: مَنْ خَافَ مَعَ اللَّهِ سِوَاهُ كَانَ ذَلِكَ نَقْصًا فِي تَوَكُّلِهِ، وَلَمْ يُؤْمِنْ بِالْقَدَرِ. وَهَذَا كُلُّهُ فِي مَعْنَى الْآيَةِ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْهِدَايَةُ
__________
(1). من هـ.
(2). الخريت: الدليل الحاذق والماهر بطرق المفاوز.
(3). في ج وك وهـ وز: وانطلق.
(4). الساحل: موضع بعينه ولم يرد به ساحل البحر.
(5). في ج: الكفر.

(8/145)


السَّادِسَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (إِذْ يَقُولُ لِصاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنا) هَذِهِ الْآيَةُ تَضَمَّنَتْ فَضَائِلَ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. رَوَى أَصْبَغُ وَأَبُو زَيْدٍ عَنِ ابْنِ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ" ثانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُما فِي الْغارِ إِذْ يَقُولُ لِصاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنا" هُوَ الصِّدِّيقُ. فَحَقَّقَ اللَّهُ تَعَالَى قَوْلَهُ لَهُ بِكَلَامِهِ وَوَصَفَ الصُّحْبَةَ فِي كِتَابِهِ. قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: مَنْ أَنْكَرَ أَنْ يَكُونَ عُمَرُ وَعُثْمَانُ أَوْ أَحَدٌ مِنَ الصَّحَابَةِ صَاحِبَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهُوَ كَذَّابٌ مُبْتَدِعٌ. وَمَنْ أَنْكَرَ أَنْ يَكُونَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ صَاحِبَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهُوَ كَافِرٌ، لِأَنَّهُ رَدَّ نَصَّ الْقُرْآنِ. وَمَعْنَى" إِنَّ اللَّهَ مَعَنا" أَيْ بِالنَّصْرِ وَالرِّعَايَةِ وَالْحِفْظِ وَالْكِلَاءَةِ. رَوَى التِّرْمِذِيُّ وَالْحَارِثُ بْنُ أَبِي أُسَامَةَ قَالَا: حَدَّثَنَا عَفَّانُ قَالَ حَدَّثَنَا هَمَّامٌ قَالَ أَخْبَرَنَا ثَابِتٌ عَنْ أَنَسٍ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ حَدَّثَهُ قَالَ: قُلْتُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَحْنُ فِي الْغَارِ: لَوْ أن أحد هم نَظَرَ إِلَى قَدَمَيْهِ لَأَبْصَرَنَا تَحْتَ قَدَمَيْهِ، فَقَالَ: (يَا أَبَا بَكْرٍ مَا ظَنُّكَ بِاثْنَيْنِ اللَّهُ ثَالِثُهُمَا). قَالَ الْمُحَاسِبِيُّ: يَعْنِي مَعَهُمَا بِالنَّصْرِ وَالدِّفَاعِ، لَا عَلَى مَعْنَى مَا عَمَّ بِهِ الْخَلَائِقَ، فَقَالَ:" مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رابِعُهُمْ" «1» [المجادلة: 7]. فَمَعْنَاهُ الْعُمُومُ أَنَّهُ يَسْمَعُ وَيَرَى مِنَ الْكُفَّارِ وَالْمُؤْمِنِينَ. السَّابِعَةُ- قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: قَالَتِ الْإِمَامِيَّةُ قَبَّحَهَا اللَّهُ: حُزْنُ أَبِي بَكْرٍ فِي الْغَارِ دَلِيلٌ عَلَى جَهْلِهِ وَنَقْصِهِ وَضَعْفِ قَلْبِهِ وَخُرْقِهِ «2». وَأَجَابَ عُلَمَاؤُنَا عَنْ ذَلِكَ بِأَنَّ إِضَافَةَ الْحُزْنِ إِلَيْهِ لَيْسَ بِنَقْصٍ، كَمَا لَمْ يَنْقُصْ إِبْرَاهِيمُ حِينَ قَالَ عَنْهُ:" نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قالُوا لَا تَخَفْ" «3» [هود: 70]. وَلَمْ يَنْقُصْ مُوسَى قَوْلُهُ:" فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسى. قُلْنا لَا تَخَفْ" «4» [طه 67، 68]. وَفِي لُوطٍ:" وَلا تَحْزَنْ إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ" «5» [العنكبوت: 33]. فَهَؤُلَاءِ الْعُظَمَاءُ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ قَدْ وُجِدَتْ عِنْدَهُمُ التَّقِيَّةُ نَصًّا وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ طَعْنًا عَلَيْهِمْ وَوَصْفًا لَهُمْ بِالنَّقْصِ، وَكَذَلِكَ فِي أَبِي بَكْرٍ. ثُمَّ هِيَ عِنْدَ الصِّدِّيقِ احْتِمَالٌ، فَإِنَّهُ قال: لو أن أحد هم نَظَرَ تَحْتَ قَدَمَيْهِ لَأَبْصَرَنَا. جَوَابٌ ثَانٍ- إِنَّ حُزْنَ الصِّدِّيقِ إِنَّمَا كَانَ خَوْفًا عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَصِلَ إِلَيْهِ ضرر،
__________
(1). راجع ج 18 ص 289.
(2). الخرق (بالضم): الحمق وضعف الرأى.
(3). راجع ج 9 ص 62.
(4). راجع ج 11 ص 221 فما بعد.
(5). راجع ج 13 ص 341 فما بعد

(8/146)


وَلَمْ يَكُنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ مَعْصُومًا وَإِنَّمَا نَزَلَ عَلَيْهِ" وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ" «1» [المائدة: 67] بِالْمَدِينَةِ [«2». الثَّامِنَةُ- قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: قَالَ لَنَا أَبُو الْفَضَائِلِ الْعَدْلُ «3» قَالَ لَنَا جَمَالُ الْإِسْلَامِ أَبُو الْقَاسِمِ قَالَ مُوسَى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" كَلَّا إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ" «4» [الشعراء: 62] وَقَالَ فِي مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنا" لَا جَرَمَ لَمَّا كَانَ اللَّهُ مَعَ مُوسَى وَحْدَهُ ارْتَدَّ أصحابه بعده، فرجع من عند ربه ووجد هم يَعْبُدُونَ الْعِجْلَ. وَلَمَّا قَالَ فِي مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ" لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنا" بَقِيَ أَبُو بَكْرٍ مُهْتَدِيًا مُوَحِّدًا عَالِمًا جَازِمًا قَائِمًا بِالْأَمْرِ وَلَمْ يَتَطَرَّقْ إِلَيْهِ اخْتِلَالٌ. التَّاسِعَةُ- خَرَّجَ التِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ نُبَيْطِ بْنِ شُرَيْطٍ عَنْ سَالِمِ بْنِ عُبَيْدٍ- لَهُ صُحْبَةٌ- قَالَ: أُغْمِيَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ... ، الْحَدِيثَ. وَفِيهِ: وَاجْتَمَعَ الْمُهَاجِرُونَ يَتَشَاوَرُونَ فَقَالُوا: انْطَلِقُوا بِنَا إِلَى إِخْوَانِنَا مِنَ الْأَنْصَارِ نُدْخِلُهُمْ مَعَنَا فِي هَذَا الْأَمْرِ. فَقَالَتِ الْأَنْصَارُ: مِنَّا أَمِيرٌ وَمِنْكُمْ أَمِيرٌ. فَقَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: مَنْ لَهُ مِثْلُ هَذِهِ الثَّلَاثِ" ثانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُما فِي الْغارِ إِذْ يَقُولُ لِصاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنا" مَنْ" هُما"؟ قَالَ: ثُمَّ بَسَطَ يَدَهُ فَبَايَعَهُ وَبَايَعَهُ النَّاسُ بَيْعَةً حَسَنَةً جَمِيلَةً. قُلْتُ: وَلِهَذَا قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:" ثانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُما فِي الْغارِ" مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْخَلِيفَةَ بَعْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ [رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ «5»]، لِأَنَّ الْخَلِيفَةَ لَا يَكُونُ أَبَدًا إِلَّا ثَانِيًا. وَسَمِعْتُ شَيْخَنَا الْإِمَامَ أَبَا الْعَبَّاسِ أَحْمَدَ بْنَ عُمَرَ يَقُولُ: إِنَّمَا اسْتَحَقَّ الصِّدِّيقُ أَنْ يُقَالَ لَهُ ثَانِي اثْنَيْنِ لِقِيَامِهِ بَعْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْأَمْرِ، كَقِيَامِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهِ أَوَّلًا. وَذَلِكَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا مَاتَ ارْتَدَّتِ الْعَرَبُ كُلُّهَا، وَلَمْ يَبْقَ الْإِسْلَامُ إلا بالمد ينه وَمَكَّةَ وَجُوَاثَا «6»، فَقَامَ أَبُو بَكْرٍ يَدْعُو النَّاسَ إلى الإسلام ويقاتلهم على
__________
(1). راجع ج 6 ص 242. [ ..... ]
(2). من ب وج وز وك وى.
(3). من ب وك وى. واضطربت الأصول في هذا الاسم. والذي في أحكام القرآن لابن العربي المطبوع: (أبو الفضائل بن المعدل) وفي المخطوطة منه (أبو الفضائل المعدل).
(4). راجع ج 13 ص 100 فما بعد.
(5). من ج وهـ.
(6). موضع بالبحرين.

(8/147)


الدُّخُولِ فِي الدِّينِ كَمَا فَعَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَاسْتَحَقَّ مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ أَنْ يُقَالَ فِي حَقِّهِ ثَانِيَ اثْنَيْنِ. قُلْتُ- وَقَدْ جَاءَ فِي السُّنَّةِ أَحَادِيثُ صَحِيحَةٌ، يَدُلُّ ظَاهِرُهَا عَلَى أَنَّهُ الْخَلِيفَةُ بَعْدَهُ، وَقَدِ انْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ عَلَى ذَلِكَ وَلَمْ يَبْقَ مِنْهُمْ مُخَالِفٌ. وَالْقَادِحُ فِي خِلَافَتِهِ مَقْطُوعٌ بِخَطَئِهِ وَتَفْسِيقِهِ. وَهَلْ يَكْفُرُ أَمْ لَا، يُخْتَلَفُ فِيهِ، وَالْأَظْهَرُ تَكْفِيرُهُ. وَسَيَأْتِي لِهَذَا الْمَعْنَى مَزِيدُ بَيَانٍ فِي سُورَةِ [الْفَتْحِ «1»] إِنْ شَاءَ اللَّهُ. وَالَّذِي يُقْطَعُ بِهِ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَأَقْوَالِ عُلَمَاءِ الْأُمَّةِ وَيَجِبُ أَنْ تُؤْمِنَ بِهِ الْقُلُوبُ وَالْأَفْئِدَةُ فَضْلُ الصِّدِّيقِ عَلَى جَمِيعِ الصَّحَابَةِ. وَلَا مُبَالَاةَ بِأَقْوَالِ أَهْلِ الشِّيَعِ وَلَا أَهْلِ الْبِدَعِ، فَإِنَّهُمْ بَيْنَ مُكَفَّرٍ تُضْرَبُ رَقَبَتُهُ، وَبَيْنَ مُبْتَدِعٍ مُفَسَّقٍ لَا تُقْبَلُ كَلِمَتُهُ. ثُمَّ بَعْدَ الصِّدِّيقِ عُمَرُ الْفَارُوقُ، ثُمَّ بَعْدَهُ عُثْمَانُ. رَوَى الْبُخَارِيُّ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: كُنَّا نُخَيِّرُ بَيْنَ النَّاسِ فِي زَمَنِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَنُخَيِّرُ أَبَا بَكْرٍ ثُمَّ عُمَرَ ثُمَّ عُثْمَانَ. وَاخْتَلَفَ أَئِمَّةُ أَهْلِ السَّلَفِ «2» فِي عُثْمَانَ وَعَلِيٍّ، فَالْجُمْهُورُ مِنْهُمْ عَلَى تَقْدِيمِ عُثْمَانَ. وَرُوِيَ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ تَوَقَّفَ فِي ذَلِكَ. وَرُوِيَ عَنْهُ [أَيْضًا «3»] أَنَّهُ رَجَعَ إِلَى مَا عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ. وَهُوَ الْأَصَحُّ إِنْ شَاءَ اللَّهُ. الْعَاشِرَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ) فيه قولان: أحد هما: عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَالثَّانِي: عَلَى أَبِي بَكْرٍ. ابْنُ الْعَرَبِيِّ: قَالَ عُلَمَاؤُنَا وَهُوَ الْأَقْوَى، لِأَنَّهُ خَافَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْقَوْمِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ بِتَأْمِينِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَسَكَنَ جَأْشُهُ وَذَهَبَ رَوْعُهُ وَحَصَلَ الْأَمْنُ وَأَنْبَتَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ ثُمَامَةً، «4» وَأَلْهَمَ الْوَكْرَ هُنَاكَ حَمَامَةً وَأَرْسَلَ «5» الْعَنْكَبُوتَ فَنَسَجَتْ بَيْتًا عَلَيْهِ. فَمَا أَضْعَفَ هَذِهِ الْجُنُودَ فِي ظَاهِرِ الْحِسِّ وَمَا أَقْوَاهَا فِي بَاطِنِ الْمَعْنَى! وَلِهَذَا الْمَعْنَى قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعُمَرَ حِينَ تَغَامَرَ «6» مَعَ الصِّدِّيقِ: (هَلْ أَنْتُمْ تَارِكُو لِي صَاحِبِي إِنَّ النَّاسَ كُلَّهُمْ قَالُوا كَذَبْتَ وَقَالَ أبو بكر صدقت) رواه أبو الدرداء.
__________
(1). راجع ج 16 ص 297.
(2). في ج: أهل السنة. وفي ز: التفسير.
(3). من هـ.
(4). الثمام: نبت معروف في البادية.
(5). في هـ: وألهم.
(6). المغامرة: المخاصمة. راجع الحديث بطوله في صحيح البخاري في باب مناقب أبي بكر رضى الله عنه.

(8/148)


انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (41)

الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْها) أَيْ مِنَ الْمَلَائِكَةِ. وَالْكِنَايَةُ فِي قَوْلِهِ" وَأَيَّدَهُ" تَرْجِعُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَالضَّمِيرَانِ يَخْتَلِفَانِ، وَهَذَا كَثِيرٌ فِي الْقُرْآنِ وَفِي كَلَامِ الْعَرَبِ. (وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلى) أَيْ كَلِمَةَ الشِّرْكِ. (وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيا) قِيلَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ. وَقِيلَ: وَعْدُ النَّصْرِ. وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ وَيَعْقُوبُ" وَكَلِمَةُ اللَّهِ" بِالنَّصْبِ حَمْلًا عَلَى" جَعَلَ" وَالْبَاقُونَ بِالرَّفْعِ عَلَى الِاسْتِئْنَافِ. وَزَعَمَ الْفَرَّاءُ أَنَّ قِرَاءَةَ النَّصْبِ بَعِيدَةٌ، قَالَ: لِأَنَّكَ تَقُولُ أَعْتَقَ فُلَانٌ غُلَامَ أَبِيهِ، وَلَا تَقُولُ غُلَامَ أَبِي فُلَانٍ. وَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ نَحْوًا مِنْ هَذَا. قَالَ: كَانَ يَجِبُ أَنْ يُقَالَ وَكَلِمَتَهُ هِيَ الْعُلْيَا. قَالَ النَّحَّاسُ: الَّذِي ذَكَرَهُ الْفَرَّاءُ لَا يُشْبِهُ الْآيَةَ، وَلَكِنْ يُشْبِهُهَا مَا أَنْشَدَ سِيبَوَيْهِ:
لَا أَرَى الْمَوْتَ يَسْبِقُ الْمَوْتَ شَيْءٌ ... نَغَّصَ الْمَوْتُ ذَا الْغِنَى وَالْفَقِيرَا
فَهَذَا حَسَنٌ جَيِّدٌ لَا إِشْكَالَ فِيهِ، بَلْ يَقُولُ النَّحْوِيُّونَ الْحُذَّاقُ: فِي إِعَادَةِ الذِّكْرِ فِي مِثْلِ هَذَا فَائِدَةٌ وَهِيَ أَنَّ فِيهِ مَعْنَى التَّعْظِيمِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:" إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزالَها. وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقالَها" «1» [الزلزلة: 1، 2] فَهَذَا لَا إِشْكَالَ فِيهِ. وَجَمْعُ الْكَلِمَةِ كَلِمٌ. وَتَمِيمٌ تَقُولُ: هِيَ كِلْمَةٌ بِكَسْرِ الْكَافِ. وَحَكَى الْفَرَّاءُ فِيهَا ثَلَاثَ لُغَاتٍ: كَلِمَةٌ وَكِلْمَةٌ وَكَلْمَةٌ مِثْلَ كَبِدٍ وَكِبْدٍ وَكَبْدٍ، وَوَرِقٍ وَوِرْقٍ وَوَرْقٍ. والكلمة أيضا القصيدة بطولها، قاله الجوهري.

[سورة التوبة (9): آية 41]
انْفِرُوا خِفافاً وَثِقالاً وَجاهِدُوا بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (41)
فِيهِ سَبْعُ مَسَائِلَ: الْأُولَى- رَوَى سُفْيَانُ عَنْ حُصَيْنِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِي مَالِكٍ الْغِفَارِيِّ قَالَ: أَوَّلُ مَا نَزَلَ مِنْ سُورَةِ بَرَاءَةٌ" انْفِرُوا خِفافاً وَثِقالًا". وَقَالَ أَبُو الضحا كَذَلِكَ أَيْضًا. قَالَ: ثُمَّ نَزَلَ أَوَّلُهَا وَآخِرُهَا.
__________
(1). راجع ج 20 ص 147.

(8/149)


الثَّانِيَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (انْفِرُوا خِفافاً وَثِقالًا) نُصِبَ عَلَى الْحَالِ، وَفِيهِ عَشَرَةُ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ- يُذْكَرُ عن ابن عباس" فَانْفِرُوا ثُباتٍ" «1» [النساء: 17]: سَرَايَا مُتَفَرِّقِينَ. [الثَّانِي [رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا وَقَتَادَةَ: نِشَاطًا وَغَيْرَ نِشَاطٍ. [الثَّالِثُ [الْخَفِيفُ: الْغَنِيُّ، وَالثَّقِيلُ: الْفَقِيرُ، قَالَهُ مُجَاهِدٌ. [الرَّابِعُ [الْخَفِيفُ: الشَّابُّ، وَالثَّقِيلُ: الشَّيْخُ، قَالَهُ الْحَسَنُ. [الْخَامِسُ [مَشَاغِيلُ وَغَيْرَ مَشَاغِيلَ، قَالَهُ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ وَالْحَكَمُ بن عتبة. [السَّادِسُ [الثَّقِيلُ: الَّذِي لَهُ عِيَالٌ، وَالْخَفِيفُ: الَّذِي لَا عِيَالَ لَهُ، قَالَهُ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ. [السَّابِعُ [الثَّقِيلُ: الَّذِي لَهُ ضَيْعَةٌ يَكْرَهُ أَنْ يَدَعَهَا، وَالْخَفِيفُ: الَّذِي لَا ضَيْعَةَ لَهُ، قَالَهُ ابْنُ زَيْدٍ. [الثَّامِنُ [الْخِفَافُ: الرِّجَالُ، وَالثِّقَالُ: الْفُرْسَانُ، قَالَهُ الْأَوْزَاعِيُّ. [التَّاسِعُ [الْخِفَافُ: الَّذِينَ يَسْبِقُونَ إِلَى الْحَرْبِ كَالطَّلِيعَةِ وَهُوَ مُقَدَّمُ الْجَيْشِ وَالثِّقَالُ: الْجَيْشُ بأسره] الْعَاشِرُ [الْخَفِيفُ: الشُّجَاعُ، وَالثَّقِيلُ: الْجَبَانُ، حَكَاهُ النَّقَّاشُ. وَالصَّحِيحُ فِي مَعْنَى الْآيَةِ أَنَّ النَّاسَ أُمِرُوا جُمْلَةً أَيِ انْفِرُوا خَفَّتْ عَلَيْكُمُ الْحَرَكَةُ أَوْ ثَقُلَتْ. وَرُوِيَ أَنَّ ابْنَ أُمِّ مَكْتُومٍ جَاءَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ لَهُ: أَعَلَيَّ أَنْ أَنْفِرَ؟ فَقَالَ: (نَعَمْ) حَتَّى أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى" لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ" «2» [النور: 61]. وَهَذِهِ الْأَقْوَالُ إِنَّمَا هِيَ عَلَى مَعْنَى الْمِثَالِ فِي الثِّقَلِ وَالْخِفَّةِ. الثَّالِثَةُ- وَاخْتُلِفَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، فَقِيلَ إِنَّهَا مَنْسُوخَةٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى:" لَيْسَ عَلَى الضُّعَفاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضى " «3» [التوبة: 91]. وقيل: الناسخ لها قوله:" فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ" «4» [التوبة: 122]. وَالصَّحِيحُ أَنَّهَا لَيْسَتْ بِمَنْسُوخَةٍ. رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ عَنْ أَبِي طَلْحَةَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:" انْفِرُوا خِفافاً وَثِقالًا" قَالَ شُبَّانًا وَكُهُولًا، مَا سَمِعَ اللَّهُ عُذْرَ أَحَدٍ. فَخَرَجَ إِلَى الشَّامِ فَجَاهَدَ حَتَّى مَاتَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. وَرَوَى حَمَّادٌ عَنْ ثَابِتٍ وَعَلِيُّ بْنُ زَيْدٍ عَنْ أَنَسٍ أَنَّ أَبَا طَلْحَةَ قَرَأَ سُورَةَ [بَرَاءَةٌ] فَأَتَى عَلَى هَذِهِ الْآيَةِ" انْفِرُوا خِفافاً وَثِقالًا" فَقَالَ: أَيْ بَنِيَّ جَهِّزُونِي جَهِّزُونِي فَقَالَ بَنُوهُ: يَرْحَمُكَ اللَّهُ! لَقَدْ غَزَوْتَ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى مَاتَ وَمَعَ أَبِي بَكْرٍ حتى
__________
(1). كذا في جميع الأصول. ويلاحظ ان المؤلف رحمه الله عرض لآية النساء وهي قوله تعالى: (فَانْفِرُوا ثُباتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعاً) راجع ج 5 ص 273. وثبات: جمع ثبة، وهي الجماعة من الناس.
(2). راجع ج 12 ص 311 فما بعد. [ ..... ]
(3). ص 225 وص 293 من هذا الجزء.
(4). ص 225 وص 293 من هذا الجزء.

(8/150)


مَاتَ وَمَعَ عُمَرَ حَتَّى مَاتَ فَنَحْنُ نَغْزُو عَنْكَ. قَالَ. لَا، جَهِّزُونِي. فَغَزَا فِي الْبَحْرِ فَمَاتَ فِي الْبَحْرِ، فَلَمْ يَجِدُوا لَهُ جَزِيرَةً يَدْفِنُونَهُ فِيهَا إِلَّا بَعْدَ سَبْعَةِ أَيَّامٍ فَدَفَنُوهُ فِيهَا، وَلَمْ يَتَغَيَّرْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. وَأَسْنَدَ الطَّبَرِيُّ عَمَّنْ رَأَى الْمِقْدَادَ بْنَ الْأَسْوَدِ بِحِمْصٍ عَلَى تَابُوتِ صَرَّافٍ، وَقَدْ فَضَلَ عَلَى التَّابُوتِ مِنْ سَمِنِهِ وَهُوَ يَتَجَهَّزُ لِلْغَزْوِ. فَقِيلَ لَهُ: لَقَدْ عَذَرَكَ اللَّهُ. فَقَالَ: أَتَتْ عَلَيْنَا سُورَةُ الْبَعُوثِ" انْفِرُوا خِفافاً وَثِقالًا". وَقَالَ الزُّهْرِيُّ: خَرَجَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ إِلَى الْغَزْوِ وَقَدْ ذَهَبَتْ إِحْدَى عَيْنَيْهِ. فَقِيلَ لَهُ: إِنَّكَ عَلِيلٌ. فَقَالَ: اسْتَنْفَرَ اللَّهُ الْخَفِيفَ وَالثَّقِيلَ، فَإِنْ لَمْ يُمْكِنِّي الْحَرْبُ كَثَّرْتُ السَّوَادَ وَحَفِظْتُ الْمَتَاعَ. وَرُوِيَ أَنَّ بَعْضَ النَّاسِ رَأَى فِي غَزَوَاتِ الشَّامِ رَجُلًا قَدْ سَقَطَ حَاجِبَاهُ عَلَى عَيْنَيْهِ مِنَ الْكِبَرِ، فَقَالَ لَهُ: يَا عَمُّ إِنَّ اللَّهَ قَدْ عذرك فقال: يا بن أَخِي، قَدْ أُمِرْنَا بِالنَّفْرِ خِفَافًا وَثِقَالًا. وَلَقَدْ قَالَ ابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- واسمه عمرويوم أُحُدٍ: أَنَا رَجُلٌ أَعْمَى، فَسَلِّمُوا لِي اللِّوَاءَ، فَإِنَّهُ إِذَا انْهَزَمَ حَامِلُ اللِّوَاءِ انْهَزَمَ الْجَيْشُ، وَأَنَا مَا أَدْرِي مَنْ يَقْصِدُنِي بِسَيْفِهِ فَمَا أبرح فأخذ اللواء يومئذ مصعب ابن عُمَيْرٍ عَلَى مَا تَقَدَّمَ فِي [آلِ عِمْرَانَ] بَيَانُهُ «1». فَلِهَذَا وَمَا كَانَ مِثْلَهُ مِمَّا رُوِيَ عَنِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ. قُلْنَا: إِنَّ النَّسْخَ لَا يَصِحُّ. وَقَدْ تَكُونُ حَالَةً يَجِبُ فِيهَا نَفِيرُ الْكُلِّ، وَهِيَ: الرَّابِعَةُ- وَذَلِكَ إِذَا تَعَيَّنَ الْجِهَادُ بِغَلَبَةِ الْعَدُوِّ عَلَى قُطْرٍ مِنَ الْأَقْطَارِ، أَوْ بِحُلُولِهِ بِالْعُقْرِ، فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ وَجَبَ عَلَى جَمِيعِ أَهْلِ تِلْكَ الدَّارِ أَنْ يَنْفِرُوا وَيَخْرُجُوا إِلَيْهِ خِفَافًا وَثِقَالًا، شَبَابًا وَشُيُوخًا، كُلٌّ عَلَى قَدْرِ طَاقَتِهِ، مَنْ كَانَ لَهُ أَبٌ بِغَيْرِ إِذْنِهِ وَمَنْ لَا أَبَ لَهُ، وَلَا يَتَخَلَّفْ أَحَدٌ يَقْدِرُ عَلَى الْخُرُوجِ، مِنْ مُقَاتِلٍ أَوْ مُكَثِّرٍ. فَإِنْ عَجَزَ أَهْلُ تِلْكَ الْبَلْدَةِ عَنِ القيام بعدو هم كان على من قاربهم وجاور هم أَنْ يَخْرُجُوا عَلَى حَسَبِ مَا لَزِمَ أَهْلَ تِلْكَ الْبَلْدَةِ، حَتَّى يَعْلَمُوا أَنَّ فِيهِمْ طَاقَةً عَلَى الْقِيَامِ بِهِمْ وَمُدَافَعَتِهِمْ. وَكَذَلِكَ كُلُّ مَنْ علم بضعفهم عن عدو هم وَعَلِمَ أَنَّهُ يُدْرِكُهُمْ وَيُمْكِنُهُ غِيَاثُهُمْ لَزِمَهُ أَيْضًا الْخُرُوجُ إِلَيْهِمْ، فَالْمُسْلِمُونَ كُلُّهُمْ يَدٌ عَلَى مَنْ سِوَاهُمْ، حَتَّى إِذَا قَامَ بِدَفْعِ الْعَدُوِّ أَهْلُ النَّاحِيَةِ الَّتِي نَزَلَ الْعَدُوُّ عَلَيْهَا وَاحْتَلَّ بِهَا سَقَطَ الْفَرْضُ عَنِ الْآخَرِينَ. وَلَوْ قَارَبَ الْعَدُوُّ
__________
(1). راجع ج 4 ص 234 فما بعد.

