تفسير القرطبي الر تِلْكَ آيَاتُ
الْكِتَابِ الْمُبِينِ (1)
سورة يوسف عليه السلام
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ سُورَةُ يُوسُفَ
عَلَيْهِ السَّلَامُ وَهِيَ مَكِّيَّةٌ كُلُّهَا. وَقَالَ
ابْنُ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةُ: إِلَّا أَرْبَعَ آيَاتٍ مِنْهَا.
وَرُوِيَ أَنَّ الْيَهُودَ سَأَلُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ قِصَّةِ يُوسُفَ فنزلت
السورة، وسيأتي. وقال سعد ابن أَبِي وَقَّاصٍ: أُنْزِلَ
الْقُرْآنَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فَتَلَاهُ عَلَيْهِمْ زَمَانًا فَقَالُوا: لَوْ
قَصَصْتَ عَلَيْنَا، فَنَزَلَ:" نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ"
[يوسف: 3] فَتَلَاهُ عَلَيْهِمْ زَمَانًا فَقَالُوا: لَوْ
حَدَّثْتَنَا، فَأَنْزَلَ:" اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ
الْحَدِيثِ" «1» [الزمر: 23]. قَالَ الْعُلَمَاءُ: وَذَكَرَ
اللَّهُ أَقَاصِيصَ الْأَنْبِيَاءِ فِي الْقُرْآنِ
وَكَرَّرَهَا بِمَعْنًى وَاحِدٍ فِي وُجُوهٍ مُخْتَلِفَةٍ،
بِأَلْفَاظٍ مُتَبَايِنَةٍ عَلَى دَرَجَاتِ الْبَلَاغَةِ،
وَقَدْ ذَكَرَ قِصَّةَ يُوسُفَ وَلَمْ يُكَرِّرْهَا، فَلَمْ
يَقْدِرْ مُخَالِفٌ عَلَى مُعَارَضَةِ مَا تَكَرَّرَ، وَلَا
عَلَى مُعَارَضَةِ غير المتكرر، والإعجاز لمن تأمل.
[سورة يوسف (12): آية 1]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ (1)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (الر) «2» تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِيهِ،
وَالتَّقْدِيرُ هُنَا: تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ، عَلَى
الِابْتِدَاءِ وَالْخَبَرِ. وَقِيلَ:" الر" اسْمُ السُّورَةِ،
أَيْ هَذِهِ السُّورَةُ الْمُسَمَّاةُ" الر" (تِلْكَ آياتُ
الْكِتابِ الْمُبِينِ) يَعْنِي [بِالْكِتَابِ «3» الْمُبِينِ]
الْقُرْآنَ الْمُبِينَ، أَيِ الْمُبِينُ حَلَالَهُ
وَحَرَامَهُ، وَحُدُودَهُ وَأَحْكَامَهُ وَهُدَاهُ
وَبَرَكَتَهُ. وَقِيلَ: أَيْ هَذِهِ تِلْكَ الْآيَاتُ الَّتِي
كُنْتُمْ توعدون بها في التوراة.
[سورة يوسف (12): آية 2]
إِنَّا أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ
تَعْقِلُونَ (2)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (إِنَّا أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا)
يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى: إِنَّا أَنْزَلْنَا
الْقُرْآنَ عَرَبِيًّا، نَصَبَ" قُرْآناً" عَلَى الْحَالِ،
أَيْ مَجْمُوعًا. وَ" عَرَبِيًّا" نَعْتٌ لِقَوْلِهِ"
قُرْآناً". وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ تَوْطِئَةً لِلْحَالِ،
كَمَا تَقُولُ: مَرَرْتُ بِزَيْدٍ رَجُلًا صَالِحًا، و"
عَرَبِيًّا" على الحال،
__________
(1). راجع ج 15 ص 248.
(2). راجع ج 1 ص 154 فما بعد.
(3). من ع.
(9/118)
نَحْنُ نَقُصُّ
عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا
الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ
(3)
أَيْ يَقْرَأُ بِلُغَتِكُمْ يَا مَعْشَرَ
الْعَرَبِ. أَعْرَبَ بَيَّنَ، وَمِنْهُ الثَّيِّبُ تُعْرِبُ
عَنْ نَفْسِهَا. (لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) أَيْ لِكَيْ
تَعْلَمُوا مَعَانِيَهُ، وَتَفْهَمُوا مَا فِيهِ. وَبَعْضُ
الْعَرَبِ يَأْتِي بِأَنْ مَعَ" لَعَلَّ" تَشْبِيهًا بِعَسَى.
وَاللَّامُ فِي" لَعَلَّ" زَائِدَةٌ لِلتَّوْكِيدِ، كَمَا
قَالَ الشَّاعِرُ «1»:
يَا أَبَتَا عَلَّكَ أَوْ عَسَاكَا
وَقِيلَ:" لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ" أَيْ لِتَكُونُوا عَلَى
رَجَاءٍ مِنْ تَدَبُّرِهِ، فَيَعُودُ مَعْنَى الشَّكِّ
إِلَيْهِمْ لَا إِلَى الْكِتَابِ، وَلَا إِلَى اللَّهِ عَزَّ
وَجَلَّ. وَقِيلَ: مَعْنَى" أَنْزَلْناهُ" أَيْ أَنْزَلْنَا
خَبَرَ يُوسُفَ، قَالَ النَّحَّاسُ: وَهَذَا أَشْبَهُ
بِالْمَعْنَى، لِأَنَّهُ يُرْوَى أَنَّ الْيَهُودَ قَالُوا:
سَلُوهُ لِمَ انْتَقَلَ آلُ يَعْقُوبَ مِنَ الشَّامِ إِلَى
مِصْرَ؟ وَعَنْ خَبَرِ يُوسُفَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ
وَجَلَّ هَذَا بِمَكَّةَ مُوَافِقًا لِمَا فِي التَّوْرَاةِ،
وَفِيهِ زِيَادَةٌ لَيْسَتْ عِنْدَهُمْ. فَكَانَ هَذَا
لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِذْ
أَخْبَرَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ يَقْرَأُ كِتَابًا [قَطُّ] «2»
وَلَا هُوَ فِي مَوْضِعِ كِتَابٍ- بِمَنْزِلَةِ إِحْيَاءِ
عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ الْمَيِّتَ عَلَى ما يأتي فيه.
[سورة يوسف (12): آية 3]
نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِما أَوْحَيْنا
إِلَيْكَ هذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ
الْغافِلِينَ (3)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ) ابْتِدَاءٌ
وَخَبَرُهُ. (أَحْسَنَ الْقَصَصِ) بِمَعْنَى الْمَصْدَرِ،
وَالتَّقْدِيرُ: قَصَصْنَا أَحْسَنَ الْقَصَصِ. وَأَصْلُ
الْقَصَصِ تَتَبُّعُ الشَّيْءِ، ومنه قول تعالى:" وَقالَتْ
لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ" «3» [القصص: 11] أَيْ تَتَبَّعِي
أَثَرَهُ، فَالْقَاصُّ يَتْبَعُ الْآثَارَ فَيُخْبِرُ بِهَا.
وَالْحُسْنُ يَعُودُ إِلَى الْقَصَصِ لَا إِلَى الْقِصَّةِ.
يُقَالُ: فُلَانٌ حَسَنُ الِاقْتِصَاصِ لِلْحَدِيثِ أَيْ
جَيِّدُ السِّيَاقَةِ لَهُ. وَقِيلَ: الْقَصَصُ لَيْسَ
مَصْدَرًا، بَلْ هُوَ فِي مَعْنَى الِاسْمِ، كَمَا يُقَالُ:
اللَّهُ رَجَاؤُنَا، أَيْ مَرْجُوُّنَا فَالْمَعْنَى عَلَى
هَذَا: نَحْنُ نُخْبِرُكَ بِأَحْسَنِ الْأَخْبَارِ. (بِما
أَوْحَيْنا إِلَيْكَ) أي بوحينا ف" بِما" مَعَ الْفِعْلِ
بِمَنْزِلَةِ الْمَصْدَرِ. (هذَا الْقُرْآنَ) نُصِبَ
الْقُرْآنُ عَلَى أَنَّهُ نَعْتٌ لِهَذَا، أَوْ بَدَلٌ مِنْهُ،
أَوْ عَطْفُ بَيَانٍ. وَأَجَازَ الْفَرَّاءُ الْخَفْضَ، قَالَ:
عَلَى التَّكْرِيرِ، وَهُوَ عِنْدَ الْبَصْرِيِّينَ عَلَى
البدل من" ما".
__________
(1). الرجز للعجاج، وصدر البيت:
تقول بنتي قد أنى أناكا
(2). من ع.
(3). راجع ج 13 ص 254.
(9/119)
إِذْ قَالَ يُوسُفُ
لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا
وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ (4)
وَأَجَازَ أَبُو إِسْحَاقَ الرَّفْعَ عَلَى
إِضْمَارِ مُبْتَدَأٍ، كَأَنَّ سَائِلًا سَأَلَهُ عَنِ
الْوَحْيِ فَقِيلَ لَهُ: هُوَ [هَذَا] «1» الْقُرْآنُ. (وَإِنْ
كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغافِلِينَ) أَيْ مِنَ
الْغَافِلِينَ عَمَّا عَرَّفْنَاكَهُ «2». مَسْأَلَةٌ:-
وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ لِمَ سُمِّيَتْ هَذِهِ السُّورَةُ
أَحْسَنَ الْقَصَصِ مِنْ بَيْنِ سَائِرِ الْأَقَاصِيصِ؟
فَقِيلَ: لِأَنَّهُ لَيْسَتْ قِصَّةٌ فِي الْقُرْآنِ
تَتَضَمَّنُ مِنَ الْعِبَرِ وَالْحِكَمِ مَا تَتَضَمَّنُ
هَذِهِ الْقِصَّةُ، وَبَيَانُهُ قَوْلُهُ فِي آخِرِهَا:"
لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبابِ"
«3» [يوسف: 111]. وَقِيلَ: سَمَّاهَا أَحْسَنَ الْقَصَصِ
لِحُسْنِ مُجَاوَزَةِ يُوسُفَ عَنْ إِخْوَتِهِ، وَصَبْرِهِ
عَلَى أَذَاهُمْ، وَعَفْوِهِ عَنْهُمْ- بَعْدَ الِالْتِقَاءِ
بِهِمْ- عَنْ ذِكْرِ مَا تَعَاطَوْهُ، وَكَرَمِهِ فِي
الْعَفْوِ عَنْهُمْ، حَتَّى قَالَ:" لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ
الْيَوْمَ" «4» [يوسف: 92]. وَقِيلَ: لِأَنَّ فِيهَا ذِكْرَ
الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَالْمَلَائِكَةِ
وَالشَّيَاطِينِ، وَالْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالْأَنْعَامِ
وَالطَّيْرِ، وَسِيَرِ الْمُلُوكِ وَالْمَمَالِكِ،
وَالتُّجَّارِ وَالْعُلَمَاءِ وَالْجُهَّالِ، وَالرِّجَالِ
وَالنِّسَاءِ وَحِيَلِهِنَّ وَمَكْرِهِنَّ، وَفِيهَا ذِكْرُ
التَّوْحِيدِ وَالْفِقْهِ وَالسِّيَرِ وَتَعْبِيرُ الرُّؤْيَا،
وَالسِّيَاسَةُ وَالْمُعَاشَرَةُ وَتَدْبِيرُ الْمَعَاشِ،
وَجُمَلُ الْفَوَائِدِ الَّتِي تَصْلُحُ لِلدِّينِ
وَالدُّنْيَا. وَقِيلَ لِأَنَّ فِيهَا ذِكْرَ الْحَبِيبِ
وَالْمَحْبُوبِ وَسِيَرِهِمَا. وَقِيلَ:" أَحْسَنَ" هُنَا
بِمَعْنَى أَعْجَبَ. وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْمَعَانِي:
إِنَّمَا كَانَتْ أَحْسَنَ الْقَصَصِ لِأَنَّ كُلَّ مَنْ
ذُكِرَ فِيهَا كَانَ مَآلُهُ السَّعَادَةَ، انْظُرْ إِلَى
يُوسُفَ وَأَبِيهِ وَإِخْوَتِهِ، وَامْرَأَةِ الْعَزِيزِ،
قِيلَ: وَالْمَلِكُ أَيْضًا أَسْلَمَ بِيُوسُفَ وَحَسُنَ
إِسْلَامُهُ، وَمُسْتَعْبِرُ الرُّؤْيَا السَّاقِي،
وَالشَّاهِدُ فِيمَا يُقَالُ: فَمَا كَانَ أَمْرُ الْجَمِيعِ
إلا إلى خير.
[سورة يوسف (12): آية 4]
إِذْ قالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ
أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ
لِي ساجِدِينَ (4)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (إِذْ قالَ يُوسُفُ) " إِذْ" فِي مَوْضِعِ
نَصْبٍ عَلَى الظَّرْفِ، أَيِ اذْكُرْ لَهُمْ حِينَ قَالَ
يُوسُفُ. وَقِرَاءَةُ الْعَامَّةِ بِضَمِّ السِّينِ. وَقَرَأَ
طَلْحَةُ بْنُ مُصَرِّفٍ" يُؤْسِفُ" بالهمز وَكَسْرِ السِّينِ.
وَحَكَى أَبُو زَيْدٍ:" يُؤْسَفُ" بِالْهَمْزَةِ وَفَتْحِ
السِّينِ. وَلَمْ يَنْصَرِفْ لِأَنَّهُ أَعْجَمِيٌّ، وَقِيلَ:
هو عربي. وسيل أَبُو الْحَسَنِ الْأَقْطَعُ- وَكَانَ حَكِيمًا-
عَنْ" يُوسُفَ" فقال: الأسف في اللغة
__________
(1). من ع وى.
(2). من ع وى.
(3). راجع ص 277 وص 255 من هذا الجزء.
(4). راجع ص 277 وص 255 من هذا الجزء.
(9/120)
الْحُزْنُ، وَالْأَسِيفُ الْعَبْدُ، وَقَدِ
اجْتَمَعَا فِي يُوسُفَ، فَلِذَلِكَ سُمِّيَ يُوسُفَ.
(لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ) بِكَسْرِ التَّاءِ قِرَاءَةُ أَبِي
عَمْرٍو وَعَاصِمٍ وَنَافِعٍ وَحَمْزَةَ وَالْكِسَائِيِّ،
وَهِيَ عِنْدَ الْبَصْرِيِّينَ عَلَامَةُ التَّأْنِيثِ
أُدْخِلَتْ عَلَى الْأَبِ فِي النِّدَاءِ خَاصَّةً بَدَلًا
مِنْ يَاءِ الْإِضَافَةِ، وَقَدْ تَدْخُلُ عَلَامَةُ
التَّأْنِيثِ عَلَى الْمُذَكَّرِ فَيُقَالُ: رَجُلٌ نُكَحَةٌ
وَهُزَأَةٌ، قَالَ النَّحَّاسُ: إِذَا قُلْتَ" يَا أَبَتِ"
بِكَسْرِ التَّاءِ فَالتَّاءُ عِنْدَ سِيبَوَيْهِ بَدَلٌ مِنْ
يَاءِ الْإِضَافَةِ، وَلَا يَجُوزُ عَلَى قَوْلِهِ الْوَقْفُ
إِلَّا بِالْهَاءِ، وَلَهُ عَلَى قَوْلِهِ دَلَائِلُ: مِنْهَا-
أَنَّ قَوْلَكَ:" يَا أَبَهْ" يُؤَدِّي عَنْ مَعْنَى" يَا
أَبِي"، وَأَنَّهُ لَا يُقَالُ:" يَا أَبَتِ" إِلَّا فِي
الْمَعْرِفَةِ، وَلَا يُقَالُ: جَاءَنِي أَبَتِ، وَلَا
تَسْتَعْمِلُ الْعَرَبُ هَذَا إِلَّا فِي النِّدَاءِ خَاصَّةً،
وَلَا يُقَالُ:" يَا أَبَتِي" لِأَنَّ التَّاءَ بَدَلٌ مِنَ
الْيَاءِ فَلَا يُجْمَعُ بَيْنَهُمَا. وَزَعَمَ الْفَرَّاءُ
أَنَّهُ إِذَا قَالَ:" يَا أَبَتِ" فَكَسَرَ دَلَّ عَلَى
الْيَاءِ لَا غَيْرَ، لِأَنَّ الْيَاءَ فِي النِّيَّةِ.
وَزَعَمَ أَبُو إِسْحَاقَ أَنَّ هَذَا خَطَأٌ، وَالْحَقُّ مَا
قَالَ، كَيْفَ تَكُونُ الْيَاءُ فِي النِّيَّةِ وَلَيْسَ
يُقَالُ:" يَا أَبَتِي"؟ وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ
وَالْأَعْرَجُ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَامِرٍ" يَا أَبَتَ"
بِفَتْحِ التَّاءِ، قَالَ الْبَصْرِيُّونَ: أَرَادُوا" يَا
أَبَتِي" بِالْيَاءِ، ثُمَّ أُبْدِلَتِ الْيَاءُ أَلِفًا
فَصَارَتْ" يَا أَبَتَا" فَحُذِفَتِ الْأَلِفُ وَبَقِيَتِ
الْفَتْحَةُ عَلَى التَّاءِ. وَقِيلَ: الْأَصْلُ الْكَسْرُ،
ثُمَّ أُبْدِلَ مِنَ الْكِسْرَةِ فَتْحَةٌ، كَمَا يُبْدَلُ
مِنَ الْيَاءِ أَلِفٌ فَيُقَالُ: يَا غُلَامًا أَقْبِلْ.
وَأَجَازَ الْفَرَّاءُ" يَا أَبَتُ" بِضَمِّ التَّاءِ. (إِنِّي
رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً) لَيْسَ بَيْنَ
النَّحْوِيِّينَ اخْتِلَافٌ أَنَّهُ يُقَالُ: جَاءَنِي أَحَدَ
عَشَرَ، وَرَأَيْتُ وَمَرَرْتُ بِأَحَدَ عَشَرَ، وَكَذَلِكَ
ثَلَاثَةَ عَشَرَ وَتِسْعَةَ عَشَرَ وَمَا بَيْنَهُمَا،
جَعَلُوا الِاسْمَيْنِ اسْمًا وَاحِدًا وَأَعْرَبُوهُمَا
بِأَخَفِّ الْحَرَكَاتِ. قَالَ السُّهَيْلِيُّ: أَسْمَاءُ
هَذِهِ الْكَوَاكِبِ جَاءَ ذِكْرُهَا مُسْنَدًا، رَوَاهُ
الْحَارِثُ بْنُ أَبِي أُسَامَةَ قَالَ: جَاءَ بُسْتَانَةُ-
وَهُوَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ- فَسَأَلَ النَّبِيَّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الْأَحَدَ عَشَرَ
كَوْكَبًا الَّذِي رَأَى يُوسُفُ فَقَالَ:" الْحَرْثَانِ «1»
وَالطَّارِقُ وَالذَّيَّالُ وَقَابِسٌ وَالْمُصْبِحُ «2»
وَالضَّرُوحُ «3» وَذُو الْكَنَفَاتِ وَذُو الْقَرْعِ
وَالْفَلِيقُ وَوَثَّابٌ وَالْعَمُودَانِ، رَآهَا يُوسُفُ
عَلَيْهِ السَّلَامُ تَسْجُدُ لَهُ". قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ
وَقَتَادَةُ: الْكَوَاكِبُ إِخْوَتُهُ، وَالشَّمْسُ أُمُّهُ،
وَالْقَمَرُ أَبُوهُ. وَقَالَ قَتَادَةُ أَيْضًا: الشَّمْسُ
خَالَتُهُ، لِأَنَّ أُمَّهُ كَانَتْ قد ماتت، وكانت خالته تحت
__________
(1). في حاشية الجمل: جريان- بفتح الجيم وكسر الراء وتشديد
التحتية منقول من اسم طوق القميص. وقابس مقتبس النار وعمودان
تثنية عمود والفليق نجم منفرد والمصبح ما يطلع قبل الفجر
والفرع بفاء وراء مهملة ساكنة وعين: نجم عند الدلو. ووثاب
بتشديد المثلة سريع الحركة وذو الكتفين تثنية كتف نجم كبير.
وهذه نجوم غير مرصودة.
(2). كذا في" عقد الجمان" للعينى، وفى الأصل" النطح". [ .....
]
(3). وفى الجمل" الصروخ".
(9/121)
قَالَ يَا بُنَيَّ لَا
تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا
إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ (5)
أَبِيهِ. (رَأَيْتُهُمْ) تَوْكِيدٌ.
وَقَالَ:" رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ" فَجَاءَ مُذَكَّرًا،
فَالْقَوْلُ عِنْدَ الْخَلِيلِ وَسِيبَوَيْهِ أَنَّهُ لما أخبر
عن هذه الأشياء بالطاعة السجود وهما من أفعال من يعقل أخبر
عنهما كَمَا يُخْبِرُ عَمَّنْ يَعْقِلُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ
هَذَا الْمَعْنَى فِي قَوْلِهِ:" وَتَراهُمْ يَنْظُرُونَ
إِلَيْكَ «1» ". وَالْعَرَبُ تجمع مالا يعقل جمع من يعقل إذا
أنزلوه منزله، وإن كان خارجا عن الأصل.
[سورة يوسف (12): آية 5]
قالَ يَا بُنَيَّ لَا تَقْصُصْ رُؤْياكَ عَلى إِخْوَتِكَ
فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْداً إِنَّ الشَّيْطانَ لِلْإِنْسانِ
عَدُوٌّ مُبِينٌ (5)
وفيه إحدى عشرة مسألة: الأولى قوله تعالى: (فَيَكِيدُوا لَكَ
كَيْداً) أي يحتالون فِي هَلَاكِكَ، لِأَنَّ تَأْوِيلَهَا
ظَاهِرٌ، فَرُبَّمَا يَحْمِلُهُمُ الشَّيْطَانُ عَلَى قَصْدِكَ
بِسُوءٍ حِينَئِذٍ. وَاللَّامُ فِي" لَكَ" تأكيد، كقوله:" إِنْ
كُنْتُمْ لِلرُّءْيا تَعْبُرُونَ". الثَّانِيَةُ- الرُّؤْيَا
حَالَةٌ شَرِيفَةٌ، وَمَنْزِلَةٌ رَفِيعَةٌ، قَالَ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" لَمْ يَبْقَ بَعْدِي مِنَ
الْمُبَشِّرَاتِ إِلَّا الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ الصَّادِقَةُ
يَرَاهَا الرَّجُلُ الصَّالِحُ أَوْ تُرَى لَهُ". وَقَالَ:
أَصْدَقُكُمْ رُؤْيَا أَصْدَقُكُمْ حَدِيثًا". وَحَكَمَ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنَّهَا جُزْءٌ مِنْ سِتَّةٍ
وَأَرْبَعِينَ جُزْءًا مِنَ النُّبُوَّةِ، وَرُوِيَ" مِنْ
سَبْعِينَ جُزْءًا مِنَ النُّبُوَّةِ". وَرُوِيَ مِنْ حَدِيثِ
ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا" جُزْءًا مِنْ
أَرْبَعِينَ جُزْءًا مِنَ النُّبُوَّةِ". وَمِنْ حَدِيثِ ابْنِ
عُمَرَ" جُزْءٌ مِنْ تِسْعَةٍ وَأَرْبَعِينَ جُزْءًا". وَمِنْ
حَدِيثِ الْعَبَّاسِ" جُزْءٌ مِنْ خَمْسِينَ جُزْءًا مِنَ
النُّبُوَّةِ". وَمِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ" مِنْ سِتَّةٍ
وَعِشْرِينَ" وَعَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ" مِنْ
أَرْبَعَةٍ وَأَرْبَعِينَ مِنَ النُّبُوَّةِ". وَالصَّحِيحُ
مِنْهَا حَدِيثُ السِّتَّةِ وَالْأَرْبَعِينَ، وَيَتْلُوهُ فِي
الصِّحَّةِ حَدِيثُ السَّبْعِينَ، وَلَمْ يُخَرِّجْ مُسْلِمٌ
فِي صَحِيحِهِ غَيْرَ هَذَيْنَ الْحَدِيثَيْنِ، أَمَّا
سَائِرُهَا فَمِنْ أَحَادِيثِ الشُّيُوخِ، قَالَهُ ابْنُ
بَطَّالٍ. قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْمَازِرِيُّ:
وَالْأَكْثَرُ وَالْأَصَحُّ عِنْدَ أَهْلِ الْحَدِيثِ" مِنْ
سِتَّةٍ وَأَرْبَعِينَ". قَالَ الطَّبَرِيُّ: وَالصَّوَابُ أن
__________
(1). راجع ج 7 ص 344.
(9/122)
يُقَالَ إِنَّ عَامَّةَ هَذِهِ
الْأَحَادِيثِ أَوْ أَكْثَرَهَا صِحَاحٌ، وَلِكُلِّ حَدِيثٍ
مِنْهَا مَخْرَجٌ مَعْقُولٌ، فَأَمَّا قَوْلُهُ:" إِنَّهَا
جُزْءٌ مِنْ سَبْعِينَ جُزْءًا مِنَ النُّبُوَّةِ" فَإِنَّ
ذَلِكَ قَوْلٌ عَامٌّ فِي كُلِّ رُؤْيَا صَالِحَةٍ صَادِقَةٍ،
وَلِكُلِّ مُسْلِمٍ رَآهَا فِي مَنَامِهِ عَلَى أَيِّ
أَحْوَالِهِ كَانَ، وَأَمَّا قَوْلُهُ:" إنها من أربعين- أوستة
وَأَرْبَعِينَ" فَإِنَّهُ يُرِيدُ بِذَلِكَ مَنْ كَانَ
صَاحِبُهَا بِالْحَالِ الَّتِي ذَكَرْتُ عَنِ الصِّدِّيقِ-
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- أَنَّهُ كَانَ بِهَا، فَمَنْ كَانَ
مِنْ أَهْلِ إِسْبَاغِ الْوُضُوءِ فِي السَّبَرَاتِ «1»،
وَالصَّبْرِ فِي اللَّهِ عَلَى الْمَكْرُوهَاتِ، وَانْتِظَارِ
الصَّلَاةِ بَعْدَ الصَّلَاةِ، فرؤياه صالحة- إِنْ شَاءَ
اللَّهُ- جُزْءٌ مِنْ أَرْبَعِينَ جُزْءًا مِنَ النُّبُوَّةِ،
وَمَنْ كَانَتْ حَالُهُ فِي ذَاتِهِ بين ذلك فرؤياه الصادقة
بين جزءين، ما بين الأربعين إلى الستين، ولا تَنْقُصُ عَنْ
سَبْعِينَ، وَتَزِيدُ عَلَى الْأَرْبَعِينَ، وَإِلَى هذا
المعنى أشار أبو عمر ابن عَبْدِ الْبَرِّ فَقَالَ: اخْتِلَافُ
الْآثَارِ فِي هَذَا الْبَابِ فِي عَدَدِ أَجْزَاءِ الرُّؤْيَا
لَيْسَ ذَلِكَ عندي اختلاف متضاد متدافع- وَاللَّهُ أَعْلَمُ-
لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ الرُّؤْيَا الصَّالِحَةَ
مِنْ بَعْضِ مَنْ يَرَاهَا عَلَى حَسَبِ مَا يَكُونُ مِنْ
صِدْقِ الْحَدِيثِ، وَأَدَاءِ الْأَمَانَةِ، وَالدِّينِ
الْمَتِينِ، وَحُسْنِ الْيَقِينِ، فَعَلَى قَدْرِ اخْتِلَافِ
الناس فيما وصفناه تَكُونُ الرُّؤْيَا مِنْهُمْ عَلَى
الْأَجْزَاءِ الْمُخْتَلِفَةِ الْعَدَدِ، فَمَنْ خَلَصَتْ
نِيَّتُهُ فِي عِبَادَةِ رَبِّهِ وَيَقِينُهُ وَصَدَقَ
حَدِيثُهُ، كَانَتْ رُؤْيَاهُ أَصْدَقَ، وَإِلَى النُّبُوَّةِ
أَقْرَبَ: كَمَا أَنَّ الْأَنْبِيَاءُ يَتَفَاضَلُونَ، قَالَ
اللَّهُ تَعَالَى:" وَلَقَدْ فَضَّلْنا بَعْضَ النَّبِيِّينَ
عَلى بَعْضٍ «2» ". قُلْتُ: فَهَذَا التَّأْوِيلُ يَجْمَعُ
شَتَاتَ الْأَحَادِيثِ، وَهُوَ أولى من تفسير بعضها دون البعض
وَطَرْحِهِ، ذَكَرَهُ أَبُو سَعِيدٍ الْأَسْفَاقُسِيُّ «3»
عَنْ بَعْضِ أَهْلِ الْعِلْمِ قَالَ: مَعْنَى قَوْلِهِ:"
جُزْءٌ مِنْ سِتَّةٍ وَأَرْبَعِينَ جُزْءًا مِنَ النُّبُوَّةِ"
فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَوْحَى إِلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي النُّبُوَّةِ ثَلَاثَةً
وَعِشْرِينَ عَامًا- فِيمَا رَوَاهُ عِكْرِمَةُ وَعَمْرُو بْنُ
دِينَارٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى
عَنْهُمَا- فَإِذَا نَسَبْنَا سِتَّةَ أَشْهُرٍ مِنْ ثَلَاثَةٍ
وَعِشْرِينَ عَامًا وَجَدْنَا ذَلِكَ جُزْءًا مِنْ سِتَّةٍ
وَأَرْبَعِينَ جُزْءًا، وَإِلَى هَذَا الْقَوْلِ أَشَارَ
الْمَازِرِيُّ فِي كِتَابِهِ" الْمُعَلِّمِ" وَاخْتَارَهُ
الْقُونَوِيُّ «4» فِي تَفْسِيرِهِ مِنْ سُورَةِ" يُونُسَ" عند
قوله تعالى:"هُمُ الْبُشْرى فِي الْحَياةِ الدُّنْيا
" «5». وَهُوَ فَاسِدٌ مِنْ وجهين:
__________
(1). السبرات (جمع سبرة) بسكون الباء: شدة البرد.
(2). راجع ج 10 ص 278.
(3). كذا في الأصول وصوابه: الصفاقسى.
(4). في ع: الغزنوي.
(5). راجع ج 8 ص 458.
(9/123)
أَحَدُهُمَا- مَا رَوَاهُ أَبُو سَلَمَةَ
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَعَائِشَةَ بِأَنَّ مُدَّةَ الْوَحْيِ
كَانَتْ عِشْرِينَ سَنَةٍ، وَأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ عَلِيَّ رَأْسِ أَرْبَعِينَ،
فَأَقَامَ بِمَكَّةَ عَشْرَ سِنِينَ، وَهُوَ قَوْلُ عُرْوَةَ
وَالشَّعْبِيِّ وَابْنِ شِهَابٍ والحسن وعطاء والخراساني
وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ عَلَى اخْتِلَافٍ عَنْهُ، وَهِيَ
رِوَايَةُ رَبِيعَةَ وَأَبِي غَالِبٍ عَنْ أَنَسٍ، وَإِذَا
ثَبَتَ هَذَا الْحَدِيثُ «1» بَطَلَ ذَلِكَ التَّأْوِيلُ-
الثَّانِي: أَنَّ سَائِرَ الْأَحَادِيثِ فِي الْأَجْزَاءِ
الْمُخْتَلِفَةِ تَبْقَى بِغَيْرِ مَعْنًى. الثَّالِثَةُ-
إِنَّمَا كَانَتْ الرُّؤْيَا جُزْءًا مِنَ النُّبُوَّةِ،
لِأَنَّ فِيهَا مَا يُعْجِزُ وَيَمْتَنِعُ كالطيران، وقلب
الأعيان، والاطلاع على شي مِنْ عِلْمِ الْغَيْبِ، كَمَا قَالَ
عَلَيْهِ السَّلَامُ:" إِنَّهُ لَمْ يَبْقَ مِنْ مُبَشِّرَاتِ
النُّبُوَّةِ إِلَّا الرُّؤْيَا الصَّادِقَةُ فِي النَّوْمِ"
الْحَدِيثَ. وَعَلَى الْجُمْلَةِ فَإِنَّ الرُّؤْيَا
الصَّادِقَةَ مِنَ اللَّهِ، وَإِنَّهَا مِنَ النُّبُوَّةِ،
قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" الرُّؤْيَا مِنَ
اللَّهِ وَالْحُلْمُ مِنَ الشَّيْطَانِ" وَأَنَّ التَّصْدِيقَ
بِهَا حَقَّ، وَلَهَا التَّأْوِيلُ الْحَسَنُ، وَرُبَّمَا
أَغْنَى بَعْضُهَا عَنِ التَّأْوِيلِ، وَفِيهَا مِنْ بَدِيعِ
اللَّهِ وَلُطْفِهِ مَا يَزِيدُ الْمُؤْمِنَ فِي إِيمَانِهِ،
وَلَا خِلَافَ فِي هَذَا بَيْنَ أَهْلِ الدِّينِ وَالْحَقِّ
مِنْ أَهْلِ الرَّأْيِ وَالْأَثَرِ، وَلَا يُنْكِرُ الرُّؤْيَا
إلا أهل الإلحاد وشر ذمة مِنَ الْمُعْتَزِلَةِ. الرَّابِعَةُ-
إِنْ قِيلَ: إِذَا كَانَتِ الرُّؤْيَا الصَّادِقَةُ جُزْءًا
مِنَ النُّبُوَّةِ فَكَيْفَ يَكُونُ الْكَافِرُ وَالْكَاذِبُ
وَالْمُخَلِّطُ أَهْلًا لَهَا؟ وَقَدْ وَقَعَتْ مِنْ بَعْضِ
الْكُفَّارِ وَغَيْرِهِمْ مِمَّنْ لَا يُرْضَى دِينُهُ
مَنَامَاتٌ صَحِيحَةٌ صَادِقَةٌ، كَمَنَامِ رُؤْيَا الْمَلِكِ
الَّذِي رَأَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ، وَمَنَامِ الْفَتَيَيْنِ فِي
السجن، ورؤيا بخت نصر، الَّتِي فَسَّرَهَا دَانْيَالُ فِي
ذَهَابِ مُلْكِهِ، وَرُؤْيَا كِسْرَى فِي ظُهُورِ النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمَنَامِ عَاتِكَةَ،
عَمَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فِي أَمْرِهِ وَهِيَ كَافِرَةٌ، وَقَدْ تَرْجَمَ
الْبُخَارِيُّ" بَابَ رُؤْيَا أَهْلِ السِّجْنِ"- فَالْجَوَابُ
أَنَّ الْكَافِرَ وَالْفَاجِرَ وَالْفَاسِقَ وَالْكَاذِبَ
وَإِنْ صَدَقَتْ رُؤْيَاهُمْ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ لَا
تَكُونُ مِنَ الْوَحْيِ وَلَا مِنَ النُّبُوَّةِ، إِذْ لَيْسَ
كل من صدق في حديثه عَنْ غَيْبٍ يَكُونُ خَبَرُهُ ذَلِكَ
نُبُوَّةً، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي" الْأَنْعَامِ" «2» أَنَّ
الْكَاهِنَ وَغَيْرُهُ قَدْ يُخْبِرُ بِكَلِمَةِ الْحَقِّ
فَيَصْدُقُ، لَكِنَّ ذَلِكَ عَلَى النُّدُورِ وَالْقِلَّةِ،
فَكَذَلِكَ رُؤْيَا هَؤُلَاءِ، قَالَ الْمُهَلَّبُ: إنما ترجم
البخاري
__________
(1). في ع وى: هذا الخلاف.
(2). راجع ج 7 ص 3 فما بعدها.
(9/124)
بِهَذَا لِجَوَازِ أَنْ تَكُونَ رُؤْيَا
أَهْلِ الشِّرْكِ رُؤْيَا صَادِقَةً، كَمَا كَانَتْ رُؤْيَا
الْفَتَيَيْنِ صَادِقَةً، إِلَّا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ
تُضَافَ إِلَى النُّبُوَّةِ إِضَافَةَ رُؤْيَا الْمُؤْمِنِ
إِلَيْهَا، إِذْ لَيْسَ كُلُّ مَا يَصِحُّ لَهُ تَأْوِيلٌ مِنَ
الرُّؤْيَا حَقِيقَةً يَكُونُ جُزْءًا مِنَ النُّبُوَّةِ.
الْخَامِسَةُ- الرُّؤْيَا المضافة إلى الله تعالى الَّتِي
خَلَصَتْ مِنَ الْأَضْغَاثِ وَالْأَوْهَامِ، وَكَانَ
تَأْوِيلُهَا مُوَافِقًا لِمَا فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ،
وَالَّتِي هِيَ مِنْ خَبَرِ «1» الْأَضْغَاثِ هِيَ الْحُلْمُ،
وَهِيَ الْمُضَافَةُ إِلَى الشَّيْطَانِ، وَإِنَّمَا سُمِّيَتْ
ضِغْثًا، لِأَنَّ فِيهَا أَشْيَاءَ مُتَضَادَّةً، قَالَ
مَعْنَاهُ الْمُهَلَّبُ. وَقَدْ قَسَمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الرُّؤْيَا أَقْسَامًا تُغْنِي
عَنْ قَوْلِ كُلِّ قَائِلٍ، رَوَى عوف ابن مَالِكٍ عَنْ
رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:"
الرُّؤْيَا ثَلَاثَةٌ مِنْهَا أَهَاوِيلُ الشَّيْطَانِ
لِيُحْزِنَ ابْنَ آدَمَ وَمِنْهَا مَا يَهْتَمُّ بِهِ فِي
يَقِظَتِهِ فَيَرَاهُ فِي مَنَامِهِ وَمِنْهَا جُزْءٌ مِنْ
سِتَّةٍ وَأَرْبَعِينَ جُزْءًا مِنَ النُّبُوَّةِ،. قَالَ
قُلْتُ: سَمِعْتَ هَذَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قَالَ نَعَمْ! سَمِعْتُهُ مِنْ رَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. السَّادِسَةُ-
قَوْلُهُ تَعَالَى: (قالَ يَا بُنَيَّ لَا تَقْصُصْ رُؤْياكَ
عَلى إِخْوَتِكَ) الْآيَةَ. الرُّؤْيَا مَصْدَرُ رَأَى فِي
الْمَنَامِ، رُؤْيَا عَلَى وَزْنِ فُعْلَى كَالسُّقْيَا
وَالْبُشْرَى، وَأَلِفُهُ لِلتَّأْنِيثِ وَلِذَلِكَ لَمْ
يَنْصَرِفْ. وَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي حَقِيقَةِ
الرُّؤْيَا، فَقِيلَ: هِيَ إِدْرَاكٌ فِي أَجْزَاءٍ لَمْ
تَحُلَّهَا آفَةٌ، كَالنَّوْمِ الْمُسْتَغْرِقِ وَغَيْرِهِ،
وَلِهَذَا أَكْثَرُ مَا تَكُونُ الرُّؤْيَا فِي آخِرِ
اللَّيْلِ لِقِلَّةِ غَلَبَةِ النَّوْمِ، فَيَخْلُقُ اللَّهُ
تَعَالَى لِلرَّائِي عِلْمًا نَاشِئًا، وَيَخْلُقُ لَهُ
الَّذِي يَرَاهُ عَلَى مَا يَرَاهُ لِيَصِحَّ الْإِدْرَاكُ،
قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَلَا يَرَى فِي الْمَنَامِ إِلَّا
مَا يَصِحُّ إِدْرَاكُهُ فِي الْيَقِظَةِ، وَلِذَلِكَ لَا
يَرَى فِي الْمَنَامِ شَخْصًا قَائِمًا قَاعِدًا بِحَالٍ،
وَإِنَّمَا يَرَى الْجَائِزَاتِ الْمُعْتَادَاتِ. وَقِيلَ
إِنَّ لِلَّهِ مَلَكًا يَعْرِضُ الْمَرْئِيَّاتِ عَلَى
الْمَحَلِّ الْمُدْرِكِ مِنَ النَّائِمِ، فَيُمَثِّلُ لَهُ
صُوَرًا مَحْسُوسَةً، فَتَارَةً تَكُونُ تِلْكَ الصُّوَرُ
أَمْثِلَةً مُوَافِقَةً لِمَا يَقَعُ في الوجود، وتارة تكون
لمعاني معقولة غير محسوسة، وفى الحالتين تكون مشرة أَوْ
مُنْذِرَةً، قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي
صَحِيحِ مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ:" رَأَيْتُ سَوْدَاءَ «2»
ثَائِرَةَ الرَّأْسِ تَخْرُجُ مِنَ الْمَدِينَةِ إِلَى
مَهْيَعَةٍ «3» فَأَوَّلْتُهَا الحمى".
__________
(1).: ع حيز.
(2). أي امرأة سوداء، كما في رواية النسائي.
(3). المهيعة: هي الجحفة، ميقات أهل الشام.
(9/125)
و" رأيت سيفي قد انقطع صدره وبقرا تنحر
فأولتها رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ بَيْتِي يُقْتَلُ وَالْبَقَرُ
نَفَرٌ من أصحابي يقتلون". و" رأيت أَنِّي أَدْخَلْتُ يَدَيَّ
فِي دِرْعٍ حَصِينَةٍ فَأَوَّلْتُهَا المدينة". و" رأيت فِي
يَدَيَّ سِوَارَيْنِ فَأَوَّلْتُهُمَا كَذَّابَيْنِ
يَخْرُجَانِ بَعْدِي". إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا ضُرِبَتْ
لَهُ الْأَمْثَالُ، ومنها ما يظهر معناه أولا [فأول «1»]،
ومنها ما لا يظهر الأبعد التَّفَكُّرِ، وَقَدْ رَأَى
النَّائِمُ فِي زَمَنِ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ بَقَرًا
فَأَوَّلَهَا يُوسُفُ السِّنِينَ، وَرَأَى أحد عشر كوكبا
فَأَوَّلَهَا بِإِخْوَتِهِ وَأَبَوَيْهِ. السَّابِعَةُ- إِنْ
قِيلَ: إِنَّ يوسف عليه السلام كان صغيرا حين رؤياه، والصغير
لأحكم لِفِعْلِهِ، فَكَيْفَ تَكُونُ لَهُ رُؤْيَا لَهَا حُكْمٌ
حَتَّى يَقُولَ لَهُ أَبُوهُ:" لَا تَقْصُصْ رُؤْياكَ عَلى
إِخْوَتِكَ"؟ فَالْجَوَابُ- أَنَّ الرُّؤْيَا إِدْرَاكُ
حَقِيقَةٍ عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ، فَتَكُونُ مِنَ الصَّغِيرِ
كَمَا يَكُونُ مِنْهُ الْإِدْرَاكُ الْحَقِيقِيُّ فِي
الْيَقَظَةِ، وَإِذَا أَخْبَرَ عَمَّا رَأَى صَدَقَ،
فَكَذَلِكَ إِذَا أَخْبَرَ عَمَّا يَرَى فِي الْمَنَامِ،
وَقَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ عَنْ رُؤْيَاهُ
وَأَنَّهَا وُجِدَتْ كَمَا رَأَى فلا اعتراض، ورى أَنَّ
يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ ابْنَ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ
سَنَةً. الثَّامِنَةُ- هَذِهِ الْآيَةُ أَصْلٌ فِي ألا نقص
الرُّؤْيَا عَلَى غَيْرِ شَفِيقٍ وَلَا نَاصِحٍ، وَلَا عَلَى
مَنْ لَا يُحْسِنُ التَّأْوِيلَ فِيهَا، رَوَى أَبُو رَزِينٍ
الْعُقَيْلِيُّ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قَالَ:" الرُّؤْيَا جُزْءٌ مِنْ أَرْبَعِينَ جزءا من
النبوة". و" الرؤيا مُعَلَّقَةٌ بِرِجْلِ طَائِرٍ مَا لَمْ
يُحَدِّثْ بِهَا صَاحِبُهَا فَإِذَا حَدَّثَ بِهَا وَقَعَتْ
فَلَا تُحَدِّثُوا بِهَا إِلَّا عَاقِلًا أَوْ مُحِبًّا أَوْ
نَاصِحًا" أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ فِيهِ: حَدِيثٌ
حَسَنٌ صَحِيحٌ، وَأَبُو رَزِينٍ اسْمُهُ لَقِيطُ بْنُ
عَامِرٍ. وَقِيلَ لِمَالِكٍ: أَيَعْبُرُ الرُّؤْيَا كُلُّ
أَحَدٍ؟ فَقَالَ: أَبِالنُّبُوَّةِ يُلْعَبُ؟ وَقَالَ مَالِكٌ:
لَا يَعْبُرُ الرُّؤْيَا إِلَّا مَنْ يُحْسِنُهَا، فَإِنْ
رَأَى خَيْرًا أَخْبَرَ بِهِ، وَإِنْ رَأَى مَكْرُوهًا
فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَصْمُتْ، قِيلَ: فَهَلْ
يَعْبُرُهَا عَلَى الْخَيْرِ وَهِيَ عِنْدُهُ عَلَى
الْمَكْرُوهِ لِقَوْلِ مَنْ قَالَ إِنَّهَا عَلَى مَا
تَأَوَّلَتْ عَلَيْهِ؟ فَقَالَ: لَا! ثُمَّ قَالَ: الرُّؤْيَا
جُزْءٌ مِنَ النُّبُوَّةِ فَلَا يُتَلَاعَبُ بِالنُّبُوَّةِ.
التَّاسِعَةُ- وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ
مُبَاحًا أَنْ يُحَذِّرُ الْمُسْلِمُ «2» أَخَاهُ الْمُسْلِمَ
مِمَّنْ يَخَافُهُ عَلَيْهِ، وَلَا يَكُونُ دَاخِلًا فِي
مَعْنَى الْغِيبَةِ، لِأَنَّ يَعْقُوبَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ-
قَدْ حَذَّرَ يوسف أن
__________
(1). من ع وووى.
(2). في ع: الرجل. [ ..... ]
(9/126)
يقص رؤياه على إخوته فيكيدوا له، وفيها مَا
يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ تَرْكِ إِظْهَارِ النِّعْمَةِ عِنْدَ
مَنْ تُخْشَى غَائِلَتُهُ حَسَدًا وَكَيْدًا، وَقَالَ
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" اسْتَعِينُوا
عَلَى [إِنْجَاحِ] «1» حَوَائِجِكُمْ بِالْكِتْمَانِ فَإِنَّ
كُلَّ ذِي نِعْمَةٍ محسود". وفيها دَلِيلٌ وَاضِحٌ عَلَى
مَعْرِفَةِ يَعْقُوبَ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِتَأْوِيلِ
الرُّؤْيَا، فَإِنَّهُ عَلِمَ مِنْ تَأْوِيلِهَا أَنَّهُ
سَيَظْهَرُ عَلَيْهِمْ، وَلَمْ يُبَالِ بِذَلِكَ مِنْ
نَفْسِهِ، فإن الرجل يود أن يكون ولده خير مِنْهُ، وَالْأَخُ
لَا يَوَدُّ ذَلِكَ لِأَخِيهِ. وَيَدُلُّ أَيْضًا عَلَى أَنَّ
يَعْقُوبَ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ أَحَسَّ مِنْ بَنِيهِ
حَسَدَ يُوسُفَ وَبُغْضَهُ، فَنَهَاهُ عن قصص «2» الرؤيا عليهم
خوفا أَنْ تَغِلَّ بِذَلِكَ صُدُورُهُمْ، فَيَعْمَلُوا
الْحِيلَةَ فِي هَلَاكِهِ، وَمِنْ هَذَا وَمِنْ فِعْلِهِمْ
بِيُوسُفَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ كَانُوا غَيْرَ أَنْبِيَاءَ
فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، وَوَقَعَ فِي كِتَابِ الطَّبَرِيِّ
لِابْنِ زَيْدٍ أَنَّهُمْ كَانُوا أَنْبِيَاءُ، وَهَذَا
يَرُدُّهُ الْقَطْعُ بِعِصْمَةِ الْأَنْبِيَاءِ عَنِ الْحَسَدِ
الدُّنْيَوِيِّ، وَعَنْ عُقُوقِ الْآبَاءِ، وَتَعْرِيضِ
مُؤْمِنٍ لِلْهَلَاكِ، وَالتَّآمُرِ فِي قَتْلِهِ، وَلَا
الْتِفَاتَ لِقَوْلِ مَنْ قَالَ إِنَّهُمْ كَانُوا
أَنْبِيَاءُ، وَلَا يَسْتَحِيلُ فِي الْعَقْلِ زَلَّةُ
نَبِيٍّ، إِلَّا أَنَّ هَذِهِ الزَّلَّةَ قَدْ جَمَعَتْ
أَنْوَاعًا مِنْ الْكَبَائِرَ، وَقَدْ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ
عَلَى عِصْمَتِهِمْ مِنْهَا، وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا فِي
الصَّغَائِرِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ وَيَأْتِي. الْعَاشِرَةُ-
رَوَى الْبُخَارِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ سَمِعْتُ
رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ:"
لَمْ يَبْقَ مِنَ النُّبُوَّةِ إِلَّا الْمُبَشِّرَاتُ"
قَالُوا: وَمَا الْمُبَشِّرَاتُ؟ قَالَ:" الرُّؤْيَا
الصَّالِحَةُ" وَهَذَا الْحَدِيثُ بِظَاهِرِهِ يَدُلُّ عَلَى
أَنَّ الرُّؤْيَا بُشْرَى عَلَى الْإِطْلَاقِ وَلَيْسَ
كَذَلِكَ، فَإِنَّ الرُّؤْيَا الصَّادِقَةَ قَدْ تَكُونُ
مُنْذِرَةً مِنْ قِبَلِ اللَّهِ تَعَالَى لَا تُسِرُّ
رَائِيَهَا، وَإِنَّمَا يُرِيهَا اللَّهُ تَعَالَى الْمُؤْمِنَ
رِفْقًا بِهِ وَرَحْمَةً، لِيَسْتَعِدَّ لِنُزُولِ الْبَلَاءِ
قَبْلَ وُقُوعِهِ، فَإِنْ أَدْرَكَ تَأَوُّلَهَا بِنَفْسِهِ،
وَإِلَّا سَأَلَ عَنْهَا مَنْ لَهُ أَهْلِيَّةُ ذَلِكَ. وَقَدْ
رَأَى الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَهُوَ بِمِصْرَ
رُؤْيَا لِأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ تَدُلُّ عَلَى مِحْنَتِهِ
فَكَتَبَ إِلَيْهِ بِذَلِكَ لِيَسْتَعِدَّ لِذَلِكَ، وَقَدْ
تَقَدَّمَ فِي" يُونُسَ" فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ
تَعَالَى:"هُمُ الْبُشْرى فِي الْحَياةِ الدُّنْيا
" «3» [يونس: 64] أَنَّهَا الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ. وَهَذَا
وَحَدِيثُ الْبُخَارِيِّ مَخْرَجُهُ على الأغلب، والله أعلم.
__________
(1). الزيادة عن" الجامع الصغير".
(2). في ع: قص.
(3). راجع ج 8 ص 458.
(9/127)
وَكَذَلِكَ
يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ
الْأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِ
يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ
إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (6)
الحادية عشر- رَوَى الْبُخَارِيُّ عَنْ
أَبِي سَلَمَةَ قَالَ: لَقَدْ كُنْتُ أَرَى الرُّؤْيَا
فَتُمْرِضُنِي حَتَّى سَمِعْتُ أَبَا قَتَادَةَ يَقُولُ:
وَأَنَا كُنْتُ لَأَرَى الرُّؤْيَا فَتُمْرِضُنِي حَتَّى
سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
يَقُولُ:" الرُّؤْيَا الْحَسَنَةُ مِنَ اللَّهِ فَإِذَا رَأَى
أَحَدُكُمْ مَا يُحِبُّ فَلَا يُحَدِّثُ بِهِ إِلَّا مَنْ
يُحِبُّ وَإِذَا رَأَى مَا يَكْرَهُ فَلْيَتَعَوَّذْ بِاللَّهِ
مِنْ شَرِّهَا وَلْيَتْفُلْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ وَلَا يُحَدِّثْ
بِهَا أَحَدًا فَإِنَّهَا لَنْ تَضُرَّهُ". قَالَ
عُلَمَاؤُنَا: فَجَعَلَ اللَّهُ الِاسْتِعَاذَةَ مِنْهَا
مِمَّا يَرْفَعُ أَذَاهَا، أَلَا تَرَى قَوْلَ أَبِي
قَتَادَةَ: إِنِّي كُنْتُ لَأَرَى الرُّؤْيَا هِيَ أَثْقَلُ
عَلَيَّ مِنَ الْجَبَلِ، فَلَمَّا سَمِعْتُ بِهَذَا الْحَدِيثِ
كُنْتُ لَا أَعُدُّهَا شَيْئًا. وَزَادَ مُسْلِمٌ مِنْ
رِوَايَةِ جَابِرٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ:" إِذَا رَأَى أَحَدُكُمُ
الرُّؤْيَا يَكْرَهُهَا فَلْيَبْصُقْ عَنْ يَسَارِهِ ثَلَاثًا
وَلْيَتَعَوَّذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ ثَلَاثًا
وَلْيَتَحَوَّلْ عَنْ جَنْبِهِ الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ". وَفِي
حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال:" إذا رَأَى أَحَدُكُمْ مَا يَكْرَهُ
فَلْيَقُمْ فَلْيُصَلِّ". قَالَ عُلَمَاؤُنَا: وَهَذَا كُلُّهُ
لَيْسَ بِمُتَعَارِضٍ، وَإِنَّمَا هَذَا الْأَمْرُ
بِالتَّحَوُّلِ، وَالصَّلَاةِ زِيَادَةٌ، فَعَلَى الرَّائِي
أَنْ يَفْعَلَ الْجَمِيعَ، وَالْقِيَامُ إِلَى الصَّلَاةِ
يَشْمَلُ الْجَمِيعَ، لِأَنَّهُ إِذَا صَلَّى تَضَمَّنَ
فِعْلُهُ لِلصَّلَاةِ جَمِيعَ تِلْكَ الْأُمُورِ، لِأَنَّهُ
إِذَا قَامَ إِلَى الصَّلَاةِ تَحَوَّلَ عَنْ جَنْبِهِ،
وَإِذَا تَمَضْمَضَ تَفَلَ وَبَصَقَ، وَإِذَا قَامَ إِلَى
الصَّلَاةِ تَعَوَّذَ وَدَعَا وَتَضَرَّعَ لِلَّهِ تَعَالَى
فِي أَنْ يَكْفِيَهُ شَرَّهَا فِي حَالٍ هِيَ أَقْرَبُ
الْأَحْوَالِ إِلَى الْإِجَابَةِ، وَذَلِكَ السحر من الليل.
[سورة يوسف (12): آية 6]
وَكَذلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ
الْأَحادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلى آلِ
يَعْقُوبَ كَما أَتَمَّها عَلى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ
إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (6)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَكَذلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ) الْكَافُ
فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ، لِأَنَّهَا نَعْتٌ لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ،
وَكَذَلِكَ الْكَافُ فِي قَوْلِهِ:" كَما أَتَمَّها عَلى
أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ" وَ" مَا" كَافَّةٌ. وَقِيلَ:"
وَكَذلِكَ" أَيْ كَمَا أَكْرَمَكَ بِالرُّؤْيَا فَكَذَلِكَ
يَجْتَبِيكَ، وَيُحْسِنُ إِلَيْكَ بِتَحْقِيقِ الرُّؤْيَا.
قَالَ مُقَاتِلٌ: بِالسُّجُودِ لَكَ. الْحَسَنُ:
بِالنُّبُوَّةِ. وَالِاجْتِبَاءُ اخْتِيَارُ مَعَالِي
الْأُمُورِ لِلْمُجْتَبَى، وَأَصْلُهُ مِنْ جَبَيْتُ
(9/128)
لَقَدْ كَانَ فِي
يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِلسَّائِلِينَ (7) إِذْ قَالُوا
لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ
عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (8) اقْتُلُوا
يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ
أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ (9)
الشَّيْءَ أَيْ حَصَّلْتُهُ، وَمِنْهُ
جَبَيْتُ الْمَاءَ فِي الحوض، قال النَّحَّاسُ. وَهَذَا
ثَنَاءٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى يُوسُفَ عَلَيْهِ
السَّلَامُ، وَتَعْدِيدٌ فِيمَا عَدَّدَهُ عَلَيْهِ مِنَ
النِّعَمِ الَّتِي أَتَاهُ اللَّهُ تَعَالَى، مِنَ
التَّمْكِينِ فِي الْأَرْضِ، وَتَعْلِيمِ تَأْوِيلِ
الْأَحَادِيثِ، وَأَجْمَعُوا أَنَّ ذَلِكَ فِي تَأْوِيلِ
الرُّؤْيَا. قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ شَدَّادِ بْنِ
الْهَادِ: كَانَ تَفْسِيرُ رُؤْيَا يُوسُفَ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ أَرْبَعِينَ سَنَةٍ، وَذَلِكَ
مُنْتَهَى الرُّؤْيَا. وَعَنَى بِالْأَحَادِيثِ مَا يَرَاهُ
النَّاسُ فِي الْمَنَامِ، وَهِيَ مُعْجِزَةٌ لَهُ، فَإِنَّهُ
لَمْ يَلْحَقْهُ فِيهَا خَطَأٌ. وَكَانَ يُوسُفُ عَلَيْهِ
السَّلَامُ أَعْلَمَ النَّاسِ بِتَأْوِيلِهَا، وَكَانَ
نَبِيُّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَحْوَ ذَلِكَ،
وَكَانَ الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مِنْ أَعْبَرِ
النَّاسِ لَهَا، وَحَصَلَ لِابْنِ سِيرِينَ فِيهَا
التَّقَدُّمُ الْعَظِيمُ، وَالطَّبْعُ وَالْإِحْسَانُ،
وَنَحْوُهُ أَوْ قَرِيبٌ مِنْهُ كان سعيد بن المسيب فيما
ذكروا. وقد قيل في تأويل قوله: (وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ
الْأَحادِيثِ) أَيْ أَحَادِيثِ الْأُمَمِ وَالْكُتُبِ
وَدَلَائِلِ التَّوْحِيدِ، فَهُوَ إِشَارَةٌ إِلَى
النُّبُوَّةِ، وَهُوَ الْمَقْصُودُ بِقَوْلِهِ: (وَيُتِمُّ
نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ) أَيْ بِالنُّبُوَّةِ. وَقِيلَ:
بِإِخْرَاجِ إِخْوَتِكَ، إِلَيْكَ، وَقِيلَ: بِإِنْجَائِكَ
مِنْ كُلِّ مَكْرُوهٍ. (كَما أَتَمَّها عَلى أَبَوَيْكَ مِنْ
قَبْلُ إِبْراهِيمَ) بِالْخُلَّةِ، وَإِنْجَائِهِ مِنَ
النَّارِ. (وَإِسْحاقَ) بِالنُّبُوَّةِ. وَقِيلَ: مِنَ
الذَّبْحِ «1»، قَالَهُ عِكْرِمَةُ. بما يعطيك. وَأَعْلَمُهُ
اللَّهُ تَعَالَى بِقَوْلِهِ:" وَعَلى آلِ يَعْقُوبَ" أَنَّهُ
سَيُعْطِي بَنِي يَعْقُوبَ كُلَّهُمُ النُّبُوَّةَ، قَالَهُ
جَمَاعَةٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ. (إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ)
بِمَا يعطيك. (حَكِيمٌ) في فعله بك.
[سورة يوسف (12): الآيات 7 الى 9]
لَقَدْ كانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آياتٌ لِلسَّائِلِينَ
(7) إِذْ قالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلى أَبِينا
مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبانا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ
(8) اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضاً يَخْلُ لَكُمْ
وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْماً صالِحِينَ
(9)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (لَقَدْ كانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ
آياتٌ لِلسَّائِلِينَ) يَعْنِي، مَنْ سَأَلَ عَنْ حَدِيثِهِمْ.
وَقَرَأَ أَهْلُ مَكَّةَ" آيَةٌ" عَلَى التَّوْحِيدِ،
وَاخْتَارَ أَبُو عُبَيْدٍ" آياتٌ" عَلَى الْجَمْعِ، قَالَ:
لِأَنَّهَا خَيْرٌ كَثِيرٌ. قَالَ النَّحَّاسُ: وَ" آيَةٌ"
هُنَا قِرَاءَةٌ حَسَنَةٌ، أَيْ لَقَدْ كَانَ لِلَّذِينَ سألوا
عن خبر
__________
(1). تقدم أن الذبيح هو إسماعيل وهو الحق وسيأتي في" والصافات"
أيضا، وفى ع: والفدا من الذبح.
(9/129)
يُوسُفَ آيَةٌ فِيمَا خُبِّرُوا بِهِ،
لِأَنَّهُمْ سَأَلُوا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ وَهُوَ بِمَكَّةَ فَقَالُوا: أَخْبِرْنَا عَنْ
رَجُلٍ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ كَانَ بِالشَّامِ أُخْرِجَ ابْنُهُ
إِلَى مِصْرَ، فَبَكَى عَلَيْهِ حَتَّى عَمِيَ؟ - وَلَمْ
يَكُنْ بِمَكَّةَ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَلَا مَنْ
يَعْرِفُ خَبَرَ الْأَنْبِيَاءِ، وَإِنَّمَا وَجَّهَ
الْيَهُودُ [إِلَيْهِمْ] «1» مِنَ الْمَدِينَةِ يَسْأَلُونَهُ
عَنْ هَذَا- فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ سُورَةَ"
يُوسُفَ" جُمْلَةً وَاحِدَةً، فِيهَا كُلُّ مَا فِي
التَّوْرَاةِ مِنْ خَبَرٍ وَزِيَادَةٍ، فَكَانَ ذَلِكَ آيَةً
لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بِمَنْزِلَةِ
إِحْيَاءِ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ
الْمَيِّتَ." آياتٌ" «2» مَوْعِظَةٍ، وَقِيلَ: عِبْرَةٌ.
وَرُوِيَ أَنَّهَا فِي بَعْضِ الْمَصَاحِفِ" عِبْرَةٌ".
وَقِيلَ: بَصِيرَةٌ. وَقِيلَ: عَجَبٌ، تَقُولُ فُلَانٌ آيَةٌ
فِي الْعِلْمِ وَالْحُسْنِ أَيْ عَجَبٌ. قَالَ الثَّعْلَبِيُّ
فِي تَفْسِيرِهِ: لَمَّا بَلَغَتِ الرُّؤْيَا إِخْوَةُ يُوسُفَ
حَسَدُوهُ، وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: كَانُوا أَنْبِيَاءَ،
وَقَالُوا: مَا يَرْضَى أَنْ يَسْجُدَ لَهُ إِخْوَتُهُ حَتَّى
يَسْجُدَ لَهُ أَبَوَاهُ! فَبَغَوْهُ بِالْعَدَاوَةِ، وَقَدْ
تَقَدَّمَ رَدُّ هَذَا الْقَوْلِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:
(لَقَدْ كانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ) وَأَسْمَاؤُهُمْ:
رُوبِيلُ وَهُوَ أَكْبَرُهُمْ، وَشَمْعُونُ وَلَاوِي
وَيَهُوذَا وزيالون ويشجر، وَأُمُّهُمْ ليا بِنْتُ ليان،
وَهِيَ بِنْتُ خَالِ يَعْقُوبَ، وَوُلِدَ لَهُ مِنْ
سُرِّيَّتَيْنِ أَرْبَعَةُ نَفَرٍ، دان ونفتالي وجاد وآشر،
ثُمَّ تُوُفِّيَتْ ليا فَتَزَوَّجَ يَعْقُوبُ أُخْتَهَا
رَاحِيلَ، فَوَلَدَتْ لَهُ يُوسُفَ وَبِنْيَامِينَ، فَكَانَ
بَنُو يَعْقُوبَ اثْنَيْ عَشَرَ رَجُلًا. قَالَ
السُّهَيْلِيُّ: وَأُمُّ يَعْقُوبَ اسْمُهَا رفقا، وَرَاحِيلُ
مَاتَتْ فِي نِفَاسِ بِنْيَامِينَ، وليان بْنُ نَاهِرَ بْنِ
آزَرَ هُوَ خَالُ يَعْقُوبَ. وَقِيلَ: فِي اسْمِ الْأَمَتَيْنِ
ليا وتلتا، كَانَتْ إِحْدَاهُمَا لراحيل، والأخرى لأختها ليا،
وكانتا قد وهبناهما لِيَعْقُوبَ، وَكَانَ يَعْقُوبُ قَدْ
جَمَعَ بَيْنَهُمَا، وَلَمْ يَحِلَّ لِأَحَدٍ بَعْدَهُ،
لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى:" وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ
الْأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ" «3» [النساء: 23].
وَقَدْ تَقَدَّمَ الرَّدُّ عَلَى مَا قَالَهُ ابْنُ زَيْدٍ،
وَالْحَمْدُ لِلَّهِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: (إِذْ قالُوا
لَيُوسُفُ) " لَيُوسُفُ" رُفِعَ بِالِابْتِدَاءِ، وَاللَّامُ
لِلتَّأْكِيدِ، وَهِيَ الَّتِي يُتَلَقَّى بِهَا الْقَسَمُ،
أَيْ وَاللَّهِ لَيُوسُفُ. (وَأَخُوهُ) عَطْفٌ عَلَيْهِ.
(أَحَبُّ إِلى أَبِينا مِنَّا) خَبَرُهُ، وَلَا يُثَنَّى وَلَا
يُجْمَعُ لِأَنَّهُ بِمَعْنَى الْفِعْلِ، وَإِنَّمَا قَالُوا
هَذَا لِأَنَّ خَبَرَ الْمَنَامِ بَلَغَهُمْ فَتَآمَرُوا فِي
كَيْدِهِ. (وَنَحْنُ عُصْبَةٌ) أَيْ جَمَاعَةٌ، وَكَانُوا
عَشَرَةً. وَالْعُصْبَةُ مَا بَيْنَ الْوَاحِدِ إِلَى
الْعَشَرَةِ، وَقِيلَ: إِلَى الْخَمْسَةَ عَشَرَ. وَقِيلَ: مَا
بَيْنَ الْأَرْبَعِينَ إِلَى الْعَشَرَةِ، وَلَا وَاحِدَ لَهَا
مِنْ لفظها كالنفر
__________
(1). من ع وز ك وى.
(2). في ع: آية. بالتوحيد وهو المطابق للتفسير.
(3). راجع ج 5 ص 116.
(9/130)
قَالَ قَائِلٌ
مِنْهُمْ لَا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَتِ
الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِنْ كُنْتُمْ
فَاعِلِينَ (10)
وَالرَّهْطِ. (إِنَّ أَبانا لَفِي ضَلالٍ
مُبِينٍ) لَمْ يُرِيدُوا ضَلَالَ الدِّينِ، إِذْ لَوْ
أَرَادُوهُ لَكَانُوا كُفَّارًا، بَلْ أَرَادُوا لَفِي ذَهَابٍ
عَنْ وَجْهِ التَّدْبِيرِ، فِي إِيثَارِ اثْنَيْنِ عَلَى
عَشَرَةٍ مَعَ اسْتِوَائِهِمْ فِي الِانْتِسَابِ إِلَيْهِ.
وَقِيلَ: لَفِي خَطَأٍ بَيِّنٍ بِإِيثَارِهِ يُوسُفَ وَأَخَاهُ
عَلَيْنَا. قَوْلُهُ تَعَالَى: (اقْتُلُوا يُوسُفَ) فِي
الْكَلَامِ حَذْفٌ، أَيْ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمُ:" اقْتُلُوا
يُوسُفَ" لِيَكُونَ أَحْسَمَ لِمَادَّةِ الْأَمْرِ. (أَوِ
اطْرَحُوهُ أَرْضاً) أَيْ فِي أَرْضٍ، فَأَسْقَطَ الْخَافِضَ
وَانْتَصَبَ الْأَرْضَ، وَأَنْشَدَ سِيبَوَيْهِ فِيمَا حُذِفَ
مِنْهُ" فِي":
لَدْنٌ بِهَزِّ الْكَفِّ يَعْسِلُ مَتْنُهُ ... فِيهِ كَمَا
عَسَلَ الطَّرِيقَ الثَّعْلَبُ «1»
قَالَ النَّحَّاسُ: إِلَّا أَنَّهُ فِي الْآيَةِ حَسَنٌ
كَثِيرٌ، لِأَنَّهُ يَتَعَدَّى إِلَى مَفْعُولَيْنِ،
أَحَدُهُمَا بِحَرْفٍ، فَإِذَا حَذَفْتَ الْحَرْفَ تَعَدَّى
الْفِعْلُ إِلَيْهِ. وَالْقَائِلُ قِيلَ: هُوَ شَمْعُونُ،
قَالَ وَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ. وَقَالَ كَعْبُ الْأَحْبَارِ،
دَانُ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: رُوبِيلُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَالْمَعْنَى أَرْضًا تَبْعُدُ عَنْ أَبِيهِ، فَلَا بُدَّ مِنْ
هَذَا الْإِضْمَارِ لِأَنَّهُ كَانَ عِنْدَ أَبِيهِ فِي أَرْضٍ
«2». (يَخْلُ) جُزِمَ لِأَنَّهُ جَوَابُ الْأَمْرِ، مَعْنَاهُ:
يَخْلُصُ وَيَصْفُو. (لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ) فَيُقْبِلُ
عَلَيْكُمْ بِكُلِّيَّتِهِ. (وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ) أَيْ
مِنْ بَعْدِ الذَّنْبِ، وَقِيلَ: مِنْ بَعْدِ يُوسُفَ.
(قَوْماً صالِحِينَ) أَيْ تَائِبِينَ، أَيْ تُحْدِثُوا
تَوْبَةً بَعْدَ ذَلِكَ فَيَقْبَلُهَا اللَّهُ مِنْكُمْ، وَفِي
هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ تَوْبَةَ الْقَاتِلِ مَقْبُولَةٌ،
لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يُنْكِرْ هَذَا الْقَوْلَ
مِنْهُمْ. وَقِيلَ:" صالِحِينَ" أَيْ يَصْلُحُ شَأْنُكُمْ
عِنْدَ أَبِيكُمْ من غير أثرة ولا تفضيل.
[سورة يوسف (12): آية 10]
قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ لَا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي
غَيابَتِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِنْ
كُنْتُمْ فاعِلِينَ (10)
__________
(1). البيت لساعدة بن جوية وقد وصف فيه رمحا لين الهز، فشبه
اضطرابه في نفسه أو في حال هزه بعسلان الثعلب في سيره،
والعسلان: سير سريع في اضطراب. واللدن الناعم اللين. ويروى: لذ
أي مستلذ عند الهز للينه. (شواهد سيبويه).
(2). في ع: أرضه.