(8/151)


دَارَ الْإِسْلَامِ وَلَمْ يَدْخُلُوهَا لَزِمَهُمْ أَيْضًا الْخُرُوجُ إِلَيْهِ، حَتَّى يَظْهَرَ دِينُ اللَّهِ وَتُحْمَى الْبَيْضَةُ وَتُحْفَظُ الْحَوْزَةُ وَيُخْزَى الْعَدُوُّ. وَلَا خِلَافَ فِي هَذَا. وَقِسْمٌ ثَانٍ مِنْ وَاجِبِ الْجِهَادِ- فَرْضٌ أَيْضًا عَلَى الْإِمَامِ إِغْزَاءُ طَائِفَةٍ إِلَى الْعَدُوِّ كُلَّ سَنَةٍ مَرَّةً يَخْرُجُ مَعَهُمْ بِنَفْسِهِ أَوْ يخرج من يثق به ليدعو هم إلى الإسلام ويرغبهم «1»، ويكف أذا هم وَيُظْهِرَ دِينَ اللَّهِ عَلَيْهِمْ حَتَّى يَدْخُلُوا فِي الْإِسْلَامِ أَوْ يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ. وَمِنَ الْجِهَادِ أَيْضًا مَا هُوَ نَافِلَةٌ وَهُوَ إِخْرَاجُ الْإِمَامِ طَائِفَةً بَعْدَ طَائِفَةٍ وَبَعْثُ السَّرَايَا فِي أَوْقَاتِ الْغِرَّةِ وَعِنْدَ إِمْكَانِ الْفُرْصَةِ وَالْإِرْصَادِ لَهُمْ بِالرِّبَاطِ فِي مَوْضِعِ الْخَوْفِ وَإِظْهَارِ الْقُوَّةِ. فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ يَصْنَعُ الْوَاحِدُ إِذَا قَصَّرَ الْجَمِيعُ، وَهِيَ: الْخَامِسَةُ- قِيلَ لَهُ: يَعْمِدُ إِلَى أَسِيرٍ وَاحِدٍ فَيَفْدِيهِ، فَإِنَّهُ إِذَا فَدَى الْوَاحِدَ فَقَدْ أَدَّى فِي الْوَاحِدِ أَكْثَرَ مِمَّا كَانَ يَلْزَمُهُ فِي الْجَمَاعَةِ، فَإِنَّ الْأَغْنِيَاءَ لَوِ اقْتَسَمُوا فِدَاءَ الْأُسَارَى مَا أَدَّى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ إِلَّا أَقَلَّ مِنْ دِرْهَمٍ. وَيَغْزُو بِنَفْسِهِ إِنْ قَدَرَ وَإِلَّا جَهَّزَ غَازِيًا. قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (مَنْ جَهَّزَ غَازِيًا فَقَدْ غَزَا وَمَنْ خَلَفَهُ فِي أَهْلِهِ بِخَيْرٍ فَقَدْ غَزَا) أَخْرَجَهُ الصَّحِيحُ. وَذَلِكَ لِأَنَّ مَكَانَهُ لَا يُغْنِي وَمَالَهُ لَا يَكْفِي. السَّادِسَةُ- رُوِيَ أَنَّ بَعْضَ الْمُلُوكِ عَاهَدَ كُفَّارًا عَلَى أَلَّا يَحْبِسُوا أَسِيرًا، فَدَخَلَ رَجُلٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ جِهَةَ بِلَادِهِمْ فَمَرَّ عَلَى بَيْتٍ مُغْلَقٍ، فَنَادَتْهُ امْرَأَةٌ إِنِّي أَسِيرَةٌ فَأَبْلِغْ صَاحِبَكَ خَبَرِي فَلَمَّا اجْتَمَعَ بِهِ وَاسْتَطْعَمَهُ عِنْدَهُ وَتَجَاذَبَا ذَيْلَ الْحَدِيثِ انْتَهَى الْخَبَرُ إِلَى هَذِهِ الْمُعَذَّبَةِ فَمَا أَكْمَلَ حَدِيثَهُ حَتَّى قَامَ الْأَمِيرُ عَلَى قَدَمَيْهِ وَخَرَجَ غَازِيًا مِنْ فَوْرِهِ وَمَشَى إِلَى الثَّغْرِ حَتَّى أَخْرَجَ الْأَسِيرَةَ وَاسْتَوْلَى عَلَى الْمَوْضِعِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. ذَكَرَهُ ابْنُ الْعَرَبِيِّ وقال: ولقد نزل بنا العدوقصمه اللَّهُ- سَنَةَ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ فَجَاسَ دِيَارَنَا وَأَسَرَ خِيرَتَنَا وَتَوَسَّطَ بِلَادَنَا فِي عَدَدٍ هَالَ النَّاسَ عَدَدُهُ وَكَانَ كَثِيرًا وَإِنْ لَمْ يَبْلُغْ مَا حَدَّدُوهُ. فَقُلْتُ لِلْوَالِي وَالْمُوَلَّى عَلَيْهِ: هَذَا عَدُوُّ اللَّهِ قَدْ حَصَلَ فِي الشَّرَكِ وَالشَّبْكَةِ فَلْتَكُنْ عِنْدَكُمْ بَرَكَةٌ، وَلِتَظْهَرْ مِنْكُمْ إِلَى نُصْرَةِ الدِّينِ الْمُتَعَيَّنَةِ عَلَيْكُمْ حَرَكَةٌ فَلْيَخْرُجْ إِلَيْهِ جَمِيعُ النَّاسِ حَتَّى لَا يَبْقَى مِنْهُمْ أَحَدٌ فِي جميع الأقطار فيحاط
__________
(1). ب وج وى: يرغمهم وفي ز وك: يردعهم.

(8/152)


لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا وَسَفَرًا قَاصِدًا لَاتَّبَعُوكَ وَلَكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (42)

بِهِ فَإِنَّهُ هَالِكٌ لَا مَحَالَةَ إِنْ يَسَّرَكُمُ اللَّهُ لَهُ فَغَلَبَتِ الذُّنُوبُ وَرَجَفَتِ الْقُلُوبُ بِالْمَعَاصِي وَصَارَ كُلُّ أَحَدٍ مِنَ النَّاسِ ثَعْلَبًا يَأْوِي إِلَى وِجَارِهِ «1» وَإِنْ رَأَى الْمَكِيدَةَ بِجَارِهِ. فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ. وَحَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (. السَّابِعَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَجاهِدُوا) أَمْرٌ بِالْجِهَادِ، وَهُوَ مُشْتَقٌّ مِنَ الْجَهْدِ (بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ) رَوَى أَبُو دَاوُدَ عَنْ أَنَسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (جَاهِدُوا الْمُشْرِكِينَ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَأَلْسِنَتِكُمْ). وَهَذَا وَصْفٌ لِأَكْمَلِ مَا يكون من الجهاد وأنقعه عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. فَحَضَّ عَلَى كَمَالِ الْأَوْصَافِ، وَقَدَّمَ الْأَمْوَالَ فِي الذِّكْرِ إِذْ هِيَ أَوَّلُ مَصْرِفٍ وَقْتَ التَّجْهِيزِ. فَرَتَّبَ الْأَمْرَ كَمَا هُوَ نفسه.

[سورة التوبة (9): آية 42]
لَوْ كانَ عَرَضاً قَرِيباً وَسَفَراً قاصِداً لاتَّبَعُوكَ وَلكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنا لَخَرَجْنا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (42)
لَمَّا رَجَعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ غَزْوَةِ تَبُوكَ أَظْهَرَ اللَّهُ نِفَاقَ قَوْمٍ. وَالْعَرَضُ: مَا يُعْرَضُ مِنْ مَنَافِعِ الدُّنْيَا. وَالْمَعْنَى: غَنِيمَةٌ قَرِيبَةٌ. أَخْبَرَ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ لَوْ دُعُوا إِلَى غَنِيمَةٍ لَاتَّبَعُوهُ." عَرَضاً" خَبَرُ كَانَ." قَرِيباً" نَعْتُهُ." وَسَفَراً قاصِداً" عَطْفٌ عَلَيْهِ. وَحُذِفَ اسْمُ كَانَ لِدَلَالَةِ الْكَلَامِ عَلَيْهِ. التَّقْدِيرُ: لَوْ كَانَ الْمَدْعُوَّ إِلَيْهِ عَرَضًا قَرِيبًا وَسَفَرًا قَاصِدًا- أَيْ سَهْلًا مَعْلُومَ الطُّرُقِ- لَاتَّبَعُوكَ. وَهَذِهِ الْكِنَايَةُ لِلْمُنَافِقِينَ كَمَا ذَكَرْنَا، لِأَنَّهُمْ دَاخِلُونَ فِي جُمْلَةِ مَنْ خُوطِبَ بِالنَّفِيرِ. وَهَذَا مَوْجُودٌ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ يَذْكُرُونَ الْجُمْلَةَ ثُمَّ يَأْتُونَ بِالْإِضْمَارِ عَائِدًا عَلَى بَعْضِهَا، كَمَا قِيلَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:" وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها" «2» [مريم: 71] أَنَّهَا الْقِيَامَةُ. ثُمَّ قَالَ جَلَّ وَعَزَّ:" ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيها جِثِيًّا" «3» [مريم: 72] يعني عز وجل جَهَنَّمَ. وَنَظِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ مِنَ السُّنَّةِ فِي الْمَعْنَى قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: (لَوْ يَعْلَمُ أَحَدُهُمْ أنه يجد عظما سمينا
__________
(1). الوجار (بكسر وفتح) حجر الضبع وغيره.
(2). راجع ج 11 ص 131 فما بعد.
(3). راجع ج 11 ص 131 فما بعد.

(8/153)


عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ (43)

أَوْ مِرْمَاتَيْنِ «1» حَسَنَتَيْنِ لَشَهِدَ الْعِشَاءَ (. يَقُولُ: لَوْ عَلِمَ أَحَدُهُمْ أَنَّهُ يَجِدُ شَيْئًا حَاضِرًا مُعَجَّلًا يَأْخُذُهُ لَأَتَى الْمَسْجِدَ مِنْ أَجْلِهِ.) وَلَكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ) حَكَى أَبُو عُبَيْدَةَ وَغَيْرُهُ أَنَّ الشُّقَّةَ السَّفَرُ إِلَى أَرْضٍ بَعِيدَةٍ. يُقَالُ: مِنْهُ شُقَّةٌ شَاقَّةٌ. وَالْمُرَادُ بِذَلِكَ كُلِّهِ غَزْوَةُ تَبُوكَ. وَحَكَى الْكِسَائِيُّ أَنَّهُ يُقَالُ: شُقَّةٌ وَشِقَّةٌ. قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: الشُّقَّةُ بِالضَّمِّ مِنَ الثِّيَابِ، وَالشُّقَّةِ أَيْضًا السَّفَرُ الْبَعِيدُ وَرُبَّمَا قَالُوهُ بِالْكَسْرِ. وَالشِّقَّةُ شَظِيَّةٌ تُشْظَى مِنْ لَوْحٍ أَوْ خَشَبَةٍ. يُقَالُ لِلْغَضْبَانِ: احْتَدَّ فَطَارَتْ مِنْهُ شِقَّةٌ، بِالْكَسرِ. (وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنا) أَيْ لَوْ كَانَ لَنَا سَعَةٌ فِي الظَّهْرِ وَالْمَالِ. (لَخَرَجْنا مَعَكُمْ) نَظِيرُهُ" وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا" [آل عمران: 97] فَسَّرَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: (زَادٌ وَرَاحِلَةٌ) وَقَدْ تَقَدَّمَ «2». (يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ) أَيْ بِالْكَذِبِ وَالنِّفَاقِ. (وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ) فِي الاعتلال.

[سورة التوبة (9): آية 43]
عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكاذِبِينَ (43)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ) قِيلَ: هُوَ افْتِتَاحُ كَلَامٍ، كَمَا تَقُولُ: أَصْلَحَكَ اللَّهُ وَأَعَزَّكَ وَرَحِمَكَ! كَانَ كَذَا وَكَذَا. وَعَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ يَحْسُنُ الْوَقْفُ عَلَى قَوْلِهِ:" عَفَا اللَّهُ عَنْكَ"، حَكَاهُ مَكِّيٌّ وَالْمَهْدَوِيُّ وَالنَّحَّاسُ. وَأَخْبَرَهُ بِالْعَفْوِ قَبْلَ الذَّنْبِ لِئَلَّا يَطِيرَ قَلْبُهُ فَرَقًا «3». وَقِيلَ: الْمَعْنَى عَفَا اللَّهُ عَنْكَ مَا كَانَ مِنْ ذَنْبِكَ فِي أَنْ أَذِنْتَ لَهُمْ، فَلَا يَحْسُنُ الْوَقْفُ عَلَى قَوْلِهِ:" عَفَا اللَّهُ عَنْكَ" عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ، حَكَاهُ الْمَهْدَوِيُّ وَاخْتَارَهُ النَّحَّاسُ. ثُمَّ قِيلَ: فِي الْإِذْنِ قَوْلَانِ: [الْأَوَّلُ [" لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ" فِي الْخُرُوجِ مَعَكَ، وَفِي خُرُوجِهِمْ بِلَا عِدَّةٍ وَنِيَّةٍ صَادِقَةٍ فَسَادٌ. [الثَّانِي [-" لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ" فِي الْقُعُودِ لَمَّا اعْتَلُّوا بِأَعْذَارٍ، ذكرهما الْقُشَيْرِيُّ قَالَ: وَهَذَا عِتَابُ تَلَطُّفٍ إِذْ قَالَ:" عَفَا اللَّهُ عَنْكَ". وَكَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَذِنَ مِنْ غَيْرِ وَحْيٍ نَزَلَ فِيهِ. قَالَ قَتَادَةُ وَعَمْرُو بْنُ مَيْمُونٍ: ثِنْتَانِ فَعَلَهُمَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ] و [«4» لم يؤمر
__________
(1). مرماتين (بكسر الميم) وقد تفتح. تثنية مرماة، وهي ظلف الشاة، أو ما بين ظلفها من اللحم.
(2). راجع ج 4 ص 153.
(3). الفرق بالتحريك: الخوف والجزع.
(4). من ج.

(8/154)


لَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (44) إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ (45)

بِهِمَا: إِذْنُهُ لِطَائِفَةٍ مِنَ الْمُنَافِقِينَ فِي التَّخَلُّفِ عَنْهُ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يُمْضِيَ شَيْئًا إِلَّا بِوَحْيٍ وَأَخْذُهُ مِنَ الْأُسَارَى الْفِدْيَةَ فَعَاتَبَهُ اللَّهُ كَمَا تَسْمَعُونَ. قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: إِنَّمَا بدر منه ترك الاولى فقدم الله له الْعَفْوَ عَلَى الْخِطَابِ الَّذِي هُوَ فِي صُورَةِ الْعِتَابِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: (حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكاذِبِينَ) أَيْ لِيَتَبَيَّنَ لَكَ مَنْ صَدَقَ مِمَّنْ نَافَقَ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَذَلِكَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَكُنْ يَوْمَئِذٍ يَعْرِفُ الْمُنَافِقِينَ وَإِنَّمَا عَرَفَهُمْ بَعْدَ نُزُولِ سُورَةِ] التَّوْبَةِ [. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: هَؤُلَاءِ قَوْمٌ قَالُوا: نَسْتَأْذِنُ فِي الْجُلُوسِ فَإِنْ أَذِنَ لَنَا جَلَسْنَا وَإِنْ لَمْ يُؤْذَنْ لَنَا جَلَسْنَا. وَقَالَ قَتَادَةُ: نَسَخَ هَذِهِ الْآيَةَ بِقَوْلِهِ فِي سُورَةِ" النُّورِ":" فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ" «1» [النور: 62]. ذكره النحاس في معاني القرآن له.

[سورة التوبة (9): الآيات 44 الى 45]
لَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يُجاهِدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (44) إِنَّما يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَارْتابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ (45)
إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ (45) قَوْلُهُ تَعَالَى: (لَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) أَيْ فِي الْقُعُودِ وَلَا فِي الْخُرُوجِ، بَلْ إِذَا أَمَرْتَ بِشَيْءٍ ابْتَدَرُوهُ، فَكَانَ الِاسْتِئْذَانُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ مِنْ عَلَامَاتِ النِّفَاقِ لِغَيْرِ عُذْر، وَلِذَلِك قَالَ: (إِنَّما يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَارْتابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ). رَوَى أَبُو دَاوُدَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: (لَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ) نَسَخَتْهَا الَّتِي فِي (النُّورِ) (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ- إِلَى قَوْلِهِ- غَفُورٌ رَحِيمٌ) «2» " أَنْ يُجاهِدُوا" فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ بإضمار في، عن الزجاج. وقيل: التقدير
__________
(1). راجع ج 12 ص 320 فما بعد.
(2). راجع ج 12 ص 320 فما بعد.

(8/155)


وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ (46)

كَرَاهِيَةَ أَنْ يُجَاهِدُوا، كَقَوْلِهِ:" يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا" «1» [النساء: 176]. (وَارْتابَتْ قُلُوبُهُمْ) شَكَّتْ فِي الدِّينِ. (فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ) أَيْ فِي شَكِّهِمْ يَذْهَبُونَ وَيَرْجِعُونَ.

[سورة التوبة (9): آية 46]
وَلَوْ أَرادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقاعِدِينَ (46)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَلَوْ أَرادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً) أَيْ لَوْ أَرَادُوا الْجِهَادَ لَتَأَهَّبُوا أُهْبَةَ السَّفَرِ. فَتَرْكُهُمُ الِاسْتِعْدَادَ دَلِيلٌ عَلَى إِرَادَتِهِمُ التَّخَلُّفَ. (وَلكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعاثَهُمْ) أَيْ خُرُوجَهُمْ مَعَكَ. (فَثَبَّطَهُمْ) أَيْ حَبَسَهُمْ عَنْكَ وَخَذَلَهُمْ، لِأَنَّهُمْ قَالُوا: إِنْ لَمْ يُؤْذَنْ لَنَا فِي الْجُلُوسِ أَفْسَدْنَا وَحَرَّضْنَا عَلَى الْمُؤْمِنِينَ. وَيَدُلُّ عَلَى هَذَا أَنَّ بَعْدَهُ" لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زادُوكُمْ إِلَّا خَبالًا". (وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقاعِدِينَ) قِيلَ: هُوَ مِنْ قَوْلِ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ. وَقِيلَ: هُوَ مِنْ قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَيَكُونُ هَذَا هُوَ الْإِذْنَ الَّذِي تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ. قِيلَ: قَالَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَضَبًا فَأَخَذُوا بِظَاهِرِ لَفْظِهِ وَقَالُوا. قَدْ أَذِنَ لَنَا. وَقِيلَ: هُوَ عِبَارَةٌ عَنِ الْخِذْلَانِ، أَيْ أَوْقَعَ اللَّهُ فِي قُلُوبِهِمُ الْقُعُودَ. وَمَعْنَى (مَعَ الْقاعِدِينَ) أَيْ مَعَ أُولِي الضَّرَرِ وَالْعُمْيَانِ وَالزَّمْنَى والنسوان والصبيان.

[سورة التوبة (9): آية 47]
لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زادُوكُمْ إِلاَّ خَبالاً وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (47)
هُوَ تَسْلِيَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ فِي تَخَلُّفِ الْمُنَافِقِينَ عَنْهُمْ. وَالْخَبَالُ: الْفَسَادُ وَالنَّمِيمَةُ وَإِيقَاعُ الِاخْتِلَافِ وَالْأَرَاجِيفِ. وَهَذَا اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ، أَيْ مَا زَادُوكُمْ قُوَّةً وَلَكِنْ طَلَبُوا الْخَبَالَ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى لَا يَزِيدُونَكُمْ فِيمَا يَتَرَدَّدُونَ [فِيهِ «2»] مِنَ الرَّأْيِ إِلَّا خَبَالًا، فَلَا يكون الاستثناء منقطعا.
__________
(1). راجع ج 6 ص 28. [ ..... ]
(2). من ج وز ى.

(8/156)


لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ حَتَّى جَاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كَارِهُونَ (48)

قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ) الْمَعْنَى لَأَسْرَعُوا فِيمَا بَيْنَكُمْ بِالْإِفْسَادِ. وَالْإِيضَاعُ، سُرْعَةُ السَّيْرِ. وَقَالَ الرَّاجِزُ «1»:
يَا لَيْتَنِي فِيهَا جَذَعْ ... أَخُبَّ فِيهَا وَأَضَعْ
يُقَالُ: وَضَعَ الْبَعِيرُ إِذَا عَدَا، يَضَعُ وَضْعًا وَوُضُوعًا «2» إِذَا أَسْرَعَ السَّيْرَ. وَأَوْضَعْتُهُ حَمَلْتُهُ عَلَى الْعَدْوِ. وَقِيلَ: الْإِيضَاعُ سَيْرٌ مِثْلُ الْخَبَبِ. وَالْخَلَلُ الْفُرْجَةُ بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ، وَالْجَمْعُ الْخِلَالُ، أَيِ الْفُرَجُ الَّتِي تَكُونُ بَيْنَ الصُّفُوفِ. أَيْ لَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ بِالنَّمِيمَةِ وَإِفْسَادِ ذَاتِ الْبَيْنِ. (يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ) مَفْعُولٌ ثَانٍ. وَالْمَعْنَى يَطْلُبُونَ لَكُمُ الْفِتْنَةَ، أَيِ الْإِفْسَادَ وَالتَّحْرِيضَ. وَيُقَالُ: أَبْغَيْتُهُ كَذَا أَعَنْتُهُ عَلَى طَلَبِهِ، وَبَغَيْتُهُ كَذَا طَلَبْتُهُ لَهُ. وَقِيلَ: الْفِتْنَةُ هُنَا الشِّرْكُ. (وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ) أَيْ عُيُونٌ لَهُمْ يَنْقُلُونَ إِلَيْهِمُ الْأَخْبَارَ مِنْكُمْ. قَتَادَةُ: وَفِيكُمْ مَنْ يَقْبَلُ مِنْهُمْ قَوْلَهُمْ وَيُطِيعُهُمْ. النَّحَّاسُ: الْقَوْلُ الْأَوَّلُ أَوْلَى، لِأَنَّهُ الْأَغْلَبُ مِنْ مَعْنَيَيْهِ أَنَّ مَعْنَى سماع يسمع الكلام: ومثله" سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ" «3» [المائدة: 41]. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: لَا يَكَادُ يُقَالُ فِيهِ إِلَّا سامع، مثل قائل.

[سورة التوبة (9): آية 48]
لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ حَتَّى جاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كارِهُونَ (48)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ) أَيْ لَقَدْ طَلَبُوا الْإِفْسَادَ وَالْخَبَالَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَظْهَرَ أَمْرُهُمْ، وَيَنْزِلَ الْوَحْيُ بِمَا أَسَرُّوهُ وَبِمَا سَيَفْعَلُونَهُ. وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: أَرَادَ اثْنَيْ عَشَرَ رَجُلًا مِنَ الْمُنَافِقِينَ، وَقَفُوا عَلَى ثَنِيَّةِ «4» الْوَدَاعِ لَيْلَةَ الْعَقَبَةِ لِيَفْتِكُوا بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. (وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ) أَيْ صَرَفُوهَا وَأَجَالُوا الرَّأْيَ فِي إِبْطَالِ مَا جِئْتَ بِهِ (حَتَّى جاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ) أي دينه" وَهُمْ كارِهُونَ"
__________
(1). هو دريد بن الصمة، كما في اللسان.
(2). الذي في كتب اللغة أنه يقال: وضع البعير وضعا وموضوعا. أما الوضوء فهو من مصادر قولهم: وضع الرجل نفسه وضعا وضوعا وضعه (بفتح الضاد وكسرها) إذا أذلها.
(3). راجع ج 6 ص 182.
(4). الثنية: الطريقة في الجبل كالنقب، وقيل: الطريق العالي فيه. والواداع، واد بمكة وثنية الوداع منسوبة إليه.

(8/157)


وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلَا تَفْتِنِّي أَلَا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ (49) إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِنْ قَبْلُ وَيَتَوَلَّوْا وَهُمْ فَرِحُونَ (50)

[سورة التوبة (9): الآيات 49 الى 50]
وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ (49) إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنا أَمْرَنا مِنْ قَبْلُ وَيَتَوَلَّوْا وَهُمْ فَرِحُونَ (50)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي) مِنْ أَذِنَ يَأْذَنُ. وَإِذَا أَمَرْتَ زِدْتَ هَمْزَةً مَكْسُورَةً وَبَعْدَهَا هَمْزَةٌ هِيَ فَاءُ الْفِعْلِ، وَلَا يَجْتَمِعُ هَمْزَتَانِ فَأُبْدِلَتْ مِنَ الثانية ياء لكسرة ما قبلها فقلت ائذن. فَإِذَا وَصَلْتَ زَالَتِ الْعِلَّةُ فِي الْجَمْعِ بَيْنَ هَمْزَتَيْنِ، ثُمَّ هَمَزْتَ فَقُلْتَ:" وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي" وَرَوَى وَرْشٌ عَنْ نَافِعٍ" وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ اوْذَنْ لِي" خَفَّفَ الْهَمْزَةَ «1». قَالَ النحاس: يقال ائذن لفلان ثم ائذن لَهُ هِجَاءُ الْأُولَى وَالثَّانِيَةِ وَاحِدٌ بِأَلِفٍ وَيَاءٍ قبل الذال في الخط. فإن قلت: ائذن لِفُلَانٍ وَأْذَنْ لِغَيْرِهِ كَانَ الثَّانِي بِغَيْرِ يَاءٍ وَكَذَا الْفَاءُ. وَالْفَرْقُ بَيْنَ ثُمَّ وَالْوَاوُ أَنَّ ثُمَّ يُوقَفُ عَلَيْهَا وَتَنْفَصِلُ وَالْوَاوُ وَالْفَاءُ لَا يُوقَفُ عَلَيْهِمَا وَلَا يَنْفَصِلَانِ. قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْجَدِّ بْنِ قَيْسٍ أَخِي بَنِي سَلِمَةَ لَمَّا أَرَادَ الْخُرُوجَ إِلَى تَبُوكَ: (يَا جَدُّ، هَلْ لَكَ فِي جِلَادِ بَنِي الْأَصْفَرِ تَتَّخِذُ مِنْهُمْ سَرَارِيَّ وَوُصَفَاءَ) فَقَالَ الْجَدُّ: قَدْ عَرَفَ قَوْمِي أَنِّي مُغَرَمٌ بِالنِّسَاءِ، وَإِنِّي أَخْشَى إِنْ رَأَيْتُ بَنِي الْأَصْفَرِ أَلَّا أَصْبِرَ عَنْهُنَّ فَلَا تَفْتِنِّي وَأْذَنْ لِي فِي الْقُعُودِ وَأُعِينُكَ بِمَالِيَ فَأَعْرَضَ عَنْهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ: (قَدْ أَذِنْتُ لَكَ) فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ. أَيْ لَا تَفْتِنِّي بِصَبَاحَةِ وُجُوهِهِمْ، وَلَمْ يَكُنْ بِهِ عِلَّةٌ إِلَّا النِّفَاقَ. قَالَ الْمَهْدَوِيُّ: وَالْأَصْفَرُ رَجُلٌ مِنَ الْحَبَشَةِ كَانَتْ لَهُ بَنَاتٌ لَمْ يَكُنْ فِي وَقْتِهِنَّ أَجْمَلُ مِنْهُنَّ وَكَانَ بِبِلَادِ الرُّومِ. وَقِيلَ: سُمُّوا بِذَلِكَ لِأَنَّ الْحَبَشَةَ غَلَبَتْ عَلَى الرُّومِ، وَوَلَدَتْ لَهُمْ بَنَاتٍ فَأَخَذْنَ مِنْ بَيَاضِ الرُّومِ وَسَوَادِ الْحَبَشَةِ، فَكُنَّ صُفْرًا لُعْسًا «2». قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: فِي قَوْلِ ابْنِ ابن إِسْحَاقَ فُتُورٌ. وَأَسْنَدَ الطَّبَرِيُّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ
__________
(1). أي أبدلها واوا لضمه اللام قبلها فينطق باللام كأنها متصلة بواو الجماعة.
(2). اللعس: سواد اللثة والشفة. وقيل: اللعس واللعسة: سواد يعلو شفة المرأة البيضاء وقيل: هو سواد في حمرة.

(8/158)


قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (51)

صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (اغْزُوا تَغْنَمُوا بنات الأصفر) فقال له الجد: ائذن لَنَا وَلَا تَفْتِنَّا بِالنِّسَاءِ. وَهَذَا مَنْزَعٌ غَيْرُ الْأَوَّلِ، وَهُوَ أَشْبَهُ بِالنِّفَاقِ وَالْمُحَادَّةِ. وَلَمَّا نَزَلَتْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِبَنِي سَلِمَةَ- وَكَانَ الْجَدُّ بْنُ قَيْسٍ مِنْهُمْ: (مَنْ سَيِّدُكُمْ يَا بَنِي سَلِمَةَ)؟ قَالُوا: جَدُّ بْنُ قَيْسٍ، غَيْرَ أَنَّهُ بَخِيلٌ جَبَانٌ. فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (وَأَيُّ دَاءٍ أَدْوَى «1» مِنَ الْبُخْلِ بَلْ سَيِّدُكُمُ الْفَتَى الْأَبْيَضُ بِشْرُ بْنُ الْبَرَاءِ بْنِ مَعْرُورٍ). فَقَالَ حَسَّانُ بْنُ ثَابِتٍ الْأَنْصَارِيُّ فِيهِ:
وَسُوِّدَ بِشْرُ بْنُ الْبَرَاءِ لِجُودِهِ ... وَحُقَّ لِبِشْرِ بْنِ الْبَرَا أَنْ يُسَوَّدَا
إِذَا مَا أَتَاهُ الْوَفْدُ أَذْهَبَ مَالَهُ ... وَقَالَ خُذُوهُ إِنَّنِي عَائِدٌ غَدَا
(أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا) أَيْ فِي الْإِثْمِ وَالْمَعْصِيَةِ وَقَعُوا. وَهِيَ النِّفَاقُ وَالتَّخَلُّفُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. (وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ) أَيْ مَسِيرُهُمْ إِلَى النَّارِ، فَهِيَ تُحْدِقُ بِهِمْ. قَوْلُهُ تَعَالَى: (إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ) شَرْطٌ وَمُجَازَاةٌ، وَكَذَا" وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنا أَمْرَنا مِنْ قَبْلُ وَيَتَوَلَّوْا" عَطْفٌ عَلَيْهِ. وَالْحَسَنَةُ: الْغَنِيمَةُ وَالظَّفَرُ. وَالْمُصِيبَةُ الِانْهِزَامُ. وَمَعْنَى قَوْلِهِمْ: (أَخَذْنا أَمْرَنا مِنْ قَبْلُ) أَيِ احْتَطْنَا لِأَنْفُسِنَا، وَأَخَذْنَا بِالْحَزْمِ فَلَمْ نَخْرُجْ إِلَى الْقِتَالِ. (وَيَتَوَلَّوْا) أَيْ عَنِ الْإِيمَانِ. (وَهُمْ فَرِحُونَ) أي معجبون بذلك.

[سورة التوبة (9): آية 51]
قُلْ لَنْ يُصِيبَنا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنا هُوَ مَوْلانا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (51)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (قُلْ لَنْ يُصِيبَنا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنا) قِيلَ: فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ. وَقِيلَ: مَا أَخْبَرَنَا بِهِ فِي كِتَابِهِ مِنْ أَنَّا إِمَّا أَنْ نَظْفَرَ فَيَكُونُ الظَّفَرُ حُسْنَى لنا، وإما أن نقتل
__________
(1). أي أي عيب أقبح منه. قال ابن الأثير: (والصواب أدوأ بالهمز وموضوعه أول الباب، ولكن هكذا يروى إلا أن يجعل من باب دوى يدوى دوا فهو دو إذا هلك بمرض باطن).

(8/159)


قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ (52)

فَتَكُونُ الشَّهَادَةُ أَعْظَمَ حُسْنَى لَنَا. وَالْمَعْنَى كُلُّ شي بِقَضَاءٍ وَقَدَرٍ. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي [الْأَعْرَافِ] أَنَّ العلم والقدر والكتاب سواء «1». (هُوَ مَوْلانا) أي ناصرنا. والتوكل تفويض الامر إليه. وقراءة الجمهور" يُصِيبَنا" نصب بلن. وَحَكَى أَبُو عُبَيْدَةَ أَنَّ مِنَ الْعَرَبِ مَنْ يَجْزِمُ بِهَا. وَقَرَأَ طَلْحَةُ بْنُ مُصَرِّفٍ" هَلْ يُصِيبُنَا" وَحُكِيَ عَنْ أَعْيَنَ قَاضِي الرَّيِّ أَنَّهُ قَرَأَ (قُلْ لَنْ يُصِيبَنا) بِنُونٍ مُشَدَّدَةٍ. وَهَذَا لَحْنٌ، لَا يُؤَكَّدُ بِالنُّونِ مَا كَانَ خَبَرًا، وَلَوْ كَانَ هَذَا فِي قِرَاءَةِ طَلْحَةَ لَجَازَ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:" هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ" «2» [الحج: 15].

[سورة التوبة (9): آية 52]
قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنا إِلاَّ إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ (52)
قَوْلُهُ تَعَالَى" قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنا" وَالْكُوفِيُّونَ يُدْغِمُونَ اللَّامَ فِي التَّاءِ. فَأَمَّا لَامُ الْمَعْرِفَةِ فَلَا يَجُوزُ إِلَّا الْإِدْغَامُ، كَمَا قَالَ عز وجل:" التَّائِبُونَ" [التوبة: 112] لِكَثْرَةِ لَامِ الْمَعْرِفَةِ فِي كَلَامِهِمْ. وَلَا يَجُوزُ الإدغام في قوله:" قُلْ تَعالَوْا" [الانعام: 151] لِأَنَّ" قُلْ" مُعْتَلٌّ، فَلَمْ يَجْمَعُوا عَلَيْهِ عِلَّتَيْنِ. وَالتَّرَبُّصُ الِانْتِظَارُ. يُقَالُ: تَرَبَّصَ بِالطَّعَامِ أَيِ انْتَظَرَ بِهِ إِلَى حِينِ الْغَلَاءِ. وَالْحُسْنَى تَأْنِيثُ الْأَحْسَنِ. وَوَاحِدُ الْحُسْنَيَيْنِ حُسْنَى، وَالْجَمْعُ الْحُسْنَى. وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَنْطِقَ بِهِ إِلَّا مُعَرَّفًا. لَا يُقَالُ: رَأَيْتُ امْرَأَةً حُسْنَى. وَالْمُرَادُ بِالْحُسْنَيَيْنِ الْغَنِيمَةُ وَالشَّهَادَةُ، عن ابن عباس ومجاهد وغير هما. وَاللَّفْظُ اسْتِفْهَامٌ وَالْمَعْنَى تَوْبِيخٌ. (وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذابٍ مِنْ عِنْدِهِ) أَيْ عُقُوبَةٍ تُهْلِكُكُمْ كَمَا أَصَابَ الْأُمَمَ الْخَالِيَةَ مِنْ قَبْلِكُمْ. (أَوْ بِأَيْدِينا) أَيْ يُؤْذَنُ لَنَا فِي قِتَالِكُمْ. (فَتَرَبَّصُوا) تَهْدِيدٌ وَوَعِيدٌ. أَيِ انْتَظِرُوا مَوَاعِدَ الشيطان إنا منتظرون مواعد الله.
__________
(1). راجع ج 7 ص 203.
(2). راجع ج 12 ص 21.

(8/160)


قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْمًا فَاسِقِينَ (53)

[سورة التوبة (9): آية 53]
قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْماً فاسِقِينَ (53)
فِيهِ أَرْبَعُ مَسَائِلَ [الْأُولَى] قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: نَزَلَتْ فِي الْجَدِّ بْنِ قَيْسٍ إِذْ قَالَ ائْذَنْ لِي فِي الْقُعُودِ وَهَذَا مَالِي أُعِينُكَ بِهِ. وَلَفْظُ" أَنْفِقُوا" أَمْرٌ، وَمَعْنَاهُ الشَّرْطُ وَالْجَزَاءُ. وَهَكَذَا تَسْتَعْمِلُ العرب في مثل هذا تأتي بأو كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ «1»:
أَسِيئِي بِنَا أَوْ أَحْسِنِي لَا مَلُومَةً ... لَدَيْنَا وَلَا مَقْلِيَّةً إِنْ تَقَلَّتِ
وَالْمَعْنَى إِنْ أَسَأْتِ أَوْ أَحْسَنْتِ فَنَحْنُ عَلَى مَا تَعْرِفِينَ. وَمَعْنَى الْآيَةِ: إِنْ أَنْفَقْتُمْ طَائِعِينَ أَوْ مُكْرَهِينَ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْكُمْ. ثُمَّ بَيَّنَ عز وجل لِمَ لَا يُقْبَلُ مِنْهُمْ فَقَالَ:" وَما مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ" [التوبة: 54] فَكَانَ فِي هَذَا أَدَلُّ دَلِيلٍ وَهِيَ: الثَّانِيَةُ- عَلَى أَنَّ أَفْعَالَ الْكَافِرِ إِذَا كَانَتْ بِرًّا كَصِلَةِ الْقَرَابَةِ وَجَبْرِ الْكَسِيرِ وَإِغَاثَةِ الْمَلْهُوفِ لَا يُثَابُ عَلَيْهَا وَلَا يَنْتَفِعُ بِهَا فِي الْآخِرَةِ، بَيْدَ أَنَّهُ يُطْعَمُ بِهَا فِي الدُّنْيَا. دَلِيلُهُ مَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، ابْنُ جُدْعَانَ كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ يَصِلُ الرَّحِمَ وَيُطْعِمُ الْمِسْكِينَ فَهَلْ ذَلِكَ نَافِعُهُ؟ قَالَ: (لَا يَنْفَعُهُ، إِنَّهُ لَمْ يَقُلْ يَوْمًا رَبِّ اغْفِرْ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ). وَرُوِيَ عَنْ أَنَسٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مُؤْمِنًا حَسَنَةً يُعْطَى بِهَا فِي الدُّنْيَا وَيُجْزَى بِهَا فِي الْآخِرَةِ وَأَمَّا الْكَافِرُ فَيُطْعَمُ بِحَسَنَاتٍ مَا عَمِلَ لِلَّهِ بِهَا فِي الدُّنْيَا حَتَّى إِذَا أَفْضَى إِلَى الْآخِرَةِ لَمْ يَكُنْ لَهُ حَسَنَةٌ يُجْزَى بِهَا (. وَهَذَا نَصٌّ. ثُمَّ قِيلَ: هَلْ بِحُكْمِ هَذَا الْوَعْدِ الصَّادِقِ لَا بُدَّ أَنْ يُطْعَمَ الْكَافِرُ وَيُعْطَى بِحَسَنَاتِهِ فِي الدُّنْيَا أَوْ ذَلِكَ مُقَيَّدٌ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ الْمَذْكُورَةِ فِي قَوْلِهِ:" عَجَّلْنا لَهُ فِيها مَا نَشاءُ لِمَنْ نُرِيدُ" «2» [الاسراء: 18] وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ مِنَ الْقَوْلَيْنِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَتَسْمِيَةُ مَا يَصْدُرُ عَنِ الْكَافِرِ حَسَنَةً إِنَّمَا هو بحسب
__________
(1). هو كثير عزة، كما في كتاب الأمالي لابي على القالي.
(2). راجع ج 10 ص 235.

(8/161)


ظَنِّ الْكَافِرِ، وَإِلَّا فَلَا يَصِحُّ مِنْهُ قُرْبَةٌ، لِعَدَمِ شَرْطِهَا الْمُصَحِّحِ لَهَا وَهُوَ الْإِيمَانُ. أَوْ سُمِّيَتْ حَسَنَةً لِأَنَّهَا تُشْبِهُ صُورَةَ حَسَنَةِ الْمُؤْمِنِ ظَاهِرًا. قَوْلَانِ أَيْضًا. الثَّالِثَةُ- فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ رَوَى مُسْلِمٌ عَنْ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ أَنَّهُ قَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أي وسول اللَّهِ، أَرَأَيْتَ أُمُورًا كُنْتُ أَتَحَنَّثُ «1» بِهَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ مِنْ صَدَقَةٍ أَوْ عَتَاقَةٍ أَوْ صِلَةِ رَحِمٍ أَفِيهَا أَجْرٌ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (أَسْلَمْتَ عَلَى مَا أَسْلَفْتَ مِنْ خَيْرٍ) قُلْنَا قَوْلُهُ: (أَسْلَمْتَ عَلَى مَا أَسْلَفْتَ مِنْ خَيْرٍ) مُخَالِفٌ ظَاهِرُهُ لِلْأُصُولِ، لِأَنَّ الْكَافِرَ لَا يَصِحُّ مِنْهُ التَّقَرُّبُ لِلَّهِ تَعَالَى فَيَكُونُ مُثَابًا عَلَى طَاعَتِهِ، لِأَنَّ مِنْ شَرْطِ الْمُتَقَرِّبِ أَنْ يَكُونَ عَارِفًا بِالْمُتَقَرَّبِ إِلَيْهِ، فَإِذَا عَدِمَ الشَّرْطَ انْتَفَى صِحَّةُ الْمَشْرُوطِ. فَكَانَ الْمَعْنَى فِي الْحَدِيثِ: إِنَّكَ اكْتَسَبْتَ طِبَاعًا جَمِيلَةً فِي الْجَاهِلِيَّةِ أَكْسَبَتْكَ عَادَةً جَمِيلَةً فِي الْإِسْلَامِ. وَذَلِكَ أَنَّ حَكِيمًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَاشَ مِائَةً وَعِشْرِينَ سَنَةً، سِتِّينَ فِي الْإِسْلَامِ وَسِتِّينَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَأَعْتَقَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ مِائَةَ رَقَبَةٍ وَحَمَلَ عَلَى مِائَةِ بَعِيرٍ؟ وَكَذَلِكَ فَعَلَ فِي الْإِسْلَامِ. وَهَذَا وَاضِحٌ. وَقَدْ قِيلَ: لَا يَبْعُدُ فِي كَرَمِ اللَّهِ أَنْ يُثِيبَهُ عَلَى فِعْلِهِ ذَلِكَ بِالْإِسْلَامِ، كَمَا يُسْقِطُ عَنْهُ مَا ارْتَكَبَهُ فِي حَالِ كُفْرِهِ مِنَ الْآثَامِ. وَإِنَّمَا لَا يُثَابُ مَنْ لَمْ يُسْلِمْ وَلَا تَابَ، وَمَاتَ كَافِرًا. وَهَذَا ظَاهِرُ الْحَدِيثِ. وَهُوَ الصَّحِيحُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ. وَلَيْسَ عَدَمُ شَرْطِ الْإِيمَانِ فِي عَدَمِ ثَوَابِ مَا يَفْعَلُهُ مِنَ الْخَيْرِ ثُمَّ أَسْلَمَ وَمَاتَ مُسْلِمًا بِشَرْطٍ عَقْلِيٍّ لَا يَتَبَدَّلُ، وَاللَّهُ أَكْرَمُ مِنْ أَنْ يُضِيعَ عَمَلَهُ إِذَا حَسُنَ إِسْلَامُهُ. وَقَدْ تَأَوَّلَ الْحَرْبِيُّ الْحَدِيثَ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى فَقَالَ: (أَسْلَمْتَ عَلَى مَا أَسْلَفْتَ)، أَيْ مَا تَقَدَّمَ لَكَ مِنْ خَيْرٍ عَمِلْتَهُ فَذَلِكَ لَكَ. كَمَا تَقُولُ: أَسْلَمْتُ عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ، أَيْ عَلَى أَنْ أَحْرَزَهَا لِنَفْسِهِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الرَّابِعَةُ- فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ رَوَى مُسْلِمٌ عَنِ الْعَبَّاسِ قَالَ: قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ [إِنَّ] أَبَا طَالِبٍ كَانَ يَحُوطُكَ وَيَنْصُرُكَ، فَهَلْ نَفَعَهُ ذَلِكَ؟ قَالَ: (نَعَمْ وَجَدْتُهُ فِي غَمَرَاتٍ مِنَ النَّارِ فَأَخْرَجْتُهُ إِلَى ضَحْضَاحٍ) «2». قِيلَ لَهُ: لَا يَبْعُدُ أَنْ يُخَفَّفَ عَنِ الْكَافِرِ بَعْضُ الْعَذَابِ
__________
(1). التحنث: التعبد.
(2). الضحضاح في الأصل: مارق من الماء على وجه الأرض ما يبلغ الكعبين. فاستعاره للنار. [ ..... ]

(8/162)


وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلَا يَأْتُونَ الصَّلَاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَى وَلَا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ (54)

بِمَا عَمِلَ مِنَ الْخَيْرِ، لَكِنْ مَعَ انْضِمَامِ شَفَاعَةٍ، كَمَا جَاءَ فِي أَبِي طَالِبٍ. فَأَمَّا غَيْرُهُ فَقَدْ أَخْبَرَ التَّنْزِيلُ بِقَوْلِهِ:" فَما تَنْفَعُهُمْ شَفاعَةُ الشَّافِعِينَ" «1» [المدثر: 48]. وَقَالَ مُخْبِرًا عَنِ الْكَافِرِينَ:" فَما لَنا مِنْ شافِعِينَ. وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ" «2» [الشعراء: 100، 101]. وَقَدْ رَوَى مُسْلِمٌ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذُكِرَ عِنْدَهُ عَمُّهُ أَبُو طَالِبٍ فَقَالَ: (لَعَلَّهُ تَنْفَعُهُ شَفَاعَتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيُجْعَلُ فِي ضَحْضَاحٍ مِنَ النَّارِ يَبْلُغُ كَعْبَيْهِ يَغْلِي مِنْهُ دِمَاغُهُ). مِنْ حَدِيثِ الْعَبَّاسِ [رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ «3»]: (وَلَوْلَا أَنَا لَكَانَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ). قَوْلُهُ تَعَالَى: (إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْماً فاسِقِينَ) أَيْ كافرين.

[سورة التوبة (9): آية 54]
وَما مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقاتُهُمْ إِلاَّ أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلا يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلاَّ وَهُمْ كُسالى وَلا يُنْفِقُونَ إِلاَّ وَهُمْ كارِهُونَ (54)
فِيهِ ثَلَاثُ مَسَائِلَ: الْأُولَى-[قَوْلُهُ تَعَالَى «4»]: (وَما مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ) " أَنْ" الْأُولَى فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ، وَالثَّانِيَةُ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ. وَالْمَعْنَى: وَمَا مَنَعَهُمْ مِنْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا كُفْرُهُمْ وَقَرَأَ الْكُوفِيُّونَ" أَنْ يُقْبَلَ مِنْهُمْ" بِالْيَاءِ، لِأَنَّ النَّفَقَاتِ وَالْإِنْفَاقَ وَاحِدٌ. الثَّانِيَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَلا يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسالى) قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِنْ كَانَ فِي جَمَاعَةٍ صَلَّى وَإِنِ انْفَرَدَ لَمْ يُصَلِّ، وَهُوَ الَّذِي لَا يَرْجُو عَلَى الصَّلَاةِ ثَوَابًا وَلَا يَخْشَى فِي تَرْكِهَا عِقَابًا. فَالنِّفَاقُ يُورِثُ الْكَسَلَ فِي الْعِبَادَةِ لَا مَحَالَةَ. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي [النِّسَاءِ «5»] الْقَوْلُ فِي هَذَا كُلِّهِ. وَقَدْ ذَكَرْنَا هُنَاكَ حَدِيثَ الْعَلَاءِ «6» مُوعَبًا. وَالْحَمْدُ لِلَّهِ. الثَّالِثَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَلا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كارِهُونَ) لِأَنَّهُمْ يَعُدُّونَهَا مَغْرَمًا وَمَنْعَهَا مَغْنَمًا وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فَهِيَ غَيْرُ مُتَقَبَّلَةٍ وَلَا مُثَابٍ عَلَيْهَا حَسْبَ مَا تَقَدَّمَ.
__________
(1). راجع ج 19 ص 82 فما بعد.
(2). راجع ج 14 ص
(3). من ب وج وهـ وى.
(4). من ك وج.
(5). راجع ج 5 ص 422.
(6). لعل صوابه: حديث الاعرابي.

(8/163)


فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ (55)

[سورة التوبة (9): الآيات 55 الى 56]
فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِها فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كافِرُونَ (55) وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَما هُمْ مِنْكُمْ وَلكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ (56)
أَيْ لَا تَسْتَحْسِنْ مَا أَعْطَيْنَاهُمْ وَلَا تَمِلْ إِلَيْهِ فَإِنَّهُ اسْتِدْرَاجٌ" إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِها" قَالَ الْحَسَنُ: الْمَعْنَى بِإِخْرَاجِ الزَّكَاةِ وَالْإِنْفَاقِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ. وَهَذَا اخْتِيَارُ الطَّبَرِيِّ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةُ: فِي الْكَلَامِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ، وَالْمَعْنَى فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا إِنَّمَا يَرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْآخِرَةِ. وَهَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ، ذَكَرَهُ النَّحَّاسُ. وَقِيلَ: يُعَذِّبُهُمْ بِالتَّعَبِ فِي الْجَمْعِ. وَعَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ وَقَوْلِ الْحَسَنِ لَا تَقْدِيمَ فِيهِ وَلَا تَأْخِيرَ، وَهُوَ حَسَنٌ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الدُّنْيَا لِأَنَّهُمْ مُنَافِقُونَ، فَهُمْ يُنْفِقُونَ كَارِهِينَ فَيُعَذَّبُونَ بِمَا يُنْفِقُونَ. (وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كافِرُونَ) نَصٌّ فِي أَنَّ اللَّهَ يُرِيدُ أَنْ يَمُوتُوا كَافِرِينَ، سَبَقَ بِذَلِكَ الْقَضَاءُ. (وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ) بَيَّنَ أَنَّ مِنْ أَخْلَاقِ الْمُنَافِقِينَ الْحَلِفَ بِأَنَّهُمْ مُؤْمِنُونَ. نَظِيرُهُ" إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ قالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ" «1» [المنافقون: 1] الْآيَةَ. وَالْفَرَقُ الْخَوْفُ، أَيْ يَخَافُونَ أَنْ يُظْهِرُوا ما هم عليه فيقتلوا.

[سورة التوبة (9): آية 57]
لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغاراتٍ أَوْ مُدَّخَلاً لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ (57)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً) كَذَا الْوَقْفُ عَلَيْهِ. وَفِي الْخَطِّ بِأَلِفَيْنِ: الْأُولَى هَمْزَةٌ، وَالثَّانِيَةُ عِوَضٌ مِنَ التَّنْوِينِ، وَكَذَا [رَأَيْتُ] جُزْءًا. وَالْمَلْجَأُ الْحِصْنُ، عَنْ قَتَادَةَ وَغَيْرِهِ. ابْنُ عَبَّاسٍ: الْحِرْزُ، وَهُمَا سَوَاءٌ. يُقَالُ: لَجَأْتُ إِلَيْهِ لَجَأَ (بِالتَّحْرِيكِ) «2» وَمَلْجَأً وَالْتَجَأْتُ إِلَيْهِ
__________
(1). راجع ج 18 ص 120.
(2). هذه عبارة الجوهري في صحاحه. والذي في اللسان والقاموس أنه يقال لجأ لجأ مثل منع منعا. ولجئ لجأ مثل فرح فرحا.