(9/131)
فيه ثلاث عشر مَسْأَلَةً: الْأُولَى-
قَوْلُهُ تَعَالَى: (قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ) الْقَائِلُ هُوَ
يَهُوذَا، وَهُوَ أَكْبَرُ وَلَدِ يَعْقُوبَ، قَالَهُ ابْنُ
عَبَّاسٍ. وَقِيلَ: رُوبِيلُ، وَهُوَ ابْنُ خَالَتِهِ، وَهُوَ
الَّذِي قَالَ:" فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ" [يوسف: 80] [الآية
«1»]. وقيل: شمعون. (وَأَلْقُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِّ)
قَرَأَ أَهْلُ مَكَّةَ وَأَهْلُ الْبَصْرَةِ وَأَهْلُ الكوفة"
فِي غَيابَتِ الْجُبِّ". وَقَرَأَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ" فِي
غَيَابَاتِ الْجُبِّ" وَاخْتَارَ أَبُو عُبَيْدٍ التَّوْحِيدَ،
لِأَنَّهُ عَلَى مَوْضِعٍ واحد ألقوه فيه، وأنكر الجمح
لِهَذَا. قَالَ النَّحَّاسُ: وَهَذَا تَضْيِيقٌ فِي
اللُّغَةِ،" وَغَيَابَاتٌ" عَلَى الْجَمْعِ يَجُوزُ [مِنْ
وَجْهَيْنِ] «2»: حَكَى سِيبَوَيْهِ سِيرَ عَلَيْهِ
عَشِيَّانَاتٍ وَأَصِيلَانَاتٍ، يُرِيدُ عَشِيَّةً وَأَصِيلًا،
فَجَعَلَ كُلَّ وَقْتٍ مِنْهَا عَشِيَّةً وَأَصِيلًا، فَكَذَا
جَعَلَ كُلَّ مَوْضِعٍ مِمَّا يَغِيبُ غَيَابَةً. [وَالْآخَرُ-
أَنْ يَكُونَ فِي الْجُبِّ غَيَابَاتٌ (جَمَاعَةٌ). وَيُقَالُ:
غَابَ يَغِيبُ [غَيْبًا وَغَيَابَةً وَغِيَابًا، كَمَا قَالَ
الشَّاعِرُ:
أَلَا فَالْبَثَا شَهْرَيْنِ أَوْ نِصْفَ ثَالِثٍ ... أَنَا
ذَاكُمَا قَدْ غَيَّبَتْنِي غِيَابِيَا
قَالَ الْهَرَوِيُّ: وَالْغَيَابَةُ شَبَهُ لَجَفٍ «3» أَوْ
طَاقٍ فِي الْبِئْرِ فُوَيْقَ الْمَاءِ، يَغِيبُ الشَّيْءُ
عَنِ الْعَيْنِ. وقال ابن عزيز: كل شي غَيَّبَ عَنْكَ شَيْئًا
فَهُوَ غَيَابَةٌ. قُلْتُ: وَمِنْهُ قِيلَ لِلْقَبْرِ
غَيَابَةٌ، قَالَ الشَّاعِرُ:
فَإِنْ أَنَا يَوْمًا غَيَّبَتْنِي غَيَابَتِي ... فَسِيرُوا
بِسَيْرِي فِي الْعَشِيرَةِ وَالْأَهْلِ
وَالْجُبُّ الرَّكِيَّةُ الَّتِي لَمْ تُطْوَ، فَإِذَا طويت
فهي بئر، قال الْأَعْشَى:
لَئِنْ كُنْتَ فِي جُبٍّ ثَمَانِينَ قَامَةً ... وَرُقِّيتَ
أَسْبَابَ السَّمَاءِ بِسُلَّمِ «4»
وَسُمِّيَتْ جُبًّا لِأَنَّهَا قُطِعَتْ فِي الْأَرْضِ
قَطْعًا، وَجَمْعُ الْجُبِّ جِبَبَةٌ وَجِبَابٌ وَأَجْبَابٌ،
وَجَمَعَ بَيْنَ الْغَيَابَةِ وَالْجُبِّ لِأَنَّهُ أَرَادَ
أَلْقَوْهُ فِي مَوْضِعٍ مُظْلِمٍ مِنَ الْجُبِّ حتى لا يلحقه
نظر الناظرين. قيل:
__________
(1). من ع.
(2). الزيادة عن النحاس.
(3). اللجف: الناحية من الحوض أو البئر يأكله الماء فيصير
كالكهف.
(4). بعده كما في الديوان:
ليستدرجنك الْقَوْلُ حَتَّى تَهِرَّهُ ... وَتَعْلْمُ أَنِّي
عَنْكَ لَسْتُ بمجرم
وَتَشْرَقَ بِالْقَوْلِ الَّذِي قَدْ أَذَعْتَهُ ... كَمَا
شَرِقَتْ صدر القناة من الدم
(9/132)
هُوَ بِئْرُ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَقِيلَ:
هُوَ بِالْأُرْدُنِّ، قال وَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ. مُقَاتِلٌ:
وَهُوَ عَلَى ثَلَاثَةِ فَرَاسِخَ مِنْ مَنْزِلِ يَعْقُوبَ.
الثَّانِيَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ
السَّيَّارَةِ) جُزِمَ عَلَى جَوَابِ الْأَمْرِ. وَقَرَأَ
مُجَاهِدٌ وَأَبُو رَجَاءٍ وَالْحَسَنُ وَقَتَادَةُ:"
تَلْتَقِطْهُ" بِالتَّاءِ، وَهَذَا مَحْمُولٌ عَلَى
الْمَعْنَى، لِأَنَّ بَعْضَ السَّيَّارَةِ سَيَّارَةٌ، وَقَالَ
سِيبَوَيْهِ: سَقَطَتْ بَعْضُ أَصَابِعِهِ، وَأَنْشَدَ «1»:
وَتَشْرَقَ بِالْقَوْلِ الَّذِي قَدْ أَذَعْتَهُ ... كَمَا
شَرِقَتْ صَدْرُ الْقَنَاةِ مِنَ الدَّمِ
وَقَالَ آخَرُ:
أَرَى مَرَّ السِّنِينِ أَخَذْنَ مِنِّي ... كَمَا أَخَذَ
السَّرَارُ «2» مِنَ الْهِلَالِ
وَلَمْ يَقُلْ شَرِقَ وَلَا أَخَذَتْ. وَالسَّيَّارَةُ
الْجَمْعُ الَّذِي يَسِيرُونَ فِي الطَّرِيقِ لِلسَّفَرِ،
وَإِنَّمَا قَالَ الْقَائِلُ هَذَا حَتَّى لَا يَحْتَاجُوا
إِلَى حَمْلِهِ إِلَى مَوْضِعٍ بَعِيدٍ وَيَحْصُلُ
الْمَقْصُودُ، فَإِنَّ مَنِ الْتَقَطَهُ مِنَ السَّيَّارَةِ
يَحْمِلُهُ إِلَى مَوْضِعٍ بَعِيدٍ، وَكَانَ هَذَا وَجْهًا فِي
التَّدْبِيرِ حَتَّى لَا يَحْتَاجُوا إِلَى الْحَرَكَةِ
بِأَنْفُسِهِمْ، فَرُبَّمَا لَا يَأْذَنُ لَهُمْ أَبُوهُمْ،
وَرُبَّمَا يَطَّلِعُ عَلَى قَصْدِهِمْ. الثَّالِثَةُ- وَفِي
هَذَا مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ إِخْوَةَ يُوسُفَ مَا كَانُوا
أَنْبِيَاءَ لَا أَوَّلًا وَلَا آخِرًا، لِأَنَّ
الْأَنْبِيَاءَ لَا يُدَبِّرُونَ فِي قَتْلِ مُسْلِمٍ، بَلْ
كَانُوا مُسْلِمِينَ، فَارْتَكَبُوا مَعْصِيَةً ثُمَّ تَابُوا.
وَقِيلَ: كَانُوا أَنْبِيَاءَ، وَلَا يَسْتَحِيلُ فِي
الْعَقْلِ زَلَّةُ نَبِيٍّ، فَكَانَتْ هَذِهِ زَلَّةٌ
مِنْهُمْ، وَهَذَا يَرُدُّهُ أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ
مَعْصُومُونَ مِنَ الْكَبَائِرِ عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ.
وَقِيلَ: مَا كَانُوا فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ أَنْبِيَاءَ ثُمَّ
نَبَّأَهُمُ اللَّهُ، وَهَذَا أَشْبَهُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
الرَّابِعَةُ- قَالَ ابْنُ وَهْبٍ قَالَ مَالِكٌ: طُرِحَ
يُوسُفُ فِي الْجُبِّ وَهُوَ غُلَامٌ، وَكَذَلِكَ رَوَى ابْنُ
الْقَاسِمِ عَنْهُ، يَعْنِي أَنَّهُ كَانَ صَغِيرًا،
وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى:" لا تَقْتُلُوا
يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ
بَعْضُ السَّيَّارَةِ"
__________
(1). البيت للأعشى، وهو يخاطب يزيد بن مسهر الشيباني، وكانت
بينهما مباينة ومهاجات، فيقول له: يعود عليك مكروه ما أذعت عنى
من القول ونسبته إلى من القبيح، فلا تجد منه مخلصا. والشرق
بالماء كالغصص بالطعام. [ ..... ]
(2). سرار الشهر (بفتح السين المهملة وكسرها) وسرره: آخر ليلة
منه.
(9/133)
قَالَ: وَلَا يُلْتَقَطُ إِلَّا
الصَّغِيرُ، وَقَوْلُهُ:" وَأَخافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ"
[يوسف: 13] وَذَلِكَ [أَمْرٌ «1»] يَخْتَصُّ بِالصِّغَارِ،
وَقَوْلُهُمْ:" أَرْسِلْهُ مَعَنا غَداً يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ
وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ" [يوسف: 12]. الْخَامسةُ-
الِالْتِقَاطُ تَنَاوُلُ الشَّيْءِ مِنَ الطَّرِيقِ، وَمِنْهُ
اللَّقِيطُ وَاللُّقَطَةُ، وَنَحْنُ نَذْكُرُ مِنْ
أَحْكَامِهَا مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ الْآيَةُ وَالسُّنَّةُ،
وَمَا قَالَ فِي ذَلِكَ أَهْلُ الْعِلْمِ وَاللُّغَةِ، قَالَ
ابْنُ عَرَفَةَ: الِالْتِقَاطُ وُجُودُ الشَّيْءِ عَلَى غَيْرِ
طَلَبٍ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:" يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ
السَّيَّارَةِ" أَيْ يَجِدْهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَحْتَسِبَهُ.
وَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي اللَّقِيطِ، فَقِيلَ:
أَصْلُهُ الْحُرِّيَّةُ لِغَلَبَةِ الْأَحْرَارِ عَلَى
الْعَبِيدِ، وَرُوِيَ عَنِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ أَنَّهُ
قَضَى بِأَنَّ اللَّقِيطَ حُرٌّ، وَتَلَا" وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ
بَخْسٍ دَراهِمَ مَعْدُودَةٍ" [يوسف: 20] وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ
أَشْهَبُ صَاحِبُ مَالِكٍ، وَهُوَ قَوْلُ عُمَرَ بْنِ
الْخَطَّابِ، وَكَذَلِكَ رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ وَجَمَاعَةٌ.
وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ: إِنْ نَوَى رِقَّهُ فَهُوَ
مَمْلُوكٌ، وَإِنْ نَوَى الْحِسْبَةَ فَهُوَ حُرٌّ. وَقَالَ
مَالِكٌ فِي مُوَطَّئِهِ: الْأَمْرُ عِنْدَنَا فِي
الْمَنْبُوذِ أَنَّهُ حُرٌّ، وَأَنَّ وَلَاءَهُ لِجَمَاعَةِ
الْمُسْلِمِينَ، هُمْ يَرِثُونَهُ وَيَعْقِلُونَ عَنْهُ،
وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ، وَاحْتَجَّ بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ
السَّلَامُ:" وَإِنَّمَا الْوَلَاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ" قَالَ:
فَنَفَى الْوَلَاءَ عَنْ غَيْرِ الْمُعْتِقِ. وَاتَّفَقَ
مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَصْحَابُهُمَا عَلَى أَنَّ
اللَّقِيطَ لَا يُوَالِي أَحَدًا، وَلَا يَرِثُهُ أَحَدٌ
بِالْوَلَاءِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ
وَأَكْثَرُ الْكُوفِيِّينَ: اللقيط يوالي من شاء، فمن ولاه
فَهُوَ يَرِثُهُ وَيَعْقِلُ عَنْهُ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ
لَهُ أَنْ يَنْتَقِلَ بِوَلَائِهِ حَيْثُ شَاءَ، مَا لَمْ
يَعْقِلْ عَنْهُ الَّذِي وَالَاهُ، فَإِنْ عَقَلَ عَنْهُ
جِنَايَةً لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَنْتَقِلَ عَنْهُ
بِوَلَائِهِ أَبَدًا. وَذَكَرَ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي
شَيْبَةَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: الْمَنْبُوذُ
حُرٌّ، فَإِنْ أَحَبَّ أَنْ يُوَالِيَ الَّذِي الْتَقَطَهُ
وَالَاهُ، وَإِنْ أَحَبَّ أَنْ يُوَالِيَ غَيْرَهُ وَالَاهُ،
وَنَحْوُهُ عَنْ عَطَاءٍ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ شِهَابٍ
وَطَائِفَةٍ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، وَهُوَ حُرٌّ. قَالَ
ابْنُ الْعَرَبِيِّ: إِنَّمَا كَانَ أَصْلُ اللَّقِيطِ
الْحُرِّيَّةَ لِغَلَبَةِ الْأَحْرَارِ عَلَى الْعَبِيدِ،
فَقَضَى بِالْغَالِبِ، كَمَا حَكَمَ أَنَّهُ مُسْلِمٌ أَخْذًا
بِالْغَالِبِ، فَإِنْ كَانَ فِي قَرْيَةٍ فِيهَا نَصَارَى
وَمُسْلِمُونَ قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: يُحْكَمُ
بِالْأَغْلَبِ، فَإِنْ وُجِدَ عَلَيْهِ زِيُّ الْيَهُودِ
فَهُوَ يَهُودِيٌّ، وَإِنْ وُجِدَ عَلَيْهِ زِيُّ النَّصَارَى
فَهُوَ نَصْرَانِيُّ، وَإِلَّا فَهُوَ مُسْلِمٌ، إلا أن يكون
أكثر أهل القرية
__________
(1). من ع وك وى.
(9/134)
عَلَى غَيْرِ الْإِسْلَامِ. وَقَالَ
غَيْرُهُ: لَوْ لَمْ يَكُنْ فِيهَا إِلَّا مُسْلِمٌ وَاحِدٌ
قُضِيَ لِلَّقِيطِ بِالْإِسْلَامِ تَغْلِيبًا لِحُكْمِ
الْإِسْلَامِ الَّذِي يَعْلُو وَلَا يُعْلَى عَلَيْهِ، وَهُوَ
مُقْتَضَى قَوْلُ أَشْهَبَ، قَالَ أَشْهَبُ: هُوَ مُسْلِمٌ
أَبَدًا، لِأَنِّي أَجْعَلُهُ مُسْلِمًا عَلَى كُلِّ حَالٍ،
كَمَا أَجْعَلُهُ حُرًّا عَلَى كُلِّ حَالٍ. وَاخْتَلَفَ
الْفُقَهَاءُ فِي الْمَنْبُوذِ تَدُلُّ «1» الْبَيِّنَةُ عَلَى
أَنَّهُ عَبْدٌ، فَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ
الْمَدِينَةِ: لَا يُقْبَلُ قَوْلُهَا «2» فِي ذَلِكَ، وَإِلَى
هَذَا ذَهَبَ أَشْهَبُ لِقَوْلِ عُمَرَ: هُوَ حُرٌّ، وَمَنْ
قُضِيَ بِحُرِّيَّتِهِ لَمْ تُقْبَلِ الْبَيِّنَةُ فِي أَنَّهُ
عَبْدٌ. وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: تُقْبَلُ الْبَيِّنَةُ فِي
ذَلِكَ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَالْكُوفِيِّ.
السَادِسَةُ- قَالَ مَالِكٌ فِي اللَّقِيطِ: إِذَا أَنْفَقَ
عَلَيْهِ الْمُلْتَقِطُ ثُمَّ أَقَامَ رَجُلٌ الْبَيِّنَةَ
أَنَّهُ ابْنُهُ فَإِنَّ الْمُلْتَقِطَ يَرْجِعُ عَلَى الْأَبِ
إِنْ كَانَ طَرَحَهُ مُتَعَمِّدًا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ
طَرَحَهُ ولكنه ضل منه فلا شي عَلَى الْأَبِ، وَالْمُلْتَقِطُ
مُتَطَوِّعٌ بِالنَّفَقَةِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إِذَا
أَنْفَقَ عَلَى اللَّقِيطِ فَهُوَ مُتَطَوِّعٌ، إِلَّا أَنْ
يَأْمُرَهُ الْحَاكِمُ. وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: كُلُّ مَنْ
أَنْفَقَ عَلَى مَنْ لَا تَجِبُ عَلَيْهِ نَفَقَةٌ رَجَعَ
بِمَا أَنْفَقَ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: إِنْ لَمْ يَكُنْ
لِلَّقِيطِ مَالٌ وَجَبَتْ نَفَقَتُهُ فِي بَيْتِ الْمَالِ،
فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَفِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا-
يَسْتَقْرِضُ لَهُ فِي ذِمَّتِهِ. وَالثَّانِي- يُقَسِّطُ
عَلَى الْمُسْلِمِينَ مِنْ غَيْرِ عِوَضٍ. السَّابِعَةُ-
وَأَمَّا اللُّقَطَةُ وَالضَّوَالُّ فَقَدِ اخْتَلَفَ
الْعُلَمَاءُ فِي حُكْمِهِمَا، فَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ
أَهْلِ الْعِلْمِ: اللُّقَطَةُ وَالضَّوَالُّ سَوَاءٌ فِي
الْمَعْنَى، وَالْحُكْمُ فِيهِمَا سَوَاءٌ، وَإِلَى هَذَا
ذَهَبَ أَبُو جَعْفَرٍ الطَّحَاوِيُّ «3»، وَأَنْكَرَ قَوْلَ
أَبِي عُبَيْدٍ الْقَاسِمِ بْنِ سَلَّامٍ- أَنَّ الضَّالَّةَ
لا تكون إلا في الحيوان واللقطة غَيْرِ الْحَيَوَانِ- وَقَالَ
هَذَا غَلَطٌ، وَاحْتَجَّ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فِي حَدِيثِ الْإِفْكِ لِلْمُسْلِمِينَ:" إِنَّ
أُمَّكُمْ ضَلَّتْ قِلَادَتُهَا" فَأَطْلَقَ ذَلِكَ عَلَى
الْقِلَادَةِ. الثَّامِنَةُ- أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى
أَنَّ اللُّقَطَةَ مَا لَمْ تَكُنْ تَافِهًا يَسِيرًا أَوْ
شَيْئًا لَا بَقَاءَ لَهَا فَإِنَّهَا تُعَرَّفُ حَوْلًا
كَامِلًا، وَأَجْمَعُوا أَنَّ صَاحِبَهَا إِنْ جَاءَ فَهُوَ
أَحَقُّ بِهَا مِنْ مُلْتَقِطِهَا إِذَا ثَبَتَ لَهُ أَنَّهُ
صَاحِبُهَا، وَأَجْمَعُوا أَنَّ مُلْتَقِطَهَا إِنْ أَكَلَهَا
بَعْدَ الْحَوْلِ وَأَرَادَ صَاحِبُهَا أَنْ يُضَمِّنَهُ
فَإِنَّ ذَلِكَ لَهُ، وَإِنْ تَصَدَّقَ بِهَا فَصَاحِبُهَا
مُخَيَّرٌ بَيْنَ التَّضْمِينِ وَبَيْنَ أَنْ يَنْزِلَ عَلَى
أَجْرِهَا، فأي ذلك تخير كان
__________
(1). في ع وك وووى: تشهد.
(2). كذا في الأصول.
(3). في ع: الطبري.
(9/135)
ذَلِكَ لَهُ بِإِجْمَاعٍ، وَلَا تَنْطَلِقُ
يَدُ مُلْتَقِطِهَا عَلَيْهَا بِصَدَقَةٍ، وَلَا تَصَرُّفَ
قَبْلَ الْحَوْلِ. وَأَجْمَعُوا أَنَّ ضَالَّةَ الْغَنَمِ
الْمَخُوفِ عَلَيْهَا لَهُ أَكْلُهَا. التَّاسِعَةُ-
وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي الْأَفْضَلِ مِنْ تَرْكِهَا أَوْ
أَخْذِهَا، فَمِنْ ذَلِكَ أَنَّ فِي الْحَدِيثِ دَلِيلًا عَلَى
إِبَاحَةِ الْتِقَاطِ اللُّقَطَةِ وَأَخْذِ الضَّالَّةِ مَا
لَمْ تَكُنْ إِبِلًا. وَقَالَ فِي الشَّاةِ:" لَكَ أَوْ
لِأَخِيكَ أَوْ لِلذِّئْبِ" يَحُضُّهُ عَلَى أخذها، ولم يقل في
شي دَعُوهُ حَتَّى يَضِيعَ أَوْ يَأْتِيَهُ رَبُّهُ. وَلَوْ
كَانَ تَرْكُ اللُّقَطَةِ أَفْضَلَ لَأَمَرَ بِهِ رَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا قَالَ فِي
ضَالَّةِ الْإِبِلَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَجُمْلَةُ مَذْهَبِ
أَصْحَابِ مَالِكٍ أَنَّهُ فِي سَعَةٍ، إِنْ شَاءَ أَخَذَهَا
وَإِنْ شَاءَ تَرَكَهَا، هَذَا قَوْلُ إِسْمَاعِيلَ بْنِ
إِسْحَاقَ رَحِمَهُ اللَّهُ. وَقَالَ الْمُزَنِيُّ عَنِ
الشَّافِعِيِّ: لَا أُحِبُّ لِأَحَدٍ تَرْكَ اللُّقَطَةِ إِنْ
وَجَدَهَا إِذَا كَانَ أَمِينًا عَلَيْهَا، قَالَ: وَسَوَاءٌ
قَلِيلُ اللُّقَطَةِ وَكَثِيرُهَا. الْعَاشِرَةُ- رَوَى
الْأَئِمَّةُ مَالِكٌ وَغَيْرُهُ عَنْ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ
الْجُهَنِيِّ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَأَلَهُ عَنِ اللُّقَطَةِ
فَقَالَ:" اعْرِفْ عِفَاصَهَا «1» وَوِكَاءَهَا ثُمَّ
عَرِّفْهَا سَنَةً فَإِنْ جَاءَ صَاحِبُهَا وَإِلَّا
فَشَأْنُكَ بِهَا" قَالَ: فَضَالَّةُ الْغَنَمِ يَا رَسُولَ
اللَّهِ؟ قَالَ:" لَكَ أَوْ لِأَخِيكَ أَوْ لِلذِّئْبِ" قَالَ:
فَضَالَّةُ الْإِبِلِ؟ قَالَ:" مَا لَكَ وَلَهَا مَعَهَا
سِقَاؤُهَا وَحِذَاؤُهَا تَرِدُ الْمَاءَ وَتَأْكُلُ الشَّجَرَ
حَتَّى يَلْقَاهَا رَبُّهَا". وَفِي حَدِيثِ أُبَيٍّ قَالَ:"
احْفَظْ عَدَدَهَا وَوِعَاءَهَا وَوِكَاءَهَا فَإِنْ جَاءَ
صَاحِبُهَا وَإِلَّا فَاسْتَمْتِعْ بِهَا" فَفِي هَذَا
الْحَدِيثِ زِيَادَةُ الْعَدَدِ، خَرَّجَهُ مُسْلِمٌ
وَغَيْرُهُ. وَأَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ أَنَّ عِفَاصَ
اللُّقَطَةِ وَوِكَاءَهَا مِنْ إِحْدَى عَلَامَاتِهَا
وَأَدَلِّهَا عَلَيْهَا، فَإِذَا أَتَى صَاحِبُ اللُّقَطَةِ
بِجَمِيعِ أَوْصَافِهَا دُفِعَتْ لَهُ، قَالَ ابْنُ
الْقَاسِمِ: يُجْبَرُ عَلَى دَفْعِهَا، فَإِنْ جَاءَ
مُسْتَحِقٌّ يَسْتَحِقُّهَا بِبَيِّنَةٍ أَنَّهَا كَانَتْ لَهُ
لَمْ يَضْمَنِ الْمُلْتَقِطُ شَيْئًا، وَهَلْ يَحْلِفُ مَعَ
الْأَوْصَافِ أَوْ لَا؟ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ لِأَشْهَبَ،
وَالثَّانِي لِابْنِ الْقَاسِمِ، وَلَا تَلْزَمُهُ بَيِّنَةٌ
عِنْدَ مَالِكٍ وَأَصْحَابِهِ وَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ
وَغَيْرِهِمْ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ: لَا
تُدْفَعُ لَهُ إِلَّا إِذَا أَقَامَ بَيِّنَةً أَنَّهَا لَهُ،
وهو بخلاف نص الحديث،
__________
(1). العفاص: الوعاء الذي سكون به النفقة، جلدا كان أو غيره.
والوكاء هو الخيط الذي يشد به الوعاء. والمراد بالعفاص والوكاء
أن يعلم الملتقط صدق واصفها من كذبه، وبالحذاء خفها، فهي تقوى
بأخفافها على السير وورود الماء والشجر.
(9/136)
وَلَوْ كَانَتِ الْبَيِّنَةُ شَرْطًا فِي
الدَّفْعِ لَمَا كَانَ لِذِكْرِ الْعِفَاصِ وَالْوِكَاءِ
وَالْعَدَدِ مَعْنًى، فَإِنَّهُ يَسْتَحِقُّهَا بِالْبَيِّنَةِ
عَلَى كُلِّ حَالٍ، وَلَمَّا جَازَ سُكُوتُ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ ذَلِكَ، فَإِنَّهُ تَأْخِيرُ
الْبَيَانِ عَنْ وَقْتِ الْحَاجَةِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
الْحَادِيَةَ عَشَرَةَ- نَصَّ الْحَدِيثُ عَلَى الْإِبِلِ
وَالْغَنَمِ وَبَيَّنَ حُكْمَهُمَا، وَسَكَتَ عَمَّا
عَدَاهُمَا مِنَ الْحَيَوَانِ. وَقَدِ اخْتَلَفَ عُلَمَاؤُنَا
فِي الْبَقَرِ هَلْ تَلْحَقُ بِالْإِبِلِ أَوْ بِالْغَنَمِ؟
قَوْلَانِ، وَكَذَلِكَ اخْتَلَفَ أَئِمَّتُنَا فِي الْتِقَاطِ
الْخَيْلِ وَالْبِغَالِ وَالْحَمِيرِ، وَظَاهِرُ قَوْلِ ابْنِ
الْقَاسِمِ أَنَّهَا تُلْتَقَطُ، وَقَالَ أَشْهَبُ وَابْنُ
كِنَانَةَ: لَا تُلْتَقَطُ، وَقَوْلُ ابْنِ الْقَاسِمِ
أَصَحُّ، لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ:" احْفَظْ عَلَى
أَخِيكَ الْمُؤْمِنِ ضَالَّتَهُ". الثَّانِيَةَ عَشَرَةَ-
وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي النَّفَقَةِ عَلَى الضَّوَالِّ،
فَقَالَ مَالِكٌ فِيمَا ذَكَرَ عَنْهُ ابْنُ الْقَاسِمِ: إِنْ
أَنْفَقَ الْمُلْتَقِطُ عَلَى الدَّوَابِّ وَالْإِبِلِ
وَغَيْرِهَا فَلَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى صَاحِبِهَا
بِالنَّفَقَةِ، وَسَوَاءٌ أَنْفَقَ عَلَيْهَا بِأَمْرِ
السُّلْطَانِ أَوْ بِغَيْرِ أَمْرِهِ، قَالَ: وَلَهُ أَنْ
يَحْبِسَ بِالنَّفَقَةِ مَا أَنْفَقَ عَلَيْهِ وَيَكُونُ
أَحَقُّ بِهِ كَالرَّهْنِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: إِذَا
أَنْفَقَ عَلَى الضَّوَالِّ مَنْ أَخَذَهَا فَهُوَ
مُتَطَوِّعٌ، حَكَاهُ عَنْهُ الرَّبِيعُ. وَقَالَ الْمُزَنِيُّ
عَنْهُ: إِذَا أَمَرَهُ الْحَاكِمُ بِالنَّفَقَةِ كَانَتْ
دَيْنًا، وَمَا ادَّعَى قُبِلَ مِنْهُ إِذَا كَانَ مِثْلُهُ
قَصْدًا. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إِذَا أَنْفَقَ عَلَى
اللُّقَطَةِ وَالْإِبِلِ بِغَيْرِ أَمْرِ الْقَاضِي فَهُوَ
مُتَطَوِّعٌ، وَإِنْ أَنْفَقَ بِأَمْرِ الْقَاضِي فَذَلِكَ
دَيْنٌ عَلَى صَاحِبِهَا إِذَا جَاءَ، وَلَهُ أَنْ يَحْبِسَهَا
إِذَا حَضَرَ صَاحِبُهَا، وَالنَّفَقَةُ عَلَيْهَا ثَلَاثَةُ
أَيَّامٍ وَنَحْوُهَا، حَتَّى يَأْمُرَ الْقَاضِي بِبَيْعِ
الشَّاةِ وَمَا أَشْبَهَهَا وَيَقْضِي بِالنَّفَقَةِ.
الثَّالِثَةَ عَشَرَةَ- لَيْسَ فِي قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي اللُّقَطَةِ بَعْدَ التَّعْرِيفِ:"
فَاسْتَمْتِعْ بِهَا" أَوْ" فَشَأْنُكَ بِهَا" أَوْ" فَهِيَ
لَكَ" أَوْ" فَاسْتَنْفِقْهَا" أَوْ" ثُمَّ كُلْهَا" أَوْ"
فَهُوَ مَالُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ" عَلَى مَا فِي
صَحِيحِ مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ، مَا يَدُلُّ عَلَى التَّمْلِيكِ،
وَسُقُوطِ الضَّمَانِ عَنِ الْمُلْتَقِطِ إِذَا جَاءَ
رَبُّهَا، فَإِنَّ فِي حَدِيثِ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ
الْجُهَنِيِّ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ:" فَإِنْ لَمْ تعرف «1»
__________
(1). (إن لم تعرف): أي لم تعرف صاحبها.
(9/137)
قَالُوا يَا أَبَانَا
مَا لَكَ لَا تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ
لَنَاصِحُونَ (11) أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَدًا يَرْتَعْ
وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (12)
فَاسْتَنْفِقْهَا وَلْتَكُنْ وَدِيعَةً
عِنْدَكَ فَإِنْ جَاءَ صَاحِبُهَا يَوْمًا مِنَ الدَّهْرِ
فَأَدِّهَا إِلَيْهِ" فِي رِوَايَةٍ" ثُمَّ كُلْهَا فَإِنْ
جَاءَ صَاحِبُهَا فَأَدِّهَا إِلَيْهِ" خَرَّجَهُ
الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ. وَأَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى
أَنَّ صَاحِبَهَا مَتَى جَاءَ فَهُوَ أَحَقُّ بِهَا، إِلَّا
مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ دَاوُدُ مِنْ أَنَّ الْمُلْتَقِطَ
يَمْلِكُ اللُّقَطَةَ بَعْدَ التَّعْرِيفِ، لِتِلْكَ
الظَّوَاهِرِ، وَلَا الْتِفَاتَ لِقَوْلِهِ، لِمُخَالَفَةِ
النَّاسِ، وَلِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ:" فأدها إليه".
[سورة يوسف (12): الآيات 11 الى 12]
قالُوا يَا أَبانا مَا لَكَ لَا تَأْمَنَّا عَلى يُوسُفَ
وَإِنَّا لَهُ لَناصِحُونَ (11) أَرْسِلْهُ مَعَنا غَداً
يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ (12)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (قالُوا يَا أَبانا مَا لَكَ لَا
تَأْمَنَّا عَلى يُوسُفَ) قِيلَ لِلْحَسَنِ: أَيَحْسُدُ
الْمُؤْمِنُ؟ قَالَ: مَا أَنْسَاكَ بِبَنِي يَعْقُوبَ!
وَلِهَذَا قِيلَ: الْأَبُ جَلَّابٌ وَالْأَخُ سَلَّابٌ،
فَعِنْدَ ذَلِكَ أَجْمَعُوا عَلَى التَّفْرِيقِ بَيْنَهُ
وَبَيْنَ وَلَدِهِ بِضَرْبٍ مِنَ الِاحْتِيَالِ. وَقَالُوا
لِيَعْقُوبَ:" يَا أَبانا مَا لَكَ لَا تَأْمَنَّا عَلى
يُوسُفَ" وَقِيلَ: لَمَّا تَفَاوَضُوا وَافْتَرَقُوا عَلَى
رَأْيِ الْمُتَكَلِّمِ الثَّانِي عَادُوا إِلَى يَعْقُوبَ
عَلَيْهِ السَّلَامُ وَقَالُوا هَذَا الْقَوْلُ. وَفِيهِ
دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُمْ سَأَلُوهُ قَبْلَ ذَلِكَ أَنْ
يُخْرِجَ مَعَهُمْ يُوسُفَ فَأَبَى عَلَى مَا يَأْتِي. قَرَأَ
يَزِيدُ بْنُ الْقَعْقَاعِ وَعَمْرُو بْنُ عُبَيْدٍ
وَالزُّهْرِيُّ" لَا تَأْمَنَّا" بِالْإِدْغَامِ، وَبِغَيْرِ
إِشْمَامٍ وَهُوَ الْقِيَاسُ، لِأَنَّ سَبِيلَ مَا يُدْغَمُ
أَنْ يَكُونَ سَاكِنًا. وَقَرَأَ طَلْحَةُ بْنُ مُصَرِّفٍ" لَا
تَأْمَنُنَا" بِنُونَيْنِ ظَاهِرَتَيْنِ عَلَى الْأَصْلِ.
وَقَرَأَ يَحْيَى بْنُ وَثَّابٍ وَأَبُو رَزِينٍ- وَرُوِيَ
عَنِ الْأَعْمَشِ-" وَلَا تِيمَنَّا" بِكَسْرِ التَّاءِ،
وَهِيَ لُغَةُ تَمِيمٍ، يَقُولُونَ: أَنْتَ تِضْرِبُ، وَقَدْ
تَقَدَّمَ. وَقَرَأَ سَائِرُ النَّاسِ بِالْإِدْغَامِ
وَالْإِشْمَامِ لِيَدُلَّ عَلَى حَالِ الْحَرْفِ قَبْلَ
إِدْغَامِهِ. (وَإِنَّا لَهُ لَناصِحُونَ) أَيْ فِي حِفْظِهِ
[وَحَيْطَتِهِ «1»] حَتَّى نَرُدَّهُ إِلَيْكَ. قَالَ
مُقَاتِلٌ: فِي الْكَلَامِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ، وَذَلِكَ
أَنَّ إِخْوَةُ يُوسُفَ قَالُوا لِأَبِيهِمْ:" أَرْسِلْهُ
مَعَنا غَداً" الْآيَةَ، فَحِينَئِذٍ قَالَ أَبُوهُمْ:" إِنِّي
لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ" [يوسف: 13] فقالوا حينئذ
جوابا لقول:" مَا لَكَ لَا تَأْمَنَّا عَلى يُوسُفَ" الْآيَةَ.
(أَرْسِلْهُ مَعَنا غَداً) إلى الصحراء. (يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ)
" غَداً" ظَرْفٌ، وَالْأَصْلُ عِنْدَ سِيبَوَيْهِ غَدْوٌ،
وَقَدْ نَطَقَ بِهِ عَلَى الْأَصْلِ، قَالَ النَّضْرُ بْنُ
شُمَيْلٍ: مَا بَيْنَ الْفَجْرِ وَصَلَاةِ الصُّبْحِ يُقَالُ
له غدوة،
__________
(1). من ع وى. وفى اوو: وغفلته.
(9/138)
وَكَذَا بُكْرَةً." نَرْتَعْ وَنَلْعَبْ"
بِالنُّونِ وَإِسْكَانِ الْعَيْنِ قِرَاءَةُ أَهْلِ
الْبَصْرَةِ. وَالْمَعْرُوفُ مِنْ قِرَاءَةِ أَهْلِ مَكَّةَ."
نَرْتَعِ" بِالنُّونِ وَكَسْرِ الْعَيْنِ. وَقِرَاءَةِ أَهْلِ
الْكُوفَةِ." يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ" بِالْيَاءِ وَإِسْكَانِ
الْعَيْنِ. وَقِرَاءَةِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ بِالْيَاءِ
وَكَسْرِ الْعَيْنِ، الْقِرَاءَةُ الْأُولَى مِنْ قَوْلِ
الْعَرَبِ رَتَعَ الْإِنْسَانُ وَالْبَعِيرُ إِذَا أَكَلَا
كَيْفَ شَاءَا، وَالْمَعْنَى: نَتَّسِعْ فِي الْخِصْبِ،
وَكُلُّ مُخْصِبٍ رَاتِعٌ، قَالَ:
فَارْعَيْ فَزَارَةُ لَا هَنَاكِ الْمَرْتَعْ
وَقَالَ آخَرُ «1»:
تَرْتَعُ مَا غَفَلَتْ حَتَّى إِذَا ادَّكَرْتَ ... فَإِنَّمَا
هِيَ إِقْبَالٌ وَإِدْبَارٌ
وَقَالَ آخَرُ «2»:
أَكُفْرًا بَعْدَ رَدِّ الْمَوْتِ عَنِّي ... وَبَعْدَ
عَطَائِكَ الْمِائَةَ الرِّتَاعَا
أَيِ الرَّاتِعَةَ لِكَثْرَةِ الْمَرْعَى. وَرَوَى مَعْمَرٌ
عَنْ قَتَادَةَ" تَرْتَعُ" تَسْعَى، قَالَ النَّحَّاسُ:
أَخَذَهُ مِنْ قَوْلِهِ:" إِنَّا ذَهَبْنا نَسْتَبِقُ" لِأَنَّ
الْمَعْنَى: نَسْتَبِقُ فِي الْعَدْوِ إِلَى غَايَةٍ
بِعَيْنِهَا، وَكَذَا" يَرْتَعْ" بِإِسْكَانِ الْعَيْنِ،
إِلَّا أَنَّهُ لِيُوسُفَ وَحْدَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ. وَ" يَرْتَعِ" بِكَسْرِ الْعَيْنِ مِنْ رَعْيِ
الْغَنَمِ، أَيْ لِيَتَدَرَّبَ بِذَلِكَ وَيَتَرَجَّلُ،
فَمَرَّةً يَرْتَعُ، وَمَرَّةً يَلْعَبُ لِصِغَرِهِ. وَقَالَ
الْقُتَبِيُّ" نَرْتَعُ" نَتَحَارَسُ وَنَتَحَافَظُ، وَيَرْعَى
بَعْضُنَا بَعْضًا، مِنْ قَوْلِكَ: رَعَاكَ اللَّهُ، أَيْ
حَفِظَكَ." وَنَلْعَبُ" مِنَ اللَّعِبِ وَقِيلَ لِأَبِي
عَمْرِو بْنِ الْعَلَاءِ: كَيْفَ قَالُوا" وَنَلْعَبُ" وَهُمْ
أَنْبِيَاءُ؟ فَقَالَ: لَمْ يَكُونُوا يَوْمئِذٍ أَنْبِيَاءَ.
وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِاللَّعِبِ الْمُبَاحُ مِنَ
الِانْبِسَاطِ، لَا اللَّعِبُ الْمَحْظُورُ الَّذِي هُوَ ضِدَّ
الْحَقِّ، وَلِذَلِكَ لَمْ يُنْكِرْ يَعْقُوبُ قَوْلَهُمْ"
وَنَلْعَبُ". وَمِنْهُ قَوْلُهُ عَلَيْهِ السلام:" فهلا بكرا
تلاعبها وتلاعبك" «3».
__________
(1). البيت للخنساء ترثى بها أخاها صخرا. ومعنى: (ترتع) ترعى.
تصف ناقة أو بقرة فقدت ولدها، فكلما غفلت عنه رتعت، فإذا
ادكرته حنت إليه فأقبلت وأدبرت، فضربتها مثلا لفقدها أخاها
صخرا.
(2). هو القطامي.
(3). الخطاب لجابر بن عبد الله، وذكر ملا على عن القرطبي: أن
الملاعبة عبارة عن الألفة التامة، فأن الثيب قد تكون معلقة
القلب بالزوج الأول، فلم تكن محبتها كاملة، بخلاف البكر.
ويروى: تداعبها وتداعبك. والدعابة الممازجة.
(9/139)
قَالَ إِنِّي
لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ وَأَخَافُ أَنْ يَأْكُلَهُ
الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ (13) قَالُوا لَئِنْ
أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذًا
لَخَاسِرُونَ (14)
وَقَرَأَ مُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ:"
يَرْتَعْ" «1» عَلَى مَعْنَى يُرْتِعُ مَطِيَّتَهُ، فَحَذَفَ
الْمَفْعُولَ،" وَيَلْعَبُ" بِالرَّفْعِ عَلَى
الِاسْتِئْنَافِ، وَالْمَعْنَى: هُوَ مِمَّنْ يَلْعَبُ.
(وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ) مِنْ كُلِّ مَا تَخَافُ عَلَيْهِ.
ثُمَّ يَحْتَمِلُ أَنَّهُمْ كَانُوا يَخْرُجُونَ رُكْبَانًا،
وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُمْ كَانُوا رَجَّالَةً. وَقَدْ نُقِلَ
أَنَّهُمْ حَمَلُوا يُوسُفَ عَلَى أَكْتَافِهِمْ مَا دَامَ
يَعْقُوبُ يَرَاهُمْ، ثُمَّ لَمَّا غَابُوا عَنْ عَيْنِهِ
طَرَحُوهُ لِيَعْدُوَ مَعَهُمْ إِضْرَارًا به.
[سورة يوسف (12): الآيات 13 الى 14]
قالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ وَأَخافُ أَنْ
يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غافِلُونَ (13) قالُوا
لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذاً
لَخاسِرُونَ (14)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (قالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ
تَذْهَبُوا بِهِ) فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ، أَيْ ذَهَابُكُمْ بِهِ.
أَخْبَرَ عَنْ حُزْنِهِ لِغَيْبَتِهِ. (وَأَخافُ أَنْ
يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ) وَذَلِكَ أَنَّهُ رَأَى فِي مَنَامِهِ
أَنَّ الذِّئْبَ شَدَّ عَلَى يُوسُفَ، فَلِذَلِكَ خَافَهُ
عَلَيْهِ، قَالَهُ الْكَلْبِيُّ. وَقِيلَ: إِنَّهُ رَأَى فِي
مَنَامِهِ كَأَنَّهُ عَلَى ذُرْوَةِ جَبَلٍ، وَكَأَنَّ يُوسُفَ
فِي بَطْنِ الْوَادِي، فَإِذَا عَشَرَةٌ مِنَ الذِّئَابِ قَدِ
احْتَوَشَتْهُ تُرِيدُ أَكْلَهُ، فَدَرَأَ عَنْهُ وَاحِدٌ،
ثُمَّ انْشَقَّتِ الْأَرْضُ فَتَوَارَى يُوسُفُ فِيهَا
ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، فَكَانَتِ الْعَشَرَةُ إِخْوَتُهُ، لَمَّا
تَمَالَئُوا عَلَى قَتْلِهِ، وَالَّذِي دَافِعْ عَنْهُ أَخُوهُ
الْأَكْبَرُ يَهُوذَا، وَتَوَارِيهِ فِي الْأَرْضِ هُوَ
مَقَامُهُ فِي الْجُبِّ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ. وَقِيلَ: إِنَّمَا
قَالَ ذَلِكَ لِخَوْفِهِ مِنْهُمْ عَلَيْهِ، وَإِنَّهُ
أَرَادَهُمْ بِالذِّئْبِ، فَخَوْفُهُ إِنَّمَا كَانَ مِنْ
قَتْلِهِمْ لَهُ، فَكَنَّى عَنْهُمْ بِالذِّئْبِ مُسَاتَرَةً
لَهُمْ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَسَمَّاهُمْ ذِئَابًا.
وَقِيلَ: مَا خَافَهُمْ عَلَيْهِ، وَلَوْ خَافَهُمْ لَمَا
أَرْسَلَهُ مَعَهُمْ، وَإِنَّمَا خَافَ الذِّئْبَ، لِأَنَّهُ
أَغْلَبُ مَا يُخَافُ فِي الصَّحَارِي. وَالذِّئْبُ مَأْخُوذٌ
مِنْ تَذَاءَبَتِ «2» الرِّيحُ إِذَا جَاءَتْ مِنْ كُلِّ
وَجْهٍ، كَذَا قَالَ أَحْمَدُ بْنُ يَحْيَى، قَالَ:
وَالذِّئْبُ مهموز
__________
(1). (يرتع)، والذي في تفسير ابن عطية والآلوسى وأبى حيان عن
مجاهد وقتادة هو (بالنون) وجزم (نلعب) قال ابن عطية: (وقراءة
مجاهد وقتادة" نرتع" بضم النون وكسر التاء،" ونلعب" بالنون
والجزم).
(2). في ع: البراري، ورد في روح المعاني أن هذا الاشتقاق عند
الزمخشري، وقال الأصمعي: إن تذاءبت مشتق من الذئب، لأن الذئب
يفعله في عدوه، وتعقب بأن أخذ الفعل من الأسماء الجامدة قليل
مخالف للقياس.
(9/140)
فَلَمَّا ذَهَبُوا
بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَتِ الْجُبِّ
وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَذَا
وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (15)
لأنه يجئ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ. وَرَوَى
وَرْشٌ عَنْ نَافِعٍ" الذِّيبُ" بِغَيْرِ هَمْزٍ، لَمَّا
كَانَتِ الْهَمْزَةُ سَاكِنَةً وَقَبْلَهَا كَسْرَةٌ
فَخَفَّفَهَا صَارَتْ يَاءً. (وَأَنْتُمْ عَنْهُ غافِلُونَ) أي
مشغلون بِالرَّعْيِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: (قالُوا لَئِنْ
أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ) أَيْ جَمَاعَةٌ نَرَى
الذِّئْبَ ثُمَّ لَا نَرُدُّهُ عَنْهُ. (إِنَّا إِذاً
لَخاسِرُونَ) أَيْ فِي حِفْظِنَا أَغْنَامَنَا، أَيْ إِذَا
كُنَّا لَا نَقْدِرُ عَلَى دَفْعِ الذِّئْبِ عَنْ أَخِينَا
فَنَحْنُ أَعْجَزُ أَنْ نَدْفَعَهُ عَنْ أَغْنَامِنَا.
وَقِيلَ:" لَخاسِرُونَ" لجاهلون بحقه. وقيل: لعاجزون.
[سورة يوسف (12): آية 15]
فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي
غَيابَتِ الْجُبِّ وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ
بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (15)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ
يَجْعَلُوهُ) " أَنْ" فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ، أَيْ عَلَى أَنْ
يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ. قِيلَ فِي الْقِصَّةِ:
إِنَّ يَعْقُوبَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا أَرْسَلَهُ
مَعَهُمْ أَخَذَ عَلَيْهِمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا
لَيَحْفَظُنَّهُ، وَسَلَّمَهُ إِلَى رُوبِيلَ وَقَالَ: يَا
رُوبِيلُ! إِنَّهُ صَغِيرٌ، وَتَعْلَمُ يَا بُنَيَّ شَفَقَتِي
عَلَيْهِ، فَإِنْ جَاعَ فَأَطْعِمْهُ، وَإِنْ عَطِشَ
فَاسْقِهِ، وَإِنْ أَعْيَا «1» فَاحْمِلْهُ ثُمَّ عَجِّلْ
بِرَدِّهِ إِلَيَّ. قَالَ: فَأَخَذُوا يَحْمِلُونَهُ عَلَى
أَكْتَافِهِمْ، لَا يَضَعُهُ وَاحِدٌ إِلَّا رَفَعَهُ آخَرُ،
وَيَعْقُوبُ يُشَيِّعُهُمْ مِيلًا ثُمَّ رَجَعَ، فَلَمَّا
انْقَطَعَ بَصَرُ أَبِيهِمْ عَنْهُمْ رَمَاهُ الَّذِي كَانَ
يَحْمِلُهُ إِلَى الْأَرْضِ حَتَّى كَادَ يَنْكَسِرُ،
فَالْتَجَأَ إِلَى آخَرَ فَوَجَدَ عِنْدَ كُلٍّ وَاحِدٍ
مِنْهُمْ أَشَدُّ مِمَّا عِنْدَ الْآخَرِ مِنَ الْغَيْظِ
وَالْعَسْفِ، فَاسْتَغَاثَ بِرُوبِيلَ وَقَالَ:" أَنْتَ
أَكْبَرُ إِخْوَتِي، وَالْخَلِيفَةُ مِنْ بَعْدِ وَالِدِي
عَلَيَّ، وَأَقْرَبُ الْإِخْوَةِ إِلَيَّ، فَارْحَمْنِي
وَارْحَمْ ضَعْفِي" فَلَطَمَهُ لَطْمَةً شَدِيدَةً وَقَالَ:
لَا قَرَابَةَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ، فَادْعُ الْأَحَدَ عَشَرَ
كَوْكَبًا فَلْتُنْجِكَ مِنَّا، فَعَلِمَ أَنَّ حِقْدَهُمْ
مِنْ أَجْلِ رُؤْيَاهُ، فَتَعَلَّقَ بِأَخِيهِ يَهُوذَا
وَقَالَ: يَا أَخِي! ارْحَمْ ضَعْفِي وَعَجْزِي وَحَدَاثَةَ
سِنِي، وَارْحَمْ قَلْبَ أَبِيكَ يَعْقُوبَ، فَمَا أَسْرَعَ
مَا تَنَاسَيْتُمْ وَصِيَّتَهُ وَنَقَضْتُمْ عَهْدَهُ، فَرَقَّ
قَلْبُ يَهُوذَا فَقَالَ: وَاللَّهِ لَا يَصِلُونَ إِلَيْكَ
أَبَدًا مَا دُمْتُ حَيًّا، ثُمَّ قَالَ: يَا إِخْوَتاهُ!
إِنَّ قَتْلَ النَّفْسِ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ مِنْ أَعْظَمِ
الْخَطَايَا، فَرُدُّوا هذا الصبي إلى أبيه، ونعاهده
__________
(1). أعيا الرجل في المشي: كل. [ ..... ]
(9/141)
أَلَّا يُحَدِّثَ وَالِدَهُ بِشَيْءٍ
مِمَّا جَرَى أَبَدًا، فَقَالَ لَهُ إِخْوَتُهُ: وَاللَّهِ مَا
تُرِيدُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ لَكَ الْمَكَانَةُ عِنْدَ
يَعْقُوبَ، وَاللَّهِ لَئِنْ لَمْ تَدَعْهُ لَنَقْتُلَنَّكَ
مَعَهُ، قَالَ: فَإِنْ أَبَيْتُمْ إِلَّا ذَلِكَ فَهَاهُنَا
هَذَا الْجُبُّ الْمُوحِشُ الْقَفْرُ، الَّذِي هُوَ مَأْوَى
الْحَيَّاتِ وَالْهَوَامِّ فَأَلْقُوهُ فِيهِ، فَإِنْ أُصِيبَ
بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ فَهُوَ الْمُرَادُ، وَقَدِ اسْتَرَحْتُمْ
مِنْ دَمِهِ، وَإِنِ انْفَلَتَ عَلَى أَيْدِي سَيَّارَةٍ
يَذْهَبُونَ بِهِ إِلَى أَرْضٍ فَهُوَ الْمُرَادُ، فَأَجْمَعَ
رَأْيُهُمْ عَلَى ذَلِكَ، فَهُوَ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى:
(فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي
غَيابَتِ الْجُبِّ) وجواب" فَلَمَّا" مَحْذُوفٌ، أَيْ فَلَمَّا
ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا عَلَى طَرْحِهِ فِي الْجُبِّ
عَظُمَتْ فِتْنَتُهُمْ. وَقِيلَ: جَوَابُ" فَلَمَّا"
قَوْلُهُمْ:" قالُوا يَا أَبانا إِنَّا ذَهَبْنا نَسْتَبِقُ"
[يوسف: 17]. وَقِيلَ: التَّقْدِيرُ فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ
مِنْ عِنْدِ أَبِيهِمْ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي
غَيَابَةِ الْجُبِّ جَعَلُوهُ فِيهَا، هَذَا عَلَى مَذْهَبِ
الْبَصْرِيِّينَ، وَأَمَّا عَلَى قَوْلِ الْكُوفِيِّينَ
فَالْجَوَابُ." أَوْحَيْنا" وَالْوَاوُ مُقْحَمَةٌ، وَالْوَاوُ
عِنْدَهُمْ تُزَادُ مَعَ لَمَّا وَحَتَّى، قَالَ الله تعالى:"
حَتَّى إِذا جاؤُها وَفُتِحَتْ أَبْوابُها" «1» [الزمر: 73]
أَيْ فُتِحَتْ وَقَوْلُهُ:" حَتَّى إِذا جاءَ أَمْرُنا وَفارَ
التَّنُّورُ" «2» [هود: 40] أَيْ فَارَ. قَالَ امْرُؤُ
الْقَيْسِ:
فَلَمَّا أَجَزْنَا سَاحَةَ الْحَيِّ وَانْتَحَى «3»
أَيِ انْتَحَى، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:" فَلَمَّا
أَسْلَما وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ وَنادَيْناهُ" [الصافات: 104 -
103] أي ناديناه «4». وفى قوله: (وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ)
دَلِيلٌ عَلَى نُبُوَّتِهِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ. قَالَ
الْحَسَنُ وَمُجَاهِدٌ وَالضَّحَّاكُ وَقَتَادَةَ: أَعْطَاهُ
اللَّهُ النُّبُوَّةَ وَهُوَ فِي الْجُبِّ عَلَى حَجَرٍ
مُرْتَفِعٍ عَنِ الْمَاءِ. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: أُلْقِيَ فِي
الْجُبِّ وَهُوَ ابْنُ ثَمَانِيَ عَشْرَةَ سَنَةً، فَمَا كَانَ
صَغِيرًا، وَمَنْ قَالَ كَانَ صَغِيرًا فَلَا يَبْعُدُ فِي
الْعَقْلِ أَنْ يَتَنَبَّأَ الصَّغِيرُ وَيُوحَى إِلَيْهِ.
وَقِيلَ: كَانَ وَحْيُ إِلْهَامٍ كَقَوْلِهِ:" وَأَوْحى
رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ" «5». وَقِيلَ: كَانَ مَنَامًا،
وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ- وَاللَّهُ أَعْلَمُ- وَأَنَّ جِبْرِيلَ
جَاءَهُ بِالْوَحْيِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: (لَتُنَبِّئَنَّهُمْ
بِأَمْرِهِمْ هَذَا) فِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا- أَنَّهُ
أَوْحَى إِلَيْهِ أَنَّهُ سَيَلْقَاهُمْ وَيُوَبِّخُهُمْ عَلَى
مَا صَنَعُوا، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ الْوَحْيُ بعد إلقائه في
الجب تقوية لقلبه، وتبشير لَهُ بِالسَّلَامَةِ. الثَّانِي-
أَنَّهُ أَوْحَى إِلَيْهِ بِالَّذِي يَصْنَعُونَ بِهِ، فَعَلَى
هَذَا [يَكُونُ] «6» الْوَحْيُ قَبْلَ إلقائه
__________
(1). الصحيح أن الواو في هذه الآية ليس زائدا وإنما هو للحال
مع تقدير قد وذلك لإفادة أن أهل الجنة هيأ الله لهم ما يزيد
سرورهم بخلاف أهل النار فتحت لهم عند حضورهم زيادة في حسرتهم.
راجع ج 15 ص 284 وص 104.
(2). راجع ج 9 ص 30.
(3). تمام البيت:
بنا بطن خبت ذى قفاف عقنقل.
(4). الصحيح أن الواو في هذه الآية ليس زائدا وإنما هو للحال
مع تقدير قد وذلك لإفادة أن أهل الجنة هيأ الله لهم ما يزيد
سرورهم بخلاف أهل النار فتحت لهم عند حضورهم زيادة في حسرتهم.
راجع ج 15 ص 284 وص 104.
(5). راجع ج 10 ص 133.
(6). من ع.
(9/142)
في الجب إنذار لَهُ. (وَهُمْ لَا
يَشْعُرُونَ) أَنَّكَ يُوسُفَ، وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ
تَعَالَى أَمَرَهُ لَمَّا أَفْضَى إِلَيْهِ الْأَمْرَ بِمِصْرَ
أَلَّا يُخْبِرَ أَبَاهُ وَإِخْوَتَهُ بِمَكَانِهِ. وَقِيلَ:
بِوَحْيِ اللَّهِ تَعَالَى بِالنُّبُوَّةِ، قَالَهُ ابْنُ
عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ. وَقِيلَ:" الْهَاءُ" لِيَعْقُوبَ،
أَوْحَى اللَّهُ تَعَالَى إِلَيْهِ مَا فَعَلُوهُ بِيُوسُفَ،
وَأَنَّهُ سَيُعَرِّفُهُمْ بِأَمْرِهِ، وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ
بِمَا أَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَمِمَّا
ذُكِرَ مِنْ قِصَّتِهِ إِذْ أُلْقِيَ فِي الْجُبِّ- مَا
ذَكَرَهُ السُّدِّيُّ وَغَيْرُهُ- أَنَّ إِخْوَتَهُ لَمَّا
جَعَلُوا يُدَلُّونَهُ فِي الْبِئْرِ، تَعَلَّقَ بِشَفِيرِ
الْبِئْرِ، فَرَبَطُوا يَدَيْهِ وَنَزَعُوا قَمِيصَهُ،
فَقَالَ: يَا إِخْوَتاهُ! رُدُّوا عَلَيَّ قَمِيصِي أَتَوَارَى
بِهِ فِي هَذَا الْجُبِّ، فَإِنْ مُتُّ كَانَ كَفَنِي، وَإِنْ
عِشْتُ أُوَارِي «1» بِهِ عَوْرَتِي، فَقَالُوا: ادْعُ
الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالْأَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا
فَلْتُؤْنِسْكَ وَتَكْسُكَ، فَقَالَ: إِنِّي لَمْ أَرَ
شَيْئًا، فَدَلَّوْهُ فِي الْبِئْرِ حَتَّى إِذَا بَلَغَ
نِصْفَهَا أَلْقَوْهُ إِرَادَةَ أَنْ يَسْقُطَ فَيَمُوتُ،
فَكَانَ فِي الْبِئْرِ مَاءٌ فَسَقَطَ فِيهِ، ثُمَّ آوَى إِلَى
صَخْرَةٍ فَقَامَ عَلَيْهَا. وَقِيلَ: إِنَّ شَمْعُونَ هُوَ
الَّذِي قَطَعَ الْحَبْلَ إِرَادَةَ أَنْ يَتَفَتَّتَ عَلَى
الصَّخْرَةِ، وَكَانَ جِبْرِيلُ تَحْتَ سَاقَ الْعَرْشِ،
فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ أَنْ أَدْرِكْ عَبْدِي، قَالَ
جِبْرِيلُ: فَأَسْرَعْتُ وَهَبَطْتُ حَتَّى عَارَضْتُهُ بَيْنَ
الرَّمْيِ وَالْوُقُوعِ فَأَقْعَدْتُهُ عَلَى الصَّخْرَةِ
سَالِمًا. وَكَانَ ذَلِكَ الْجُبُّ مَأْوَى الْهَوَامِّ،
فَقَامَ عَلَى الصَّخْرَةِ وَجَعَلَ يَبْكِي، فَنَادَوْهُ،
فَظَنَّ أَنَّهَا رَحْمَةٌ عَلَيْهِ أَدْرَكَتْهُمْ،
فَأَجَابَهُمْ، فَأَرَادُوا أَنْ يَرْضَخُوهُ بِالصَّخْرَةِ
فَمَنَعَهُمْ يَهُوذَا، وَكَانَ يَهُوذَا يَأْتِيهِ
بِالطَّعَامِ، فَلَمَّا وَقَعَ عُرْيَانًا نَزَلَ جِبْرِيلُ
إِلَيْهِ، وَكَانَ إِبْرَاهِيمُ حِينَ أُلْقِيَ فِي النَّارِ
عُرْيَانًا أَتَاهُ جِبْرِيلُ بِقَمِيصٍ مِنْ حَرِيرِ
الْجَنَّةِ فَأَلْبَسُهُ إِيَّاهُ، فَكَانَ ذَلِكَ عِنْدَ
إِبْرَاهِيمَ، ثُمَّ وَرِثَهُ إِسْحَاقُ، ثُمَّ وَرِثَهُ
يَعْقُوبُ، فَلَمَّا شَبَّ يُوسُفَ جَعَلَ يَعْقُوبُ ذَلِكَ
الْقَمِيصَ فِي تَعْوِيذَةٍ وَجَعَلَهُ فِي عُنُقِهِ، فَكَانَ
لَا يُفَارِقُهُ، فَلَمَّا أُلْقِيَ فِي الْجُبِّ عُرْيَانًا
أَخْرَجَ جِبْرِيلُ دلك الْقَمِيصَ فَأَلْبَسُهُ إِيَّاهُ.
قَالَ وَهْبٌ: فَلَمَّا قَامَ عَلَى الصَّخْرَةِ قَالَ: يَا
إِخْوَتاهُ إِنَّ لِكُلِّ مَيِّتٍ وَصِيَّةٍ، فَاسْمَعُوا
وَصِيَّتِي، قَالُوا: وَمَا هِيَ؟ قَالَ: إِذَا اجْتَمَعْتُمْ
كُلُّكُمْ فَأَنِسَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَاذْكُرُوا وَحْشَتِي،
وَإِذَا أَكَلْتُمْ فَاذْكُرُوا جُوعِي، وَإِذَا شَرِبْتُمْ
فَاذْكُرُوا عَطَشِي، وَإِذَا رَأَيْتُمْ غَرِيبًا فَاذْكُرُوا
غُرْبَتِي، وَإِذَا رَأَيْتُمْ شَابًّا فَاذْكُرُوا شَبَابِي،
فَقَالَ لَهُ جِبْرِيلُ: يَا يُوسُفُ كُفَّ عَنْ هَذَا واشتغل
بالدعاء، فإن الدعاء عند الله
__________
(1). في ع: أتوارى به وأستر عورتي.
(9/143)
وَجَاءُوا أَبَاهُمْ
عِشَاءً يَبْكُونَ (16)
بِمَكَانٍ، ثُمَّ عَلَّمَهُ فَقَالَ: قُلِ
اللَّهُمَّ يَا مُؤْنِسَ كُلِّ غَرِيبٍ، وَيَا صَاحِبَ كُلِّ
وَحِيدٍ، وَيَا مَلْجَأَ كُلِّ خَائِفٍ، وَيَا كَاشِفَ كُلِّ
كُرْبَةٍ، وَيَا عَالِمَ كُلِّ نَجْوَى، وَيَا مُنْتَهَى كُلِّ
شَكْوَى، وَيَا حَاضِرَ كُلِّ مَلَأٍ، يَا حَيُّ يَا قَيُّومُ!
أَسْأَلُكَ أَنْ تَقْذِفَ رَجَاءَكَ فِي قَلْبِي، حَتَّى لَا
يَكُونُ لِي هَمٌّ وَلَا شُغْلٌ غَيْرَكَ، وَأَنْ تَجْعَلَ لِي
مِنْ أمري فرجا ومخرجا، إنك على كل شي قَدِيرٌ، فَقَالَتِ
الْمَلَائِكَةُ: إِلَهَنَا! نَسْمَعُ صَوْتًا وَدُعَاءً،
الصَّوْتُ صَوْتُ صَبِيٍّ، وَالدُّعَاءُ دُعَاءُ نَبِيٍّ.
وَقَالَ الضَّحَّاكُ: نَزَلَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ
عَلَى يُوسُفَ وَهُوَ فِي الْجُبِّ فَقَالَ لَهُ: أَلَا
أُعَلِّمُكَ كَلِمَاتٍ إِذَا أَنْتَ قُلْتَهُنَّ عَجَّلَ
اللَّهُ لَكَ خُرُوجَكَ مِنْ هَذَا الْجُبِّ؟ فَقَالَ: نَعَمْ
فَقَالَ لَهُ: قُلْ يَا صَانِعَ كُلِّ مَصْنُوعٍ، وَيَا
جَابِرَ كُلِّ كَسِيرٍ، وَيَا شَاهِدَ كُلِّ نَجْوَى، وَيَا
حَاضِرَ كُلِّ مَلَأٍ، وَيَا مُفَرِّجَ كُلِّ كُرْبَةٍ، وَيَا
صَاحِبَ كُلِّ غَرِيبٍ، وَيَا مُؤْنِسَ كُلِّ وَحِيدٍ، ايتِنِي
بِالْفَرَجِ وَالرَّجَاءِ، وَاقْذِفْ رَجَاءَكَ فِي قَلْبِي
حَتَّى لَا أَرْجُو أَحَدًا سِوَاكَ، فَرَدَّدَهَا يُوسُفُ فِي
لَيْلَتِهِ مِرَارًا، فَأَخْرَجَهُ اللَّهُ في صبيحة يومه ذلك
من الجب.
[سورة يوسف (12): آية 16]
وَجاؤُ أَباهُمْ عِشاءً يَبْكُونَ (16)
فِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْأُولَى- قَوْلُهُ تعالى: (وَجاؤُ
أَباهُمْ عِشاءً) أَيْ لَيْلًا، وَهُوَ ظَرْفٌ يَكُونُ فِي
مَوْضِعِ الْحَالِ، وَإِنَّمَا جَاءُوا عِشَاءً لِيَكُونُوا
أَقْدَرَ عَلَى الِاعْتِذَارِ فِي الظُّلْمَةِ، وَلِذَا قِيلَ:
لَا تَطْلُبِ الْحَاجَةَ بِاللَّيْلِ، فَإِنَّ الْحَيَاءَ فِي
الْعَيْنَيْنِ، وَلَا تَعْتَذِرْ بِالنَّهَارِ مِنْ ذَنْبٍ
فَتَتَلَجْلَجَ فِي الِاعْتِذَارِ، فَرُوِيَ أَنَّ يَعْقُوبَ
عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا سَمِعَ بُكَاءَهُمْ قَالَ: مَا
بِكُمْ؟ أَجْرَى في الغنم شي؟ قَالُوا: لَا. قَالَ: فَأَيْنَ
يُوسُفُ؟ قَالُوا: ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ،
فَبَكَى وَصَاحَ وَقَالَ: أَيْنَ قَمِيصُهُ؟ عَلَى مَا يَأْتِي
بَيَانُهُ [إِنْ شَاءَ اللَّهُ] «1». وَقَالَ السُّدِّيُّ
وَابْنُ حِبَّانَ: إِنَّهُ لَمَّا قَالُوا أَكَلَهُ الذِّئْبُ
خَرَّ مَغْشِيًّا عَلَيْهِ، فَأَفَاضُوا عَلَيْهِ الْمَاءَ
فَلَمْ يَتَحَرَّكْ، وَنَادَوْهُ فَلَمْ يُجِبْ، قَالَ وَهْبٌ:
وَلَقَدْ وَضَعَ يَهُوذَا يَدَهُ عَلَى مَخَارِجِ نَفَسِ
يَعْقُوبَ فَلَمْ يُحِسَّ بِنَفَسٍ، وَلَمْ يَتَحَرَّكْ لَهُ
عِرْقٌ، فَقَالَ لَهُمْ يَهُوذَا: وَيْلٌ لَنَا مِنْ دَيَّانِ
يَوْمِ الدِّينِ! ضَيَّعْنَا أَخَانَا، وَقَتَلْنَا أَبَانَا،
فَلَمْ يُفِقْ يَعْقُوبُ إِلَّا بِبَرْدِ السحر، فأفاق ورأسه
__________
(1). من ع.
(9/144)
قَالُوا يَا أَبَانَا
إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِنْدَ
مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ
لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ (17)
فِي حَجْرِ رُوبِيلَ، فَقَالَ: يَا
رُوبِيلُ! أَلَمْ آتمنك عَلَى وَلَدِي؟ أَلَمْ أَعْهَدْ
إِلَيْكَ عَهْدًا؟ فَقَالَ: يَا أَبَتِ كُفَّ عَنِّي بُكَاءَكَ
أُخْبِرْكَ، فَكَفَّ يَعْقُوبُ بُكَاءَهُ فَقَالَ: يَا أَبَتِ"
إِنَّا ذَهَبْنا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنا يُوسُفَ عِنْدَ
مَتاعِنا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ". الثَّانِيَةُ- قَالَ
عُلَمَاؤُنَا: هَذِهِ الْآيَةُ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ بُكَاءَ
الْمَرْءِ لَا يَدُلُّ عَلَى صِدْقِ مَقَالِهِ، لِاحْتِمَالِ
أَنْ يَكُونَ تَصَنُّعًا، فَمِنَ الْخَلْقِ مَنْ يَقْدِرُ
عَلَى ذَلِكَ، وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يَقْدِرُ. وَقَدْ قِيلَ:
إِنَّ الدَّمْعَ الْمَصْنُوعَ لَا يَخْفَى، كَمَا قَالَ
حَكِيمٌ:
إِذَا اشْتَبَكَتْ دُمُوعٌ فِي خُدُودٍ ... تَبَيَّنَ مَنْ
بَكَى مِمَّنْ تَبَاكَى
[سورة يوسف (12): آية 17]
قالُوا يَا أَبانا إِنَّا ذَهَبْنا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنا
يُوسُفَ عِنْدَ مَتاعِنا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَما أَنْتَ
بِمُؤْمِنٍ لَنا وَلَوْ كُنَّا صادِقِينَ (17)
فِيهِ سَبْعُ مَسَائِلَ: الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى"
نَسْتَبِقُ" نَفْتَعِلُ، مِنِ، الْمُسَابَقَةِ. وَقِيلَ: أَيْ
نَنْتَضِلُ، وَكَذَا فِي قِرَاءَةِ عَبْدِ اللَّهِ" إِنَّا
ذَهَبْنَا نَنْتَضِلُ" وَهُوَ نَوْعٌ مِنَ الْمُسَابَقَةِ،
قَالَهُ الزَّجَّاجُ. وَقَالَ الْأَزْهَرِيُّ: النِّضَالُ فِي
السِّهَامِ، وَالرِّهَانِ فِي الْخَيْلِ، وَالْمُسَابَقَةُ
تَجْمَعُهُمَا. قَالَ الْقُشَيْرِيُّ أَبُو نَصْرٍ:"
نَسْتَبِقُ" أَيْ فِي الرَّمْيِ، أَوْ عَلَى الْفَرَسِ، أَوْ
عَلَى الْأَقْدَامِ، وَالْغَرَضُ مِنَ الْمُسَابَقَةِ عَلَى
الْأَقْدَامِ تَدْرِيبُ النَّفْسِ عَلَى الْعَدْوِ، لِأَنَّهُ
الْآلَةُ فِي قِتَالِ الْعَدُوِّ، وَدَفْعِ الذِّئْبِ عَنِ
الْأَغْنَامِ. وَقَالَ السُّدِّيُّ وَابْنُ حِبَّانَ:"
نَسْتَبِقُ" نَشْتَدُّ جَرْيًا لِنَرَى أَيُّنَا أَسْبَقُ.
قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: الْمُسَابَقَةُ شِرْعَةٌ فِي
الشَّرِيعَةِ، وَخَصْلَةٌ بَدِيعَةٌ، وَعَوْنٌ عَلَى
الْحَرْبِ، وَقَدْ فَعَلَهَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ بِنَفْسِهِ وَبِخَيْلِهِ، وَسَابَقَ عَائِشَةَ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا عَلَى قَدَمَيْهِ فَسَبَقَهَا،
فَلَمَّا كَبُرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ سَابَقَهَا فَسَبَقَتْهُ، فَقَالَ لَهَا:" هَذِهِ
بِتِلْكَ". قُلْتُ: وَسَابَقَ سَلَمَةُ بْنُ الْأَكْوَعِ
رَجُلًا لَمَّا رَجَعُوا مِنْ ذِي «1» قَرَدٍ إِلَى
الْمَدِينَةِ فَسَبَقَهُ سلمة، خرجه مسلم.
__________
(1). ذى قرد: موضع قريب من المدينة أغاروا فيه على لقاح رسول
الله عليه الصلاة والسلام فغزاهم.
(9/145)
الثَّانِيَةُ: وَرَوَى مَالِكٍ عَنْ
نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَابَقَ بَيْنَ الْخَيْلِ الَّتِي
قَدْ أُضْمِرَتْ «1» [مِنَ الْحَفْيَاءِ «2»] وَكَانَ
أَمَدُهَا ثَنِيَّةَ «3» الْوَدَاعِ، وَسَابَقَ بَيْنَ
الْخَيْلِ الَّتِي لَمْ تُضَمَّرْ مِنَ الثَّنِيَّةِ إِلَى
مَسْجِدِ بَنِي زُرَيْقٍ، وَأَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ
كَانَ مِمَّنْ سَابَقَ بِهَا، وَهَذَا الْحَدِيثُ مَعَ
صِحَّتِهِ فِي هَذَا الْبَابِ تَضَمَّنَ ثَلَاثَةَ شُرُوطٍ،
فَلَا تَجُوزُ الْمُسَابَقَةُ بِدُونِهَا، وَهِيَ: أَنَّ
الْمَسَافَةَ لَا بُدَّ أَنْ تَكُونَ مَعْلُومَةً. الثَّانِي-
أَنْ تَكُونَ الْخَيْلُ مُتَسَاوِيَةَ الْأَحْوَالِ.