(8/164)


بِمَعْنًى. وَالْمَوْضِعُ أَيْضًا لَجَأً وَمَلْجَأً. وَالتَّلْجِئَةُ الْإِكْرَاهُ. وَأَلْجَأْتُهُ إِلَى الشَّيْءِ اضْطَرَرْتُهُ إِلَيْهِ. وَأَلْجَأْتُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ أَسْنَدْتُهُ. وَعَمْرُو بْنُ لَجَأَ التَّمِيمِيُّ «1» الشَّاعِرُ عَنِ الْجَوْهَرِيِّ. (أَوْ مَغَارَاتٍ) جَمْعُ مَغَارَةٍ، مِنْ غَارَ يَغِيرُ. قَالَ الْأَخْفَشُ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْ أَغَارَ يُغِيرُ، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ:
الْحَمْدُ لِلَّهِ مُمْسَانَا وَمُصْبَحَنَا «2»

قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْمَغَارَاتُ الْغِيرَانُ وَالسَّرَادِيبُ، وَهِيَ الْمَوَاضِعُ الَّتِي يُسْتَتَرُ فِيهَا، وَمِنْهُ غَارَ الْمَاءُ وَغَارَتِ الْعَيْنُ. (أَوْ مُدَّخَلًا) مُفْتَعَلٌ مِنَ الدُّخُولِ، أَيْ مَسْلَكًا نَخْتَفِي بِالدُّخُولِ فِيهِ، وَأَعَادَهُ لِاخْتِلَافِ اللَّفْظِ. قَالَ النَّحَّاسُ: الْأَصْلُ فِيهِ مُدْتَخَلٌ، قُلِبَتِ التَّاءُ دَالًا، لِأَنَّ الدَّالَ مَجْهُورَةٌ وَالتَّاءَ مَهْمُوسَةٌ وَهُمَا مِنْ مَخْرَجٍ وَاحِدٍ. وَقِيلَ: الْأَصْلُ فِيهِ مُتَدَخَّلٌ عَلَى مُتَفَعَّلٍ، كَمَا فِي قِرَاءَةِ أُبَيٍّ:" أَوْ مُتَدَخَّلًا" وَمَعْنَاهُ دُخُولٌ بَعْدَ دُخُولٍ، أَيْ قَوْمًا يَدْخُلُونَ مَعَهُمْ. الْمَهْدَوِيُّ: مُتَدَخِّلًا مِنْ تَدَخَّلَ مِثْلَ تَفَعَّلَ إِذَا تَكَلَّفَ الدُّخُولُ. وَعَنْ أُبَيٍّ أَيْضًا: مُنْدَخَلًا مِنِ انْدَخَلَ، وَهُوَ شَاذٌّ، لِأَنَّ ثُلَاثِيَّهُ غَيْرُ مُتَعَدٍّ عِنْدَ سِيبَوَيْهِ وَأَصْحَابِهِ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَابْنُ أَبِي إِسْحَاقَ وَابْنُ مُحَيْصِنٍ:" أَوْ مَدْخَلًا" بِفَتْحِ الْمِيمِ وَإِسْكَانِ الدَّالِ. قَالَ الزَّجَّاجُ: وَيُقْرَأُ" أَوْ مُدْخَلًا" بِضَمِّ الْمِيمِ وَإِسْكَانِ الدَّالِ. الْأَوَّلُ مِنْ دَخَلَ يَدْخُلُ. وَالثَّانِي مِنْ أَدْخَلَ يُدْخِلُ. كَذَا الْمَصْدَرُ وَالْمَكَانُ وَالزَّمَانُ كَمَا أَنْشَدَ سِيبَوَيْهِ:
مُغَارَ ابْنِ هَمَّامٍ عَلَى حَيِّ خَثْعَمَا «3»

وَرُوِيَ عَنْ قَتَادَةَ وَعِيسَى وَالْأَعْمَشِ" أَوْ مُدَّخَّلًا" بِتَشْدِيدِ الدَّالِ وَالْخَاءِ. وَالْجُمْهُورُ بِتَشْدِيدِ الدَّالِ وَحْدَهَا، أَيْ مَكَانًا يُدْخِلُونَ فِيهِ أَنْفُسَهُمْ. فَهَذِهِ سِتُّ قِرَاءَاتٍ. (لَوَلَّوْا إِلَيْهِ)
__________
(1). كذا في الصحاح للجوهري (التميمي). والصواب أنه (التيمي). لأنه من تيم بن عبد مناة بن أدين طابخة. ومات عمر بن لجأ بالأهواز وكان يهاجي جريرا. (عن الشعر والشعراء).
(2). هذا صدر بيت لامية ابن أبي الصلت. وعجزه:
بالخير صبحنا ربي ومسانا

(3). هذا عجز بيت لحميد بن ثور. وصدره:
وما هي إلا في إزار وعلقة

وصف امرأة كانت صغيرة السن كانت تلبس العلقة وهي من لباس الجواري، وهي ثوب قصير بلا كمين تلبسه الصبية تلعب فيه ويقال له الاتب والبقيرة، وكانت تلبسه وقت إغارة ابن همام على هذا الحي. وخثعم قبيلة من اليمن. (عن شرح الشواهد).

(8/165)


وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ (58)

أَيْ لَرَجَعُوا إِلَيْهِ. (وَهُمْ يَجْمَحُونَ) أَيْ يُسْرِعُونَ، لا يرد وجوههم شي. مِنْ جَمَحَ الْفَرَسُ إِذَا لَمْ يَرُدُّهُ اللِّجَامُ. قَالَ الشَّاعِرُ:
سَبُوحًا جَمُوحًا وَإِحْضَارُهَا ... كَمَعْمَعَةِ السَّعَفِ الْمُوقَدِ «1»

وَالْمَعْنَى: لَوْ وَجَدُوا شَيْئًا مِنْ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ الْمَذْكُورَةِ لَوَلَّوْا إِلَيْهِ مُسْرِعِينَ هَرَبًا مِنَ المسلمين.

[سورة التوبة (9): آية 58]
وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْها رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْها إِذا هُمْ يَسْخَطُونَ (58)
قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقاتِ" أَيْ يَطْعَنُ عَلَيْكَ، عَنْ قَتَادَةَ. الْحَسَنُ: يَعِيبُكَ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: أَيْ يَرُوزُكَ»
وَيَسْأَلُكَ. النَّحَّاسُ: وَالْقَوْلُ عِنْدَ أَهْلِ اللُّغَةِ قَوْلُ قَتَادَةَ وَالْحَسَنِ. يُقَالُ: لَمَزَهُ يَلْمِزُهُ إِذَا عَابَهُ. وَاللَّمْزُ فِي اللُّغَةِ الْعَيْبُ فِي السِّرِّ. قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: اللَّمْزُ الْعَيْبُ، وَأَصْلُهُ الْإِشَارَةُ بِالْعَيْنِ وَنَحْوِهَا، وَقَدْ لمزه يلمزه ويلمزه وقرى بِهِمَا" وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقاتِ". وَرَجُلٌ لَمَّازٌ وَلُمَزَةٌ أَيْ عَيَّابٌ. وَيُقَالُ أَيْضًا: لَمَزَهُ يَلْمِزُهُ إِذَا دَفَعَهُ وَضَرَبَهُ. وَالْهَمْزُ مِثْلُ اللَّمْزِ. وَالْهَامِزُ وَالْهَمَّازُ الْعَيَّابُ، وَالْهُمَزَةُ مِثْلُهُ. يُقَالُ: رَجُلٌ هُمَزَةٌ وَامْرَأَةٌ هُمَزَةٌ أَيْضًا. وَهَمَزَهُ أَيْ دَفَعَهُ وَضَرَبَهُ. ثُمَّ قِيلَ: اللَّمْزُ فِي الْوَجْهِ، وَالْهَمْزُ بِظَهْرِ الْغَيْبِ. وَصَفَ اللَّهُ قَوْمًا مِنَ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّهُمْ عَابُوا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي تَفْرِيقِ الصَّدَقَاتِ، وَزَعَمُوا أَنَّهُمْ فُقَرَاءُ لِيُعْطِيَهُمْ. قَالَ أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ: بَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْسِمُ مَالًا إِذْ جَاءَهُ حُرْقُوصُ بْنُ زُهَيْرٍ أَصْلُ الْخَوَارِجِ، وَيُقَالُ لَهُ ذُو الْخُوَيْصِرَةِ التَّمِيمِيُّ، فَقَالَ: اعْدِلْ يَا رَسُولَ اللَّهِ. فَقَالَ: (وَيْلُكَ وَمَنْ يَعْدِلُ إِذَا لَمْ أَعْدِلْ) فَنَزَلَتِ الْآيَةُ. حَدِيثٌ صَحِيحٌ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ بِمَعْنَاهُ. وَعِنْدَهَا قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: دَعْنِي يَا رَسُولَ اللَّهِ فَأَقْتُلْ هَذَا الْمُنَافِقَ. فَقَالَ: (مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ يَتَحَدَّثَ النَّاسُ أَنِّي أَقْتُلُ أَصْحَابِي إِنَّ هَذَا وَأَصْحَابَهُ يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لَا يُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ يَمْرُقُونَ منه كما يمرق السهم من الرمية (.
__________
(1). البيت لامرئ القيس. والإحضار: العدو.
(2). الروز: الامتحان والتقدير.
(

(8/166)


وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ (59)

[سورة التوبة (9): آية 59]
وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ راغِبُونَ (59)
قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتاهُمُ اللَّهُ" جَوَابُ" لَوْ" محذوف، التقدير لكان خيرا لهم.

[سورة التوبة (9): آية 60]
إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ وَالْعامِلِينَ عَلَيْها وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقابِ وَالْغارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (60)
فِيهِ ثَلَاثُونَ مَسْأَلَةً: الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى: (إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ) خَصَّ اللَّهُ سُبْحَانَهُ بَعْضَ النَّاسِ بِالْأَمْوَالِ دُونَ بَعْضٍ نِعْمَةً مِنْهُ عَلَيْهِمْ، وَجَعَلَ شُكْرَ ذَلِكَ مِنْهُمْ إِخْرَاجَ سَهْمٍ يُؤَدُّونَهُ إِلَى مَنْ لَا مَالَ لَهُ، نِيَابَةً عَنْهُ سُبْحَانَهُ فِيمَا ضَمِنَهُ بِقَوْلِهِ:" وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُها" «1» [هود: 6]. الثَّانِيَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى:" لِلْفُقَراءِ" تَبْيِينٌ لِمَصَارِفِ الصَّدَقَاتِ وَالْمَحَلِّ، حَتَّى لَا تَخْرُجَ عَنْهُمْ. ثُمَّ الِاخْتِيَارُ إِلَى مَنْ يُقْسَمُ، هَذَا قَوْلُ مَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَأَصْحَابِهِمَا. كَمَا يُقَالُ: السَّرْجُ لِلدَّابَّةِ وَالْبَابِ لِلدَّارِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: اللَّامُ لَامُ التَّمْلِيكِ، كَقَوْلِكَ: الْمَالُ لِزَيْدٍ وَعَمْرٍو وَبَكْرٍ، فَلَا بُدَّ مِنَ التَّسْوِيَةِ بَيْنَ الْمَذْكُورِينَ. قَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَصْحَابُهُ: وَهَذَا كَمَا لَوْ أَوْصَى لِأَصْنَافٍ مُعَيَّنِينَ أَوْ لِقَوْمٍ مُعَيَّنِينَ. وَاحْتَجُّوا بِلَفْظَةِ" إِنَّمَا" وَأَنَّهَا تَقْتَضِي الْحَصْرَ فِي وُقُوفِ الصَّدَقَاتِ عَلَى الثَّمَانِيَةِ الْأَصْنَافِ وَعَضَّدُوا هَذَا بِحَدِيثِ زِيَادِ بْنِ الْحَارِثِ الصُّدَائِيِّ قَالَ: أَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يَبْعَثُ إِلَى قَوْمِي جَيْشًا فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ احْبِسْ جَيْشَكَ فَأَنَا لَكَ بِإِسْلَامِهِمْ وَطَاعَتِهِمْ، وَكَتَبْتُ إِلَى قَوْمِي فَجَاءَ إِسْلَامُهُمْ وَطَاعَتُهُمْ. فقال رسول الله صلى الله عليه
__________
(1). راجع ج 9 ص 6. [ ..... ]

(8/167)


وَسَلَّمَ: (يَا أَخَا صُدَاءَ الْمُطَاعَ فِي قَوْمِهِ). قَالَ: قُلْتُ بَلْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَهَدَاهُمْ، قال: ثم جاءه رجل يسأل عَنِ الصَّدَقَاتِ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إِنَّ اللَّهَ لَمْ يَرْضَ فِي الصَّدَقَاتِ بِحُكْمِ نَبِيٍّ وَلَا غَيْرِهِ حَتَّى جَزَّأَهَا ثَمَانِيَةَ أَجْزَاءٍ فَإِنْ كُنْتَ مِنْ أَهْلِ تِلْكَ الْأَجْزَاءِ أَعْطَيْتُكَ) رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالدَّارَقُطْنِيُّ. وَاللَّفْظُ لِلدَّارَقُطْنِيِّ. وَحُكِيَ عَنْ زَيْنِ الْعَابِدِينَ أَنَّهُ قَالَ: إِنَّهُ تَعَالَى عَلِمَ قَدْرَ مَا يُدْفَعُ مِنَ الزَّكَاةِ وَمَا تَقَعُ بِهِ الْكِفَايَةُ لِهَذِهِ الْأَصْنَافِ، وَجَعَلَهُ حَقًّا لِجَمِيعِهِمْ، فَمَنْ مَنَعَهُمْ ذَلِكَ فهو الظالم لهم رزقهم. وتمسك علماؤنا بقول تَعَالَى:" إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوها وَتُؤْتُوهَا الْفُقَراءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ" «1» [البقرة: 271]. وَالصَّدَقَةُ مَتَى أُطْلِقَتْ فِي الْقُرْآنِ فَهِيَ صَدَقَةُ الْفَرْضِ. وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (أُمِرْتُ أن آخذ الصدقة من أغنيائكم وارد ها عَلَى فُقَرَائِكُمْ). وَهَذَا نَصٌّ فِي ذِكْرِ أَحَدِ الْأَصْنَافِ الثَّمَانِيَةِ قُرْآنًا وَسُنَّةً، وَهُوَ قَوْلُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَعَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَحُذَيْفَةَ. وَقَالَ بِهِ مِنَ التَّابِعِينَ جَمَاعَةٌ. قَالُوا: جَائِزٌ أَنْ يَدْفَعَهَا إِلَى الْأَصْنَافِ الثَّمَانِيَةِ، وَإِلَى أَيِّ صِنْفٍ مِنْهَا دُفِعَتْ جَازَ. رَوَى الْمِنْهَالُ بْنُ عَمْرٍو عَنْ زِرِّ بْنِ حُبَيْشٍ عَنْ حُذَيْفَةَ فِي قَوْلِهِ:" إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ" قَالَ: إِنَّمَا ذَكَرَ اللَّهُ هَذِهِ الصَّدَقَاتِ لِتُعْرَفَ وَأَيُّ صِنْفٍ منها أعطيت أجزأك. وروى سعيد ابن جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ" إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ" قَالَ: فِي أَيِّهَا وَضَعْتَ أَجْزَأَ عَنْكَ. وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ وَإِبْرَاهِيمَ وَغَيْرِهِمَا. قَالَ الْكِيَا الطَّبَرِيُّ: حَتَّى ادَّعَى مَالِكٌ الْإِجْمَاعَ عَلَى ذَلِكَ. قُلْتُ: يُرِيدُ إِجْمَاعَ الصَّحَابَةِ، فَإِنَّهُ لَا يُعْلَمُ لَهُمْ مُخَالِفٌ مِنْهُمْ عَلَى مَا قَالَ أَبُو عُمَرَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَالَّذِي جَعَلْنَاهُ فَيْصَلًا بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ أَنَّ الْأُمَّةَ اتَّفَقَتْ عَلَى أَنَّهُ لَوْ أُعْطِيَ كُلُّ صِنْفٍ حَظَّهُ لَمْ يَجِبْ تَعْمِيمُهُ، فَكَذَلِكَ تَعْمِيمُ الْأَصْنَافِ مِثْلُهُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الثَّالِثَةُ- وَاخْتَلَفَ عُلَمَاءُ اللُّغَةِ وَأَهْلُ الْفِقْهِ فِي الْفَرْقِ بَيْنَ الْفَقِيرِ وَالْمِسْكِينِ عَلَى تِسْعَةِ أَقْوَالٍ: فَذَهَبَ يَعْقُوبُ بْنُ السِّكِّيتِ وَالْقُتَبِيُّ وَيُونُسُ بْنُ حَبِيبٍ إِلَى أَنَّ الْفَقِيرَ أَحْسَنُ حَالًا من
__________
(1). راجع ج 3 ص 332.

(8/168)


الْمِسْكِينِ. قَالُوا: الْفَقِيرُ هُوَ الَّذِي لَهُ بَعْضُ ما يكفيه ويقيمه، والمسكين الذي لا شي لَهُ، وَاحْتَجُّوا بِقَوْلِ الرَّاعِي:
أَمَّا الْفَقِيرُ الَّذِي كَانَتْ حَلُوبَتُهُ ... وَفْقَ الْعِيَالِ فَلَمْ يُتْرَكْ لَهُ سَبَدُ «1»
وَذَهَبَ إِلَى هَذَا قَوْمٌ مِنْ أَهْلِ اللُّغَةِ وَالْحَدِيثِ مِنْهُمْ أَبُو حَنِيفَةَ وَالْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ، وَالْوَفْقُ مِنَ الْمُوَافَقَةِ بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ كَالِالْتِحَامِ، يُقَالُ: حَلُوبَتُهُ وَفْقَ عِيَالِهِ أَيْ لَهَا لَبَنٌ قَدْرَ كِفَايَتِهِمْ لَا فَضْلَ فِيهِ، عَنِ الْجَوْهَرِيِّ. وَقَالَ آخَرُونَ بِالْعَكْسِ، فَجَعَلُوا الْمِسْكِينَ أَحْسَنَ حَالًا مِنَ الْفَقِيرِ. وَاحْتَجُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى:" أَمَّا السَّفِينَةُ فَكانَتْ لِمَساكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ" «2» [الكهف: 79]. فَأَخْبَرَ أَنَّ لَهُمْ سَفِينَةً مِنْ سُفُنِ الْبَحْرِ. وَرُبَّمَا سَاوَتْ جُمْلَةً مِنَ الْمَالِ. وَعَضَّدُوهُ بِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ تَعَوَّذَ مِنَ الْفَقْرِ. وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ:" اللَّهُمَّ أَحْيِنِي مِسْكِينًا وَأَمِتْنِي مِسْكِينًا". فَلَوْ كَانَ الْمِسْكِينُ أَسْوَأَ حَالًا مِنَ الْفَقِيرِ لَتَنَاقَضَ الْخَبَرَانِ، إِذْ يَسْتَحِيلُ أَنْ يَتَعَوَّذَ مِنَ الْفَقْرِ ثُمَّ يَسْأَلُ مَا هُوَ أَسْوَأَ حَالًا مِنْهُ، وقد استجاب الله دعاءه وقبضه وله مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْهِ، وَلَكِنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ تَمَامَ الْكِفَايَةِ، وَلِذَلِكَ رَهَنَ دِرْعَهُ. قَالُوا: وَأَمَّا بَيْتُ الرَّاعِي فَلَا حُجَّةَ فِيهِ، لِأَنَّهُ إِنَّمَا ذَكَرَ أَنَّ الْفَقِيرَ كَانَتْ لَهُ حَلُوبَةٌ فِي حَالٍ. قَالُوا: وَالْفَقِيرُ مَعْنَاهُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ الْمَفْقُورُ الَّذِي نُزِعَتْ فِقَرُهُ «3» مِنْ ظَهْرِهِ مِنْ شِدَّةِ الْفَقْرِ فَلَا حَالَ أَشَدُّ مِنْ هَذِهِ. وَقَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ عَنْهُمْ بِقَوْلِهِ" لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الْأَرْضِ" «4» [البقرة: 273]. وَاسْتَشْهَدُوا بِقَوْلِ الشَّاعِرِ:
لَمَّا رَأَى لُبَدَ النُّسُورِ تَطَايَرَتْ ... رَفَعَ الْقَوَادِمَ كَالْفَقِيرِ الْأَعْزَلِ «5»
أَيْ لَمْ يُطِقِ الطَّيَرَانَ فَصَارَ بِمَنْزِلَةِ مَنِ انْقَطَعَ صُلْبُهُ وَلَصِقَ بِالْأَرْضِ. ذَهَبَ إِلَى هَذَا الْأَصْمَعِيُّ وَغَيْرُهُ، وَحَكَاهُ الطَّحَاوِيُّ عَنِ الْكُوفِيِّينَ. وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيِ الشافعي وأكثر أصحابه. وللشافعي
__________
(1). السبد: الوبر. وقيل الشعر. والعرب تقول: ما له سبد ولا لبد أي ماله ذو وبر ولا صوف متلبد ويكنى بهما عن الإبل والغنم.
(2). راجع ج 11 ص 33 فما بعده.
(3). الفقرة (بالكسر) الفقرة والفقارة (بفتحهما): ما انتضد من عظام الصلب من لدن الكاهل إلى العجب.
(4). راجع ج 3 ص 339.
(5). البيت للبيد. ولبد: اسم آخر نسور لقمان بن عاد سماه بذلك لأنه لبد فبقى لا يذهب ولا يموت. والقوادم: أربع أو عشر ريشات في مقدم الجناح، الواحدة قادمة.

(8/169)


قَوْلٌ آخَرُ: أَنَّ الْفَقِيرَ وَالْمِسْكِينَ سَوَاءٌ، لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا فِي الْمَعْنَى وَإِنِ افْتَرَقَا فِي الِاسْمِ، وَهُوَ الْقَوْلُ الثَّالِثُ. وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ ابْنُ الْقَاسِمِ وَسَائِرُ أَصْحَابِ مَالِكٍ، وَبِهِ قَالَ أَبُو يُوسُفَ. قُلْتُ: ظَاهِرُ اللَّفْظِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمِسْكِينَ غَيْرُ الْفَقِيرِ، وَأَنَّهُمَا صِنْفَانِ، إِلَّا أَنَّ أَحَدَ الصِّنْفَيْنِ أَشَدُّ حَاجَةً مِنَ الْآخَرِ، فَمِنْ هَذَا الْوَجْهِ يَقْرُبُ قَوْلُ مَنْ جَعَلَهُمَا صِنْفًا وَاحِدًا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَلَا حُجَّةَ فِي قَوْلِ مَنِ احْتَجَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى:" أَمَّا السَّفِينَةُ فَكانَتْ لِمَساكِينَ" [الكهف: 79] لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ مُسْتَأْجَرَةً لَهُمْ، كَمَا يُقَالُ: هَذِهِ دَارُ فُلَانٍ إِذَا كَانَ سَاكِنَهَا وَإِنْ كَانَتْ لِغَيْرِهِ. وَقَدْ قَالَ تَعَالَى فِي وَصْفِ أَهْلِ النَّارِ:" وَلَهُمْ مَقامِعُ مِنْ حَدِيدٍ" «1» [الحج: 21] فَأَضَافَهَا إِلَيْهِمْ. وَقَالَ تَعَالَى:" وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ" «2» [النساء: 5]. وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (مَنْ بَاعَ عَبْدًا وَلَهُ مَالٌ) وَهُوَ كَثِيرٌ جِدًّا يُضَافُ الشَّيْءُ إِلَيْهِ وَلَيْسَ لَهُ. وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ: بَابُ الدَّارِ. وَجُلُّ الدَّابَّةِ، وَسَرْجُ الْفَرَسِ، وَشَبَهُهُ. وَيَجُوزُ أَنْ يُسَمُّوا مَسَاكِينَ عَلَى جِهَةِ الرَّحْمَةِ وَالِاسْتِعْطَافِ، كَمَا يُقَالُ لِمَنِ امْتُحِنَ بِنَكْبَةٍ أَوْ دُفِعَ إِلَى بَلِيَّةٍ مِسْكِينٌ. وَفِي الْحَدِيثِ (مَسَاكِينُ أَهْلِ النَّارِ) وَقَالَ الشَّاعِرُ:
مَسَاكِينُ أَهْلِ الْحُبِّ حَتَّى قُبُورُهُمْ ... عَلَيْهَا تُرَابُ الذُّلِّ بَيْنَ الْمَقَابِرِ
وَأَمَّا مَا تَأَوَّلُوهُ مِنْ قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: (اللَّهُمَّ أَحْيِنِي مِسْكِينًا) الْحَدِيثَ. رَوَاهُ أَنَسٌ، فَلَيْسَ كَذَلِكَ، وإنما المعنى ها هنا: التَّوَاضُعُ لِلَّهِ الَّذِي لَا جَبَرُوتَ فِيهِ وَلَا نَخْوَةَ، وَلَا كِبْرَ وَلَا بَطَرَ، وَلَا تَكَبُّرَ وَلَا أَشَرَ. وَلَقَدْ أَحْسَنَ أَبُو الْعَتَاهِيَةِ حَيْثُ قَالَ:
إِذَا أَرَدْتَ شَرِيفَ الْقَوْمِ كُلِّهِمِ ... فَانْظُرْ إِلَى مَلِكٍ فِي زِيٍّ مِسْكِينِ
ذَاكَ الَّذِي عَظُمَتْ فِي اللَّهِ رَغْبَتُهُ ... وَذَاكَ يَصْلُحُ لِلدُّنْيَا وَلِلدِّينِ
وَلَيْسَ بِالسَّائِلِ، لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ كَرِهَ السُّؤَالَ وَنَهَى عَنْهُ، وَقَالَ فِي امْرَأَةٍ سَوْدَاءَ أَبَتْ أَنْ تَزُولَ [لَهُ «3»] عَنِ الطَّرِيقِ: (دَعُوهَا فَإِنَّهَا جَبَّارَةٌ) «4» وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى:" لِلْفُقَراءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الْأَرْضِ" [البقرة: 273] فلا يمتنع أن يكون لهم شي. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ أَصْحَابُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيُّ فِي أَنَّهُمَا سَوَاءٌ حَسَنٌ. وَيَقْرُبُ مِنْهُ
__________
(1). راجع ج 12 ص 25.
(2). راجع ج 5 ص 27 فما بعد.
(3). من ج وز وك.
(4). أي مستكبرة عاتية.

(8/170)


مَا قَالَهُ مَالِكٌ فِي كِتَابِ ابْنِ سَحْنُونٍ، قَالَ: الْفَقِيرُ الْمُحْتَاجُ الْمُتَعَفِّفُ، وَالْمِسْكِينُ السَّائِلُ، وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَقَالَهُ الزُّهْرِيُّ، وَاخْتَارَهُ ابْنُ شَعْبَانَ «1» وَهُوَ الْقَوْلُ الرَّابِعُ. وَقَوْلٌ خَامِسٌ- قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ: الْفَقِيرُ الَّذِي لَهُ الْمَسْكَنُ وَالْخَادِمُ إِلَى مَنْ هُوَ أَسْفَلَ مِنْ ذَلِكَ. وَالْمِسْكِينُ الَّذِي لَا مَالَ لَهُ. قُلْتُ: وَهَذَا الْقَوْلُ عَكْسُ مَا ثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، وَسَأَلَهُ رَجُلٌ فَقَالَ: أَلَسْنَا مِنْ فُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ؟ فَقَالَ لَهُ عَبْدُ اللَّهِ: أَلَكَ امْرَأَةٌ تَأْوِي إِلَيْهَا؟ قَالَ نَعَمْ. قَالَ: أَلَكَ مَسْكَنٌ تَسْكُنُهُ؟ قَالَ نَعَمْ. قَالَ: فَأَنْتَ مِنَ الْأَغْنِيَاءِ. قَالَ: فَإِنَّ لِي خَادِمًا قَالَ: فَأَنْتَ مِنَ الْمُلُوكِ. وَقَوْلٌ سَادِسٌ: رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: الْفُقَرَاءُ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ، وَالْمَسَاكِينُ مِنَ الْأَعْرَابِ الَّذِينَ لَمْ يُهَاجِرُوا وقال الضَّحَّاكُ. وَقَوْلٌ سَابِعٌ- وَهُوَ أَنَّ الْمِسْكِينَ الَّذِي يَخْشَعُ وَيَسْتَكِنُّ وَإِنْ لَمْ يَسْأَلْ. وَالْفَقِيرُ الَّذِي يَتَحَمَّلُ وَيَقْبَلُ الشَّيْءَ سِرًّا وَلَا يَخْشَعُ، قَالَهُ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ الْحَسَنِ. وَقَوْلٌ ثَامِنٌ قَالَهُ مُجَاهِدٌ وَعِكْرِمَةُ وَالزُّهْرِيُّ- الْمَسَاكِينُ الطَّوَّافُونَ، وَالْفُقَرَاءُ فُقَرَاءُ الْمُسْلِمِينَ. وَقَوْلٌ تَاسِعٌ قَالَهُ عِكْرِمَةُ أَيْضًا- أَنَّ الفقراء فقراء المسلمين، والمساكين فقراء أهل الكتاب. وَسَيَأْتِي. الرَّابِعَةُ- وَهِيَ فَائِدَةُ الْخِلَافِ فِي الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ، هَلْ هُمَا صِنْفٌ وَاحِدٌ أَوْ أَكْثَرُ تَظْهَرُ فِيمَنْ أَوْصَى بِثُلُثِ مَالِهِ لِفُلَانٍ وَلِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ، فَمَنْ قَالَ هُمَا صِنْفٌ وَاحِدٌ قَالَ: يَكُونُ لِفُلَانٍ نِصْفُ الثُّلُثِ وَلِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ نِصْفُ الثُّلُثِ الثَّانِي. وَمَنْ قَالَ هُمَا صِنْفَانِ يَقْسِمُ الثُّلُثَ بَيْنَهُمْ أَثْلَاثًا. الْخَامِسَةُ- وَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي حَدِّ الْفَقْرِ الَّذِي يَجُوزُ مَعَهُ الْأَخْذُ- بَعْدَ إِجْمَاعِ أَكْثَرُ مَنْ يُحْفَظُ عَنْهُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ- أَنَّ من له دارا وخادما لَا يَسْتَغْنِيَ عَنْهُمَا أَنَّ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنَ الزَّكَاةِ، وَلِلْمُعْطِي أَنْ يُعْطِيَهُ. وَكَانَ مَالِكٌ يَقُولُ: إِنْ لَمْ يَكُنْ فِي ثَمَنِ الدَّارِ وَالْخَادِمِ فَضْلَةٌ عَمَّا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ مِنْهُمَا جَازَ لَهُ الْأَخْذُ وَإِلَّا لَمْ يَجُزْ، ذَكَرَهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ. وَبِقَوْلِ مَالِكٍ قَالَ النَّخَعِيُّ وَالثَّوْرِيُّ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: مَنْ مَعَهُ عِشْرُونَ دِينَارًا أَوْ مائتا درهم فلا يأخذ من الزكاة.
__________
(1). كذا في كل الأصول هو محمد بن القاسم بن شعبان إليه انتهت رئاسة المالكية بمصر توفى عام 355. وفي ج: ابن سفيان. وهو خطأ.

(8/171)


فَاعْتَبَرَ النِّصَابَ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: (أُمِرْتُ أَنْ آخُذَ الصَّدَقَةَ من أغنيائكم وارد ها فِي فُقَرَائِكُمْ). وَهَذَا وَاضِحٌ، وَرَوَاهُ الْمُغِيرَةُ عَنْ مالك. وقال الثوري وأحمد وإسحاق وغير هم: لا يأخذ من له خمسون در هما أو قدر ها مِنَ الذَّهَبِ، وَلَا يُعْطَى مِنْهَا أَكْثَرَ مِنْ خمسين در هما إِلَّا أَنْ يَكُونَ غَارِمًا، قَالَهُ أَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ. وَحُجَّةُ هَذَا الْقَوْلِ مَا رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ عَنْ عبد الله ابْنِ مَسْعُودٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (لَا تَحِلُّ الصَّدَقَةُ لِرَجُلٍ لَهُ خَمْسُونَ دِرْهَمًا). فِي إِسْنَادِهِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ إِسْحَاقَ ضَعِيفٌ، وَعَنْهُ بَكْرُ بْنُ خُنَيْسٍ ضَعِيفٌ أيضا. ورواه حكيم ابن جُبَيْرٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَزِيدَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَحْوَهُ، وَقَالَ: خمسون در هما. وَحَكِيمُ بْنُ جُبَيْرٍ ضَعِيفٌ تَرَكَهُ شُعْبَةُ وَغَيْرُهُ، قاله الدَّارَقُطْنِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ. وَقَالَ أَبُو عُمَرَ: هَذَا الْحَدِيثُ يَدُورُ عَلَى حَكِيمِ بْنِ جُبَيْرٍ وَهُوَ مَتْرُوكٌ. وَعَنْ عَلِيٍّ وَعَبْدِ اللَّهِ قَالَا: لَا تَحِلُّ الصَّدَقَةُ لِمَنْ لَهُ خَمْسُونَ دِرْهَمًا أَوْ قِيمَتُهَا مِنَ الذَّهَبِ، ذَكَرَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: لَا يَأْخُذُ مَنْ لَهُ أَرْبَعُونَ دِرْهَمًا. وَرَوَاهُ الْوَاقِدِيُّ عَنْ مَالِكٍ. وَحُجَّةُ هَذَا الْقَوْلِ مَا رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: (مَنْ سَأَلَ النَّاسَ وَهُوَ غَنِيٌّ جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَفِي وَجْهِهِ كُدُوحٌ وَخُدُوشٌ). فَقِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا غِنَاؤُهُ؟ قَالَ: (أَرْبَعُونَ دِرْهَمًا). وَفِي حَدِيثِ مَالِكٌ عَنْ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ عَنْ رَجُلٍ مِنْ بَنِي أَسَدٍ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" مَنْ سَأَلَ مِنْكُمْ وَلَهُ أُوقِيَّةٌ أَوْ عِدْلُهَا فَقَدْ سَأَلَ إِلْحَافًا وَالْأُوقِيَّةُ أَرْبَعُونَ دِرْهَمًا (. وَالْمَشْهُورُ عَنْ مَالِكٍ مَا رَوَاهُ ابْنُ الْقَاسِمِ عَنْهُ أَنَّهُ سُئِلَ: هَلْ يُعْطَى مِنَ الزَّكَاةِ مَنْ لَهُ أَرْبَعُونَ دِرْهَمًا؟ قَالَ نَعَمْ. قَالَ أَبُو عُمَرَ: يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْأَوَّلُ قَوِيًّا عَلَى الِاكْتِسَابِ حَسَنَ التَّصَرُّفِ. وَالثَّانِي ضَعِيفًا عَنِ الِاكْتِسَابِ، أَوْ مَنْ لَهُ عِيَالٌ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَبُو ثَوْرٍ. مَنْ كَانَ قَوِيًّا عَلَى الْكَسْبِ وَالتَّحَرُّفِ مَعَ قُوَّةِ الْبَدَنِ وَحُسْنِ التَّصَرُّفِ حَتَّى يُغْنِيَهُ ذَلِكَ عَنِ النَّاسِ فَالصَّدَقَةُ عَلَيْهِ حَرَامٌ. وَاحْتَجَّ بِحَدِيثِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (لَا تَحِلُّ الصَّدَقَةُ لِغَنِيٍّ وَلَا لِذِي مِرَّةٍ «1» سَوِيٍّ) رَوَاهُ عَبْدُ الله بن عمر،
__________
(1). المرة (بالكسر): القوة والشدة. والسوي: الصحيح الأعضاء.

(8/172)


وَأَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالدَّارَقُطْنِيُّ. وَرَوَى جَابِرٌ قَالَ: جَاءَتْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَدَقَةٌ فَرَكِبَهُ النَّاسُ، فَقَالَ: (إِنَّهَا لَا تَصْلُحُ لِغَنِيٍّ وَلَا لِصَحِيحٍ وَلَا لِعَامِلٍ) أَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ. وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَدِيِّ بْنِ الْخِيَارِ قَالَ: أَخْبَرَنِي رَجُلَانِ أَنَّهُمَا أَتَيَا النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ وَهُوَ يَقْسِمُ الصَّدَقَةَ فَسَأَلَاهُ مِنْهَا، فَرَفَعَ فِينَا النَّظَرَ وَخَفَضَهُ، فَرَآنَا جَلْدَيْنِ فَقَالَ: (إِنْ شِئْتُمَا أَعْطَيْتُكُمَا وَلَا حَظَّ فِيهَا لِغَنِيٍّ وَلَا لِقَوِيٍّ مُكْتَسِبٍ). وَلِأَنَّهُ قَدْ صَارَ غَنِيًّا بِكَسْبِهِ كَغِنَى غَيْرِهِ بِمَالِهِ فَصَارَ كُلٌّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا غَنِيًّا عَنْ الْمَسْأَلَةِ. وَقَالَهُ ابْنُ خويز منداد، وَحَكَاهُ عَنِ الْمَذْهَبِ. وَهَذَا لَا يَنْبَغِي أَنْ يُعَوَّلَ عَلَيْهِ، فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُعْطِيهَا الْفُقَرَاءَ وَوُقُوفُهَا عَلَى الزَّمِنِ بَاطِلٌ. قَالَ أَبُو عِيسَى التِّرْمِذِيُّ فِي جَامِعِهِ: إِذَا كَانَ الرَّجُلُ قَوِيًّا مُحْتَاجًا وَلَمْ يَكُنْ عنده شي فَتُصُدِّقَ عَلَيْهِ أَجْزَأَ عَنِ الْمُتَصَدِّقِ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ. وَوَجْهُ الْحَدِيثِ عِنْدَ بَعْضِ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى الْمَسْأَلَةِ. وَقَالَ الْكِيَا الطَّبَرِيُّ: وَالظَّاهِرُ يَقْتَضِي جَوَازَ ذَلِكَ، لِأَنَّهُ فَقِيرٌ مَعَ قُوَّتِهِ وَصِحَّةِ بَدَنِهِ. وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ. وَقَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ الْحَسَنِ: مَنْ لَا يَكُونُ لَهُ مَا يَكْفِيهِ وَيُقِيمُهُ سَنَةً فَإِنَّهُ يُعْطَى الزَّكَاةَ. وَحُجَّتُهُ مَا رَوَاهُ ابْنُ شِهَابٍ عَنْ مَالِكِ بْنِ أَوْسِ بْنِ الْحَدَثَانِ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَدَّخِرُ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْهِ قُوتَ سَنَةٍ، ثُمَّ يَجْعَلُ مَا سِوَى ذَلِكَ فِي الْكُرَاعِ «1» وَالسِّلَاحِ مَعَ قَوْلِهِ تَعَالَى:" وَوَجَدَكَ عائِلًا فَأَغْنى " «2» [الضحى: 8]. وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: لِكُلِّ وَاحِدٍ أَنْ يَأْخُذَ مِنَ الصَّدَقَةِ فِيمَا لَا بُدَّ لَهُ مِنْهُ. وَقَالَ قَوْمٌ: مَنْ عِنْدَهُ عَشَاءُ لَيْلَةٍ فَهُوَ غَنِيٌّ وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ. وَاحْتَجُّوا بِحَدِيثِ عَلِيٍّ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: (مَنْ سَأَلَ مَسْأَلَةً عَنْ ظَهْرِ غِنًى اسْتَكْثَرَ بِهَا مِنْ رَضْفِ «3» جَهَنَّمَ) قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَمَا ظَهْرُ الْغِنَى؟ قَالَ: (عَشَاءُ لَيْلَةٍ) أَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ وَقَالَ: فِي إِسْنَادِهِ عَمْرُو بْنُ خَالِدٍ وَهُوَ مَتْرُوكٌ. وَأَخْرَجَهُ أَبُو داود عن سهل ابن الْحَنْظَلِيَّةِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَفِيهِ: (مَنْ سَأَلَ وَعِنْدَهُ مَا يُغْنِيهِ فَإِنَّمَا يَسْتَكْثِرُ مِنَ النَّارِ). وَقَالَ النُّفَيْلِيُّ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ (مِنْ جَمْرِ جَهَنَّمَ). فَقَالُوا: يَا رَسُولَ الله وما يغنيه؟
__________
(1). الكراع (بالضم): اسم يجمع الخيل. وقيل: هو اسم يجمع الخيل والسلاح.
(2). راجع ج 20 ص 99. [ ..... ]
(3). الرضف: الحجارة المحماة على النار.

(8/173)


وَقَالَ النُّفَيْلِيُّ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: وَمَا الْغِنَى الَّذِي لَا تَنْبَغِي مَعَهُ الْمَسْأَلَةُ؟ قَالَ: (قَدْرُ مَا يُغَدِّيهِ وَيُعَشِّيهِ). وَقَالَ النُّفَيْلِيُّ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: (أَنْ يَكُونَ لَهُ شِبَعُ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ أَوْ لَيْلَةٍ وَيَوْمٍ). قُلْتُ: فَهَذَا مَا جَاءَ فِي بَيَانِ الْفَقْرِ الَّذِي يَجُوزُ مَعَهُ الْأَخْذُ. وَمُطْلَقُ لَفْظِ الْفُقَرَاءِ لَا يَقْتَضِي الِاخْتِصَاصَ بِالْمُسْلِمِينَ دُونَ أَهْلِ الذِّمَّةِ، وَلَكِنْ تَظَاهَرَتِ الْأَخْبَارُ فِي أَنَّ الصَّدَقَاتِ تُؤْخَذُ مِنْ أَغْنِيَاءِ الْمُسْلِمِينَ فَتُرَدُّ فِي فُقَرَائِهِمْ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ: الْفُقَرَاءُ فُقَرَاءُ الْمُسْلِمِينَ، وَالْمَسَاكِينُ فُقَرَاءُ أَهْلِ الْكِتَابِ. وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الْعَبْسِيُّ: رَأَى عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ ذِمِّيًّا مَكْفُوفًا مَطْرُوحًا عَلَى بَابِ الْمَدِينَةِ فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: مالك؟ قَالَ: اسْتَكْرُونِي فِي هَذِهِ الْجِزْيَةِ، حَتَّى إِذَا كُفَّ بَصَرِي تَرَكُونِي وَلَيْسَ لِي أَحَدٌ يَعُودُ عَلَيَّ بِشَيْءٍ. فَقَالَ عُمَرُ: مَا أُنْصِفْتَ إِذًا، فَأَمَرَ لَهُ بِقُوَّتِهِ وَمَا يُصْلِحُهُ. ثُمَّ قَالَ: هَذَا مِنَ الَّذِينَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى [فِيهِمْ] «1»:" إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ" الْآيَةَ. وَهُمْ زَمْنَى أَهْلِ الْكِتَابِ) وَلَمَّا قَالَ تَعَالَى:" إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ" الْآيَةَ، وَقَابَلَ الْجُمْلَةَ بِالْجُمْلَةِ وَهِيَ جُمْلَةُ الصَّدَقَةِ بِجُمْلَةِ الْمَصْرِفِ بَيَّنَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَلِكَ، فَقَالَ لِمُعَاذٍ حِينَ أَرْسَلَهُ إِلَى الْيَمَنِ: (أَخْبِرْهُمْ أَنَّ اللَّهَ افْتَرَضَ عَلَيْهِمْ صَدَقَةً تُؤْخَذُ مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ فَتُرَدُّ فِي فُقَرَائِهِمْ). فَاخْتُصَّ أَهْلُ كُلِّ بَلَدٍ بِزَكَاةِ بَلَدِهِ. وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ أَنَّ زِيَادًا أَوْ بَعْضَ الْأُمَرَاءِ بَعَثَ عِمْرَانَ بْنَ حُصَيْنٍ عَلَى الصَّدَقَةِ، فَلَمَّا رَجَعَ قَالَ لِعِمْرَانَ: أَيْنَ الْمَالُ؟ قَالَ: وَلِلْمَالِ أَرْسَلْتَنِي! أَخَذْنَاهَا مِنْ حَيْثُ كُنَّا نَأْخُذُهَا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ووضعنا ها حَيْثُ كُنَّا نَضَعُهَا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَرَوَى الدَّارَقُطْنِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ عَنْ عَوْنِ بْنِ أَبِي جُحَيْفَةَ [عَنْ أَبِيهِ «2»] قَالَ: قَدِمَ عَلَيْنَا مُصَدِّقُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخَذَ الصَّدَقَةَ مِنْ أَغْنِيَائِنَا فَجَعَلَهَا فِي فُقَرَائِنَا فَكُنْتُ غُلَامًا يَتِيمًا فَأَعْطَانِي مِنْهَا قَلُوصًا. قَالَ التِّرْمِذِيُّ: وَفِي الْبَابِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ حَدِيثُ ابْنِ أَبِي جُحَيْفَةَ حَدِيثٌ حَسَنٌ.
__________
(1). من ى.
(2). زيادة عن سنن الدارقطني والترمذي.

(8/174)


السَّادِسَةُ- وَقَدِ اخْتَلَفَتِ الْعُلَمَاءُ فِي نَقْلِ الزَّكَاةِ عن موضعها على ثلاثة أقوال لَا تُنْقَلُ، قَالَهُ سَحْنُونٌ وَابْنُ الْقَاسِمِ، وَهُوَ الصَّحِيحُ لِمَا ذَكَرْنَاهُ. قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ أَيْضًا: وَإِنْ نُقِلَ بَعْضُهَا لِضَرُورَةٍ رَأَيْتُهُ صَوَابًا. وَرُوِيَ عَنْ سَحْنُونٍ أَنَّهُ قَالَ: وَلَوْ بَلَغَ الْإِمَامَ أَنَّ بِبَعْضِ الْبِلَادِ حَاجَةً شَدِيدَةً جَازَ لَهُ نَقْلُ بَعْضِ الصَّدَقَةِ الْمُسْتَحَقَّةِ لِغَيْرِهِ إِلَيْهِ، فَإِنَّ الْحَاجَةَ إِذَا نَزَلَتْ وَجَبَ تَقْدِيمُهَا عَلَى مَنْ لَيْسَ بِمُحْتَاجٍ (وَالْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ لَا يُسْلِمُهُ «1» وَلَا يَظْلِمُهُ). وَالْقَوْلُ الثَّانِي تُنْقَلُ. وَقَالَهُ مَالِكٌ أَيْضًا. وَحُجَّةُ هَذَا الْقَوْلِ مَا رُوِيَ أَنَّ مُعَاذًا قَالَ لِأَهْلِ الْيَمَنِ: ايِتُونِي بِخَمِيسٍ أَوْ لَبِيسٍ آخُذُهُ مِنْكُمْ مَكَانَ الذُّرَةِ وَالشَّعِيرِ فِي الصَّدَقَةِ فَإِنَّهُ أَيْسَرُ عَلَيْكُمْ وَأَنْفَعُ لِلْمُهَاجِرِينَ بِالْمَدِينَةِ. أَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ وَغَيْرُهُ. وَالْخَمِيسُ لَفْظٌ مُشْتَرَكٌ، وَهُوَ هنا الثوب طوله خمس أَذْرُعٍ. وَيُقَالُ: سُمِّيَ بِذَلِكَ لِأَنَّ أَوَّلَ مَنْ عَمِلَهُ الْخِمْسُ مَلِكٌ مِنْ مُلُوكِ الْيَمَنِ، ذَكَرَهُ ابْنُ فَارِسٍ فِي الْمُجْمَلِ وَالْجَوْهَرِيُّ أَيْضًا. وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ دَلِيلَانِ: أَحَدُهُمَا: مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ نَقْلِ الزَّكَاةِ مِنَ الْيَمَنِ إِلَى الْمَدِينَةِ، فَيَتَوَلَّى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قِسْمَتَهَا. وَيَعْضُدُ هَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى:" إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ" وَلَمْ يَفْصِلْ بَيْنَ فَقِيرِ بَلَدٍ وَفَقِيرِ آخَرَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الثَّانِي- أَخْذُ الْقِيمَةِ فِي الزَّكَاةِ. وَقَدِ اخْتَلَفَتِ الرِّوَايَةُ عَنْ مَالِكٍ فِي إِخْرَاجِ الْقِيَمِ فِي الزَّكَاةِ «2»، فَأَجَازَ ذَلِكَ مَرَّةً وَمَنَعَ مِنْهُ أُخْرَى، فَوَجْهُ الْجَوَازِ- وَهُوَ قَوْلُ أَبِي «3» حَنِيفَةَ- هَذَا الْحَدِيثُ. وَثَبَتَ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (مَنْ بَلَغَتْ عِنْدَهُ [مِنَ الْإِبِلِ «4» [صَدَقَةُ الْجَذَعَةِ وَلَيْسَتْ عِنْدَهُ [جَذَعَةٌ] «5» وَعِنْدَهُ حِقَّةٌ فَإِنَّهُ تُؤْخَذُ «6» مِنْهُ وَمَا اسْتَيْسَرْنَا مِنْ شَاتَيْنِ أَوْ عِشْرِينَ دِرْهَمًا). الْحَدِيثَ. وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (أَغْنُوهُمْ عَنْ سُؤَالِ هَذَا الْيَوْمَ) يَعْنِي يَوْمَ الْفِطْرَ. وَإِنَّمَا أَرَادَ أَنْ يُغْنَوْا بِمَا يسد حاجتهم، فأي شي سَدَّ حَاجَتَهُمْ جَازَ. وَقَدْ قَالَ تَعَالَى:" خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً" [التوبة: 103] «7» ولم يخص شيئا من شي. وَلَا يُدْفَعُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ سُكْنَى دَارٍ بَدَلَ الزَّكَاةِ، مِثْلَ أَنْ يَجِبَ عَلَيْهِ خَمْسَةُ دَرَاهِمَ فَأَسْكَنَ فِيهَا فَقِيرًا شَهْرًا فَإِنَّهُ لَا يجوز. قال: لان السكنى ليس بمال.
__________
(1). أي لا يتركه مع من يؤذيه بل يحميه.
(2). في ب وج وى وز: الزكوات.
(3). من هـ.
(4). الزيادة عن صحيح البخاري.
(5). الزيادة عن صحيح البخاري.
(6). في البخاري: (فإنها تقبل من الحقة ويجعل معها شاتين إن استيسرتا له أو عشرين در هما).
(7). راجع ص 244 من هذا الجزء.

(8/175)


وَوَجْهُ قَوْلِهِ: لَا تَجْزِي الْقِيَمُ- وَهُوَ ظَاهِرُ الْمَذْهَبِ- فَلِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (فِي خَمْسٍ مِنَ الْإِبِلِ شَاةٌ وَفِي أَرْبَعِينَ شَاةً شَاةٌ) فَنَصَّ عَلَى الشَّاةِ، فَإِذَا لَمْ يَأْتِ بِهَا لَمْ يَأْتِ بِمَأْمُورٍ بِهِ، وَإِذَا لَمْ يَأْتِ بِالْمَأْمُورِ بِهِ فَالْأَمْرُ بَاقٍ عَلَيْهِ. الْقَوْلُ الثَّالِثُ- وَهُوَ أَنَّ سَهْمَ الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ يُقْسَمُ فِي الْمَوْضِعِ، وَسَائِرَ السِّهَامِ تُنْقَلُ بِاجْتِهَادِ الْإِمَامِ. وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ أَصَحُّ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. السَّابِعَةُ- وَهَلِ الْمُعْتَبَرُ مَكَانُ الْمَالِ وَقْتَ تَمَامِ الْحَوْلِ فَتُفَرَّقُ الصَّدَقَةُ فِيهِ، أَوْ مَكَانُ الْمَالِكِ إِذْ هُوَ الْمُخَاطَبُ، قَوْلَانِ. وَاخْتَارَ الثَّانِي أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ خُوَيْزِ مَنْدَادَ فِي أَحْكَامِهِ قَالَ: لِأَنَّ الْإِنْسَانَ هُوَ الْمُخَاطَبُ بِإِخْرَاجِهَا فَصَارَ الْمَالُ تَبَعًا لَهُ، فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ فِيهِ بِحَيْثُ الْمُخَاطَبُ. كَابْنِ السَّبِيلِ فَإِنَّهُ يَكُونُ غَنِيًّا فِي بَلَدِهِ فَقِيرًا فِي بَلَدٍ آخَرَ، فَيَكُونُ الْحُكْمُ لَهُ حَيْثُ هُوَ. مسألة: وَاخْتَلَفَتِ الرِّوَايَةُ عَنْ مَالِكٍ فِيمَنْ أَعْطَى فَقِيرًا مُسْلِمًا فَانْكَشَفَ فِي ثَانِي حَالٍ أَنَّهُ أَعْطَى عَبْدًا أَوْ كَافِرًا أَوْ غَنِيًّا، فَقَالَ مَرَّةً: تَجْزِيهِ وَمَرَّةً لَا تَجْزِيهِ. وَجْهُ الْجَوَازِ- وَهُوَ الْأَصَحُّ- مَا رَوَاهُ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (قَالَ رَجُلٌ لَأَتَصَدَّقَنَّ اللَّيْلَةَ بِصَدَقَةٍ فَخَرَجَ بِصَدَقَتِهِ فَوَضَعَهَا فِي يَدِ زَانِيَةٍ فَأَصْبَحُوا يَتَحَدَّثُونَ تُصُدِّقَ اللَّيْلَةَ عَلَى زَانِيَةٍ قَالَ اللَّهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ عَلَى زَانِيَةٍ لَأَتَصَدَّقَنَّ بِصَدَقَةٍ فَخَرَجَ بِصَدَقَتِهِ فَوَضَعَهَا فِي يَدِ غَنِيٍّ فَأَصْبَحُوا يَتَحَدَّثُونَ تُصُدِّقَ عَلَى غَنِيٍّ قَالَ اللَّهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ عَلَى غَنِيٍّ لَأَتَصَدَّقَنَّ بِصَدَقَةٍ فَخَرَجَ بِصَدَقَتِهِ فَوَضَعَهَا فِي يَدِ سَارِقٍ فَأَصْبَحُوا يَتَحَدَّثُونَ تُصُدِّقَ عَلَى سَارِقٍ فَقَالَ اللَّهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ عَلَى زَانِيَةٍ وَعَلَى غَنِيٍّ وَعَلَى سَارِقٍ فَأُتِيَ فَقِيلَ لَهُ أَمَّا صَدَقَتُكَ فَقَدْ قُبِلَتْ أَمَّا الزَّانِيَةُ فَلَعَلَّهَا تَسْتَعِفُّ بِهَا عَنْ زِنَاهَا وَلَعَلَّ الْغَنِيَّ يَعْتَبِرُ فَيُنْفِقُ مِمَّا أَعْطَاهُ اللَّهُ وَلَعَلَّ السَّارِقَ يَسْتَعِفُّ بِهَا عَنْ سَرِقَتِهِ (. وَرُوِيَ أَنَّ رَجُلًا أَخْرَجَ زَكَاةَ مَالِهِ فَأَعْطَاهَا أَبَاهُ، فَلَمَّا أَصْبَحَ عَلِمَ بِذَلِكَ، فَسَأَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ لَهُ:) قَدْ كُتِبَ لَكَ أَجْرُ زَكَاتِكَ وَأَجْرُ صِلَةِ الرَّحِمِ فَلَكَ أَجْرَانِ (. وَمِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى أَنَّهُ سَوَّغَ لَهُ الِاجْتِهَادَ فِي الْمُعْطَى، فَإِذَا اجْتَهَدَ وَأَعْطَى مَنْ يَظُنُّهُ مِنْ أَهْلِهَا فَقَدْ أَتَى بالواجب عليه.