الثَّالِثُ- أَلَّا يُسَابِقَ الْمُضَمَّرُ مَعَ غَيْرِ
الْمُضَمَّرِ فِي أَمَدٍ وَاحِدٍ وَغَايَةٍ وَاحِدَةٍ.
وَالْخَيْلُ الَّتِي يَجِبُ أَنْ تُضَمَّرَ وَيُسَابَقُ
عَلَيْهَا، وَتُقَامُ هَذِهِ السُّنَّةُ فِيهَا هِيَ الْخَيْلُ
الْمُعَدَّةُ لِجِهَادِ الْعَدُوِّ لَا لِقِتَالِ
الْمُسْلِمِينَ فِي الْفِتَنِ. الثَّالِثَةُ- وَأَمَّا
الْمُسَابَقَةُ بِالنِّصَالِ وَالْإِبِلِ، فَرَوَى مُسْلِمٍ
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ: سَافَرْنَا مَعَ
رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فَنَزَلْنَا مَنْزِلًا فَمِنَّا مَنْ يُصْلِحُ خِبَاءَهُ،
وَمِنَّا مَنْ يَنْتَضِلُ، وَذَكَرَ الْحَدِيثَ. وَخَرَّجَ
النَّسَائِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال:" لَا سَبَقَ «4»
إِلَّا فِي نَصْلٍ أَوْ خُفٍّ أَوْ حَافِرٍ". وَثَبَتَ ذِكْرُ
النَّصْلِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ عَنْ نَافِعِ بْنِ
أَبِي نَافِعٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، ذَكَرَهُ النَّسَائِيُّ،
وَبِهِ يَقُولُ فُقَهَاءَ الْحِجَازُ وَالْعِرَاقُ. وَرَوَى
الْبُخَارِيُّ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: كَانَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَاقَةٌ تُسَمَّى الْعَضْبَاءُ لَا
تُسْبَقُ- قَالَ حميد: أولا تَكَادُ تُسْبَقُ- فَجَاءَ
أَعْرَابِيٌّ عَلَى قَعُودٍ فَسَبَقَهَا، فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَى
الْمُسْلِمِينَ حَتَّى عَرَفَهُ، فَقَالَ:" حق على الله ألا
يرتفع شي مِنَ الدُّنْيَا إِلَّا وَضَعَهُ". الرَّابِعَةُ-
أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ «5» عَلَى أَنَّ السَّبَقَ لَا
يَجُوزُ عَلَى وَجْهِ الرِّهَانِ إِلَّا فِي الْخُفِّ
وَالْحَافِرِ وَالنَّصْلِ، قَالَ الشَّافِعِيُّ: مَا عَدَا
هَذِهِ الثَّلَاثَةِ فَالسَّبَقُ فِيهَا قمار. وقد زاد أبو
البختري
__________
(1). تضمير الخيل: هو أن يظاهر عليها بالعلف حتى تسمن، ثم لا
تعلف إلا قوتا لتخف. وقيل تشد عليها سروجها، وتجلل بالأجلة حتى
تعرق تحتها، فيذهب رهلها ويشتد لحمها، ويكون ذلك لغزو أو سباق.
(2). الزيادة عن (موطأ مالك). والحفياء (بالمد والقصر): موضع
بالمدينة بينه وبين ثنية الوداع ستة أميال أو سبعة.
(3). الثنية في الجبل كالعقبة فيه، وقيل: هو الطريق العالي
فيه، وقيل أعلى المسيل في رأسه، وثنية الوداع مشرفة على
المدينة سميت بذلك، لأن من سافر إلى مكة يودع ثم، ومنها إلى
مسجد بنى زريق ميل.
(4)." لأسبق": هو بفتح الباء ما يجعل للسابق على سبقه من
المال، بالسكون مصدر. قال الخطابي: الصحيح رواية الفتح، أي لا
يحل أخذ المال بالمسابقة إلا في هذه الثلاثة.
(5). في ع وك وى: العلماء. [ ..... ]
(9/146)
الْقَاضِي فِي حَدِيثِ الْخُفِّ
وَالْحَافِرِ وَالنَّصْلِ" أَوْ جَنَاحٍ" وَهِيَ لَفْظَةٌ
وَضَعَهَا لِلرَّشِيدِ، فَتَرَكَ الْعُلَمَاءُ حَدِيثَهُ
لِذَلِكَ وَلِغَيْرِهِ مِنْ مَوْضُوعَاتِهِ، فَلَا يَكْتُبُ
الْعُلَمَاءُ حَدِيثَهُ بِحَالٍ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ مَالِكٍ
أَنَّهُ قَالَ: لَا سَبَقَ إِلَّا فِي الْخَيْلِ وَالرَّمْيِ،
لِأَنَّهُ قُوَّةٌ عَلَى أَهْلِ الْحَرْبِ، قَالَ: وَسَبَقُ
الْخَيْلِ أَحَبُّ إِلَيْنَا مِنْ سَبَقِ الرَّمْيِ. وظاهر
الحديث يستوي بَيْنَ السَّبَقِ عَلَى النُّجُبِ وَالسَّبَقِ
عَلَى الْخَيْلِ. وَقَدْ مَنَعَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ
الرِّهَانَ فِي كُلِّ شي إِلَّا فِي الْخَيْلِ، لِأَنَّهَا
الَّتِي كَانَتْ عَادَةُ الْعَرَبِ الْمُرَاهَنَةَ عَلَيْهَا.
وَرُوِيَ عَنْ عَطَاءٍ أَنَّ المراهنة في كل شي جَائِزَةٌ،
وَقَدْ تُؤُوِّلَ قَوْلُهُ، لِأَنَّ حَمْلَهُ عَلَى العموم [في
كل شي «1»] يُؤَدِّي إِلَى، إِجَازَةِ الْقِمَارِ، وَهُوَ
مُحَرَّمٌ بِاتِّفَاقٍ. الْخَامِسَةُ- لَا يَجُوزُ السَّبَقُ
فِي الْخَيْلِ وَالْإِبِلِ إِلَّا فِي غَايَةٍ مَعْلُومَةٍ
وَأَمَدٍ مَعْلُومٍ، كَمَا ذَكَرْنَا، وَكَذَلِكَ الرَّمْيُ
لَا يَجُوزُ السَّبَقُ فِيهِ إِلَّا بِغَايَةٍ مَعْلُومَةٍ
وَرَشْقٍ مَعْلُومٍ، وَنَوْعٍ مِنَ الْإِصَابَةِ، مُشْتَرَطٍ
خَسْقًا «2» أَوْ إِصَابَةٍ بِغَيْرِ شَرْطٍ. وَالْأَسْبَاقُ
ثَلَاثَةٌ: سَبَقٌ يُعْطِيهِ الْوَالِي أَوِ الرَّجُلُ غَيْرُ
الْوَالِي مِنْ مَالِهِ مُتَطَوِّعًا فَيَجْعَلُ لِلسَّابِقِ
شَيْئًا مَعْلُومًا، فَمَنْ سَبَقَ أَخَذَهُ. وَسَبَقٌ
يُخْرِجُهُ أَحَدُ الْمُتَسَابِقَيْنِ دُونَ صَاحِبِهِ، فَإِنْ
سَبَقَهُ صَاحِبُهُ أَخَذَهُ، وَإِنْ سَبَقَ هُوَ صَاحِبَهُ
أَخَذَهُ، وَحَسَنٌ أَنْ يُمْضِيَهُ فِي الْوَجْهِ الَّذِي
أَخْرَجَهُ لَهُ، وَلَا يَرْجِعُ إِلَى مَالِهِ، وَهَذَا
مِمَّا لَا خِلَافَ فِيهِ. وَالسَّبَقُ الثَّالِثُ- اخْتُلِفَ
فِيهِ، وَهُوَ أَنْ يُخْرِجَ كُلٌّ وَاحِدٌ مِنْهُمَا شَيْئًا
مِثْلَ مَا يُخْرِجُهُ صَاحِبُهُ، فَأَيُّهمَا سَبَقَ أَحْرَزَ
سَبَقَهُ وَسَبَقَ صَاحِبِهِ، وَهَذَا الْوَجْهُ «3» لَا
يَجُوزُ حَتَّى يُدْخِلَا بَيْنَهُمَا مُحَلِّلًا لَا
يَأْمَنَا أَنْ يَسْبِقَهُمَا، فَإِنْ سَبَقَ الْمُحَلِّلُ
أَحْرَزَ السَّبَقَيْنِ جَمِيعًا وَأَخَذَهُمَا وَحْدَهُ،
وَإِنْ سَبَقَ أَحَدُ الْمُتَسَابِقَيْنِ أَحْرَزَ سَبَقَهُ
واخذ سبق صاحبه، ولا شي للمحلل فيه، ولا شي عَلَيْهِ. وَإِنْ
سَبَقَ الثَّانِي مِنْهُمَا الثَّالِثَ كَانَ كَمَنْ لَمْ
يَسْبِقْ وَاحِدٌ مِنْهُمَا. وَقَالَ أَبُو عَلِيِّ بْنُ
خَيْرَانَ- مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ-: وَحُكْمُ الْفَرَسِ
الْمُحَلِّلِ أَنْ يَكُونَ مَجْهُولًا جَرْيُهُ، وَسُمِّيَ
مُحَلِّلًا لِأَنَّهُ يُحَلِّلُ السَّبَقَ لِلْمُتَسَابِقَيْنِ
أَوْ لَهُ. وَاتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّهُ إِنْ لَمْ
يَكُنْ بَيْنَهُمَا مُحَلِّلٌ وَاشْتَرَطَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ
الْمُتَسَابِقَيْنِ أَنَّهُ إِنْ سَبَقَ أَخَذَ سَبَقَهُ
وَسَبَقَ صَاحِبُهُ أَنَّهُ قِمَارٌ، وَلَا يَجُوزُ. وَفِي
سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ
__________
(1). في ع وك وووى: تؤول عليه.
(2). خسق السهم وخزق إذا أصاب الرمية ونفذ فيها.
(3). في ع: السبق
(9/147)
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:" مَنْ أَدْخَلَ
فَرَسًا بَيْنَ فَرَسَيْنِ وَهُوَ لَا يَأْمَنُ أَنْ يَسْبِقَ
فَلَيْسَ بِقِمَارٍ وَمَنْ أَدْخَلَهُ وَهُوَ يَأْمَنُ أَنْ
يَسْبِقَ فَهُوَ قِمَارٌ". وَفِي الْمُوَطَّأِ عَنْ سَعِيدِ
بْنِ الْمُسَيِّبِ قَالَ: لَيْسَ بِرِهَانِ الْخَيْلِ بَأْسٌ
إِذَا دَخَلَ فِيهَا مُحَلِّلٌ، فَإِنْ سَبَقَ أَخَذَ
السَّبَقَ، وإن سبق لم يكن عليه شي، وَبِهَذَا قَالَ
الشَّافِعِيُّ وَجُمْهُورُ أَهْلِ الْعِلْمِ. وَاخْتَلَفَ فِي
ذَلِكَ قَوْلُ مَالِكٍ، فَقَالَ مَرَّةً لَا يَجِبُ
الْمُحَلِّلُ فِي الْخَيْلِ، وَلَا نَأْخُذُ فِيهِ بِقَوْلِ
سَعِيدٍ، ثُمَّ قَالَ: لَا يَجُوزُ إِلَّا بِالْمُحَلِّلِ،
وَهُوَ الْأَجْوَدُ مِنْ قَوْلِهِ. السَّادِسَةُ- وَلَا
يُحْمَلُ عَلَى الْخَيْلِ وَالْإِبِلِ فِي الْمُسَابَقَةِ
إِلَّا مُحْتَلِمٌ، وَلَوْ رَكِبَهَا أَرْبَابُهَا كَانَ
أَوْلَى، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: لَا يَرْكَبُ الْخَيْلَ فِي
السِّبَاقِ إِلَّا أَرْبَابُهَا. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ:
وَأَقَلُّ السَّبَقِ أَنْ يَسْبِقَ بِالْهَادِي «1» أَوْ
بَعْضِهِ، أَوْ بِالْكَفَلِ أَوْ بَعْضِهِ. وَالسَّبَقُ مِنَ
الرُّمَاةِ عَلَى هَذَا النَّحْوِ عِنْدَهُ، وَقَوْلُ
مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ فِي هَذَا الْبَابِ نَحْوُ قَوْلِ
الشَّافِعِيِّ. السَّابِعَةُ- رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ سَابَقَ أَبَا بَكْرٍ
وَعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، فَسَبَقَ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَصَلَّى أَبُو بَكْرٍ
وثلت عُمَرُ، وَمَعْنَى وَصَلَّى أَبُو بَكْرٍ: يَعْنِي أَنَّ
رَأْسَ فَرَسِهِ كَانَ عِنْدَ صَلَا فَرَسِ رَسُولِ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالصَّلَوَانِ مَوْضِعُ
الْعَجُزِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَتَرَكْنا يُوسُفَ عِنْدَ
مَتاعِنا) أَيْ عِنْدَ ثِيَابِنَا وَأَقْمِشَتِنَا حَارِسًا
لَهَا. (فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ) وذلك أنهم ما سَمِعُوا
أَبَاهُمْ يَقُولُ:" وَأَخافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ"
أَخَذُوا ذَلِكَ مِنْ فِيهِ فَتَحَرَّمُوا بِهِ، لِأَنَّهُ
كَانَ أَظْهَرَ الْمَخَاوِفِ عَلَيْهِ. (وَما أَنْتَ
بِمُؤْمِنٍ لَنا) أَيْ بِمُصَدِّقٍ. (وَلَوْ كُنَّا) أَيْ
وَإِنْ كُنَّا، قَالَهُ الْمُبَرِّدُ وَابْنُ إِسْحَاقَ.
(صادِقِينَ) فِي قَوْلِنَا، وَلَمْ يُصَدِّقْهُمْ يَعْقُوبُ
لِمَا ظَهَرَ لَهُ مِنْهُمْ مِنْ قُوَّةِ التُّهْمَةِ
وَكَثْرَةِ الْأَدِلَّةِ عَلَى خِلَافِ مَا قَالُوهُ عَلَى مَا
يَأْتِي بَيَانُهُ. وَقِيلَ:" وَلَوْ كُنَّا صادِقِينَ" أَيْ
وَلَوْ كُنَّا عِنْدَكَ مِنْ أَهْلِ الثِّقَةِ وَالصِّدْقِ مَا
صَدَّقْتَنَا، ولا تهمتنا فِي هَذِهِ الْقَضِيَّةِ، لِشِدَّةِ
مَحَبَّتِكَ فِي يُوسُفَ، قال معناه الطبري والزجاج وغيرهما.
__________
(1). الهادي: العنق لتقدمه، والجمع (هواد)
(9/148)
وَجَاءُوا عَلَى
قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ
أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ
الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ (18)
[سورة يوسف (12): آية 18]
وَجاؤُ عَلى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قالَ بَلْ سَوَّلَتْ
لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ
الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ (18)
قوله تعالى: (وَجاؤُ عَلى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ). فِيهِ
ثَلَاثُ مَسَائِلَ الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى:" بِدَمٍ
كَذِبٍ" قَالَ مُجَاهِدٌ: كَانَ دَمَ سَخْلَةٍ أَوْ جَدْيٍ
ذَبَحُوهُ «1». وَقَالَ قَتَادَةُ: كَانَ دَمَ ظَبْيَةٍ، أَيْ
جَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ مَكْذُوبٍ فِيهِ، فَوَصَفَ
الدَّمَ بِالْمَصْدَرِ، فصار تقديره: بدم ذي كذب، مثل:"
وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ" [يوسف: 82] وَالْفَاعِلُ وَالْمَفْعُولُ
قَدْ يُسَمَّيَانِ بِالْمَصْدَرِ، يُقَالُ: هَذَا ضَرْبُ
الْأَمِيرِ، أَيْ مَضْرُوبُهُ وَمَاءٌ سَكْبٌ أَيْ مَسْكُوبٌ،
وَمَاءٌ غَوْرٌ أَيْ غَائِرٌ، وَرَجُلٌ عَدْلٌ أَيْ عَادِلٌ.
وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَعَائِشَةُ:" بِدَمٍ كَدِبٍ" بِالدَّالِ
غَيْرَ الْمُعْجَمَةِ، أَيْ بِدَمٍ طَرِيٍّ، يُقَالُ لِلدَّمِ
الطَّرِيِّ الْكَدِبُ. وَحُكِيَ أَنَّهُ الْمُتَغَيِّرُ،
قَالَهُ الشَّعْبِيُّ. وَالْكَدِبُ أَيْضًا الْبَيَاضُ الَّذِي
يَخْرُجُ فِي أَظْفَارِ الْأَحْدَاثِ، فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ
شُبِّهَ الدَّمُ فِي الْقَمِيصِ بِالْبَيَاضِ الَّذِي يَخْرُجُ
فِي الظُّفْرِ مِنْ جِهَةِ اخْتِلَافِ اللَّوْنَيْنِ.
الثَّانِيَةُ- قَالَ عُلَمَاؤُنَا رَحْمَةُ اللَّهِ
عَلَيْهِمْ: لَمَّا أَرَادُوا أَنْ يَجْعَلُوا الدَّمَ
عَلَامَةً عَلَى صِدْقِهِمْ قَرَنَ اللَّهُ بِهَذِهِ
الْعَلَامَةِ عَلَامَةً تُعَارِضُهَا، وَهِيَ سَلَامَةُ
الْقَمِيصِ مِنَ التَّنْيِيبِ «2»، إِذْ لَا يُمْكِنُ
افْتِرَاسُ الذِّئْبِ لِيُوسُفَ وَهُوَ لَابِسٌ الْقَمِيصَ
وَيَسْلَمُ الْقَمِيصُ مِنَ التَّخْرِيقِ، وَلَمَّا تَأَمَّلَ
يَعْقُوبُ عَلَيْهِ السَّلَامُ الْقَمِيصَ فَلَمْ يَجِدْ فِيهِ
خَرْقًا وَلَا أَثَرًا اسْتَدَلَّ بِذَلِكَ عَلَى كَذِبِهِمْ،
وَقَالَ لَهُمْ: مَتَى كَانَ هَذَا الذِّئْبُ حَكِيمًا
يَأْكُلُ يُوسُفَ وَلَا يَخْرِقُ الْقَمِيصَ! قَالَهُ ابْنُ
عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ، رَوَى إِسْرَائِيلُ عَنْ سِمَاكُ بْنُ
حَرْبٍ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ
الدَّمُ دَمَ سَخْلَةٍ. وَرَوَى سُفْيَانُ عَنْ سِمَاكٍ عَنْ
عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَمَّا نَظَرَ إِلَيْهِ
قَالَ كَذَبْتُمْ، لَوْ كَانَ الذِّئْبُ أَكَلَهُ لَخَرَقَ
الْقَمِيصَ. وَحَكَى الْمَاوَرْدِيُّ أَنَّ فِي الْقَمِيصِ
ثَلَاثَ آيَاتٍ: حِينَ جَاءُوا عَلَيْهِ بِدَمٍ كَذِبٍ،
وَحِينَ قُدَّ قَمِيصُهُ مِنْ دُبُرٍ، وَحِينَ أُلْقِيَ عَلَى
وَجْهِ أَبِيهِ فارتد بصيرا.
__________
(1). في ع: أو نحوه.
(2). في ع: التخريق.
(9/149)
قُلْتُ: وَهَذَا مَرْدُودٌ، فَإِنَّ
الْقَمِيصَ الَّذِي جَاءُوا عَلَيْهِ بِالدَّمِ غَيْرُ
الْقَمِيصِ الَّذِي قُدَّ، وَغَيْرُ الْقَمِيصِ الَّذِي
أَتَاهُ الْبَشِيرُ بِهِ. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ الْقَمِيصَ
الَّذِي قُدَّ هُوَ الَّذِي أُتِيَ بِهِ فَارْتَدَّ بَصِيرًا،
عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانُهُ آخِرَ السُّورَةِ إِنْ شَاءَ
اللَّهُ تَعَالَى. وَرُوِيَ أَنَّهُمْ قَالُوا لَهُ: بَلِ
اللُّصُوصُ قَتَلُوهُ، فَاخْتَلَفَ قَوْلُهُمْ،
فَاتَّهَمَهُمْ، فَقَالَ لَهُمْ يَعْقُوبُ: تَزْعُمُونَ أَنَّ
الذِّئْبَ أَكَلَهُ، وَلَوْ أَكَلَهُ لَشَقَّ قَمِيصَهُ قَبْلَ
أَنْ يُفْضِيَ إِلَى جِلْدِهِ، وَمَا أَرَى بِالْقَمِيصِ مِنْ
شَقٍّ، وَتَزْعُمُونَ أَنَّ اللُّصُوصَ قَتَلُوهُ، وَلَوْ
قَتَلُوهُ لَأَخَذُوا قَمِيصَهُ، هَلْ يُرِيدُونَ إِلَّا
ثِيَابَهُ؟! فَقَالُوا عِنْدَ ذَلِكَ:" وَما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ
لَنا وَلَوْ كُنَّا صادِقِينَ" عَنِ الْحَسَنِ وَغَيْرِهِ،
أَيْ لو كنا موصوفين بالصدق لا تهمتنا. الثَّالِثَةُ-
اسْتَدَلَّ الْفُقَهَاءُ بِهَذِهِ الْآيَةِ فِي إِعْمَالِ
الْأَمَارَاتِ فِي مَسَائِلَ مِنَ الْفِقْهِ كَالْقَسَامَةِ
وَغَيْرِهَا، وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ يَعْقُوبَ عَلَيْهِ
السَّلَامُ اسْتَدَلَّ عَلَى كَذِبِهِمْ بِصِحَّةِ الْقَمِيصِ،
وَهَكَذَا يَجِبُ عَلَى النَّاظِرِ أَنْ يَلْحَظَ
الْأَمَارَاتِ وَالْعَلَامَاتِ إِذَا تَعَارَضَتْ، فَمَا
تَرَجَّحَ مِنْهَا قَضَى بِجَانِبِ التَّرْجِيحِ، وَهِيَ
قُوَّةُ التُّهْمَةِ، وَلَا خِلَافَ بِالْحُكْمِ بِهَا،
قَالَهُ بن الْعَرَبِيِّ. قَوْلُهُ تَعَالَى: (قالَ بَلْ
سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ).
فِيهِ ثَلَاثُ مَسَائِلَ: الْأُولَى- رُوِيَ أَنَّ يَعْقُوبَ
لَمَّا قَالُوا لَهُ:" فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ" قَالَ لَهُمْ:
أَلَمْ يَتْرُكِ الذِّئْبُ لَهُ عُضْوًا فَتَأْتُونِي بِهِ
أَسْتَأْنِسُ بِهِ؟! أَلَمْ يَتْرُكْ لِي ثَوْبًا «1» أَشُمُّ
فِيهِ رَائِحَتَهُ؟ قَالُوا: بَلَى! هَذَا قَمِيصُهُ مَلْطُوخٌ
بِدَمِهِ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ تعالى:" وَجاؤُ عَلى قَمِيصِهِ
بِدَمٍ كَذِبٍ" فَبَكَى يَعْقُوبُ عِنْدَ ذَلِكَ وَقَالَ،
لِبَنِيهِ: أَرُونِي قَمِيصَهُ، فَأَرَوْهُ فَشَمَّهُ
وَقَبَّلَهُ، ثُمَّ جَعَلَ يُقَلِّبُهُ فَلَا يَرَى فِيهِ
شَقًّا وَلَا تَمْزِيقًا، فَقَالَ: وَاللَّهِ الَّذِي لَا
إِلَهَ إِلَّا هُوَ مَا رَأَيْتُ كَالْيَوْمِ ذِئْبًا أَحْكَمَ
مِنْهُ، أَكَلَ ابْنِي وَاخْتَلَسَهُ مِنْ قَمِيصِهِ وَلَمْ
يُمَزِّقْهُ عَلَيْهِ، وَعَلِمَ أَنَّ الْأَمْرَ لَيْسَ كَمَا
قَالُوا، وَأَنَّ الذِّئْبَ لَمْ يَأْكُلْهُ، فَأَعْرَضَ
عَنْهُمْ كَالْمُغْضَبِ بَاكِيًا حَزِينًا وَقَالَ: يَا
مَعْشَرَ وَلَدِي! دُلُّونِي عَلَى وَلَدِي، فَإِنْ كَانَ
حَيًّا رَدَدْتُهُ إِلَيَّ، وَإِنْ كَانَ مَيِّتًا كَفَّنْتُهُ
وَدَفَنْتُهُ، فَقِيلَ قَالُوا حِينَئِذٍ: أَلَمْ تَرَوْا
إِلَى أَبِينَا كَيْفَ يُكَذِّبُنَا فِي مَقَالَتِنَا!
تَعَالَوْا نُخْرِجْهُ مِنَ الْجُبِّ وَنَقْطَعْهُ عُضْوًا
عُضْوًا، وَنَأْتِ أَبَانَا بِأَحَدِ أعضائه فيصدقنا
__________
(1). في ع: له.
(9/150)
فِي مَقَالَتِنَا وَيَقْطَعُ يَأْسَهُ،
فَقَالَ يَهُوذَا: وَاللَّهِ لَئِنْ فَعَلْتُمْ لَأَكُونَنَّ
لَكُمْ عَدُوًّا مَا بَقِيتُ، وَلَأُخْبِرَنَّ أَبَاكُمْ
بِسُوءِ صَنِيعِكُمْ، قَالُوا: فَإِذَا مَنَعْتِنَا مِنْ هَذَا
فَتَعَالَوْا نَصْطَدْ لَهُ ذِئْبًا، قَالَ: فَاصْطَادُوا
ذِئْبًا وَلَطِّخُوهُ بِالدَّمِ، وَأَوْثِقُوهُ بِالْحِبَالِ،
ثُمَّ جَاءُوا بِهِ يَعْقُوبَ وَقَالُوا: يَا أَبَانَا! إِنَّ
هَذَا الذِّئْبَ الَّذِي يَحِلُّ بِأَغْنَامِنَا
وَيَفْتَرِسُهَا، وَلَعَلَّهُ الَّذِي أَفْجَعَنَا بِأَخِينَا
لَا نَشُكُّ فِيهِ، وَهَذَا دَمُهُ عَلَيْهِ، فَقَالَ
يَعْقُوبُ: أَطْلِقُوهُ، فَأَطْلَقُوهُ، وَتَبَصْبَصَ لَهُ
الذِّئْبُ، فَأَقْبَلَ يَدْنُو [مِنْهُ «1»] وَيَعْقُوبُ
يَقُولُ لَهُ: ادْنُ ادْنُ، حَتَّى أَلْصَقَ خَدَّهُ بِخَدِّهِ
«2» فَقَالَ لَهُ يَعْقُوبُ: أَيُّهَا الذِّئْبُ! لِمَ
فَجَعْتَنِي بِوَلَدِي وَأَوْرَثْتَنِي حُزْنًا طَوِيلًا؟!
ثُمَّ قَالَ اللَّهُمَّ أَنْطِقْهُ، فَأَنْطَقَهُ اللَّهُ
تَعَالَى فَقَالَ: وَالَّذِي اصْطَفَاكَ نَبِيًّا مَا أَكَلْتُ
لَحْمَهُ، وَلَا مَزَّقْتُ جِلْدَهُ، ولا نتفت شعرة من شعراته،
والله! مَا لِي بِوَلَدِكَ عَهْدٌ، وَإِنَّمَا أَنَا ذِئْبٌ
غَرِيبٌ أَقْبَلْتُ مِنْ نَوَاحِي مِصْرَ فِي طَلَبِ أَخٍ لِي
فُقِدَ، فَلَا أَدْرِي أَحَيٌّ هُوَ أَمْ مَيِّتٌ،
فَاصْطَادَنِي أَوْلَادُكَ وَأَوْثَقُونِي، وَإِنَّ لُحُومَ
الْأَنْبِيَاءِ حُرِّمَتْ عَلَيْنَا وَعَلَى جَمِيعِ
الْوُحُوشِ، وَتَاللَّهِ! لَا أَقَمْتُ فِي بِلَادٍ يَكْذِبُ
فِيهَا أَوْلَادُ الْأَنْبِيَاءِ عَلَى الْوُحُوشِ،
فَأَطْلَقَهُ يَعْقُوبُ وَقَالَ: وَاللَّهِ لَقَدْ أَتَيْتُمْ
بِالْحُجَّةِ عَلَى أَنْفُسِكُمْ، هَذَا ذِئْبٌ بَهِيمٌ خَرَجَ
يَتَّبِعُ ذِمَامَ أَخِيهِ، وَأَنْتُمْ ضَيَّعْتُمْ أخاكم، وقد
علمت أن الذئب برئ مما جئتم به. (بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ) أي
زينت. (لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً) غَيْرَ مَا تَصِفُونَ
وَتَذْكُرُونَ. ثُمَّ قَالَ تَوْطِئَةً لِنَفْسِهِ: (فَصَبْرٌ
جَمِيلٌ) وَهِيَ: الثَّانِيَةُ- قَالَ الزَّجَّاجُ: أَيْ
فَشَأْنِي وَالَّذِي اعْتَقَدَهُ صَبْرٌ جَمِيلٌ. وَقَالَ
قُطْرُبٌ: أَيْ فَصَبْرِي صَبْرٌ جَمِيلٌ. وَقِيلَ: أَيْ
فَصَبْرٌ جَمِيلٌ أَوْلَى بِي، فَهُوَ مُبْتَدَأٌ وَخَبَرُهُ
مَحْذُوفٌ. وَيُرْوَى أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِلَ عَنِ الصَّبْرِ الْجَمِيلِ
فَقَالَ:" هُوَ الَّذِي لَا شَكْوَى مَعَهُ". وَسَيَأْتِي لَهُ
مَزِيدُ بَيَانٍ آخِرَ السُّورَةِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ. قَالَ
أَبُو حَاتِمٍ: قَرَأَ عِيسَى بْنُ عُمَرَ فِيمَا زَعَمَ
سَهْلُ بْنُ يُوسُفَ" فَصَبْرًا جَمِيلًا" قَالَ: وَكَذَا
قَرَأَ الْأَشْهَبُ الْعُقَيْلِيُّ، قَالَ وَكَذَا فِي
مُصْحَفِ أَنَسٍ وَأَبِي صَالِحٍ. قَالَ الْمُبَرِّدُ:"
فَصَبْرٌ جَمِيلٌ" بِالرَّفْعِ أَوْلَى مِنَ النَّصْبِ،
لِأَنَّ الْمَعْنَى: قَالَ رَبِّ عِنْدِي صَبْرٌ جَمِيلٌ،
قَالَ: وَإِنَّمَا النَّصْبُ عَلَى الْمَصْدَرِ، أَيْ فلأصبرن
صبرا جميلا، قال:
__________
(1). من ع وك وى.
(2). في ع وك وو: بفخذه.
(9/151)
وَجَاءَتْ سَيَّارَةٌ
فَأَرْسَلُوا وَارِدَهُمْ فَأَدْلَى دَلْوَهُ قَالَ يَا
بُشْرَى هَذَا غُلَامٌ وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً وَاللَّهُ
عَلِيمٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (19)
شَكَا إِلَيَّ جَمَلِي طُولَ السُّرَى ...
صَبْرًا «1» جَمِيلًا فَكِلَانَا مُبْتَلَى
وَالصَّبْرُ الْجَمِيلُ هُوَ الَّذِي لَا جَزَعَ فِيهِ وَلَا
شَكْوَى. وَقِيلَ: الْمَعْنَى لَا أُعَاشِرُكُمْ عَلَى كَآبَةِ
الْوَجْهِ وَعُبُوسِ الْجَبِينِ، بَلْ أُعَاشِرُكُمْ عَلَى مَا
كُنْتُ عَلَيْهِ مَعَكُمْ، وَفِي هَذَا مَا يَدُلُّ عَلَى
أَنَّهُ عَفَا عَنْ مُؤَاخَذَتِهِمْ. وَعَنْ حَبِيبِ بْنِ
أَبِي ثَابِتٍ أَنَّ يَعْقُوبَ كَانَ قَدْ سَقَطَ حَاجِبَاهُ
عَلَى عَيْنَيْهِ، فَكَانَ يَرْفَعُهُمَا بِخِرْقَةٍ، فَقِيلَ
لَهُ: مَا هَذَا؟ قَالَ: طُولَ الزَّمَانِ وَكَثْرَةُ
الْأَحْزَانِ، فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ أَتَشْكُونِي يَا
يَعْقُوبُ؟! قَالَ: يَا رَبِّ! خَطِيئَةٌ أَخْطَأْتُهَا
فَاغْفِرْ لِي. (وَاللَّهُ الْمُسْتَعانُ) ابْتِدَاءٌ
وَخَبَرٌ. (عَلى مَا تَصِفُونَ) أَيْ عَلَى احْتِمَالِ مَا
تَصِفُونَ مِنَ الْكَذِبِ. الثَّالِثَةُ- قَالَ ابْنُ أَبِي
رِفَاعَةَ يَنْبَغِي لِأَهْلِ الرَّأْيِ أَنْ يَتَّهِمُوا
رَأْيَهُمْ عِنْدَ ظَنِّ يَعْقُوبَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ وهو نبى، حين قال له بنو هـ:" إِنَّا ذَهَبْنا
نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنا يُوسُفَ عِنْدَ مَتاعِنا فَأَكَلَهُ
الذِّئْبُ" قَالَ:" بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ
أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ" فَأَصَابَ هُنَا، ثُمَّ قَالُوا
لَهُ:" إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ وَما شَهِدْنا إِلَّا بِما
عَلِمْنا وَما كُنَّا لِلْغَيْبِ حافِظِينَ" «2» قَالَ:" بَلْ
سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً" فَلَمْ يُصِبْ.
[سورة يوسف (12): آية 19]
وَجاءَتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُوا وارِدَهُمْ فَأَدْلى
دَلْوَهُ قالَ يا بُشْرى هَذَا غُلامٌ وَأَسَرُّوهُ بِضاعَةً
وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِما يَعْمَلُونَ (19)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَجاءَتْ سَيَّارَةٌ) أَيْ رُفْقَةٌ
مَارَّةٌ يَسِيرُونَ مِنَ الشَّامِ إِلَى مِصْرَ فَأَخْطَئُوا
الطَّرِيقَ وَهَامُوا حَتَّى نَزَلُوا قَرِيبًا مِنَ الْجُبِّ،
وَكَانَ الْجُبُّ فِي قَفْرَةٍ بَعِيدَةٍ مِنَ الْعُمْرَانِ،
إِنَّمَا هُوَ لِلرُّعَاةِ وَالْمُجْتَازِ، وَكَانَ مَاؤُهُ
مِلْحًا فَعَذُبَ حِينَ أُلْقِيَ فِيهِ يُوسُفَ. (فَأَرْسَلُوا
وارِدَهُمْ) فَذُكِرَ عَلَى الْمَعْنَى، وَلَوْ قَالَ:
فَأَرْسَلَتْ وَارِدَهَا لكان على اللفظ، مئل" وَجاءَتْ".
وَالْوَارِدُ الَّذِي يَرِدُ الْمَاءَ يَسْتَقِي لِلْقَوْمِ،
وَكَانَ اسْمُهُ- فِيمَا ذَكَرَ الْمُفَسِّرُونَ- مَالِكُ بْنُ
دعر «3»،
__________
(1). ويروى (فَصَبْرٌ جَمِيلٌ) في البيت، وتحمل على إظهار
مبتدأ أو خبر. ويروى (صبرا جميل) على نداء الجمل.
(2). راجع ص 244 من هذا الجزء.
(3). دعر: هو بالدال المهلة وبالذال تصحيف كما في القاموس.
(9/152)
مِنَ الْعَرَبِ الْعَارِبَةِ. (فَأَدْلى
دَلْوَهُ) أَيْ أَرْسَلَهُ، يُقَالُ: أَدْلَى دَلْوَهُ إِذَا
أَرْسَلَهَا لِيَمْلَأَهَا، وَدَلَاهَا أَيْ أَخْرَجَهَا: عَنِ
الْأَصْمَعِيِّ وَغَيْرِهِ. وَدَلَا- مِنْ ذات الواويدلو
دَلْوًا، أَيْ جَذَبَ وَأَخْرَجَ، وَكَذَلِكَ أَدْلَى إِذَا
أَرْسَلَ، فَلَمَّا ثَقُلَ رَدُّوهُ إِلَى الْيَاءِ،
لِأَنَّهَا أخف من الواو، قاله الْكُوفِيُّونَ. وَقَالَ
الْخَلِيلُ وَسِيبَوَيْهِ: لَمَّا جَاوَزَ ثَلَاثَةَ أَحْرُفٍ
رَجَعَ «1» إِلَى الْيَاءِ، اتِّبَاعًا لِلْمُسْتَقْبَلِ.
وَجَمْعُ دَلْوٍ فِي أَقَلَّ الْعَدَدِ أَدْلٍ فَإِذَا
كَثُرَتْ قُلْتُ: دُلِيٌّ وَدِلِيٌّ، فَقُلِبَتِ الْوَاوُ
يَاءً، إِلَّا أَنَّ الْجَمْعَ بَابُهُ التَّغْيِيرُ،
وَلْيُفَرَّقْ بَيْنَ الْوَاحِدِ وَالْجَمْعِ، وَدِلَاءٌ
أَيْضًا. فَتَعَلَّقَ يُوسُفُ بِالْحَبْلِ، فَلَمَّا خَرَجَ
إِذَا غُلَامٌ كَالْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ، أَحْسَنُ مَا
يَكُونُ مِنَ الْغِلْمَانِ. قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فِي حَدِيثِ الْإِسْرَاءِ مِنْ صَحِيحِ مُسْلِمٍ:"
فَإِذَا أَنَا بِيُوسُفَ إِذَا هُوَ قَدْ أُعْطِيَ شَطْرَ
الْحُسْنِ". وَقَالَ كَعْبُ الْأَحْبَارِ: كَانَ يُوسُفُ
حَسَنَ الْوَجْهِ، جَعْدَ الشَّعْرِ، ضَخْمَ الْعَيْنَيْنِ،
مُسْتَوِيَ الْخَلْقِ، أَبْيَضَ اللَّوْنِ، غَلِيظَ
السَّاعِدَيْنِ وَالْعَضُدَيْنِ، خَمِيصَ الْبَطْنِ، صَغِيرَ
السُّرَّةِ، إِذَا ابْتَسَمَ رَأَيْتَ النُّورَ مِنْ
ضَوَاحِكِهِ، وَإِذَا تَكَلَّمَ رَأَيْتَ فِي كَلَامِهِ
شُعَاعَ الشَّمْسِ مِنْ ثَنَايَاهُ، لَا يَسْتَطِيعُ أَحَدٌ
وَصْفَهُ، وَكَانَ حُسْنُهُ كَضَوْءِ النَّهَارِ عِنْدَ
اللَّيْلِ، وَكَانَ يُشْبِهُ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ يَوْمَ
خَلَقَهُ اللَّهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ قَبْلَ أَنْ
يُصِيبَ الْمَعْصِيَةَ، وَقِيلَ: إِنَّهُ وَرِثَ ذَلِكَ
الْجَمَالَ مِنْ جَدَّتِهِ سَارَةَ، وَكَانَتْ قَدْ أُعْطِيَتْ
سُدُسَ الْحُسْنِ، فَلَمَّا رَآهُ مَالِكُ بْنُ دُعْرٍ قال:"
يا بُشْرى هذا غُلامٌ" وهذه قِرَاءَةُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ
وَأَهْلِ الْبَصْرَةِ، إِلَّا ابْنِ أَبِي إِسْحَاقَ فَإِنَّهُ
قَرَأَ" يَا بُشْرى هَذَا غُلامٌ" فَقَلَبَ الْأَلِفَ يَاءً،
لِأَنَّ هَذِهِ الْيَاءَ يُكْسَرُ مَا قَبْلَهَا، فَلَمَّا
لَمْ يَجُزْ كَسْرَ الْأَلِفِ كَانَ قَلْبُهَا عِوَضًا.
وَقَرَأَ أَهْلُ الْكُوفَةِ" يَا بُشْرى " غَيْرَ مُضَافٍ،
وَفِي مَعْنَاهُ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا- اسْمُ الْغُلَامِ،
وَالثَّانِي-[مَعْنَاهُ «2»] يَا أَيَّتُهَا الْبُشْرَى هَذَا
حِينُكِ وَأَوَانُكِ. قَالَ قَتَادَةُ وَالسُّدِّيُّ: لَمَّا
أَدْلَى الْمُدْلِي دَلْوَهُ تَعَلَّقَ بِهَا يُوسُفُ فَقَالَ:
يَا بُشْرَى هَذَا غُلَامٌ، قَالَ قَتَادَةُ: بَشَّرَ
أَصْحَابَهُ بِأَنَّهُ وَجَدَ عَبْدًا. وَقَالَ السُّدِّيُّ:
نَادَى رَجُلًا اسْمُهُ بُشْرَى. قَالَ النَّحَّاسُ: قَوْلُ
قَتَادَةَ أَوْلَى، لِأَنَّهُ لَمْ يَأْتِ فِي الْقُرْآنِ
تَسْمِيَةُ أَحَدٍ إِلَّا يَسِيرًا، وَإِنَّمَا يَأْتِي
بِالْكِنَايَةِ كَمَا قَالَ عَزَّ وَجَلَّ:" وَيَوْمَ يَعَضُّ
الظَّالِمُ عَلى يَدَيْهِ" «3» [الفرقان: 27] وهو عقبة بن أبي
معيط، وبعده" لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلًا"
[الفرقان: 28] وهو أمية
__________
(1). في ع: ردوه.
(2). من ع. [ ..... ]
(3). راجع ج 13 ص 25.
(9/153)
وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ
بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكَانُوا فِيهِ مِنَ
الزَّاهِدِينَ (20)
بن خلف، قال النَّحَّاسُ. وَالْمَعْنَى فِي
نِدَاءِ الْبُشْرَى: التَّبْشِيرُ لِمَنْ حَضَرَ، وَهُوَ
أَوْكَدُ مِنْ قَوْلِكَ تَبَشَّرْتُ، كَمَا تَقُولُ: يَا
عَجَبَاهُ! أَيْ يَا عَجَبُ هَذَا مِنْ أَيَّامِكَ وَمِنْ
آيَاتِكَ، فَاحْضُرْ، وَهَذَا مَذْهَبُ سِيبَوَيْهِ، وَكَذَا
قَالَ السُّهَيْلِيُّ. وَقِيلَ: هُوَ كَمَا تقول: وا سروراه!
وَأَنَّ الْبُشْرَى مَصْدَرٌ مِنَ الِاسْتِبْشَارِ: وَهَذَا
أَصَحُّ، لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ اسْمًا عَلَمًا لَمْ يَكُنْ
مُضَافًا إِلَى ضَمِيرِ الْمُتَكَلِّمِ، وَعَلَى هَذَا
يَكُونُ" بُشْرى " فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ، لِأَنَّهُ نِدَاءٌ
مُضَافٌ، وَمَعْنَى النِّدَاءِ هَاهُنَا التَّنْبِيهُ، أَيِ
انْتَبِهُوا لِفَرْحَتِي وَسُرُورِي، وَعَلَى قَوْلِ
السُّدِّيِّ يَكُونُ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ كَمَا تَقُولُ: يَا
زَيْدُ هَذَا غُلَامٌ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَحَلُّهُ
نَصْبًا كَقَوْلِكَ: يَا رَجُلًا، وقوله:" يا حَسْرَةً عَلَى
الْعِبادِ" «1» [يس: 30] وَلَكِنَّهُ لَمْ يُنَوِّنْ" بُشْرَى"
لِأَنَّهُ لَا يَنْصَرِفُ. (وَأَسَرُّوهُ بِضاعَةً) الْهَاءُ
كِنَايَةٌ عَنْ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَأَمَّا
الْوَاوُ فَكِنَايَةٌ عَنْ إِخْوَتِهِ. وَقِيلَ: عَنِ
التُّجَّارِ الَّذِينَ اشْتَرَوْهُ، وَقِيلَ: عَنِ الْوَارِدِ
وَأَصْحَابِهِ." بِضاعَةً" نُصِبَ عَلَى الْحَالِ. قَالَ
مُجَاهِدٌ: أَسَرَّهُ مَالِكُ بْنُ دُعْرٍ وَأَصْحَابُهُ مِنَ
التُّجَّارِ الَّذِينَ مَعَهُمْ فِي الرُّفْقَةِ، وَقَالُوا
لَهُمْ: هُوَ بِضَاعَةٌ اسْتَبْضَعْنَاهَا بَعْضُ أَهْلِ
الشَّامِ أَوْ أَهْلِ هَذَا الْمَاءِ إِلَى مِصْرَ، وَإِنَّمَا
قَالُوا هَذَا خِيفَةَ الشَّرِكَةِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ:
أَسَرَّهُ إِخْوَةُ يُوسُفَ بِضَاعَةً لَمَّا اسْتُخْرِجَ مِنَ
الْجُبِّ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ جَاءُوا فَقَالُوا: بِئْسَ مَا
صَنَعْتُمْ! هَذَا عَبْدٌ لَنَا أَبَقَ، وَقَالُوا لِيُوسُفَ
بِالْعِبْرَانِيَّةِ: إِمَّا أَنْ تُقِرَّ لَنَا
بِالْعُبُودِيَّةِ فَنَبِيعَكَ مِنْ هَؤُلَاءِ، وَإِمَّا أَنْ
نَأْخُذَكَ فَنَقْتُلَكَ، فَقَالَ: أَنَا أُقِرُّ لَكُمْ
بِالْعُبُودِيَّةِ، فَأَقَرَّ لَهُمْ فَبَاعُوهُ مِنْهُمْ.
وَقِيلَ: إِنَّ يَهُوذَا وَصَّى أَخَاهُ يُوسُفَ بِلِسَانِهِمْ
أَنِ اعْتَرِفْ لِإِخْوَتِكَ بِالْعُبُودِيَّةِ فَإِنِّي
أَخْشَى إِنْ لَمْ تَفْعَلْ قَتَلُوكَ، فَلَعَلَّ اللَّهَ أَنْ
يَجْعَلَ لَكَ مَخْرَجًا، وَتَنْجُوَ مِنَ الْقَتْلِ، فَكَتَمَ
يُوسُفُ شَأْنَهُ مَخَافَةَ أَنْ يَقْتُلَهُ إِخْوَتُهُ،
فَقَالَ مَالِكٌ: وَاللَّهِ مَا هَذِهِ سِمَةُ الْعَبِيدِ!،
قَالُوا: هُوَ تَرَبَّى فِي حُجُورِنَا، وَتَخَلَّقَ
بِأَخْلَاقِنَا، وَتَأَدَّبَ بِآدَابِنَا، فَقَالَ: مَا
تَقُولُ يَا غُلَامُ؟ قَالَ: صَدَقُوا! تَرَبَّيْتُ فِي
حُجُورِهِمْ، وَتَخَلَّقْتُ بِأَخْلَاقِهِمْ، فَقَالَ مَالِكٌ:
إِنْ بعتموه مني اشتريته «2» منكم، فباعوه منه، فذلك:.
[سورة يوسف (12): آية 20]
وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَراهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكانُوا
فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ (20)
__________
(1). راجع ج 15 ص 22.
(2). في ع: اشتريتك منهم. أي على الالتفات.
(9/154)
فيه ست مسائل: الأولى تَعَالَى:
(وَشَرَوْهُ) يُقَالُ: شَرَيْتُ بِمَعْنَى اشْتَرَيْتُ،
وَشَرَيْتُ بِمَعْنَى بِعْتُ لُغَةٌ، قَالَ الشَّاعِرُ»
:
وَشَرَيْتُ بُرْدًا لَيْتَنِي ... مِنْ بَعْدِ بُرْدٍ كُنْتُ
هَامَهُ
أَيْ بِعْتُ. وَقَالَ آخَرُ:
فَلَمَّا شَرَاهَا فَاضَتِ الْعَيْنُ عَبْرَةً ... وَفِي
الصَّدْرِ حُزَّازٌ مِنَ اللَّوْمِ حَامِزُ «2»
(بِثَمَنٍ بَخْسٍ) أَيْ نَقْصٍ، وَهُوَ هُنَا مَصْدَرٌ وُضِعَ
مَوْضِعَ الِاسْمِ، أَيْ بَاعُوهُ بِثَمَنٍ مَبْخُوسٍ، أَيْ
مَنْقُوصٍ. وَلَمْ يَكُنْ قَصْدُ إِخْوَتِهِ مَا
يَسْتَفِيدُونَهُ مِنْ ثَمَنِهِ، وَإِنَّمَا كَانَ قَصْدُهُمْ
مَا يَسْتَفِيدُونَهُ مِنْ خُلُوِّ وَجْهِ أَبِيهِمْ عَنْهُ.
وَقِيلَ: إِنَّ يَهُوذَا رَأَى مِنْ بَعِيدٍ أَنَّ يُوسُفَ
أُخْرِجَ مِنَ الْجُبِّ فَأَخْبَرَ إِخْوَتَهُ فَجَاءُوا
وَبَاعُوهُ مِنَ الْوَارِدَةِ. وَقِيلَ: لَا بَلْ عَادُوا
بَعْدَ ثَلَاثٍ إِلَى الْبِئْرِ يَتَعَرَّفُونَ الْخَبَرَ،
فَرَأَوْا أَثَرَ السَّيَّارَةِ فَاتَّبَعُوهُمْ وَقَالُوا:
هَذَا عَبْدُنَا أَبَقَ مِنَّا فَبَاعُوهُ مِنْهُمْ. وَقَالَ
قَتَادَةُ:" بَخْسٍ" ظُلْمٌ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ وَمُقَاتِلٌ
وَالسُّدِّيُّ وَابْنُ عَطَاءٍ:" بَخْسٍ" حَرَامٌ. وَقَالَ
ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَلَا وَجْهَ لَهُ، وَإِنَّمَا
الْإِشَارَةُ فِيهِ إِلَى أَنَّهُ لَمْ يُسْتَوْفَ ثَمَنُهُ
بِالْقِيمَةِ، لِأَنَّ إِخْوَتَهُ إِنْ كَانُوا بَاعُوهُ
فَلَمْ يكن قصدهم ما يستقيدونه مِنْ ثَمَنِهِ، وَإِنَّمَا
كَانَ قَصْدُهُمْ مَا يَسْتَفِيدُونَ مِنْ خُلُوِّ وَجْهِ
أَبِيهِمْ عَنْهُ، وَإِنْ كَانَ الَّذِينَ بَاعُوهُ
الْوَارِدَةَ فَإِنَّهُمْ أَخْفَوْهُ مُقْتَطَعًا، أَوْ
قَالُوا «3» لِأَصْحَابِهِمْ: أُرْسِلَ مَعَنَا بِضَاعَةٌ
فَرَأَوْا أَنَّهُمْ لَمْ يُعْطُوا عَنْهُ ثَمَنًا وَأَنَّ مَا
أَخَذُوا فِيهِ رِبْحٌ كُلُّهُ. قُلْتُ: قَوْلُهُ" وَإِنَّمَا
الْإِشَارَةُ فِيهِ إِلَى أَنَّهُ لَمْ يُسْتَوْفَ ثَمَنُهُ
بِالْقِيمَةِ" يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ لَوْ أَخَذُوا
الْقِيمَةَ فِيهِ «4» كَامِلَةً كَانَ ذَلِكَ جَائِزًا
وَلَيْسَ كَذَلِكَ، فَدَلَّ عَلَى صِحَّةِ مَا قَالَهُ
السُّدِّيُّ وَغَيْرُهُ، لِأَنَّهُمْ أَوْقَعُوا الْبَيْعَ
عَلَى نَفْسٍ لَا يَجُوزُ بَيْعُهَا، فَلِذَلِكَ كَانَ لَا
يَحِلُّ لَهُمْ ثَمَنُهُ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ وَالشَّعْبِيُّ:
قَلِيلٌ. وَقَالَ ابْنُ حَيَّانَ: زَيْفٌ. وَعَنِ ابْنِ
عَبَّاسٍ وَابْنِ مَسْعُودٍ بَاعُوهُ بِعِشْرِينَ دِرْهَمًا
أَخَذَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ إِخْوَتِهِ دِرْهَمَيْنِ، وَكَانُوا
عَشَرَةً، وَقَالَهُ قَتَادَةُ وَالسُّدِّيُّ. وَقَالَ أَبُو
العالية
__________
(1). هو يزيد بن مفزع الحميري، و (برد) اسم عبد كان له ندم على
بيعه.
(2). البيت للشماخ، قاله في رجل باع قوسه من رجل. وحامز: عاصر،
وقيل: أي ممض محرق. ويروى: من الوجد. (اللسان).
(3). في ع وك وو: وقالوا.
(4). في ع وك وى: وافية كاملة.
(9/155)
وَمُقَاتِلٌ: اثْنَيْنِ وَعِشْرِينَ
دِرْهَمًا، وَكَانُوا أَحَدَ عَشَرٍ أَخَذَ كُلُّ وَاحِدٍ
دِرْهَمَيْنِ، وَقَالَهُ مُجَاهِدٌ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ:
أَرْبَعِينَ دِرْهَمًا، وَمَا رُوِيَ عَنِ الصَّحَابَةِ أولى.
و" بَخْسٍ" من نعت" بِثَمَنٍ". (دَراهِمَ) عَلَى الْبَدَلِ
وَالتَّفْسِيرُ لَهُ. وَيُقَالُ: دَرَاهِيمُ عَلَى أَنَّهُ
جَمْعُ دِرْهَامٍ، وَقَدْ يَكُونُ اسْمًا لِلْجَمْعِ عِنْدَ
سِيبَوَيْهِ، وَيَكُونُ أَيْضًا عِنْدَهُ عَلَى أَنَّهُ مَدَّ
الْكَسْرَةَ فَصَارَتْ يَاءً، وَلَيْسَ هَذَا مِثْلَ مَدِّ
الْمَقْصُورِ، لِأَنَّ مَدَّ الْمَقْصُورِ لَا يَجُوزُ عِنْدَ
الْبَصْرِيِّينَ فِي شِعْرٍ وَلَا غَيْرِهِ. وَأَنْشَدَ
النَّحْوِيُّونَ:
تَنْفِي يَدَاهَا الْحَصَى فِي كُلِّ هَاجِرَةٍ ... نَفْيَ
الدَّرَاهِيمِ تَنْقَادُ الصَّيَارِيفِ «1»
(مَعْدُودَةٍ) نَعْتٌ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ
الْأَثْمَانَ كَانَتْ تَجْرِي عِنْدَهُمْ عَدًّا لَا وَزْنًا
بِوَزْنٍ «2». وَقِيلَ: هُوَ عِبَارَةٌ عَنْ قِلَّةِ
الثَّمَنِ، لِأَنَّهَا دَرَاهِمُ لَمْ تَبْلُغْ أَنْ تُوزَنَ
لِقِلَّتِهَا، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ كَانُوا لَا يَزِنُونَ مَا
[كَانَ «3»] دُونَ الْأُوقِيَّةِ، وَهِيَ أَرْبَعُونَ
دِرْهَمًا. الثَّانِيَةُ- قَالَ الْقَاضِي ابْنُ الْعَرَبِيِّ:
وَأَصْلُ النَّقْدَيْنِ الْوَزْنُ، قَالَ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" لَا تَبِيعُوا الذَّهَبَ بِالذَّهَبِ
وَلَا الْفِضَّةَ بِالْفِضَّةِ إِلَّا وَزْنًا بِوَزْنٍ مَنْ
زَادَ أَوِ ازْدَادَ فَقَدْ أَرْبَى". وَالزِّنَةُ لَا
فَائِدَةَ فِيهَا إِلَّا الْمِقْدَارُ، فَأَمَّا عَيْنُهَا
فَلَا مَنْفَعَةَ فِيهِ، وَلَكِنْ جَرَى فِيهَا الْعَدُّ «4»
تَخْفِيفًا عَنِ الْخَلْقِ لِكَثْرَةِ الْمُعَامَلَةِ،
فَيَشُقُّ الْوَزْنُ، حَتَّى لَوْ ضَرَبَ مَثَاقِيلَ أَوْ
دَرَاهِمَ لَجَازَ بَيْعُ بَعْضِهَا بِبَعْضٍ عَدًّا «5» إِذَا
لَمْ يَكُنْ بِهَا نُقْصَانٌ وَلَا رُجْحَانٌ، فَإِنْ نَقَصَتْ
عَادَ الْأَمْرُ إِلَى الْوَزْنِ، وَلِأَجْلٍ ذَلِكَ كَانَ
كَسْرُهَا أَوْ قَرْضُهَا مِنَ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ
حَسَبَ مَا تَقَدَّمَ. الثَّالِثَةُ- وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ
فِي الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ هَلْ تَتَعَيَّنُ أَمْ لَا؟
وَقَدْ اخْتَلَفَتِ الرِّوَايَةُ فِي ذَلِكَ عَنْ مَالِكٍ:
فَذَهَبَ أَشْهَبُ إِلَى أَنَّ ذَلِكَ لَا يَتَعَيَّنُ، وَهُوَ
الظَّاهِرُ مِنْ قَوْلِ مَالِكٍ، وَبِهِ قَالَ أَبُو
حَنِيفَةَ. وَذَهَبَ ابْنُ الْقَاسِمِ إِلَى أَنَّهَا
تَتَعَيَّنُ، وَحُكِيَ عَنِ الْكَرْخِيِّ، وَبِهِ قَالَ
الشَّافِعِيُّ. وَفَائِدَةُ الْخِلَافِ أَنَّا إِذَا قُلْنَا
لَا تَتَعَيَّنُ فَإِذَا قَالَ: بِعْتُكَ، هَذِهِ
الدَّنَانِيرَ بِهَذِهِ
__________
(1). البيت للفرزدق، وصف ناقة سريعة السير في الهواجر، قشبه
خروج الحصى من تحت مناسمها بارتفاع الدراهم عن الأصابع إذا
نقدت.
(2). في ع وى: يوزن.
(3). من ع وك وى.
(4). في ع وك وووى: العدد.
(5). في ع وك وووى: العدد.
(9/156)
وَقَالَ الَّذِي
اشْتَرَاهُ مِنْ مِصْرَ لِامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ
عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَكَذَلِكَ
مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ
تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ
وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (21)
الدَّرَاهِمِ تَعَلَّقَتِ الدَّنَانِيرُ
بِذِمَّةِ صَاحِبِهَا، وَالدَّرَاهِمُ بِذِمَّةِ صَاحِبِهَا،
وَلَوْ تَعَيَّنَتْ ثُمَّ تَلِفَتْ لَمْ يَتَعَلَّقْ بذمتهما
شي، وَبَطَلَ الْعَقْدُ كَبَيْعِ الْأَعْيَانِ مِنَ الْعُرُوضِ
وَغَيْرِهَا. الرَّابِعَةُ- رُوِيَ عَنِ الْحَسَنِ بْنِ
عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ قَضَى، فِي
اللَّقِيطِ أَنَّهُ حُرٌّ، وَقَرَأَ:" وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ
بَخْسٍ دَراهِمَ مَعْدُودَةٍ" وَقَدْ مَضَى، الْقَوْلُ فِيهِ.
الْخَامِسَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَكانُوا فِيهِ مِنَ
الزَّاهِدِينَ) قِيلَ: الْمُرَادُ إِخْوَتُهُ. وَقِيلَ:
السَّيَّارَةُ. وَقِيلَ: الْوَارِدَةُ، وَعَلَى أَيِّ
تَقْدِيرٍ فَلَمْ يَكُنْ عِنْدَهُمْ غَبِيطًا، لَا عِنْدَ
الْإِخْوَةِ، لِأَنَّ الْمَقْصِدَ زَوَالُهُ عَنْ أَبِيهِ لَا
مَالُهُ، وَلَا عِنْدَ السَّيَّارَةِ لِقَوْلِ الْإِخْوَةِ
إِنَّهُ عَبْدٌ أَبَقَ مِنَّا- وَالزُّهْدُ قِلَّةُ
الرَّغْبَةِ- وَلَا عِنْدَ الْوَارِدَةِ لِأَنَّهُمْ خَافُوا
اشْتَرَاكَ أَصْحَابِهِمْ مَعَهُمْ، وَرَأَوْا أَنَّ
الْقَلِيلَ مِنْ ثَمَنِهِ فِي الِانْفِرَادِ أَوْلَى.
السَّادِسَةُ- فِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلِيلٌ وَاضِحٌ عَلَى
جَوَازِ شِرَاءِ الشَّيْءِ الْخَطِيرِ بِالثَّمَنِ الْيَسِيرِ،
وَيَكُونُ الْبَيْعُ لَازِمًا، وَلِهَذَا قَالَ مَالِكٌ: لَوْ
بَاعَ دُرَّةً ذَاتَ خَطَرٍ عَظِيمٍ بِدِرْهَمٍ ثُمَّ قَالَ
لَمْ أَعْلَمْ أَنَّهَا دُرَّةٌ وَحَسِبْتُهَا مَخْشَلَبَةً
«1» لَزِمَهُ الْبَيْعُ وَلَمْ يُلْتَفَتْ إِلَى قَوْلِهِ
وَقِيلَ:" وَكانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ" أَيْ فِي
حُسْنِهِ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى وَإِنْ أَعْطَى يُوسُفَ
شَطْرَ الْحُسْنِ صَرَفَ عَنْهُ دَوَاعِي نُفُوسِ الْقَوْمِ
إِلَيْهِ إِكْرَامًا لَهُ. وَقِيلَ:" وَكانُوا فِيهِ مِنَ
الزَّاهِدِينَ" لَمْ يَعْلَمُوا مَنْزِلَتَهُ عِنْدَ اللَّهِ
تَعَالَى. وَحَكَى سِيبَوَيْهِ والكسائي: زهدت وزهدت بكسر
الهاء وفتحها.
[سورة يوسف (12): آية 21]
وَقالَ الَّذِي اشْتَراهُ مِنْ مِصْرَ لامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي
مَثْواهُ عَسى أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً
وَكَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ
مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ وَاللَّهُ غالِبٌ عَلى أَمْرِهِ
وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (21)
__________
(1). المخشلبة: خرز أبيض يشاكل اللؤلؤ.
(9/157)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَقالَ الَّذِي
اشْتَراهُ مِنْ مِصْرَ لِامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْواهُ)
قِيلَ: الِاشْتِرَاءُ هُنَا بِمَعْنَى الاستبدال، أذا لَمْ
يَكُنْ ذَلِكَ عَقْدًا، مِثْلُ:" أُولئِكَ الَّذِينَ
اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى " «1» [البقرة: 16].
وَقِيلَ: إِنَّهُمْ ظَنُّوهُ فِي ظَاهِرِ الْحَالِ اشْتِرَاءً،
فَجَرَى هَذَا اللَّفْظُ عَلَى ظَاهِرِ الظَّنِّ. قَالَ
الضَّحَّاكُ: هَذَا الَّذِي اشْتَرَاهُ مَلِكُ مِصْرَ،
وَلَقَبُهُ الْعَزِيزُ. السُّهَيْلِيُّ: وَاسْمُهُ قِطْفِيرُ.
وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: إِطْفِيرُ بْنُ رُوَيْحِبٍ
اشْتَرَاهُ لِامْرَأَتِهِ رَاعِيلَ، ذَكَرَهُ الْمَاوَرْدِيُّ.
وَقِيلَ: كَانَ اسْمُهَا زَلِيخَاءَ. وَكَانَ اللَّهُ أَلْقَى
مَحَبَّةَ يُوسُفَ عَلَى قَلْبِ الْعَزِيزِ، فَأَوْصَى بِهِ
أَهْلَهُ، ذَكَرَهُ الْقُشَيْرِيُّ. وَقَدْ ذَكَرَ
الْقَوْلَيْنِ فِي اسْمِهَا الثَّعْلَبِيُّ وَغَيْرُهُ.
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِنَّمَا اشْتَرَاهُ قِطْفِيرُ
وَزِيرُ مَلِكِ مِصْرَ، وَهُوَ الرَّيَّانُ بْنُ الْوَلِيدِ.
وَقِيلَ: الْوَلِيدُ بْنُ الرَّيَّانِ، وَهُوَ رَجُلٌ مِنَ
الْعَمَالِقَةِ. وَقِيلَ: هُوَ فِرْعَوْنُ مُوسَى، لِقَوْلِ
مُوسَى:" وَلَقَدْ جاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ
بِالْبَيِّناتِ" [غافر: 34] وَأَنَّهُ عَاشَ أَرْبَعَمِائَةِ
سَنَةٍ. وَقِيلَ: فِرْعَوْنُ مُوسَى مِنْ أَوْلَادِ فِرْعَوْنِ
يُوسُفَ، عَلَى مَا يَأْتِي فِي" غَافِرٍ" «2» بَيَانُهُ.
وَكَانَ هَذَا الْعَزِيزُ الَّذِي اشْتَرَى يُوسُفَ عَلَى
خَزَائِنِ الْمَلِكِ، وَاشْتَرَى يُوسُفَ مِنْ مَالِكِ بْنِ
دُعْرٍ بِعِشْرِينَ دِينَارًا، وَزَادَهُ حُلَّةً
وَنَعْلَيْنِ. وَقِيلَ: اشْتَرَاهُ مِنْ أَهْلِ الرُّفْقَةِ.
وَقِيلَ: تَزَايَدُوا فِي ثَمَنِهِ فَبَلَغَ أَضْعَافُ
وَزْنِهِ مسكا وعنبرا وحريرا وورقا وذهبا ولآلي وَجَوَاهِرَ
لَا يَعْلَمُ قِيمَتَهَا إِلَّا اللَّهُ، فَابْتَاعَهُ
قِطْفِيرُ مِنْ مَالِكٍ بِهَذَا الثَّمَنِ، قَالَهُ وَهْبُ
بْنُ مُنَبِّهٍ. وَقَالَ وَهْبٌ أَيْضًا وَغَيْرُهُ: وَلَمَّا
اشْتَرَى مَالِكُ بْنُ دُعْرٍ يُوسُفَ مِنْ إِخْوَتِهِ كَتَبَ
بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهُ كِتَابًا: هَذَا مَا اشْتَرَى مَالِكُ
بْنُ دُعْرٍ مِنْ بَنِي يَعْقُوبَ، وَهُمْ فُلَانٌ وَفُلَانٌ
مَمْلُوكًا لَهُمْ بِعِشْرِينَ دِرْهَمًا، وَقَدْ شَرَطُوا
لَهُ أَنَّهُ آبِقٌ، وَأَنَّهُ لَا يَنْقَلِبُ بِهِ إِلَّا
مُقَيَّدًا مُسَلْسَلًا، وَأَعْطَاهُمْ عَلَى ذَلِكَ عَهْدَ
اللَّهِ. قَالَ: فَوَدَّعَهُمْ يُوسُفَ عِنْدَ ذَلِكَ،
وَجَعَلَ يَقُولُ: حَفِظَكُمُ اللَّهُ وَإِنْ ضَيَّعْتُمُونِي،
نَصَرَكُمُ اللَّهُ وَإِنْ خَذَلْتُمُونِي، رَحِمَكُمُ اللَّهُ
وَإِنْ لَمْ تَرْحَمُونِي، قَالُوا: فَأَلْقَتِ الْأَغْنَامُ
مَا فِي بُطُونِهَا دَمًا عَبِيطًا «3» لِشِدَّةِ هَذَا
التَّوْدِيعِ، وَحَمَلُوهُ عَلَى قَتَبٍ بِغَيْرِ غِطَاءٍ
وَلَا وِطَاءٍ، مُقَيَّدًا مُكَبَّلًا مُسَلْسَلًا، فَمَرَّ
عَلَى مَقْبَرَةِ آلِ كَنْعَانَ فَرَأَى قَبْرَ أُمِّهِ-
وَقَدْ كَانَ وُكِّلَ بِهِ أَسْوَدُ يَحْرُسُهُ فَغَفَلَ
الْأَسْوَدُ- فَأَلْقَى يُوسُفُ نَفْسَهُ عَلَى قبر أمه فجعل
يتمرغ
__________
(1). راجع ج 1 ص 21. [ ..... ]
(2). راجع ج 15 ص 312.
(3). الدم العبيط: الطري.
(9/158)
وَيَعْتَنِقُ الْقَبْرَ وَيَضْطَرِبُ
وَيَقُولُ: يَا أُمَّاهُ! ارْفَعِي رَأْسَكَ تَرَيْ وَلَدَكَ
مُكَبَّلًا مُقَيَّدًا مُسَلْسَلًا مَغْلُولًا، فَرَّقُوا
بَيْنِي وَبَيْنَ وَالِدِي، فَاسْأَلِي اللَّهَ أَنْ يَجْمَعَ
بَيْنَنَا فِي مُسْتَقَرِّ رَحْمَتِهِ إِنَّهُ أَرْحَمُ
الرَّاحِمِينَ، فَتَفَقَّدَهُ الْأَسْوَدُ عَلَى الْبَعِيرِ
فَلَمْ يَرَهُ، فَقَفَا أَثَرَهُ، فَإِذَا هُوَ بَيَاضٌ عَلَى
قَبْرٍ، فَتَأَمَّلَهُ فَإِذَا هُوَ إِيَّاهُ، فَرَكَضَهُ
بِرِجْلِهِ فِي التُّرَابِ وَمَرَّغَهُ وَضَرَبَهُ ضَرْبًا
وَجِيعًا، فَقَالَ لَهُ: لَا تَفْعَلُ! وَاللَّهِ مَا هَرَبْتُ
وَلَا أَبَقْتُ وَإِنَّمَا مَرَرْتُ بِقَبْرِ أُمِّي
فَأَحْبَبْتُ أَنْ أُوَدِّعَهَا، وَلَنْ أَرْجِعَ إِلَى مَا
تَكْرَهُونَ، فَقَالَ الْأَسْوَدُ: وَاللَّهِ إِنَّكَ لَعَبْدُ
سُوءٍ، تَدْعُو أَبَاكَ مَرَّةً وَأُمَّكَ أُخْرَى! فَهَلَّا
كَانَ هَذَا عِنْدَ مَوَالِيكَ، فَرَفَعَ يَدَيْهِ إِلَى
السَّمَاءِ وَقَالَ: اللَّهُمَّ إِنْ كَانَتْ لِي عِنْدَكَ
خَطِيئَةٌ أَخَلَقْتَ بِهَا وَجْهِي فَأَسْأَلُكَ بِحَقِ
آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أَنْ تَغْفِرَ
لِي وَتَرْحَمَنِي، فَضَجَّتِ الْمَلَائِكَةُ فِي السَّمَاءِ،
وَنَزَلَ جِبْرِيلُ فَقَالَ لَهُ: يَا يُوسُفُ! غُضَّ صَوْتَكَ
فَلَقَدْ أَبْكَيْتَ مَلَائِكَةَ السَّمَاءِ! أَفَتُرِيدُ أَنْ
أَقْلِبَ الْأَرْضَ فَأَجْعَلُ عَالِيَهَا سَافِلَهَا؟ قَالَ:
تَثَبَّتْ يَا جِبْرِيلُ، فَإِنَّ اللَّهَ حَلِيمٌ لَا
يَعْجَلُ، فَضَرَبَ الْأَرْضَ بِجَنَاحِهِ فَأَظْلَمَتْ،
وَارْتَفَعَ الْغُبَارُ، وَكَسَفَتِ الشَّمْسُ، وَبَقِيَتِ
الْقَافِلَةُ لَا يَعْرِفُ بَعْضُهَا بَعْضًا، فَقَالَ رَئِيسُ
الْقَافِلَةِ: مَنْ أَحْدَثَ مِنْكُمْ حَدَثًا؟ - فَإِنِّي
أُسَافِرُ مُنْذُ كَيْتَ وَكَيْتَ مَا أَصَابَنِي قَطُّ مِثْلُ
هَذَا- فَقَالَ الْأَسْوَدُ: أَنَا لَطَمْتُ ذَلِكَ الْغُلَامَ
الْعِبْرَانِيَّ فَرَفَعَ يَدَهُ إِلَى السَّمَاءِ وَتَكَلَّمَ
بِكَلَامٍ لَا أَعْرِفُهُ، وَلَا أَشُكُّ أَنَّهُ دَعَا
عَلَيْنَا، فَقَالَ لَهُ: مَا أَرَدْتَ إِلَّا هَلَاكَنَا!