(8/176)


وَوَجْهُ قَوْلِهِ: لَا يَجْزِي. أَنَّهُ لَمْ يَضَعْهَا فِي مُسْتَحَقِّهَا، فَأَشْبَهَ الْعَمْدَ، وَلِأَنَّ الْعَمْدَ وَالْخَطَأَ فِي ضَمَانِ الْأَمْوَالِ وَاحِدٌ فَوَجَبَ أَنْ يَضْمَنَ مَا أَتْلَفَ، عَلَى الْمَسَاكِينِ حَتَّى يُوصِلَهُ إِلَيْهِمْ. الثَّامِنَةُ- فَإِنْ أَخْرَجَ الزَّكَاةَ عِنْدَ مَحِلِّهَا فَهَلَكَتْ مِنْ غَيْرِ تَفْرِيطٍ لَمْ يَضْمَنْ، لِأَنَّهُ وَكِيلٌ لِلْفُقَرَاءِ. فَإِنْ أَخْرَجَهَا بَعْدَ ذَلِكَ بِمُدَّةٍ فَهَلَكَتْ ضَمِنَ، لِتَأْخِيرِهَا عَنْ مَحَلِّهَا فَتَعَلَّقَتْ بِذِمَّتِهِ فَلِذَلِكَ ضَمِنَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. التَّاسِعَةُ- وَإِذَا كَانَ الْإِمَامُ يَعْدِلُ فِي الْأَخْذِ وَالصَّرْفِ لَمْ يَسُغْ لِلْمَالِكِ أَنْ يَتَوَلَّى الصَّرْفَ بِنَفْسِهِ فِي النَّاضِّ «1» وَلَا فِي غَيْرِهِ. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ زَكَاةَ النَّاضِّ عَلَى «2» أَرْبَابِهِ. وَقَالَ ابْنُ الْمَاجِشُونَ: ذَلِكَ إِذَا كَانَ الصَّرْفُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ خَاصَّةٍ، فَإِنِ احْتِيجَ إِلَى صَرْفِهَا لِغَيْرِهِمَا مِنَ الْأَصْنَافِ فَلَا يُفَرِّقُ عَلَيْهِمْ إِلَّا الْإِمَامُ. وَفُرُوعُ هَذَا الْبَابِ كَثِيرَةٌ، هَذِهِ أُمَّهَاتُهَا. الْعَاشِرَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَالْعامِلِينَ عَلَيْها) يَعْنِي السُّعَاةَ وَالْجُبَاةَ الَّذِينَ يَبْعَثُهُمُ الْإِمَامُ لِتَحْصِيلِ الزَّكَاةِ بِالتَّوْكِيلِ عَلَى ذَلِكَ. رَوَى الْبُخَارِيُّ عَنْ أَبِي حُمَيْدٍ السَّاعِدِيُّ قَالَ: اسْتَعْمَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلًا مِنَ الْأَسْدِ عَلَى صَدَقَاتِ بَنِي سُلَيْمٍ يُدْعَى ابْنَ اللُّتْبِيَّةِ «3»، فَلَمَّا جَاءَ حَاسَبَهُ. وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي الْمِقْدَارِ الَّذِي يَأْخُذُونَهُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ: قَالَ مُجَاهِدٌ وَالشَّافِعِيُّ: هُوَ الثُّمُنُ. ابْنُ عُمَرَ وَمَالِكٌ: يُعْطَوْنَ قَدْرَ عَمَلِهِمْ مِنَ الْأُجْرَةِ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَصْحَابِهِ. قَالُوا: لِأَنَّهُ عَطَّلَ نَفْسَهُ لِمَصْلَحَةِ الْفُقَرَاءِ، فَكَانَتْ كِفَايَتُهُ وَكِفَايَةُ أَعْوَانِهِ فِي مَالِهِمْ، كَالْمَرْأَةِ لَمَّا عَطَّلَتْ نَفْسَهَا لِحَقِّ الزَّوْجِ كَانَتْ نَفَقَتُهَا وَنَفَقَةُ أَتْبَاعِهَا مِنْ خَادِمٍ أَوْ خَادِمَيْنِ عَلَى زَوْجِهَا. وَلَا تُقَدَّرُ بِالثُّمُنِ، بَلْ تُعْتَبَرُ الْكِفَايَةُ ثُمُنًا كَانَ أَوْ أَكْثَرَ، كَرِزْقِ الْقَاضِي. وَلَا تُعْتَبَرُ كِفَايَةُ الْأَعْوَانِ فِي زَمَانِنَا لِأَنَّهُ إِسْرَافٌ مَحْضٌ. الْقَوْلُ الثَّالِثُ- يُعْطَوْنَ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَهَذَا قَوْلٌ صَحِيحٌ عَنْ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ
__________
(1). الناض من المال: هو الدر هم والدينار، وإنما يسمى ناضا إذا تحول نقدا بعد أن كان متاعا.
(2). في ب وى: إلى.
(3). اختلف في ضبطه فقيل بضم اللام وسكون التاء، وحكى فتحها. وقيل: بفتح اللام والمثناة واسمه عبد الله وكان من بني تولب حي من الأزد. وقيل: اللتبية أمه.

(8/177)


أَبِي أُوَيْسٍ وَدَاوُدَ بْنِ سَعِيدِ بْنِ زَنْبُوعَةَ، وَهُوَ ضَعِيفٌ دَلِيلًا، فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ قَدْ أَخْبَرَ بِسَهْمِهِمْ فِيهَا نَصًّا فَكَيْفَ يُخْلَفُونَ عَنْهُ اسْتِقْرَاءً وَسَبْرًا. وَالصَّحِيحُ الِاجْتِهَادُ فِي قَدْرِ الْأُجْرَةِ، لِأَنَّ الْبَيَانَ فِي تَعْدِيدِ الْأَصْنَافِ إِنَّمَا كَانَ لِلْمَحَلِّ لَا لِلْمُسْتَحَقِّ، عَلَى مَا تَقَدَّمَ. وَاخْتَلَفُوا فِي الْعَامِلِ إِذَا كَانَ هَاشِمِيًّا، فَمَنَعَهُ أَبُو حَنِيفَةَ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: (إِنَّ الصَّدَقَةَ لَا تَحِلُّ لِآلِ مُحَمَّدٍ إِنَّمَا هِيَ أَوْسَاخُ النَّاسِ). وَهَذِهِ صَدَقَةٌ مِنْ وَجْهٍ، لِأَنَّهَا جُزْءٌ مِنَ الصَّدَقَةِ فَتَلْحَقُ بِالصَّدَقَةِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ كَرَامَةً وَتَنْزِيهًا لِقَرَابَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ غُسَالَةِ النَّاسِ. وَأَجَازَ عَمَلَهُ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ، وَيُعْطَى أَجْرَ عِمَالَتِهِ، لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ مُصَدِّقًا، وَبَعَثَهُ عَامِلًا إِلَى الْيَمَنِ عَلَى الزَّكَاةِ، وَوَلَّى جَمَاعَةً مِنْ بَنِي هَاشِمٍ وَوَلَّى الْخُلَفَاءَ بَعْدَهُ كَذَلِكَ. وَلِأَنَّهُ أَجِيرٌ عَلَى عَمَلٍ مُبَاحٍ فَوَجَبَ أَنْ يَسْتَوِيَ فِيهِ الْهَاشِمِيُّ وَغَيْرُهُ اعْتِبَارًا بِسَائِرِ الصِّنَاعَاتِ. قَالَتِ الْحَنَفِيَّةُ: حَدِيثُ عَلِيٍّ لَيْسَ فِيهِ أَنَّهُ فَرَضَ لَهُ مِنَ الصَّدَقَةِ، فَإِنْ فَرَضَ لَهُ مِنْ غَيْرِهَا جَازَ. وَرُوِيَ عَنْ مَالِكٍ. الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ- وَدَلَّ قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَالْعامِلِينَ عَلَيْها" عَلَى أَنَّ كُلَّ مَا كَانَ مِنْ فُرُوضِ الْكِفَايَاتِ كَالسَّاعِي وَالْكَاتِبِ وَالْقَسَّامِ وَالْعَاشِرِ وَغَيْرِهِمْ فَالْقَائِمُ بِهِ يَجُوزُ لَهُ أَخْذُ الْأُجْرَةِ عَلَيْهِ. وَمِنْ ذَلِكَ الْإِمَامَةُ، فَإِنَّ الصَّلَاةَ وَإِنْ كَانَتْ مُتَوَجِّهَةً عَلَى جَمِيعِ الْخَلْقِ فَإِنَّ تَقَدُّمَ بَعْضِهِمْ بِهِمْ مِنْ فُرُوضِ الْكِفَايَاتِ، فَلَا جَرَمَ يَجُوزُ أَخْذُ الْأُجْرَةِ عَلَيْهَا. وَهَذَا أَصْلُ الْبَابِ، وَإِلَيْهِ أَشَارَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بقوله: (ما تركت بعد نفقة نسائي «1» ومئونة عَامِلِي فَهُوَ صَدَقَةٌ) قَالَهُ ابْنُ الْعَرَبِيِّ. الثَّانِيَةَ عشرة- قوله تعالى: لَا ذِكْرَ لِلْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ فِي التَّنْزِيلِ فِي غَيْرِ قَسْمِ الصَّدَقَاتِ، وَهُمْ قَوْمٌ كَانُوا فِي صَدْرِ الْإِسْلَامِ مِمَّنْ يُظْهِرُ الْإِسْلَامَ، يُتَأَلَّفُونَ بِدَفْعِ سَهْمٍ مِنَ الصَّدَقَةِ إِلَيْهِمْ لِضَعْفِ يَقِينِهِمْ. قَالَ الزُّهْرِيُّ: الْمُؤَلَّفَةُ مَنْ أَسْلَمَ مِنْ يَهُودِيٍّ أَوْ نَصْرَانِيٍّ وَإِنْ كَانَ غَنِيًّا. وَقَالَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ: اخْتُلِفَ فِي صِفَتِهِمْ، فَقِيلَ: هُمْ صِنْفٌ مِنَ الكفار
__________
(1). في ابن العربي: (عيالي). [ ..... ]

(8/178)


يُعْطَوْنَ لِيُتَأَلَّفُوا عَلَى الْإِسْلَامِ، وَكَانُوا لَا يُسْلِمُونَ بِالْقَهْرِ وَالسَّيْفِ، وَلَكِنْ يُسْلِمُونَ بِالْعَطَاءِ وَالْإِحْسَانِ. وَقِيلَ: هُمْ قَوْمٌ أَسْلَمُوا فِي الظَّاهِرِ وَلَمْ تَسْتَيْقِنْ قُلُوبُهُمْ، فَيُعْطَوْنَ لِيَتَمَكَّنَ الْإِسْلَامُ فِي صُدُورِهِمْ. وَقِيلَ: هُمْ قَوْمٌ مِنْ عُظَمَاءِ الْمُشْرِكِينَ لَهُمْ أَتْبَاعٌ يُعْطَوْنَ لِيَتَأَلَّفُوا أَتْبَاعَهُمْ عَلَى الْإِسْلَامِ. قَالَ: وَهَذِهِ الْأَقْوَالُ مُتَقَارِبَةٌ وَالْقَصْدُ بِجَمِيعِهَا الْإِعْطَاءُ لِمَنْ لَا يَتَمَكَّنُ إِسْلَامُهُ حَقِيقَةً إِلَّا بِالْعَطَاءِ، فَكَأَنَّهُ ضَرْبٌ مِنَ الْجِهَادِ. وَالْمُشْرِكُونَ ثَلَاثَةُ أَصْنَافٍ: صِنْفٌ يَرْجِعُ بِإِقَامَةِ الْبُرْهَانِ. وَصِنْفٌ بِالْقَهْرِ. وَصِنْفٌ بِالْإِحْسَانِ. وَالْإِمَامُ النَّاظِرُ لِلْمُسْلِمِينَ يَسْتَعْمِلُ مَعَ كُلِّ صِنْفٍ مَا يَرَاهُ سَبَبًا لِنَجَاتِهِ وَتَخْلِيصِهِ مِنَ الْكُفْرِ. وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْنِي لِلْأَنْصَارِ-: (فَإِنِّي أُعْطِي رِجَالًا حَدِيثِي عَهْدٍ بِكُفْرٍ أَتَأَلَّفُهُمْ) الْحَدِيثَ. قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: أَعْطَاهُمْ يَتَأَلَّفُهُمْ وَيَتَأَلَّفُ بِهِمْ قَوْمَهُمْ. وَكَانُوا أَشْرَافًا، فَأَعْطَى أَبَا سُفْيَانَ بْنَ حَرْبٍ مِائَةَ بَعِيرٍ، وَأَعْطَى ابْنَهُ مِائَةَ بَعِيرٍ، وَأَعْطَى حَكِيمَ بْنَ حِزَامٍ مِائَةَ بَعِيرٍ، وأعطى الحارث ابن هِشَامٍ مِائَةَ بَعِيرٍ، وَأَعْطَى سُهَيْلَ بْنَ عَمْرٍو مِائَةَ بَعِيرٍ، وَأَعْطَى حُوَيْطِبَ بْنَ عَبْدِ الْعُزَّى مِائَةَ بَعِيرٍ، وَأَعْطَى صَفْوَانَ بْنَ أُمَيَّةَ مِائَةَ بَعِيرٍ. وَكَذَلِكَ أَعْطَى مَالِكَ بْنَ عَوْفٍ وَالْعَلَاءَ بْنَ جَارِيَةَ. قَالَ: فَهَؤُلَاءِ أَصْحَابُ الْمِئِينَ. وَأَعْطَى رِجَالًا مِنْ قُرَيْشٍ دُونَ الْمِائَةِ مِنْهُمْ مَخْرَمَةُ بْنُ نَوْفَلٍ الزُّهْرِيُّ وَعُمَيْرُ بْنُ وَهْبٍ الْجُمَحِيُّ، وَهِشَامُ بْنُ عَمْرٍو الْعَامِرِيُّ. قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَهَؤُلَاءِ لَا أَعْرِفُ مَا أَعْطَاهُمْ. وَأَعْطَى سَعِيدَ بْنَ يَرْبُوعٍ خَمْسِينَ بَعِيرًا، وَأَعْطَى عَبَّاسَ بْنَ مِرْدَاسٍ السُّلَمِيَّ أَبَاعِرَ قَلِيلَةً فَسَخِطَهَا. فَقَالَ فِي ذَلِكَ:
كَانَتْ نِهَابًا تَلَافَيْتُهَا ... بِكَرِّي عَلَى الْمُهْرِ فِي الْأَجْرَعِ «1»
وَإِيقَاظِيَ الْقَوْمَ أَنْ يَرْقُدُوا ... إِذَا هَجَعَ النَّاسُ لَمْ أَهْجَعِ
فَأَصْبَحَ نَهْبِي وَنَهْبُ العبيد ... بَيْنَ عُيَيْنَةَ وَالْأَقْرَعِ «2»
وَقَدْ كُنْتُ فِي الْحَرْبِ ذَا تُدْرَإِ ... فَلَمْ أُعْطَ شَيْئًا وَلَمْ أُمْنَعِ
»
__________
(1). الأجرع: المكان الواسع الذي فيه حزونة وخشونة.
(2). العبيد (مصغر): اسمع فرس العباس ابن مرداس.
(3). ذو تدرأ (بضم التاء): أي ذو هجوم لا يتوقى ولا يهاب ففيه قوة على دفع أعدائه.

(8/179)


إِلَّا أَفَائِلَ أُعْطِيتُهَا ... عَدِيدَ قَوَائِمِهِ الْأَرْبَعِ «1»
وَمَا كَانَ حِصْنٌ وَلَا حَابِسٌ ... يَفُوقَانِ مِرْدَاسَ فِي الْمَجْمَعِ
وَمَا كُنْتُ دُونَ امْرِئٍ مِنْهُمَا ... وَمَنْ تَضَعُ الْيَوْمَ لَا يُرْفَعِ
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (اذْهَبُوا فَاقْطَعُوا عَنِّي لِسَانَهُ) فَأَعْطَوْهُ «2» حَتَّى رَضِيَ، فَكَانَ ذَلِكَ قَطْعَ لِسَانِهِ. قَالَ أَبُو عُمَرَ: وَقَدْ ذُكِرَ فِي الْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمِ النُّضَيْرُ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ عَلْقَمَةَ ابن كِلْدَةَ، أَخُو النَّضْرِ بْنِ الْحَارِثِ الْمَقْتُولِ بِبَدْرٍ صَبْرًا. وَذَكَرَ آخَرُونَ أَنَّهُ فِيمَنْ هَاجَرَ إِلَى الْحَبَشَةِ، فَإِنْ كَانَ مِنْهُمْ فَمُحَالٌ أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ، وَمَنْ هَاجَرَ إِلَى أَرْضِ، الْحَبَشَةِ فَهُوَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ الْأَوَّلِينَ مِمَّنْ رَسَخَ الْإِيمَانُ فِي قَلْبِهِ وَقَاتَلَ دُونَهُ، وَلَيْسَ مِمَّنْ يُؤَلَّفُ عَلَيْهِ. قَالَ أَبُو عُمَرَ: وَاسْتَعْمَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَالِكَ بْنَ عَوْفِ بْنِ سَعْدِ [بْنِ يَرْبُوعٍ «3»] النَّصْرِيَّ عَلَى مَنْ أَسْلَمَ مِنْ قَوْمِهِ مِنْ قَبَائِلِ قَيْسٍ، وأمره بمغاورة ثَقِيفٍ فَفَعَلَ وَضَيَّقَ عَلَيْهِمْ، وَحَسُنَ إِسْلَامُهُ وَإِسْلَامُ الْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ، حَاشَا عُيَيْنَةَ بْنَ حِصْنٍ فَلَمْ يَزَلْ مَغْمُوزًا «4» عَلَيْهِ. وَسَائِرُ الْمُؤَلَّفَةِ مُتَفَاضِلُونَ، مِنْهُمُ الْخَيِّرُ الْفَاضِلُ الْمُجْتَمَعُ عَلَى فَضْلِهِ، كَالْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ، وَحَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ، وَعِكْرِمَةَ بْنِ أَبِي جَهْلٍ، وَسُهَيْلِ بْنِ عَمْرٍو، وَمِنْهُمْ دُونُ هَؤُلَاءِ. وَقَدْ فَضَّلَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ وَسَائِرَ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَهُوَ أَعْلَمُ بِهِمْ. قَالَ مَالِكٌ: بَلَغَنِي أَنَّ حَكِيمَ بْنَ حِزَامٍ أَخْرَجَ مَا كَانَ أَعْطَاهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبَهُمْ فَتَصَدَّقَ بِهِ بَعْدَ ذَلِكَ. قُلْتُ: حَكِيمُ بْنُ حِزَامٍ وَحُوَيْطِبُ بْنُ عَبْدِ الْعُزَّى عَاشَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةً وَعِشْرِينَ سَنَةً سِتِّينَ فِي الْإِسْلَامِ وَسِتِّينَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ. وَسَمِعْتُ [الْإِمَامَ «5»] شَيْخَنَا الْحَافِظَ أَبَا مُحَمَّدٍ عَبْدَ الْعَظِيمِ يَقُولُ: شَخْصَانِ مِنَ الصَّحَابَةِ عَاشَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ سِتِّينَ سَنَةً وَفِي الْإِسْلَامِ سِتِّينَ سَنَةً، وَمَاتَا بِالْمَدِينَةِ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَخَمْسِينَ، أَحَدُهُمَا حَكِيمُ بْنُ حِزَامٍ، وَكَانَ مَوْلِدُهُ فِي جَوْفِ الْكَعْبَةِ قَبْلَ عَامِ الْفِيلِ بِثَلَاثَ عَشْرَةَ سَنَةً. وَالثَّانِي حَسَّانُ بْنُ ثَابِتِ بْنِ الْمُنْذِرِ بْنِ حَرَامٍ الْأَنْصَارِيُّ. وَذَكَرَ هَذَا أَيْضًا أَبُو عُمَرَ وَعُثْمَانُ الشَّهْرُزُورِيُّ فِي كِتَابِ مَعْرِفَةِ أَنْوَاعِ عِلْمِ الْحَدِيثِ لَهُ، وَلَمْ يَذْكُرَا غَيْرَهُمَا. وَحُوَيْطِبُ ذَكَرَهُ
__________
(1). الافائل: صغار الإبل.
(2). في ب: فأعطى.
(3). من ج وز وك وى. وفي أسد الغابة: ابن ربيعة بن يربوع.
(4). المغموز: المتهم.
(5). من ج وز.

(8/180)


أَبُو الْفَرَجِ الْجَوْزِيُّ فِي كِتَابِ الْوَفَا فِي شَرَفِ الْمُصْطَفَى. وَذَكَرَهُ أَبُو عُمَرَ فِي كِتَابِ الصَّحَابَةِ أَنَّهُ أَدْرَكَ الْإِسْلَامَ وَهُوَ ابْنُ سِتِّينَ سَنَةً، وَمَاتَ وَهُوَ ابْنُ مِائَةٍ وَعِشْرِينَ سَنَةً. وذكر أيضا حمنن ابن عوف أخو عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، أَنَّهُ عَاشَ فِي الْإِسْلَامِ سِتِّينَ سَنَةً وَفِي الْجَاهِلِيَّةِ سِتِّينَ سَنَةً. وَقَدْ عُدَّ فِي الْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ مُعَاوِيَةُ وَأَبُوهُ أَبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْبٍ. أَمَّا مُعَاوِيَةُ فَبَعِيدٌ أَنْ يَكُونَ مِنْهُمْ، فَكَيْفَ يَكُونُ مِنْهُمْ وَقَدِ ائْتَمَنَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى وَحْيِ اللَّهِ وَقِرَاءَتِهِ وَخَلَطَهُ بِنَفْسِهِ. وَأَمَّا حَالُهُ فِي أَيَّامِ أَبِي بَكْرٍ فَأَشْهَرُ مِنْ هَذَا وَأَظْهَرُ. وَأَمَّا أَبُوهُ فَلَا كَلَامَ فِيهِ أَنَّهُ كان منهم. وفي عدد هم اخْتِلَافٌ، وَبِالْجُمْلَةِ فَكُلُّهُمْ مُؤْمِنٌ وَلَمْ يَكُنْ فِيهِمْ كَافِرٌ عَلَى مَا تَقَدَّمَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ وَأَحْكَمُ. الثالثة- وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي بَقَائِهِمْ، فَقَالَ عُمَرُ وَالْحَسَنُ والشعبي وغير هم: انْقَطَعَ هَذَا الصِّنْفُ بِعِزِّ الْإِسْلَامِ وَظُهُورِهِ. وَهَذَا مَشْهُورٌ مِنْ مَذْهَبِ مَالِكٍ وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ. قَالَ بَعْضُ عُلَمَاءِ الْحَنَفِيَّةِ: لَمَّا أَعَزَّ اللَّهُ الْإِسْلَامَ وَأَهْلَهُ وَقَطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ- لَعَنَهُمُ اللَّهُ- اجْتَمَعَتِ الصَّحَابَةُ رِضْوَانُ اللَّهِ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ فِي خِلَافَةِ أَبِي بَكْرٍ «1» رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَلَى سُقُوطِ سَهْمِهِمْ. وَقَالَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ: هُمْ بَاقُونَ لِأَنَّ الْإِمَامَ رُبَّمَا احْتَاجَ أَنْ يَسْتَأْلِفَ عَلَى الْإِسْلَامِ. وَإِنَّمَا قَطَعَهُمْ عُمَرُ لَمَّا رَأَى مِنْ إِعْزَازِ الدِّينِ. قَالَ يُونُسُ: سَأَلْتُ الزُّهْرِيَّ عَنْهُمْ فَقَالَ: لَا أَعْلَمُ نَسْخًا فِي ذَلِكَ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ النَّحَّاسُ: فَعَلَى هَذَا الْحُكْمُ فِيهِمْ ثَابِتٌ، فَإِنْ كَانَ أَحَدٌ يُحْتَاجُ إِلَى تَأَلُّفِهِ وَيُخَافُ أَنْ تَلْحَقَ الْمُسْلِمِينَ مِنْهُ آفَةٌ أَوْ يُرْجَى أَنْ يَحْسُنَ إِسْلَامُهُ بَعْدُ دُفِعَ إِلَيْهِ. قَالَ الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ: إِنِ احْتِيجَ إِلَيْهِمْ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ أُعْطُوا مِنَ الصَّدَقَةِ. وَقَالَ [الْقَاضِي «2»] ابْنُ الْعَرَبِيِّ: الَّذِي عِنْدِي أَنَّهُ إِنْ قَوِيَ الْإِسْلَامُ زَالُوا، وَإِنِ احْتِيجَ إِلَيْهِمْ أُعْطُوا سَهْمَهُمْ كَمَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُعْطِيهِمْ، فَإِنَّ فِي الصَّحِيحِ: «3» (بَدَأَ الْإِسْلَامُ غَرِيبًا وَسَيَعُودُ كَمَا بَدَأَ). الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ- فإذا فزعنا عَلَى أَنَّهُ لَا يُرَدُّ إِلَيْهِمْ سَهْمُهُمْ فَإِنَّهُ يَرْجِعُ إِلَى سَائِرِ الْأَصْنَافِ أَوْ مَا يَرَاهُ الْإِمَامُ. وَقَالَ الزُّهْرِيُّ: يُعْطَى نِصْفُ سَهْمِهِمْ لِعُمَّارِ الْمَسَاجِدِ. وَهَذَا مِمَّا يَدُلُّكَ عَلَى أَنَّ الْأَصْنَافَ الثَّمَانِيَةَ مَحَلٌّ لَا مُسْتَحِقُّونَ تَسْوِيَةً، وَلَوْ كَانُوا مُسْتَحِقِّينَ لَسَقَطَ سَهْمُهُمْ بِسُقُوطِهِمْ وَلَمْ يَرْجِعْ إِلَى غَيْرِهِمْ، كَمَا لَوْ أَوْصَى لِقَوْمٍ مُعَيَّنِينَ فَمَاتَ أحد هم لَمْ يَرْجِعْ نَصِيبُهُ إِلَى مَنْ بَقِيَ مِنْهُمْ. والله أعلم.
__________
(1). كذا في الأصول. وصوابه عمر.
(2). في ب وج وك وز وى.
(3). بدأ بمعنى ابتدأ. ويروى: بدا بمعنى ظهر. والروايتان صحيحتان والغربة تكون بمعنى كون الشيء في غير وطنه. وبمعنى منقطع النظير.