ايتَنَا بِهِ، فَأَتَاهُ بِهِ، فَقَالَ لَهُ: يَا غُلَامُ!
لَقَدْ لَطَمَكَ فَجَاءَنَا مَا رَأَيْتَ، فَإِنْ كُنْتَ
تَقْتَصُّ فَاقْتَصَّ مِمَّنْ شِئْتَ، وَإِنْ كُنْتَ تَعْفُو
فَهُوَ الظَّنُّ بِكَ، قَالَ: قَدْ عَفَوْتُ رَجَاءَ أَنْ
يَعْفُوَ اللَّهُ عَنِّي، فَانْجَلَتِ الْغَبَرَةُ، وَظَهَرَتِ
الشَّمْسُ، وَأَضَاءَ مَشَارِقُ الْأَرْضِ وَمَغَارِبُهَا،
وَجَعَلَ التَّاجِرُ يَزُورُهُ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ
وَيُكْرِمُهُ، حَتَّى وَصَلَ إِلَى مِصْرَ فَاغْتَسَلَ فِي
نِيلِهَا وَأَذْهَبَ اللَّهُ عَنْهُ كَآبَةَ السَّفَرِ،
وَرَدَّ عَلَيْهِ جَمَالَهُ، وَدَخَلَ بِهِ الْبَلَدُ نَهَارًا
فَسَطَعَ نُورُهُ عَلَى الْجُدَرَانِ، وَأَوْقَفُوهُ
لِلْبَيْعِ فَاشْتَرَاهُ قِطْفِيرُ وَزِيرُ الْمَلِكِ، قَالَهُ
ابْنُ عَبَّاسٍ عَلَى مَا تَقَدَّمَ. وَقِيلَ: إِنَّ هَذَا
الْمَلِكَ لَمْ يَمُتْ حَتَّى آمَنَ وَاتَّبَعَ يُوسُفَ عَلَى
دِينِهِ، ثُمَّ مَاتَ الْمَلِكُ وَيُوسُفُ يَوْمئِذٍ عَلَى
خَزَائِنِ الْأَرْضِ، فَمَلَكَ بَعْدَهُ قَابُوسُ وَكَانَ
كَافِرًا، فَدَعَاهُ يُوسُفُ إِلَى الْإِسْلَامِ فَأَبَى.
(أَكْرِمِي مَثْواهُ) أَيْ مَنْزِلَهُ وَمَقَامَهُ بِطِيبِ
الْمَطْعَمِ وَاللِّبَاسِ الْحَسَنِ، وَهُوَ
(9/159)
مَأْخُوذٌ مِنْ ثَوَى بِالْمَكَانِ أَيْ
أَقَامَ بِهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي" آلِ عِمْرَانَ" «1»
وَغَيْرِهِ. (عَسى أَنْ يَنْفَعَنا) أَيْ يَكْفِيَنَا بَعْضَ
الْمُهِمَّاتِ إِذَا بَلَغَ. (أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً) قَالَ
ابْنُ عَبَّاسٍ: كَانَ حَصُورًا لَا يُولَدُ لَهُ، وَكَذَا
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: كَانَ قِطْفِيرُ لَا يَأْتِي
النِّسَاءَ وَلَا يُولَدُ لَهُ. فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ قَالَ"
أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً" وَهُوَ مِلْكُهُ، وَالْوَلَدِيَّةُ
مَعَ الْعَبْدِيَّةِ تَتَنَاقَضُ؟ قِيلَ لَهُ: يُعْتِقُهُ
ثُمَّ يَتَّخِذُهُ وَلَدًا بِالتَّبَنِّي، وَكَانَ التَّبَنِّي
فِي الْأُمَمِ مَعْلُومًا عِنْدَهُمْ، وَكَذَلِكَ كَانَ فِي
أَوَّلِ الْإِسْلَامِ، عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانُهُ فِي"
الْأَحْزَابِ" «2» إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَقَالَ
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ: أَحْسَنُ النَّاسِ فِرَاسَةً
ثَلَاثَةٌ، الْعَزِيزُ حِينَ تَفَرَّسَ فِي يُوسُفَ فَقَالَ:"
عَسى أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً" وَبِنْتُ
شُعَيْبٍ حِينَ قَالَتْ لِأَبِيهَا فِي مُوسَى" اسْتَأْجِرْهُ
إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ" «3»
[القصص: 26]، وَأَبُو بَكْرٍ حِينَ اسْتَخْلَفَ عُمَرَ. قَالَ
ابْنُ الْعَرَبِيِّ: عَجَبًا لِلْمُفَسِّرِينَ فِي
اتِّفَاقِهِمْ عَلَى جَلْبِ هَذَا الْخَبَرِ! وَالْفِرَاسَةُ
هِيَ عِلْمٌ غَرِيبٌ عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانُهُ فِي سُورَةِ"
الْحِجْرِ" «4» وَلَيْسَ كَذَلِكَ فِيمَا نَقَلُوهُ، لِأَنَّ
الصِّدِّيقَ إِنَّمَا وَلَّى عُمَرَ بِالتَّجْرِبَةِ فِي
الْأَعْمَالِ، وَالْمُوَاظَبَةِ عَلَى الصُّحْبَةِ وَطُولِهَا،
وَالِاطِّلَاعِ عَلَى مَا شَاهَدَ مِنْهُ مِنَ الْعِلْمِ
وَالْمِنَّةِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ مِنْ طَرِيقِ الْفِرَاسَةِ،
وَأَمَّا بِنْتُ شُعَيْبٍ فَكَانَتْ مَعَهَا الْعَلَامَةُ
الْبَيِّنَةُ عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانُهُ فِي" الْقَصَصِ"
«5». وَأَمَّا أَمْرُ الْعَزِيزِ فَيُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ
فِرَاسَةً، لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ عَلَامَةٌ ظَاهِرَةٌ.
وَاللَّهُ أَعْلَمُ. قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَكَذلِكَ مَكَّنَّا
لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ) الْكَافُ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ، أَيْ
وَكَمَا أَنْقَذْنَاهُ مِنْ إِخْوَتِهِ وَمِنَ الْجُبِّ
فَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لَهُ، أَيْ عَطَّفْنَا عَلَيْهِ قَلْبَ
الْمَلِكِ الَّذِي اشْتَرَاهُ حَتَّى تَمَكَّنَ مِنَ الْأَمْرِ
وَالنَّهْيِ فِي الْبَلَدِ الَّذِي الْمَلِكُ مُسْتَوْلٍ
عَلَيْهِ. (وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ) أَيْ
فَعَلْنَا ذَلِكَ تَصْدِيقًا لِقَوْلِ يَعْقُوبَ:"
وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ". وَقِيلَ:
الْمَعْنَى مَكَّنَّاهُ لِنُوحِيَ إِلَيْهِ بِكَلَامٍ مِنَّا،
وَنُعَلِّمَهُ تَأْوِيلَهُ وَتَفْسِيرَهُ، وَتَأْوِيلَ
الرُّؤْيَا، وَتَمَّ الْكَلَامُ. (وَاللَّهُ غالِبٌ عَلى
أَمْرِهِ) الْهَاءُ رَاجِعَةٌ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، أَيْ لا
يغلب الله شي، بل هو الغالب على أمر
__________
(1). راجع ج 4 ص 233.
(2). راجع ج 14 ص 118 فما بعد وص 188 فما بعد.
(3). ج 10 ص 42 فما بعد.
(4). راجع ج 13 ص 271.
(5). راجع ج 13 ص 271.
(9/160)
وَلَمَّا بَلَغَ
أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي
الْمُحْسِنِينَ (22)
نَفْسِهِ فِيمَا يُرِيدُهُ أَنْ يَقُولَ
لَهُ: كُنْ فَيَكُونُ. وَقِيلَ: تَرْجِعُ إِلَى يُوسُفَ، أَيِ
اللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِ يُوسُفَ يُدَبِّرُهُ وَيَحُوطُهُ
وَلَا يَكِلُهُ إِلَى غَيْرِهِ، حَتَّى لَا يَصِلُ إِلَيْهِ
كَيْدُ كَائِدٍ. (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ)
أَيْ لَا يَطَّلِعُونَ عَلَى غَيْبِهِ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ
بِالْأَكْثَرِ الْجَمِيعُ، لِأَنَّ أَحَدًا لَا يَعْلَمُ
الْغَيْبَ. وَقِيلَ: هُوَ مُجْرًى عَلَى ظَاهِرِهِ، إِذْ قَدْ
يُطْلِعُ مِنْ يُرِيدُ عَلَى بَعْضِ غَيْبِهِ. وَقِيلَ:
الْمَعْنَى" وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ"
أَنَّ اللَّهَ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ، وَهُمُ الْمُشْرِكُونَ
وَمَنْ لَا يُؤْمِنُ بِالْقَدَرِ. وَقَالَتِ الْحُكَمَاءُ فِي
هَذِهِ الْآيَةِ:" وَاللَّهُ غالِبٌ عَلى أَمْرِهِ" حَيْثُ،
أَمَرَهُ يَعْقُوبُ أَلَّا يَقُصَّ رُؤْيَاهُ عَلَى إِخْوَتِهِ
فَغَلَبَ أَمْرُ اللَّهِ حَتَّى قَصَّ، ثُمَّ أَرَادَ
إِخْوَتُهُ قَتْلَهُ فَغَلَبَ أَمْرُ اللَّهِ حَتَّى صَارَ
مَلِكًا وَسَجَدُوا بَيْنَ يَدَيْهِ، ثُمَّ أَرَادَ
الْإِخْوَةُ أَنْ يَخْلُوَ لَهُمْ وَجْهُ أَبِيهِمْ فَغَلَبَ
أَمْرُ اللَّهِ حَتَّى ضَاقَ عَلَيْهِمْ قَلْبُ أَبِيهِمْ،
وَافْتَكَرَهُ بَعْدَ سَبْعِينَ سَنَةً أَوْ ثَمَانِينَ
سَنَةً، فَقَالَ:" يَا أَسَفى عَلى يُوسُفَ" ثُمَّ تَدَبَّرُوا
أَنْ يَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ، أَيْ
تَائِبِينَ فَغَلَبَ أَمْرُ اللَّهِ حَتَّى نَسُوا الذَّنْبَ
وَأَصَرُّوا عَلَيْهِ حَتَّى أَقَرُّوا بَيْنَ يَدَيْ يُوسُفَ
فِي آخِرِ الْأَمْرِ بَعْدَ سَبْعِينَ سَنَةً، وَقَالُوا
لِأَبِيهِمْ:" إِنَّا كُنَّا خاطِئِينَ" [يوسف: 97] ثُمَّ
أَرَادُوا أَنْ يَخْدَعُوا أَبَاهُمْ بِالْبُكَاءِ
وَالْقَمِيصِ [فَغَلَبَ أَمْرُ اللَّهِ «1»] فَلَمْ
يَنْخَدِعْ، وَقَالَ:" بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ
أَمْراً" [يوسف: 18] ثُمَّ احْتَالُوا فِي أَنْ تَزُولَ
مَحَبَّتُهُ مِنْ قَلْبِ أَبِيهِمْ فَغَلَبَ أَمْرُ اللَّهِ
فَازْدَادَتِ الْمَحَبَّةُ وَالشَّوْقُ فِي قَلْبِهِ، ثُمَّ
دَبَّرَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ أَنَّهَا إِنِ ابْتَدَرَتْهُ
بِالْكَلَامِ غَلَبَتْهُ، فَغَلَبَ أَمْرُ اللَّهِ حَتَّى
قَالَ الْعَزِيزُ:" اسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ
مِنَ الْخاطِئِينَ" [يوسف: 29]، ثُمَّ دَبَّرَ يُوسُفُ أَنْ
يَتَخَلَّصَ مِنَ السِّجْنِ بِذِكْرِ السَّاقِي فَغَلَبَ
أَمْرُ اللَّهِ فَنَسِيَ السَّاقِي، ولبث يوسف في السجن بضع
سنين.
[سورة يوسف (12): آية 22]
وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً
وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (22)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ) " أَشُدَّهُ"
عِنْدَ سِيبَوَيْهِ جَمْعٌ وَاحِدُهُ شِدَّةٌ. وَقَالَ
الْكِسَائِيُّ: وَاحِدُهُ شَدٌّ، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ «2»:
عَهْدِي بِهِ شَدَّ النَّهَارِ كَأَنَّمَا ... خُضِبَ
اللَّبَانَ وَرَأْسُهُ بالعظلم
__________
(1). من ع وك وووى.
(2). هو عنترة العبسي وشد النهار: أي أشده، يعني أعلاه.
واللبان: الصدر، وقيل: وسطه، وقيل: ما بين الثديين، ويروى:"
البنان". والعظلم عصارة شجر أو نبت يصبغ به، أو الوسمة، وهي
شجرة ورقها خضاب.
(9/161)
وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي
هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ
وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي
أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (23)
وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى
بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ
وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ (24)
وَزَعَمَ أَبُو عُبَيْدٍ أَنَّهُ لَا
وَاحِدَ لَهُ مِنْ لَفْظِهِ عِنْدَ الْعَرَبِ، وَمَعْنَاهُ
اسْتِكْمَالُ الْقُوَّةِ ثُمَّ يَكُونُ النُّقْصَانُ بَعْدُ.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ: الْأَشُدُّ ثَلَاثٌ
وَثَلَاثُونَ سَنَةً. وَقَالَ رَبِيعَةُ وَزَيْدُ بْنُ
أَسْلَمَ وَمَالِكُ بْنُ أَنَسٍ: الْأَشُدُّ بُلُوغُ
الْحُلُمِ، وَقَدْ مَضَى مَا لِلْعُلَمَاءِ فِي هَذَا فِي"
النِّسَاءِ" «1» وَ" الْأَنْعَامِ" «2» مُسْتَوْفًى.
(آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً) قِيلَ: جَعَلْنَاهُ
الْمُسْتَوْلِي عَلَى الْحُكْمِ، فَكَانَ يَحْكُمُ فِي
سُلْطَانِ الْمَلِكِ، أَيْ وَآتَيْنَاهُ عِلْمًا بِالْحُكْمِ.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: الْعَقْلُ وَالْفَهْمُ وَالنُّبُوَّةُ.
وَقِيلَ: الْحُكْمُ النُّبُوَّةُ، وَالْعِلْمُ عِلْمُ
الدِّينِ، وَقِيلَ: عِلْمُ الرُّؤْيَا، وَمَنْ قَالَ: أُوتِيَ
النُّبُوَّةَ صَبِيًّا قَالَ: لَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ
زِدْنَاهُ فَهْمًا وَعِلْمًا. (وَكَذلِكَ نَجْزِي
الْمُحْسِنِينَ) يَعْنِي الْمُؤْمِنِينَ. وَقِيلَ:
الصَّابِرِينَ عَلَى النَّوَائِبِ كَمَا صَبَرَ يُوسُفُ،
قَالَهُ الضَّحَّاكُ. وَقَالَ الطَّبَرِيُّ: هَذَا وَإِنْ
كَانَ مَخْرَجُهُ ظَاهِرًا عَلَى كُلِّ مُحْسِنٍ فَالْمُرَادُ
بِهِ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَقُولُ
اللَّهُ تَعَالَى: كَمَا فَعَلْتُ هَذَا بِيُوسُفَ بَعْدَ أَنْ
قَاسَى مَا قَاسَى ثُمَّ أَعْطَيْتُهُ مَا أَعْطَيْتُهُ،
كَذَلِكَ أُنْجِيكَ مِنْ مُشْرِكِي قَوْمِكَ الَّذِينَ
يَقْصِدُونَكَ بِالْعَدَاوَةِ، وَأُمَكِّنُ لَكَ في الأرض.
[سورة يوسف (12): الآيات 23 الى 24]
وَراوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِها عَنْ نَفْسِهِ
وَغَلَّقَتِ الْأَبْوابَ وَقالَتْ هَيْتَ لَكَ قالَ مَعاذَ
اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوايَ إِنَّهُ لَا
يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (23) وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ
بِها لَوْلا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ كَذلِكَ لِنَصْرِفَ
عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا
الْمُخْلَصِينَ (24)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَراوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِها
عَنْ نَفْسِهِ) وَهِيَ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ، طَلَبَتْ مِنْهُ
أَنْ يُوَاقِعَهَا. وَأَصْلُ الْمُرَاوَدَةِ الْإِرَادَةُ
وَالطَّلَبُ بِرِفْقٍ وَلِينٍ. وَالرَّوْدُ وَالرِّيَادُ
طَلَبُ الْكَلَأِ، وَقِيلَ: هِيَ مِنْ رُوَيْدٍ، يُقَالُ:
فُلَانٌ يَمْشِي رُوَيْدًا، أَيْ بِرِفْقٍ، فالمراودة الرفق في
الطلب، يقال
__________
(1). راجع ج 5 ص 34 فما بعد.
(2). راجع ج 7 ص 134 فما بعد.
(9/162)
فِي الرَّجُلِ: رَاوَدَهَا عَنْ نَفْسِهَا،
وَفِي الْمَرْأَةِ رَاوَدَتْهُ عَنْ نَفْسِهِ. وَالرَّوْدُ
التَّأَنِّي، يُقَالُ: أَرْوَدَنِي أَمْهَلَنِي. (وَغَلَّقَتِ
الْأَبْوابَ) غَلَّقَ لِلْكَثِيرِ، وَلَا يُقَالُ: غَلَقَ
الْبَابَ، وَأَغْلَقَ يَقَعُ لِلْكَثِيرِ وَالْقَلِيلِ، كَمَا
قَالَ الْفَرَزْدَقُ فِي أَبِي عَمْرِو بْنِ الْعَلَاءِ:
مَا زِلْتُ أُغْلِقُ أَبْوَابًا وَأَفْتَحُهَا ... حَتَّى
أَتَيْتُ أَبَا عَمْرِو بْنَ عَمَّارٍ
يُقَالُ: إِنَّهَا كَانَتْ سَبْعَةَ أَبْوَابٍ غَلَّقَتْهَا
ثُمَّ دَعَتْهُ إِلَى نَفْسِهَا. (وَقالَتْ هَيْتَ لَكَ) أَيْ
هَلُمَّ وَأَقْبِلْ وَتَعَالَ، وَلَا مَصْدَرَ لَهُ وَلَا
تَصْرِيفَ. قَالَ النَّحَّاسُ: فِيهَا سَبْعُ قِرَاءَاتٍ،
فَمِنْ أَجَلِّ مَا فِيهَا وَأَصَحِّهِ إِسْنَادًا مَا رَوَاهُ
الْأَعْمَشُ عَنْ أَبِي وَائِلٍ قَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَ
اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ يَقْرَأُ" هَيْتَ لَكَ" قَالَ
فَقُلْتُ: إِنَّ قَوْمًا يَقْرَءُونَهَا" هِيتَ لَكَ" فَقَالَ:
إِنَّمَا أَقْرَأُ كَمَا عُلِّمْتُ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ:
وَبَعْضُهُمْ يَقُولُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ عَنِ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَا يَبْعُدُ
ذَلِكَ، لِأَنَّ قَوْلَهُ: إِنَّمَا أَقْرَأُ كَمَا عُلِّمْتُ
يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مَرْفُوعٌ، وَهَذِهِ الْقِرَاءَةُ
بِفَتْحِ التَّاءِ وَالْهَاءِ هِيَ الصَّحِيحَةُ مِنْ
قِرَاءَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَالْحَسَنِ
وَمُجَاهِدٍ وَعِكْرِمَةَ، وَبِهَا قَرَأَ أَبُو عَمْرِو بْنُ
الْعَلَاءِ وَعَاصِمٌ وَالْأَعْمَشُ وَحَمْزَةُ والكسائي. قال
عبد الله ابن مَسْعُودٍ: لَا تَقْطَعُوا فِي الْقُرْآنِ،
فَإِنَّمَا هُوَ مِثْلُ، قَوْلِ أَحَدُكُمْ: هَلُمَّ
وَتَعَالَ. وَقَرَأَ ابْنُ أَبِي إِسْحَاقَ النَّحْوِيُّ"
قَالَتْ هَيْتِ لَكَ" بِفَتْحِ الْهَاءِ وَكَسْرِ التَّاءِ.
وَقَرَأَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيُّ وَابْنُ
كَثِيرٍ" هَيْتُ لَكَ" بِفَتْحِ الْهَاءِ وَضَمِّ التَّاءِ،
قَالَ طَرَفَةُ:
لَيْسَ قَوْمِي بِالْأَبْعَدِينَ إذا ما ... وقال دَاعٍ مِنَ
الْعَشِيرَةِ هَيْتُ
فَهَذِهِ ثَلَاثُ قِرَاءَاتٍ الْهَاءُ فِيهِنَّ مَفْتُوحَةٌ.
وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ وَشَيْبَةُ وَنَافِعٌ" وَقَالَتْ
هِيتَ لَكَ" بِكَسْرِ الْهَاءِ وَفَتْحِ التَّاءِ. وَقَرَأَ
يَحْيَى بْنُ وَثَّابٍ" وَقَالَتْ هِيتُ لَكَ" بِكَسْرِ
الْهَاءِ وَبَعْدَهَا يَاءٌ سَاكِنَةٌ وَالتَّاءُ مَضْمُومَةٌ.
وَرُوِيَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٍ وَعِكْرِمَةَ:" وقالت
هيت، لَكَ" بِكَسْرِ الْهَاءِ وَبَعْدَهَا هَمْزَةٌ سَاكِنَةٌ
وَالتَّاءُ مَضْمُومَةٌ. وَعَنِ ابْنِ عَامِرٍ وَأَهْلِ
الشَّامِ:" وَقَالَتْ هيت" بِكَسْرِ الْهَاءِ وَبِالْهَمْزَةِ
وَبِفَتْحِ التَّاءِ، قَالَ أَبُو جعفر:" هَيْتَ لَكَ"
بِفَتْحِ التَّاءِ لِالْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ، لِأَنَّهُ
صَوْتٌ نَحْوُ مَهْ وَصَهْ يَجِبُ أَلَّا يُعْرَبَ،
(9/163)
وَالْفَتْحُ خَفِيفٌ، لِأَنَّ قَبْلَ
التَّاءِ يَاءً مِثْلُ، أَيْنَ وَكَيْفَ، وَمَنْ كَسَرَ
التَّاءَ فَإِنَّمَا كَسَرَهَا لِأَنَّ الْأَصْلَ الْكَسْرُ،
لِأَنَّ السَّاكِنَ إِذَا حُرِّكَ حُرِّكَ إِلَى الْكَسْرِ،
وَمَنْ ضَمَّ فَلِأَنَّ فِيهِ مَعْنَى الْغَايَةِ، أَيْ
قَالَتْ: دُعَائِي لَكَ، فَلَمَّا حُذِفَتِ الْإِضَافَةُ
بُنِيَ عَلَى الضَّمِّ، مِثْلُ حَيْثُ وَبَعْدُ. وَقِرَاءَةُ
أَهْلِ الْمَدِينَةِ فِيهَا قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا- أَنْ
يَكُونَ الْفَتْحُ لِالْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ كَمَا مَرَّ.
والآخر- أن يكون فعلا من هاء يهيئ مثل جاء يجئ، فَيَكُونُ
الْمَعْنَى فِي" هِئْتُ" أَيْ حَسُنَتْ هَيْئَتُكَ، وَيَكُونُ"
لَكَ" مِنْ كَلَامٍ آخَرَ، كَمَا تَقُولُ: لَكَ أَعْنِي.
وَمَنْ هَمَزَ وَضَمَّ التَّاءَ فَهُوَ فِعْلٌ بِمَعْنَى
تَهَيَّأْتُ لَكَ، وَكَذَلِكَ مَنْ قَرَأَ" هِيتُ لَكَ".
وَأَنْكَرَ أَبُو عَمْرٍو هَذِهِ الْقِرَاءَةَ، قَالَ أَبُو
عُبَيْدَةَ- مَعْمَرُ بْنُ الْمُثَنَّى: سُئِلَ أَبُو عَمْرٍو
عَنْ قِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ بِكَسْرِ الْهَاءِ وَضَمِّ
التَّاءِ مَهْمُوزًا فَقَالَ أَبُو عَمْرٍو: بَاطِلٌ،
جَعَلَهَا مِنْ تَهَيَّأْتُ! اذْهَبْ فَاسْتَعْرِضِ الْعَرَبَ
حَتَّى تَنْتَهِيَ إِلَى الْيَمَنِ هَلْ تَعْرِفُ أَحَدًا
يَقُولُ هَذَا؟! وَقَالَ الْكِسَائِيُّ أَيْضًا: لَمْ تُحْكَ"
هئت" عن العرب. قال عكرمة:" هيت لَكَ" أَيْ تَهَيَّأْتُ لَكَ
وَتَزَيَّنْتُ وَتَحَسَّنْتُ، وَهِيَ قِرَاءَةٌ غَيْرُ
مَرْضِيَّةٍ، لِأَنَّهَا لَمْ تُسْمَعْ فِي الْعَرَبِيَّةِ.
قَالَ النَّحَّاسُ: وَهِيَ جَيِّدَةٌ عِنْدَ الْبَصْرِيِّينَ،
لأنه يقال: هاء الرجل يهاء ويهيئ هيأة فهاء يهيئ مثل جاء يجئ
وهيت مِثْلُ جِئْتُ. وَكَسْرُ الْهَاءِ فِي" هَيْتَ" لُغَةٌ
لِقَوْمٍ يُؤْثِرُونَ كَسْرَ الْهَاءِ عَلَى فَتْحِهَا. قَالَ
الزَّجَّاجُ: أَجْوَدُ الْقِرَاءَاتِ" هَيْتَ" بِفَتْحِ
الْهَاءِ وَالتَّاءِ، قَالَ طَرَفَةُ:
لَيْسَ قَوْمِي بِالْأَبْعَدِينَ إِذَا مَا ... وقال دَاعٍ
مِنَ الْعَشِيرَةِ هَيْتَ
بِفَتْحِ الْهَاءِ وَالتَّاءِ. وَقَالَ الشَّاعِرُ فِي عَلِيِّ
بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عنه:
أبلغ أمير المؤمن ... ين أَخَا الْعِرَاقِ إِذَا أَتَيْتَا
إِنَّ الْعِرَاقَ وَأَهْلَهُ ... سِلْمٌ إِلَيْكَ فَهَيْتَ
هَيْتَا
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنُ:" هَيْتَ" كَلِمَةٌ
بِالسُّرْيَانِيَّةِ تَدْعُوهُ إِلَى نَفْسِهَا. وَقَالَ
السُّدِّيُّ: مَعْنَاهَا بِالْقِبْطِيَّةِ «1» هَلُمَّ لَكَ.
قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: كَانَ الْكِسَائِيُّ يَقُولُ: هِيَ
لُغَةٌ لِأَهْلِ حَوْرَانَ وَقَعَتْ إِلَى أَهْلِ الْحِجَازِ
مَعْنَاهُ تَعَالَ، قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: فَسَأَلْتُ شَيْخًا
عَالِمًا من حوران فذكر أنها
__________
(1). في عين النبطية.
(9/164)
لُغَتُهُمْ، وَبِهِ قَالَ عِكْرِمَةُ.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَغَيْرُهُ: هِيَ لُغَةٌ عَرَبِيَّةٌ
تَدْعُوهُ بِهَا إِلَى نَفْسِهَا، وَهِيَ كَلِمَةُ حَثٍّ
وَإِقْبَالٍ عَلَى الْأَشْيَاءِ، قَالَ الْجَوْهَرِيُّ:
يُقَالُ هَوَّتَ بِهِ وَهَيَّتَ بِهِ إِذَا صَاحَ بِهِ
وَدَعَاهُ، قَالَ:
قَدْ رَابَنِي أَنَّ الْكَرِيَّ أَسْكَتَا ... لَوْ كَانَ
مَعْنِيًّا بِهَا لَهَيَّتَا
أَيْ صَاحَ، وَقَالَ آخَرُ:
يَحْدُو بِهَا كُلُّ فَتًى هَيَّاتِ
قَوْلُهُ تَعَالَى: (قالَ مَعاذَ اللَّهِ) أَيْ أَعُوذُ
بِاللَّهِ وَأَسْتَجِيرُ بِهِ مِمَّا دَعَوْتِنِي إِلَيْهِ،
وَهُوَ مَصْدَرٌ، أَيْ أَعُوذُ بِاللَّهِ مَعَاذًا، فَيُحْذَفُ
الْمَفْعُولُ وَيَنْتَصِبُ الْمَصْدَرُ بِالْفِعْلِ
الْمَحْذُوفِ، وَيُضَافُ الْمَصْدَرُ إِلَى اسْمِ اللَّهِ
كَمَا يُضَافُ الْمَصْدَرُ إِلَى الْمَفْعُولِ، كَمَا تَقُولُ:
مَرَرْتُ بِزَيْدٍ مُرُورَ عَمْرٍو أَيْ كَمُرُورِي بِعَمْرٍو.
(إِنَّهُ رَبِّي) يَعْنِي زَوْجَهَا، أَيْ هُوَ سَيِّدِي
أَكْرَمَنِي فَلَا أَخُونُهُ، قَالَهُ مُجَاهِدٌ وَابْنُ
إِسْحَاقَ وَالسُّدِّيُّ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: أَيْ إِنَّ
اللَّهَ رَبِّي تَوَلَّانِي بِلُطْفِهِ، فَلَا أَرْتَكِبُ مَا
حَرَّمَهُ. (إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ) وَفِي
الْخَبَرِ أَنَّهَا قَالَتْ لَهُ: يَا يُوسُفُ! مَا أَحْسَنَ
صُورَةَ وَجْهِكَ! قَالَ: فِي الرَّحِمِ صَوَّرَنِي رَبِّي،
قَالَتْ: يَا يُوسُفُ مَا أَحْسَنَ شعرك! قال: هو أول شي
يَبْلَى مِنِّي فِي قَبْرِي، قَالَتْ: يَا يُوسُفُ! مَا
أَحْسَنَ عَيْنَيْكَ؟ قَالَ: بِهِمَا أَنْظُرُ إِلَى رَبِّي.
قَالَتْ: يَا يُوسُفُ! ارْفَعْ بَصَرَكَ فَانْظُرْ فِي
وَجْهِي، قَالَ: إِنِّي أَخَافُ الْعَمَى فِي آخِرَتِي.
قَالَتْ يَا يُوسُفُ! أَدْنُو مِنْكَ وَتَتَبَاعَدُ مِنِّي؟!
قَالَ: أُرِيدَ بِذَلِكَ الْقُرْبَ مِنْ رَبِّي. قَالَتْ: يَا
يُوسُفُ! الْقَيْطُونُ «1» [فَرَشْتُهُ لَكَ «2»] فَادْخُلْ
مَعِي، قَالَ: الْقَيْطُونُ لَا يَسْتُرُنِي مِنْ رَبِّي.
قَالَتْ: يَا يُوسُفُ! فِرَاشُ الْحَرِيرِ قَدْ فَرَشْتُهُ
لَكَ، قُمْ فَاقْضِ حَاجَتِي، قَالَ: إِذًا يَذْهَبُ مِنَ
الْجَنَّةِ نَصِيبِي، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ كَلَامِهَا
وَهُوَ يُرَاجِعُهَا، إِلَى أَنْ هَمَّ بِهَا. وَقَدْ ذَكَرَ
بَعْضُهُمْ مَا زَالَ النِّسَاءُ يَمِلْنَ إِلَى يُوسُفَ
مَيْلَ شَهْوَةٍ حَتَّى نَبَّأَهُ اللَّهُ، فَأَلْقَى عَلَيْهِ
هَيْبَةَ النُّبُوَّةِ، فَشَغَلَتْ هَيْبَتُهُ كُلَّ مَنْ
رَآهُ عَنْ حُسْنِهِ. وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي هَمِّهِ.
وَلَا خِلَافَ أَنَّ هَمَّهَا كَانَ الْمَعْصِيَةَ، وأما يوسف
فهم بها
__________
(1). القيطون: المخدع، أعجمي، وقيل: بلغة أهل مصر والبربر.
(2). من ى. [ ..... ]
(9/165)
(لَوْلا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ)
وَلَكِنْ لَمَّا رَأَى الْبُرْهَانَ مَا هَمَّ، وَهَذَا
لِوُجُوبِ الْعِصْمَةِ لِلْأَنْبِيَاءِ، قَالَ اللَّهُ
تَعَالَى: (كَذلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشاءَ
إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُخْلَصِينَ) فَإِذَا فِي
الْكَلَامِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ، أَيْ لَوْلَا أَنْ رَأَى
بُرْهَانَ «1» رَبِّهِ هَمَّ بِهَا. قَالَ أَبُو حَاتِمٍ:
كُنْتُ أَقْرَأُ غَرِيبَ الْقُرْآنِ عَلَى أَبِي عُبَيْدَةَ
فَلَمَّا أَتَيْتُ عَلَى قَوْلِهِ:" وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ
وَهَمَّ بِها" الْآيَةَ، قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: هَذَا عَلَى
التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ، كَأَنَّهُ أَرَادَ وَلَقَدْ
هَمَّتْ بِهِ وَلَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ لَهَمَّ
بِهَا. وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ يَحْيَى: أَيْ هَمَّتْ
زَلِيخَاءُ بِالْمَعْصِيَةِ وَكَانَتْ مُصِرَّةً، وَهَمَّ
يُوسُفُ وَلَمْ يُوَاقِعْ مَا هَمَّ بِهِ، فَبَيْنَ
الْهَمَّتَيْنِ فَرْقٌ، ذَكَرَ هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ
الْهَرَوِيُّ فِي كِتَابِهِ. قَالَ جَمِيلٌ:
هَمَمْتُ بِهَمٍّ مِنْ بُثَيْنَةَ لَوْ بَدَا ... شَفَيْتُ
غَلِيلَاتِ الْهَوَى مِنْ فُؤَادِيَا
آخَرُ:
هَمَمْتُ وَلَمْ أَفْعَلْ وَكِدْتُ وَلَيْتَنِي ... تَرَكْتُ
عَلَى عُثْمَانَ تَبْكِي حَلَائِلُهُ
فَهَذَا كُلُّهُ حَدِيثُ نَفْسٍ مِنْ غَيْرِ عَزْمٍ. وَقِيلَ:
هَمَّ بِهَا تَمَنَّى زَوْجِيَّتَهَا. وَقِيلَ: هَمَّ بِهَا
أَيْ بِضَرْبِهَا «2» وَدَفْعِهَا عَنْ نَفْسِهِ،
وَالْبُرْهَانُ كَفُّهُ عَنِ الضَّرْبِ، إِذْ لَوْ ضَرَبَهَا
لَأَوْهَمَ أَنَّهُ قَصَدَهَا بِالْحَرَامِ فَامْتَنَعَتْ
فَضَرَبَهَا. وَقِيلَ: إِنَّ هَمَّ يُوسُفَ كَانَ مَعْصِيَةً،
وَأَنَّهُ جَلَسَ مِنْهَا مَجْلِسَ الرَّجُلِ مِنَ
امْرَأَتِهِ، وَإِلَى هَذَا الْقَوْلِ ذَهَبَ مُعْظَمُ
الْمُفَسِّرِينَ وَعَامَّتُهُمْ، فِيمَا ذَكَرَ الْقُشَيْرِيُّ
أَبُو نَصْرٍ، وَابْنُ الْأَنْبَارِيِّ وَالنَّحَّاسُ
والماوردي وغيرهم. فال ابْنُ عَبَّاسٍ: حَلَّ الْهِمْيَانَ «3»
وَجَلَسَ مِنْهَا مَجْلِسَ الْخَاتِنِ، وَعَنْهُ: اسْتَلْقَتْ
عَلَى قَفَاهَا وَقَعَدَ بَيْنَ رِجْلَيْهَا يَنْزِعُ
ثِيَابَهُ. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: أَطْلَقَ تِكَّةَ
سَرَاوِيلِهِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: حَلَّ السَّرَاوِيلَ حَتَّى
بَلَغَ الْأَلْيَتَيْنِ، وَجَلَسَ مِنْهَا مَجْلِسَ الرَّجُلِ
مِنَ امْرَأَتِهِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَلَمَّا قَالَ:"
ذلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ" [يوسف:
52] قَالَ لَهُ جِبْرِيلُ: وَلَا حِينَ هَمَمْتَ بِهَا يَا
يُوسُفُ؟! فَقَالَ عِنْدَ ذَلِكَ:" وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي"
[يوسف: 53]. قَالُوا: وَالِانْكِفَافُ فِي مِثْلِ هَذِهِ
الْحَالَةِ دَالٌّ على الإخلاص، وأعظم للثواب.
__________
(1). في ع: رأى البرهان برهان.
(2). هذا هو اللائق بالمعصوم دون سواه من المعاني.
(3). الهيمان شداد السراويل.
(9/166)
قُلْتُ: وَهَذَا كَانَ سَبَبَ ثَنَاءِ
اللَّهِ تَعَالَى عَلَى ذِي الْكِفْلِ حَسَبَ، مَا يَأْتِي
بَيَانُهُ فِي" ص" «1» إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
وَجَوَابُ" ذَلُولًا" على هذا محذوف، اي لولا أن بُرْهَانَ
رَبِّهِ لَأَمْضَى مَا هَمَّ بِهِ، وَمِثْلُهُ" كَلَّا لَوْ
تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ" «2» [التكاثر: 5] وَجَوَابَهُ
لَمْ تَتَنَافَسُوا، قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: رُوِيَ هَذَا
الْقَوْلُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَجَمَاعَةٍ مِنَ السَّلَفِ،
وَقَالُوا: الْحِكْمَةُ فِي ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ مَثَلًا
لِلْمُذْنِبِينَ لِيَرَوْا أَنَّ تَوْبَتَهُمْ تَرْجِعُ إِلَى
عَفْوِ اللَّهِ تَعَالَى كَمَا رَجَعَتْ مِمَّنْ هُوَ خَيْرٌ
مِنْهُمْ، وَلَمْ يُوبِقْهُ الْقُرْبُ مِنَ الذَّنْبِ، وَهَذَا
كُلُّهُ عَلَى أَنَّ هَمَّ يُوسُفَ بَلَغَ فِيمَا رَوَتْ
هَذِهِ الْفِرْقَةُ إِلَى أَنْ جَلَسَ بَيْنَ رِجْلَيْ
زَلِيخَاءَ وَأَخَذَ فِي حَلِّ ثِيَابِهِ وَتِكَّتِهِ وَنَحْوِ
ذَلِكَ، وَهِيَ قَدِ اسْتَلْقَتْ لَهُ، حَكَاهُ الطَّبَرِيُّ.
وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ الْقَاسِمُ بْنُ سَلَّامٍ: وَابْنُ
عَبَّاسٍ وَمَنْ دُونَهُ لَا يَخْتَلِفُونَ فِي أَنَّهُ هَمَّ
بِهَا، وَهُمْ أَعْلَمُ بِاللَّهِ وَبِتَأْوِيلِ كِتَابِهِ،
وَأَشَدُّ تَعْظِيمًا لِلْأَنْبِيَاءِ مِنْ أَنْ يَتَكَلَّمُوا
فِيهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ. وَقَالَ الْحَسَنُ: إِنَّ اللَّهَ
عَزَّ وَجَلَّ لَمْ يَذْكُرْ مَعَاصِي الْأَنْبِيَاءِ
لِيُعَيِّرَهُمْ بِهَا، وَلَكِنَّهُ ذَكَرَهَا لِكَيْلَا
تَيْأَسُوا مِنَ التَّوْبَةِ. قَالَ الْغَزْنَوِيُّ: مَعَ
أَنَّ لِزَلَّةِ الْأَنْبِيَاءِ حِكَمًا: زِيَادَةُ الْوَجَلِ،
وَشِدَّةُ الْحَيَاءِ بِالْخَجَلِ، وَالتَّخَلِّي عَنْ عُجْبِ
الْعَمَلِ، وَالتَّلَذُّذُ بِنِعْمَةِ الْعَفْوِ بَعْدَ
الْأَمَلِ، وَكَوْنُهُمْ أَئِمَّةَ رَجَاءِ أَهْلِ الزَّلَلِ.
قَالَ الْقُشَيْرِيُّ أَبُو نَصْرٍ: وَقَالَ قَوْمٌ جَرَى مِنْ
يُوسُفَ هَمٌّ، وَكَانَ ذَلِكَ [الْهَمُّ «3»] حَرَكَةَ طَبْعٍ
مِنْ غَيْرِ تَصْمِيمٍ لِلْعَقْدِ عَلَى الْفِعْلِ، وَمَا
كَانَ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ لَا يُؤْخَذُ بِهِ الْعَبْدُ،
وَقَدْ يَخْطِرُ بِقَلْبِ الْمَرْءِ وَهُوَ صَائِمٌ شُرْبُ
الْمَاءِ الْبَارِدِ، وَتَنَاوُلُ الطَّعَامِ اللَّذِيذِ،
فَإِذَا لَمْ يَأْكُلْ وَلَمْ يَشْرَبْ، وَلَمْ يُصَمِّمْ
عَزْمُهُ عَلَى الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ لَا يُؤَاخَذُ بِمَا
هَجَسَ فِي النَّفْسِ، وَالْبُرْهَانُ صَرَفَهُ عَنْ هَذَا
الْهَمِّ حَتَّى لَمْ يَصِرْ عَزْمًا مُصَمَّمًا. قُلْتُ:
هَذَا قَوْلٌ حَسَنٌ، وَمِمَّنْ قَالَ بِهِ الْحَسَنُ. قَالَ
ابْنُ عَطِيَّةَ: الَّذِي أَقُولُ بِهِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ
إِنَّ كَوْنَ يُوسُفَ نَبِيًّا فِي وَقْتِ هَذِهِ النَّازِلَةِ
لَمْ يَصِحَّ، وَلَا تَظَاهَرَتْ بِهِ رِوَايَةٌ، وَإِذَا
كَانَ كَذَلِكَ فَهُوَ مُؤْمِنٌ قَدْ أُوتِيَ حُكْمًا
وَعِلْمًا، وَيَجُوزُ عَلَيْهِ الْهَمُّ الَّذِي هُوَ
إِرَادَةُ الشَّيْءِ دُونَ مُوَاقَعَتِهِ وَأَنْ يَسْتَصْحِبَ
الْخَاطِرَ الرَّدِيءَ عَلَى مَا فِي ذَلِكَ مِنَ
الْخَطِيئَةِ، وَإِنْ فَرَضْنَاهُ نَبِيًّا فِي ذَلِكَ
الْوَقْتِ فَلَا يَجُوزُ عَلَيْهِ عِنْدِي إِلَّا الْهَمُّ
الَّذِي هو خاطر، ولا يصح عليه شي مما ذكر من حل تكته
__________
(1). راجع ج 15 ص 218 وج 11 ص 327.
(2). راجع ج 20 ص 173.
(3). من ع وك وو.
(9/167)
وَنَحْوِهِ، لِأَنَّ الْعِصْمَةَ مَعَ
النُّبُوَّةِ. وَمَا رُوِيَ مِنْ أَنَّهُ قِيلَ لَهُ:" تَكُونُ
فِي دِيوَانِ الْأَنْبِيَاءِ وَتَفْعَلُ فِعْلَ السُّفَهَاءِ".
فَإِنَّمَا مَعْنَاهُ الْعِدَّةُ بِالنُّبُوَّةِ فِيمَا
بَعْدُ. قُلْتُ: مَا ذَكَرَهُ مِنْ [هذا «1»] التفصيل صحيح،
لكن قول تعالى:" وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ" [يوسف: 15] يَدُلُّ
عَلَى أَنَّهُ كَانَ نَبِيًّا عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ، وَهُوَ
قَوْلُ جَمَاعَةٍ مِنَ الْعُلَمَاءِ، وَإِذَا كَانَ نَبِيًّا
فَلَمْ يَبْقَ إِلَّا أَنْ يَكُونَ الْهَمُّ الَّذِي هَمَّ
بِهِ مَا يَخْطِرُ فِي النَّفْسِ وَلَا يَثْبُتُ فِي
الصَّدْرِ، وَهُوَ الَّذِي رَفَعَ اللَّهُ فِيهِ
الْمُؤَاخَذَةَ عَنِ الْخَلْقِ، إِذْ لَا قُدْرَةَ
لِلْمُكَلَّفِ عَلَى دَفْعِهِ، وَيَكُونُ قَوْلُهُ:" وَما
أُبَرِّئُ نَفْسِي" [يوسف: 53]- إِنْ كَانَ مِنْ قَوْلِ
يُوسُفَ- أَيْ مِنْ هَذَا الْهَمِّ، أَوْ يَكُونُ ذَلِكَ
مِنْهُ عَلَى طَرِيقِ التَّوَاضُعِ وَالِاعْتِرَافِ،
لِمُخَالَفَةِ النَّفْسِ لِمَا زُكِّيَ بِهِ قَبْلُ وَبُرِّئَ،
وَقَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْ حَالِ يُوسُفَ مِنْ
حِينِ بُلُوغِهِ فَقَالَ:" وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ
آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً" [يوسف: 22] عَلَى مَا تَقَدَّمَ
بَيَانُهُ، وَخَبَرُ اللَّهِ تَعَالَى صِدْقٌ، وَوَصْفُهُ
صَحِيحٌ، وَكَلَامُهُ حَقٌّ، فَقَدْ عَمِلَ يوسف بما علمه الله
من تحريم الزنى وَمُقَدِّمَاتِهِ، وَخِيَانَةِ السَّيِّدِ
وَالْجَارِ وَالْأَجْنَبِيِّ فِي أَهْلِهِ، فَمَا تَعَرَّضَ
لِامْرَأَةِ الْعَزِيزِ، وَلَا أَجَابَ إِلَى الْمُرَاوَدَةِ،
بَلْ أَدْبَرَ عَنْهَا وَفَرَّ مِنْهَا، حِكْمَةً خُصَّ بِهَا،
وَعَمَلًا بِمُقْتَضَى مَا عَلَّمَهُ اللَّهُ. وَفِي صَحِيحِ
مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:"
قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ رَبِّ ذَاكَ عَبْدُكَ يُرِيدُ أَنْ
يَعْمَلَ سَيِّئَةً وَهُوَ أَبْصَرُ بِهِ فَقَالَ ارْقُبُوهُ
فَإِنْ عَمِلَهَا فَاكْتُبُوهَا لَهُ بِمِثْلِهَا وَإِنْ
تَرَكَهَا فَاكْتُبُوهَا لَهُ حَسَنَةً إِنَّمَا تَرَكَهَا
مِنْ جَرَّاي"»
. وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ مُخْبِرًا عَنْ رَبِّهِ:" إِذَا
هَمَّ عَبْدِي بِسَيِّئَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا كُتِبَتْ
حَسَنَةً". فَإِنْ كَانَ مَا يَهُمُّ بِهِ الْعَبْدُ مِنَ
السَّيِّئَةِ يُكْتَبُ لَهُ بِتَرْكِهَا حَسَنَةً فَلَا
ذَنْبَ، وَفِي الصَّحِيحِ:" إِنَّ اللَّهَ تَجَاوَزَ
لِأُمَّتِي عَمَّا حَدَّثَتْ بِهِ أَنْفُسَهَا مَا لَمْ
تَعْمَلْ أَوْ تَكَلَّمْ بِهِ" وَقَدْ تَقَدَّمَ. قَالَ ابْنُ
الْعَرَبِيِّ: كَانَ بِمَدِينَةِ السَّلَامِ إِمَامٌ مِنْ
أَئِمَّةِ الصُّوفِيَّةِ،- وَأَيُّ إِمَامٍ- يُعْرَفُ بِابْنِ
عَطَاءٍ! تَكَلَّمَ يَوْمًا عَلَى يُوسُفَ وَأَخْبَارِهِ
حَتَّى ذَكَرَ تَبْرِئَتَهُ مِمَّا نُسِبَ إِلَيْهِ مِنْ
مَكْرُوهٍ، فَقَامَ رَجُلٌ مِنْ آخِرِ مَجْلِسِهِ وَهُوَ
مَشْحُونٌ بِالْخَلِيقَةِ مِنْ كُلِّ طَائِفَةٍ فَقَالَ: يَا
شَيْخُ! يَا سَيِّدَنَا! فَإِذًا يُوسُفُ هَمَّ وَمَا تَمَّ؟
قَالَ: نَعَمْ! لِأَنَّ الْعِنَايَةَ مِنْ ثَمَّ. فَانْظُرْ
إِلَى حَلَاوَةِ الْعَالِمِ وَالْمُتَعَلِّمِ، وَانْظُرْ إِلَى
فِطْنَةِ العامي في سؤاله،
__________
(1). من ع.
(2). من جراى: أي من أجلى، وفى نسخة من صحيح مسلم" من جرائي".
(9/168)
وَجَوَابِ الْعَالِمِ فِي اخْتِصَارِهِ
وَاسْتِيفَائِهِ، وَلِذَلِكَ قَالَ عُلَمَاءُ الصُّوفِيَّةِ:
إِنَّ فَائِدَةَ قَوْلِهِ:" وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ
آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً" [يوسف: 22] إِنَّمَا أَعْطَاهُ
ذَلِكَ إِبَّانَ غَلَبَةِ الشَّهْوَةِ لِتَكُونَ لَهُ سَبَبًا
لِلْعِصْمَةِ. قُلْتُ: وَإِذَا تَقَرَّرَتْ عِصْمَتُهُ
وَبَرَاءَتُهُ بِثَنَاءِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِ فَلَا
يَصِحُّ مَا قَالَ مُصْعَبُ بْنُ عُثْمَانَ: إِنَّ سُلَيْمَانَ
بْنَ يَسَارٍ كَانَ مِنْ أَحْسَنِ النَّاسِ وَجْهًا،
فَاشْتَاقَتْهُ امْرَأَةٌ فَسَامَتْهُ نَفْسَهَا فَامْتَنَعَ
عَلَيْهَا وَذَكَّرَهَا، فَقَالَتْ: إِنْ لَمْ تَفْعَلْ
لَأُشَهِّرَنَّكَ، فَخَرَجَ وَتَرَكَهَا، فَرَأَى فِي
مَنَامِهِ يُوسُفَ الصِّدِّيقَ عَلَيْهِ السَّلَامُ جَالِسًا
فَقَالَ: أَنْتَ يُوسُفُ؟ فَقَالَ: أَنَا يُوسُفُ الَّذِي
هَمَمْتُ، وَأَنْتَ سُلَيْمَانُ الَّذِي لَمْ تَهِمَّ؟!
فَإِنَّ هَذَا يَقْتَضِي أَنْ تَكُونَ دَرَجَةُ الْوِلَايَةِ
أَرْفَعَ مِنْ دَرَجَةِ النُّبُوَّةِ وَهُوَ مُحَالٌ، وَلَوْ
قَدَّرْنَا يُوسُفَ غَيْرَ نَبِيٍّ فَدَرَجَتُهُ الْوِلَايَةُ،
فَيَكُونُ مَحْفُوظًا كَهُوَ، وَلَوْ غُلِّقَتْ عَلَى
سُلَيْمَانَ الْأَبْوَابُ، وَرُوجِعَ فِي الْمَقَالِ
وَالْخِطَابِ، وَالْكَلَامِ وَالْجَوَابِ مَعَ طُولِ
الصُّحْبَةِ لَخِيفَ عَلَيْهِ الْفِتْنَةُ، وَعَظِيمُ
الْمِحْنَةِ، والله أعلم. قوله تعالى: (لَوْلا أَنْ رَأى
بُرْهانَ رَبِّهِ) [" أَنْ" فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ أَيْ لَوْلَا
رُؤْيَةُ بُرْهَانِ رَبِّهِ «1»] وَالْجَوَابُ مَحْذُوفٌ
لَعَلِمَ السَّامِعِ، أَيْ لَكَانَ مَا كَانَ. وَهَذَا
الْبُرْهَانُ غَيْرُ مَذْكُورٍ فِي الْقُرْآنِ، فَرُوِيَ عَنْ
عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ
زَلِيخَاءَ قَامَتْ إِلَى صَنَمٍ مُكَلَّلٍ بِالدُّرِّ
وَالْيَاقُوتِ فِي زَاوِيَةِ الْبَيْتِ فَسَتَرَتْهُ بِثَوْبٍ،
فَقَالَ: مَا تَصْنَعِينَ؟ قَالَتْ: أَسْتَحِي مِنْ إِلَهِي
هَذَا أَنْ يَرَانِي فِي «2» هَذِهِ الصُّورَةِ، فَقَالَ
يُوسُفُ: أَنَا أَوْلَى أَنْ أَسْتَحِيَ مِنَ اللَّهِ، وَهَذَا
أَحْسَنُ مَا قِيلَ فِيهِ، لِأَنَّ فِيهِ إِقَامَةُ
الدَّلِيلِ. وَقِيلَ: رَأَى مَكْتُوبًا فِي سَقْفِ البيت" وَلا
تَقْرَبُوا الزِّنى إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَساءَ سَبِيلًا"
«3» [الإسراء: 32]. وَقَالَ «4» ابْنُ عَبَّاسٍ: بَدَتْ كَفٌّ
مَكْتُوبٌ عَلَيْهَا" وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ" «5»
[الانفطار: 10] وَقَالَ قَوْمٌ: تَذَّكَّرَ عَهْدَ. اللَّهِ
وَمِيثَاقَهُ. وَقِيلَ: نُودِيَ يَا يُوسُفُ! أَنْتَ مَكْتُوبٌ
فِي [دِيوَانِ «6»] الْأَنْبِيَاءِ وَتَعْمَلُ عَمَلَ
السُّفَهَاءِ؟! وَقِيلَ: رَأَى صُورَةَ يَعْقُوبَ عَلَى
الْجُدْرَانِ عَاضًّا عَلَى أُنْمُلَتِهِ يَتَوَعَّدُهُ فسكن،
وخرجت شهوته من أنامله، قال قَتَادَةُ وَمُجَاهِدٌ وَالْحَسَنُ
وَالضَّحَّاكُ وَأَبُو صَالِحٍ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ.
وَرَوَى الْأَعْمَشُ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: حَلَّ سَرَاوِيلَهُ
فَتَمَثَّلَ لَهُ يَعْقُوبُ، وَقَالَ لَهُ:
__________
(1). من ع، ك.
(2). في ع وك: على.
(3). راجع ج 10 ص 253.
(4). في ع: وعن.
(5). راجع ج 19 ص 245.
(6). من ع. [ ..... ]
(9/169)
وَاسْتَبَقَا الْبَابَ
وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى
الْبَابِ قَالَتْ مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا
إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (25)
يَا يُوسُفَ! فَوَلَّى هَارِبًا. وَرَوَى
سُفْيَانُ عَنْ أَبِي حُصَيْنٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ
قَالَ: مُثِّلَ لَهُ يَعْقُوبُ فَضَرَبَ صَدْرَهُ فَخَرَجَتْ
شَهْوَتُهُ مِنْ أَنَامِلِهِ، قَالَ مُجَاهِدٌ: فَوُلِدَ
لِكُلٍ وَاحِدٍ مِنْ أَوْلَادِ يَعْقُوبَ اثْنَا عَشَرَ
ذَكَرًا إِلَّا يُوسُفَ لَمْ يُولَدْ لَهُ إِلَّا غُلَامَانِ،
وَنَقَصَ بِتِلْكَ الشَّهْوَةِ وَلَدُهُ، وَقِيلَ غَيْرُ
هَذَا. وَبِالْجُمْلَةِ: فَذَلِكَ الْبُرْهَانُ آيَةٌ مِنْ
آيَاتِ اللَّهِ أَرَاهَا اللَّهُ يُوسُفَ حَتَّى قَوِيَ
إِيمَانُهُ، وَامْتَنَعَ عَنِ الْمَعْصِيَةِ. قَوْلُهُ
تَعَالَى: (كَذلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشاءَ)
الْكَافُ مِنْ" كَذلِكَ" يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ رَفْعًا، بِأَنْ
يَكُونَ خَبَرَ ابْتِدَاءٍ مَحْذُوفٍ، التَّقْدِيرُ.:
الْبَرَاهِينُ كَذَلِكَ، وَيَكُونُ نَعْتًا لِمَصْدَرٍ
مَحْذُوفٍ، أَيْ أَرَيْنَاهُ الْبَرَاهِينَ رُؤْيَةً كَذَلِكَ.
وَالسُّوءُ الشَّهْوَةُ، وَالْفَحْشَاءُ المباشرة. وقيل: السوء
الثناء القبيح، والفحشاء الزنى. وَقِيلَ: السُّوءُ خِيَانَةُ
صَاحِبِهِ، وَالْفَحْشَاءُ رُكُوبُ الْفَاحِشَةِ. وقيل: السوء
عقوبة الملك العزيز. وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو
وَابْنُ عَامِرٍ" الْمُخْلِصِينَ" بِكَسْرِ اللَّامِ،
وَتَأْوِيلُهَا الَّذِينَ أَخْلَصُوا طَاعَةَ اللَّهِ.
وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِفَتْحِ اللَّامِ، وَتَأْوِيلُهَا:
الَّذِينَ أَخْلَصَهُمُ اللَّهُ لِرِسَالَتِهِ، وَقَدْ كَانَ
يُوسُفُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهَاتَيْنِ
الصِّفَتَيْنِ، لِأَنَّهُ كَانَ مُخْلِصًا فِي طَاعَةِ اللَّهِ
تَعَالَى، مُسْتَخْلَصًا لِرِسَالَةِ الله تعالى.
[سورة يوسف (12): آية 25]
وَاسْتَبَقَا الْبابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ
وَأَلْفَيا سَيِّدَها لَدَى الْبابِ قالَتْ مَا جَزاءُ مَنْ
أَرادَ بِأَهْلِكَ سُوءاً إِلاَّ أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذابٌ
أَلِيمٌ (25)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَاسْتَبَقَا الْبابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ
مِنْ دُبُرٍ). فِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْأُولَى- قَوْلُهُ
تعالى: (وَاسْتَبَقَا الْبابَ) قال الْعُلَمَاءُ: وَهَذَا مِنَ
اخْتِصَارِ الْقُرْآنِ الْمُعْجِزِ الَّذِي يَجْتَمِعُ فِيهِ
الْمَعَانِي، وَذَلِكَ أَنَّهُ لَمَّا رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ
هَرَبَ مِنْهَا فَتَعَادَيَا، هِيَ لِتَرُدَّهُ إِلَى
نَفْسِهَا، وَهُوَ لِيَهْرُبَ عَنْهَا، فَأَدْرَكَتْهُ قَبْلَ
أَنْ يَخْرُجَ." وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ" أَيْ مِنْ
خَلْفِهِ، قَبَضَتْ فِي أَعْلَى قَمِيصِهِ فَتَخَرَّقَ
الْقَمِيصُ عِنْدَ طَوْقِهِ، وَنَزَلَ التَّخْرِيقُ إِلَى
أَسْفَلِ القميص.
(9/170)
وَالِاسْتِبَاقُ طَلَبُ السَّبْقِ إِلَى
الشَّيْءِ، وَمِنْهُ السِّبَاقُ. وَالْقَدُّ الْقَطْعُ،
وَأَكْثَرُ مَا يُسْتَعْمَلُ فِيمَا كَانَ طُولًا، قَالَ
النَّابِغَةُ «1»:
تَقُدُّ السَّلُوقِيَّ الْمُضَاعَفَ نَسْجُهُ ... وَتُوقِدُ
بِالصِّفَاحِ نَارَ الْحُبَاحِبِ
وَالْقَطُّ بِالطَّاءِ يُسْتَعْمَلُ فِيمَا كَانَ عَرْضًا.
وَقَالَ الْمُفَضَّلُ بْنُ حَرْبٍ: قَرَأْتُ فِي مُصْحَفٍ"
فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ عُطَّ من دبر" أَيْ شُقَّ. قَالَ
يَعْقُوبُ: الْعَطُّ الشَّقُّ فِي الْجِلْدِ الصَّحِيحِ
وَالثَّوْبِ الصَّحِيحِ. وَحُذِفَتِ الْأَلِفُ مِنَ"
اسْتَبَقَا" فِي اللَّفْظِ لِسُكُونِهَا وَسُكُونِ اللَّامِ
بَعْدَهَا، كَمَا يُقَالُ: جَاءَنِي عَبْدَ اللَّهِ فِي
التَّثْنِيَةِ، ومن العرب من يقول: جاءني عبد اللَّهِ
بِإِثْبَاتِ الْأَلِفِ بِغَيْرِ هَمْزٍ، يُجْمَعُ بَيْنَ
سَاكِنَيْنِ، لِأَنَّ الثَّانِيَ مُدْغَمٌ، وَالْأَوَّلَ
حَرْفُ مَدٍّ ولين. ومنهم من يقول: عبد اللَّهِ بِإِثْبَاتِ
الْأَلِفِ وَالْهَمْزِ، كَمَا تَقُولُ فِي الْوَقْفِ.
الثَّانِيَةُ- فِي الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى الْقِيَاسِ
وَالِاعْتِبَارِ، وَالْعَمَلِ بِالْعُرْفِ وَالْعَادَةِ، لِمَا
ذُكِرَ مِنْ قَدِّ الْقَمِيصِ مُقْبِلًا وَمُدْبِرًا، وَهَذَا
أَمْرٌ انْفَرَدَ بِهِ الْمَالِكِيَّةُ فِي كُتُبِهِمْ،
وَذَلِكَ أَنَّ الْقَمِيصَ إِذَا جُبِذَ مِنْ خَلْفٍ تَمَزَّقَ
مِنْ تِلْكَ الْجِهَةِ، وَإِذَا جُبِذَ مِنْ قُدَّامَ
تَمَزَّقَ مِنْ تِلْكَ الْجِهَةِ، وَهَذَا هُوَ «2»
الْأَغْلَبُ. قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَأَلْفَيا سَيِّدَها لَدَى
الْبابِ) أَيْ وَجَدَا الْعَزِيزَ عِنْدَ الْبَابِ، وَعُنِيَ
بِالسَّيِّدِ الزَّوْجُ، وَالْقِبْطُ يُسَمُّونَ الزوج سيدا.
يقال: ألفاه وصادفه وأرطة وَوَالَطَهُ وَلَاطَهُ كُلُّهُ
بِمَعْنًى وَاحِدٍ «3»، فَلَمَّا رَأَتْ زَوْجَهَا طَلَبَتْ
وَجْهًا لِلْحِيلَةِ وَكَادَتْ «4» فَ (قالَتْ مَا جَزاءُ مَنْ
أَرادَ بِأَهْلِكَ سُوءاً) أَيْ زِنًى. (إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ
أَوْ عَذابٌ أَلِيمٌ) تَقُولُ: يُضْرَبُ ضَرْبًا وَجِيعًا. وَ"
مَا جَزاءُ" ابْتِدَاءٌ، وَخَبَرُهُ" أَنْ يُسْجَنَ"." أَوْ
عَذابٌ" عَطْفٌ عَلَى مَوْضِعِ" أَنْ يُسْجَنَ" لِأَنَّ
الْمَعْنَى: إِلَّا السِّجْنُ. وَيَجُوزُ أَوْ عَذَابًا
أَلِيمًا بِمَعْنَى: أَوْ يعذب عذابا أليما، قاله الكسائي.
__________
(1). يصف السيوف، وقد تقدم شرح البيت بهامش ص 103 من هذا
الجزء.
(2). في ع وك: في.
(3). كذا العبارة في الأصول وفى" البحر المحيط" ولم نقف على
مادة (وارط وألط ولاط) بمعنى (ألفى) في معاجم اللغة.
(4). من الكيد.
(9/171)
قَالَ هِيَ
رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا
إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ
مِنَ الْكَاذِبِينَ (26) وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ
دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ (27) فَلَمَّا
رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِنْ
كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ (28) يُوسُفُ أَعْرِضْ
عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ
الْخَاطِئِينَ (29)
[سورة يوسف (12): الآيات 26 الى 29]
قالَ هِيَ راوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ
أَهْلِها إِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ
وَهُوَ مِنَ الْكاذِبِينَ (26) وَإِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ
مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ (27)
فَلَمَّا رَأى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قالَ إِنَّهُ مِنْ
كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ (28) يُوسُفُ أَعْرِضْ
عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ
الْخاطِئِينَ (29)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (قالَ هِيَ راوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي
وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ أَهْلِها). فِيهِ ثَلَاثُ مَسَائِلَ:
الْأُولَى قَالَ الْعُلَمَاءُ: «1» لَمَّا بَرَّأَتْ
نَفْسَهَا، وَلَمْ تَكُنْ صَادِقَةً فِي حُبِّهِ- لِأَنَّ مِنْ
شَأْنِ الْمُحِبِّ إِيثَارَ الْمَحْبُوبِ- قَالَ:" هِيَ
راوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي" نَطَقَ يُوسُفُ بِالْحَقِّ فِي
مُقَابَلَةِ بُهْتِهَا وَكَذِبِهَا عَلَيْهِ. قَالَ نَوْفٌ
الشَّامِيُّ وَغَيْرُهُ: كَأَنَّ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ
لَمْ يَبِنْ عَنْ كَشْفِ الْقَضِيَّةِ، فَلَمَّا بَغَتْ بِهِ
غضب فقال الحق. الثانية- (شَهِدَ شاهِدٌ مِنْ أَهْلِها)
لِأَنَّهُمَا لَمَّا تَعَارَضَا فِي الْقَوْلِ احْتَاجَ
الْمَلِكُ إِلَى شَاهِدٍ لِيَعْلَمَ الصَّادِقَ مِنَ
الْكَاذِبِ، فَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا. أَيْ حَكَمَ
حَاكِمٌ مِنْ أَهْلِهَا، لِأَنَّهُ حُكْمٌ مِنْهُ وَلَيْسَ
بِشَهَادَةٍ. وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي هَذَا الشَّاهِدِ عَلَى
أَقْوَالٍ أَرْبَعَةٍ: الْأَوَّلُ- أَنَّهُ طِفْلٌ فِي
الْمَهْدِ تَكَلَّمَ، قَالَ السُّهَيْلِيُّ: وَهُوَ
الصَّحِيحُ، لِلْحَدِيثِ الْوَارِدِ فِيهِ عَنِ النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُوَ قَوْلُهُ:" لَمْ
يَتَكَلَّمْ فِي الْمَهْدِ إِلَّا ثَلَاثَةٌ" وَذَكَرَ فِيهِمْ
شَاهِدُ يُوسُفَ. وَقَالَ الْقُشَيْرِيُّ أَبُو نَصْرٍ: قِيلَ
[فِيهِ «2»]: كَانَ صَبِيًّا فِي الْمَهْدِ فِي الدَّارِ
وَهُوَ ابْنُ خَالَتِهَا، وَرَوَى سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ عَنِ
ابْنِ عَبَّاسٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ:" تَكَلَّمَ أَرْبَعَةٌ وَهُمْ
صِغَارٌ" فَذَكَرَ مِنْهُمْ شَاهِدُ يُوسُفَ، فَهَذَا قَوْلٌ.
الثَّانِي- أَنَّ الشَّاهِدَ قَدُّ الْقَمِيصِ، رَوَاهُ ابْنُ
أَبِي نَجِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ، وَهُوَ مَجَازٌ صَحِيحٌ مِنْ
جِهَةِ اللُّغَةِ، فَإِنَّ لِسَانَ الْحَالِ أَبْلَغُ مِنْ
لِسَانِ الْمَقَالِ،
__________
(1). في ع: الحسن.
(2). من ع.
(9/172)
وَقَدْ تُضِيفُ الْعَرَبُ الْكَلَامَ إِلَى
الْجَمَادَاتِ وَتُخْبِرُ عَنْهَا بِمَا هِيَ عَلَيْهِ مِنَ
الصِّفَاتِ، وَذَلِكَ كَثِيرٌ فِي أَشْعَارِهَا وَكَلَامِهَا،
وَمِنْ أَحْلَاهُ قَوْلُ بَعْضِهِمْ: قَالَ الْحَائِطُ
لِلْوَتَدِ لِمَ تَشُقُّنِي؟ قَالَ لَهُ: سَلْ مَنْ
يَدُقُّنِي. إِلَّا أَنَّ قَوْلَ اللَّهِ تَعَالَى بَعْدُ"
مِنْ أَهْلِها" يُبْطِلُ أَنْ يَكُونَ الْقَمِيصَ. الثَّالِثُ-
أَنَّهُ خَلْقٌ مِنْ خَلْقِ اللَّهِ تَعَالَى لَيْسَ
بِإِنْسِيٍّ وَلَا بِجِنِّيٍّ، قَالَهُ مجاهد أيضا، وهذا يرده
قول تَعَالَى:" مِنْ أَهْلِها". الرَّابِعُ- أَنَّهُ رَجُلٌ
حَكِيمٌ ذُو عَقْلٍ كَانَ الْوَزِيرُ يَسْتَشِيرُهُ فِي
أُمُورِهِ، وَكَانَ مِنْ جُمْلَةِ أَهْلِ الْمَرْأَةِ، وَكَانَ
مَعَ زَوْجِهَا فَقَالَ: قَدْ سَمِعْتُ «1» الِاسْتِبْدَارَ
وَالْجَلَبَةَ مِنْ وَرَاءِ الْبَابِ، وَشَقَّ الْقَمِيصِ،
فَلَا يُدْرَى أَيُّكُمَا كَانَ قُدَّامَ صَاحِبِهِ، فَإِنْ
كَانَ شَقُّ الْقَمِيصِ مِنْ قُدَّامِهِ فَأَنْتِ صَادِقَةٌ،
وَإِنْ كَانَ مِنْ خَلْفِهِ فَهُوَ صَادِقٌ، فَنَظَرُوا إِلَى
الْقَمِيصِ فَإِذَا هُوَ مَشْقُوقٌ مِنْ خَلْفٍ، هَذَا قَوْلُ
الْحَسَنِ وَعِكْرِمَةَ وَقَتَادَةَ وَالضَّحَّاكَ وَمُجَاهِدٍ
أَيْضًا وَالسُّدِّيِّ. قَالَ السُّدِّيُّ: كَانَ ابْنُ
عَمِّهَا، وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَهُوَ الصَّحِيحُ
فِي الْبَابِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ
عَبَّاسٍ- رَوَاهُ [عَنْهُ] «2» إِسْرَائِيلُ عَنْ سِمَاكٍ
عَنْ عِكْرِمَةَ- قَالَ: كَانَ رَجُلًا ذَا لِحْيَةٍ. وَقَالَ
سُفْيَانُ عَنْ جَابِرٍ عَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ عَنِ
ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: كَانَ مِنْ خَاصَّةِ الْمَلِكَ.
وَقَالَ عِكْرِمَةُ: لَمْ يَكُنْ بِصَبِيٍّ، وَلَكِنْ كَانَ
رَجُلًا حَكِيمًا. وَرَوَى سُفْيَانُ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ
مُجَاهِدٍ قَالَ: كَانَ رَجُلًا. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ
النَّحَّاسُ: وَالْأَشْبَهُ بِالْمَعْنَى- وَاللَّهُ أَعْلَمُ-
أَنْ يَكُونَ رَجُلًا عَاقِلًا حَكِيمًا شَاوَرَهُ الْمَلِكُ
فَجَاءَ بِهَذِهِ الدَّلَالَةِ، وَلَوْ كَانَ طِفْلًا
لَكَانَتْ شَهَادَتُهُ لِيُوسُفَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ تُغْنِي عَنْ أَنْ يَأْتِيَ بِدَلِيلٍ مِنَ
الْعَادَةِ، لِأَنَّ كَلَامَ الطِّفْلِ آيَةٌ مُعْجِزَةٌ،
فكادت أَوْضَحَ مِنَ الِاسْتِدْلَالِ بِالْعَادَةِ، وَلَيْسَ
هَذَا بِمُخَالِفٍ لِلْحَدِيثِ" تَكَلَّمَ أَرْبَعَةٌ وَهُمْ
صِغَارٌ" مِنْهُمْ صَاحِبُ يُوسُفَ، يَكُونُ الْمَعْنَى:
صَغِيرًا لَيْسَ بِشَيْخٍ، وَفِي هَذَا دَلِيلٌ آخَرُ وَهُوَ:
أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا رَوَى
الْحَدِيثَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ، وَقَدْ تَوَاتَرَتِ الرِّوَايَةُ عَنْهُ أَنَّ
صَاحِبَ يُوسُفَ لَيْسَ بِصَبِيٍّ. قُلْتُ: قَدْ رُوِيَ عَنِ
ابْنِ عَبَّاسٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ وَابْنِ جُبَيْرٍ وَهِلَالِ
بْنِ يَسَافٍ «3» وَالضَّحَّاكِ أَنَّهُ كَانَ صَبِيًّا فِي
الْمَهْدِ، إِلَّا أَنَّهُ لَوْ كَانَ صَبِيًّا تَكَلَّمَ
لَكَانَ الدَّلِيلُ نَفْسَ كَلَامِهِ، دون أن يحتاج إلى
__________
(1). في ع: سمعنا.
(2). من ع وى.
(3). هو بالكسر وقد يفتح.
(9/173)
اسْتِدْلَالٍ بِالْقَمِيصِ، وَكَانَ
يَكُونُ ذَلِكَ خَرْقَ عَادَةٍ، وَنَوْعَ مُعْجِزَةٍ،
وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَسَيَأْتِي مَنْ تَكَلَّمَ فِي الْمَهْدِ
مِنَ الصِّبْيَانِ فِي سُورَةِ" الْبُرُوجِ" «1» إن شاء الله.
الثالثة- وإذا تَنَزَّلْنَا عَلَى أَنْ يَكُونَ الشَّاهِدُ
طِفْلًا صَغِيرًا فَلَا يَكُونُ فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى
الْعَمَلِ بِالْأَمَارَاتِ كَمَا ذَكَرْنَا، وَإِذَا كَانَ
رَجُلًا فَيَصِحُّ أَنْ يَكُونَ حُجَّةً بِالْحُكْمِ
بِالْعَلَامَةِ فِي اللُّقَطَةِ وَكَثِيرٍ مِنَ الْمَوَاضِعِ،
حَتَّى قَالَ مَالِكٌ فِي اللُّصُوصِ: إِذَا وُجِدَتْ مَعَهُمْ
أَمْتِعَةٌ فَجَاءَ قَوْمٌ فَادَّعَوْهَا، وَلَيْسَتْ لَهُمْ
بَيِّنَةً فَإِنَّ السُّلْطَانَ يَتَلَوَّمُ «2» لَهُمْ فِي
ذَلِكَ، فَإِنْ لَمْ يَأْتِ غَيْرُهُمْ دَفَعَهَا إِلَيْهِمْ.
وَقَالَ مُحَمَّدٌ فِي مَتَاعُ الْبَيْتِ إِذَا اخْتَلَفَتْ
فِيهِ الْمَرْأَةُ وَالرَّجُلُ: إِنَّ مَا كَانَ لِلرِّجَالِ
فَهُوَ لِلرَّجُلِ، وَمَا كَانَ لِلنِّسَاءِ فَهُوَ
لِلْمَرْأَةِ، وَمَا كَانَ لِلرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ فَهُوَ
لِلرَّجُلِ. وَكَانَ شُرَيْحٌ وَإِيَاسُ بْنُ مُعَاوِيَةَ
يَعْمَلَانِ عَلَى الْعَلَامَاتِ فِي الْحُكُومَاتِ، وَأَصْلُ
ذَلِكَ هَذِهِ الْآيَةُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. قَوْلُهُ
تَعَالَى: (إِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ) كَانَ فِي
مَوْضِعِ جَزْمٍ بِالشَّرْطِ، وَفِيهِ مِنَ النَّحْوِ مَا
يُشْكِلُ، لِأَنَّ حُرُوفَ الشَّرْطِ تَرُدُّ الْمَاضِيَ إِلَى
الْمُسْتَقْبَلِ، وَلَيْسَ هَذَا فِي كَانَ، فَقَالَ
الْمُبَرِّدُ مُحَمَّدُ بْنُ يَزِيدَ: هَذَا لِقُوَّةِ كَانَ،
وَأَنَّهُ يُعَبَّرُ بِهَا عَنْ جَمِيعِ الْأَفْعَالِ. وَقَالَ
الزَّجَّاجُ: الْمَعْنَى إِنْ يَكُنْ، أَيْ إِنْ يُعْلَمْ،
وَالْعِلْمُ لَمْ يَقَعْ، وَكَذَا الْكَوْنُ لِأَنَّهُ
يُؤَدِّي عَنِ الْعِلْمِ." قُدَّ مِنْ قُبُلٍ" فَخَبَرٌ عَنْ"
كانَ" بِالْفِعْلِ الْمَاضِي، كَمَا قَالَ زُهَيْرٌ:
وَكَانَ طَوَى كَشْحًا عَلَى مُسْتَكِنَّةٍ ... فَلَا هُوَ
أَبْدَاهَا وَلَمْ يَتَقَدَّمِ «3»
وَقَرَأَ يَحْيَى بْنُ يَعْمَرَ وَابْنُ أَبِي إِسْحَاقَ" مِنْ
قُبُلُ" بِضَمِّ الْقَافِ وَالْبَاءِ وَاللَّامِ، وَكَذَا"
دُبُرُ" قَالَ الزَّجَّاجُ: يَجْعَلُهُمَا غَايَتَيْنِ
كَقَبْلُ وَبَعْدُ، كَأَنَّهُ قَالَ: مِنْ قُبُلِهِ وَمِنْ
دُبُرِهِ، فَلَمَّا حَذَفَ الْمُضَافَ إِلَيْهِ- وَهُوَ
مُرَادٌ- صَارَ الْمُضَافُ غَايَةَ نَفْسِهِ بَعْدَ أَنْ كَانَ
الْمُضَافُ إِلَيْهِ غَايَةً لَهُ. وَيَجُوزُ" مِنْ قُبُلَ""
وَمِنْ دُبُرَ" بِفَتْحِ الرَّاءِ وَاللَّامِ تَشْبِيهًا بِمَا
لَا يَنْصَرِفُ، لِأَنَّهُ مَعْرِفَةٌ وَمُزَالٌ عَنْ بَابِهِ.
وَرَوَى مَحْبُوبٌ عَنْ أبي عمرو" من قبل" و"- من دبر" مخففان
مجروران.
__________
(1). راجع ج 19 ص 287.
(2). التلوم: التنظر للأمر تريده.
(3). الكشح: الجنب، ويقال طوى كشحه على كذا إذا أضمره.
والمستكنة: الحقد. ويروى: (ولم يتجمجم).
(9/174)
وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي
الْمَدِينَةِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَنْ
نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلَالٍ
مُبِينٍ (30) فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ
إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ
وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّينًا وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ
فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ
وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلَّا
مَلَكٌ كَرِيمٌ (31) قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي
فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ
وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ
وَلَيَكُونًا مِنَ الصَّاغِرِينَ (32)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (فَلَمَّا رَأى
قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ)
قِيلَ: قَالَ لَهَا ذَلِكَ الْعَزِيزُ عِنْدَ قَوْلِهَا:" مَا
جَزاءُ مَنْ أَرادَ بِأَهْلِكَ سُوءاً" [يوسف: 25]. وَقِيلَ:
قَالَهُ لَهَا الشَّاهِدُ. وَالْكَيْدُ: الْمَكْرُ
وَالْحِيلَةُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي [الْأَنْفَالِ «1»].
(إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ) وَإِنَّمَا قَالَ" عَظِيمٌ"
لِعِظَمِ فِتْنَتِهِنَّ وَاحْتِيَالِهِنَّ فِي التَّخَلُّصِ
مِنْ وَرْطَتِهِنَّ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ عَنْ يَحْيَى بْنِ
أَبِي كَثِيرَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" إِنَّ كَيْدَ
النِّسَاءِ أَعْظَمُ مِنْ كَيْدِ الشَّيْطَانِ لِأَنَّ اللَّهَ
تَعَالَى يَقُولُ:" إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطانِ كانَ ضَعِيفاً"
«2» [النساء: 76] وَقَالَ:" إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ".
قَوْلُهُ تَعَالَى: (يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا) الْقَائِلُ
هَذَا هُوَ الشَّاهِدُ. وَ" يُوسُفُ" نِدَاءٌ مُفْرَدٌ، أَيْ
يَا يُوسُفُ، فَحُذِفَ." أَعْرِضْ عَنْ هَذَا" أَيْ لَا
تَذْكُرُهُ لِأَحَدٍ وَاكْتُمْهُ. ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَيْهَا
فَقَالَ: وَأَنْتَ (اسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ) يَقُولُ:
اسْتَغْفِرِي زَوْجَكِ مِنْ ذَنْبِكِ لَا يُعَاقِبْكِ.
(إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخاطِئِينَ) وَلَمْ يَقُلْ مِنَ
الْخَاطِئَاتِ لِأَنَّهُ قَصَدَ الْإِخْبَارَ عَنِ
الْمُذَكَّرِ وَالْمُؤَنَّثِ، فَغَلَّبَ الْمُذَكَّرَ،
وَالْمَعْنَى: مِنَ النَّاسِ الْخَاطِئِينَ، أَوْ مِنَ
الْقَوْمِ الْخَاطِئِينَ، مِثْلُ:" إِنَّها كانَتْ مِنْ قَوْمٍ
كافِرِينَ" «3» [النمل: 43] " وَكانَتْ مِنَ الْقانِتِينَ" «4»
[التحريم: 12]. وَقِيلَ: إِنَّ الْقَائِلَ لِيُوسُفَ أَعْرِضْ
وَلَهَا اسْتَغْفِرِي زَوْجُهَا الْمَلِكُ، وَفِيهِ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا- أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ غَيُورًا، فَلِذَلِكَ، كَانَ
سَاكِنًا. وَعَدَمُ الْغَيْرَةِ فِي كَثِيرٍ مِنْ أَهْلِ
مِصْرَ مَوْجُودٌ. الثَّانِي- أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى سَلَبَهُ
الْغَيْرَةَ وَكَانَ فِيهِ لُطْفٌ بِيُوسُفَ حَتَّى كُفِيَ
بَادِرَتَهُ وَعَفَا «5» عَنْهَا.
[سورة يوسف (12): الآيات 30 الى 32]
وَقالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ
تُراوِدُ فَتاها عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَها حُبًّا إِنَّا
لَنَراها فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (30) فَلَمَّا سَمِعَتْ
بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ
مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ واحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّيناً
وَقالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ
أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حاشَ لِلَّهِ
مَا هَذَا بَشَراً إِنْ هَذَا إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ (31)
قالَتْ فَذلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ
راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وَلَئِنْ لَمْ
يَفْعَلْ ما آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُوناً مِنَ
الصَّاغِرِينَ (32)
__________
(1). راجع ج 7 ص 386.
(2). راجع ج 5 ص 280. [ ..... ]
(3). راجع ج 13 ص 207.
(4). راجع ج 18 ص 204.
(5). في ع وك وى: حلم.
(9/175)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَقالَ نِسْوَةٌ فِي
الْمَدِينَةِ) وَيُقَالُ:" نُسْوَةٌ" بِضَمِّ النُّونِ، وَهِيَ
قِرَاءَةُ الْأَعْمَشِ وَالْمُفَضَّلِ وَالسُّلَمِيِّ،
وَالْجَمْعُ الْكَثِيرُ نِسَاءٌ. وَيَجُوزُ: وَقَالَتْ
نِسْوَةٌ، وَقَالَ نِسْوَةٌ، مِثْلُ قَالَتِ الْأَعْرَابُ
وَقَالَ الْأَعْرَابُ، وَذَلِكَ أَنَّ الْقِصَّةَ انْتَشَرَتْ
فِي أَهْلِ مِصْرَ فَتَحَدَّثَ النِّسَاءُ. قِيلَ: امْرَأَةُ
سَاقِي الْعَزِيزِ، وَامْرَأَةُ خَبَّازِهِ، وَامْرَأَةُ
صَاحِبِ دَوَابِّهِ، وَامْرَأَةُ صَاحِبِ سِجْنِهِ. وَقِيلَ:
امْرَأَةُ الْحَاجِبِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِ.
(تُراوِدُ فَتاها عَنْ نَفْسِهِ) الْفَتَى فِي كَلَامِ
الْعَرَبِ الشَّابُّ، وَالْمَرْأَةُ فَتَاةٌ. (قَدْ شَغَفَها
حُبًّا) قِيلَ: شَغَفَهَا غَلَبَهَا. وَقِيلَ: دَخَلَ حُبُّهُ
فِي شِغَافِهَا، عَنْ مُجَاهِدٍ وَغَيْرِهِ. وَرَوَى عَمْرُو
بْنُ دِينَارٍ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ:
دَخَلَ تَحْتَ شِغَافِهَا. وَقَالَ الْحَسَنُ: الشَّغَفُ
بَاطِنُ الْقَلْبِ. السُّدِّيُّ وَأَبُو عُبَيْدٍ «1»: شِغَافُ
الْقَلْبِ غِلَافُهُ، وَهُوَ جِلْدَةٌ عَلَيْهِ. وَقِيلَ: هُوَ
وَسَطُ الْقَلْبِ، وَالْمَعْنَى فِي هَذِهِ الْأَقْوَالِ
مُتَقَارِبٌ، وَالْمَعْنَى: وَصَلَ حُبُّهُ إِلَى شِغَافِهَا
فَغَلَبَ عَلَيْهِ، قَالَ النَّابِغَةُ:
وَقَدْ حَالَ هَمٌّ دُونَ ذَلِكَ دَاخِلٌ ... دُخُولَ
الشِّغَافِ تَبْتَغِيهِ الْأَصَابِعُ «2»
وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ الشِّغَافَ دَاءٌ، وَأَنْشَدَ
الْأَصْمَعِيُّ لِلرَّاجِزِ:
يَتْبَعُهَا وَهِيَ لَهُ شَغَافٌ
وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَرِ بْنُ مُحَمَّدٍ وَابْنُ مُحَيْصِنٍ
وَالْحَسَنُ" شَعَفَهَا" بِالْعَيْنِ غَيْرِ مُعْجَمَةٍ، قَالَ
ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ: مَعْنَاهُ أَحْرَقَ حُبُّهُ قَلْبَهَا،
قَالَ: وَعَلَى الْأَوَّلِ الْعَمَلُ. قَالَ الْجَوْهَرِيُّ:
وَشَعَفَهُ الْحُبُّ أَحْرَقَ قَلْبَهُ. وَقَالَ أَبُو زَيْدٍ:
أَمْرَضَهُ. وَقَدْ شُعِفَ بِكَذَا فَهُوَ مَشْعُوفٌ. وَقَرَأَ
الْحَسَنُ" قَدْ شَعَفَهَا" قَالَ: بَطَنَهَا حُبًّا. قَالَ
النَّحَّاسُ: مَعْنَاهُ عِنْدَ أَكْثَرِ أَهْلِ اللُّغَةِ قَدْ
ذَهَبَ بِهَا كل مذهب،
__________
(1). في ع وك وى: أبو عبيدة.
(2). يعنى أصابع المطببين، يقول: قد حال عن البكاء على الديار
هم دخل في الفؤاد، حتى أصابه منه داء.
(9/176)
لِأَنَّ شِعَافَ الْجِبَالِ. أَعَالِيهَا،
وَقَدْ شُغِفَ بِذَلِكَ شَغْفًا بِإِسْكَانِ الْغَيْنِ إِذَا
أُولِعُ بِهِ، إِلَّا أَنَّ أَبَا عُبَيْدَةَ أَنْشَدَ بَيْتَ
امْرِئِ الْقَيْسِ:
لِتَقْتُلَنِي «1» وَقَدْ شَعَفْتً فُؤَادَهَا ... كَمَا
شَعَفَ الْمَهْنُوءَةَ «2» الرَّجُلُ الطَّالِي
قَالَ: فَشُبِّهَتْ لَوْعَةُ الْحُبِّ وَجَوَاهُ بِذَلِكَ.
وَرُوِيَ عَنِ الشَّعْبِيِّ أَنَّهُ قَالَ: الشَّغَفُ بالغا
لمعجمة حُبٌّ، وَالشَّعَفُ بِالْعَيْنِ غَيْرِ الْمُعْجَمَةِ
جُنُونٌ. قَالَ النَّحَّاسُ: وَحُكِيَ" قَدْ شَغِفَهَا"
بِكَسْرِ الْغَيْنِ، وَلَا يُعْرَفُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ
إِلَّا" شَغَفَها" بِفَتْحِ الْغَيْنِ، وَكَذَا" شَعَفَهَا"
أَيْ تَرَكَهَا مَشْعُوفَةً. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ أَبِي
عَرُوبَةَ عَنِ الْحَسَنِ: الشَّغَافُ حِجَابُ الْقَلْبِ،
وَالشَّعَافُ سُوَيْدَاءُ الْقَلْبِ، فَلَوْ وَصَلَ الْحُبُّ
إِلَى الشَّعَافِ لَمَاتَتْ، وَقَالَ الْحَسَنُ: وَيُقَالُ
إِنَّ الشَّغَافَ الْجِلْدَةُ اللَّاصِقَةُ بِالْقَلْبِ «3»
الَّتِي لَا تُرَى، وَهِيَ الْجِلْدَةُ الْبَيْضَاءُ، فَلَصِقَ
حُبُّهُ بِقَلْبِهَا كَلُصُوقِ الْجِلْدَةِ بِالْقَلْبِ «4».
قَوْلُهُ تَعَالَى: (إِنَّا لَنَراها فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) أَيْ
فِي هَذَا الْفِعْلِ. وَقَالَ قَتَادَةُ:" فَتاها" وَهُوَ
فَتَى زَوْجِهَا، لِأَنَّ يُوسُفَ كَانَ عِنْدَهُمْ فِي حُكْمِ
الْمَمَالِيكِ، وَكَانَ يَنْفُذُ أَمْرُهَا فِيهِ. وَقَالَ
مُقَاتِلٌ عَنْ أَبِي عُثْمَانَ النَّهْدِيِّ عَنْ سَلْمَانَ
الْفَارِسِيِّ قَالَ: إِنَّ امْرَأَةَ الْعَزِيزِ
اسْتَوْهَبَتْ زَوْجَهَا يُوسُفَ فَوَهَبَهُ لَهَا، وَقَالَ:
مَا تَصْنَعِينَ بِهِ؟ قَالَتْ أَتَّخِذُهُ وَلَدًا، قَالَ:
هُوَ لَكِ، فَرَبَّتْهُ حَتَّى أَيْفَعَ وَفِي نَفْسِهَا
مِنْهُ مَا فِي نَفْسِهَا، فَكَانَتْ تَنْكَشِفُ لَهُ
وَتَتَزَيَّنُ وَتَدْعُوهُ مِنْ وَجْهِ اللُّطْفِ فَعَصَمَهُ
اللَّهُ. قَوْلُهُ تَعَالَى: (فَلَمَّا سَمِعَتْ
بِمَكْرِهِنَّ) أَيْ بِغِيبَتِهِنَّ إِيَّاهَا،
وَاحْتِيَالِهِنَّ فِي ذَمِّهَا. وَقِيلَ: إِنَّهَا
أَطْلَعَتْهُنَّ وَاسْتَأْمَنَتْهُنَّ فَأَفْشَيْنَ سِرَّهَا،
فَسُمِّيَ ذَلِكَ مَكْرًا. وقوله: (أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ)
فِي الْكَلَامِ حَذْفٌ، أَيْ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ
تَدْعُوهُنَّ إِلَى وَلِيمَةٍ لِتُوقِعَهُنَّ فِيمَا وَقَعَتْ
فِيهِ، فَقَالَ مُجَاهِدٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: إِنَّ
امْرَأَةَ الْعَزِيزِ قَالَتْ لِزَوْجِهَا إِنِّي أُرِيدُ أَنْ
أَتَّخِذَ طَعَامًا فَأَدْعُوَ هَؤُلَاءِ النِّسْوَةَ، فَقَالَ
لَهَا: افْعَلِي، فَاتَّخَذَتْ طَعَامًا، ثُمَّ نَجَّدَتْ
لَهُنَّ الْبُيُوتَ، نجدت أي زينت، والنجد ما ينجد
__________
(1). في ى والطبري: أتقتلني. وهو الأشبه.
(2). المهنوءة: المطلية بالقطران، وإذا هنئ البعير بالقطران
يجد له لذة مع حرقة، كحرقة الهوى مع لذته.
(3). في ع وو: الكبد. وليس بصحيح.
(4). في ع وو: الكبد. وليس بصحيح.
(9/177)
بِهِ الْبَيْتُ مِنَ الْمَتَاعِ أَيْ
يُزَيَّنُ، وَالْجَمْعُ نُجُودٌ عَنْ أَبِي عُبَيْدٍ «1»،
وَالتَّنْجِيدُ التَّزْيِينُ، وَأَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ أَنْ
يَحْضُرْنَ طَعَامَهَا، وَلَا تَتَخَلَّفْ مِنْكُنَّ امْرَأَةٌ
مِمَّنْ سَمَّيْتُ. قَالَ وَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ: إِنَّهُنَّ
كُنَّ أَرْبَعِينَ امْرَأَةً فَجِئْنَ عَلَى كُرْهٍ مِنْهُنَّ،
وَقَدْ قَالَ فِيهِنَّ أُمَيَّةُ بْنُ أَبِي الصَّلْتِ:
حَتَّى إِذَا جِئْنَهَا قَسْرًا ... وَمَهَّدَتْ لَهُنَّ
أَنْضَادًا وَكَبَابَا «2»
وَيُرْوَى: أَنْمَاطًا. قَالَ وَهْبُ بْنُ [مُنَبِّهٍ]»
: فَجِئْنَ وَأَخَذْنَ مَجَالِسَهُنَّ. (وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ
مُتَّكَأً) أَيْ هَيَّأَتْ لَهُنَّ مَجَالِسَ يَتَّكِئْنَ
عَلَيْهَا. قَالَ ابْنُ جُبَيْرٍ: فِي كُلِّ مَجْلِسٍ جَامٌ
فِيهِ عَسَلٌ وَأُتْرُجٌّ وَسِكِّينٌ حَادٌّ. وَقَرَأَ
مُجَاهِدٌ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ" مُتْكًا" مُخَفَّفًا
غَيْرَ مَهْمُوزٍ، وَالْمُتْكُ هُوَ الْأُتْرُجُّ بِلُغَةِ
الْقِبْطِ، وَكَذَلِكَ فَسَّرَهُ مُجَاهِدٌ. رَوَى سُفْيَانُ
عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: الْمُتَّكَأُ مُثَقَّلًا
[هُوَ] «4» الطَّعَامُ، وَالْمُتْكُ مُخَفَّفًا [هُوَ] «5»
الْأُتْرُجُّ، وَقَالَ الشَّاعِرُ:
نَشْرَبُ الْإِثْمَ بِالصُّوَاعِ جِهَارًا ... وَتَرَى
الْمُتْكَ بَيْنَنَا مُسْتَعَارًا
وَقَدْ تَقُولُ أَزْدُ شَنُوءَةَ: الْأُتْرُجَّةُ الْمُتْكَةُ،
قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: الْمُتْكُ مَا تُبْقِيهِ الْخَاتِنَةُ.
وَأَصْلُ الْمُتْكِ الزُّمَاوَرْدُ «6». وَالْمَتْكَاءُ مِنَ
النِّسَاءِ الَّتِي لَمْ تُخْفَضْ «7». قَالَ الْفَرَّاءُ:
حَدَّثَنِي شَيْخٌ مِنْ ثِقَاتِ أَهْلِ الْبَصْرَةِ أَنَّ
الْمُتْكَ مُخَفَّفًا الزُّمَاوَرْدُ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ:
إِنَّهُ الْأُتْرُجُّ، حَكَاهُ الْأَخْفَشُ. ابْنُ زَيْدٍ:
أُتْرُجًّا وَعَسَلًا يُؤْكَلُ بِهِ، قال الشاعر «8»:
فظلنا بِنِعْمَةٍ وَاتَّكَأْنَا ... وَشَرِبْنَا الْحَلَالِ
مِنْ قُلَلِهِ
أَيْ أَكَلْنَا. النَّحَّاسُ: قَوْلُهُ تَعَالَى:"
وَأَعْتَدَتْ" مِنَ الْعَتَادِ، وَهُوَ كُلُّ مَا جَعَلْتَهُ
عُدَّةً لِشَيْءٍ." مُتَّكَأً" أَصَحُّ مَا قِيلَ فِيهِ مَا
رَوَاهُ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ
قَالَ: مَجْلِسًا، وَأَمَّا قَوْلُ جَمَاعَةٍ مِنْ أَهْلِ
التَّفْسِيرِ إِنَّهُ الطَّعَامُ فَيَجُوزُ عَلَى تَقْدِيرٍ:
طَعَامٌ مُتَّكَأٌ، مثل:" وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ"، ودل على
__________
(1). كذا في الأصول: ولعل الصواب أبو عبيدة كما يؤخذ من
اللسان.
(2). كذا البيت في الأصول.
(3). من ع.
(4). من ع.
(5). من ع. [ ..... ]
(6). الزماورد: الرقاق الملفوف باللحم وغيره، أو هو شي يشبه
الأترج.
(7). خفض الجارية: ختنها، وكذا الصبى، والعرف أن الخفض للجارية
خاصة والختان للصبي.
(8). هو جميل ابن معمر، والقلل جمع قلة، والقلة الحب العظيم.
وقيل: الجرة الكبيرة. وقيل: الكوز الصغير. وقيل غير ذلك.
(9/178)
هَذَا الْحَذْفُ" وَآتَتْ كُلَّ واحِدَةٍ
مِنْهُنَّ سِكِّيناً" لِأَنَّ حُضُورَ النِّسَاءِ مَعَهُنَّ
سَكَاكِينُ إِنَّمَا هُوَ لِطَعَامٍ يُقَطَّعُ
بِالسَّكَاكِينِ، كَذَا قَالَ فِي كِتَابِ" إِعْرَابِ
الْقُرْآنِ" لَهُ. وَقَالَ فِي كِتَابِ" مَعَانِي الْقُرْآنِ"
[لَهُ «1»]: وَرَوَى مَعْمَرٌ عَنْ قَتَادَةَ قَالَ:"
الْمُتَّكَأُ" الطَّعَامُ. وَقِيلَ:" الْمُتَّكَأُ" كُلُّ مَا
اتُّكِئَ عَلَيْهِ عِنْدَ طَعَامٍ أَوْ شَرَابٍ أَوْ حَدِيثٍ،
وَهَذَا هُوَ الْمَعْرُوفُ عِنْدَ أَهْلِ اللُّغَةِ، إِلَّا
أَنَّ الرِّوَايَاتِ قَدْ صَحَّتْ بِذَلِكَ. وَحَكَى
الْقُتَبِيُّ أَنَّهُ يُقَالُ: اتَّكَأْنَا عِنْدَ فُلَانٍ
أَيْ أَكَلْنَا، وَالْأَصْلُ فِي" مُتَّكَأً" مَوْتَكَأٌ،
وَمِثْلُهُ مُتَّزِنٌ وَمُتَّعِدٌ، لأنه من وزنت ووعدت وكات،
ويقال: اتكأ يتكئ اتكاء. (كُلَّ واحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّيناً)
مَفْعُولَانِ، وَحَكَى الْكِسَائِيُّ وَالْفَرَّاءُ أَنَّ
السِّكِّينَ يُذَكَّرُ وَيُؤَنَّثُ، وَأَنْشَدَ الْفَرَّاءُ:
فَعَيَّثَ «2» فِي السَّنَامِ غَدَاةَ قُرٍّ ... بِسِكِّينٍ
مُوَثَّقَةِ النِّصَابِ
الْجَوْهَرِيُّ: وَالْغَالِبُ عَلَيْهِ التَّذْكِيرُ، وَقَالَ:
يُرَى نَاصِحًا فِيمَا بَدَا فَإِذَا خَلَا ... فَذَلِكَ
سِكِّينٌ عَلَى الْحَلْقِ حَاذِقٌ
الْأَصْمَعِيُّ: لَا يُعْرَفُ فِي السِّكِّينِ إِلَّا
التَّذْكِيرُ. قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَقالَتِ اخْرُجْ
عَلَيْهِنَّ) بِضَمِّ التَّاءِ لِالْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ،
لِأَنَّ الْكَسْرَةَ تَثْقُلُ إِذَا كَانَ بَعْدَهَا ضَمَّةٌ،
وَكُسِرَتِ التَّاءُ عَلَى الْأَصْلِ. قِيلَ: إِنَّهَا قَالَتْ
لَهُنَّ: لَا تَقْطَعْنَ وَلَا تَأْكُلْنَ حَتَّى
أُعْلِمَكُنَّ، ثُمَّ قَالَتْ لخادمها: إذا قلت لك ادع لي إيلا
فادع يوسف، وائل: صَنَمٌ كَانُوا يَعْبُدُونَهُ، وَكَانَ
يُوسُفُ عَلَيْهِ السَّلَامُ يَعْمَلُ فِي الطِّينِ، وَقَدْ
شَدَّ مِئْزَرَهُ، وَحَسِرَ عَنْ ذِرَاعَيْهِ، فَقَالَتْ
لِلْخَادِمِ: ادْعُ لِي إِيلًا، أي ادع لي الرب، وائل
بِالْعِبْرَانِيَّةِ الرَّبُّ، قَالَ: فَتَعَجَّبَ النِّسْوَةُ
وَقُلْنَ: كَيْفَ يجئ؟! فَصَعِدَتِ الْخَادِمُ فَدَعَتْ
يُوسُفَ، فَلَمَّا انْحَدَرَ قَالَتْ لَهُنَّ: اقْطَعْنَ مَا
مَعَكُنَّ. (فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ
أَيْدِيَهُنَّ) بِالْمُدَى حَتَّى بَلَغَتِ السَّكَاكِينُ
إِلَى الْعَظْمِ، قَالَهُ وَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ. سَعِيدُ بْنُ
جُبَيْرٍ: لَمْ يَخْرُجْ عَلَيْهِنَّ حَتَّى زَيَّنَتْهُ،
فَخَرَجَ عَلَيْهِنَّ فَجْأَةً فَدُهِشْنَ فِيهِ،
وَتَحَيَّرْنَ لِحُسْنِ وَجْهِهِ وَزِينَتِهِ وَمَا عَلَيْهِ،
فَجَعَلْنَ يَقْطَعْنَ أَيْدِيَهُنَّ، وَيَحْسَبْنَ
__________
(1). من ع.
(2). عيث في السنام بالسكين أثر.
(9/179)
أَنَّهُنَّ يَقْطَعْنَ الْأُتْرُجَّ،
وَاخْتُلِفَ فِي مَعْنَى" أَكْبَرْنَهُ" فَرَوَى جُوَيْبِرٍ
عَنِ الضَّحَّاكِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَعْظَمْنَهُ «1»
وَهِبْنَهُ، وَعَنْهُ أَيْضًا أَمْنَيْنَ وَأَمْذَيْنَ مِنَ
الدَّهَشِ، وَقَالَ الشَّاعِرُ:
إِذَا مَا رَأَيْنَ الْفَحْلَ مِنْ فَوْقِ قَارَّةٍ «2» ...
صَهَلْنَ وَأَكْبَرْنَ الْمَنِيَّ الْمُدَفَّقَا
وَقَالَ ابْنُ سَمْعَانَ عَنْ عِدَّةٍ مِنْ أَصْحَابِهِ:
إِنَّهُمْ قَالُوا أَمَذَيْنَ عِشْقًا، وَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ:
عَشِقْنَهُ حَتَّى مَاتَ مِنْهُنَّ عَشْرٌ فِي ذَلِكَ
الْمَجْلِسِ دَهَشًا وَحَيْرَةً وَوَجْدًا بِيُوسُفَ. وَقِيلَ:
مَعْنَاهُ حِضْنَ مِنَ الدَّهَشِ، قَالَهُ قَتَادَةُ
وَمُقَاتِلٌ وَالسُّدِّيُّ «3»، قَالَ الشَّاعِرُ:
نَأْتِي النِّسَاءَ عَلَى أَطْهَارِهِنَّ ... وَلَا نَأْتِي
النِّسَاءَ إِذَا أَكْبَرْنَ إِكْبَارًا
وَأَنْكَرَ ذَلِكَ أَبُو عُبَيْدَةَ وَغَيْرُهُ وَقَالُوا:
لَيْسَ ذَلِكَ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ، وَلَكِنَّهُ يَجُوزُ
أَنْ يَكُنْ حِضْنَ مِنْ شِدَّةِ إِعْظَامِهِنَّ لَهُ، وَقَدْ
تَفْزَعُ الْمَرْأَةُ فَتُسْقِطُ وَلَدَهَا أَوْ تَحِيضُ.
قَالَ الزَّجَّاجُ يُقَالُ أَكْبَرْنَهُ، وَلَا يُقَالُ
حِضْنَهُ، فَلَيْسَ الْإِكْبَارُ بِمَعْنَى الْحَيْضِ،
وَأَجَابَ الْأَزْهَرِيُّ فَقَالَ: يَجُوزُ أَكْبَرَتْ
بِمَعْنَى حَاضَتْ، لِأَنَّ الْمَرْأَةَ إِذَا حَاضَتْ فِي
الِابْتِدَاءِ خَرَجَتْ مِنْ حَيِّزِ الصِّغَرِ إِلَى
الْكِبَرِ، قَالَ: وَالْهَاءُ فِي" أَكْبَرْنَهُ" يَجُوزُ أَنْ
تَكُونَ هَاءَ الْوَقْفِ لَا هَاءَ الْكِنَايَةِ، وَهَذَا
مُزَيَّفٌ، لِأَنَّ هَاءَ الْوَقْفِ تَسْقُطُ فِي الْوَصْلِ،
وَأَمْثَلُ مِنْهُ قَوْلُ ابْنِ الْأَنْبَارِيِّ: إِنَّ
الْهَاءَ كِنَايَةٌ عَنْ مَصْدَرِ الْفِعْلِ، أَيْ أَكْبَرْنَ
إِكْبَارًا، بِمَعْنَى حِضْنَ حَيْضًا. وَعَلَى قَوْلِ ابْنِ
عَبَّاسٍ الْأَوَّلِ تَعُودُ الْهَاءُ إِلَى يُوسُفَ، أَيْ
أَعْظَمْنَ يُوسُفَ وَأَجْلَلْنَهُ. قَوْلُهُ تَعَالَى:
(وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ) قَالَ مُجَاهِدٌ: قَطَّعْنَهَا
حَتَّى أَلْقَيْنَهَا. وَقِيلَ: خَدَشْنَهَا. وَرَوَى ابْنُ
أَبِي نَجِيحٍ [عَنْ مُجَاهِدٍ «4»] قَالَ: حَزًّا
بِالسِّكِّينِ، قَالَ النَّحَّاسُ: يُرِيدُ مُجَاهِدٌ أَنَّهُ
لَيْسَ قَطْعًا تَبِينُ مِنْهُ الْيَدُ، إِنَّمَا هُوَ خَدْشٌ
وَحَزٌّ، وَذَلِكَ مَعْرُوفٌ فِي اللُّغَةِ أَنْ يُقَالَ إِذَا
خَدَشَ الْإِنْسَانُ يَدَ صَاحِبِهِ قَطَعَ يَدَهُ. وَقَالَ
عِكْرِمَةُ:" أَيْدِيَهُنَّ" أَكْمَامَهُنَّ، وَفِيهِ بُعْدٌ.
وَقِيلَ: أَنَامِلُهُنَّ، أَيْ مَا وَجَدْنَ أَلَمًا فِي
الْقَطْعِ وَالْجَرْحِ، أَيْ لِشُغْلِ قُلُوبِهِنَّ بِيُوسُفَ،
وَالتَّقْطِيعُ يُشِيرُ إِلَى الْكَثْرَةِ، فَيُمْكِنُ أَنْ
تَرْجِعَ الْكَثْرَةُ إِلَى وَاحِدَةٍ جَرَحَتْ يدها في مواضع،
ويمكن أن يرجع إلى عددهن.
__________
(1). في هامش ع: معنى" أَكْبَرْنَهُ" أي عظمنه ودهشن من حسنه.
(2). القارة: الجبل الصغير المنقطع عن الجبال، وقيل: الصخرة
العظيمة، وقيل غير ذلك.
(3). قال ابن عطية وقوله:" أَكْبَرْنَهُ" معناه أعظمنه
واستهولن جماله هذا قول المشهور. وقال عبد الصمد بن على
الهاشمي عن أبيه عن جده: معناه حضن وأنشد:
نَأْتِي النِّسَاءَ عَلَى أَطْهَارِهِنَّ وَلَا ... نَأْتِي
النِّسَاءَ إذا أكبرن إكبارا
قال القاضي أبو محمد: وهذا قول ضعيف ومعناه منكور والبيت مصنوع
مختلق، لذلك قال الطبري وغيره من المحققين: ليس عبد الصمد من
رواة العلم رحمه الله. من هامش ع.
(4). من ع وك.
(9/180)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَقُلْنَ حاشَ
لِلَّهِ) أَيْ مَعَاذَ اللَّهِ. وَرَوَى الْأَصْمَعِيُّ عَنْ
نَافِعٍ أَنَّهُ قَرَأَ كَمَا قَرَأَ أَبُو عَمْرِو بْنُ
الْعَلَاءِ." وَقُلْنَ حاشَ لِلَّهِ" بِإِثْبَاتِ الْأَلِفِ
وَهُوَ الْأَصْلُ، وَمَنْ حَذَفَهَا جَعَلَ اللَّامَ فِي"
لِلَّهِ" عِوَضًا مِنْهَا. وَفِيهَا أَرْبَعُ لُغَاتٍ،
يُقَالُ: حَاشَاكَ وَحَاشَا لَكَ وَحَاشَ لَكَ وَحَشَا لَكَ.
وَيُقَالُ: حَاشَا زَيْدٍ وَحَاشَا زَيْدًا، قَالَ
النَّحَّاسُ: وَسَمِعْتُ عَلِيَّ بْنَ سُلَيْمَانَ يَقُولُ
سَمِعْتُ مُحَمَّدَ بْنَ يَزِيدَ يَقُولُ: النَّصْبُ أَوْلَى،
لِأَنَّهُ قَدْ صَحَّ أَنَّهَا فِعْلٌ لِقَوْلِهِمْ حَاشَ
لِزَيْدٍ، وَالْحَرْفُ لَا يَحْذِفُ مِنْهُ، وَقَدْ قَالَ،
النَّابِغَةُ:
وَلَا أُحَاشِي مِنَ الْأَقْوَامِ مِنْ أَحَدٍ «1»
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: حَاشَ حَرْفٌ، وَأُحَاشَى فِعْلٌ.
وَيَدُلُّ عَلَى كَوْنِ حَاشَا فِعْلًا وُقُوعُ حَرْفِ
الْجَرِّ بَعْدَهَا. وَحَكَى أَبُو زَيْدٍ عَنْ أَعْرَابِيٍّ:
اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي وَلِمَنْ يَسْمَعُ «2»، حَاشَا
الشَّيْطَانَ وَأَبَا الْأَصْبَغِ «3»، فَنَصَبَ بِهَا.
وَقَرَأَ الْحَسَنُ" وَقُلْنَ حَاشْ لِلَّهِ" بِإِسْكَانِ
الشِّينِ، وَعَنْهُ أَيْضًا" حَاشَ الْإِلَهِ". ابْنُ
مَسْعُودٍ وَأُبَيٌّ:" حَاشَ اللَّهِ" بِغَيْرِ لَامٍ،
وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ «4»:
حَاشَا أَبِي ثَوْبَانَ إِنَّ بِهِ ... ضَنًّا عَنِ
الْمَلْحَاةِ وَالشَّتْمِ
قَالَ الزَّجَّاجُ: وَأَصْلُ الْكَلِمَةِ مِنَ الْحَاشِيَةِ،
وَالْحَشَا بِمَعْنَى النَّاحِيَةِ، تَقُولُ: كُنْتُ فِي حَشَا
فُلَانٍ أَيْ فِي نَاحِيَتِهِ، فَقَوْلُكَ: حَاشَا لِزَيْدٍ
أَيْ تَنَحَّى زَيْدٌ مِنْ هَذَا وَتَبَاعَدَ عَنْهُ،
وَالِاسْتِثْنَاءُ إِخْرَاجٌ وَتَنْحِيَةٌ عَنْ جُمْلَةِ
الْمَذْكُورِينَ. وَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ: هُوَ فَاعِلٌ مِنَ
الْمُحَاشَاةِ، أَيْ حَاشَا يُوسُفُ وَصَارَ فِي حَاشِيَةٍ
وَنَاحِيَةٍ مِمَّا قَرِفَ بِهِ، أَوْ مِنْ أَنْ يَكُونَ
بَشَرًا، فَحَاشَا وَحَاشَ فِي الِاسْتِثْنَاءِ حَرْفُ جَرٍّ
عِنْدَ سِيبَوَيْهِ، وَعَلَى مَا قَالَ الْمُبَرِّدُ وَأَبُو
عَلِيٍّ فِعْلٌ. قَوْلُهُ تَعَالَى: (مَا هَذَا بَشَراً) قَالَ
الْخَلِيلُ وَسِيبَوَيْهِ:" فَلَمَّا" بِمَنْزِلَةِ لَيْسَ،
تَقُولُ: لَيْسَ زَيْدٌ قَائِمًا، وَ" مَا هَذَا بَشَراً" وَ"
مَا هُنَّ أُمَّهاتِهِمْ" «5» [المجادلة: 2]. وقال الكوفيون:
لما حذفت الباء
__________
(1). صدر البيت:
ولا أرى فاعلا في الناس يشبهه
وهو من قصيدة يمدح بها النعمان ويعتذر إليه.
(2). في ع ك وو: سمع.
(3). كلام منثور.
(4). هو سبرة بن عمرو الأسدي، وقيل: هو للجميح الأسدي، واسمه
منقذ بن الطماح. والملحاة: اللوم. وفى ع: ابن مروان. كذا في
إحدى روايتي اللسان: أبى مروان. وفى ك وى: ثروان.
(5). راجع ج 17 ص 272. [ ..... ]
(9/181)
نُصِبَتْ، وَشَرْحُ هَذَا- فِيمَا قَالَهُ
أَحْمَدُ بْنُ يَحْيَى،- إِنَّكَ إِذَا قُلْتَ: مَا زَيْدٌ
بِمُنْطَلِقٍ، فَمَوْضِعُ الْبَاءِ مَوْضِعُ نَصْبٍ، وَهَكَذَا
سَائِرُ حُرُوفِ الْخَفْضِ، فَلَمَّا حُذِفَتِ الْبَاءُ
نُصِبَتْ لِتَدُلَّ عَلَى مَحَلِّهَا، قَالَ: وَهَذَا قَوْلُ
الْفَرَّاءِ، قَالَ: وَلَمْ تعمل" فَلَمَّا" شَيْئًا،
فَأَلْزَمَهُمُ الْبَصْرِيُّونَ أَنْ يَقُولُوا: زَيْدٌ
الْقَمَرُ، لِأَنَّ الْمَعْنَى كَالْقَمَرِ! فَرَدَّ أَحْمَدُ
بْنُ يَحْيَى بِأَنْ قَالَ: الْبَاءُ أَدْخَلُ فِي حُرُوفِ
الْخَفْضِ مِنَ الْكَافِ، لِأَنَّ الْكَافَ تَكُونُ اسْمًا.
قَالَ النَّحَّاسُ: لَا يَصِحُّ إِلَّا قَوْلُ
الْبَصْرِيِّينَ، وَهَذَا الْقَوْلُ يَتَنَاقَضُ، لِأَنَّ
الْفَرَّاءَ أَجَازَ «1» نَصًّا مَا بِمُنْطَلِقٍ زَيْدٌ،
وَأَنْشَدَ:
أَمَّا وَاللَّهِ أَنْ لَوْ كُنْتُ حُرًّا ... وَمَا
بِالْحُرِّ أَنْتَ وَلَا الْعَتِيقِ
وَمَنَعَ «2» نَصًّا النَّصْبَ، وَلَا نَعْلَمُ بَيْنَ
النَّحْوِيِّينَ اخْتِلَافًا أَنَّهُ جَائِزٌ: مَا فِيكَ
بِرَاغِبٍ زَيْدٌ، وَمَا إِلَيْكَ بِقَاصِدٍ عَمْرٌو، ثُمَّ
يَحْذِفُونَ الْبَاءَ وَيَرْفَعُونَ. وَحَكَى الْبَصْرِيُّونَ
وَالْكُوفِيُّونَ مَا زَيْدٌ مُنْطَلِقٌ بِالرَّفْعِ، وَحَكَى
الْبَصْرِيُّونَ أَنَّهَا لُغَةُ تَمِيمٍ، وَأَنْشَدُوا:
أَتَيْمًا تَجْعَلُونَ إِلَيَّ نِدًّا ... وَمَا تَيْمٌ لِذِي
حَسَبٍ نَدِيدٌ
النِّدُّ وَالنَّدِيدُ وَالنَّدِيدَةُ الْمِثْلُ وَالنَّظِيرُ.
وَحَكَى الْكِسَائِيُّ أَنَّهَا لُغَةُ تِهَامَةَ وَنَجْدٍ.
وَزَعَمَ الْفَرَّاءُ أَنَّ الرَّفْعَ أَقْوَى الْوَجْهَيْنِ:
قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ: وَهَذَا غَلَطٌ، كِتَابُ اللَّهِ عَزَّ
وَجَلَّ وَلُغَةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَقْوَى وَأَوْلَى. قُلْتُ: وَفِي مُصْحَفِ حَفْصَةَ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا" مَا هَذَا بِبَشَرٍ" ذَكَرَهُ
الْغَزْنَوِيُّ. قَالَ الْقُشَيْرِيُّ أَبُو نَصْرٍ:
وَذَكَرَتِ النِّسْوَةُ أَنَّ [صُورَةَ] يُوسُفَ أَحْسَنُ،
مِنْ صُورَةِ «3» الْبَشَرِ، بَلْ هُوَ فِي صُورَةِ مَلَكٍ،
وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى:" لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي
أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ «4» " [التين: 4] وَالْجَمْعُ بَيْنَ
الْآيَتَيْنِ أَنَّ قَوْلَهُنَّ:" حاشَ لِلَّهِ" تَبْرِئَةٌ
لِيُوسُفَ عَمَّا رَمَتْهُ بِهِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ مِنَ
الْمُرَاوَدَةِ، أَيْ بَعُدَ يُوسُفُ عَنْ هَذَا،
وَقَوْلُهُنَّ:" لِلَّهِ" أَيْ لِخَوْفِهِ، أَيْ بَرَاءَةٌ
لِلَّهِ مِنْ هَذَا، أَيْ قَدْ نَجَا يُوسُفُ مِنْ ذلك، فليس
هذا من الصورة في شي، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ فِي التَّبْرِئَةِ
عَنِ الْمَعَاصِي كَالْمَلَائِكَةِ، فَعَلَى هَذَا لَا
تَنَاقُضَ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ تَنْزِيهُهُ عَنْ مُشَابَهَةِ
الْبَشَرِ فِي الصُّورَةِ، لِفَرْطِ جَمَالِهِ. وَقَوْلُهُ:"
لِلَّهِ" تَأْكِيدٌ لِهَذَا الْمَعْنَى، فَعَلَى هَذَا
الْمَعْنَى قَالَتِ النِّسْوَةُ ذَلِكَ ظَنًّا مِنْهُنَّ أَنَّ
صورة الملك أحسن، وما بلغهن قوله
__________
(1). في ع: أجاز أيضا.
(2). في ع: أجاز أيضا.
(3). في ع: إن يوسف أحسن صورة من البشر.
(4). راجع ج 20 ص 113.
(9/182)
تَعَالَى:" لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ
فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ" [التين: 4] فَإِنَّهُ مِنْ
كِتَابِنَا. وَقَدْ ظَنَّ بَعْضُ الضَّعَفَةِ أَنَّ هَذَا
الْقَوْلَ لَوْ كَانَ ظَنًّا بَاطِلًا مِنْهُنَّ لَوَجَبَ
عَلَى اللَّهِ أَنْ يَرُدَّ عَلَيْهِنَّ، وَيُبَيِّنَ
كَذِبَهُنَّ، وَهَذَا بَاطِلٌ، إِذْ لَا وُجُوبَ عَلَى اللَّهِ
تَعَالَى، وَلَيْسَ كُلَّ مَا يُخْبِرُ بِهِ اللَّهُ
سُبْحَانَهُ مِنْ كُفْرِ الْكَافِرِينَ وَكَذِبِ الْكَاذِبِينَ
يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَقْرُنَ بِهِ الرَّدَّ عَلَيْهِ،
وَأَيْضًا أَهْلُ الْعُرْفِ قَدْ يَقُولُونَ فِي الْقَبِيحِ
كَأَنَّهُ شَيْطَانٌ، وَفِي الْحُسْنِ كَأَنَّهُ مَلَكٌ، أَيْ
لَمْ يُرَ مِثْلُهُ، لِأَنَّ النَّاسَ لَا يَرَوْنَ
الْمَلَائِكَةَ، فَهُوَ بِنَاءٌ عَلَى ظَنٍّ فِي أَنَّ صُورَةَ
الْمَلَكِ أَحْسَنُ، أَوْ عَلَى الْإِخْبَارِ بِطَهَارَةِ
أَخْلَاقِهِ وَبُعْدِهِ عَنِ التُّهَمِ. (إِنْ هَذَا إِلَّا
مَلَكٌ) أَيْ مَا هَذَا إِلَّا مَلَكٌ، وَقَالَ الشَّاعِرُ
«1»:
فَلَسْتَ لَإِنْسِيٌّ وَلَكِنْ لَمَلْأَكٌ ... تَنَزَّلَ مِنْ
جَوِّ السَّمَاءِ يَصُوبُ
وَرُوِيَ عَنِ الْحَسَنِ:" مَا هَذَا بِشِرًى" بِكَسْرِ
الْبَاءِ وَالشِّينِ، أَيْ مَا هَذَا عَبْدًا مُشْتَرًى، أَيْ
مَا يَنْبَغِي لِمِثْلِ هَذَا أَنْ يُبَاعَ، فَوَضَعَ
الْمَصْدَرَ مَوْضِعَ اسْمِ الْمَفْعُولِ، كَمَا قَالَ:"
أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ" «2» [المائدة: 96] أَيْ
مَصِيدُهُ، وَشَبَهُهُ كَثِيرٌ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ
الْمَعْنَى: مَا هَذَا بِثَمَنٍ، أَيْ مِثْلُهُ لَا يُثَمَّنُ
وَلَا يُقَوَّمُ، فَيُرَادُ بِالشِّرَاءِ عَلَى هَذَا
الثَّمَنِ الْمُشْتَرَى بِهِ: كَقَوْلِكَ: مَا هَذَا بِأَلْفٍ
إِذَا نَفَيْتَ قَوْلَ الْقَائِلِ: هَذَا بِأَلْفٍ. فَالْبَاءُ
عَلَى هَذَا مُتَعَلِّقَةٌ بِمَحْذُوفٍ هُوَ الْخَبَرُ،
كَأَنَّهُ قَالَ: مَا هَذَا مُقَدَّرًا بِشِرَاءٍ. وَقِرَاءَةُ
الْعَامَّةِ أَشْبَهُ، لِأَنَّ بَعْدَهُ" إِنْ هَذَا إِلَّا
مَلَكٌ كَرِيمٌ" مُبَالَغَةٌ فِي تَفْضِيلِهِ فِي جِنْسِ
الْمَلَائِكَةِ تَعْظِيمًا لِشَأْنِهِ، وَلِأَنَّ مِثْلَ"
بِشِرًى" يُكْتَبُ فِي الْمُصْحَفِ بِالْيَاءِ. قَوْلُهُ
تَعَالَى: (قالَتْ فَذلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ)
لَمَّا رَأَتِ افْتِتَانَهُنَّ بِيُوسُفَ أَظْهَرَتْ عُذْرَ
نَفْسِهَا بِقَوْلِهَا:" لُمْتُنَّنِي فِيهِ" أَيْ بِحُبِّهِ،
وَ" ذَلِكَ" بِمَعْنَى" هَذَا" وَهُوَ اخْتِيَارُ
الطَّبَرِيِّ. وقيل: الهاء للحب، و" ذلك" عل بَابِهِ،
وَالْمَعْنَى: ذَلِكُنَّ الْحُبُّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ،
أَيْ حُبُّ هَذَا هُوَ ذَلِكَ الْحُبُّ. وَاللَّوْمُ الْوَصْفُ
بِالْقَبِيحِ. ثُمَّ أَقَرَّتْ وَقَالَتْ: (وَلَقَدْ
راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ) أي أمتنع «3»،
__________
(1). هو رجل من عبد القيس جاهلي، يمدح بعض الملوك، قيل: هو
النعمان، وقال ابن السيرافي: هو لأبى وجزة يمدح به عبد الله بن
الزبير. وملك- كما قال الكسائي- أصله مألك بتقديم الهمزة، من
الألوكة، وهى الرسالة، ثم قلبت وقدمت اللام فقيل: ملاك، ثم
تركت همزته لكثرة الاستعمال فقيل: ملك، فلما جمعوه ردوها إليه
فقالوا: ملائكة وملائك أيضا. (اللسان).
(2). راجع ج 6 ص 317.
(3). في هـ ع: واعلم أنها لما أظهرت عذرها عند النسوة في شدة
محبتها له كشفت عن حقيقة الحال فقالت: ولقد راودته عن نفسه
فاستعصم.
(9/183)
قَالَ رَبِّ السِّجْنُ
أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا
تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ
الْجَاهِلِينَ (33) فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ
كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (34)
وَسُمِّيَتِ الْعِصْمَةُ عِصْمَةً
لِأَنَّهَا تَمْنَعُ مِنَ ارْتِكَابِ الْمَعْصِيَةِ. وَقِيلَ:"
اسْتَعْصَمَ" أَيِ اسْتَعْصَى، وَالْمَعْنَى وَاحِدٌ.
(وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ)
عَاوَدَتْهُ الْمُرَاوَدَةَ بِمَحْضَرٍ مِنْهُنَّ، وَهَتَكَتْ
جِلْبَابَ «1» الْحَيَاءِ، وَوَعَدَتْ بِالسِّجْنِ إِنْ لَمْ
يَفْعَلْ، وَإِنَّمَا فَعَلَتْ هَذَا حِينَ لَمْ تَخْشَ
لَوْمًا وَلَا مَقَالًا خِلَافَ أَوَّلِ أَمْرِهَا إِذْ كَانَ
ذَلِكَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا. (وَلَيَكُوناً مِنَ
الصَّاغِرِينَ) أَيِ الْأَذِلَّاءِ. وَخَطُّ الْمُصْحَفِ"
وَلَيَكُوناً" بِالْأَلِفِ وَتُقْرَأُ بِنُونٍ مُخَفَّفَةٍ
لِلتَّأْكِيدِ، وَنُونُ التَّأْكِيدِ تُثَقَّلُ وَتُخَفَّفُ
وَالْوَقْفُ عَلَى قَوْلِهِ:" لَيُسْجَنَنَّ" بِالنُّونِ
لِأَنَّهَا مُثَقَّلَةٌ، وَعَلَى" لَيَكُوناً" بِالْأَلِفِ
لِأَنَّهَا مُخَفَّفَةٌ، وَهِيَ تُشْبِهُ نُونَ الْإِعْرَابِ
فِي قَوْلِكَ: رَأَيْتُ رَجُلًا وَزَيْدًا وَعَمْرًا،
وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ:" لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ" «2»
وَنَحْوُهَا الْوَقْفُ عَلَيْهَا بِالْأَلِفِ، كَقَوْلِ
الْأَعْشَى:
وَلَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ وَاللَّهَ فَاعْبُدَا «3»
أَيْ أَرَادَ فَاعْبُدًا، فَلَمَّا وَقَفَ عَلَيْهِ كَانَ
الْوَقْفُ بِالْأَلِفِ.
[سورة يوسف (12): الآيات 33 الى 34]
قالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي
إِلَيْهِ وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ
إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجاهِلِينَ (33) فَاسْتَجابَ لَهُ
رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ
الْعَلِيمُ (34)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (قالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ
مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ) أَيْ دُخُولُ السِّجْنِ،
فَحَذَفَ الْمُضَافَ، قَالَهُ الزَّجَّاجُ وَالنَّحَّاسُ."
أَحَبُّ إِلَيَّ" أَيْ أَسْهَلُ عَلَيَّ وَأَهْوَنُ مِنَ
الْوُقُوعِ فِي الْمَعْصِيَةِ، لَا أَنَّ دُخُولَ السِّجْنِ
مِمَّا يُحِبُّ عَلَى التَّحْقِيقِ. وَحُكِيَ أَنَّ يُوسُفَ
عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا قَالَ:" السِّجْنُ أَحَبُّ
إِلَيَّ" أَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ" يَا يُوسُفُ! أَنْتَ
حَبَسْتَ نَفْسَكَ حَيْثُ قُلْتَ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ،
وَلَوْ قُلْتَ الْعَافِيَةُ أَحَبُّ إِلَيَّ لَعُوفِيتَ".
وَحَكَى أَبُو حَاتِمٍ أَنَّ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ قَرَأَ:" السَّجْنُ" بِفَتْحِ السِّينِ
وَحُكِيَ أَنَّ ذَلِكَ قِرَاءَةُ ابْنُ أَبِي إسحاق
__________
(1). في ع: حجاب.
(2). راجع ج 20 ص 125.
(3). صدر البيت:
وذا النصب المنصوب لا تنسكنه
وهو من قصيدة يمدح بها سيدنا رسول الله صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
(9/184)
وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ الْأَعْرَجِ
وَيَعْقُوبَ، وَهُوَ مَصْدَرُ سَجَنَهُ سَجْنًا. (وَإِلَّا
تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ) أَيْ كَيْدَ النِّسْوَانِ.
وَقِيلَ: كَيْدُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي رَأَيْنَهُ؟
فَإِنَّهُنَّ أَمَرْنَهُ بِمُطَاوَعَةِ امْرَأَةِ الْعَزِيزِ،
وَقُلْنَ لَهُ: هِيَ مَظْلُومَةٌ وَقَدْ ظَلَمْتَهَا. وَقِيلَ:
طَلَبَتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ أَنْ تَخْلُوَ بِهِ لِلنَّصِيحَةِ
فِي امْرَأَةِ الْعَزِيزِ، وَالْقَصْدُ بِذَلِكَ أَنْ
تَعْذِلَهُ فِي حَقِّهَا، وَتَأْمُرَهُ بِمُسَاعَدَتِهَا،
فَلَعَلَّهُ يُجِيبُ، فَصَارَتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ تَخْلُو بِهِ
عَلَى حِدَةٍ فَتَقُولُ لَهُ: يَا يُوسُفُ! اقْضِ لِي حَاجَتِي
فَأَنَا خَيْرٌ لَكَ مِنْ سَيِّدَتِكَ، تَدْعُوهُ كُلُّ
وَاحِدَةٍ لِنَفْسِهَا وَتُرَاوِدُهُ، فَقَالَ: يَا رَبِّ
كَانَتْ وَاحِدَةً فَصِرْنَ جَمَاعَةً. وَقِيلَ: كَيْدُ
امْرَأَةِ الْعَزِيزِ فِيمَا دَعَتْهُ إِلَيْهِ مِنْ
الْفَاحِشَةِ، وَكَنَّى عَنْهَا بِخِطَابِ الْجَمْعِ إِمَّا
لِتَعْظِيمِ شَأْنِهَا فِي الْخِطَابِ، وَإِمَّا لِيَعْدِلَ
عَنِ التَّصْرِيحِ إِلَى التَّعْرِيضِ. وَالْكَيْدُ
الِاحْتِيَالُ وَالِاجْتِهَادُ، وَلِهَذَا سُمِّيَتِ الْحَرْبُ
كَيْدًا لِاحْتِيَالِ النَّاسِ فِيهَا، قَالَ عُمَرُ بْنُ
لَجَأٍ:
تَرَاءَتْ كَيْ تَكِيدَكَ أُمُّ بِشْرٍ ... وَكَيْدٌ
بِالتَّبَرُّجِ مَا تَكِيدُ
(أَصْبُ إِلَيْهِنَّ) جَوَابُ الشَّرْطِ، أَيْ أَمِلْ
إِلَيْهِنَّ، مِنْ صَبَا يَصْبُو إِذَا مَالَ وَاشْتَاقَ
صَبْوًا وَصَبْوَةً، قَالَ «1»:
إِلَى هِنْدَ صَبَا قَلْبِي ... وَهِنْدُ مِثْلُهَا يُصْبِي
أَيْ إِنْ لَمْ تَلْطُفْ بِي فِي اجْتِنَابِ الْمَعْصِيَةِ
وَقَعْتُ فِيهَا. (وَأَكُنْ مِنَ الْجاهِلِينَ) أَيْ مِمَّنْ
يَرْتَكِبُ الْإِثْمَ وَيَسْتَحِقُّ الذَّمَّ، أَوْ مِمَّنْ
يَعْمَلُ عَمَلَ الْجُهَّالِ، وَدَلَّ هَذَا عَلَى أَنَّ
أَحَدًا لَا يَمْتَنِعُ عَنْ مَعْصِيَةِ اللَّهِ إِلَّا
بِعَوْنِ اللَّهِ، وَدَلَّ أَيْضًا عَلَى قُبْحِ الْجَهْلِ
وَالذَّمِّ لِصَاحِبِهِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: (فَاسْتَجابَ لَهُ
رَبُّهُ) لِمَا قَالَ." وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ"
تَعَرَّضَ لِلدُّعَاءِ، وَكَأَنَّهُ قَالَ: اللَّهُمَّ اصْرِفْ
عَنِّي كَيْدَهُنَّ، فَاسْتَجَابَ لَهُ دُعَاءَهُ، وَلَطَفَ
بِهِ وَعَصَمَهُ عَنِ الْوُقُوعِ في الزنى." كَيْدَهُنَّ"
قِيلَ: لِأَنَّهُنَّ جَمْعٌ قَدْ رَاوَدْنَهُ عَنْ نَفْسِهِ.
وَقِيلَ: يَعْنِي كَيْدَ النِّسَاءِ. وَقِيلَ: يَعْنِي كَيْدَ
امْرَأَةِ الْعَزِيزِ، عَلَى مَا ذُكِرَ فِي الآية قبل،
والعموم أولى.
__________
(1). هو زيد بن ضبة.
(9/185)
ثُمَّ بَدَا لَهُمْ
مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الْآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى
حِينٍ (35)
[سورة يوسف (12): آية 35]
ثُمَّ بَدا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الْآياتِ
لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ (35)
فِيهِ أَرْبَعُ مَسَائِلَ: الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى:
(ثُمَّ بَدا لَهُمْ) أَيْ ظهر للعزيز واهل مشورته" مِنْ بَعْدِ
ما رَأَوُا الْآياتِ" أَيْ عَلَامَاتِ بَرَاءَةِ يُوسُفَ- مِنْ
قَدِّ الْقَمِيصِ مِنْ دُبُرٍ، وَشَهَادَةِ الشَّاهِدِ،
وَحَزِّ الْأَيْدِي، وَقِلَّةِ صَبْرِهِنَّ عَنْ لِقَاءِ
يُوسُفَ- أَنْ يَسْجُنُوهُ كِتْمَانًا لِلْقِصَّةِ أَلَّا
تَشِيعَ فِي الْعَامَّةِ، وَلِلْحَيْلُولَةِ بَيْنَهُ
وَبَيْنَهَا. وَقِيلَ: هِيَ الْبَرَكَاتُ الَّتِي كَانَتْ
تَنْفَتِحُ عَلَيْهِمْ مَا دَامَ يُوسُفُ فِيهِمْ،
وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ. قَالَ مُقَاتِلٌ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنِ
ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِ:" ثُمَّ بَدا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ
مَا رَأَوُا الْآياتِ" قَالَ: الْقَمِيصُ مِنَ الْآيَاتِ،
وَشَهَادَةُ الشَّاهِدِ مِنَ الْآيَاتِ، وَقَطْعُ الْأَيْدِي
مِنَ الْآيَاتِ، وَإِعْظَامُ النِّسَاءِ إِيَّاهُ مِنَ
الْآيَاتِ. وَقِيلَ: أَلْجَأَهَا الْخَجَلُ مِنَ النَّاسِ،
وَالْوَجَلُ مِنَ الْيَأْسِ إِلَى أَنْ رَضِيَتْ بِالْحِجَابِ
مَكَانَ خَوْفِ الذَّهَابِ، لِتَشْتَفِيَ إِذَا مُنِعَتْ مِنْ
نَظَرِهِ، قَالَ:
وَمَا صَبَابَةُ مُشْتَاقٍ عَلَى أَمَلٍ ... مِنَ اللِّقَاءِ
كَمُشْتَاقٍ بِلَا أَمَلٍ
أَوْ كَادَتْهُ رَجَاءَ أَنْ يَمَلَّ حَبْسَهُ فَيَبْذُلُ
نفسه. قوله تعالى: (لَيَسْجُنُنَّهُ) " لَيَسْجُنُنَّهُ" فِي
مَوْضِعِ الْفَاعِلِ، أَيْ ظَهَرَ لَهُمْ أَنْ يَسْجُنُوهُ،
هَذَا قَوْلُ سِيبَوَيْهِ. قَالَ الْمُبَرِّدُ: وَهَذَا
غَلَطٌ، لَا يَكُونُ الْفَاعِلُ جُمْلَةً، وَلَكِنَّ
الْفَاعِلَ مَا دَلَّ عَلَيْهِ" بَدا" وَهُوَ مَصْدَرٌ، أَيْ
بَدَا لَهُمْ بَدَاءً، فَحَذَفَ لِأَنَّ الْفِعْلَ يَدُلُّ
عَلَيْهِ، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ:
وَحَقَّ لِمَنْ أَبُو مُوسَى أَبُوهُ ... يُوَفِّقُهُ الَّذِي
نَصَبَ الْجِبَالَا
أَيْ وَحَقَّ الْحَقُّ، فَحَذَفَ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى ثُمَّ
بَدَا لَهُمْ رَأْيٌ لَمْ يَكُونُوا يَعْرِفُونَهُ، وَحَذَفَ
هَذَا لِأَنَّ فِي الْكَلَامِ دَلِيلًا عَلَيْهِ، وَحَذَفَ
أَيْضًا الْقَوْلَ، أَيْ قَالُوا: لَيَسْجُنُنَّهُ، وَاللَّامُ
جَوَابٌ لِيَمِينٍ مُضْمَرٍ، قَالَهُ الْفَرَّاءُ، وَهُوَ
فِعْلٌ مُذَكَّرٌ لَا فِعْلٌ مُؤَنَّثٌ، وَلَوْ كَانَ فِعْلًا
مُؤَنَّثًا لَكَانَ يسجنانه،
(9/186)
وَيَدُلُّ عَلَى هَذَا قَوْلُهُ" لَهُمْ"
وَلَمْ يَقُلْ لَهُنَّ، فَكَأَنَّهُ أَخْبَرَ عَنِ النِّسْوَةِ
وَأَعْوَانِهِنَّ فَغَلَّبَ الْمُذَكَّرَ، قَالَهُ أَبُو
عَلِيٍّ. وَقَالَ السُّدِّيُّ: كَانَ سَبَبُ حَبْسِ يُوسُفَ
أَنَّ امْرَأَةَ الْعَزِيزِ شَكَتْ إِلَيْهِ أَنَّهُ شَهَرَهَا
وَنَشَرَ خَبَرَهَا، فَالضَّمِيرُ عَلَى هَذَا فِي" لَهُمْ"
لِلْمَلِكِ. الثَّالِثَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (حَتَّى حِينٍ)
أَيْ إِلَى مُدَّةٍ غَيْرِ مَعْلُومَةٍ، قَالَهُ كَثِيرٌ مِنَ
الْمُفَسِّرِينَ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِلَى انْقِطَاعٍ
مَا شَاعَ فِي الْمَدِينَةِ. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ:
إِلَى سِتَّةِ أَشْهُرٍ. وَحَكَى إِلْكِيَا أَنَّهُ عَنَى
ثَلَاثَةَ عَشَرَ شَهْرًا. عِكْرِمَةُ: تِسْعَ سِنِينَ.
الْكَلْبِيُّ: خَمْسَ سِنِينَ. مُقَاتِلٌ: [سَبْعَ «1»].
وَقَدْ مَضَى فِي" الْبَقَرَةِ" «2» الْقَوْلُ فِي الْحِينِ
وَمَا يَرْتَبِطُ بِهِ مِنَ الْأَحْكَامِ. وَقَالَ وَهْبٌ:
أَقَامَ فِي السِّجْنِ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ سَنَةً. وَ" حَتَّى"
بِمَعْنَى إِلَى، كَقَوْلِهِ:" حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ" «3»
[القدر: 5]. وَجَعَلَ اللَّهُ الْحَبْسَ تَطْهِيرًا لِيُوسُفَ
صَلَّى اللَّهُ «4» عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ هَمِّهِ
بِالْمَرْأَةِ. وَكَأَنَّ الْعَزِيزَ- وَإِنْ عَرَفَ بَرَاءَةَ
يُوسُفَ- أَطَاعَ الْمَرْأَةَ فِي سَجْنِ يُوسُفَ. قَالَ ابْنُ
عَبَّاسٍ: عَثَرَ يُوسُفُ ثَلَاثَ عَثَرَاتٍ: حِينَ هَمَّ
بِهَا فَسُجِنَ، وَحِينَ قال للفتى:" اذْكُرْنِي عِنْدَ
رَبِّكَ" [يوسف: 42] فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ،
وَحِينَ قَالَ لإخوته:" إِنَّكُمْ لَسارِقُونَ" [يوسف: 70]
فَقَالُوا:" إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ
قَبْلُ". [يوسف: 77 [. الرَّابِعَةُ- أُكْرِهَ يُوسُفُ
عَلَيْهِ السَّلَامُ عَلَى الْفَاحِشَةِ بِالسِّجْنِ،
وَأَقَامَ خَمْسَةَ أَعْوَامٍ، وَمَا رَضِيَ بِذَلِكَ
لِعَظِيمِ مَنْزِلَتِهِ وَشَرِيفِ قَدْرِهِ، وَلَوْ أُكْرِهَ
رَجُلٌ بالسجن على الزنى مَا جَازَ لَهُ إِجْمَاعًا. فَإِنْ
أُكْرِهَ بِالضَّرْبِ فَقَدِ اخْتَلَفَ فِيهِ الْعُلَمَاءُ،
وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ إِذَا كان فادحا فإنه يسقط عنه إثم الزنى
وَحْدُّهُ. وَقَدْ قَالَ بَعْضُ عُلَمَائِنَا: إِنَّهُ لَا
يَسْقُطُ عَنْهُ الْحَدُّ، وَهُوَ ضَعِيفٌ، فَإِنَّ اللَّهَ
تَعَالَى لَا يَجْمَعُ عَلَى عَبْدِهِ الْعَذَابَيْنِ، وَلَا
يُصَرِّفُهُ بَيْنَ بَلَاءَيْنِ، فَإِنَّهُ مِنْ أَعْظَمِ
الْحَرَجِ فِي الدِّينِ." وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ
مِنْ حَرَجٍ" «5». [الحج: 78]. وَسَيَأْتِي بَيَانُ هَذَا فِي"
النَّحْلِ" «6» إِنْ شَاءَ اللَّهُ. وَصَبَرَ يُوسُفُ،
وَاسْتَعَاذَ بِهِ مِنَ الْكَيْدِ، فاستجاب له على ما تقدم.
__________
(1). من ع. وفى روح المعاني والفخر الرازي عن مقاتل اثنى عشر
سنة.
(2). راجع ج 1 ص 321. فما بعد.
(3). راجع ج 20 ص 134. [ ..... ]
(4). من ع.
(5). راجع ج 12 ص 99.
(6). راجع ج 10 ص 182 فما بعد.