(8/181)


الْخَامِسَةَ عَشْرَةَ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَفِي الرِّقابِ) أَيْ فِي فَكِّ الرِّقَابِ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ عُمَرَ، وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَغَيْرِهِ. فَيَجُوزُ لِلْإِمَامِ أَنْ يَشْتَرِيَ رِقَابًا مِنْ مَالِ الصَّدَقَةِ يُعْتِقُهَا عَنِ الْمُسْلِمِينَ، وَيَكُونُ وَلَاؤُهُمْ لِجَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ. وَإِنِ اشْتَرَاهُمْ صَاحِبُ الزَّكَاةِ وَأَعْتَقَهُمْ جَازَ. هَذَا تَحْصِيلُ مَذْهَبِ مَالِكٍ، وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنِ، وَبِهِ قَالَ أَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ وَأَبُو عُبَيْدٍ. وَقَالَ أَبُو ثَوْرٍ: لَا يَبْتَاعُ مِنْهَا صَاحِبُ الزَّكَاةِ نَسَمَةً يَعْتِقُهَا بِجَرِّ وَلَاءٍ. وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ وَرِوَايَةٍ عَنْ مَالِكٍ. وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ، لِأَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ قَالَ:" وَفِي الرِّقابِ" فَإِذَا كَانَ لِلرِّقَابِ سَهْمٌ مِنَ الصَّدَقَاتِ كَانَ لَهُ أَنْ يَشْتَرِيَ رَقَبَةً فَيَعْتِقُهَا. وَلَا خِلَافَ بَيْنِ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّ لِلرَّجُلِ أَنْ يَشْتَرِيَ الْفَرَسَ فَيَحْمِلُ عَلَيْهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ. فَإِذَا كَانَ لَهُ أَنْ يَشْتَرِيَ فَرَسًا بِالْكَمَالِ مِنَ الزَّكَاةِ جَازَ أَنْ يَشْتَرِيَ رَقَبَةً بِالْكَمَالِ، لَا فَرْقَ بَيْنَ ذَلِكَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. السَّادِسَةَ عَشْرَةَ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَفِي الرِّقابِ) الْأَصْلُ فِي الْوَلَاءِ، قَالَ مَالِكٌ: هِيَ الرَّقَبَةُ تُعْتَقُ وَوَلَاؤُهَا لِلْمُسْلِمِينَ، وَكَذَلِكَ إِنْ أَعْتَقَهَا الْإِمَامُ. وَقَدْ نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ بَيْعِ الْوَلَاءِ وَعَنْ هِبَتِهِ. وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: (الْوَلَاءُ لُحْمَةٌ كَلُحْمَةِ النَّسَبِ لَا يُبَاعُ وَلَا يُوهَبُ). وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: (الْوَلَاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ). وَلَا تَرِثُ النِّسَاءُ مِنَ الْوَلَاءِ شَيْئًا، لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: (لَا تَرِثُ النِّسَاءُ مِنَ الْوَلَاءِ شَيْئًا إِلَّا مَا أَعْتَقْنَ أَوْ أَعْتَقَ مَنْ أَعْتَقْنَ) وَقَدْ وَرَّثَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ابْنَةَ حَمْزَةَ مِنْ مَوْلًى لَهَا النِّصْفَ وَلِابْنَتِهِ النِّصْفَ. فَإِذَا تَرَكَ الْمُعْتِقُ أَوْلَادًا ذُكُورًا وَإِنَاثًا فَالْوَلَاءُ لِلذُّكُورِ مِنْ وَلَدِهِ دُونَ الْإِنَاثِ. وَهُوَ إِجْمَاعُ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ. وَالْوَلَاءُ إِنَّمَا يُورَثُ بِالتَّعْصِيبِ الْمَحْضِ، وَالنِّسَاءُ لَا تَعْصِيبَ فِيهِنَّ فَلَمْ يَرِثْنَ مِنَ الْوَلَاءِ شَيْئًا. فَافْهَمْ تُصِبْ. السَّابِعَةَ عَشْرَةَ- وَاخْتُلِفَ هَلْ يُعَانُ مِنْهَا الْمُكَاتَبُ، فَقِيلَ لَا. رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ مَالِكٍ، لِأَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ لَمَّا ذَكَرَ الرَّقَبَةَ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ أَرَادَ الْعِتْقَ الْكَامِلَ، وَأَمَّا الْمُكَاتَبَ فَإِنَّمَا هُوَ دَاخِلٌ فِي كَلِمَةِ الْغَارِمِينَ بِمَا عَلَيْهِ مِنْ دَيْنِ الْكِتَابَةِ، فَلَا يَدْخُلُ فِي الرِّقَابِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ مَالِكٍ مِنْ رِوَايَةِ الْمَدَنِيِّينَ وَزِيَادٍ عَنْهُ: أَنَّهُ يُعَانُ مِنْهَا الْمُكَاتَبُ فِي آخِرِ كِتَابَتِهِ بِمَا يُعْتَقُ.

(8/182)


وَعَلَى هَذَا جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى:" وَفِي الرِّقابِ". وَبِهِ قَالَ ابْنُ وهب والشافعي والليث والنخعي وغير هم. وَحَكَى عَلِيُّ بْنُ مُوسَى الْقُمِّيُّ الْحَنَفِيُّ فِي أَحْكَامِهِ: أَنَّهُمْ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الْمُكَاتَبَ مُرَادٌ. وَاخْتَلَفُوا فِي عِتْقِ الرِّقَابِ، قَالَ الْكِيَا الطَّبَرِيُّ:" وَذَكَرَ «1» وَجْهًا «2» بَيَّنَهُ فِي مَنْعِ ذَلِكَ فَقَالَ: إِنَّ الْعِتْقَ إِبْطَالُ مِلْكٍ وَلَيْسَ بِتَمْلِيكٍ، وَمَا يُدْفَعُ إِلَى الْمُكَاتَبِ تَمْلِيكٌ، وَمِنْ حَقِّ الصَّدَقَةِ أَلَّا تَجْزِيَ إِلَّا إِذَا جَرَى فِيهَا التَّمْلِيكُ. وَقَوَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُ لَوْ دَفَعَ مِنَ الزَّكَاةِ عَنِ الْغَارِمِ فِي دَيْنِهِ بِغَيْرِ أَمْرِهِ لَمْ يَجْزِهِ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَمْلِكْ فَلَأَنْ لَا يَجْزِي ذَلِكَ فِي الْعِتْقِ أَوْلَى. وَذُكِرَ أَنَّ فِي الْعِتْقِ جَرَّ الْوَلَاءِ إِلَى نَفْسِهِ وَذَلِكَ لَا يَحْصُلُ فِي دَفْعِهِ لِلْمُكَاتَبِ. وَذُكِرَ أَنَّ ثَمَنَ الْعَبْدِ إِذَا دَفَعَهُ إِلَى الْعَبْدِ لَمْ يَمْلِكْهُ الْعَبْدُ، وَإِنْ دَفَعَهُ إِلَى سَيِّدِهِ فَقَدْ مَلَّكَهُ الْعِتْقَ. وَإِنْ دَفَعَهُ بَعْدَ الشِّرَاءِ وَالْعِتْقِ فَهُوَ قَاضٍ دَيْنًا، وَذَلِكَ لَا يَجْزِي فِي الزَّكَاةِ". قُلْتُ: قَدْ وَرَدَ حَدِيثٌ يَنُصُّ عَلَى مَعْنَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ جَوَازِ عِتْقِ الرَّقَبَةِ وَإِعَانَةِ الْمَكَاتَبِ مَعًا أَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ عَنِ الْبَرَاءِ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: دُلَّنِي عَلَى عَمَلٍ يُقَرِّبُنِي مِنَ الْجَنَّةِ وَيُبَاعِدُنِي مِنَ النَّارِ. قَالَ: (لَئِنْ كُنْتَ أَقَصَرْتَ الْخُطْبَةَ لَقَدْ أَعْرَضْتَ الْمَسْأَلَةَ «3» أَعْتِقِ النَّسَمَةَ وَفُكَّ الرَّقَبَةَ). فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أو ليستا واحدا؟ قال: (لا، عتق النسمة أن تنفرد بِعِتْقِهَا وَفَكُّ الرَّقَبَةِ أَنْ تُعِينَ فِي ثَمَنِهَا) وَذَكَرَ الْحَدِيثَ. الثَّامِنَةَ عَشْرَةَ- وَاخْتَلَفُوا فِي فَكِّ الْأُسَارَى مِنْهَا، فَقَالَ أَصْبَغُ: لَا يَجُوزُ. وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ قَاسِمٍ. وَقَالَ ابْنُ حَبِيبٍ: يَجُوزُ، لِأَنَّهَا رَقَبَةٌ مُلِكَتْ بِمِلْكِ الرِّقِّ فَهِيَ تَخْرُجُ مِنْ رِقٍّ إِلَى عِتْقٍ، وَكَانَ ذَلِكَ أَحَقَّ وَأَوْلَى مِنْ فِكَاكِ الرِّقَابِ الَّذِي بِأَيْدِينَا، لِأَنَّهُ إِذَا كَانَ فَكُّ الْمُسْلِمِ عَنْ رِقِّ الْمُسْلِمِ عِبَادَةً وَجَائِزًا مِنَ الصَّدَقَةِ، فَأَحْرَى وَأَوْلَى أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ فِي فَكِّ الْمُسْلِمِ عَنْ رِقِّ الْكَافِرِ وَذُلِّهِ. التَّاسِعَةَ عَشْرَةَ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَالْغارِمِينَ) هُمُ الَّذِينَ رَكِبَهُمُ الدَّيْنُ وَلَا وَفَاءَ عِنْدَهُمْ بِهِ، وَلَا خِلَافَ فِيهِ. اللَّهُمَّ إِلَّا مَنِ أد ان فِي سَفَاهَةٍ فَإِنَّهُ لَا يُعْطَى مِنْهَا وَلَا من غير ها إلا أن
يتوب.
__________
(1). أي القمي.
(2). الذي في أحكام القرآن للكيا: (وذكر وجو ها بينة في منع ذلك منها أنه العتق .. ) إلخ.
(3). أي جئت بالخطبة قصيرة وبالمسألة واسعة كثيرة. [ ..... ]

(8/183)


وَيُعْطَى مِنْهَا مَنْ لَهُ مَالٌ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ مُحِيطٌ بِهِ مَا يَقْضِي بِهِ دَيْنَهُ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ فَهُوَ فَقِيرٌ وَغَارِمٌ فَيُعْطَى بِالْوَصْفَيْنِ. رَوَى مُسْلِمٌ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: أُصِيبَ رَجُلٌ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ثِمَارٍ ابْتَاعَهَا فَكَثُرَ دَيْنُهُ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (تَصَدَّقُوا عَلَيْهِ). فَتَصَدَّقَ النَّاسُ عَلَيْهِ فَلَمْ يَبْلُغْ ذَلِكَ وَفَاءَ دَيْنِهِ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِغُرَمَائِهِ: (خُذُوا مَا وَجَدْتُمْ وَلَيْسَ لَكُمْ إِلَّا ذَلِكَ). الْمُوَفِّيَةُ عِشْرِينَ- وَيَجُوزُ لِلْمُتَحَمِّلِ فِي صَلَاحٍ وَبِرٍّ أَنْ يُعْطَى مِنَ الصَّدَقَةِ مَا يُؤَدِّي مَا تَحَمَّلَ بِهِ إِذَا وَجَبَ عَلَيْهِ وَإِنْ كَانَ غَنِيًّا، إِذَا كَانَ ذَلِكَ يُجْحِفُ بِمَالِهِ كَالْغَرِيمِ. وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَأَصْحَابِهِ وَأَحْمَدَ بن حنبل وغير هم. وَاحْتَجَّ مَنْ ذَهَبَ هَذَا الْمَذْهَبَ بِحَدِيثِ قَبِيصَةَ بْنِ مُخَارِقٍ قَالَ: تَحَمَّلْتُ حَمَالَةً «1» فَأَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَسْأَلُهُ فِيهَا فَقَالَ: (أَقِمْ حَتَّى تَأْتِيَنَا الصَّدَقَةُ فَنَأْمُرُ لَكَ بِهَا- ثُمَّ قَالَ- يَا قَبِيصَةُ إِنَّ الْمَسْأَلَةَ لَا تَحِلُّ إِلَّا لِأَحَدِ ثَلَاثَةٍ رَجُلٍ تَحَمَّلَ حَمَالَةً فَحَلَّتْ لَهُ الْمَسْأَلَةُ حَتَّى يُصِيبَهَا ثُمَّ يُمْسِكُ وَرَجُلٍ أَصَابَتْهُ جَائِحَةٌ اجْتَاحَتْ مَالَهُ فَحَلَّتْ لَهُ الْمَسْأَلَةُ حَتَّى يُصِيبَ قِوَامًا مِنْ عَيْشٍ- أَوْ قَالَ سِدَادًا مِنْ عَيْشٍ- وَرَجُلٍ أَصَابَتْهُ فَاقَةٌ حتى يقوم ثَلَاثَةٌ مِنْ ذَوِي الْحِجَا مِنْ قَوْمِهِ «2» لَقَدْ أَصَابَتْ فُلَانًا فَاقَةٌ فَحَلَّتْ لَهُ الْمَسْأَلَةُ حَتَّى يُصِيبَ قِوَامًا مِنْ عَيْشٍ- أَوْ قَالَ سِدَادًا مِنْ عَيْشٍ- فَمَا سِوَاهُنَّ مِنَ الْمَسْأَلَةِ يَا قَبِيصَةُ سُحْتًا «3» يَأْكُلُهَا صَاحِبُهَا سُحْتًا (. فَقَوْلُهُ:) ثُمَّ يُمْسِكُ) دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ غَنِيٌّ، لِأَنَّ الْفَقِيرَ لَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يُمْسِكَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَرُوِيَ عَنْهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ: (إِنَّ الْمَسْأَلَةَ لا تحل إلا لاحد ثلاثة ذوي فَقْرٍ مُدْقِعٍ «4» أَوْ لِذِي غُرْمٍ مُفْظِعٍ «5» أَوْ لِذِي دَمٍ مُوجِعٍ) «6». وَرُوِيَ عَنْهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: (لَا تَحِلُّ الصَّدَقَةُ لِغَنِيٍّ إِلَّا لِخَمْسَةٍ) الْحَدِيثَ. وسيأتي.
__________
(1). الحملة (بالفتح): ما يتحمله الإنسان عن غيره من دية أو غرامة مثل أن تقع حرب بين فريقين تسفك فيها الدماء فيدخل بينهم رجل يتحمل ديات القتلى ليصلح ذات البين. والتحمل: أن يحملها عنهم على نفسه. (عن النهاية لابن الأثير).
(2). أي حتى يقوموا على رءوس الاشهاد قائلين: إن فلانا أصابته فاقة إلخ.
(3). كذا رواية مسلم، أي اعتقده سحتا أو يؤكل سحتا. وفي غير مسلم بالرفع.
(4). المدقع: الشديد، يفضى بصاحبه إلى الدقعاء، وهي التراب. وقيل: هو سوء احتمال الفقر.
(5). المفظع: الشديد الشنيع.
(6). هو أن يتحمل دية فيسعى فيها حتى يؤديها إلى أولياء المقتول، فإن لم يؤد ها قتل المتحمل عنه فيوجعه قتله.

(8/184)


الْحَادِيَةُ وَالْعِشْرُونَ- وَاخْتَلَفُوا، هَلْ يُقْضَى مِنْهَا دَيْنُ الْمَيِّتِ أَمْ لَا، فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يُؤَدَّى مِنَ الصَّدَقَةِ دَيْنُ مَيِّتٍ. وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ الْمَوَّازِ. قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: وَلَا يُعْطَى مِنْهَا مَنْ عَلَيْهِ كَفَّارَةٌ وَنَحْوُ ذَلِكَ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى، وَإِنَّمَا الْغَارِمُ مَنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ يُسْجَنُ فِيهِ. وَقَالَ عُلَمَاؤُنَا وَغَيْرُهُمْ: يُقْضَى مِنْهَا دَيْنُ الْمَيِّتِ لِأَنَّهُ مِنَ الْغَارِمِينَ، قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (أَنَا أَوْلَى بِكُلِّ مُؤْمِنٍ مِنْ نَفْسِهِ مَنْ تَرَكَ مَالًا فَلِأَهْلِهِ وَمَنْ تَرَكَ دَيْنًا أَوْ ضَيَاعًا «1» فَإِلَيَّ وَعَلَيَّ). الثانية والعشرون- قوله تعالى: (وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ) وَهُمُ الْغُزَاةُ وَمَوْضِعُ الرِّبَاطِ، يُعْطَوْنَ مَا يُنْفِقُونَ فِي غَزْوِهِمْ كَانُوا أَغْنِيَاءَ أَوْ فُقَرَاءَ. وَهَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ، وَهُوَ تَحْصِيلُ مَذْهَبِ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ. وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: الْحُجَّاجُ وَالْعُمَّارُ. وَيُؤْثَرُ عَنْ أَحْمَدَ وَإِسْحَاقَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ أَنَّهُمَا قَالَا: سَبِيلُ اللَّهِ الْحَجُّ. وَفِي الْبُخَارِيِّ: وَيُذْكَرُ عَنْ أَبِي لَاسٍ «2»: حَمَلَنَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى إِبِلِ الصَّدَقَةِ لِلْحَجِّ، وَيُذْكَرُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: يَعْتِقُ مِنْ [زَكَاةِ «3»] مَالِهِ وَيُعْطِي فِي الْحَجِّ. خَرَّجَ أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ الْغَنِيِّ الْحَافِظُ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْخَيَّاشُ حَدَّثَنَا أَبُو غَسَّانَ مَالِكُ بن يحيى حدثنا يزيد بن ها رون أَخْبَرَنَا مَهْدِيُّ بْنُ مَيْمُونٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أبي يعقوب عن عبد الرحمن ابن أَبِي نُعْمٍ وَيُكَنَّى أَبَا الْحَكَمِ قَالَ: كُنْتُ جَالِسًا مَعَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ فَأَتَتْهُ امْرَأَةٌ فَقَالَتْ لَهُ: يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ، إِنَّ زَوْجِي أَوْصَى بِمَالِهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ. قَالَ ابْنُ عُمَرَ: فَهُوَ كَمَا قَالَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ. فَقُلْتُ لَهُ: مَا زِدْتَهَا فِيمَا سَأَلَتْ عَنْهُ إِلَّا غَمًّا. قَالَ: فَمَا تَأْمُرُنِي يا ابن أبي نعم، آمر ها أَنْ تَدْفَعَهُ إِلَى هَؤُلَاءِ الْجُيُوشِ الَّذِينَ يَخْرُجُونَ فَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَيَقْطَعُونَ السَّبِيلَ! قَالَ: قُلْتُ فما تأمر ها. قَالَ: آمُرُهَا أَنْ تَدْفَعَهُ إِلَى قَوْمٍ صَالِحِينَ، إِلَى حُجَّاجِ بَيْتِ اللَّهِ الْحَرَامِ، أُولَئِكَ وَفْدُ الرَّحْمَنِ، أُولَئِكَ وَفْدُ الرَّحْمَنِ، أُولَئِكَ وَفْدُ الرَّحْمَنِ، لَيْسُوا كَوَفْدِ الشَّيْطَانِ، ثَلَاثًا يَقُولُهَا. قُلْتُ: يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَمَا وَفْدُ الشَّيْطَانِ؟ قَالَ: قَوْمٌ يَدْخُلُونَ عَلَى هَؤُلَاءِ الْأُمَرَاءِ فَيُنَمُّونَ إِلَيْهِمُ الْحَدِيثَ، وَيَسْعَوْنَ فِي الْمُسْلِمِينَ بِالْكَذِبِ، فَيُجَازُونَ الْجَوَائِزَ ويعطون عليه العطايا.
__________
(1). الضياع (بالفتح): العيال وأصله مصدر ضاع يضيع ضياعا فسمى العيال بالمصدر كما تقول من مات وترك فقرا، أي فقراء.
(2). بالمهملة كما في التاج: أبو محمد الخزاعي صحابي.
(3). الزيادة عن صحيح البخاري.

(8/185)


وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ: وَيُعْطَى مِنَ الصَّدَقَةِ فِي الْكُرَاعِ وَالسِّلَاحِ وَمَا يُحْتَاجُ إِلَيْهِ مِنْ آلَاتِ الْحَرْبِ، وَكَفِّ الْعَدُوِّ عَنِ الْحَوْزَةِ، لِأَنَّهُ كُلَّهُ مِنْ سَبِيلِ الْغَزْوِ وَمَنْفَعَتِهِ. وَقَدْ أَعْطَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِائَةَ نَاقَةٍ فِي نَازِلَةِ سَهْلِ بْنِ أَبِي حَثْمَةَ إِطْفَاءً لِلثَّائِرَةِ. قُلْتُ: أَخْرَجَ هَذَا الْحَدِيثَ أَبُو دَاوُدَ عَنْ بَشِيرِ بْنِ يَسَارٍ، أَنَّ رَجُلًا مِنَ الْأَنْصَارِ يُقَالُ لَهُ سَهْلُ بْنُ أَبِي حَثْمَةَ أَخْبَرَهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَدَاهُ مِائَةً مِنْ إِبِلِ الصَّدَقَةِ، يَعْنِي دِيَةَ الْأَنْصَارِيِّ الَّذِي قُتِلَ بِخَيْبَرَ، وَقَالَ عِيسَى بْنُ دِينَارٍ: تَحِلُّ الصَّدَقَةُ لِغَازٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، قَدِ احْتَاجَ فِي غَزْوَتِهِ وَغَابَ عَنْهُ غَنَاؤُهُ وَوَفْرُهُ. قَالَ: وَلَا تَحِلُّ لِمَنْ كَانَ مَعَهُ مَالُهُ مِنَ الْغُزَاةِ، إِنَّمَا تَحِلُّ لِمَنْ كَانَ مَالُهُ غَائِبًا عَنْهُ مِنْهُمْ. وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ وَإِسْحَاقَ وَجُمْهُورِ أَهْلِ الْعِلْمِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَصَاحِبَاهُ: لَا يُعْطَى الْغَازِي إِلَّا إِذَا كَانَ فَقِيرًا مُنْقَطِعًا بِهِ. وَهَذِهِ زِيَادَةٌ عَلَى النَّصِّ، وَالزِّيَادَةُ عِنْدَهُ عَلَى النَّصِّ نَسْخٌ، وَالنَّسْخُ لَا يَكُونُ إِلَّا بِقُرْآنٍ أَوْ خَبَرٍ مُتَوَاتِرٍ، وَذَلِكَ مَعْدُومٌ هُنَا، بَلْ فِي صَحِيحِ السُّنَّةِ خِلَافُ ذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: (لَا تَحِلُّ الصَّدَقَةُ لِغَنِيٍّ إِلَّا لِخَمْسَةٍ لِغَازٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ لِعَامِلٍ عَلَيْهَا أَوْ لِغَارِمٍ أَوْ لِرَجُلٍ اشْتَرَاهَا بِمَالِهِ أَوْ لِرَجُلٍ لَهُ جَارٌ مِسْكِينٌ فَتَصَدَّقَ عَلَى الْمِسْكِينِ فَأَهْدَى الْمِسْكِينُ لِلْغَنِيِّ (. رَوَاهُ مَالِكٌ مُرْسَلًا عَنْ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ. وَرَفَعَهُ مَعْمَرٌ عَنْ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَكَانَ هَذَا الْحَدِيثُ مُفَسِّرًا لِمَعْنَى الْآيَةِ، وَأَنَّهُ يَجُوزُ لِبَعْضِ الْأَغْنِيَاءِ أَخْذُهَا، وَمُفَسِّرًا لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: (لَا تَحِلُّ الصَّدَقَةُ لِغَنِيٍّ وَلَا لِذِي مِرَّةٍ سَوِيٍّ) لِأَنَّ قَوْلَهُ هَذَا مُجْمَلٌ لَيْسَ عَلَى عُمُومِهِ بِدَلِيلِ الْخَمْسَةِ الْأَغْنِيَاءِ الْمَذْكُورِينَ. وَكَانَ ابْنُ الْقَاسِمِ يَقُولُ: لَا يَجُوزُ لِغَنِيٍّ أَنْ يَأْخُذَ مِنَ الصَّدَقَةِ مَا يَسْتَعِينُ بِهِ عَلَى الْجِهَادِ وَيُنْفِقُهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَإِنَّمَا يَجُوزُ ذَلِكَ لِفَقِيرٍ. قَالَ: وَكَذَلِكَ الْغَارِمُ لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنَ الصَّدَقَةِ مَا يَقِي بِهِ مَالَهُ وَيُؤَدِّي مِنْهَا دَيْنَهُ وَهُوَ عَنْهَا غَنِيٌّ. قَالَ: وَإِذَا احْتَاجَ الْغَازِي فِي غَزْوَتِهِ وَهُوَ غَنِيٌّ لَهُ مَالٌ غَابَ عَنْهُ لَمْ يَأْخُذْ مِنَ الصَّدَقَةِ شَيْئًا يَسْتَقْرِضُ، فَإِذَا بَلَغَ بَلَدَهُ أَدَّى ذَلِكَ مِنْ مَالِهِ. هَذَا كُلُّهُ ذَكَرَهُ ابْنُ حَبِيبٍ عَنِ ابْنِ الْقَاسِمِ، وَزَعَمَ أَنَّ ابْنَ نَافِعٍ وَغَيْرَهُ خَالَفُوهُ فِي ذَلِكَ. وَرَوَى أَبُو زَيْدٍ وَغَيْرُهُ

(8/186)