(9/187)
وَدَخَلَ مَعَهُ
السِّجْنَ فَتَيَانِ قَالَ أَحَدُهُمَا إِنِّي أَرَانِي
أَعْصِرُ خَمْرًا وَقَالَ الْآخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ
فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا
بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (36) قَالَ
لَا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُمَا
بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا ذَلِكُمَا مِمَّا
عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لَا
يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ
(37) وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ
وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ
شَيْءٍ ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ
وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ (38)
[سورة يوسف (12): الآيات 36 الى 38]
وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيانِ قالَ أَحَدُهُما إِنِّي
أَرانِي أَعْصِرُ خَمْراً وَقالَ الْآخَرُ إِنِّي أَرانِي
أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزاً تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ
نَبِّئْنا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ
(36) قالَ لَا يَأْتِيكُما طَعامٌ تُرْزَقانِهِ إِلاَّ
نَبَّأْتُكُما بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُما ذلِكُما
مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لَا
يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ
(37) وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبائِي إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ
وَيَعْقُوبَ مَا كانَ لَنا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ
شَيْءٍ ذلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنا وَعَلَى النَّاسِ
وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ (38)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيانِ) "
فَتَيانِ" تَثْنِيَةُ فَتًى، وَهُوَ مِنْ ذَوَاتِ الْيَاءِ،
وَقَوْلُهُمُ: الْفُتُوُّ شَاذٌّ «1». قَالَ وَهْبٌ
وَغَيْرُهُ: حُمِلَ يُوسُفُ إِلَى السِّجْنِ مُقَيَّدًا عَلَى
حِمَارٍ، وَطِيفَ بِهِ" هَذَا جَزَاءُ مَنْ يَعْصِي
سَيِّدَتَهُ" وَهُوَ يَقُولُ: هَذَا أَيْسَرَ مِنْ
مُقَطَّعَاتِ «2» النِّيرَانِ، وَسَرَابِيلِ الْقَطِرَانِ،
وَشَرَابِ الْحَمِيمِ، وَأَكْلِ الزَّقُّومِ. فَلَمَّا
انْتَهَى يُوسُفُ إِلَى السِّجْنِ وَجَدَ فِيهِ قَوْمًا قَدِ
انْقَطَعَ رَجَاؤُهُمْ، وَاشْتَدَّ بَلَاؤُهُمْ، فَجَعَلَ
يَقُولُ لَهُمُ: اصْبِرُوا وَأَبْشِرُوا تُؤْجَرُوا، فَقَالُوا
لَهُ: يَا فَتَى! مَا أَحْسَنَ حَدِيثَكَ! لَقَدْ بُورِكَ
لَنَا فِي جِوَارِكِ، مَنْ أَنْتَ يَا فَتَى؟ قَالَ: أَنَا
يُوسُفُ ابْنُ صَفِيِّ اللَّهِ يَعْقُوبَ، ابْنِ ذَبِيحِ «3»
اللَّهِ إِسْحَاقَ، ابْنِ خَلِيلِ اللَّهِ إِبْرَاهِيمَ.
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَمَّا قَالَتِ الْمَرْأَةُ
لِزَوْجِهَا إِنَّ هَذَا الْعَبْدَ الْعِبْرَانِيَّ قَدْ
فَضَحَنِي، وَأَنَا أُرِيدُ أَنْ تَسْجُنَهُ، فَسَجَنَهُ فِي
السِّجْنِ، فَكَانَ يُعَزِّي فِيهِ الْحَزِينَ، وَيَعُودُ
فِيهِ الْمَرِيضَ، وَيُدَاوِي فِيهِ الْجَرِيحَ، وَيُصَلِّي
اللَّيْلَ كُلَّهُ، وَيَبْكِي حَتَّى تَبْكِيَ مَعَهُ جُدُرُ
الْبُيُوتِ وَسُقُفُهَا وَالْأَبْوَابُ، وَطُهِّرَ بِهِ
السِّجْنُ، وَاسْتَأْنَسَ بِهِ أَهْلُ السِّجْنِ، فَكَانَ
إِذَا خَرَجَ الرَّجُلُ مِنَ السِّجْنِ رَجَعَ حَتَّى يجلس «4»
في السجن
__________
(1). في ع وك وى: الفتو شاذة.
(2). مقطعات النيران: هي على نحو قوله تعالى:" قُطِّعَتْ
لَهُمْ ثِيابٌ مِنْ نارٍ" أَيْ خِيطَتْ وسويت وجعلت لبوسا لهم.
(3). هذا دليل الوضع لأن الذبيح قطعا إسماعيل عليه السلام.
(4). في ع: يحبس.
(9/188)
مَعَ يُوسُفَ، وَأَحَبَّهُ صَاحِبُ
السِّجْنِ فَوَسَّعَ عَلَيْهِ فِيهِ، ثُمَّ قَالَ [لَهُ] «1»:
يَا يُوسُفُ! لَقَدْ أَحْبَبْتُكَ حُبًّا لَمْ أُحِبَّ شَيْئًا
حُبَّكَ، فَقَالَ: أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ حُبِّكَ، قَالَ:
وَلِمَ ذَلِكَ؟ فَقَالَ: أَحَبَّنِي أَبِي فَفَعَلَ بِي
إِخْوَتِي مَا فَعَلُوهُ، وَأَحَبَّتْنِي سَيِّدَتِي فَنَزَلَ
بِي مَا تَرَى، فَكَانَ فِي حَبْسِهِ حَتَّى غَضِبَ الْمَلِكُ
عَلَى خَبَّازِهِ وَصَاحِبِ شَرَابِهِ، وَذَلِكَ أَنَّ
الْمَلِكَ عَمَّرَ فِيهِمْ فَمَلُّوهُ، فَدَسُّوا إِلَى
خَبَّازِهِ وَصَاحِبِ شَرَابِهِ أَنْ يَسُمَّاهُ جَمِيعًا،
فَأَجَابَ الْخَبَّازُ وَأَبَى صَاحِبُ الشَّرَابِ،
فَانْطَلَقَ صَاحِبُ الشَّرَابِ فَأَخْبَرَ الْمَلِكَ
بِذَلِكَ، فَأَمَرَ الْمَلِكُ بِحَبْسِهِمَا، فَاسْتَأْنَسَا
بِيُوسُفَ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ:" وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ
فَتَيانِ" وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ الْخَبَّازَ وَضَعَ السُّمَّ
فِي الطَّعَامِ، فَلَمَّا حَضَرَ الطَّعَامُ قَالَ السَّاقِي:
أَيُّهَا الْمَلِكُ! لَا تَأْكُلُ فَإِنَّ الطَّعَامَ
مَسْمُومٌ. وَقَالَ الْخَبَّازُ: أَيُّهَا «2» الْمَلِكُ لَا
تَشْرَبُ! فَإِنَّ الشَّرَابَ مَسْمُومٌ، فَقَالَ الْمَلِكُ
لِلسَّاقِي: اشْرَبْ! فَشَرِبَ فَلَمْ يَضُرَّهُ، وَقَالَ
لِلْخَبَّازِ: كُلْ، فَأَبَى، فَجُرِّبَ الطَّعَامُ عَلَى
حَيَوَانٍ فَنَفَقَ مَكَانِهِ، فَحَبَسَهُمَا سَنَةً،
وَبَقِيَا فِي السِّجْنِ تِلْكَ المدة مع يوسف. واسم الساقي
منجى، وَالْآخَرُ مجلث، ذَكَرَهُ الثَّعْلَبِيُّ عَنْ كَعْبٍ.
وَقَالَ النَّقَّاشُ: اسْمُ أَحَدِهِمَا شرهم، وَالْآخَرُ
سرهم، الْأَوَّلُ بِالشِّينِ الْمُعْجَمَةِ، وَالْآخَرُ
بِالسِّينِ الْمُهْمَلَةِ. وَقَالَ الطَّبَرِيُّ: الَّذِي
رَأَى أَنَّهُ يَعْصِرُ خَمْرًا هُوَ نبو، قَالَ
السُّهَيْلِيُّ: وَذَكَرَ اسْمَ الْآخَرِ وَلَمْ أُقَيِّدْهُ.
وَقَالَ" فَتَيانِ" لِأَنَّهُمَا كَانَا عَبْدَيْنِ،
وَالْعَبْدُ يُسَمَّى فَتًى، صَغِيرًا كَانَ أَوْ كَبِيرًا،
ذَكَرَهُ الْمَاوَرْدِيُّ. وَقَالَ الْقُشَيْرِيُّ: وَلَعَلَّ
الْفَتَى كَانَ اسْمًا لِلْعَبْدِ فِي عُرْفِهِمْ، وَلِهَذَا
قَالَ:" تُراوِدُ فَتاها عَنْ نَفْسِهِ" [يوسف: 30].
وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْفَتَى اسْمًا لِلْخَادِمِ وَإِنْ
لَمْ يَكُنْ مَمْلُوكًا. وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ حَبَسَهُمَا
مَعَ حَبْسِ يُوسُفَ أَوْ بَعْدَهُ أَوْ قَبْلَهُ، غَيْرَ
أَنَّهُمَا دَخَلَا مَعَهُ الْبَيْتَ الَّذِي كَانَ فِيهِ."
قالَ أَحَدُهُما إِنِّي أَرانِي أَعْصِرُ خَمْراً" أَيْ
عِنَبًا، كَانَ يُوسُفُ قَالَ لِأَهْلِ السِّجْنِ: إِنِّي
أُعَبِّرُ الْأَحْلَامَ، فَقَالَ أَحَدُ الْفَتَيَيْنِ
لِصَاحِبِهِ: تَعَالَ حَتَّى نُجَرِّبَ هَذَا الْعَبْدَ
الْعِبْرَانِيَّ، فَسَأَلَاهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَا
رَأَيَا شَيْئًا، قَالَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ. وَحَكَى
الطَّبَرِيُّ أَنَّهُمَا سَأَلَاهُ عَنْ عِلْمِهِ فَقَالَ:
إِنِّي أُعَبِّرُ الرُّؤْيَا، فَسَأَلَاهُ عَنْ رُؤْيَاهُمَا.
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ: كَانَتْ رُؤْيَا صِدْقٍ
رَأَيَاهَا وَسَأَلَاهُ عَنْهَا، وَلِذَلِكَ صَدَقَ
تَأْوِيلُهَا. وَفِي الصَّحِيحُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" أَصْدَقُكُمْ
رُؤْيَا أَصْدَقُكُمْ
__________
(1). من ع.
(2). من ع.
(9/189)
حَدِيثًا". وَقِيلَ: إِنَّهَا كَانَتْ
رُؤْيَا كَذِبٍ سَأَلَاهُ عَنْهَا تَجْرِيبًا، وَهَذَا قَوْلُ
ابْنِ مَسْعُودٍ وَالسُّدِّيِّ. وَقِيلَ: إِنَّ الْمَصْلُوبَ
مِنْهُمَا كَانَ كَاذِبًا، وَالْآخَرُ صَادِقًا، قَالَهُ أَبُو
مِجْلَزٍ. وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنِ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قَالَ:" مَنْ
تَحَلَّمَ كَاذِبًا كُلِّفَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَنْ يَعْقِدَ
بَيْنَ شَعِيرَتَيْنِ [وَلَنْ يَعْقِدَ «1» بَيْنَهُمَا] ".
قَالَ أَبُو عِيسَى: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ. وَعَنْ
عَلِيٍّ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
قَالَ:" مَنْ كَذَبَ فِي حُلُمِهِ كُلِّفَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ
عَقْدَ شَعِيرَةٍ". قَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ. قَالَ ابْنُ
عَبَّاسٍ: لَمَّا رَأَيَا رُؤْيَاهُمَا أصبحا مكروبين، فقال
لهما يوسف: مالي أَرَاكُمَا مَكْرُوبَيْنِ؟ قَالَا: يَا
سَيِّدَنَا! إِنَّا رَأَيْنَا مَا كَرِهْنَا، قَالَ: فَقُصَّا
عَلَيَّ، فَقَصَّا عَلَيْهِ، قَالَا: نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِ
مَا رَأَيْنَا، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا كَانَتْ
رُؤْيَا مَنَامٍ. (إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ)
فَإِحْسَانُهُ، أَنَّهُ كَانَ يَعُودُ الْمَرْضَى
وَيُدَاوِيهِمْ، وَيُعَزِّي الْحَزَانَى، قَالَ الضَّحَّاكُ:
كَانَ إِذَا مَرِضَ الرَّجُلُ مِنْ أَهْلِ السِّجْنِ قَامَ
بِهِ، وَإِذَا ضَاقَ وَسَّعَ لَهُ، وَإِذَا احْتَاجَ جَمَعَ
لَهُ، وَسَأَلَ لَهُ. وَقِيلَ:" مِنَ الْمُحْسِنِينَ" أَيِ
الْعَالِمِينَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا الْعِلْمَ، قَالَهُ
الْفَرَّاءُ. وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ:" مِنَ الْمُحْسِنِينَ"
لَنَا إِنْ فَسَّرْتَهُ، كَمَا يَقُولُ: افْعَلْ كَذَا
وَأَنْتَ مُحْسِنٌ. قَالَ: فَمَا رَأَيْتُمَا؟ قَالَ
الْخَبَّازُ: رَأَيْتُ كَأَنِّي اخْتَبَزْتُ في ثلاث
تَنَانِيرَ، وَجَعَلْتُهُ فِي ثَلَاثِ سِلَالٍ، فَوَضَعْتُهُ
عَلَى رَأْسِي فَجَاءَ الطَّيْرُ فَأَكَلَ مِنْهُ. وَقَالَ
الْآخَرُ: رأيت كأني أخذت عَنَاقِيدَ مِنْ عِنَبٍ أَبْيَضَ،
فَعَصَرَتُهُنَّ فِي ثَلَاثِ أَوَانٍ، ثُمَّ صَفَّيْتُهُ
فَسَقَيْتُ الْمَلِكَ كَعَادَتِي فِيمَا مَضَى، فَذَلِكَ
قَوْلُهُ:" إِنِّي أَرانِي أَعْصِرُ خَمْراً" أَيْ عِنَبًا،
بِلُغَةِ عُمَانَ، قَالَهُ الضَّحَّاكُ. وَقَرَأَ ابْنُ
مَسْعُودٍ:" إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ عِنَبًا". وَقَالَ
الْأَصْمَعِيُّ: أَخْبَرَنِي الْمُعْتَمِرُ بْنُ سُلَيْمَانَ
أَنَّهُ لَقِيَ أَعْرَابِيًّا وَمَعَهُ عِنَبٌ فَقَالَ لَهُ:
مَا مَعَكَ؟ قَالَ: خَمْرٌ. وَقِيلَ: مَعْنَى." أَعْصِرُ
خَمْراً" أَيْ عنب، فَحَذَفَ الْمُضَافَ. وَيُقَالُ خَمْرَةٌ
وَخَمْرٌ وَخُمُورٌ، مِثْلَ تَمْرَةٍ وَتَمْرٍ وَتُمُورٍ."
قالَ" لَهُمَا يُوسُفُ: (لَا يَأْتِيكُما طَعامٌ تُرْزَقانِهِ)
__________
(1). الزيادة عن صحيح الترمذي، قال شارحه: لما تبعته نظري ظهر
إلى أن المخبر بما لم ير عقد من الكلام عقدا باطلا لم يشعر به.
أي لم يعلمه، فقيل له: اعقد بين شعيرتين ولا ينعقد له ذلك
أبدا، عقوبة لعقده بين كلمات لم يكن منها شي، لتكون العقوبة من
جنس المعصية.
(9/190)
يَعْنِي لَا يَجِيئُكُمَا غَدًا طَعَامٌ
مِنْ مَنْزِلِكُمَا (إِلَّا نَبَّأْتُكُما بِتَأْوِيلِهِ)
لِتَعْلَمَا أَنِّي أَعْلَمُ تَأْوِيلَ رُؤْيَاكُمَا،
فَقَالَا: افْعَلْ! فَقَالَ لَهُمَا: يَجِيئُكُمَا كَذَا وكذا،
فكان على ما قال، وَكَانَ هَذَا مِنْ عِلْمِ الْغَيْبِ خُصَّ
بِهِ يُوسُفَ. وَبَيَّنَ أَنَّ اللَّهَ خَصَّهُ بِهَذَا
الْعِلْمِ لِأَنَّهُ تَرَكَ مِلَّةَ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ
بِاللَّهِ، يَعْنِي دِينَ الْمَلِكِ. وَمَعْنَى الْكَلَامِ
عِنْدِي: الْعِلْمُ بِتَأْوِيلِ رُؤْيَاكُمَا، وَالْعِلْمُ
بِمَا يَأْتِيكُمَا مِنْ طَعَامِكُمَا وَالْعِلْمُ بِدِينِ
اللَّهِ، فَاسْمَعُوا أَوَّلًا مَا يَتَعَلَّقُ بِالدِّينِ
لِتَهْتَدُوا، وَلِهَذَا لَمْ يُعَبِّرْ لَهُمَا حَتَّى
دَعَاهُمَا إِلَى الْإِسْلَامِ، فَقَالَ:" يَا صاحِبَيِ
السِّجْنِ أَأَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ
الْواحِدُ الْقَهَّارُ. ما تَعْبُدُونَ" [يوسف: 40 - 39]
الْآيَةَ كُلَّهَا، عَلَى مَا يَأْتِي. وَقِيلَ: عَلِمَ أَنَّ
أَحَدَهُمَا مَقْتُولٌ فَدَعَاهُمَا إِلَى الْإِسْلَامِ
لِيَسْعَدَا «1» بِهِ. وَقِيلَ: إِنَّ يُوسُفَ كَرِهَ أَنْ
يَعْبُرَ لَهُمَا مَا سَأَلَاهُ لِمَا عَلِمَهُ مِنَ
الْمَكْرُوهِ عَلَى أَحَدِهِمَا فَأَعْرَضَ عَنْ سُؤَالِهِمَا،
وَأَخَذَ فِي غَيْرِهِ فَقَالَ:" لَا يَأْتِيكُما طَعامٌ
تُرْزَقانِهِ" فِي النَّوْمِ" إِلَّا نَبَّأْتُكُما"
بِتَفْسِيرِهِ فِي الْيَقَظَةِ، قَالَهُ السُّدِّيُّ، فَقَالَا
لَهُ: هَذَا مِنْ فِعْلِ الْعَرَّافِينَ وَالْكَهَنَةِ،
فَقَالَ لَهُمَا يُوسُفُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: مَا أَنَا
بِكَاهِنٍ، وَإِنَّمَا ذَلِكَ مِمَّا عَلَّمَنِيهِ رَبِّي،
إِنِّي لَا أُخْبِرُكُمَا بِهِ تَكَهُّنًا وَتَنْجِيمًا، بَلْ
هُوَ بِوَحْيٍ مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. وَقَالَ ابْنُ
جُرَيْجٍ: كَانَ الْمَلِكُ إِذَا أَرَادَ قَتْلَ إِنْسَانٍ
صَنَعَ لَهُ طَعَامًا مَعْرُوفًا فَأَرْسَلَ بِهِ إِلَيْهِ،
فَالْمَعْنَى: لَا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ فِي
الْيَقَظَةِ، فَعَلَى هَذَا" تُرْزَقانِهِ" أَيْ يَجْرِي
عَلَيْكُمَا مِنْ جِهَةِ الْمَلِكِ أَوْ غَيْرِهِ.
وَيَحْتَمِلُ يَرْزُقُكُمَا اللَّهُ. قَالَ الْحَسَنُ: كَانَ
يُخْبِرُهُمَا بِمَا غَابَ، كَعِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ.
وَقِيلَ: إِنَّمَا دَعَاهُمَا بِذَلِكَ إِلَى الْإِسْلَامِ،
وَجَعَلَ الْمُعْجِزَةَ الَّتِي يَسْتَدِلَّانِ بِهَا
إِخْبَارُهُمَا بِالْغُيُوبِ. قَوْلُهُ تَعَالَى:
(وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبائِي إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ
وَيَعْقُوبَ) لِأَنَّهُمْ أَنْبِيَاءُ عَلَى الْحَقِّ. (ما
كانَ) أي ما ينبغي لنا. (لَنا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ
شَيْءٍ) " مِنْ" للتأكيد، كقولك: ما جاءني من أحد. وقوله
تعالى: (ذلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنا) إِشَارَةٌ إِلَى
عصمته من الزنى. (وَعَلَى النَّاسِ) أَيْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ
الَّذِينَ عَصَمَهُمُ اللَّهُ مِنَ الشِّرْكِ. وَقِيلَ:" ذلِكَ
مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنا" إِذْ جَعَلْنَا أَنْبِيَاءَ،"
وَعَلَى النَّاسِ" إِذْ جَعَلْنَا الرُّسُلَ إِلَيْهِمْ.
(وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ) على نعمة «2»
التوحيد والإيمان.
__________
(1). من ى. وفى أوح وك وع: ليستعدا به.
(2). كذا في ع. وفى اوك وى: نعمه بالتوحيد.
(9/191)
يَا صَاحِبَيِ
السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ
الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (39) مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ
إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا
أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا
لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ
الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا
يَعْلَمُونَ (40)
[سورة يوسف (12): الآيات 39 الى 40]
يَا صاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ
اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ (39) مَا تَعْبُدُونَ مِنْ
دُونِهِ إِلاَّ أَسْماءً سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ
مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ إِنِ الْحُكْمُ
إِلاَّ لِلَّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ
ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا
يَعْلَمُونَ (40)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (يَا صاحِبَيِ السِّجْنِ) أَيْ يَا
سَاكِنَيِ السِّجْنِ، وَذَكَرَ الصُّحْبَةَ لِطُولِ
مَقَامِهِمَا فِيهِ، كقولك: أصحاب الجنة، وأصحاب النار.
(أَأَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ) أَيْ فِي الصِّغَرِ وَالْكِبْرِ
وَالتَّوَسُّطِ، أَوْ مُتَفَرِّقُونَ فِي الْعَدَدِ. (خَيْرٌ
أَمِ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ) وَقِيلَ: الْخِطَابُ
لَهُمَا وَلِأَهْلِ السِّجْنِ، وَكَانَ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ
أَصْنَامٌ يَعْبُدُونَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ تَعَالَى،
فَقَالَ ذَلِكَ إِلْزَامًا لِلْحُجَّةِ، أَيْ آلِهَةٌ شَتَّى
لَا تَضُرُّ وَلَا تَنْفَعُ." خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْواحِدُ
الْقَهَّارُ" الَّذِي قَهَرَ كُلَّ شي. نظيره:" آللَّهُ خَيْرٌ
أَمَّا يُشْرِكُونَ" «1» [النمل: 59]. وَقِيلَ: أَشَارَ
بِالتَّفَرُّقِ إِلَى أَنَّهُ لَوْ تَعَدَّدَ الْإِلَهُ
لَتَفَرَّقُوا فِي الْإِرَادَةِ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى
بَعْضٍ، وَبَيَّنَ أَنَّهَا إِذَا تَفَرَّقَتْ لَمْ تَكُنْ
آلِهَةٌ. قَوْلُهُ تَعَالَى: (مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ
إِلَّا أَسْماءً) بَيَّنَ عَجْزَ الْأَصْنَامِ وَضَعْفَهَا
فَقَالَ:" مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ" أَيْ مِنْ دُونِ
اللَّهِ إِلَّا ذَوَاتِ أَسْمَاءٍ لَا مَعَانِيَ لَهَا.
(سَمَّيْتُمُوها) مِنْ تِلْقَاءِ أَنْفُسِكُمْ. وَقِيلَ: عَنَى
بِالْأَسْمَاءِ الْمُسَمَّيَاتِ، أَيْ مَا تَعْبُدُونَ إِلَّا
أَصْنَامًا لَيْسَ لها من الإلهية شي إِلَّا الِاسْمُ،
لِأَنَّهَا جَمَادَاتٌ. وَقَالَ:" مَا تَعْبُدُونَ" وَقَدِ
ابْتَدَأَ بِخِطَابِ الِاثْنَيْنِ، لِأَنَّهُ قَصَدَ جَمِيعَ
مَنْ هُوَ عَلَى مِثْلِ حَالِهِمَا مِنَ الشِّرْكِ. (إِلَّا
أَسْماءً سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ)
فَحَذَفَ، الْمَفْعُولَ الثَّانِيَ لِلدَّلَالَةِ،
وَالْمَعْنَى: سَمَّيْتُمُوهَا آلِهَةً مِنْ عِنْدِ
أَنْفُسِكُمْ. (مَا أَنْزَلَ اللَّهُ) ذَلِكَ فِي كِتَابٍ.
قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: (مِنْ سُلْطانٍ) أَيْ مِنْ
حُجَّةٍ. (إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ) الَّذِي هُوَ
خَالِقُ الْكُلِّ. (أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا
إِيَّاهُ). (ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ). أَيِ الْقَوِيمُ.
(وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ)
__________
(1). راجع ج 13 ص 219.
(9/192)
يَا صَاحِبَيِ
السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْرًا
وَأَمَّا الْآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ
رَأْسِهِ قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ (41)
[سورة يوسف (12): آية 41]
يا صاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُما فَيَسْقِي رَبَّهُ
خَمْراً وَأَمَّا الْآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ
مِنْ رَأْسِهِ قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيانِ
(41)
فِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى: (أَمَّا
أَحَدُكُما فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْراً) أَيْ قَالَ لِلسَّاقِي:
إِنَّكَ تُرَدُّ عَلَى عَمَلِكَ الَّذِي كُنْتَ عَلَيْهِ مِنْ
سَقْيِ الْمَلِكِ بَعْدَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، وَقَالَ
لِلْآخَرِ: وَأَمَّا أَنْتَ فَتُدْعَى إِلَى ثَلَاثَةِ
أَيَّامٍ فَتُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِكَ،
قَالَ: وَاللَّهِ مَا رَأَيْتُ شَيْئًا، قَالَ: رَأَيْتَ أَوْ
لَمْ تَرَ (قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيانِ).
وَحَكَى أَهْلُ اللُّغَةِ أَنَّ سَقَى وَأَسْقَى لُغَتَانِ
بِمَعْنًى وَاحِدٍ، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ «1»:
سَقَى قَوْمِي بَنِي مَجْدٍ وَأَسْقَى ... نُمَيْرًا
وَالْقَبَائِلَ مِنْ هِلَالِ
قَالَ النَّحَّاسُ: الَّذِي عَلَيْهِ أَكْثَرُ أَهْلِ
اللُّغَةِ أَنَّ مَعْنَى سَقَاهُ نَاوَلَهُ فَشَرِبَ، أَوْ
صَبَّ الْمَاءَ فِي حَلْقِهِ وَمَعْنَى أَسْقَاهُ جَعَلَ لَهُ
سُقْيًا، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:" وَأَسْقَيْناكُمْ ماءً
فُراتاً" «2» [المرسلات: 27]. الثَّانِيَةُ- قَالَ
عُلَمَاؤُنَا: إِنْ قِيلَ مَنْ كَذَبَ فِي رُؤْيَاهُ
فَفَسَّرَهَا الْعَابِرُ لَهُ أَيَلْزَمُهُ حُكْمُهَا؟
قُلْنَا: لَا يَلْزَمُهُ، وَإِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ فِي يُوسُفَ
لِأَنَّهُ نَبِيٌّ، وَتَعْبِيرُ النَّبِيِّ حُكْمٌ، وَقَدْ
قَالَ: إِنَّهُ يَكُونُ كَذَا وَكَذَا فَأَوْجَدَ اللَّهُ
تَعَالَى مَا أَخْبَرَ كَمَا قَالَ تَحْقِيقًا لِنُبُوَّتِهِ،
فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ رَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ
عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى عُمَرَ بْنِ
الْخَطَّابِ فَقَالَ: إِنِّي رَأَيْتُ كَأَنِّي أَعْشَبْتُ
ثُمَّ أَجْدَبْتُ ثُمَّ أَعْشَبْتُ ثُمَّ أَجْدَبْتُ، فَقَالَ
لَهُ عُمَرُ: أَنْتَ رَجُلٌ تُؤْمِنُ ثُمَّ تَكْفُرُ، ثُمَّ
تُؤْمِنُ ثُمَّ تَكْفُرُ، ثُمَّ تَمُوتُ كَافِرًا، فَقَالَ
الرَّجُلُ: مَا رَأَيْتُ شَيْئًا، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: قَدْ
قُضِيَ لَكَ مَا قُضِيَ لِصَاحِبِ يُوسُفَ، قُلْنَا: لَيْسَتْ
لِأَحَدٍ بَعْدَ عُمَرَ، لِأَنَّ عُمَرَ كَانَ مُحَدَّثًا «3»،
[وَكَانَ إِذَا ظَنَّ «4» ظنا كان]
__________
(1). هو لبيد، ومجد: ابنة تيم بن غالب بن فهر، وهى أم كلاب
وكليب بنى ربيعة. وفاعل سقى هو المطر. [ ..... ]
(2). راجع ج 29 ص 158.
(3). محدث: ملهم، أو يلقى في روعه الشيء، أو يجرى الصواب على
لسانه من غير قصد. (القسطلاني). والمحدث: الذي يحدثه الملك
ايضا. أي يلقى في نفسه.
(4). من ع وك وووى.
(9/193)
وَقَالَ لِلَّذِي
ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِنْهُمَا اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ
فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي
السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ (42)
وَإِذَا تَكَلَّمَ بِهِ وَقَعَ، عَلَى مَا
وَرَدَ فِي أَخْبَارِهِ، وَهِيَ كَثِيرَةٌ، مِنْهَا- أَنَّهُ
دَخَلَ عَلَيْهِ رَجُلٌ فَقَالَ لَهُ: أَظُنُّكَ كَاهِنًا
فَكَانَ كَمَا ظَنَّ، خَرَّجَهُ الْبُخَارِيُّ. وَمِنْهَا-
أَنَّهُ سَأَلَ رَجُلًا عَنِ اسْمِهِ فَقَالَ لَهُ فِيهِ
أَسْمَاءَ النَّارِ كُلِّهَا، فَقَالَ لَهُ: أَدْرِكْ أَهْلَكَ
فَقَدِ احْتَرَقُوا، فَكَانَ كَمَا قَالَ: خَرَّجَهُ
الْمُوَطَّأُ. وَسَيَأْتِي لِهَذَا مَزِيدُ بَيَانٍ فِي
سُورَةِ" الْحِجْرِ" «1» إِنْ شاء الله تعالى.
[سورة يوسف (12): آية 42]
وَقالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ ناجٍ مِنْهُمَا اذْكُرْنِي
عِنْدَ رَبِّكَ فَأَنْساهُ الشَّيْطانُ ذِكْرَ رَبِّهِ
فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ (42)
فِيهِ خَمْسُ مَسَائِلَ: الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى:
(وَقالَ لِلَّذِي ظَنَّ) "" ظَنَّ" هُنَا بِمَعْنَى أَيْقَنَ،
فِي قَوْلِ أَكْثَرِ الْمُفَسِّرِينَ وَفَسَّرَهُ قَتَادَةُ
عَلَى الظَّنِّ الَّذِي هُوَ خِلَافُ الْيَقِينِ، قَالَ:
إِنَّمَا ظَنَّ يُوسُفُ نَجَاتَهُ لِأَنَّ الْعَابِرَ يَظُنُّ
ظَنَّا وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ، وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ
وَأَشْبَهُ بِحَالِ الْأَنْبِيَاءِ وَأَنَّ مَا قَالَهُ
لِلْفَتَيَيْنِ فِي تَعْبِيرِ الرُّؤْيَا كَانَ عَنْ وَحْيٍ،
وَإِنَّمَا يَكُونُ ظَنًّا فِي حُكْمِ النَّاسِ، وَأَمَّا فِي
حَقِّ الْأَنْبِيَاءِ فَإِنَّ حُكْمَهُمْ حَقٌّ كَيْفَمَا
وَقَعَ. الثَّانِيَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى:" (اذْكُرْنِي عِنْدَ
رَبِّكَ) " أَيْ سَيِّدِكَ، وَذَلِكَ مَعْرُوفٌ فِي اللُّغَةِ
أَنْ يُقَالَ لِلسَّيِّدِ رَبٌّ، قَالَ الْأَعْشَى:
رَبِّي كَرِيمٌ لَا يُكَدِّرُ نِعْمَةً ... وَإِذَا تُنُوشِدَ
«2» فِي المهارق أَنْشَدَا
أَيِ اذْكُرْ مَا رَأَيْتَهُ، وَمَا أَنَا عَلَيْهِ مِنْ
عِبَارَةِ الرُّؤْيَا لِلْمَلِكِ، وَأَخْبِرْهُ أَنِّي
مَظْلُومٌ مَحْبُوسٌ بِلَا ذَنْبٍ. وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ
وَغَيْرِهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" لَا يَقُلْ أحدكم اسق ربك
أطعم ربك وضي رَبّكَ وَلَا يَقُلْ أَحَدُكُمْ رَبِّي
وَلْيَقُلْ سَيِّدِي مَوْلَايَ وَلَا يَقُلْ أَحَدُكُمْ
عَبْدِي أَمَتِي وَلْيَقُلْ فَتَايَ فَتَاتِي غُلَامِي". وَفِي
الْقُرْآنِ:" اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ"" إلى
__________
(1). راجع ج 10 ص 42.
(2). ويروى: (يناشد بالمهارق) يقول: إذا نوشد بما في الكتب
أجاب، أي إذا سئل أعطى. والمهرق: الصحيفة.
(9/194)
ربك"" إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوايَ"
[يوسف: 23] أَيْ صَاحِبِي، يَعْنِي الْعَزِيزَ. وَيُقَالُ
لِكُلِّ مَنْ قام بإصلاح شي وَإِتْمَامِهِ: قَدْ رَبَّهُ
يَرُبُّهُ، فَهُوَ رَبٌّ لَهُ. قال العلماء قول عَلَيْهِ
السَّلَامُ:" لَا يَقُلْ أَحَدُكُمْ"" وَلْيَقُلْ" مِنْ بَابِ
الْإِرْشَادِ إِلَى إِطْلَاقِ اسْمِ الْأَوْلَى، لَا أَنَّ
إِطْلَاقَ ذَلِكَ الِاسْمِ مُحَرَّمٌ، وَلِأَنَّهُ قَدْ جَاءَ
عَنْهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ" أَنْ تَلِدَ الْأَمَةُ رَبَّهَا"
أَيْ مَالِكَهَا وَسَيِّدَهَا، وَهَذَا مُوَافِقٌ لِلْقُرْآنِ
فِي إِطْلَاقِ ذَلِكَ اللَّفْظِ، فَكَانَ مَحَلُّ النَّهْيِ
فِي هَذَا الْبَابِ أَلَّا نَتَّخِذَ هَذِهِ الْأَسْمَاءَ
عَادَةً فَنَتْرُكُ الْأَوْلَى وَالْأَحْسَنُ. وَقَدْ قِيلَ:
إِنَّ قَوْلَ الرَّجُلِ عَبْدِي وَأَمَتِي يَجْمَعُ
مَعْنَيَيْنِ: أَحَدُهُمَا- أَنَّ الْعُبُودِيَّةَ
بِالْحَقِيقَةِ إِنَّمَا هِيَ لِلَّهِ تَعَالَى، فَفِي قَوْلِ
الْوَاحِدِ مِنَ النَّاسِ لِمَمْلُوكِهِ عَبْدِي وَأَمَتِي
تَعْظِيمٌ عَلَيْهِ، وَإِضَافَةٌ لَهُ إِلَى نَفْسِهِ بِمَا
أَضَافَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ إِلَى نَفْسِهِ، وَذَلِكَ
غَيْرُ جَائِزٍ. وَالثَّانِي- أَنَّ الْمَمْلُوكَ يَدْخُلُهُ
من ذلك شي فِي اسْتِصْغَارِهِ بِتِلْكَ التَّسْمِيَةِ،
فَيَحْمِلُهُ ذَلِكَ عَلَى سُوءِ الطَّاعَةِ. وَقَالَ ابْنُ
شَعْبَانَ فِي" الزَّاهِي":" لَا يَقُلِ السَّيِّدُ عَبْدِي
وَأَمَتِي وَلَا يَقُلِ الْمَمْلُوكُ رَبِّي وَلَا رَبَّتِي"
وَهَذَا مَحْمُولٌ عَلَى ما ذكرناه. وَقِيلَ: إِنَّمَا قَالَ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ" لَا يَقُلِ الْعَبْدُ
رَبِّي وَلْيَقُلْ سَيِّدِي" لِأَنَّ الرَّبَّ مِنْ أَسْمَاءِ
اللَّهِ تَعَالَى الْمُسْتَعْمَلَةِ بِالِاتِّفَاقِ،
وَاخْتُلِفَ فِي السَّيِّدِ هَلْ هُوَ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ
تَعَالَى أَمْ لَا؟ فَإِذَا قُلْنَا لَيْسَ مِنْ أَسْمَاءِ
اللَّهِ فَالْفَرْقُ وَاضِحٌ، إِذْ لَا الْتِبَاسَ وَلَا
إِشْكَالَ، وَإِذَا قُلْنَا إِنَّهُ مِنْ أَسْمَائِهِ فَلَيْسَ
فِي الشُّهْرَةِ وَلَا الِاسْتِعْمَالِ كَلَفْظِ الرَّبِّ،
فَيَحْصُلُ الْفَرْقُ. وَقَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: يَحْتَمِلُ
أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ جَائِزًا فِي شَرْعِ يُوسُفَ عَلَيْهِ
السَّلَامُ. الثَّالِثَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (فَأَنْساهُ
الشَّيْطانُ ذِكْرَ رَبِّهِ) الضَّمِيرُ فِي" فَأَنْساهُ"
فِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا- أَنَّهُ عَائِدٌ إِلَى يُوسُفَ
عَلَيْهِ السَّلَامُ، أَيْ أَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ
اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَذَلِكَ أَنَّهُ لَمَّا قَالَ يُوسُفُ
لِسَاقِي الْمَلِكِ- حِينَ عَلِمَ أَنَّهُ سَيَنْجُو وَيَعُودُ
إِلَى حَالَتِهِ الْأُولَى مَعَ الْمَلِكِ-" اذْكُرْنِي عِنْدَ
رَبِّكَ" نَسِيَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ أَنْ يَشْكُوَ إِلَى
اللَّهِ ويستغيث به، وجنح إلى الاعتصام بمخلوق، فعقب
بِاللَّبْثِ. قَالَ عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عُمَيْرٍ
الْكِنْدِيُّ: دَخَلَ جِبْرِيلُ عَلَى يُوسُفَ النَّبِيِّ
عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي السِّجْنِ فَعَرَفَهُ يُوسُفُ،
فَقَالَ: يَا أَخَا المنذرين! مالي أَرَاكَ بَيْنَ
الْخَاطِئِينَ؟! فَقَالَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: يا
طاهر [ابن «1»] الطاهرين! يقرئك
__________
(1). من ع.
(9/195)
السَّلَامَ رَبُّ الْعَالَمِينَ وَيَقُولُ:
أَمَا اسْتَحَيْتَ إِذِ اسْتَغَثْتَ «1» بِالْآدَمِيِّينَ؟!
وَعِزَّتِي! لَأُلْبِثَنَّكَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ،
فَقَالَ: يَا جِبْرِيلُ! أَهُوَ عَنِّي رَاضٍ؟ قَالَ: نَعَمْ!
قَالَ: لَا أُبَالِي السَّاعَةَ. وَرُوِيَ أَنَّ جِبْرِيلَ
عَلَيْهِ السَّلَامُ جَاءَهُ فَعَاتَبَهُ عَنِ اللَّهِ
تَعَالَى فِي ذَلِكَ وَطُولِ سِجْنِهِ، وَقَالَ لَهُ: يَا
يُوسُفُ! مَنْ خَلَّصَكَ مِنَ الْقَتْلِ مِنْ أَيْدِي
إِخْوَتِكَ؟! قَالَ: اللَّهُ تَعَالَى، قَالَ: فَمَنْ
أَخْرَجَكَ مِنَ الْجُبِّ؟ قَالَ: اللَّهُ تَعَالَى قَالَ:
فَمَنْ عَصَمَكَ مِنَ الْفَاحِشَةِ؟ قَالَ: اللَّهُ تَعَالَى،
قَالَ: فَمَنْ صَرَفَ عَنْكَ كَيْدَ النِّسَاءِ؟ قَالَ:
اللَّهُ تَعَالَى، قَالَ: فَكَيْفَ وَثِقْتَ بِمَخْلُوقٍ
وَتَرَكْتَ رَبَّكَ فَلَمْ تَسْأَلْهُ؟! قَالَ: يَا رَبِّ
كَلِمَةٌ زَلَّتْ مِنِّي! أَسْأَلُكَ يَا إِلَهَ إِبْرَاهِيمَ
وَإِسْحَاقَ وَالشَّيْخِ يَعْقُوبَ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ أَنْ
«2» تَرْحَمَنِي، فَقَالَ لَهُ جِبْرِيلُ: فَإِنَّ عُقُوبَتَكَ
أَنْ تَلْبَثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ. وَرَوَى أَبُو
سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" رَحِمَ اللَّهُ يُوسُفَ
لَوْلَا الْكَلِمَةُ الَّتِي قَالَ:" اذْكُرْنِي عِنْدَ
رَبِّكَ" مَا لَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ". وَقَالَ
ابْنُ عَبَّاسٍ: عُوقِبَ يُوسُفُ بِطُولِ الْحَبْسِ بِضْعَ
سِنِينَ لَمَّا قَالَ لِلَّذِي نَجَا مِنْهُمَا" اذْكُرْنِي
عِنْدَ رَبِّكَ" وَلَوْ ذَكَرَ يُوسُفُ رَبَّهُ لَخَلَّصَهُ.
وَرَوَى إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ عَنْ يُونُسَ عَنِ
الْحَسَنِ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" لَوْلَا كَلِمَةُ يُوسُفَ- يَعْنِي
قَوْلَهُ:" اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ"- مَا لَبِثَ فِي
السِّجْنِ مَا لَبِثَ" قَالَ: ثُمَّ يَبْكِي الْحَسَنُ
وَيَقُولُ: نَحْنُ يَنْزِلُ بِنَا الْأَمْرُ فَنَشْكُو إِلَى
النَّاسِ. وَقِيلَ: إِنَّ الْهَاءَ تَعُودُ عَلَى النَّاجِي،
فَهُوَ النَّاسِي، أَيْ أَنْسَى الشَّيْطَانُ السَّاقِيَ أَنْ
يَذْكُرَ يُوسُفَ لِرَبِّهِ، أَيْ لِسَيِّدِهِ، وَفِيهِ
حَذْفٌ، أَيْ أَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَهُ لِرَبِّهِ،
وَقَدْ رَجَّحَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ هَذَا الْقَوْلَ فَقَالَ:
لَوْلَا أَنَّ الشَّيْطَانَ أَنْسَى يُوسُفَ ذِكْرَ اللَّهِ
لَمَا اسْتَحَقَّ الْعِقَابَ بِاللَّبْثِ فِي السِّجْنِ، إِذِ
النَّاسِي غَيْرُ مُؤَاخَذٍ. وَأَجَابَ أَهْلُ الْقَوْلِ
الْأَوَّلِ بِأَنَّ النِّسْيَانَ قَدْ يَكُونُ بِمَعْنَى
التَّرْكِ، فَلَمَّا تَرَكَ ذِكْرَ اللَّهِ وَدَعَاهُ
الشَّيْطَانُ إِلَى ذَلِكَ عُوقِبَ، رَدَّ عَلَيْهِمْ أَهْلُ
الْقَوْلِ الثَّانِي بِقَوْلِهِ تَعَالَى:" وَقالَ الَّذِي
نَجا مِنْهُما وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ" [يوسف: 45] فَدَلَّ
عَلَى أَنَّ النَّاسِيَ [هُوَ «3»] السَّاقِي لَا يُوسُفُ،
مَعَ قَوْلِهِ تَعَالَى:" إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ
عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ" «4» [الحجر: 42] فَكَيْفَ يَصِحُّ أَنْ
يُضَافَ نِسْيَانُهُ إِلَى الشَّيْطَانِ، وَلَيْسَ لَهُ عَلَى
الْأَنْبِيَاءِ سَلْطَنَةٌ؟! قِيلَ: أَمَّا
__________
(1). فاستشفعت.
(2). في ع وى: إلا رحمتني.
(3). من ع.
(4). راجع ج 10 ص 28.
(9/196)
النِّسْيَانُ فَلَا عِصْمَةَ
لِلْأَنْبِيَاءِ عَنْهُ إِلَّا فِي وَجْهٍ وَاحِدٍ، وَهُوَ
الْخَبَرُ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى فِيمَا يُبَلِّغُونَهُ،
فَإِنَّهُمْ مَعْصُومُونَ فِيهِ، وَإِذَا وَقَعَ مِنْهُمُ
النِّسْيَانُ حَيْثُ يَجُوزُ وُقُوعُهُ فَإِنَّهُ يُنْسَبُ
إِلَى الشَّيْطَانِ إِطْلَاقًا، وَذَلِكَ إِنَّمَا يَكُونُ
فِيمَا أَخْبَرَ اللَّهُ عَنْهُمْ، وَلَا يَجُوزُ لَنَا نَحْنُ
ذَلِكَ فِيهِمْ، قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:"
نَسِيَ آدَمُ فَنَسِيَتْ ذُرِّيَّتُهُ". وَقَالَ:" إِنَّمَا
أَنَا بَشَرٌ أَنْسَى كَمَا تَنْسَوْنَ". وَقَدْ تَقَدَّمَ.
الرَّابِعَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ
بِضْعَ سِنِينَ) الْبِضْعُ قِطْعَةٌ مِنَ الدَّهْرِ مُخْتَلَفٌ
فِيهَا، قَالَ يَعْقُوبُ عَنْ أَبِي زَيْدٍ «1»: يُقَالُ
بِضْعُ وَبَضْعُ بِفَتْحِ الْبَاءِ وَكَسْرِهَا، قَالَ
أَكْثَرُهُمْ: وَلَا يُقَالُ بِضْعُ وَمِائَةٍ، وَإِنَّمَا
هُوَ إِلَى التِّسْعِينَ. وَقَالَ الْهَرَوِيُّ: الْعَرَبُ
تَسْتَعْمِلُ الْبِضْعَ فِيمَا بَيْنَ الثَّلَاثِ إِلَى
التِّسْعِ. وَالْبِضْعُ وَالْبِضْعَةُ وَاحِدٌ، وَمَعْنَاهُمَا
الْقِطْعَةُ مِنَ الْعَدَدِ. وَحَكَى أَبُو عُبَيْدَةَ أَنَّهُ
قَالَ: الْبِضْعُ مَا دُونَ نِصْفِ الْعَقْدِ، يُرِيدُ مَا
بَيْنَ الْوَاحِدِ إِلَى أَرْبَعَةٍ، وَهَذَا لَيْسَ بِشَيْءٍ.
وَفِي الْحَدِيثِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِأَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ:" وَكَمِ الْبِضْعُ" فَقَالَ: مَا بَيْنَ
الثَّلَاثِ إِلَى السَّبْعِ. فَقَالَ:" اذْهَبْ فَزَائِدْ فِي
الْخَطَرِ" «2». وَعَلَى هَذَا أَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ،
أَنَّ الْبِضْعَ سَبْعٌ، حَكَاهُ الثَّعْلَبِيُّ. قَالَ
الْمَاوَرْدِيُّ: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَقُطْرُبٍ. وقال مجاهد: من ثلاث إلى
تسع، وقال الْأَصْمَعِيُّ. ابْنُ عَبَّاسٍ: مِنْ ثَلَاثٍ إِلَى
عَشْرَةٍ. وَحَكَى الزَّجَّاجُ أَنَّهُ مَا بَيْنَ الثَّلَاثِ
إِلَى الخمس. قال الفراء: والبضع لا يذكر الْعَشَرَةِ
وَالْعِشْرِينَ إِلَى التِّسْعِينَ، وَلَا يُذْكَرُ بَعْدَ
الْمِائَةِ. وَفِي الْمُدَّةِ الَّتِي لَبِثَ فِيهَا يُوسُفُ
مَسْجُونًا ثَلَاثَةُ أَقَاوِيلَ: أَحَدُهَا- سَبْعُ سِنِينَ،
قَالَهُ ابن جريج وقتادة ووهب بن منه، قَالَ وَهْبٌ: أَقَامَ
أَيُّوبُ فِي الْبَلَاءِ سَبْعَ سِنِينَ، وَأَقَامَ يُوسُفُ
فِي السِّجْنِ سَبْعَ سِنِينَ. الثاني- اثنتا عشرة سنة، قال
ابن عباس. الثالث- أربع عشرة
__________
(1). كذا في ع وك. وهو الذي عليه اللسان. وفى اوى: ابن زيد.
(2). الخطر (بالتحريك): الرهن والحظ والحديث في شأن مراهنة أبى
بكر الصديق رضى الله عنه لقريش على غلبة الروم، وكان المسلمون
يحبون غلبة الروم على فارس، لأنهم وإياهم أهل كتاب، وكانت قريش
لا تحب ذلك، لأنهم وفارس ليسوا بأهل كتاب ولا إيمان يبعث، وقد
جعل أبو بكر الأجل بينه وبينهم ست سنين على رواية، وثلاث سنين
على أخرى، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ:" اذهب فزائد في الخطر ومادد في الأجل" وكان ذلك قبل
تحريم الرهان. راجع صحيح الترمذي في تفسير أول سورة الروم.
(9/197)
وَقَالَ الْمَلِكُ
إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ
عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ يَا
أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ إِنْ كُنْتُمْ
لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ (43)
سَنَةً، قَالَهُ الضَّحَّاكُ. وَقَالَ
مُقَاتِلٌ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: مَكَثَ
يُوسُفُ فِي السِّجْنِ خَمْسًا وَبِضْعًا. وَاشْتِقَاقُهُ مِنْ
بَضَعْتُ الشَّيْءَ أَيْ قَطَعْتُهُ، فَهُوَ قِطْعَةٌ مِنَ
الْعَدَدِ، فَعَاقَبَ اللَّهُ يُوسُفَ بِأَنْ حُبِسَ سَبْعَ
سِنِينَ أَوْ تِسْعَ سِنِينَ بَعْدَ الْخَمْسِ الَّتِي مَضَتْ،
فَالْبِضْعُ مُدَّةُ الْعُقُوبَةِ لَا مُدَّةُ الْحَبْسِ
كُلِّهِ. قَالَ وَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ: حُبِسَ يُوسُفُ فِي
السِّجْنِ سَبْعَ سِنِينَ، وَمَكَثَ أَيُّوبُ فِي الْبَلَاءِ
سَبْعَ سنين، وعذب بخت نصر بِالْمَسْخِ سَبْعَ سِنِينَ.
وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَاشِدٍ الْبَصْرِيُّ عَنْ
سَعِيدِ بْنِ أَبِي عَرُوبَةَ: إِنَّ الْبِضْعَ مَا بَيْنَ
الْخَمْسِ إِلَى الِاثْنَتَيْ عَشْرَةَ سَنَةً. الْخَامِسَةُ-
فِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ التَّعَلُّقِ
بِالْأَسْبَابِ وَإِنْ كَانَ الْيَقِينُ حَاصِلًا فَإِنَّ
الْأُمُورَ بِيَدِ مُسَبِّبِهَا، وَلَكِنَّهُ جَعَلَهَا
سِلْسِلَةً، وَرَكَّبَ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ، فَتَحْرِيكُهَا
سُنَّةٌ، وَالتَّعْوِيلُ عَلَى الْمُنْتَهَى يَقِينٌ.
وَالَّذِي يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ ذَلِكَ نِسْبَةُ مَا جَرَى
مِنَ النِّسْيَانِ إِلَى الشَّيْطَانِ كَمَا جَرَى لِمُوسَى
فِي لُقْيَا الخضر، وهذا بين فتأملوه.
[سورة يوسف (12): آية 43]
وَقالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرى سَبْعَ بَقَراتٍ سِمانٍ
يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ
وَأُخَرَ يابِساتٍ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي
رُءْيايَ إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّءْيا تَعْبُرُونَ (43)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَقالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرى سَبْعَ
بَقَراتٍ سِمانٍ) لَمَّا دَنَا فَرَجُ يُوسُفَ عَلَيْهِ
السَّلَامُ رَأَى الْمَلِكُ رُؤْيَاهُ، فَنَزَلَ جِبْرِيلُ
فَسَلَّمَ عَلَى يُوسُفَ وَبَشَّرَهُ بِالْفَرَجِ وَقَالَ:
إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجُكَ مِنْ سِجْنِكَ، وَمُمَكِّنٌ لَكَ فِي
الْأَرْضِ، يَذِلُّ لَكَ مُلُوكَهَا، وَيُطِيعُكَ
جَبَابِرَتُهَا، وَمُعْطِيكَ الْكَلِمَةَ الْعُلْيَا عَلَى
إِخْوَتِكَ، وَذَلِكَ بِسَبَبِ رُؤْيَا رَآهَا الْمَلِكُ،
وَهِيَ كَيْتُ وَكَيْتُ، وَتَأْوِيلُهَا كَذَا وَكَذَا، فَمَا
لَبِثَ فِي السِّجْنِ أَكْثَرَ مِمَّا رَأَى الْمَلِكُ
الرُّؤْيَا حَتَّى خَرَجَ، فَجَعَلَ اللَّهُ الرُّؤْيَا
أَوَّلًا لِيُوسُفَ بَلَاءً وَشِدَّةً، وَجَعَلَهَا آخِرًا
بُشْرَى وَرَحْمَةً، وَذَلِكَ أَنَّ الْمَلِكَ الْأَكْبَرَ
الرَّيَّانَ بْنَ الْوَلِيدِ رَأَى فِي نَوْمِهِ كَأَنَّمَا
خَرَجَ مِنْ نَهْرٍ يَابِسٍ سَبْعُ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ، فِي
أَثَرِهِنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ- أَيْ مَهَازِيلُ- وَقَدْ
أَقْبَلَتِ الْعِجَافُ عَلَى السِّمَانِ فَأَخَذْنَ
بِآذَانِهِنَّ فَأَكَلْنَهُنَّ، إِلَّا الْقَرْنَيْنِ، وَرَأَى
سَبْعَ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ قَدْ أَقْبَلَ
(9/198)
عَلَيْهِنَّ سَبْعٌ يَابِسَاتٍ
فَأَكَلْنَهُنَّ حَتَّى أَتَيْنَ عَلَيْهِنَّ فلم يبق منهن شي
وَهُنَّ يَابِسَاتٌ، وَكَذَلِكَ الْبَقَرُ كُنَّ عِجَافًا
فَلَمْ يزد فيهن شي مِنْ أَكْلِهِنَّ السِّمَانَ، فَهَالَتْهُ
الرُّؤْيَا، فَأَرْسَلَ إِلَى النَّاسِ وَأَهْلِ الْعِلْمِ
مِنْهُمْ وَالْبَصَرِ بِالْكَهَانَةِ وَالنَّجَامَةِ
وَالْعَرَافَةِ وَالسِّحْرِ، وَأَشْرَافِ قَوْمِهِ، فَقَالَ:"
يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُءْيايَ" فقص عليهم،
فقال القوم:" أَضْغاثُ أَحْلامٍ" [يوسف: 44] قَالَ ابْنُ
جُرَيْجٍ قَالَ لِي عَطَاءٌ: إِنَّ أَضْغَاثَ الْأَحْلَامِ
الْكَاذِبَةِ الْمُخْطِئَةِ مِنَ الرُّؤْيَا. وَقَالَ
جُوَيْبِرٌ عَنِ الضَّحَّاكِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: إِنَّ
الرُّؤْيَا مِنْهَا حَقٌّ، وَمِنْهَا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ،
يَعْنِي بِهَا الْكَاذِبَةَ. وَقَالَ الْهَرَوِيُّ: قَوْلُهُ
تَعَالَى:" أَضْغاثُ أَحْلامٍ" أَيْ أَخْلَاطُ أَحْلَامٍ.
وَالضِّغْثُ فِي اللُّغَةِ الْحُزْمَةُ مِنَ الشَّيْءِ
كَالْبَقْلِ وَالْكَلَأِ وَمَا أَشْبَهَهُمَا، أَيْ قَالُوا:
لَيْسَتْ رُؤْيَاكَ بِبَيِّنَةٍ، وَالْأَحْلَامُ الرُّؤْيَا
الْمُخْتَلِطَةُ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: أَضْغَاثُ الرُّؤْيَا
أَهَاوِيلُهَا. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: الْأَضْغَاثُ مَا
لَا تَأْوِيلَ لَهُ مِنَ الرُّؤْيَا. قَوْلُهُ تَعَالَى:"
سَبْعَ بَقَراتٍ سِمانٍ" حُذِفَتِ الْهَاءُ مِنْ" سَبْعَ"
فَرْقًا بَيْنَ الْمُذَكَّرِ وَالْمُؤَنَّثِ" سِمانٍ" مِنْ
نَعْتِ الْبَقَرَاتِ، وَيَجُوزُ فِي غَيْرِ الْقُرْآنِ سَبْعَ
بَقَرَاتٍ سِمَانًا، نَعْتٌ لِلسَّبْعِ، وَكَذَا خُضْرًا،
قَالَ الْفَرَّاءُ: وَمِثْلُهُ." سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً" «1»
[نوح: 15]. وَقَدْ مَضَى فِي سُورَةِ" الْبَقَرَةِ" «2»
اشْتِقَاقُهَا «3» وَمَعْنَاهَا. وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي
طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: الْمَعْزُ وَالْبَقَرُ إِذَا
دَخَلَتِ الْمَدِينَةَ فَإِنْ كَانَتْ سِمَانًا فَهِيَ سِنِي
«4» رَخَاءٍ، وَإِنْ كَانَتْ عِجَافًا كَانَتْ شِدَادًا،
وَإِنْ كَانَتِ الْمَدِينَةُ مَدِينَةَ بَحْرٍ وَإِبَّانَ
سَفَرٍ قَدِمَتْ سُفُنٌ عَلَى عَدَدِهَا وَحَالِهَا، وَإِلَّا
كَانَتْ فِتَنًا مُتَرَادِفَةً، كَأَنَّهَا وُجُوهُ الْبَقَرِ،
كَمَا فِي الْخَبَرِ" يُشْبِهُ بَعْضُهَا بَعْضًا". وَفِي
خَبَرٍ آخَرَ فِي الْفِتَنِ" كَأَنَّهَا صَيَاصِي الْبَقَرِ"
«5» يُرِيدُ لِتُشَابِهِهَا، إِلَّا أَنْ تَكُونَ صُفْرًا
كُلَّهَا فَإِنَّهَا أَمْرَاضٌ تَدْخُلُ عَلَى النَّاسِ،
وَإِنْ كَانَتْ مُخْتَلِفَةَ الْأَلْوَانِ، شَنِيعَةَ
الْقُرُونِ وَكَانَ النَّاسُ يَنْفِرُونَ مِنْهَا، أَوْ
كَأَنَّ النَّارَ وَالدُّخَانَ يَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهَا
فَإِنَّهُ عَسْكَرٌ أَوْ غَارَةٌ، أَوْ عَدُوٌّ يَضْرِبُ
عَلَيْهِمْ، وَيَنْزِلُ بِسَاحَتِهِمْ. وَقَدْ تَدُلُّ
الْبَقَرَةُ عَلَى الزَّوْجَةِ وَالْخَادِمِ وَالْغَلَّةِ
وَالسَّنَةِ، لِمَا يَكُونُ فِيهَا مِنَ الْوَلَدِ
وَالْغَلَّةِ وَالنَّبَاتِ. (يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ)
مِنْ عَجُفَ يَعْجُفُ، عَلَى وَزْنٍ عَظُمَ يَعْظُمُ، وَرُوِيَ
عَجِفَ يَعْجَفُ عَلَى وَزْنِ حمد يحمد.
__________
(1). راجع ج 18 ص 208.
(2). راجع ج 1 ص 216. [ ..... ]
(3). في ع: اشتقاق البقرة.
(4). في ع وو: سنين رخاء.
(5). صياصي البقر: قرونها.
(9/199)
قَالُوا أَضْغَاثُ
أَحْلَامٍ وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلَامِ بِعَالِمِينَ
(44)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (يَا أَيُّهَا
الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُءْيايَ) جمع الرؤيا رئي: أَيْ
أَخْبِرُونِي بِحُكْمِ هَذِهِ الرُّؤْيَا. (إِنْ كُنْتُمْ
لِلرُّءْيا تَعْبُرُونَ) العبارة مشتقة من عبور النهر، فمتى
عَبَرْتُ النَّهْرَ، بَلَغْتُ شَاطِئَهُ، فَعَابِرُ،
الرُّؤْيَا «1» يُعَبِّرُ بما يؤول إليه أمرها. واللام في"
لِلرُّءْيا" لِلتَّبْيِينِ، أَيْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْبُرُونَ،
ثُمَّ بَيَّنَ فقال: للرؤيا، قاله الزجاج.
[سورة يوسف (12): آية 44]
قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ وَما نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلامِ
بِعالِمِينَ (44)
فِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى: (أَضْغاثُ
أَحْلامٍ) قَالَ الْفَرَّاءُ: وَيَجُوزُ" أَضْغاثُ أَحْلامٍ"
قَالَ النَّحَّاسُ: النَّصْبُ بَعِيدٌ، لِأَنَّ الْمَعْنَى:
لَمْ تَرَ شَيْئًا لَهُ تَأْوِيلٌ، إِنَّمَا هِيَ أَضْغَاثُ
أَحْلَامٍ، أَيْ أَخْلَاطٌ. وَوَاحِدُ الْأَضْغَاثِ ضِغْثٌ،
يُقَالُ لِكُلِّ مُخْتَلِطٍ مِنْ بَقْلٍ أَوْ حَشِيشٍ أَوْ
غَيْرِهِمَا ضِغْثٌ، قَالَ الشَّاعِرُ:
كَضِغْثِ حُلْمٍ غُرَّ مِنْهُ حَالِمُهُ
(وَما نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلامِ بِعالِمِينَ) قَالَ
الزَّجَّاجُ: الْمَعْنَى بِتَأْوِيلِ الْأَحْلَامِ
الْمُخْتَلِطَةِ، نَفَوْا عَنْ أَنْفُسِهِمْ عِلْمَ مَا لَا
تَأْوِيلَ لَهُ، لَا أَنَّهُمْ نَفَوْا عَنْ أَنْفُسِهِمْ
عِلْمَ التَّأْوِيلِ. وَقِيلَ: نَفَوْا عَنْ أَنْفُسِهِمْ
عِلْمَ التَّعْبِيرِ. وَالْأَضْغَاثُ عَلَى هَذَا
الْجَمَاعَاتُ مِنَ الرُّؤْيَا الَّتِي مِنْهَا صَحِيحَةٌ
وَمِنْهَا بَاطِلَةٌ، وَلِهَذَا قَالَ السَّاقِي:" أَنَا
أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ" فَعَلِمَ أَنَّ الْقَوْمَ
عَجَزُوا عَنِ التَّأْوِيلِ، لَا أَنَّهُمُ ادَّعَوْا أَلَّا
تَأْوِيلَ لَهَا. وَقِيلَ: إِنَّهُمْ لَمْ يَقْصِدُوا
تَفْسِيرًا، وَإِنَّمَا أَرَادُوا مَحَوْهَا مِنْ صَدْرِ
الْمَلِكِ حَتَّى لَا تَشْغَلَ بَالَهُ، وعلى هذا أيضا فعندهم
علم. و" الْأَحْلامِ" جَمْعُ حُلْمٍ، وَالْحُلْمُ بِالضَّمِّ
مَا يَرَاهُ النَّائِمُ، تَقُولُ مِنْهُ: حَلَمَ بِالْفَتْحِ
وَاحْتَلَمَ، وَتَقُولُ: حَلَمْتُ بكذا وحلمته، قال:
فحملتها وَبَنُو رُفَيْدَةَ «2» دُونَهَا ... لَا يَبْعَدَنَّ
خَيَالُهَا الْمَحْلُومُ
أَصْلُهُ الْأَنَاةُ، وَمِنْهُ الْحِلْمُ ضِدَّ الطَّيْشِ،
فَقِيلَ لِمَا يُرَى فِي النَّوْمِ حُلْمٌ لِأَنَّ النَّوْمَ
حالة أناة وسكون ودعه
__________
(1). في ع وى: يخبر.
(2). رفيدة: أبو حي من العرب، يقال لهم الرفيدات، كما يقال لآل
هبيرة الهبيرات. اللسان.
(9/200)
وَقَالَ الَّذِي نَجَا
مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَا أُنَبِّئُكُمْ
بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ (45) يُوسُفُ أَيُّهَا
الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ
يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعِ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ
وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ
لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ (46)
الثانية- في الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى
بُطْلَانِ قَوْلِ مَنْ يَقُولُ: إِنَّ الرُّؤْيَا عَلَى
أَوَّلِ مَا تُعَبَّرُ، لِأَنَّ الْقَوْمَ قَالُوا:" أَضْغاثُ
أَحْلامٍ" وَلَمْ تَقَعْ كَذَلِكَ، فَإِنَّ يُوسُفَ فَسَّرَهَا
عَلَى سِنِي الْجَدْبِ وَالْخِصْبِ، فَكَانَ كَمَا عَبَّرَ،
وَفِيهَا دَلِيلٌ عَلَى فَسَادِ أَنَّ الرُّؤْيَا عَلَى رِجْلِ
طَائِرٍ، فَإِذَا عُبِّرَتْ وقعت.
[سورة يوسف (12): الآيات 45 الى 46]
وَقالَ الَّذِي نَجا مِنْهُما وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَا
أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ (45) يُوسُفُ
أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنا فِي سَبْعِ بَقَراتٍ سِمانٍ
يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجافٌ وَسَبْعِ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ
وَأُخَرَ يابِساتٍ لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ
لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ (46)
قوله تعالى: (وَقالَ الَّذِي نَجا مِنْهُما) يَعْنِي سَاقِيَ
الْمَلِكِ." وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ" أَيْ بَعْدَ حِينٍ،
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِ، وَمِنْهُ" إِلى أُمَّةٍ
مَعْدُودَةٍ" «1» [هود: 8] وَأَصْلُهُ الْجُمْلَةُ مِنَ
الْحِينِ. وَقَالَ ابْنُ دُرُسْتُوَيْهِ «2»: وَالْأُمَّةُ لَا
تَكُونُ الْحِينَ إِلَّا عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، وَإِقَامَةِ
الْمُضَافِ إِلَيْهِ مَقَامَهُ، كَأَنَّهُ قَالَ- وَاللَّهُ
أَعْلَمُ-: وَادَّكَرَ بَعْدَ حِينِ أُمَّةٍ، أَوْ بَعْدَ
زَمَنِ أُمَّةٍ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، وَالْأُمَّةُ
الْجَمَاعَةُ الْكَثِيرَةُ مِنَ النَّاسِ. قَالَ الْأَخْفَشُ:
هُوَ في اللفظ واحد، وفي المعنى جمع، وكل جِنْسٌ مِنَ
الْحَيَوَانِ أُمَّةٌ، وَفِي الْحَدِيثِ:" لَوْلَا أَنَّ
الْكِلَابَ أُمَّةٌ مِنَ الْأُمَمِ لَأَمَرْتُ بِقَتْلِهَا".
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَادَّكَرَ) أَيْ تَذَكَّرَ حَاجَةَ
يُوسُفَ، وهو قول:" اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ". وَقَرَأَ
ابْنُ عَبَّاسٍ- فِيمَا رَوَى عَفَّانُ عَنْ هَمَّامٍ عَنْ
قَتَادَةَ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْهُ-" وَادَّكَرَ بَعْدَ
أُمَّةٍ". النَّحَّاسُ: الْمَعْرُوفُ مِنْ قِرَاءَةِ ابْنِ
عَبَّاسٍ وَعِكْرِمَةَ وَالضَّحَّاكِ" وَادَّكَرَ بَعْدَ
أَمَهٍ" بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَتَخْفِيفِ الْمِيمِ، أَيْ
بَعْدَ نِسْيَانٍ، قَالَ الشَّاعِرُ:
أَمِهْتُ وَكُنْتُ لَا أَنْسَى حَدِيثًا ... كَذَاكَ الدَّهْرُ
يُودِي بِالْعُقُولِ
وَعَنْ شُبَيْلِ بْنِ عَزْرَةَ الضُّبَعِيِّ:" بَعْدَ أَمْهٍ"
بِفَتْحٍ الْأَلِفِ وَإِسْكَانِ الْمِيمِ وَهَاءٍ خَالِصَةٍ،
وَهُوَ مِثْلُ الْأَمَهِ، وَهُمَا لُغَتَانِ، وَمَعْنَاهُمَا
النِّسْيَانُ، وَيُقَالُ: أَمِهَ يأمه أمها إذا نسي، فعلى هذا
__________
(1). راجع ص 9 من هذا الجزء.
(2). هو عبد الله بن جعفر بن درستويه (بضم الدال والراء) وضبطه
ابن ماكولا (بفتحها).
(9/201)
قَالَ تَزْرَعُونَ
سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي
سُنْبُلِهِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تَأْكُلُونَ (47)
" وَادَّكَرَ بَعْدَ أَمَهٍ"، ذَكَرَهُ
النَّحَّاسُ، وَرَجُلٌ أَمِهٌ «1» ذَاهِبُ الْعَقْلِ. قَالَ
الْجَوْهَرِيُّ: وَأَمَّا مَا فِي حَدِيثِ الزُّهْرِيِّ"
أَمِهَ" بِمَعْنَى أَقَرَّ وَاعْتَرَفَ فَهِيَ لُغَةٌ غَيْرُ
مَشْهُورَةٍ. وَقَرَأَ الْأَشْهَبُ الْعُقَيْلِيُّ-" بَعْدَ
إِمَّةٍ" أَيْ بَعْدَ نِعْمَةٍ، أَيْ بَعْدَ أَنْ أَنْعَمَ
اللَّهُ عَلَيْهِ بِالنَّجَاةِ. ثُمَّ قِيلَ: نَسِيَ الْفَتَى
يُوسُفَ لِقَضَاءِ اللَّهِ تَعَالَى فِي بَقَائِهِ فِي
السِّجْنِ مُدَّةً. وَقِيلَ: مَا نَسِيَ، وَلَكِنَّهُ خَافَ
أَنْ يَذْكُرَ الْمَلِكُ الذَّنْبَ الَّذِي بِسَبَبِهِ حُبِسَ
هُوَ وَالْخَبَّازُ، فَقَوْلُهُ:" وَادَّكَرَ" أَيْ ذَكَرَ
وَأَخْبَرَ. قَالَ النَّحَّاسُ: أَصْلُ ادَّكَرَ اذْتَكَرَ،
وَالذَّالُ قَرِيبَةُ الْمَخْرَجِ مِنَ التَّاءِ، وَلَمْ
يَجُزْ إِدْغَامُهَا فِيهَا لِأَنَّ الذَّالَ مَجْهُورَةٌ،
وَالتَّاءَ مَهْمُوسَةٌ، فَلَوْ أَدْغَمُوا ذَهَبَ الْجَهْرُ،
فَأَبْدَلُوا مِنْ مَوْضِعِ التَّاءِ حَرْفًا مَجْهُورًا
وَهُوَ الدَّالُّ، وَكَانَ أَوْلَى مِنَ الطَّاءِ لِأَنَّ
الطَّاءَ مُطْبَقَةٌ، فَصَارَ اذْدَكَرَ، فَأَدْغَمُوا الذال
في الدال لرخاوة الدال ولينها، ثم قال: (أَنَا أُنَبِّئُكُمْ
بِتَأْوِيلِهِ) أَيْ أَنَا أُخْبِرُكُمْ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ"
أَنَا آتِيكُمْ بِتَأْوِيلِهِ" وَقَالَ: كَيْفَ يُنَبِّئُهُمُ
الْعِلْجُ؟! «2» قَالَ النَّحَّاسُ: وَمَعْنَى" أُنَبِّئُكُمْ"
صَحِيحٌ حَسَنٌ، أَيْ أَنَا أُخْبِرُكُمْ إِذَا سَأَلْتَ.
(فَأَرْسِلُونِ) خَاطَبَ الْمَلِكَ وَلَكِنْ بِلَفْظِ
التَّعْظِيمِ، أَوْ خَاطَبَ الْمَلِكَ وَأَهْلَ مَجْلِسِهِ.
(يُوسُفُ) نِدَاءٌ مُفْرَدٌ، وَكَذَا (الصِّدِّيقُ) أَيِ
الْكَثِيرُ الصِّدْقِ. (أَفْتِنا) أَيْ فَأَرْسَلُوهُ، فَجَاءَ
إِلَى يُوسُفَ فَقَالَ: أَيُّهَا الصِّدِّيقُ! وَسَأَلَهُ عَنْ
رُؤْيَا الْمَلِكِ. (لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ) أَيْ
إِلَى الْمَلِكِ وَأَصْحَابِهِ. (لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ)
التَّعْبِيرَ، أَوْ" لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ" مَكَانَكَ مِنَ
الْفَضْلِ وَالْعِلْمِ فَتُخْرَجُ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدَ
بِالنَّاسِ الْمَلِكَ وَحْدَهُ تَعْظِيمًا له.
[سورة يوسف (12): آية 47]
قالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَباً فَما حَصَدْتُمْ
فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّا تَأْكُلُونَ
(47)
فِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى: (قالَ
تَزْرَعُونَ) لَمَّا أَعْلَمَهُ بِالرُّؤْيَا جَعَلَ
يُفَسِّرُهَا لَهُ، فَقَالَ: السَّبْعُ مِنَ الْبَقَرَاتِ
السِّمَانِ وَالسُّنْبُلَاتِ الْخُضْرِ سَبْعُ سنين مخصبات،
وأما البقرات العجاف
__________
(1). في ع: أمه ووامه. ذاهب العقل. والذي في اللسان: أمه الرجل
فهو مأموه وهو الذي ليس عقله معه.
(2). العلج: الكافر من العجم.
(9/202)
وَالسُّنْبُلَاتُ الْيَابِسَاتُ فَسَبْعُ
سِنِينَ مُجْدِبَاتٍ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ: (تَزْرَعُونَ سَبْعَ
سِنِينَ دَأَباً) أَيْ مُتَوَالِيَةً مُتَتَابِعَةً، وَهُوَ
مَصْدَرٌ عَلَى غَيْرِ الْمَصْدَرِ، لِأَنَّ مَعْنَى"
تَزْرَعُونَ" تَدْأَبُونَ كَعَادَتِكُمْ فِي الزِّرَاعَةِ
سَبْعَ سِنِينَ. وَقِيلَ: هُوَ حَالٌ، أَيْ دَائِبِينَ.
وَقِيلَ: صِفَةٌ لِسَبْعِ سِنِينَ، أَيْ دَائِبَةً. وَحَكَى
أَبُو حَاتِمٍ عَنْ يَعْقُوبَ" دَأَباً" بِتَحْرِيكِ
الْهَمْزَةِ، وَكَذَا رَوَى حَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ، وَهُمَا
لُغَتَانِ «1»، وَفِيهِ قَوْلَانِ، قَوْلُ أَبِي حَاتِمٍ:
إِنَّهُ مِنْ دَئِبَ. قَالَ النَّحَّاسُ: وَلَا يَعْرِفُ
أَهْلُ اللُّغَةِ إِلَّا دَأَبَ. وَالْقَوْلُ الْآخَرُ-
إِنَّهُ حُرِّكَ لِأَنَّ فِيهِ حَرْفًا مِنْ حُرُوفِ
الْحَلْقِ، قَالَهُ الْفَرَّاءُ، قَالَ: وَكَذَلِكَ كُلُّ
حَرْفٍ فُتِحَ أَوَّلُهُ وَسُكِّنَ ثَانِيهِ فَتَثْقِيلُهُ
جَائِزٌ إِذَا كَانَ ثَانِيهِ هَمْزَةً، أَوْ هَاءً، أَوْ
عَيْنًا، أَوْ غَيْنًا، أَوْ حَاءً، أَوْ خَاءً، وَأَصْلَهُ
الْعَادَةُ، قَالَ «2»:
كَدَأْبِكَ مِنْ أُمِّ الْحُوَيْرِثِ قَبْلَهَا
وَقَدْ مَضَى فِي" آلِ عِمْرَانَ" «3» الْقَوْلُ فِيهِ. (فَما
حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ) قِيلَ: لِئَلَّا
يَتَسَوَّسُ «4»، وَلِيَكُونَ أَبْقَى، وَهَكَذَا الْأَمْرُ
فِي دِيَارِ مِصْرَ. (إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تَأْكُلُونَ)
أَيِ اسْتَخْرِجُوا مَا تَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ بِقَدْرِ
الْحَاجَةِ، وَهَذَا الْقَوْلُ مِنْهُ أَمْرٌ، وَالْأَوَّلُ
خَبَرٌ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْأَوَّلُ أَيْضًا
أَمْرًا، وَإِنْ كَانَ الْأَظْهَرُ مِنْهُ الْخَبَرَ،
فَيَكُونُ مَعْنَى:" تَزْرَعُونَ" أَيِ ازْرَعُوا.
الثَّانِيَةُ- هَذِهِ الْآيَةُ أَصْلٌ فِي الْقَوْلِ
بِالْمَصَالِحِ الشَّرْعِيَّةِ الَّتِي هِيَ حِفْظُ
الْأَدْيَانِ وَالنُّفُوسِ وَالْعُقُولِ وَالْأَنْسَابِ
وَالْأَمْوَالِ، فَكُلُّ مَا تَضَمَّنَ تَحْصِيلَ شي مِنْ
هَذِهِ الْأُمُورِ فَهُوَ مَصْلَحَةٌ، وَكُلُّ مَا يُفَوِّتُ
شَيْئًا مِنْهَا فَهُوَ مَفْسَدَةٌ، وَدَفْعُهُ مَصْلَحَةٌ،
وَلَا خِلَافَ أَنَّ مَقْصُودَ الشَّرَائِعِ إِرْشَادُ
النَّاسِ إِلَى مَصَالِحِهِمُ الدُّنْيَوِيَّةِ، لِيَحْصُلَ
لَهُمُ التَّمَكُّنُ مِنْ مَعْرِفَةِ اللَّهِ تَعَالَى
وَعِبَادَتِهِ الْمُوَصِّلَتَيْنِ إِلَى السَّعَادَةِ
الْأُخْرَوِيَّةِ، وَمُرَاعَاةُ ذَلِكَ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ
عَزَّ وَجَلَّ وَرَحْمَةٌ رَحِمَ بِهَا عِبَادَهُ، مِنْ غَيْرِ
وُجُوبٍ عَلَيْهِ، وَلَا اسْتِحْقَاقٍ، هَذَا مَذْهَبُ
كَافَّةِ الْمُحَقِّقِينَ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ أَجْمَعِينَ،
وَبَسْطُهُ فِي أصول الفقه.
__________
(1). اللغتان" دَأَباً" بتحريك الهمزة و" دَأَباً" بسكونها وهى
قراءة الجمهور من السبعة كما في تفسير ابن عطية.
(2). هو امرؤ القيس، وتمام البيت:
وجارتها أم الرباب بمأسل
(3). راجع ج 4 ص 22 فما بعد.
(4). كذا في اوع ك وى.
(9/203)
ثُمَّ يَأْتِي مِنْ
بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ
لَهُنَّ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تُحْصِنُونَ (48)
[سورة يوسف (12): آية 48]
ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ سَبْعٌ شِدادٌ يَأْكُلْنَ مَا
قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّا تُحْصِنُونَ (48)
فِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى: (سَبْعٌ
شِدادٌ) يَعْنِي السِّنِينَ الْمُجْدِبَاتِ. (يَأْكُلْنَ)
مَجَازٌ، وَالْمَعْنَى يَأْكُلُ أَهْلُهُنَّ. (مَا قَدَّمْتُمْ
لَهُنَّ) أَيْ مَا ادَّخَرْتُمْ لِأَجْلِهِنَّ، وَنَحْوُهُ
قَوْلُ الْقَائِلِ:
نَهَارُكَ يَا مَغْرُورُ سَهْوٌ وَغَفْلَةٌ ... وَلَيْلُكَ
نَوْمٌ وَالرَّدَى لَكَ لَازِمُ
وَالنَّهَارُ لَا يَسْهُو، وَاللَّيْلُ لَا يَنَامُ،
وَإِنَّمَا يُسْهَى فِي النَّهَارِ، وَيُنَامُ فِي اللَّيْلِ.
وَحَكَى زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ عَنْ أَبِيهِ: أَنَّ يُوسُفَ
كَانَ يَضَعُ طَعَامَ الِاثْنَيْنِ فَيُقَرِّبُهُ إِلَى رَجُلٍ
وَاحِدٍ فَيَأْكُلُ بَعْضُهُ، حَتَّى إِذَا كَانَ يَوْمٌ
قَرَّبَهُ لَهُ فَأَكَلَهُ كُلَّهُ، فَقَالَ يُوسُفُ: هَذَا
أَوَّلُ يَوْمٍ مِنَ السَّبْعِ الشِّدَادِ. (إِلَّا قَلِيلًا)
نُصِبَ عَلَى الِاسْتِثْنَاءِ. (مِمَّا تُحْصِنُونَ) أَيْ
مِمَّا تَحْبِسُونَ لِتَزْرَعُوا، لِأَنَّ فِي اسْتِبْقَاءِ
الْبَذْرِ تَحْصِينُ الْأَقْوَاتِ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ:
تُحْرِزُونَ. وَقَالَ قَتَادَةُ:" تُحْصِنُونَ" تَدَّخِرُونَ،
وَالْمَعْنَى وَاحِدٌ، وَهُوَ يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ
احْتِكَارِ الطَّعَامِ إِلَى وَقْتِ الْحَاجَةِ «1».
الثَّانِيَةُ- هَذِهِ الْآيَةُ أَصْلٌ فِي صِحَّةِ رُؤْيَا
الْكَافِرِ، وَأَنَّهَا تَخْرُجُ عَلَى حَسَبِ مَا رَأَى، لَا
سِيَّمَا إِذَا تَعَلَّقَتْ بِمُؤْمِنٍ، فَكَيْفَ إِذَا
كَانَتْ آيَةً لِنَبِيٍّ. وَمُعْجِزَةً لِرَسُولٍ،
وَتَصْدِيقًا لِمُصْطَفًى للتبليغ، وحجة للواسطة بين الله- جل
جلال-[وبين «2»] عباده.
[سورة يوسف (12): آية 49]
ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عامٌ فِيهِ يُغاثُ النَّاسُ
وَفِيهِ يَعْصِرُونَ (49)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عامٌ)
هَذَا خَبَرٌ مِنْ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَمَّا لَمْ
يَكُنْ فِي رُؤْيَا الْمَلِكِ، وَلَكِنَّهُ مِنْ عِلْمِ
الْغَيْبِ الَّذِي أَتَاهُ اللَّهُ. قَالَ قَتَادَةُ: زَادَهُ
اللَّهُ علم سنة لم يسألوه
__________
(1). هذا فيه نظر إن كان المراد الغلاء، لما روى عنه عليه
الصلاة والسلام" من احتكر حكرة يريد أن يغلى بها على المسلمين
فهو خاطئ وقد برئت منه ذمة الله ورسوله" رواه أحمد والحاكم عن
أبى هريرة في روايات في النهى عن الاحتكار. [ ..... ]
(2). من ع.
(9/204)
وَقَالَ الْمَلِكُ
ائْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جَاءَهُ الرَّسُولُ قَالَ ارْجِعْ
إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي
قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ
(50) قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ
نَفْسِهِ قُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ
سُوءٍ قَالَتِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ
أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ
الصَّادِقِينَ (51)
عَنْهَا إِظْهَارًا لِفَضْلِهِ،
وَإِعْلَامًا لِمَكَانِهِ مِنَ الْعِلْمِ وَبِمَعْرِفَتِهِ.
(فِيهِ يُغاثُ النَّاسُ) مِنَ الْإِغَاثَةِ أَوِ الغوث، غوث
الرجل فال وا غوثاه، وَالِاسْمُ الْغَوْثُ وَالْغُوَاثُ
وَالْغَوَاثُ، وَاسْتَغَاثَنِي فُلَانٌ فَأَغَثْتُهُ،
وَالِاسْمُ الْغِيَاثُ، صَارَتِ الْوَاوُ يَاءً لِكَسْرَةِ مَا
قَبْلَهَا. وَالْغَيْثُ الْمَطَرُ، وَقَدْ غَاثَ الْغَيْثُ
الْأَرْضَ أَيْ أَصَابَهَا، وَغَاثَ اللَّهُ الْبِلَادَ
يَغِيثُهَا غَيْثًا، وَغِيثَتِ الْأَرْضُ تُغَاثُ غَيْثًا،
فَهِيَ أَرْضٌ مَغِيثَةٌ وَمَغْيُوثَةٌ، فَمَعْنَى" يُغاثُ
النَّاسُ" يُمْطَرُونَ. (وَفِيهِ يَعْصِرُونَ) قَالَ ابْنُ
عَبَّاسٍ: يَعْصِرُونَ الْأَعْنَابَ وَالدُّهْنَ، ذَكَرَهُ
البخاري. وروى حجاج عن ابن جريح قَالَ: يَعْصِرُونَ الْعِنَبَ
خَمْرًا وَالسِّمْسِمَ دُهْنًا، وَالزَّيْتُونَ زَيْتًا.
وَقِيلَ: أَرَادَ حَلْبَ الْأَلْبَانِ لِكَثْرَتِهَا،
وَيَدُلُّ ذَلِكَ عَلَى كَثْرَةِ النَّبَاتِ. وَقِيلَ:"
يَعْصِرُونَ" أَيْ يَنْجُونَ، وَهُوَ مِنَ الْعُصْرَةِ، وَهِيَ
الْمَنْجَاةُ. قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: وَالْعَصَرُ
بِالتَّحْرِيكِ الْمَلْجَأُ وَالْمَنْجَاةُ، وَكَذَلِكَ
الْعُصْرَةُ، قَالَ أَبُو زُبَيْدٍ «1»:
صَادِيًّا يَسْتَغِيثُ غَيْرَ مُغَاثٍ ... وَلَقَدْ كَانَ
عُصْرَةَ الْمَنْجُودِ
وَالْمَنْجُودُ الْفَزِعُ. وَاعْتَصَرْتُ بِفُلَانٍ
وَتَعَصَّرْتُ أَيِ الْتَجَأْتُ إِلَيْهِ. قَالَ أَبُو
الْغَوْثِ:" يَعْصِرُونَ" يَسْتَغِلُّونَ، وَهُوَ مِنْ عَصْرِ
الْعِنَبِ. وَاعْتَصَرْتُ مَالَهُ أَيِ اسْتَخْرَجْتُهُ مِنْ
يَدِهِ. وَقَرَأَ عِيسَى" تُعْصَرُونَ" بِضَمِّ التَّاءِ
وَفَتْحِ الصَّادِ، وَمَعْنَاهُ: تُمْطَرُونَ، مِنْ قَوْلِ
[اللَّهِ] «2»:" وَأَنْزَلْنا مِنَ الْمُعْصِراتِ ماءً
ثَجَّاجاً" «3» [النبأ: 14] وَكَذَلِكَ مَعْنَى" تُعْصِرُونَ"
بِضَمِّ التَّاءِ وَكَسْرِ الصَّادِ، فيمن قرأه كذلك.
[سورة يوسف (12): الآيات 50 الى 51]
وَقالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جاءَهُ الرَّسُولُ
قالَ ارْجِعْ إِلى رَبِّكَ فَسْئَلْهُ مَا بالُ النِّسْوَةِ
اللاَّتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ
عَلِيمٌ (50) قالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ راوَدْتُنَّ يُوسُفَ
عَنْ نَفْسِهِ قُلْنَ حاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنا عَلَيْهِ مِنْ
سُوءٍ قالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ
أَنَا راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ
الصَّادِقِينَ (51)
__________
(1). قاله في رثاء ابن أخته وكان مات عطشا في طريق مكة.
(2). من ع.
(3). راجع ج 19 ص 169.
(9/205)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَقالَ الْمَلِكُ
ائْتُونِي بِهِ) أَيْ فَذَهَبَ الرَّسُولُ فَأَخْبَرَ
الْمَلِكَ، فَقَالَ: ائْتُونِي بِهِ. (فَلَمَّا جاءَهُ
الرَّسُولُ) أَيْ يَأْمُرُهُ بِالْخُرُوجِ قَالَ: (ارْجِعْ
إِلى رَبِّكَ فَسْئَلْهُ مَا بالُ النِّسْوَةِ) أَيْ حَالُ
النِّسْوَةِ. (اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ) فَأَبَى
أَنْ يَخْرُجَ إِلَّا أَنْ تَصِحَّ بَرَاءَتَهُ [عِنْدَ «1»]
الْمَلِكِ مِمَّا قُذِفَ بِهِ، وَأَنَّهُ حُبِسَ بِلَا جُرْمٍ.
وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" إِنَّ
الْكَرِيمَ ابْنَ الْكَرِيمِ ابْنِ الْكَرِيمِ [ابْنِ
الْكَرِيمِ «2»] يُوسُفُ بْنُ يَعْقُوبَ بن إسحاق ابن
إِبْرَاهِيمَ- قَالَ- وَلَوْ لَبِثْتُ فِي السِّجْنِ مَا
لَبِثَ ثُمَّ جَاءَنِي الرَّسُولُ أَجَبْتُ- ثُمَّ قَرَأَ-"
فَلَمَّا جاءَهُ الرَّسُولُ قالَ ارْجِعْ إِلى رَبِّكَ
فَسْئَلْهُ مَا بالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ
أَيْدِيَهُنَّ"- قَالَ- وَرَحْمَةُ اللَّهِ عَلَى لُوطٍ لَقَدْ
كَانَ يَأْوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ [إِذْ قَالَ" لَوْ أَنَّ
لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلى رُكْنٍ شَدِيدٍ"] فَمَا
بَعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ نَبِيًّا إِلَّا فِي ذُرْوَةٍ
مِنْ قَوْمِهِ". وَرَوَى الْبُخَارِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ
قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ:" يَرْحَمُ اللَّهُ لُوطًا لَقَدْ كَانَ يَأْوِي
إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ وَلَوْ لَبِثْتُ فِي السِّجْنِ مَا
لَبِثَ يُوسُفَ لَأَجَبْتُ الدَّاعِيَ وَنَحْنُ أَحَقُّ مِنْ
إِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لَهُ" أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قالَ بَلى
وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي" [البقرة: 260] وَرُوِيَ عَنِ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ"
يَرْحَمُ اللَّهُ أَخِي يُوسُفَ لَقَدْ كان صابر حَلِيمًا
وَلَوْ لَبِثْتُ فِي السِّجْنِ مَا لَبِثَهُ أَجَبْتُ
الدَّاعِيَ وَلَمْ أَلْتَمِسِ الْعُذْرَ". وَرُوِيَ نَحْوُ
هَذَا الْحَدِيثِ مِنْ طَرِيقِ «3» عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ
الْقَاسِمِ صَاحِبِ مَالِكٍ، فِي كِتَابِ التَّفْسِيرِ مِنْ
صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ، وَلَيْسَ لِابْنِ الْقَاسِمِ فِي
الدِّيوَانِ غَيْرُهُ. وَفِي رِوَايَةِ الطَّبَرِيِّ" يَرْحَمُ
اللَّهُ يُوسُفَ لَوْ كُنْتُ أَنَا الْمَحْبُوسُ ثُمَّ
أُرْسِلَ إِلَيَّ لَخَرَجْتُ سَرِيعًا إِنْ كَانَ لَحَلِيمًا
ذَا أَنَاةٍ". وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:"
لَقَدْ عَجِبْتُ مِنْ يُوسُفَ وَصَبْرِهِ وَكَرَمِهِ وَاللَّهُ
يَغْفِرُ لَهُ حِينَ سُئِلَ عَنِ الْبَقَرَاتِ لَوْ كُنْتُ
مَكَانَهُ لَمَا أَخْبَرْتُهُمْ حَتَّى أَشْتَرِطَ أَنْ
يُخْرِجُونِي وَلَقَدْ عَجِبْتُ مِنْهُ حِينَ أَتَاهُ
الرَّسُولُ وَلَوْ كُنْتُ مَكَانَهُ لَبَادَرْتُهُمُ الْبَابَ"
«4». قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: كَانَ هَذَا الْفِعْلُ مِنْ
يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَاةً وصبرا، وطلبا لبراءة
الساحة، وذلك أنه-
__________
(1). من ع. وفى اوك وى: للملك.
(2). الزيادة عن صحيح الترمذي.
(3). كذا في ع وك وى.
(4). الحديث في تفسير الطبري يختلف في اللفظ عما هنا.
(9/206)
فِيمَا رُوِيَ- خَشِيَ أَنْ يَخْرُجَ
وَيَنَالَ مِنَ الْمَلِكِ مَرْتَبَةً وَيَسْكُتَ عَنْ أَمْرِ
ذَنْبِهِ صَفْحًا فَيَرَاهُ النَّاسُ بِتِلْكَ الْعَيْنِ
أَبَدًا وَيَقُولُونَ: هَذَا الذي وأود امْرَأَةَ مَوْلَاهُ،
فَأَرَادَ يُوسُفُ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنْ يُبَيِّنَ
بَرَاءَتَهُ، وَيُحَقِّقَ مَنْزِلَتَهُ مِنَ الْعِفَّةِ
وَالْخَيْرَ، وَحِينَئِذٍ يَخْرُجُ لِلْإِحْظَاءِ
وَالْمَنْزِلَةِ، فَلِهَذَا قَالَ لِلرَّسُولِ: ارْجِعْ إِلَى
رَبِّكَ وَقُلْ لَهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ، وَمَقْصِدُ
يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِنَّمَا كَانَ: وَقُلْ لَهُ
يَسْتَقْصِي عَنْ ذَنْبِي، وَيَنْظُرُ فِي أَمْرِي هَلْ
سُجِنْتُ بِحَقٍّ أَوْ بِظُلْمٍ، وَنَكَبَ عَنِ امْرَأَةِ
الْعَزِيزِ حُسْنُ عِشْرَةٍ، وَرِعَايَةٌ لِذِمَامِ الْمَلِكِ
الْعَزِيزِ لَهُ. فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ مَدَحَ النَّبِيُّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُوسُفَ بِالصَّبْرِ
وَالْأَنَاةِ وَتَرْكِ الْمُبَادَرَةِ إِلَى الْخُرُوجِ، ثُمَّ
هُوَ يَذْهَبُ بِنَفْسِهِ عَنْ حَالَةٍ قَدْ مَدَحَ بِهَا
غَيْرَهُ؟ فَالْوَجْهُ فِي ذَلِكَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّمَا أَخَذَ لِنَفْسِهِ
وَجْهًا آخَرَ مِنَ الرَّأْيِ، لَهُ جِهَةً أَيْضًا مِنَ
الْجَوْدَةِ، يَقُولُ: لَوْ كُنْتُ أَنَا لَبَادَرْتُ
بِالْخُرُوجِ، ثُمَّ حَاوَلْتُ بَيَانَ عُذْرِي بَعْدَ ذَلِكَ،
وَذَلِكَ أَنَّ هَذِهِ الْقِصَصَ وَالنَّوَازِلَ هِيَ
مُعَرَّضَةٌ لِأَنْ يَقْتَدِيَ النَّاسُ بِهَا إِلَى يَوْمِ
الْقِيَامَةِ، فَأَرَادَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَمَلَ النَّاسِ عَلَى الْأَحْزَمِ مِنَ
الْأُمُورِ، وَذَلِكَ أَنَّ تَارِكَ الْحَزْمِ فِي مِثْلِ
هَذِهِ النَّازِلَةِ، التَّارِكُ فُرْصَةَ الْخُرُوجِ مِنْ
مِثْلِ ذَلِكَ السِّجْنِ، رُبَّمَا نَتَجَ لَهُ الْبَقَاءُ فِي
سِجْنِهِ، وَانْصَرَفَتْ نَفْسُ مُخْرِجِهِ عَنْهُ، وَإِنْ
كَانَ يُوسُفُ، عَلَيْهِ السَّلَامُ أَمِنَ مِنْ ذَلِكَ
بِعِلْمِهِ مِنَ اللَّهِ، فَغَيْرُهُ مِنَ النَّاسِ لَا
يَأْمَنُ ذَلِكَ، فَالْحَالَةُ الَّتِي ذَهَبَ النَّبِيُّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِنَفْسِهِ إِلَيْهَا
حَالَةُ حَزْمٍ، وَمَا فَعَلَهُ يُوسُفُ عَلَيْهِ السلام صبر
عظيم وجلد. قوله تعالى:" (فَسْئَلْهُ مَا بالُ النِّسْوَةِ) "
ذَكَرَ النِّسَاءَ جُمْلَةً لِيَدْخُلَ فِيهِنَّ امْرَأَةُ
الْعَزِيزِ مَدْخَلَ الْعُمُومِ بِالتَّلْوِيحِ حَتَّى لَا
يَقَعَ عَلَيْهَا تَصْرِيحٌ، وَذَلِكَ حُسْنُ عِشْرَةٍ
وَأَدَبٍ، وَفِي الْكَلَامِ مَحْذُوفٌ، أَيْ فَاسْأَلْهُ أَنْ
يَتَعَرَّفَ مَا بَالُ النِّسْوَةِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ:
فَأَرْسَلَ الْمَلِكُ إِلَى النِّسْوَةِ وَإِلَى امْرَأَةِ
الْعَزِيزِ- وَكَانَ قَدْ مَاتَ الْعَزِيزُ فَدَعَاهُنَّ فَ"
(قالَ مَا خَطْبُكُنَّ) " أَيْ مَا شَأْنُكُنَّ." (إِذْ
راوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ) " وَذَلِكَ أَنَّ كُلَّ
وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ كَلَّمَتْ يُوسُفَ فِي حَقِّ نَفْسِهَا،
عَلَى مَا تَقَدَّمَ، أَوْ أَرَادَ قَوْلَ كُلِّ وَاحِدَةٍ
قَدْ ظَلَمْتَ امْرَأَةَ الْعَزِيزِ، فَكَانَ ذَلِكَ
مُرَاوَدَةٌ مِنْهُنَّ." (قُلْنَ حاشَ لِلَّهِ) " أَيْ مَعَاذَ
اللَّهِ." (ما عَلِمْنا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ) " أي زنى."
(قالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ) "
لَمَّا رَأَتْ إِقْرَارَهُنَّ بِبَرَاءَةِ يُوسُفَ، وَخَافَتْ
أَنْ يَشْهَدْنَ عَلَيْهَا إِنْ أَنْكَرَتْ أَقَرَّتْ
(9/207)
ذَلِكَ لِيَعْلَمَ
أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي
كَيْدَ الْخَائِنِينَ (52) وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ
النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي
إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ (53)
هِيَ أَيْضًا، وَكَانَ ذَلِكَ لُطْفًا مِنَ
اللَّهِ بِيُوسُفَ. وَ" حَصْحَصَ الْحَقُّ" أَيْ تَبَيَّنَ
وَظَهَرَ، وَأَصْلُهُ حَصَصَ، فَقِيلَ: حَصْحَصَ، كَمَا قَالَ:
كُبْكِبُوا فِي كَبَبُوا، وَكَفْكَفَ فِي كَفَفَ، قَالَ
الزَّجَّاجُ وَغَيْرُهُ. وَأَصْلُ الْحَصِّ اسْتِئْصَالُ
الشَّيْءِ، يُقَالُ: حَصَّ شَعْرَهُ إِذَا اسْتَأْصَلَهُ
جَزًّا، قَالَ أَبُو الْقَيْسِ بْنُ الْأَسْلَتِ:
قَدْ حَصَّتِ الْبَيْضَةُ رَأْسِي فَمَا ... أَطْعَمُ نَوْمًا
غَيْرَ تَهْجَاعِ «1»
وَسَنَةٌ حَصَّاءُ أَيْ جَرْدَاءُ لَا خَيْرَ فِيهَا، قَالَ
جَرِيرٌ:
يَأْوِي إِلَيْكُمْ بِلَا مَنٍّ وَلَا جَحْدٍ ... مَنْ سَاقَهُ
السَّنَةُ الْحَصَّاءُ وَالذِّيبُ
كَأَنَّهُ أَرَادَ أَنْ يَقُولَ: وَالضَّبُعُ، وَهِيَ
السَّنَةُ الْمُجْدِبَةُ، فَوَضَعَ الذِّئْبَ مَوْضِعَهُ
لِأَجْلِ الْقَافِيَةِ، فَمَعْنَى" حَصْحَصَ الْحَقُّ" أَيِ
انْقَطَعَ عَنِ الْبَاطِلِ، بِظُهُورِهِ وَثَبَاتِهِ «2»،
قَالَ:
أَلَا مُبْلِغٌ عَنِّي خِدَاشًا فَإِنَّهُ ... كَذُوبٌ إِذَا
مَا حَصْحَصَ الْحَقُّ ظَالِمُ
وَقِيلَ: هُوَ مُشْتَقٌّ مِنَ الْحِصَّةِ، فَالْمَعْنَى:
بَانَتْ حِصَّةُ الْحَقِّ مِنْ حِصَّةِ الْبَاطِلِ. وَقَالَ
مُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ: وَأَصْلُهُ مَأْخُوذٌ مِنْ قَوْلِهِمْ،
حَصَّ شَعْرَهُ إِذَا اسْتَأْصَلَ قَطْعَهُ، وَمِنْهُ
الْحِصَّةُ «3» مِنَ الْأَرْضِ إِذَا قُطِعَتْ مِنْهَا.
وَالْحِصْحِصُ بِالْكَسْرِ التُّرَابُ وَالْحِجَارَةُ،
ذَكَرَهُ الْجَوْهَرِيُّ. (أَنَا راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ
وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ) وَهَذَا الْقَوْلُ مِنْهَا-
وَإِنْ لَمْ يَكُنْ سَأَلَ عَنْهُ- إِظْهَارٌ لِتَوْبَتِهَا
وَتَحْقِيقٌ لِصِدْقِ يُوسُفَ وَكَرَامَتِهِ، لِأَنَّ
إِقْرَارَ الْمُقِرِّ عَلَى نَفْسِهِ أَقْوَى مِنَ
الشَّهَادَةِ عَلَيْهِ، فَجَمَعَ اللَّهُ تَعَالَى لِيُوسُفَ
لِإِظْهَارِ صِدْقِهِ الشَّهَادَةَ وَالْإِقْرَارَ، حَتَّى لَا
يُخَامِرَ نَفْسًا ظَنٌّ، وَلَا يُخَالِطَهَا شَكٌّ.
وَشُدِّدَتِ النُّونُ فِي" خَطْبُكُنَّ" وَ" راوَدْتُنَّ"
لأنها بمنزلة الميم والواو في المذكر.
[سورة يوسف (12): الآيات 52 الى 53]
ذلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ
اللَّهَ لَا يَهْدِي كَيْدَ الْخائِنِينَ (52) وَما أُبَرِّئُ
نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ مَا
رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ (53)
__________
(1). البيضة: الخوذة، والتهجاع: النومة الخفيفة.
(2). في ع: بيانه.
(3). في ع: في.
(9/208)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (ذلِكَ لِيَعْلَمَ
أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ) اخْتُلِفَ فِيمَنْ قَالَهُ،
فَقِيلَ: هُوَ مِنْ قَوْلِ امْرَأَةِ الْعَزِيزِ، وَهُوَ
مُتَّصِلٌ بِقَوْلِهَا:" الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ" أَيْ
أَقْرَرْتُ بِالصِّدْقِ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ
بِالْغَيْبِ «1» أَيْ بِالْكَذِبِ عَلَيْهِ، وَلَمْ أَذْكُرْهُ
بِسُوءٍ وَهُوَ غَائِبٌ، بَلْ صَدَقْتُ وَحِدْتُ «2» عَنِ
الْخِيَانَةِ، ثُمَّ قَالَتْ:" وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي" بَلْ
أَنَا رَاوَدْتُهُ، وَعَلَى هَذَا هِيَ كَانَتْ مُقِرَّةً
بِالصَّانِعِ، وَلِهَذَا قَالَتْ:" إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ
رَحِيمٌ". وَقِيلَ: هُوَ مِنْ قَوْلِ يُوسُفَ، أَيْ قَالَ
يُوسُفُ: ذَلِكَ الْأَمْرُ الَّذِي فَعَلْتُهُ، مِنْ رَدِّ
الرَّسُولِ" لِيَعْلَمَ" الْعَزِيزُ" أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ
بِالْغَيْبِ
" قَالَهُ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ وَغَيْرُهُمَا. وَمَعْنَى"
بِالْغَيْبِ" وَهُوَ غَائِبٌ. وَإِنَّمَا قَالَ يُوسُفُ ذَلِكَ
بِحَضْرَةِ الْمَلِكِ، وَقَالَ:" لِيَعْلَمَ" عَلَى الْغَائِبِ
تَوْقِيرًا لِلْمَلِكِ. وَقِيلَ: قَالَهُ إِذْ عَادَ إِلَيْهِ
الرَّسُولُ وَهُوَ فِي السِّجْنِ بَعْدُ، قَالَ ابْنُ
عَبَّاسٍ: جَاءَ الرَّسُولُ إِلَى يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ
بِالْخَبَرِ وَجِبْرِيلُ مَعَهُ يُحَدِّثُهُ، فَقَالَ
يُوسُفُ:" ذلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ
وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي كَيْدَ الْخائِنِينَ" أَيْ لَمْ
أَخُنْ سَيِّدِي بِالْغَيْبِ، فَقَالَ لَهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ
السَّلَامُ: يَا يُوسُفُ! وَلَا حِينَ حَلَلْتَ الْإِزَارَ،
وَجَلَسْتَ مَجْلِسَ الرَّجُلِ مِنَ الْمَرْأَةِ؟! فَقَالَ
يُوسُفُ:" وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي" الْآيَةَ. وَقَالَ
السُّدِّيُّ: إِنَّمَا قَالَتْ لَهُ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ
وَلَا حِينَ حَلَلْتَ سَرَاوِيلَكَ يَا يُوسُفُ؟! فَقَالَ
يُوسُفُ:" وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي". وَقِيلَ:" ذلِكَ
لِيَعْلَمَ" مِنْ قَوْلِ الْعَزِيزِ، أَيْ ذَلِكَ لِيَعْلَمَ
يُوسُفُ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ، وَأَنِّي لَمْ
أَغْفُلْ عَنْ مُجَازَاتِهِ عَلَى أَمَانَتِهِ. (وَأَنَّ
اللَّهَ لَا يَهْدِي كَيْدَ الْخائِنِينَ) مَعْنَاهُ: أَنَّ
اللَّهَ لَا يَهْدِي الْخَائِنِينَ بِكَيْدِهِمْ. قَوْلُهُ
تَعَالَى: (وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي) قِيلَ: هُوَ مِنْ قَوْلِ
الْمَرْأَةِ. وَقَالَ الْقُشَيْرِيُّ: فَالظَّاهِرُ أَنَّ
قَوْلَهُ:" ذلِكَ لِيَعْلَمَ" وَقَوْلُهُ:" وَما أُبَرِّئُ
نَفْسِي" مِنْ قَوْلِ يُوسُفَ. قُلْتُ: إِذَا احْتَمَلَ أَنْ
يَكُونَ مِنْ قَوْلِ الْمَرْأَةِ فَالْقَوْلُ بِهِ أَوْلَى
حَتَّى نُبَرِّئَ يُوسُفَ مِنْ حَلِّ الْإِزَارِ
وَالسَّرَاوِيلِ، وَإِذَا قَدَّرْنَاهُ مِنْ قَوْلِ يُوسُفَ
فَيَكُونُ مِمَّا خَطَرَ بِقَلْبِهِ، عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ
مِنَ الْقَوْلِ الْمُخْتَارِ فِي قَوْلِهِ:" وَهَمَّ بِها".
قَالَ أَبُو بَكْرٍ الْأَنْبَارِيُّ: مِنَ النَّاسِ مَنْ
يَقُولُ:" ذلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ"
إِلَى قَوْلِهِ:" إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ" من كلام امرأة
العزيز،
__________
(1). من ع.
(2). في ع: خرجت.
(9/209)
وَقَالَ الْمَلِكُ
ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ
قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ (54)
لِأَنَّهُ مُتَّصِلٌ بِقَوْلِهَا:" أَنَا
راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ"
[يوسف: 51] وَهَذَا مَذْهَبُ الَّذِينَ يَنْفُونَ الْهَمَّ
عَنْ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَمَنْ بَنَى عَلَى
قَوْلِهِمْ قَالَ: من قوله:" قالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ"
[يوسف: 51] إِلَى قَوْلِهِ:" إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ"
كَلَامٌ مُتَّصِلٌ بَعْضُهُ بِبَعْضٍ، وَلَا يَكُونُ فِيهِ
وَقْفٌ تَامٌّ عَلَى حَقِيقَةٍ، وَلَسْنَا نَخْتَارُ هَذَا
الْقَوْلَ وَلَا نَذْهَبُ إِلَيْهِ. وَقَالَ الْحَسَنُ: لَمَّا
قَالَ يُوسُفُ" ذلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ
بِالْغَيْبِ" كَرِهَ نَبِيُّ اللَّهِ أَنْ يَكُونَ قَدْ زَكَّى
نَفْسَهُ فَقَالَ:" وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي" لِأَنَّ «1»
تَزْكِيَةَ النَّفْسِ مَذْمُومَةٌ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:"
فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ" «2» [النجم: 32] وَقَدْ
بَيَّنَّاهُ فِي" النِّسَاءِ" «3». وَقِيلَ: هُوَ مِنْ قَوْلِ
الْعَزِيزِ، أَيْ وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي مِنْ سُوءِ الظَّنِّ
بِيُوسُفَ. (إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ) أَيْ
مُشْتَهِيَةٌ لَهُ. (إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي) فِي مَوْضِعِ
نَصْبٍ بِالِاسْتِثْنَاءِ، وَ" مَا" بِمَعْنَى مَنْ، أَيْ
إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبِّي فَعَصَمَهُ، وَ" مَا" بِمَعْنَى
مِنْ كَثِيرٍ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:" فَانْكِحُوا مَا طابَ
لَكُمْ مِنَ النِّساءِ" «4» [النِّسَاءِ: 3] وَهُوَ
اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ، لِأَنَّهُ اسْتِثْنَاءُ الْمَرْحُومِ
بِالْعِصْمَةِ مِنَ النَّفْسِ الْأَمَّارَةِ بِالسُّوءِ، وَفِي
الْخَبَرَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
أَنَّهُ قَالَ:" مَا تَقُولُونَ فِي صَاحِبٍ لَكُمْ إِنْ
أَنْتُمْ أَكْرَمْتُمُوهُ وَأَطْعَمْتُمُوهُ وَكَسَوْتُمُوهُ
أَفْضَى بِكُمْ إِلَى شَرِّ غَايَةٍ وَإِنْ أَهَنْتُمُوهُ
وَأَعْرَيْتُمُوهُ وَأَجَعْتُمُوهُ أَفْضَى بِكُمْ إِلَى
خَيْرِ غَايَةٍ" قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ! هَذَا شَرُّ
صَاحِبٍ فِي الْأَرْضِ. قَالَ:" فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ
إِنَّهَا لَنُفُوسِكُمُ الَّتِي بَيْنَ جنوبكم".
[سورة يوسف (12): آية 54]
وَقالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي
فَلَمَّا كَلَّمَهُ قالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنا مَكِينٌ
أَمِينٌ (54)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَقالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ
أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي) لَمَّا ثَبَتَ لِلْمَلِكِ
بَرَاءَتُهُ مِمَّا نُسِبَ إِلَيْهِ، وَتَحَقَّقَ فِي
الْقِصَّةِ أَمَانَتُهُ، وَفَهِمَ أَيْضًا صَبْرَهُ وَجَلَدَهُ
عَظُمَتْ مَنْزِلَتُهُ عِنْدَهُ، وَتَيَقَّنَ حُسْنَ خِلَالِهِ
قَالَ:" ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي" فَانْظُرْ
إِلَى قَوْلِ الْمَلِكِ أَوَّلًا- حِينَ تَحَقَّقَ عِلْمُهُ-"
ائْتُونِي بِهِ" فَقَطْ، فَلَمَّا فَعَلَ يُوسُفُ مَا فَعَلَ
ثَانِيًا «5» قَالَ:" ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ
لِنَفْسِي" وَرُوِيَ عَنْ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ قَالَ: لَمَّا
دُعِيَ يُوسُفُ وَقَفَ بِالْبَابِ فَقَالَ: حَسْبِي رَبِّي من
خلقه،
__________
(1). من ع. [ ..... ]
(2). راجع ج 17 ص 110.
(3). راجع ج 5 ص 246 فما بعد وص 12.
(4). راجع ج 5 ص 246 فما بعد وص 12.
(5). في ع وووى: قال ثانيا.
(9/210)
عَزَّ جَارُهُ وَجَلَّ ثَنَاؤُهُ وَلَا
إِلَهَ غَيْرُهُ. ثُمَّ دَخَلَ فَلَمَّا نَظَرَ إِلَيْهِ
الْمَلِكُ نَزَلَ عَنْ سَرِيرِهِ فَخَرَّ لَهُ سَاجِدًا، ثُمَّ
أَقْعَدَهُ الْمَلِكُ مَعَهُ عَلَى سَرِيرِهِ فَقَالَ."
إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنا مَكِينٌ أَمِينٌ" قَالَ لَهُ
يُوسُفُ" اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ"
[يوسف: 55] لِلْخَزَائِنِ" عَلِيمٌ" بِوُجُوهِ
تَصَرُّفَاتِهَا. وَقِيلَ: حَافِظٌ لِلْحِسَابِ، عَلِيمٌ
بِالْأَلْسُنِ. وَفِي الْخَبَرِ:" يَرْحَمُ اللَّهُ أَخِي
يُوسُفَ لَوْ لَمْ يَقُلِ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأرض
لاستعمله من ساعته ولكن أخر ذلك سَنَةً". وَقِيلَ: إِنَّمَا
تَأَخَّرَ تَمْلِيكَهُ إِلَى سَنَةٍ لِأَنَّهُ لَمْ يَقُلْ
إِنْ شَاءَ اللَّهُ. وَقَدْ قِيلَ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ:
إِنَّ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا دَخَلَ عَلَى
الْمَلِكِ قَالَ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ بِخَيْرِكَ
مِنْ خَيْرِهِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّهِ وَشَرِّ غَيْرِهِ،
ثُمَّ سَلَّمَ عَلَى الْمَلِكِ بِالْعَرَبِيَّةِ فَقَالَ: مَا
هَذَا اللِّسَانُ؟ قَالَ: هَذَا لِسَانُ عَمِّي إِسْمَاعِيلَ،
ثُمَّ دَعَا [لَهُ] «1» بِالْعِبْرَانِيَّةِ فَقَالَ: مَا
هَذَا اللِّسَانُ؟ قَالَ: لِسَانُ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ
وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ، وَكَانَ الْمَلِكُ يَتَكَلَّمُ
بِسَبْعِينَ لِسَانًا، فَكُلَّمَا [تَكَلَّمَ الْمَلِكُ «2»]
بِلِسَانٍ أَجَابَهُ يُوسُفُ بِذَلِكَ اللِّسَانِ، فَأَعْجَبَ
الْمَلِكَ أَمْرُهُ، وَكَانَ يُوسُفُ إِذْ ذَاكَ ابْنُ
ثَلَاثِينَ سَنَةً، ثُمَّ أَجْلَسَهُ عَلَى سَرِيرِهِ وَقَالَ:
أُحِبُّ أَنْ أَسْمَعَ مِنْكَ رُؤْيَايَ، قَالَ يُوسُفُ نَعَمْ
أَيُّهَا الْمَلِكُ! رَأَيْتَ سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ
شُهْبًا غُرًّا حِسَانًا، كَشَفَ لَكَ عَنْهُنَّ النِّيلُ
فَطَلَعْنَ عَلَيْكَ مِنْ شَاطِئِهِ تَشْخَبُ «3» أَخْلَافُهَا
لَبَنًا، فَبَيْنَا أَنْتَ تَنْظُرُ إِلَيْهِنَّ وَتَتَعَجَّبُ
مِنْ حُسْنِهِنَّ إِذْ نَضَبَ النِّيلُ فَغَارَ مَاؤُهُ،
وَبَدَا أُسُّهُ «4»، فَخَرَجَ مِنْ حَمِئِهِ وَوَحْلِهِ
سَبْعُ بَقَرَاتٍ عِجَافٌ شُعْثٌ غُبْرٌ مُقَلَّصَاتُ
الْبُطُونِ، لَيْسَ لَهُنَّ ضُرُوعٌ وَلَا أَخْلَافٌ،، لَهُنَّ
أَنْيَابٌ وَأَضْرَاسٌ، وَأَكُفٌّ كَأَكُفِّ الْكِلَابِ
وَخَرَاطِيمُ كَخَرَاطِيمِ السِّبَاعِ، فَاخْتَلَطْنَ
بِالسِّمَانِ فَافْتَرَسْنَهُنَّ افْتِرَاسَ السِّبَاعِ،
فَأَكَلْنَ لُحُومَهُنَّ، وَمَزَّقْنَ جُلُودَهُنَّ،
وَحَطَّمْنَ عِظَامَهُنَّ، وَمَشْمَشْنَ مُخَّهُنَّ، فَبَيْنَا
أَنْتَ تَنْظُرُ وَتَتَعَجَّبُ كَيْفَ غَلَبْنَهُنَّ وَهُنَّ
مَهَازِيلُ! ثُمَّ لَمْ يَظْهَرْ مِنْهُنَّ سِمَنٌ وَلَا
زِيَادَةٌ بَعْدَ أَكْلِهِنَّ! إِذَا بِسَبْعِ سَنَابِلَ
خُضْرٍ طَرِيَّاتٍ نَاعِمَاتٍ مُمْتَلِئَاتٍ حَبًّا وَمَاءً،
وَإِلَى جَانِبِهِنَّ سَبْعٌ يَابِسَاتٌ لَيْسَ فِيهِنَّ مَاءٌ
وَلَا خُضْرَةٌ فِي مَنْبَتٍ وَاحِدٍ، عُرُوقُهُنَّ فِي
الثَّرَى وَالْمَاءِ، فبينا أنت تقول في نفسك: أي شي هَذَا؟!
هَؤُلَاءِ خُضْرٌ مُثْمِرَاتٌ، وَهَؤُلَاءِ سُودٌ يَابِسَاتٌ،
والمنبت واحد، وأصولهن
__________
(1). من ع وى.
(2). من ع.
(3). تشخب: تسيل.
(4). في ع وى: يبسه.
(9/211)
قَالَ اجْعَلْنِي
عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ (55)
فِي الْمَاءِ، إِذْ هَبَّتْ رِيحٌ
فَذَرَّتِ الْأَوْرَاقَ مِنَ الْيَابِسَاتِ السُّودِ عَلَى
الْخُضْرِ الْمُثْمِرَاتِ، فَأَشْعَلَتْ فِيهِنَّ النَّارَ
فَأَحْرَقَتْهُنَّ، فَصِرْنَ سُودًا مُغْبَرَّاتٍ،
فَانْتَبَهْتَ مَذْعُورًا أَيُّهَا الْمَلِكُ، فَقَالَ
الْمَلِكُ: وَاللَّهِ مَا شَأْنُ هَذِهِ الرُّؤْيَا وَإِنْ
كَانَ عَجَبًا بِأَعْجَبَ مِمَّا سَمِعْتُ مِنْكَ! فَمَا تَرَى
فِي رُؤْيَايَ»
أَيُّهَا الصِّدِّيقُ؟ فَقَالَ يُوسُفُ: أَرَى أَنْ تَجْمَعَ
الطَّعَامَ، وَتَزْرَعَ زَرْعًا كَثِيرًا فِي هَذِهِ
السِّنِينَ الْمُخْصِبَةِ، فَإِنَّكَ لَوْ زَرَعْتَ عَلَى
حَجَرٍ أَوْ مَدَرٍ لَنَبَتَ، وَأَظْهَرَ اللَّهُ فِيهِ
النَّمَاءَ وَالْبَرَكَةَ، ثُمَّ تَرْفَعُ الزَّرْعَ فِي
قَصَبِهِ وَسُنْبُلِهِ تَبْنِي لَهُ الْمَخَازِنَ الْعِظَامَ
«2»، فَيَكُونُ الْقَصَبُ وَالسُّنْبُلُ عَلَفًا لِلدَّوَابِّ،
وَحَبَّهُ لِلنَّاسِ، وَتَأْمُرُ النَّاسَ فَيَرْفَعُونَ مِنْ
طَعَامِهِمْ إِلَى أَهْرَائِكَ «3» الْخُمُسَ، فَيَكْفِيكَ
مِنَ الطَّعَامِ الَّذِي جَمَعْتَهُ لِأَهْلِ مِصْرَ وَمَنْ
حَوْلَهَا، وَيَأْتِيكَ الْخَلْقُ مِنَ النَّوَاحِي
يَمْتَارُونَ مِنْكَ، وَيَجْتَمِعُ عِنْدَكَ مِنَ الْكُنُوزِ
مَا لَمْ يَجْتَمِعْ لِأَحَدٍ قَبْلَكَ، فَقَالَ الْمَلِكُ:
وَمَنْ لِي بِتَدْبِيرِ هَذِهِ الْأُمُورِ؟ وَلَوْ جَمَعْتُ
أَهْلَ مِصْرَ جَمِيعًا مَا أَطَاقُوا، وَلَمْ يَكُونُوا فِيهِ
أُمَنَاءَ، فَقَالَ يُوسُفُ عَلَيْهِ السَّلَامُ [عِنْدَ
ذَلِكَ «4»]:" اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الْأَرْضِ" [يوسف: 55]
أَيْ عَلَى خَزَائِنِ أَرْضِكَ، وَهِيَ جَمْعُ خِزَانَةٍ،
وَدَخَلَتِ الْأَلِفُ وَاللَّامُ عِوَضًا مِنَ الْإِضَافَةِ،
كَقَوْلِ النَّابِغَةُ:
لَهُمْ شِيمَةٌ لَمْ يُعْطِهَا اللَّهُ غَيْرَهُمْ ... مِنَ
الْجُودِ وَالْأَحْلَامِ غَيْرُ كَوَاذِبِ
قَوْلُهُ تَعَالَى: (أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي) جُزِمَ
لِأَنَّهُ جَوَابُ الْأَمْرِ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ
قَوْلَهُ:" ذلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ
بِالْغَيْبِ" جَرَى فِي السِّجْنِ. وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ جَرَى
عِنْدَ الْمَلِكِ ثُمَّ قَالَ فِي مجلس آخر:" ائْتُونِي بِهِ"
[يوسف: 50] تَأْكِيدًا" أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي" أَيْ
أَجْعَلُهُ خَالِصًا لِنَفْسِي، أُفَوِّضُ إِلَيْهِ أَمْرَ
مَمْلَكَتِي، فَذَهَبُوا فَجَاءُوا بِهِ، ودل على هذا:
(فَلَمَّا كَلَّمَهُ) أَيْ كَلَّمَ الْمَلِكُ يُوسُفَ،
وَسَأَلَهُ عَنِ الرُّؤْيَا فَأَجَابَ يُوسُفُ، فَ (قالَ)
الْمَلِكُ: (إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنا مَكِينٌ أَمِينٌ) أَيْ
مُتَمَكِّنٌ نافذ القول،" أَمِينٌ" لا تخاف غدرا.
[سورة يوسف (12): آية 55]
قالَ اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ
عَلِيمٌ (55)
__________
(1). في ع: فما ترى في هذه الرؤيا.
(2). في ع: العظمى.
(3). كذا في ع وى وك: هو بيت كبير يجمع فيه طعام السلطان. وهى
مخازن الحبوب اليوم. وفي اوح أمرائك.
(4). من ع وى.
(9/212)
فِيهِ أَرْبَعُ مَسَائِلَ: الْأُولَى-
قَوْلُهُ تَعَالَى: (قالَ اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الْأَرْضِ)
قَالَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ: سَمِعْتُ مَالِكَ بْنَ أَنَسٍ
يَقُولُ: مِصْرُ خِزَانَةُ الْأَرْضِ، أَمَا سَمِعْتَ إِلَى
قَوْلِهِ:" اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الْأَرْضِ" أَيْ عَلَى
حِفْظِهَا، فَحَذَفَ الْمُضَافَ. (إِنِّي حَفِيظٌ) لِمَا
وُلِّيتُ (عَلِيمٌ) بِأَمْرِهِ. وَفِي التَّفْسِيرِ: إِنِّي
حَاسِبٌ كَاتِبٌ، وَأَنَّهُ أَوَّلُ مَنْ كَتَبَ فِي
الْقَرَاطِيسِ. وَقِيلَ:" حَفِيظٌ" لِتَقْدِيرِ الْأَقْوَاتِ"
عَلِيمٌ" بِسِنِي الْمَجَاعَاتِ. قَالَ جُوَيْبِرٌ عَنِ
الضَّحَّاكِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" رَحِمَ اللَّهُ أَخِي
يُوسُفَ لَوْ لَمْ يَقُلِ اجْعَلْنِي عَلَى خزائن الأرض
لاستعمله من ساعته ولكن أخر ذَلِكَ عَنْهُ سَنَةً". قَالَ
ابْنُ عَبَّاسٍ: لَمَّا انْصَرَمَتِ السَّنَةُ مِنْ يَوْمِ
سَأَلَ الْإِمَارَةَ دَعَاهُ الْمَلِكُ فَتَوَجَّهَ وَرَدَّاهُ
«1» بِسَيْفِهِ، وَوَضَعَ لَهُ سَرِيرًا مِنْ ذَهَبٍ،
مُكَلَّلًا بِالدُّرِّ وَالْيَاقُوتِ، وَضَرَبَ عَلَيْهِ
حُلَّةً مِنْ إِسْتَبْرَقٍ، وَكَانَ طُولَ السَّرِيرِ
ثَلَاثِينَ ذِرَاعًا وَعَرْضُهُ عَشَرَةُ أَذْرُعٍ، عَلَيْهِ
ثَلَاثُونَ فِرَاشًا وَسِتُّونَ مِرْفَقَةً «2»، ثُمَّ
أَمَرَهُ أَنْ يَخْرُجَ، فَخَرَجَ مُتَوَّجًا، لَوْنُهُ
كَالثَّلْجِ، وَوَجْهُهُ كَالْقَمَرِ، يَرَى النَّاظِرُ
وَجْهَهُ مِنْ صَفَاءِ لَوْنِ وَجْهِهِ، فَجَلَسَ عَلَى
السَّرِيرِ وَدَانَتْ لَهُ الْمُلُوكُ، وَدَخَلَ الْمَلِكُ
بَيْتَهُ مَعَ نِسَائِهِ، وَفَوَّضَ إِلَيْهِ أَمْرَ مِصْرَ،
وَعَزْلَ قِطْفِيرَ عَمَّا كَانَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ يُوسُفَ
مَكَانَهُ. قَالَ ابْنُ زَيْدٍ: كَانَ لِفِرْعَوْنَ مَلِكِ
مِصْرَ خَزَائِنُ كَثِيرَةٌ غَيْرَ الطَّعَامِ، فَسَلَّمَ
سُلْطَانَهُ كُلَّهُ إِلَيْهِ، وَهَلَكَ قِطْفِيرُ تِلْكَ
اللَّيَالِي، فَزَوَّجَ الْمَلِكُ يُوسُفَ رَاعِيلَ امْرَأَةَ
الْعَزِيزِ، فَلَمَّا دَخَلَ عَلَيْهَا قَالَ: أَلَيْسَ هَذَا
خَيْرًا مِمَّا كُنْتِ تُرِيدِينَ؟! فَقَالَتْ: أَيُّهَا
الصِّدِّيقُ لَا تَلُمْنِي، فَإِنِّي كُنْتُ امْرَأَةً
حَسْنَاءَ نَاعِمَةً كَمَا تَرَى، وَكَانَ صَاحِبِي لَا
يَأْتِي النِّسَاءَ، وَكُنْتَ كَمَا جَعَلَكَ اللَّهُ مِنَ
الْحُسْنِ فَغَلَبَتْنِي نَفْسِي. فَوَجَدَهَا يُوسُفُ
عَذْرَاءَ فَأَصَابَهَا فَوَلَدَتْ لَهُ رَجُلَيْنِ:
إِفْرَاثِيمَ بْنَ يُوسُفَ، ومنشا بْنَ يُوسُفَ. وَقَالَ
وَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ: إِنَّمَا كَانَ تَزْوِيجُهُ زَلِيخَاءَ
امْرَأَةَ الْعَزِيزِ بَيْنَ دَخْلَتَيِ الْإِخْوَةِ، وَذَلِكَ
أَنَّ زَلِيخَاءَ مَاتَ زَوْجُهَا وَيُوسُفُ فِي السِّجْنِ،
وَذَهَبَ مَالُهَا وَعَمِيَ بَصَرُهَا بُكَاءً عَلَى يُوسُفَ،
فَصَارَتْ تَتَكَفَّفُ النَّاسَ، فَمِنْهُمْ من يرحمها ومنهم
من لا يرحمها،
__________
(1). رداه بسيفه: قلده به.
(2). المرفقة (بالكسر): المتكأ والمخدة [ ..... ]
(9/213)
وَكَانَ يُوسُفُ يَرْكَبُ فِي كُلِّ
أُسْبُوعٍ مَرَّةً فِي مَوْكِبٍ زُهَاءَ مِائَةِ أَلْفٍ مِنْ
عُظَمَاءِ قَوْمِهِ، فَقِيلَ لَهَا: لَوْ تَعَرَّضْتِ لَهُ
لَعَلَّهُ يُسْعِفُكِ بِشَيْءٍ، ثُمَّ قِيلَ لَهَا: لَا
تَفْعَلِي، فَرُبَّمَا ذَكَرَ بَعْضَ مَا كَانَ مِنْكِ مِنَ
الْمُرَاوَدَةِ وَالسِّجْنِ فَيُسِيءُ إِلَيْكِ، فَقَالَتْ:
أَنَا أَعْلَمُ بِخُلُقِ حَبِيبِي مِنْكُمْ، ثُمَّ تَرَكْتَهُ
حَتَّى إِذَا رَكِبَ فِي مَوْكِبِهِ، [قَامَتْ] «1» فَنَادَتْ
بِأَعْلَى صَوْتِهَا: سُبْحَانَ مَنْ جَعَلَ الْمُلُوكَ
عَبِيدًا بِمَعْصِيَتِهِمْ، وَجَعَلَ الْعَبِيدَ مُلُوكًا
بِطَاعَتِهِمْ، فَقَالَ يُوسُفُ: مَا هَذِهِ؟ فَأَتَوْا بِهَا،
فَقَالَتْ: أَنَا الَّتِي كُنْتُ أَخْدُمُكَ «2» عَلَى صُدُورِ
قَدَمِي، وَأُرَجِّلُ جُمَّتَكَ بِيَدِي، وَتَرَبَّيْتَ فِي
بَيْتِي، وَأَكْرَمْتُ مَثْوَاكَ، لَكِنْ فَرَطَ مَا فَرَطَ
مِنْ جَهْلِي وَعُتُوِّي فَذُقْتُ وَبَالَ أَمْرِي، فَذَهَبَ
مَالِي، وَتَضَعْضَعَ رُكْنِي، وَطَالَ ذُلِّي، وَعَمِيَ بصري،
وبعد ما كُنْتُ مَغْبُوطَةَ أَهْلِ مِصْرَ صِرْتُ
مَرْحُومَتَهُمْ، أَتَكَفَّفُ النَّاسَ، فَمِنْهُمْ مَنْ
يَرْحَمُنِي، وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يَرْحَمُنِي، وَهَذَا
جَزَاءُ الْمُفْسِدِينَ، فَبَكَى يُوسُفُ بُكَاءً شَدِيدًا،
ثُمَّ قَالَ لَهَا: هَلْ بَقِيتِ تَجِدِينَ مِمَّا كَانَ فِي
نَفْسِكِ مِنْ حُبِّكِ لِي شَيْئًا؟ فَقَالَتْ: وَاللَّهِ
لَنَظْرَةٌ إِلَى وَجْهِكَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنَ الدُّنْيَا
بِحَذَافِيرِهَا، لَكِنْ نَاوِلْنِي صَدْرَ سَوْطِكَ،
فَنَاوَلَهَا فَوَضَعَتْهُ عَلَى صَدْرِهَا، فَوَجَدَ
لِلسَّوْطِ فِي يَدِهِ اضْطِرَابًا وَارْتِعَاشًا مِنْ
خَفَقَانِ قَلْبِهَا، فَبَكَى ثُمَّ مَضَى إِلَى مَنْزِلِهِ
فَأَرْسَلَ إِلَيْهَا رَسُولًا: إِنْ كُنْتِ أَيِّمًا
تَزَوَّجْنَاكِ، وَإِنْ كُنْتِ ذَاتَ بَعْلٍ أَغْنَيْنَاكِ،
فَقَالَتْ لِلرَّسُولِ: أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ يَسْتَهْزِئَ
بِي الْمَلِكُ! لَمْ يُرِدْنِي أَيَّامَ شَبَابِي وَغِنَايَ
وَمَالِي وَعِزِّي أَفَيُرِيدُنِي الْيَوْمَ وَأَنَا عَجُوزٌ
عَمْيَاءُ فَقِيرَةٌ؟! فَأَعْلَمَهُ الرَّسُولُ
بِمَقَالَتِهَا، فَلَمَّا رَكِبَ فِي الْأُسْبُوعِ الثَّانِي
تَعَرَّضَتْ لَهُ، فَقَالَ لَهَا: أَلَمْ يَبْلُغْكِ
الرَّسُولُ؟ فَقَالَتْ: قَدْ أَخْبَرْتُكَ أَنَّ نَظْرَةً
وَاحِدَةً إِلَى وَجْهِكَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنَ الدُّنْيَا
وَمَا فِيهَا، فَأَمَرَ بِهَا فَأُصْلِحَ مِنْ شَأْنِهَا
وَهُيِّئَتْ، ثُمَّ زُفَّتْ إِلَيْهِ، فَقَامَ يُوسُفُ
يُصَلِّي وَيَدْعُو اللَّهَ، وَقَامَتْ وَرَاءَهُ، فَسَأَلَ
اللَّهَ تَعَالَى أَنْ يُعِيدَ إِلَيْهَا شَبَابَهَا
وَجَمَالَهَا وَبَصَرَهَا، فَرَدَّ اللَّهُ عَلَيْهَا
شَبَابَهَا وَجَمَالَهَا وَبَصَرَهَا حَتَّى عَادَتْ أَحْسَنَ
مَا كَانَتْ يَوْمَ رَاوَدَتْهُ، إِكْرَامًا لِيُوسُفَ
عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا عَفَّ عَنْ مَحَارِمِ اللَّهِ،
فَأَصَابَهَا فَإِذَا هِيَ عَذْرَاءُ، فَسَأَلَهَا، فَقَالَتْ:
يَا نَبِيَّ اللَّهِ إِنَّ زَوْجِي كَانَ عِنِّينًا لَا
يَأْتِي النِّسَاءَ، وَكُنْتَ أَنْتَ مِنَ الْحُسْنِ
وَالْجَمَالِ بِمَا لَا يُوصَفُ، قَالَ: فَعَاشَا فِي خَفْضِ
«3» عَيْشٍ، فِي كُلِّ يَوْمٍ يُجَدِّدُ اللَّهُ لَهُمَا
خَيْرًا، وَوَلَدَتْ لَهُ وَلَدَيْنِ، إِفْرَاثِيمَ ومنشأ.
وفيما روي
__________
(1). من ع، ك، ى.
(2). في ع: أقدمك على صدور قومي.
(3). خفض عيش: في سعة وراحة.
(9/214)
أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَلْقَى فِي قَلْبِ
يُوسُفَ مِنْ مَحَبَّتِهَا أَضْعَافَ مَا كَانَ فِي قَلْبِهَا،
فَقَالَ لَهَا: مَا شَأْنُكِ لَا تُحِبِّينَنِي كَمَا كُنْتِ
فِي أَوَّلِ مَرَّةٍ؟ فَقَالَتْ [لَهُ] «1»: لَمَّا ذُقْتُ
مَحَبَّةَ اللَّهِ تَعَالَى شَغَلَنِي ذَلِكَ عَنْ كل شي.
الثَّانِيَةُ- قَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: فِي هَذِهِ
الْآيَةِ مَا يُبِيحُ لِلرَّجُلِ الْفَاضِلِ أَنْ يَعْمَلَ
لِلرَّجُلِ الْفَاجِرِ، وَالسُّلْطَانِ الْكَافِرِ، بِشَرْطِ
أَنْ يَعْلَمَ أَنَّهُ يُفَوِّضُ إِلَيْهِ فِي فِعْلٍ لَا
يُعَارِضُهُ فِيهِ، فَيُصْلِحُ مِنْهُ مَا شَاءَ، وَأَمَّا
إِذَا كَانَ عَمَلُهُ بِحَسَبِ اخْتِيَارِ الْفَاجِرِ
وَشَهَوَاتِهِ وَفُجُورِهِ فَلَا يَجُوزُ ذَلِكَ. وَقَالَ
قَوْمٌ: إِنَّ هَذَا كَانَ لِيُوسُفَ خَاصَّةً، وَهَذَا
الْيَوْمُ غَيْرُ جَائِزٍ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى إِذَا كَانَ
عَلَى الشَّرْطِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: فَإِنْ كَانَ الْمُوَلِّي ظَالِمًا
فَقَدِ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي جَوَازِ الْوِلَايَةِ مِنْ
قِبَلِهِ عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا- جَوَازُهَا إِذَا
عَمِلَ بِالْحَقِّ فِيمَا تَقَلَّدَهُ، لِأَنَّ يُوسُفَ
وُلِّيَ مِنْ قِبَلِ فِرْعَوْنَ، وَلِأَنَّ الِاعْتِبَارَ فِي
حَقِّهِ بِفِعْلِهِ لَا بِفِعْلِ غَيْرِهِ. الثَّانِي- أَنَّهُ
لَا يَجُوزُ ذَلِكَ، لِمَا فِيهِ مِنْ تَوَلِّي الظَّالِمِينَ
بِالْمَعُونَةِ لَهُمْ، وَتَزْكِيَتِهِمْ بِتَقَلُّدِ
أَعْمَالِهِمْ، فَأَجَابَ مَنْ ذَهَبَ إِلَى هَذَا الْمَذْهَبِ
عَنْ وِلَايَةِ يُوسُفَ مِنْ قِبَلِ فِرْعَوْنَ بِجَوَابَيْنِ:
أَحَدُهُمَا- أَنَّ فِرْعَوْنَ يُوسُفَ كَانَ صَالِحًا،
وَإِنَّمَا الطَّاغِي فِرْعَوْنُ مُوسَى. الثَّانِي- أَنَّهُ
نَظَرَ فِي أَمْلَاكِهِ دُونَ أَعْمَالِهِ، فَزَالَتْ عَنْهُ
التَّبِعَةُ فِيهِ. قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَالْأَصَحُّ مِنْ
إِطْلَاقِ هَذَيْنَ الْقَوْلَيْنِ أَنْ يُفَصَّلَ مَا
يَتَوَلَّاهُ مِنْ جِهَةِ الظَّالِمِ عَلَى ثَلَاثَةِ
أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا- مَا يَجُوزُ لِأَهْلِهِ فِعْلُهُ مِنْ
غَيْرِ اجْتِهَادٍ فِي تَنْفِيذِهِ كَالصَّدَقَاتِ
وَالزَّكَوَاتِ، فَيَجُوزُ تَوَلِّيهِ مِنْ جِهَةِ الظَّالِمِ،
لِأَنَّ النَّصَّ عَلَى مُسْتَحِقِّهِ قَدْ أَغْنَى عَنِ
الِاجْتِهَادِ فِيهِ، وَجَوَازُ تَفَرُّدِ أَرْبَابِهِ بِهِ
قَدْ أَغْنَى عَنِ التَّقْلِيدِ. وَالْقِسْمُ الثَّانِي- مَا
لَا يَجُوزُ أَنْ يَتَفَرَّدُوا بِهِ وَيَلْزَمُ الِاجْتِهَادُ
فِي مَصْرِفِهِ كَأَمْوَالِ الْفَيْءِ، فَلَا يَجُوزُ
تَوَلِّيهِ مِنْ جِهَةِ الظَّالِمِ، لِأَنَّهُ يَتَصَرَّفُ
بِغَيْرِ حَقٍّ، وَيَجْتَهِدُ فِيمَا لَا يَسْتَحِقُّ.
وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ- مَا يَجُوزُ أَنْ يَتَوَلَّاهُ
لِأَهْلِهِ، وَلِلِاجْتِهَادِ فِيهِ مَدْخَلٌ كَالْقَضَايَا
وَالْأَحْكَامِ، فَعَقْدُ التَّقْلِيدِ مَحْلُولٌ، فَإِنْ
كَانَ النَّظَرُ تَنْفِيذًا لِلْحُكْمِ بَيْنَ
مُتَرَاضِيَيْنِ، وَتَوَسُّطًا بَيْنَ مَجْبُورَيْنِ جَازَ،
وَإِنْ كَانَ إِلْزَامُ إِجْبَارٍ لَمْ يَجُزْ. الثَّالِثَةُ-
وَدَلَّتِ الْآيَةُ أَيْضًا عَلَى جَوَازِ أَنْ يَخْطُبَ
الْإِنْسَانُ عَمَلًا يَكُونُ لَهُ أَهْلًا، فَإِنْ قِيلَ:
فَقَدْ رَوَى مُسْلِمٌ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَمُرَةَ
قَالَ قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ:
__________
(1). من ع.
(9/215)
" يَا عَبْدَ الرَّحْمَنِ لَا تَسْأَلِ
الْإِمَارَةَ فَإِنَّكَ إِنْ أُعْطِيتَهَا عَنْ مَسْأَلَةٍ
وُكِلْتَ إِلَيْهَا وَإِنْ أُعْطِيتَهَا عَنْ غَيْرِ
مَسْأَلَةٍ أُعِنْتَ عَلَيْهَا". وَعَنْ أَبِي بُرْدَةَ قَالَ
قَالَ أَبُو مُوسَى: أَقْبَلْتُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَعِي رَجُلَانِ مِنَ
الْأَشْعَرِيِّينَ، أَحَدُهُمَا عَنْ يَمِينِي وَالْآخَرُ عَنْ
يَسَارِي، فَكِلَاهُمَا سَأَلَ الْعَمَلَ، وَالنَّبِيُّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْتَاكُ، فَقَالَ:" مَا تَقُولُ
يَا أَبَا مُوسَى- أَوْ يَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ قَيْسٍ".