عَنِ ابْنِ الْقَاسِمِ أَنَّهُ قَالَ: يُعْطَى مِنَ الزَّكَاةِ الْغَازِي وَإِنْ كَانَ مَعَهُ فِي غَزَاتِهِ مَا يَكْفِيهِ مِنْ مَالِهِ وَهُوَ غَنِيٌّ فِي بَلَدِهِ. وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ، لِظَاهِرِ الْحَدِيثِ: (لَا تَحِلُّ الصَّدَقَةُ لِغَنِيٍّ إِلَّا لِخَمْسَةٍ). وَرَوَى ابْنُ وَهْبٍ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ يُعْطَى مِنْهَا الْغُزَاةُ وَمَوَاضِعُ الرِّبَاطِ فُقَرَاءَ كَانُوا أَوْ أَغْنِيَاءَ. الثَّالِثَةُ والعشرون- قوله تعالى: (وَابْنِ السَّبِيلِ) السَّبِيلُ الطَّرِيقُ، وَنُسِبَ الْمُسَافِرُ إِلَيْهَا لِمُلَازَمَتِهِ إِيَّاهَا وَمُرُورِهِ عَلَيْهَا، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ:
إِنْ تَسْأَلُونِي عَنِ الْهَوَى فَأَنَا الْهَوَى ... وَابْنُ الْهَوَى وَأَخُو الْهَوَى وَأَبُوهُ
وَالْمُرَادُ الَّذِي انْقَطَعَتْ بِهِ الْأَسْبَابُ فِي سَفَرِهِ عَنْ بَلَدِهِ وَمُسْتَقَرِّهِ وَمَالِهِ، فَإِنَّهُ يُعْطَى مِنْهَا وَإِنْ كَانَ غَنِيًّا فِي بَلَدِهِ، وَلَا يَلْزَمُهُ أَنْ يَشْغَلَ ذِمَّتَهُ بِالسَّلَفِ. وَقَالَ مَالِكٌ فِي كِتَابِ ابْنِ سَحْنُونٍ: إِذَا وَجَدَ مَنْ يُسَلِّفُهُ فَلَا يُعْطَى. وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ، فَإِنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ أَنْ يَدْخُلَ تَحْتَ مِنَّةِ أَحَدٍ وَقَدْ وَجَدَ مِنَّةَ اللَّهِ تَعَالَى. فَإِنْ كَانَ لَهُ مَا يُغْنِيهِ فَفِي جَوَازِ الْأَخْذِ لَهُ لِكَوْنِهِ ابْنَ السَّبِيلِ رِوَايَتَانِ: الْمَشْهُورُ أَنَّهُ لَا يُعْطَى، فَإِنْ أَخَذَ فَلَا يَلْزَمُهُ رَدُّهُ إِذَا صَارَ إِلَى بَلَدِهِ وَلَا إِخْرَاجُهُ. الرَّابِعَةُ وَالْعِشْرُونَ- فَإِنْ جَاءَ وَادَّعَى وَصْفًا مِنَ الْأَوْصَافِ، هَلْ يُقْبَلُ قَوْلُهُ أَمْ لَا وَيُقَالُ لَهُ أَثْبِتْ مَا تَقُولُ. فَأَمَّا الدَّيْنُ فَلَا بُدَّ أَنْ يُثْبِتَهُ، وَأَمَّا سَائِرُ الصِّفَاتِ فَظَاهِرُ الْحَالِ يَشْهَدُ لَهُ وَيُكْتَفَى بِهِ فِيهَا. وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ حَدِيثَانِ صَحِيحَانِ أَخْرَجَهُمَا أَهْلُ الصَّحِيحِ، وَهُوَ ظَاهِرُ الْقُرْآنِ. رَوَى مُسْلِمٌ عَنْ جَرِيرٍ [عَنْ أَبِيهِ «1»] قَالَ: كُنَّا عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي صَدْرِ النَّهَارِ، قَالَ: فَجَاءَهُ قَوْمٌ حُفَاةٌ عُرَاةٌ مُجْتَابِي النِّمَارِ «2» أَوِ الْعَبَاءِ مُتَقَلِّدِي السُّيُوفِ، عَامَّتُهُمْ مِنْ مُضَرَ بَلْ كُلُّهُمْ مِنْ مُضَرَ، فَتَمَعَّرَ «3» وَجْهُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمَا رَأَى بِهِمْ مِنَ الْفَاقَةِ، فَدَخَلَ ثُمَّ خَرَجَ فَأَمَرَ بِلَالًا فَأَذَّنَ وَأَقَامَ فَصَلَّى، ثُمَّ خَطَبَ فَقَالَ:" يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ"- الْآيَةَ إلى قوله-" رَقِيباً" «4» [النساء: 1] وَالْآيَةُ الَّتِي فِي الْحَشْرِ" وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ" «5» [الحشر: 18] تصدق رجل من ديناره من درهمه مِنْ ثَوْبِهِ مِنْ صَاعِ بُرِّهِ- حَتَّى قَالَ- ولو بشق تمرة. قال: فجاء رجل
__________
(1). زيادة عن صحيح مسلم.
(2). اجتاب القميص: لبسه. والنمار (بكسر النون): كل شملة مخططة من مآزر الاعراب، كأنها أخذت من لون النمر لما فيها من السواد والبياض.
(3). تمعر: تغير.
(4). راجع ج 5 ص 1 فما بعد.
(5). راجع ج 18 ص 42 فما بعد. [ ..... ]

(8/187)


مِنَ الْأَنْصَارِ بِصُرَّةٍ كَادَتْ كَفُّهُ تَعْجِزُ عَنْهَا بَلْ قَدْ عَجَزَتْ، قَالَ: ثُمَّ تَتَابَعَ النَّاسُ حَتَّى رَأَيْتُ كَوْمَيْنِ مِنْ طَعَامٍ وَثِيَابٍ، حَتَّى رَأَيْتُ وَجْهُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَهَلَّلُ كَأَنَّهُ مُذْهَبَةٌ «1» فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (مَنْ سَنَّ فِي الْإِسْلَامِ سُنَّةً حَسَنَةً فَلَهُ أَجْرُهَا وَأَجْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا بَعْدِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أُجُورِهِمْ شي وَمَنْ سَنَّ فِي الْإِسْلَامِ سُنَّةً سَيِّئَةً كَانَ عليه وزر ها وَوِزْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا مِنْ بَعْدِهِ مِنْ غبر أن ينقص من أوزار هم شي (. فَاكْتَفَى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِظَاهِرِ حَالِهِمْ وَحَثَّ عَلَى الصَّدَقَةِ، وَلَمْ يَطْلُبْ مِنْهُمْ بَيِّنَةً، ولا استقصى هل عند هم مَالٌ أَمْ لَا. وَمِثْلُهُ حَدِيثُ أَبْرَصَ وَأَقْرَعَ وَأَعْمَى أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ وَغَيْرُهُ. وَهَذَا لَفْظُهُ: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: (إن فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ أَبْرَصُ وَأَقْرَعُ وَأَعْمَى فَأَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَبْتَلِيَهُمْ فَبَعَثَ إِلَيْهِمْ مَلَكًا فَأَتَى الأبرص فقال أي شي أَحَبُّ إِلَيْكَ فَقَالَ لَوْنٌ حَسَنٌ وَجِلْدٌ حَسَنٌ وَيَذْهَبُ عَنِّي الَّذِي قَدْ قَذِرَنِي النَّاسُ قَالَ فَمَسَحَهُ فَذَهَبَ عَنْهُ قَذَرُهُ وَأُعْطِيَ لَوْنًا حَسَنًا وَجِلْدًا حَسَنًا قَالَ فَأَيُّ الْمَالِ أَحَبُّ إِلَيْكَ قَالَ الْإِبِلُ- أَوْ قَالَ الْبَقَرُ، شَكَّ إِسْحَاقُ، إِلَّا «2» أَنَّ الْأَبْرَصَ أَوِ الْأَقْرَعَ قَالَ أَحَدُهُمَا الْإِبِلُ وَقَالَ الْآخَرُ الْبَقَرُ- قَالَ فَأُعْطِيَ نَاقَةً عُشَرَاءَ قَالَ بَارَكَ اللَّهُ لَكَ فِيهَا قَالَ فأتى الأقرع فقال أي شي أَحَبُّ إِلَيْكَ قَالَ شَعْرٌ حَسَنٌ وَيَذْهَبُ عَنِّي هَذَا الَّذِي قَدْ قَذِرَنِي النَّاسُ قَالَ فَمَسَحَهُ فَذَهَبَ عَنْهُ قَالَ فَأُعْطِيَ شَعْرًا حَسَنًا قَالَ فَأَيُّ الْمَالِ أَحَبُّ إِلَيْكَ قَالَ الْبَقَرُ فَأُعْطِيَ بَقَرَةً حَامِلًا قَالَ بَارَكَ اللَّهُ لَكَ فِيهَا قال فأتى الأعمى فقال أي شي أَحَبُّ إِلَيْكَ قَالَ أَنْ يَرُدَّ اللَّهُ إِلَيَّ بَصَرِي فَأُبْصِرَ بِهِ النَّاسَ قَالَ فَمَسَحَهُ فَرَدَّ اللَّهُ إِلَيْهِ بَصَرَهُ قَالَ فَأَيُّ الْمَالِ أَحَبُّ إِلَيْكَ قَالَ الْغَنَمُ فَأُعْطِيَ شَاةً وَالِدًا فَأُنْتِجَ هَذَانَ «3» وَوَلَّدَ هَذَا قَالَ فَكَانَ لِهَذَا وَادٍ مِنَ الْإِبِلِ وَلِهَذَا وَادٍ مِنَ الْبَقَرِ وَلِهَذَا وَادٍ مِنَ الْغَنَمِ قَالَ ثُمَّ إِنَّهُ أَتَى الْأَبْرَصَ فِي صُورَتِهِ وَهَيْئَتِهِ فَقَالَ رَجُلٌ مِسْكِينٌ قَدِ انْقَطَعَتْ بِي الْحِبَالُ «4» فِي سَفَرِي فَلَا بَلَاغَ لِي الْيَوْمَ إِلَّا بِاللَّهِ وَبِكَ أَسْأَلُكَ بِالَّذِي أَعْطَاكَ اللَّوْنَ الْحَسَنَ وَالْجِلْدَ الْحَسَنَ وَالْمَالَ بعيرا أتبلغ عليه في سفري
__________
(1). أي فضة مموهة بذهب في إشراقه. والرواية: مدهنة. بمهملة ونون.
(2). كذا في الأصول وصحيح مسلم. ورواية البخاري: (شك إسحاق في ذلك أن الأبرص) بغير لفظ (إلا).
(3). أي صاحبا الإبل والبقر.
(4). الحبال: جمع حبل. والمراد الأسباب التي يقطعها في طلب الرزق.

(8/188)


فَقَالَ لَهُ الْحُقُوقُ كَثِيرَةٌ فَقَالَ لَهُ كَأَنِّي أَعْرِفُكَ أَلَمْ تَكُنْ أَبْرَصَ يَقْذَرُكَ النَّاسُ فَقِيرًا فَأَعْطَاكَ اللَّهُ فَقَالَ إِنَّمَا وَرِثْتُ هَذَا الْمَالَ كَابِرًا عَنْ كَابِرٍ فَقَالَ إِنْ كُنْتَ كَاذِبًا فَصَيَّرَكَ اللَّهُ إِلَى مَا كُنْتَ فَقَالَ وَأَتَى الْأَقْرَعَ فِي صُورَتِهِ فَقَالَ لَهُ مِثْلَ مَا قَالَ لِهَذَا وَرَدَّ عَلَيْهِ مِثْلَ مَا رَدَّ عَلَى هَذَا فَقَالَ إِنْ كُنْتَ كَاذِبًا فَصَيَّرَكَ اللَّهُ إِلَى مَا كُنْتَ قَالَ وَأَتَى الْأَعْمَى فِي صُورَتِهِ وَهَيْئَتِهِ فَقَالَ رَجُلٌ مِسْكِينٌ وَابْنُ سَبِيلٍ انْقَطَعَتْ بِي الْحِبَالُ فِي سَفَرِي فَلَا بَلَاغَ لِي الْيَوْمَ إِلَّا بِاللَّهِ ثُمَّ بِكَ أَسْأَلُكَ بِالَّذِي رَدَّ عَلَيْكَ بَصَرَكَ شَاةً أَتَبَلَّغُ بِهَا فِي سَفَرِي فَقَالَ قَدْ كُنْتُ أَعْمَى فَرَدَّ اللَّهُ إِلَيَّ بَصَرِي فَخُذْ مَا شِئْتَ وَدَعْ مَا شِئْتَ فَوَاللَّهِ لَا أَجْهَدُكَ الْيَوْمَ شَيْئًا أَخَذْتَهُ لِلَّهِ فَقَالَ أَمْسِكْ مَالَكَ فَإِنَّمَا ابْتُلِيتُمْ فَقَدْ رُضِيَ عَنْكَ وَسُخِطَ عَلَى صَاحِبَيْكَ (. وَفِي هَذَا أَدَلُّ دَلِيلٍ عَلَى أَنَّ مَنِ ادَّعَى زِيَادَةً عَلَى فَقْرِهِ مِنْ عِيَالٍ أَوْ غَيْرِهِ لَا يُكْشَفُ عَنْهُ خِلَافًا لِمَنْ قَالَ يُكْشَفُ عَنْهُ إِنْ قُدِرَ، فَإِنَّ فِي الْحَدِيثِ (فَقَالَ رَجُلٌ مِسْكِينٌ وَابْنُ سَبِيلٍ أَسْأَلُكَ شَاةً) وَلَمْ يُكَلِّفْهُ إِثْبَاتَ السَّفَرِ. فَأَمَّا الْمُكَاتَبُ فَإِنَّهُ يُكَلَّفُ إِثْبَاتَ الْكِتَابَةِ لِأَنَّ الرِّقَّ هُوَ الْأَصْلُ حَتَّى تَثْبُتَ الْحُرِّيَّةُ. الْخَامِسَةُ وَالْعِشْرُونَ- وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُعْطِيَ مِنَ الزَّكَاةِ مِنْ تَلْزَمُهُ نَفَقَتُهُ وَهُمُ الْوَالِدَانِ وَالْوَلَدُ وَالزَّوْجَةُ. وَإِنْ أَعْطَى الْإِمَامُ صَدَقَةَ الرَّجُلِ لِوَلَدِهِ وَوَالِدِهِ وَزَوْجَتِهِ جَازَ. وَأَمَّا أن يتناول ذلك هو نفسه فَلَا، لِأَنَّهُ يُسْقِطُ بِهَا عَنْ نَفْسِهِ فَرْضًا. قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: وَلَا يُعْطِي مِنْهَا وَلَدَ ابْنِهِ وَلَا وَلَدَ ابْنَتِهِ، وَلَا يُعْطِي مِنْهَا مُكَاتَبَهُ وَلَا مُدَّبَّرَهُ وَلَا أُمَّ وَلَدِهِ وَلَا عَبْدًا أَعْتَقَ نِصْفَهُ، لِأَنَّهُ مَأْمُورٌ بِالْإِيتَاءِ وَالْإِخْرَاجِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى بِوَاسِطَةِ كَفِّ الْفَقِيرِ، وَمَنَافِعُ الْأَمْلَاكِ مُشْتَرَكَةٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ هَؤُلَاءِ، وَلِهَذَا لَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ. قَالَ: وَالْمُكَاتَبُ عَبْدٌ ما بقي عليه در هم وَرُبَّمَا يَعْجِزُ فَيَصِيرُ الْكَسْبُ لَهُ. وَمُعْتَقُ الْبَعْضِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ بِمَنْزِلَةِ الْمُكَاتَبِ. وَعِنْدَ صَاحِبَيْهِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ بِمَنْزِلَةِ حُرٍّ عَلَيْهِ دَيْنٌ فَيَجُوزُ أَدَاؤُهَا إِلَيْهِ. السَّادِسَةُ وَالْعِشْرُونَ- فَإِنْ أَعْطَاهَا لِمَنْ لَا تَلْزَمُهُ نَفَقَتُهُمْ فَقَدِ اخْتُلِفَ فِيهِ، فَمِنْهُمْ مَنْ جَوَّزَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ كَرِهَهُ. قَالَ مَالِكٌ: خَوْفُ الْمَحْمَدَةِ. وَحَكَى مُطَرِّفٌ أَنَّهُ قَالَ: رَأَيْتُ مَالِكًا يُعْطِي زَكَاتَهُ لِأَقَارِبِهِ. وَقَالَ الْوَاقِدِيُّ قَالَ مَالِكٌ: أَفْضَلُ مَنْ وَضَعْتَ فِيهِ زَكَاتَكَ

(8/189)


قَرَابَتُكَ الَّذِينَ لَا تَعُولُ. وَقَدْ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِزَوْجَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ: (لَكِ أَجْرَانِ أَجْرُ الْقَرَابَةِ وَأَجْرُ الصَّدَقَةِ). وَاخْتَلَفُوا فِي إِعْطَاءِ الْمَرْأَةِ زَكَاتَهَا لِزَوْجِهَا، فَذُكِرَ عَنِ ابْنِ حَبِيبٍ أَنَّهُ كَانَ يَسْتَعِينُ بِالنَّفَقَةِ عَلَيْهَا بِمَا تُعْطِيهِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يَجُوزُ، وَخَالَفَهُ صَاحِبَاهُ فَقَالَا: يَجُوزُ. وَهُوَ الْأَصَحُّ لِمَا ثَبَتَ أَنَّ زَيْنَبَ امْرَأَةَ عَبْدِ اللَّهِ أَتَتْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ: إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أَتَصَدَّقَ عَلَى زَوْجِي أَيَجْزِينِي؟ فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: (نَعَمْ لَكِ أَجْرَانِ أجر الصدقة واجر القرابة). الصدقة والمطلقة هِيَ الزَّكَاةُ، وَلِأَنَّهُ لَا نَفَقَةَ لِلزَّوْجِ عَلَيْهَا، فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ الْأَجْنَبِيِّ. اعْتَلَّ أَبُو حَنِيفَةَ فَقَالَ: مَنَافِعُ الْأَمْلَاكِ بَيْنَهُمَا مُشْتَرَكَةٌ، حَتَّى لَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ أَحَدِهِمَا لِصَاحِبِهِ. وَالْحَدِيثُ مَحْمُولٌ عَلَى التَّطَوُّعِ. وَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ وَأَبُو ثَوْرٍ وَأَشْهَبُ إِلَى إِجَازَةِ ذَلِكَ، إِذَا لَمْ يَصْرِفْهُ إِلَيْهَا فِيمَا يَلْزَمُهُ لَهَا، وَإِنَّمَا يَصْرِفُ مَا يَأْخُذُهُ مِنْهَا فِي نَفَقَتِهِ وَكِسْوَتِهِ عَلَى نَفْسِهِ وَيُنْفِقُ عَلَيْهَا مِنْ مَالِهِ. السَّابِعَةُ وَالْعِشْرُونَ- وَاخْتَلَفُوا أَيْضًا فِي قَدْرِ الْمُعْطَى، فَالْغَارِمُ يُعْطَى قَدْرَ دَيْنِهِ، وَالْفَقِيرُ وَالْمِسْكِينُ يُعْطَيَانِ كِفَايَتَهُمَا وَكِفَايَةَ عِيَالِهِمَا. وَفِي جَوَازِ إِعْطَاءِ النِّصَابِ أَوْ أَقَلَّ مِنْهُ خِلَافٌ يَنْبَنِي عَلَى الْخِلَافِ الْمُتَقَدِّمِ فِي حَدِّ الْفَقْرِ الَّذِي يَجُوزُ مَعَهُ الْأَخْذُ. وَرَوَى عَلِيُّ بْنُ زِيَادٍ وَابْنُ نَافِعٍ: لَيْسَ فِي ذَلِكَ حَدٌّ وَإِنَّمَا هُوَ عَلَى اجْتِهَادِ الْوَالِي. وَقَدْ تَقِلُّ الْمَسَاكِينُ وَتَكْثُرُ الصَّدَقَةُ فَيُعْطَى الْفَقِيرُ قُوتَ سَنَةٍ. وَرَوَى الْمُغِيرَةُ: يُعْطَى دُونَ النِّصَابِ وَلَا يَبْلُغُهُ. وَقَالَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ: إِنْ كَانَ فِي الْبَلَدِ زَكَاتَانِ نَقْدٌ وَحَرْثٌ أَخَذَ مَا يُبَلِّغُهُ إِلَى الْأُخْرَى. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: الَّذِي أَرَاهُ أَنْ يُعْطَى نِصَابًا، وَإِنْ كَانَ فِي الْبَلَدِ زَكَاتَانِ أَوْ أَكْثَرُ، فَإِنَّ الْغَرَضَ إِغْنَاءُ الْفَقِيرِ حَتَّى يَصِيرَ غَنِيًّا. فَإِذَا أَخَذَ ذَلِكَ فَإِنْ حَضَرَتِ الزَّكَاةُ الْأُخْرَى وعنده ما يكفيه أخذ ها غَيْرُهُ. قُلْتُ: هَذَا مَذْهَبُ أَصْحَابِ الرَّأْيِ فِي إِعْطَاءِ النِّصَابِ. وَقَدْ كَرِهَ ذَلِكَ أَبُو حَنِيفَةَ مَعَ الْجَوَازِ، وَأَجَازَهُ أَبُو يُوسُفَ، قَالَ: لِأَنَّ بَعْضَهُ لِحَاجَتِهِ مَشْغُولٌ لِلْحَالِ، فَكَانَ الْفَاضِلُ عَنْ حَاجَتِهِ لِلْحَالِ دُونَ الْمِائَتَيْنِ، وَإِذَا أَعْطَاهُ أَكْثَرَ من مائتي در هم جُمْلَةً كَانَ الْفَاضِلُ عَنْ حَاجَتِهِ لِلْحَالِ قَدْرَ
المائتين فَلَا يَجُوزُ. وَمِنْ مُتَأَخِّرِي الْحَنَفِيَّةِ مَنْ قَالَ: هَذَا إِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ عِيَالٌ

(8/190)


وَلَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ، فَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ دين فلا بأس أن يعطيه مائتي در هم أَوْ أَكْثَرَ، مِقْدَارَ مَا لَوْ قَضَى بِهِ دَيْنَهُ يَبْقَى لَهُ دُونَ الْمِائَتَيْنِ. وَإِنْ كَانَ مُعِيلًا لَا بَأْسَ بِأَنْ يُعْطِيَهُ مِقْدَارَ مَا لَوْ وُزِّعَ عَلَى عِيَالِهِ أَصَابَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ دُونَ الْمِائَتَيْنِ، لِأَنَّ التَّصَدُّقَ عَلَيْهِ فِي الْمَعْنَى تَصَدُّقٌ عَلَيْهِ وَعَلَى عِيَالِهِ. وَهَذَا قَوْلٌ حَسَنٌ. الثَّامِنَةُ وَالْعِشْرُونَ- اعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: (لِلْفُقَراءِ) مُطْلَقٌ لَيْسَ فِيهِ شَرْطٌ وَتَقْيِيدٌ، بَلْ فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى جَوَازِ الصَّرْفِ إِلَى جُمْلَةِ الفقراء كانوا من بني هاشم أو غير هم إِلَّا أَنَّ السُّنَّةَ وَرَدَتْ بِاعْتِبَارِ شُرُوطٍ: مِنْهَا أَلَّا يَكُونُوا مِنْ بَنِي هَاشِمٍ وَأَلَّا يَكُونُوا مِمَّنْ تَلْزَمُ الْمُتَصَدِّقَ نَفَقَتُهُ. وَهَذَا لَا خِلَافَ فِيهِ. وَشَرْطٌ ثَالِثٌ أَلَّا يَكُونَ قَوِيًّا عَلَى الاكتاسب لأنه عيه السَّلَامُ قَالَ: (لَا تَحِلُّ الصَّدَقَةُ لِغَنِيٍّ وَلَا لِذِي مِرَّةٍ سَوِيٍّ). وَقَدْ تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِيهِ. وَلَا خِلَافَ بَيْنِ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ أَنَّ الصَّدَقَةَ الْمَفْرُوضَةَ لَا تَحِلُّ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا لِبَنِي هَاشِمٍ وَلَا لِمَوَالِيهِمْ. وَقَدْ روى عن أبي يوسف صَرْفِ صَدَقَةِ الْهَاشِمِيِّ لِلْهَاشِمِيِّ: حَكَاهُ الْكِيَا الطَّبَرِيُّ. وَشَذَّ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ فَقَالَ: إِنَّ مَوَالِيَ بني هاشم لا يحرم عليهم شي مِنَ الصَّدَقَاتِ. وَهَذَا خِلَافُ الثَّابِتِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّهُ قَالَ لِأَبِي رَافِعٍ مَوْلَاهُ: (وَإِنَّ مَوْلَى الْقَوْمِ مِنْهُمْ). التَّاسِعَةُ وَالْعِشْرُونَ- وَاخْتَلَفُوا فِي جَوَازِ صَدَقَةِ التَّطَوُّعِ لِبَنِي هَاشِمٍ، فَالَّذِي عَلَيْهِ جُمْهُورُ أَهْلِ الْعِلْمِ- وَهُوَ الصَّحِيحُ- أَنَّ صَدَقَةَ التَّطَوُّعِ لَا بَأْسَ بِهَا لِبَنِي هَاشِمٍ وَمَوَالِيهِمْ، لِأَنَّ عَلِيًّا وَالْعَبَّاسَ وَفَاطِمَةَ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ تَصَدَّقُوا وَأَوْقَفُوا أَوْقَافًا عَلَى جماعة من بني هاشم، وصدقا تهم الْمَوْقُوفَةُ مَعْرُوفَةٌ مَشْهُورَةٌ. وَقَالَ ابْنُ الْمَاجِشُونَ وَمُطَرِّفٌ وَأَصْبَغُ وَابْنُ حَبِيبٍ: لَا يُعْطَى بَنُو هَاشِمٍ مِنَ الصَّدَقَةِ الْمَفْرُوضَةِ وَلَا مِنَ التَّطَوُّعِ. وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: يُعْطَى بَنُو هَاشِمٍ مِنْ صَدَقَةِ التَّطَوُّعِ. قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: وَالْحَدِيثُ الَّذِي جَاءَ [عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «1»]: (لَا تَحِلُّ الصَّدَقَةُ لِآلِ مُحَمَّدٍ) إِنَّمَا ذَلِكَ فِي الزَّكَاةِ لَا فِي التَّطَوُّعِ. وَاخْتَارَ هَذَا الْقَوْلَ ابن خويز منداد، وَبِهِ قَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ. قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: وَيُعْطَى مَوَالِيهِمْ مِنَ الصَّدَقَتَيْنِ. وَقَالَ مَالِكٌ فِي الْوَاضِحَةِ: لَا يُعْطَى لِآلِ مُحَمَّدٍ مِنَ التَّطَوُّعِ. قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ:- قِيلَ لَهُ يَعْنِي مالكا-
__________
(1). من ج وز.

(8/191)