قَالَ قُلْتُ: وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ ما أطلعاني علما
فِي أَنْفُسِهِمَا، وَمَا شَعَرْتُ أَنَّهُمَا يَطْلُبَانِ
الْعَمَلَ، قَالَ: وَكَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى سِوَاكِهِ تَحْتَ
شَفَتِهِ وقد قلصت «1»، فقال:" لن- أولا نَسْتَعْمِلُ عَلَى
عَمَلِنَا مَنْ أَرَادَهُ" وَذَكَرَ الْحَدِيثَ، خَرَّجَهُ
مُسْلِمٌ أَيْضًا وَغَيْرُهُ، فَالْجَوَابُ: أَوَّلًا- أَنَّ
يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِنَّمَا طَلَبَ الْوِلَايَةَ
لِأَنَّهُ عَلِمَ أَنَّهُ لَا أَحَدَ يَقُومُ مَقَامَهُ فِي
الْعَدْلِ وَالْإِصْلَاحِ وَتَوْصِيلِ الْفُقَرَاءِ إِلَى
حُقُوقِهِمْ فَرَأَى أَنَّ ذَلِكَ فَرْضٌ مُتَعَيِّنٌ عَلَيْهِ
فَإِنَّهُ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ غَيْرُهُ، وَهَكَذَا الْحُكْمُ
الْيَوْمَ، لَوْ عَلِمَ إِنْسَانٌ مِنْ نَفْسِهِ أَنَّهُ
يَقُومُ بِالْحَقِّ فِي الْقَضَاءِ أَوِ الْحِسْبَةِ وَلَمْ
يَكُنْ هُنَاكَ مَنْ يَصْلُحُ وَلَا يَقُومُ مَقَامَهُ
لَتَعَيَّنَ ذَلِكَ عَلَيْهِ، وَوَجَبَ أَنْ يَتَوَلَّاهَا
وَيَسْأَلُ ذَلِكَ، وَيُخْبِرُ بِصِفَاتِهِ الَّتِي
يَسْتَحِقُّهَا بِهِ مِنَ الْعِلْمِ وَالْكِفَايَةِ وَغَيْرِ
ذَلِكَ، كَمَا قَالَ يُوسُفُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَأَمَّا
لَوْ كَانَ هُنَاكَ مَنْ يَقُومُ بِهَا وَيَصْلُحُ لَهَا
وَعَلِمَ بِذَلِكَ فَالْأَوْلَى أَلَّا يَطْلُبَ، لقول
عَلَيْهِ السَّلَامُ لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ:" لَا تَسْأَلِ
الْإِمَارَةَ" [وَأَيْضًا] «2» فَإِنَّ فِي سُؤَالِهَا
وَالْحِرْصِ عَلَيْهَا مَعَ العلم بكثرة آفاتها وصعوبة التخلص
منها دليل عَلَى أَنَّهُ يَطْلُبُهَا لِنَفْسِهِ
وَلِأَغْرَاضِهِ، وَمَنْ كَانَ هَكَذَا يُوشِكُ أَنْ تَغْلِبَ
عَلَيْهِ نَفْسُهُ فَيَهْلِكُ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ
عَلَيْهِ السَّلَامُ:" وُكِلَ إِلَيْهَا" وَمَنْ أَبَاهَا
لِعِلْمِهِ بِآفَاتِهَا، وَلِخَوْفِهِ مِنَ التَّقْصِيرِ فِي
حُقُوقِهَا فَرَّ مِنْهَا، ثُمَّ إِنِ ابْتُلِيَ بِهَا
فَيُرْجَى لَهُ التَّخَلُّصُ مِنْهَا، وَهُوَ مَعْنَى
قَوْلِهِ:" أُعِينَ عَلَيْهَا". الثَّانِي- أَنَّهُ لَمْ
يَقُلْ: إِنِّي حَسِيبٌ كَرِيمٌ، وَإِنْ كَانَ كَمَا قَالَ
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" الْكَرِيمُ
ابْنُ الْكَرِيمِ ابْنِ الْكَرِيمِ [ابْنِ الْكَرِيمِ] «3»
يُوسُفُ بْنُ يَعْقُوبَ بْنِ إِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ"
وَلَا قَالَ: إِنِّي جَمِيلٌ مَلِيحٌ، إِنَّمَا قَالَ:" إِنِّي
حَفِيظٌ عَلِيمٌ" فَسَأَلَهَا بِالْحِفْظِ وَالْعِلْمِ، لَا
بِالنَّسَبِ وَالْجَمَالِ. الثَّالِثُ- إِنَّمَا قَالَ ذَلِكَ
عِنْدَ مَنْ لَا يَعْرِفُهُ فَأَرَادَ تَعْرِيفَ نَفْسِهِ،
وَصَارَ ذَلِكَ مُسْتَثْنًى
__________
(1). قلصت: انقبضت وانزوت.
(2). من ع.
(3). من ع وى.
(9/216)
وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا
لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ
نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ وَلَا نُضِيعُ أَجْرَ
الْمُحْسِنِينَ (56) وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ
آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (57)
مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى:" فَلا تُزَكُّوا
أَنْفُسَكُمْ". الرَّابِعُ- أَنَّهُ رَأَى ذَلِكَ فَرْضًا
مُتَعَيِّنًا عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ هُنَالِكَ
غَيْرُهُ، وَهُوَ الْأَظْهَرُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
[الرَّابِعَةُ] «1» وَدَلَّتِ الْآيَةُ أَيْضًا عَلَى أَنَّهُ
يَجُوزُ لِلْإِنْسَانِ أَنْ يَصِفَ نَفْسَهُ بِمَا فِيهِ مِنْ
عِلْمٍ وَفَضْلٍ، قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَلَيْسَ هَذَا عَلَى
الْإِطْلَاقِ فِي عُمُومِ الصِّفَاتِ، وَلَكِنَّهُ مَخْصُوصٌ
فِيمَا اقْتَرَنَ بِوَصْلِهِ، أَوْ تَعَلَّقَ بِظَاهِرٍ مِنْ
مَكْسَبٍ، وَمَمْنُوعٌ مِنْهُ فِيمَا سِوَاهُ، لِمَا فِيهِ
مِنْ تَزْكِيَةٍ وَمُرَاءَاةٍ، وَلَوْ مَيَّزَهُ الْفَاضِلُ
عَنْهُ لَكَانَ أَلْيَقَ بِفَضْلِهِ، فَإِنَّ يُوسُفَ دَعَتْهُ
الضَّرُورَةُ إِلَيْهِ لِمَا سَبَقَ مِنْ حَالِهِ، وَلِمَا
يَرْجُو من الظفر بأهله.
[سورة يوسف (12): الآيات 56 الى 57]
وَكَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ
مِنْها حَيْثُ يَشاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنا مَنْ نَشاءُ وَلا
نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (56) وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ
خَيْرٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ (57)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَكَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي
الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْها حَيْثُ يَشاءُ) أَيْ وَمِثْلُ
هَذَا الْإِنْعَامِ الَّذِي أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ فِي
تَقْرِيبِهِ إِلَى قَلْبِ الْمَلِكِ، وَإِنْجَائِهِ مِنَ
السِّجْنِ مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ، [أَيْ] «2»
أَقَدَرْنَاهُ على ما يريد. وقال الكيا الطبري قول تَعَالَى:"
وَكَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ" دَلِيلٌ عَلَى
إِجَازَةِ الْحِيلَةِ فِي التَّوَصُّلِ إِلَى الْمُبَاحِ،
وَمَا فِيهِ الْغِبْطَةُ وَالصَّلَاحُ، وَاسْتِخْرَاجُ
الْحُقُوقِ، وَمِثْلُهُ قول تَعَالَى:" وَخُذْ بِيَدِكَ
ضِغْثاً فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ" «3» [ص: 44] وَحَدِيثُ
أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ فِي عَامِلِ خَيْبَرَ، وَالَّذِي
أَدَّاهُ مِنَ التَّمْرِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَا قَالَهُ «4». قُلْتُ: وَهَذَا
مَرْدُودٌ عَلَى مَا يَأْتِي. يُقَالُ: مَكَّنَّاهُ
وَمَكَّنَّا لَهُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:" مَكَّنَّاهُمْ فِي
الْأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ" «5» [الأنعام: 6]. قَالَ
الطَّبَرِيُّ: اسْتَخْلَفَ الْمَلِكُ الْأَكْبَرُ الْوَلِيدُ
بْنُ الرَّيَّانِ يُوسُفَ عَلَى عَمَلِ إِطْفِيرَ وَعَزَلَهُ،
قَالَ مُجَاهِدٌ: وَأَسْلَمَ عَلَى يَدَيْهِ. قَالَ ابْنُ
عَبَّاسٍ: ملكه بعد سنة
__________
(1). من ع، ك، ى.
(2). من ع، ك، ى.
(3). راجع ج 15 ص 212.
(4). الحديث: هُوَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ استعمل رجلا على خيبر، فجاءه بتمر جنيب،
وهو نوع جيد من أنواع التمر، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" كل تمر خيبر هكذا" فقال
لا والله يا رسول الله، إنا لنأخذ الصاع من هذا بالصاعين
بالثلاثة، فقال:" لا تفعل بع الجمع بالدراهم ثم ابتع بالدراهم
جنيبا". (البخاري).
(5). راجع ج 6 ص 391.
(9/217)
وَنِصْفٍ. وَرَوَى مُقَاتِلٌ إِنَّ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:" لَوْ
أَنَّ يُوسُفُ قَالَ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ إِنْ شَاءَ
اللَّهُ لَمُلِّكَ فِي وَقْتِهِ". ثُمَّ مَاتَ إِطْفِيرُ
فَزَوَّجَهُ الْوَلِيدُ بِزَوْجَةِ إِطْفِيرَ رَاعِيلَ،
فَدَخَلَ بِهَا يُوسُفُ فَوَجَدَهَا عَذْرَاءَ، وَوَلَدَتْ
لَهُ وَلَدَيْنِ: إِفْرَاثِيمَ ومنشا، ابْنَيْ يُوسُفَ، وَمَنْ
زَعَمَ أَنَّهَا زَلِيخَاءُ قَالَ: لَمْ يَتَزَوَّجْهَا
يُوسُفُ، وَأَنَّهَا لَمَّا رَأَتْهُ فِي مَوْكِبِهِ بَكَتْ،
ثُمَّ قَالَتِ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي جَعَلَ الْمُلُوكَ
عَبِيدًا بِالْمَعْصِيَةِ، وَالْحَمْدِ لِلَّهِ الَّذِي جَعَلَ
الْعَبِيدَ بِالطَّاعَةِ مُلُوكًا، فَضَمَّهَا إِلَيْهِ،
فَكَانَتْ مِنْ عِيَالِهِ حَتَّى مَاتَتْ عِنْدَهُ، وَلَمْ
يَتَزَوَّجْهَا، ذَكَرَهُ الْمَاوَرْدِيُّ، وَهُوَ خِلَافُ مَا
تَقَدَّمَ عَنْ وَهْبٍ، وَذَكَرَهُ الثَّعْلَبِيُّ، فَاللَّهُ
أَعْلَمُ. وَلَمَّا فَوَّضَ الْمَلِكُ أَمْرَ مِصْرَ إِلَى
يُوسُفَ تَلَطَّفَ بِالنَّاسِ، وَجَعَلَ يَدْعُوهُمْ إِلَى
الْإِسْلَامِ حَتَّى آمَنُوا بِهِ، وَأَقَامَ فِيهِمُ
الْعَدْلَ، فَأَحَبَّهُ الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ، قَالَ وَهْبٌ
وَالسُّدِّيُّ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُمْ: ثُمَّ دَخَلَتِ
السُّنُونَ الْمُخْصِبَةُ، فَأَمَرَ يُوسُفُ بِإِصْلَاحِ
الْمَزَارِعِ، وَأَمَرَهُمْ أَنْ يَتَوَسَّعُوا فِي
الزِّرَاعَةِ، فَلَمَّا أَدْرَكَتِ الْغَلَّةُ أَمَرَ بِهَا
فَجُمِعَتْ، ثُمَّ بَنَى لَهَا الْأَهْرَاءَ، فَجُمِعَتْ
فِيهَا فِي تِلْكَ السَّنَةِ غَلَّةٌ ضَاقَتْ عَنْهَا
الْمَخَازِنُ لِكَثْرَتِهَا، ثُمَّ جَمَعَ عَلَيْهِ غَلَّةَ
كُلِّ سَنَةٍ كَذَلِكَ، حَتَّى إِذَا انْقَضَتِ السَّبْعُ
الْمُخْصِبَةُ وَجَاءَتِ السُّنُونَ الْمُجْدِبَةُ نَزَلَ
جِبْرِيلُ وَقَالَ: يَا أَهْلَ مِصْرَ جُوعُوا، فَإِنَّ
اللَّهَ سَلَّطَ عَلَيْكُمُ الْجُوعَ سَبْعَ سِنِينَ. وَقَالَ
بَعْضُ أَهْلِ الْحِكْمَةِ: لِلْجُوعِ وَالْقَحْطِ
عَلَامَتَانِ: إِحْدَاهُمَا- أَنَّ النَّفْسَ تُحِبُّ
الطَّعَامَ أَكْثَرُ مِنَ الْعَادَةِ، وَيُسْرِعُ إِلَيْهَا
الْجُوعُ خِلَافَ مَا كَانَتْ عَلَيْهِ قَبْلَ ذَلِكَ،
وَتَأْخُذُ مِنَ الطَّعَامِ فَوْقَ الْكِفَايَةِ.
وَالثَّانِيَةُ- أَنْ يُفْقَدَ الطَّعَامُ فَلَا يُوجَدُ
رَأْسًا وَيَعِزُّ إِلَى الْغَايَةِ، فَاجْتَمَعَتْ هَاتَانِ
الْعَلَامَتَانِ فِي عَهْدِ يُوسُفَ، فَانْتَبَهَ الرِّجَالُ
وَالنِّسَاءُ وَالصِّبْيَانُ يُنَادُونَ الْجُوعَ الْجُوعَ!!
وَيَأْكُلُونَ وَلَا يَشْبَعُونَ، وَانْتَبَهَ الْمَلِكُ،
يُنَادِي الْجُوعَ الْجُوعَ!! قَالَ: فَدَعَا لَهُ يُوسُفُ
فَأَبْرَأَهُ اللَّهُ مِنْ ذَلِكَ، ثُمَّ أَصْبَحَ فَنَادَى
يُوسُفُ فِي أَرْضِ مِصْرَ كُلِّهَا، مَعَاشِرَ النَّاسِ! لَا
يَزْرَعُ أَحَدٌ زرعا فيضيع الذر ولا يطلع شي. وَجَاءَتْ
تِلْكَ السُّنُونَ بِهَوْلٍ عَظِيمٍ لَا يُوصَفُ، قَالَ ابْنُ
عَبَّاسٍ: لَمَّا كَانَ ابْتِدَاءُ الْقَحْطِ بَيْنَا
الْمَلِكُ فِي جَوْفِ اللَّيْلِ أَصَابَهُ الْجُوعُ فِي نِصْفِ
اللَّيْلِ، فَهَتَفَ الْمَلِكُ يَا يُوسُفُ! الْجُوعَ
الْجُوعَ!! فَقَالَ يُوسُفُ: هَذَا أَوَانُ الْقَحْطِ،
فَلَمَّا دَخَلَتْ أَوَّلُ سَنَةٍ مِنْ سِنِي الْقَحْطِ هلك
فيها كل شي أَعَدُّوهُ فِي السِّنِينَ
(9/218)
الْمُخْصِبَةِ، فَجَعَلَ أَهْلُ مِصْرَ
يَبْتَاعُونَ الطَّعَامَ مِنْ يُوسُفَ، فَبَاعَهُمْ أَوَّلَ
سَنَةٍ بِالنُّقُودِ، حَتَّى لَمْ يَبْقَ بِمِصْرَ دِينَارٌ
وَلَا دِرْهَمٌ إِلَّا قَبَضَهُ، وَبَاعَهُمْ فِي السَّنَةِ
الثَّانِيَةِ بِالْحُلِيِّ وَالْجَوَاهِرِ، حَتَّى لم يبق في
أيدي الناس منها شي، وَبَاعَهُمْ فِي السَّنَةِ الثَّالِثَةِ
بِالْمَوَاشِي وَالدَّوَابِّ، حَتَّى احْتَوَى عَلَيْهَا
أَجْمَعَ، وَبَاعَهُمْ فِي السَّنَةِ الرَّابِعَةِ
بِالْعَبِيدِ وَالْإِمَاءِ، حَتَّى احْتَوَى عَلَى الْكُلِّ،
وَبَاعَهُمْ فِي السَّنَةِ الْخَامِسَةِ بِالْعَقَارِ
وَالضَّيَاعِ، حَتَّى مَلَكَهَا كُلَّهَا، وَبَاعَهُمْ فِي
السَّنَةِ السَّادِسَةِ بِأَوْلَادِهِمْ وَنِسَائِهِمْ
فَاسْتَرَقَّهُمْ جَمِيعًا وَبَاعَهُمْ فِي السَّنَةِ
السَّابِعَةِ بِرِقَابِهِمْ، حَتَّى لَمْ يَبْقَ [فِي
السَّنَةِ السَّابِعَةِ] «1» بِمِصْرَ حُرٌّ وَلَا عَبْدٌ
إِلَّا صَارَ عَبْدًا لَهُ، فَقَالَ النَّاسُ: وَاللَّهُ مَا
رَأَيْنَا مَلِكًا أَجَلَّ وَلَا أَعْظَمَ مِنْ هَذَا، فَقَالَ
يُوسُفُ لِمَلِكِ مِصْرَ: كَيْفَ رَأَيْتَ صُنْعَ رَبِّي
فِيمَا خَوَّلَنِي! وَالْآنَ كُلُّ هَذَا لَكَ، فَمَا تَرَى
فِيهِ؟ فَقَالَ: فَوَّضْتُ إِلَيْكَ الْأَمْرَ فَافْعَلْ مَا
شِئْتَ، وَإِنَّمَا نَحْنُ لَكَ تَبَعٌ، وَمَا أَنَا بِالَّذِي
يَسْتَنْكِفُ عَنْ عِبَادَتِكَ وَطَاعَتِكَ، وَلَا أَنَا
إِلَّا مِنْ بَعْضِ مَمَالِيكِكَ، وَخَوَلٌ مِنْ خَوَلِكَ،
فَقَالَ يُوسُفُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: إِنِّي لَمْ
أُعْتِقْهُمْ مِنَ الْجُوعِ لِأَسْتَعْبِدَهُمْ، وَلَمْ
أُجِرْهُمْ مِنَ الْبَلَاءِ لِأَكُونَ عَلَيْهِمْ بَلَاءً،
وَإِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَأُشْهِدُكَ أَنِّي أَعْتَقْتُ
أَهْلَ مِصْرَ عَنْ آخِرِهِمْ، وَرَدَدْتُ عَلَيْهِمْ
أَمْوَالَهُمْ وَأَمْلَاكَهُمْ، وَرَدَدْتُ عَلَيْكَ مُلْكَكَ
بِشَرْطِ أَنْ تَسْتَنَّ بِسُنَّتِي. وَيُرْوَى أَنَّ يُوسُفَ
عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ لَا يَشْبَعُ مِنْ طَعَامٍ فِي
تِلْكَ السِّنِينَ، فَقِيلَ لَهُ: أَتَجُوعُ وَبِيَدِكَ
خَزَائِنُ الْأَرْضِ؟ فَقَالَ: إِنِّي أَخَافُ إِنْ شَبِعْتُ
أَنْ أَنْسَى الْجَائِعَ، وَأَمَرَ يُوسُفُ طَبَّاخَ الْمَلِكِ
أَنْ يَجْعَلَ غِذَاءَهُ نِصْفَ النَّهَارِ، حَتَّى يَذُوقَ
الْمَلِكُ طَعْمَ الْجُوعِ. فَلَا يَنْسَى الْجَائِعِينَ،
فَمِنْ ثَمَّ جَعَلَ الْمُلُوكُ غِذَاءَهُمْ نِصْفَ
النَّهَارِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: (نُصِيبُ بِرَحْمَتِنا مَنْ
نَشاءُ) أَيْ بِإِحْسَانِنَا، وَالرَّحْمَةُ النِّعْمَةُ
وَالْإِحْسَانُ. (وَلا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ) أَيْ
ثَوَابَهُمْ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَوَهْبٌ: يَعْنِي
الصَّابِرِينَ، لِصَبْرِهِ فِي الْجُبِّ، وَفِي الرِّقِّ،
وَفِي السِّجْنِ، وَصَبْرِهِ عَنْ مَحَارِمِ اللَّهِ عَمَّا
دَعَتْهُ إِلَيْهِ الْمَرْأَةُ. وَقَالَ الْمَاوَرْدِيُّ:
وَاخْتُلِفَ فِيمَا أُوتِيَهُ يُوسُفُ مِنْ هَذِهِ الْحَالِ
عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا- أَنَّهُ ثَوَابٌ مِنَ اللَّهِ
تَعَالَى عَلَى مَا ابْتَلَاهُ. الثَّانِي- أَنَّهُ أَنْعَمَ
اللَّهُ عَلَيْهِ بِذَلِكَ تَفَضُّلًا مِنْهُ عَلَيْهِ،
وَثَوَابُهُ بَاقٍ عَلَى
حَالِهِ فِي الْآخِرَةِ.
__________
(1). من ع.
(9/219)
وَجَاءَ إِخْوَةُ
يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ
مُنْكِرُونَ (58)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ
خَيْرٌ) أَيْ مَا نُعْطِيهِ فِي الْآخِرَةِ خَيْرٌ وَأَكْثَرُ
مِمَّا أَعْطَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا، لِأَنَّ أَجْرَ
الْآخِرَةِ دَائِمٌ، وَأَجْرُ الدُّنْيَا يَنْقَطِعُ،
وَظَاهِرُ الْآيَةِ الْعُمُومُ فِي كُلِّ مُؤْمِنٍ مُتَّقٍ،
وَأَنْشَدُوا:
أَمَا فِي رَسُولِ اللَّهِ يُوسُفَ أُسْوَةٌ ... لِمِثْلِكَ
مَحْبُوسًا عَلَى الظُّلْمِ وَالْإِفْكِ
أَقَامَ جَمِيلَ الصَّبْرِ فِي الْحَبْسِ بُرْهَةً ... فَآلَ
بِهِ الصَّبْرُ الْجَمِيلُ إِلَى الْمُلْكِ
وَكَتَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى صَدِيقٍ لَهُ:
وَرَاءَ مَضِيقِ الْخَوْفِ مُتَّسَعُ الْأَمْنِ ... وَأَوَّلُ
مَفْرُوحٍ بِهِ آخِرُ الْحُزْنِ
فَلَا تيئسن فَاللَّهُ مَلَّكَ يُوسُفَا ... خَزَائِنَهُ
بَعْدَ الْخَلَاصِ مِنَ السِّجْنِ
وَأَنْشَدَ بَعْضُهُمْ:
إِذَا الْحَادِثَاتُ بَلَغْنَ النُّهَى ... وَكَادَتْ تَذُوبُ
لَهُنَّ الْمُهَجُ
وَحَلَ الْبَلَاءُ وَقَلَّ الْعَزَاءُ ... فَعِنْدَ
التَّنَاهِي يَكُونُ الْفَرَجُ
وَالشِّعْرُ فِي هذا المعنى كثير.
[سورة يوسف (12): آية 58]
وَجاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ
وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (58)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَجاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ) أَيْ جَاءُوا
إِلَى مِصْرَ لَمَّا أَصَابَهُمُ الْقَحْطُ لِيَمْتَارُوا،
وَهَذَا مِنَ اخْتِصَارِ الْقُرْآنِ الْمُعْجِزِ. قَالَ ابْنُ
عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ: لَمَّا أَصَابَ النَّاسَ الْقَحْطُ
وَالشِّدَّةُ، وَنَزَلَ ذَلِكَ بِأَرْضِ كَنْعَانَ بَعَثَ
يَعْقُوبُ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَلَدَهُ لِلْمِيرَةِ، وَذَاعَ
أَمْرُ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي الْآفَاقِ، لِلِينِهِ
وَقُرْبِهِ وَرَحْمَتِهِ وَرَأْفَتِهِ وَعَدْلِهِ وَسِيرَتِهِ،
وَكَانَ يُوسُفُ عَلَيْهِ السَّلَامُ حِينَ نَزَلَتِ
الشِّدَّةُ بِالنَّاسِ يَجْلِسُ [لِلنَّاسِ «1»] عِنْدَ
الْبَيْعِ بِنَفْسِهِ، فَيُعْطِيهِمْ مِنَ الطَّعَامِ عَلَى
عَدَدِ رؤوسهم، لِكُلِّ رَأْسٍ وَسْقًا «2». (وَجاءَ إِخْوَةُ
يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ) يُوسُفُ (وَهُمْ
لَهُ مُنْكِرُونَ) لِأَنَّهُمْ خَلَّفُوهُ صَبِيًّا، وَلَمْ
يَتَوَهَّمُوا أَنَّهُ بَعْدَ الْعُبُودِيَّةِ يَبْلُغُ إِلَى
تِلْكَ الْحَالِ مِنَ الْمَمْلَكَةِ، مَعَ طُولِ الْمُدَّةِ،
وَهِيَ أَرْبَعُونَ سَنَةً. وَقِيلَ: أَنْكَرُوهُ لِأَنَّهُمُ
اعْتَقَدُوا أَنَّهُ مَلِكٌ كَافِرٌ: وَقِيلَ: رَأَوْهُ
لَابِسَ حَرِيرٍ، وَفِي عُنُقِهِ طَوْقُ ذَهَبٍ، وَعَلَى
رَأْسِهِ تَاجٌ، وَقَدْ تَزَيَّا بِزِيِّ فِرْعَوْنَ مِصْرَ،
ويوسف
__________
(1). من ع وك وووى. [ ..... ]
(2). الوسق ستون صاعا، والأصل في الوسق الحمل.
(9/220)
وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ
بِجَهَازِهِمْ قَالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ
أَلَا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ
الْمُنْزِلِينَ (59) فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلَا كَيْلَ
لَكُمْ عِنْدِي وَلَا تَقْرَبُونِ (60) قَالُوا سَنُرَاوِدُ
عَنْهُ أَبَاهُ وَإِنَّا لَفَاعِلُونَ (61)
رَآهُمْ عَلَى مَا كَانَ عَهِدَهُمْ فِي
الْمَلْبَسِ وَالْحِلْيَةِ. وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُمْ رَأَوْهُ
وَرَاءَ سِتْرٍ فَلَمْ يَعْرِفُوهُ. وَقِيلَ: أَنْكَرُوهُ
لِأَمْرٍ خَارِقٍ امْتِحَانًا امْتَحَنَ الله به يعقوب.
[سورة يوسف (12): الآيات 59 الى 61]
وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهازِهِمْ قالَ ائْتُونِي بِأَخٍ
لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ أَلا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ
وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ (59) فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي
بِهِ فَلا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَلا تَقْرَبُونِ (60) قالُوا
سَنُراوِدُ عَنْهُ أَباهُ وَإِنَّا لَفاعِلُونَ (61)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهازِهِمْ)
يُقَالُ: جَهَّزْتُ الْقَوْمَ تَجْهِيزًا أَيْ تَكَلَّفْتُ
لَهُمْ بِجَهَازِهِمْ لِلسَّفَرِ، وَجَهَازُ الْعَرُوسِ مَا
يُحْتَاجُ إِلَيْهِ عِنْدَ الْإِهْدَاءِ إِلَى الزَّوْجِ،
وَجَوَّزَ بَعْضُ الْكُوفِيِّينَ الْجِهَازَ بِكَسْرِ
الْجِيمِ، وَالْجَهَازِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الطَّعَامُ
الَّذِي امْتَارُوهُ مِنْ عِنْدِهِ. قَالَ السُّدِّيُّ:
وَكَانَ مَعَ إِخْوَةِ يُوسُفَ أَحَدَ عَشَرَ بَعِيرًا، وَهُمْ
عَشَرَةٌ، فَقَالُوا لِيُوسُفَ: إِنَّ لَنَا أَخًا تَخَلَّفَ
عَنَّا، وَبَعِيرُهُ مَعَنَا، فَسَأَلَهُمْ لِمَ تَخَلَّفَ؟
فَقَالُوا: لِحُبِ أَبِيهِ إِيَّاهُ، وَذَكَرُوا لَهُ أَنَّهُ
كَانَ لَهُ أَخٌ أَكْبَرُ مِنْهُ فَخَرَجَ إِلَى الْبَرِّيَّةِ
فَهَلَكَ، فَقَالَ لَهُمْ: أَرَدْتُ أَنْ أَرَى أَخَاكُمْ
هَذَا الَّذِي ذَكَرْتُمْ، لِأَعْلَمَ وَجْهَ مَحَبَّةِ
أَبِيكُمْ إِيَّاهُ، وَأَعْلَمَ صِدْقَكُمْ، وَيُرْوَى
أَنَّهُمْ تَرَكُوا عِنْدَهُ شَمْعُونَ رَهِينَةً، حَتَّى
يَأْتُوا بِأَخِيهِ بِنْيَامِينَ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ:
قَالَ [يُوسُفُ «1»] لِلتُّرْجُمَانِ قُلْ لَهُمْ: لُغَتُكُمْ
مُخَالِفَةٌ لِلُغَتِنَا، وَزِيُّكُمْ مُخَالِفٌ لِزِيِّنَا،
فَلَعَلَّكُمْ جَوَاسِيسُ، فَقَالُوا: وَاللَّهِ! مَا نَحْنُ
بِجَوَاسِيسَ، بَلْ نَحْنُ بَنُو أَبٍ وَاحِدٍ، فَهُوَ شَيْخٌ
صِدِّيقٌ، قَالَ: فَكَمْ عِدَّتُكُمْ؟ قَالُوا: كُنَّا اثْنَيْ
عَشَرَ فَذَهَبَ أَخٌ لَنَا إِلَى الْبَرِّيَّةِ فَهَلَكَ
فِيهَا، قَالَ: فَأَيْنَ الْآخَرُ؟ قَالُوا: عِنْدَ أَبِينَا،
قَالَ: فَمَنْ يَعْلَمُ صِدْقَكُمْ؟ قَالُوا: لَا يَعْرِفُنَا
هَاهُنَا أَحَدٌ، وَقَدْ عَرَّفْنَاكَ أنسابنا، فبأي شي
تَسْكُنُ نَفْسُكُ إِلَيْنَا؟ فَقَالَ يُوسُفُ: (ائْتُونِي
بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ) إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ،
فَأَنَا أَرْضَى بِذَلِكَ" أَلا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي
الْكَيْلَ" أَيْ أُتِمُّهُ وَلَا أَبْخَسُهُ، وَأَزِيدُكُمْ
حِمْلَ بَعِيرٍ لِأَخِيكُمْ" فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلا
كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي" تَوَعَّدَهُمْ أَلَّا يَبِيعَهُمُ
الطَّعَامَ إِنْ لَمْ يَأْتُوا بِهِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: (أَلا
تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ) يحتمل وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا- أَنَّهُ رَخَّصَ لَهُمْ فِي السِّعْرِ فَصَارَ
زِيَادَةً فِي الْكَيْلِ. وَالثَّانِي- أَنَّهُ كَالَ لهم
بمكيال واف. (وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ)
__________
(1). من ع وك وى.
(9/221)
وَقَالَ لِفِتْيَانِهِ
اجْعَلُوا بِضَاعَتَهُمْ فِي رِحَالِهِمْ لَعَلَّهُمْ
يَعْرِفُونَهَا إِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمْ
لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (62)
فِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا- أَنَّهُ
خَيْرُ الْمُضِيفِينَ، لِأَنَّهُ أحسن ضيافتهم، قاله
مُجَاهِدٌ. الثَّانِي- وَهُوَ مُحْتَمَلٌ، أَيْ خَيْرُ مَنْ
نَزَلْتُمْ عَلَيْهِ مِنَ الْمَأْمُونِينَ، وَهُوَ عَلَى
التَّأْوِيلِ الْأَوَّلِ مَأْخُوذٌ مِنَ النُّزُلِ وَهُوَ
الطَّعَامُ، وَعَلَى الثَّانِي مِنَ الْمَنْزِلِ وَهُوَ
الدَّارُ. قَوْلُهُ تَعَالَى: (فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ
فَلا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي) شأي فَلَا أَبِيعُكُمْ شَيْئًا
فِيمَا بَعْدُ، لِأَنَّهُ قَدْ وَفَّاهُمْ كَيْلَهُمْ فِي
هَذِهِ الْحَالِ. (وَلا تَقْرَبُونِ) أَيْ لَا أُنْزِلُكُمْ
عِنْدِي مَنْزِلَةَ الْقَرِيبِ، وَلَمْ يُرِدْ أَنَّهُمْ
يَبْعُدُونَ «1» مِنْهُ وَلَا يَعُودُونَ إِلَيْهِ، لِأَنَّهُ
عَلَى الْعَوْدِ حَثَّهُمْ. قَالَ السُّدِّيُّ: وَطَلَبَ
مِنْهُمْ رَهِينَةً حَتَّى يَرْجِعُوا، فَارْتَهَنَ شَمْعُونَ
عِنْدَهُ، قَالَ الْكَلْبِيُّ: إِنَّمَا اخْتَارَ شَمْعُونَ
مِنْهُمْ لِأَنَّهُ كَانَ يَوْمَ الْجُبِّ أَجْمَلَهُمْ
قَوْلًا، وَأَحْسَنَهُمْ رَأْيًا. وَ" تَقْرَبُونِ" فِي
مَوْضِعِ جَزْمٍ بِالنَّهْيِ، فَلِذَلِكَ حُذِفَتْ مِنْهُ
[النُّونُ وَحُذِفَتِ «2»] الْيَاءُ، لِأَنَّهُ رَأْسُ آيَةٍ،
وَلَوْ كَانَ خَبَرًا لَكَانَ" تَقْرَبُونِ" بِفَتْحِ
النُّونِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: (قالُوا سَنُراوِدُ عَنْهُ
أَباهُ) أَيْ سَنَطْلُبُهُ مِنْهُ، وَنَسْأَلُهُ أَنْ
يُرْسِلَهُ مَعَنَا. (وَإِنَّا لَفاعِلُونَ) أَيْ لَضَامِنُونَ
الْمَجِيءَ بِهِ، وَمُحْتَالُونَ فِي ذَلِكَ. مَسْأَلَةٌ- إِنْ
قِيلَ: كَيْفَ اسْتَجَازَ يُوسُفُ إِدْخَالَ الْحُزْنِ عَلَى
أَبِيهِ بِطَلَبِ أَخِيهِ؟ قِيلَ لَهُ: عَنْ هَذَا أَرْبَعَةُ
أَجْوِبَةٍ: أَحَدُهَا- يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ عَزَّ
وَجَلَّ أَمَرَهُ بِذَلِكَ ابْتِلَاءً لِيَعْقُوبَ، لِيَعْظُمَ
لَهُ الثَّوَابُ، فَاتَّبَعَ أَمْرَهُ فِيهِ. الثَّانِي-
يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أَرَادَ بِذَلِكَ أَنْ يُنَبِّهَ
يَعْقُوبَ عَلَى حَالِ يُوسُفَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ.
الثَّالِثُ- لِتَتَضَاعَفَ الْمَسَرَّةُ لِيَعْقُوبَ بِرُجُوعِ
وَلَدَيْهِ عَلَيْهِ. الرَّابِعُ- لِيُقَدِّمَ سُرُورَ أَخِيهِ
بِالِاجْتِمَاعِ مَعَهُ قَبْلَ إِخْوَتِهِ، لِمَيْلٍ كَانَ
مِنْهُ إِلَيْهِ، والأول أظهر. والله أعلم
[سورة يوسف (12): آية 62]
وَقالَ لِفِتْيانِهِ اجْعَلُوا بِضاعَتَهُمْ فِي رِحالِهِمْ
لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَها إِذَا انْقَلَبُوا إِلى أَهْلِهِمْ
لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (62)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَقَالَ لِفِتْيَتِهِ) هَذِهِ قِرَاءَةُ
أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَأَبِي عَمْرٍو وَعَاصِمٍ، وَهِيَ
اخْتِيَارُ أَبِي حَاتِمٍ وَالنَّحَّاسِ وَغَيْرِهِمَا.
وَقَرَأَ سَائِرُ الْكُوفِيِّينَ" لِفِتْيانِهِ" وهو اختيار
أبي عبيد، وقال:
__________
(1). في الأصول: يبعدوا، يعودوا. ولم يظهر وجه لحذف النون.
(2). من ع وك وو.
(9/222)
فَلَمَّا رَجَعُوا
إِلَى أَبِيهِمْ قَالُوا يَا أَبَانَا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ
فَأَرْسِلْ مَعَنَا أَخَانَا نَكْتَلْ وَإِنَّا لَهُ
لَحَافِظُونَ (63) قَالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلَّا كَمَا
أَمِنْتُكُمْ عَلَى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ فَاللَّهُ خَيْرٌ
حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (64) وَلَمَّا
فَتَحُوا مَتَاعَهُمْ وَجَدُوا بِضَاعَتَهُمْ رُدَّتْ
إِلَيْهِمْ قَالُوا يَا أَبَانَا مَا نَبْغِي هَذِهِ
بِضَاعَتُنَا رُدَّتْ إِلَيْنَا وَنَمِيرُ أَهْلَنَا
وَنَحْفَظُ أَخَانَا وَنَزْدَادُ كَيْلَ بَعِيرٍ ذَلِكَ كَيْلٌ
يَسِيرٌ (65)
هُوَ فِي مُصْحَفِ عَبْدِ اللَّهِ
كَذَلِكَ. قَالَ الثَّعْلَبِيُّ: وَهُمَا لُغَتَانِ
جَيِّدَتَانِ، مِثْلُ الصِّبْيَانِ وَالصِّبْيَةِ قَالَ
النَّحَّاسُ:" لِفِتْيانِهِ" مُخَالِفٌ لِلسَّوَادِ
الْأَعْظَمِ، لِأَنَّهُ فِي السَّوَادِ لَا أَلِفَ فِيهِ وَلَا
نُونَ، وَلَا يُتْرَكُ السَّوَادُ الْمُجْتَمَعُ عَلَيْهِ
لِهَذَا الْإِسْنَادِ الْمُنْقَطِعِ، وَأَيْضًا فَإِنَّ
فِتْيَةً أَشْبَهُ مِنْ فِتْيَانٍ، لِأَنَّ فِتْيَةً عِنْدَ
الْعَرَبِ لِأَقَلِّ الْعَدَدِ، وَالْقَلِيلُ بِأَنْ
يَجْعَلُوا الْبِضَاعَةَ فِي الرِّحَالِ أَشْبَهُ. وَكَانَ
هَؤُلَاءِ الْفِتْيَةُ يُسَوُّونَ جَهَازَهُمْ، وَلِهَذَا
أَمْكَنَهُمْ جَعْلُ بِضَاعَتِهِمْ فِي رِحَالِهِمْ. وَيَجُوزُ
أَنْ يَكُونُوا أَحْرَارًا «1»، وكانوا أعوانا له، وبضاعتهم
أَثْمَانُ مَا اشْتَرَوْهُ مِنَ الطَّعَامِ. وَقِيلَ: كَانَتْ
دَرَاهِمَ وَدَنَانِيرَ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: النِّعَالُ
وَالْأُدْمُ وَمَتَاعُ الْمُسَافِرِ، وَيُسَمَّى رَحْلًا،
قَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: يُقَالُ لِلْوِعَاءِ رَحْلٌ،
وَلِلْبَيْتِ رَحْلٌ. وَقَالَ: (لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَها)
لِجَوَازِ أَلَّا تَسْلَمَ فِي الطَّرِيقِ. وَقِيلَ: إِنَّمَا
فَعَلَ ذَلِكَ لِيَرْجِعُوا إِذَا وَجَدُوا ذَلِكَ، لِعِلْمِهِ
أَنَّهُمْ لَا يَقْبَلُونَ الطَّعَامَ إِلَّا بِثَمَنِهِ «2».
قِيلَ: لِيَسْتَعِينُوا بِذَلِكَ عَلَى الرُّجُوعِ لِشِرَاءِ
الطَّعَامِ. وَقِيلَ: اسْتَقْبَحَ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ أَبِيهِ
وَإِخْوَتِهِ ثَمَنَ الطَّعَامِ. وَقِيلَ: لِيَرَوْا فَضْلَهُ،
وَيَرْغَبُوا فِي الرجوع إليه.
[سورة يوسف (12): الآيات 63 الى 65]
فَلَمَّا رَجَعُوا إِلى أَبِيهِمْ قالُوا يَا أَبانا مُنِعَ
مِنَّا الْكَيْلُ فَأَرْسِلْ مَعَنا أَخانا نَكْتَلْ وَإِنَّا
لَهُ لَحافِظُونَ (63) قالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلاَّ
كَما أَمِنْتُكُمْ عَلى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ فَاللَّهُ خَيْرٌ
حافِظاً وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (64) وَلَمَّا فَتَحُوا
مَتاعَهُمْ وَجَدُوا بِضاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ قالُوا
يَا أَبانا مَا نَبْغِي هذِهِ بِضاعَتُنا رُدَّتْ إِلَيْنا
وَنَمِيرُ أَهْلَنا وَنَحْفَظُ أَخانا وَنَزْدادُ كَيْلَ
بَعِيرٍ ذلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ (65)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (فَلَمَّا رَجَعُوا إِلى أَبِيهِمْ قالُوا
يَا أَبانا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ) لِأَنَّهُ قَالَ لَهُمْ:"
فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي"
وَأَخْبَرُوهُ بِمَا كَانَ مِنْ أَمْرِهِمْ وَإِكْرَامِهِمْ
إِيَّاهُ، وَأَنَّ شَمْعُونَ مُرْتَهَنٌ حَتَّى يَعْلَمَ
صِدْقَ قَوْلِهِمْ. (فَأَرْسِلْ مَعَنا أَخانا نَكْتَلْ) أي
قالوا عند ذلك:
__________
(1). في ع: أجراء أو كانوا. وهو الحق.
(2). في ع وك: بثمن.
(9/223)
" فَأَرْسِلْ مَعَنا أَخانا نَكْتَلْ"
وَالْأَصْلُ نَكْتَالُ، فَحُذِفَتِ الضَّمَّةُ مِنَ اللَّامِ
لِلْجَزْمِ، وَحُذِفَتِ الْأَلِفُ لِالْتِقَاءِ
السَّاكِنَيْنِ. وَقِرَاءَةُ أَهْلِ الْحَرَمَيْنِ وَأَبِي
عَمْرٍو وَعَاصِمٍ" نَكْتَلْ" بِالنُّونِ وَقَرَأَ سَائِرُ
الْكُوفِيِّينَ" يَكْتَلْ" بِالْيَاءِ، وَالْأَوَّلُ
اخْتِيَارُ أَبِي عُبَيْدٍ، لِيَكُونُوا كُلُّهُمْ دَاخِلِينَ
فِيمَنْ يَكْتَالُ، وَزَعَمَ أَنَّهُ إِذَا كَانَ بِالْيَاءِ
كَانَ لِلْأَخِ وَحْدَهُ. قَالَ النَّحَّاسُ: وَهَذَا لَا
يَلْزَمُ، لِأَنَّهُ لَا يَخْلُو الْكَلَامُ مِنْ أَحَدِ
جِهَتَيْنِ، أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى: فَأَرْسِلْ أَخَانَا
يَكْتَلْ مَعَنَا، فَيَكُونُ لِلْجَمِيعِ، أَوْ يَكُونُ
التَّقْدِيرُ عَلَى غَيْرِ التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ،
فَيَكُونُ فِي الْكَلَامِ دَلِيلٌ عَلَى الْجَمِيعِ،
لِقَوْلِهِ:" فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلا كَيْلَ لَكُمْ
عِنْدِي". (وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ) مِنْ أَنْ يَنَالَهُ
سُوءٌ. قَوْلُهُ تَعَالَى: (قالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ
إِلَّا كَما أَمِنْتُكُمْ عَلى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ) أَيْ قَدْ
فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ فَكَيْفَ آمَنُكُمْ عَلَى أَخِيهِ!.
(فَاللَّهُ خَيْرٌ حافِظاً) نُصِبَ عَلَى الْبَيَانِ، وَهَذِهِ
قِرَاءَةُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَأَبِي عَمْرٍو وَعَاصِمٍ.
وَقَرَأَ سَائِرُ الْكُوفِيِّينَ" حافِظاً" عَلَى الْحَالِ.
وَقَالَ الزَّجَّاجُ: عَلَى الْبَيَانِ، وَفِي هذا دليل على
أنه أجابهم إلى إرسال مَعَهُمْ، وَمَعْنَى الْآيَةِ: حِفْظُ
اللَّهِ لَهُ خَيْرٌ مِنْ حِفْظِكُمْ إِيَّاهُ. قَالَ كَعْبُ
الْأَحْبَارِ: لَمَّا قَالَ يَعْقُوبُ:" فَاللَّهُ خَيْرٌ
حافِظاً" قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَعِزَّتِي وَجَلَالِي
لَأَرُدَّنَّ عَلَيْكَ ابْنَيْكَ كِلَيْهِمَا بعد ما
تَوَكَّلْتَ عَلَيَّ قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَلَمَّا فَتَحُوا
مَتاعَهُمْ) الْآيَةَ لَيْسَ فِيهَا مَعْنًى يُشْكِلُ. (مَا
نَبْغِي) " لَمَّا" استفهام في موضع نصب، والمعنى: أي شي
نَطْلُبُ وَرَاءَ هَذَا؟! وَفَّى لَنَا الْكَيْلَ، وَرَدَّ
عَلَيْنَا الثَّمَنَ، أَرَادُوا بِذَلِكَ أَنْ يُطَيِّبُوا
نَفْسَ أَبِيهِمْ. وَقِيلَ: هِيَ نَافِيَةٌ، أَيْ لَا نَبْغِي
مِنْكَ دَرَاهِمَ وَلَا بِضَاعَةَ، بَلْ تَكْفِينَا
بِضَاعَتُنَا هَذِهِ الَّتِي رُدَّتْ إِلَيْنَا. وَرُوِيَ عَنْ
عَلْقَمَةَ" رُدَّتْ إِلَيْنا" بِكَسْرِ الرَّاءِ، لِأَنَّ
الْأَصْلَ، رُدِدَتْ، فَلَمَّا أُدْغِمَ قُلِبَتْ حَرَكَةُ
الدَّالِّ عَلَى الرَّاءِ. وَقَوْلُهُ: (وَنَمِيرُ أَهْلَنا)
أَيْ نَجْلِبُ لَهُمُ الطَّعَامَ، قَالَ الشَّاعِرُ:
بَعَثْتُكَ مَائِرًا فَمَكَثْتَ حَوْلًا ... مَتَى يَأْتِي
غِيَاثُكَ مَنْ تُغِيثُ
وَقَرَأَ السُّلَمِيُّ بِضَمِّ النُّونِ، أَيْ نُعِينُهُمْ
عَلَى الْمِيرَةِ. (وَنَزْدادُ كَيْلَ بَعِيرٍ ذلِكَ كَيْلٌ
يَسِيرٌ) أَيْ حِمْلُ بَعِيرٍ لبنيامين.
(9/224)
قَالَ لَنْ أُرْسِلَهُ
مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ
لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلَّا أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ فَلَمَّا
آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قَالَ اللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ
(66)
[سورة يوسف (12): آية 66]
قالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقاً
مِنَ اللَّهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلاَّ أَنْ يُحاطَ بِكُمْ
فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قالَ اللَّهُ عَلى مَا نَقُولُ
وَكِيلٌ (66)
فِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى:
(تُؤْتُونِ) أَيْ تُعْطُونِي. (مَوْثِقاً مِنَ اللَّهِ) أَيْ
عَهْدًا يُوثَقُ بِهِ. قَالَ السُّدِّيُّ: حَلَفُوا بِاللَّهِ
لَيَرُدُّنَّهُ إِلَيْهِ وَلَا يُسْلِمُونَهُ، وَاللَّامُ فِي
(لَتَأْتُنَّنِي) لَامُ الْقَسَمِ. (إِلَّا أَنْ يُحاطَ
بِكُمْ) قَالَ مُجَاهِدٌ: إِلَّا أَنْ تَهْلِكُوا أَوْ
تَمُوتُوا. وَقَالَ قَتَادَةُ: إِلَّا أَنْ تُغْلَبُوا
عَلَيْهِ. قَالَ الزَّجَّاجُ: وَهُوَ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ.
(فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قالَ اللَّهُ عَلى مَا نَقُولُ
وَكِيلٌ) أَيْ حَافِظٌ لِلْحَلِفِ. وَقِيلَ: حَفِيظٌ
لِلْعَهْدِ قَائِمٌ بِالتَّدْبِيرِ وَالْعَدْلِ. الثَّانِيَةُ-
هَذِهِ الْآيَةُ أَصْلٌ فِي جَوَازِ الْحَمَالَةِ «1»
بِالْعَيْنِ وَالْوَثِيقَةِ بِالنَّفْسِ، وَقَدِ اخْتَلَفَ
الْعُلَمَاءُ فِي ذَلِكَ، فَقَالَ مَالِكٌ وَجَمِيعُ
أَصْحَابِهِ وَأَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ: هِيَ جَائِزَةٌ إِذَا
كَانَ الْمُتَحَمَّلُ بِهِ مَالًا وَقَدْ ضَعَّفَ
الشَّافِعِيُّ الْحَمَالَةَ بِالْوَجْهِ فِي الْمَالِ، وَلَهُ
قَوْلٌ كَقَوْلِ مَالِكٍ. وَقَالَ عُثْمَانُ الْبَتِّيُّ:
إِذَا تَكَفَّلَ بِنَفْسٍ فِي قِصَاصٍ أَوْ جِرَاحٍ فَإِنَّهُ
إِنْ لَمْ يَجِئْ بِهِ لَزِمَهُ الدِّيَةُ وَأَرْشُ
الْجِرَاحِ، وَكَانَتْ لَهُ فِي مَالِ الْجَانِي، إِذْ لَا
قِصَاصَ عَلَى الْكَفِيلِ، فَهَذِهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ فِي
الْحَمَالَةِ بِالْوَجْهِ. وَالصَّوَابُ تَفْرِقَةُ مَالِكٍ
فِي ذَلِكَ، وَأَنَّهَا تَكُونُ فِي الْمَالِ، وَلَا تَكُونُ
فِي حَدٍّ أَوْ تَعْزِيرٍ، على ما يأتي بيانه.
[سورة يوسف (12): آية 67]
وَقالَ يا بَنِيَّ لَا تَدْخُلُوا مِنْ بابٍ واحِدٍ
وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوابٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَما أُغْنِي
عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ
لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ
الْمُتَوَكِّلُونَ (67)
__________
(1). الحمالة: الكفالة.
(9/225)
فِيهِ سَبْعُ مَسَائِلَ: الْأُولَى- لَمَّا
عَزَمُوا عَلَى الْخُرُوجِ خَشِيَ عَلَيْهِمُ الْعَيْنَ،
فَأَمَرَهُمْ أَلَّا يَدْخُلُوا مِصْرَ مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ،
وَكَانَتْ مِصْرُ لَهَا أَرْبَعَةُ أَبْوَابٍ، وَإِنَّمَا
خَافَ عَلَيْهِمُ الْعَيْنَ لِكَوْنِهِمْ أَحَدَ عَشَرَ
رَجُلًا لِرَجُلٍ وَاحِدٍ، وَكَانُوا أَهْلَ جَمَالٍ وَكَمَالٍ
وَبَسْطَةٍ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالضَّحَّاكُ وَقَتَادَةُ
وَغَيْرُهُمْ. الثَّانِيَةُ- إِذَا كَانَ هَذَا مَعْنَى
الْآيَةِ فَيَكُونُ فِيهَا دَلِيلٌ عَلَى التَّحَرُّزِ مِنَ
الْعَيْنِ، وَالْعَيْنُ حَقٌّ، وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" إِنَّ الْعَيْنَ
لَتُدْخِلُ الرَّجُلَ الْقَبْرَ وَالْجَمَلَ الْقِدْرَ". وَفِي
تَعَوُّذِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ:" أَعُوذُ بِكَلِمَاتِ
اللَّهِ التَّامَّةِ مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ وَهَامَّةٍ وَمِنْ
كُلِّ عَيْنٍ لَامَّةٍ" مَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ. وَرَوَى
مَالِكٌ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي أُمَامَةَ بْنِ سَهْلِ بْنِ
حُنَيْفٍ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَاهُ يَقُولُ: اغْتَسَلَ أَبِي
سَهْلُ بن حنيف بالخرار «1» فَنَزَعَ جُبَّةً كَانَتْ
عَلَيْهِ، وَعَامِرُ بْنُ رَبِيعَةَ يَنْظُرُ، قَالَ: وَكَانَ
سَهْلٌ رَجُلًا أَبْيَضَ حَسَنَ الْجِلْدِ قَالَ فَقَالَ لَهُ
عَامِرُ بْنُ رَبِيعَةَ: مَا رَأَيْتُ كَالْيَوْمِ وَلَا
جِلْدَ عَذْرَاءَ! فَوُعِكَ سَهْلٌ مَكَانَهُ وَاشْتَدَّ
وَعْكُهُ، فَأَتَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فَأُخْبِرَ أَنَّ سَهْلًا وُعِكَ، وَأَنَّهُ غَيْرُ
رَائِحٍ مَعَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَأَتَاهُ رَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَخْبَرَهُ
سَهْلٌ بِالَّذِي كَانَ مِنْ شَأْنِ عَامِرٍ، فَقَالَ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ سَلَّمَ:" عَلَامَ يَقْتُلُ
أَحَدُكُمْ أَخَاهُ «2» أَلَا بَرَّكْتَ إِنَّ الْعَيْنَ حَقٌّ
تَوَضَّأْ لَهُ" فَتَوَضَّأَ عَامِرٌ، فَرَاحَ سَهْلٌ مَعَ
رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْسَ
بِهِ بَأْسٌ، فِي رِوَايَةٍ" اغْتَسَلَ" فَغَسَلَ لَهُ عَامِرٌ
وَجْهَهُ وَيَدَيْهِ وَمِرْفَقَيْهِ وَرُكْبَتَيْهِ
وَأَطْرَافَ رِجْلَيْهِ وَدَاخِلَ إِزَارِهِ فِي قَدَحٍ ثُمَّ
صَبَّ عَلَيْهِ، فَرَاحَ سَهْلٌ مَعَ رَسُولِ «3» اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْسَ بِهِ بَأْسٌ.
وَرَكِبَ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ يَوْمًا فَنَظَرَتْ
إِلَيْهِ امْرَأَةٌ فَقَالَتْ: إِنَّ أَمِيرَكُمْ هَذَا
لَيَعْلَمُ أَنَّهُ أَهْضَمُ الْكَشْحَيْنِ، فَرَجَعَ إِلَى
مَنْزِلِهِ فَسَقَطَ، فَبَلَغَهُ مَا قَالَتِ الْمَرْأَةُ،
فَأَرْسَلَ إِلَيْهَا فَغَسَلَتْ لَهُ، فَفِي هَذَيْنَ
الْحَدِيثَيْنِ أَنَّ الْعَيْنَ حَقٌّ، وَأَنَّهَا تَقْتُلُ
كَمَا قَالَ [النَّبِيُّ «4»] صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ، وَهَذَا قَوْلُ عُلَمَاءِ الْأُمَّةِ، وَمَذْهَبُ
أَهْلِ السُّنَّةِ، وَقَدْ أَنْكَرَتْهُ طَوَائِفُ مِنَ
الْمُبْتَدِعَةِ، وَهُمْ مَحْجُوجُونَ بِالسُّنَّةِ
وَإِجْمَاعِ عُلَمَاءِ هَذِهِ الْأُمَّةِ، وَبِمَا يُشَاهَدُ
مِنْ ذَلِكَ فِي الْوُجُودِ، فكم من رجل
__________
(1). الخرار: ماء بالمدينة.
(2). برك: قال بارك الله فيه، وهذا القول يبطل تأثير العين
وسيأتي معناها.
(3). في ع: مع الناس.
(4). من ع.
(9/226)
أَدْخَلَتْهُ الْعَيْنُ الْقَبْرَ، وَكَمْ
مِنْ جَمَلٍ ظَهِيرٍ أَدْخَلَتْهُ الْقِدْرَ، لَكِنَّ ذَلِكَ
بِمَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى كَمَا قَالَ:" وَما هُمْ
بِضارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ" «1»
[البقرة: 102]. قَالَ الْأَصْمَعِيُّ: رَأَيْتُ رَجُلًا
عَيُونًا سَمِعَ بَقَرَةً تَحْلُبُ فَأَعْجَبَهُ شَخْبُهَا
فَقَالَ: أَيَّتُهُنَّ هَذِهِ؟ فَقَالُوا: الْفُلَانِيَّةُ
لِبَقَرَةٍ أُخْرَى يُوَرُّونَ عَنْهَا، فَهَلَكَتَا جَمِيعًا،
الْمُوَرَّى بِهَا وَالْمُوَرَّى عَنْهَا. قَالَ
الْأَصْمَعِيُّ. وَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: إِذَا رَأَيْتُ
الشَّيْءَ يُعْجِبُنِي وَجَدْتُ حَرَارَةً تَخْرُجُ مِنْ
عَيْنِي. الثَّالِثَةُ- وَاجِبٌ عَلَى كُلِّ مسلم أعجبه شي
أَنْ يُبَرِّكَ، فَإِنَّهُ إِذَا دَعَا بِالْبَرَكَةِ صُرِفَ
الْمَحْذُورُ لَا مَحَالَةَ، أَلَا تَرَى قَوْلَهُ عَلَيْهِ
السَّلَامُ لِعَامِرٍ:" أَلَا بَرَّكْتَ" فَدَلَّ عَلَى أَنَّ
الْعَيْنَ لَا تَضُرُّ وَلَا تَعْدُو إِذَا بَرَّكَ
الْعَائِنُ، وَأَنَّهَا إِنَّمَا تَعْدُو إِذَا لَمْ
يُبَرِّكْ. وَالتَّبْرِيكُ أَنْ يَقُولَ: تَبَارَكَ اللَّهُ
أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ! اللَّهُمَّ بَارِكْ فِيهِ.
الرَّابِعَةُ- الْعَائِنُ إِذَا أَصَابَ بِعَيْنِهِ وَلَمْ
يُبَرِّكْ فَإِنَّهُ يُؤْمَرُ بِالِاغْتِسَالِ، وَيُجْبَرُ
عَلَى ذَلِكَ إِنْ أَبَاهُ، لِأَنَّ الْأَمْرَ عَلَى
الْوُجُوبِ، لَا سِيَّمَا هَذَا»
، فَإِنَّهُ قَدْ يُخَافُ عَلَى الْمَعِينِ الْهَلَاكُ، وَلَا
يَنْبَغِي لِأَحَدٍ أَنْ يَمْنَعَ أَخَاهُ مَا يَنْتَفِعُ بِهِ
أَخُوهُ وَلَا يَضُرُّهُ هُوَ، وَلَا سِيَّمَا إِذَا كَانَ
بِسَبَبِهِ وَكَانَ الْجَانِيَ عَلَيْهِ. الْخَامِسَةُ- مَنْ
عُرِفَ بِالْإِصَابَةِ بِالْعَيْنِ مُنِعَ مِنْ مُدَاخَلَةِ
النَّاسِ دَفْعًا لِضَرَرِهِ، وَقَدْ قَالَ بَعْضُ
الْعُلَمَاءِ: يَأْمُرُهُ الْإِمَامُ بِلُزُومِ بَيْتِهِ،
وَإِنْ كَانَ فَقِيرًا رَزَقَهُ مَا يَقُومُ بِهِ، وَيَكُفُّ
أَذَاهُ عَنِ النَّاسِ. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّهُ يُنْفَى،
وَحَدِيثُ مَالِكٍ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ يَرُدُّ هَذِهِ
الْأَقْوَالَ، فَإِنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمْ يَأْمُرْ
فِي عَامِرٍ بِحَبْسٍ وَلَا بِنَفْيٍ، بَلْ قَدْ يكون الرجل
الصالح عاينا، وَأَنَّهُ لَا يَقْدَحُ فِيهِ وَلَا يَفْسُقُ
بِهِ، وَمَنْ قَالَ: يُحْبَسُ وَيُؤْمَرُ بِلُزُومِ بَيْتِهِ.
فَذَلِكَ احْتِيَاطٌ وَدَفْعُ ضَرَرٍ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
السَّادِسَةُ- رَوَى مَالِكٌ عَنْ حُمَيْدِ بْنِ قَيْسٍ
الْمَكِّيِّ أَنَّهُ قَالَ: دُخِلَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِابْنَيْ جَعْفَرِ بْنِ
أَبِي طَالِبٍ فَقَالَ لِحَاضِنَتِهِمَا:" مَا لِي أَرَاهُمَا
ضَارِعَيْنِ" «3» فَقَالَتْ حَاضِنَتُهُمَا: يَا رَسُولَ
اللَّهِ! إِنَّهُ تُسْرِعُ إِلَيْهِمَا الْعَيْنَ، وَلَمْ
يَمْنَعْنَا أَنْ نَسْتَرْقِيَ لَهُمَا إِلَّا أَنَّا لَا
نَدْرِي مَا يُوَافِقُكَ مِنْ ذَلِكَ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" استرقوا لهما فإنه
__________
(1). راجع ج 2 ص 55.
(2). في ع وك وى: هنا.
(3). الضارع: النحيف الضاوي الجسم. [ ..... ]
(9/227)
وَلَمَّا دَخَلُوا
مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ مَا كَانَ يُغْنِي عَنْهُمْ
مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا حَاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ
قَضَاهَا وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِمَا عَلَّمْنَاهُ وَلَكِنَّ
أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (68) وَلَمَّا دَخَلُوا
عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَخَاهُ قَالَ إِنِّي أَنَا
أَخُوكَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (69)
فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ جَعَلَ السِّقَايَةَ فِي
رَحْلِ أَخِيهِ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ
إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ (70)
لو سبق شي الْقَدَرَ سَبَقَتْهُ
الْعَيْنُ". وَهَذَا الْحَدِيثُ مُنْقَطِعٌ، وَلَكِنَّهُ
مَحْفُوظٌ لِأَسْمَاءَ بُنْتِ عُمَيْسٍ الْخَثْعَمِيَّةِ عَنِ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ وُجُوهٍ
ثَابِتَةٍ مُتَّصِلَةٍ صِحَاحٍ، وَفِيهِ أَنَّ الرُّقَى مِمَّا
يُسْتَدْفَعُ بِهِ الْبَلَاءُ، وَأَنَّ الْعَيْنَ تُؤَثِّرُ
فِي الْإِنْسَانِ وَتَضْرَعُهُ، أَيْ تُضْعِفُهُ وَتُنْحِلُهُ،
وَذَلِكَ بِقَضَاءِ اللَّهِ تَعَالَى وَقَدَرَهُ. وَيُقَالُ:
إِنَّ الْعَيْنَ أَسْرَعُ إِلَى الصِّغَارِ مِنْهَا إِلَى
الْكِبَارِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. السَّابِعَةُ- أَمَرَ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَدِيثِ أَبِي أُمَامَةَ
الْعَائِنَ بِالِاغْتِسَالِ لِلْمَعِينِ، وَأَمَرَ هُنَا
بِالِاسْتِرْقَاءِ، قَالَ عُلَمَاؤُنَا: إِنَّمَا يُسْتَرْقَى
مِنَ الْعَيْنِ إِذَا لَمْ يُعْرَفِ الْعَائِنُ، وَأَمَّا
إِذَا عُرِفَ الَّذِي أَصَابَهُ بِعَيْنِهِ فَإِنَّهُ يُؤْمَرُ
بِالْوُضُوءِ عَلَى حَدِيثِ أَبِي أُمَامَةَ، وَاللَّهُ
أَعْلَمُ. قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَما أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ
اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ) أي من شي أَحْذَرُهُ عَلَيْكُمْ، أَيْ
لَا يَنْفَعُ الْحَذَرَ مَعَ القدر. (إِنِ الْحُكْمُ) أي الأمر
والقضاء لله. (إِلَّا لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ) أَيِ
اعْتَمَدْتُ وَوَثِقْتُ. (وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ
الْمُتَوَكِّلُونَ).
[سورة يوسف (12): الآيات 68 الى 70]
وَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ مَا كانَ
يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ حاجَةً فِي
نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضاها وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِما
عَلَّمْناهُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (68)
وَلَمَّا دَخَلُوا عَلى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَخاهُ قالَ
إِنِّي أَنَا أَخُوكَ فَلا تَبْتَئِسْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ
(69) فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهازِهِمْ جَعَلَ السِّقايَةَ
فِي رَحْلِ أَخِيهِ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا
الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسارِقُونَ (70)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ
أَبُوهُمْ) أَيْ مِنْ أَبْوَابٍ شَتَّى. (مَا كانَ يُغْنِي
عَنْهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ) إِنْ أَرَادَ إِيقَاعَ
مَكْرُوهٍ بِهِمْ. (إِلَّا حاجَةً) اسْتِثْنَاءٌ لَيْسَ مِنَ
الْأَوَّلِ. (فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضاها) أَيْ خَاطِرٌ
خَطَرَ بِقَلْبِهِ، وَهُوَ وَصِيَّتُهُ أَنْ يَتَفَرَّقُوا،
قَالَ مُجَاهِدٌ: خَشْيَةَ الْعَيْنِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ
الْقَوْلُ فِيهِ. وَقِيلَ: لِئَلَّا يَرَى الْمَلِكُ
عَدَدَهُمْ وَقُوَّتَهُمْ
(9/228)
فَيَبْطِشُ بِهِمْ حَسَدًا أَوْ حَذَرًا،
قَالَهُ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ، وَاخْتَارَهُ النَّحَّاسُ،
وَقَالَ: وَلَا مَعْنَى لِلْعَيْنِ هَاهُنَا. وَدَلَّتْ هَذِهِ
الْآيَةُ عَلَى أَنَّ الْمُسْلِمَ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ
يُحَذِّرَ أَخَاهُ مِمَّا يَخَافُ عَلَيْهِ، وَيُرْشِدَهُ
إِلَى مَا فِيهِ طَرِيقُ السَّلَامَةِ وَالنَّجَاةِ، فَإِنَّ
الدِّينَ النَّصِيحَةُ، وَالْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَإِنَّهُ) يَعْنِي يَعْقُوبَ. (لَذُو
عِلْمٍ لِما عَلَّمْناهُ) أَيْ بِأَمْرِ دِينِهِ. (وَلكِنَّ
أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ) أَيْ لَا يَعْلَمُونَ مَا
يَعْلَمُ يَعْقُوبَ عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنْ أَمْرِ دِينِهِ.
وَقِيلَ:" لَذُو عِلْمٍ" أَيْ عَمَلٍ، فَإِنَّ الْعِلْمَ
أَوَّلُ أَسْبَابِ الْعَمَلِ، فَسُمِّيَ بِمَا «1» هُوَ
بِسَبَبِهِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَلَمَّا دَخَلُوا عَلى
يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَخاهُ) قَالَ قَتَادَةُ: ضَمَّهُ
إِلَيْهِ، وَأَنْزَلَهُ مَعَهُ. وَقِيلَ: أَمَرَ أَنْ يَنْزِلَ
كُلُّ اثْنَيْنِ فِي مَنْزِلٍ، فَبَقِيَ أَخُوهُ مُنْفَرِدًا
فَضَمَّهُ إِلَيْهِ وَقَالَ: أَشْفَقْتُ عَلَيْهِ مِنَ
الْوَحْدَةِ، قَالَ لَهُ سِرًّا مِنْ إِخْوَتِهِ: (إِنِّي
أَنَا أَخُوكَ فَلا تَبْتَئِسْ) أَيْ لَا تَحْزَنْ (بِما
كانُوا يَعْمَلُونَ). قَوْلُهُ تَعَالَى: (فَلَمَّا
جَهَّزَهُمْ بِجَهازِهِمْ جَعَلَ السِّقايَةَ فِي رَحْلِ
أَخِيهِ) لَمَّا عَرَفَ بِنْيَامِينُ أَنَّهُ يُوسُفَ قَالَ
لَهُ: لَا تَرُدَّنِي إِلَيْهِمْ، فَقَالَ: قَدْ عَلِمْتُ
اغْتِمَامَ يَعْقُوبَ بِي فَيَزْدَادُ غَمُّهُ، فَأَبَى
بِنْيَامِينُ الْخُرُوجَ، فَقَالَ يُوسُفُ: لَا يُمْكِنُ
حَبْسُكَ إِلَّا بَعْدَ أَنْ أَنْسُبَكَ إِلَى مَا لَا
يَجْمُلُ بِكَ: فَقَالَ: لَا أُبَالِي! فَدَسَّ الصَّاعَ فِي
رَحْلِهِ، إِمَّا بِنَفْسِهِ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَطَّلِعْ
عَلَيْهِ أَحَدٌ، أَوْ أَمَرَ بَعْضَ خَوَاصِّهِ بِذَلِكَ.
وَالتَّجْهِيزُ التَّسْرِيحُ وَتَنْجِيزُ الْأَمْرِ، وَمِنْهُ
جَهَّزَ عَلَى الْجَرِيحِ أَيْ قَتَلَهُ، وَنَجَزَّ أَمْرَهُ.
والسقاية والصواع شي وَاحِدٌ، إِنَاءٌ لَهُ رَأْسَانِ فِي
وَسَطِهِ مِقْبَضٌ، كَانَ الْمَلِكُ يَشْرَبُ مِنْهُ مِنَ
الرَّأْسِ الْوَاحِدِ، وَيُكَالُ الطَّعَامُ بِالرَّأْسِ
الْآخَرِ، قَالَهُ النَّقَّاشُ عَنِ ابن عباس، وكل شي يُشْرَبُ
بِهِ فَهُوَ صُوَاعٌ، وَأَنْشَدَ:
نَشْرَبُ الْخَمْرَ بِالصُّوَاعِ جِهَارًا «2»
وَاخْتُلِفَ فِي جِنْسِهِ، فَرَوَى شُعْبَةُ عَنْ أَبِي بِشْرٍ
عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ
صُوَاعُ الْمَلِكِ شي من فضة يشبه المكوك، من فضة مرصع
بالجوهر، يجعل على الرأس،
__________
(1). من ع.
(2). البيت تقدم في ص 178 من هذا الجزء. برواية: نشرب الإثم.
(9/229)
وَكَانَ لِلْعَبَّاسِ وَاحِدٌ فِي
الْجَاهِلِيَّةِ، وَسَأَلَ نَافِعُ «1» بْنُ الْأَزْرَقِ مَا
الصُّوَاعُ؟ قَالَ: الْإِنَاءُ، قَالَ فِيهِ الْأَعْشَى:
لَهُ دَرْمَكٌ فِي رَأْسِهِ وَمَشَارِبُ ... وَقِدْرٌ
وَطَبَّاخٌ وَصَاعٌ وَدَيْسَقُ «2»
وَقَالَ عِكْرِمَةُ: كَانَ مِنْ فِضَّةٍ. وَقَالَ عَبْدُ
الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدٍ: كَانَ مِنْ ذَهَبٍ، وَبِهِ كَالَ
طَعَامُهُمْ مُبَالَغَةً فِي إِكْرَامِهِمْ. وَقِيلَ: إِنَّمَا
كَانَ يُكَالُ بِهِ لِعِزَّةِ الطَّعَامِ. وَالصَّاعُ
يُذَكَّرُ وَيُؤَنَّثُ، فَمَنْ أَنَّثَهُ قَالَ: أَصْوُعٌ،
مِثْلُ أَدْوُرٍ، وَمَنْ ذَكَّرَهُ قَالَ أَصْوَاعٌ، مِثْلُ
أَثْوَابٍ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَأَبُو صَالِحٍ: الصَّاعُ
الطِّرْجِهَالَةُ بِلُغَةِ حِمْيَرَ. وَفِيهِ قِرَاءَاتٌ:"
صُواعَ" قِرَاءَةُ الْعَامَّةِ، وَ" صَوْغَ" بِالْغَيْنِ
الْمُعْجَمَةِ، وَهِيَ قِرَاءَةُ يَحْيَى بْنِ يَعْمَرَ،
قَالَ: وَكَانَ إِنَاءً أُصِيغَ مِنْ ذَهَبٍ." وَصَوْعَ"
بِالْعَيْنِ غَيْرِ الْمُعْجَمَةِ قِرَاءَةُ أَبِي رَجَا."
وَصُوعَ" بِصَادِ مَضْمُومَةٍ وَوَاوٍ سَاكِنَةٍ وَعَيْنٍ
غَيْرِ مُعْجَمَةٍ قِرَاءَةُ أُبَيٍّ." وَصُيَاعَ" بِيَاءٍ
بَيْنَ الصَّادِ وَالْأَلِفِ، قِرَاءَةُ «3» سَعِيدِ بْنِ
جُبَيْرٍ." وَصَاعَ" بِأَلِفٍ بَيْنَ الصَّادِ وَالْعَيْنِ،
وَهِيَ قِرَاءَةُ أَبِي هُرَيْرَةَ. قَوْلُهُ تَعَالَى: (ثُمَّ
أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسارِقُونَ)
أَيْ نَادَى مناد وأعلم. و" أَذَّنَ" لِلتَّكْثِيرِ،
فَكَأَنَّهُ نَادَى مِرَارًا" أَيَّتُهَا الْعِيرُ".
وَالْعِيرُ مَا امْتِيرَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيرِ وَالْإِبِلِ
وَالْبِغَالِ. قَالَ مُجَاهِدٌ: كَانَ عِيرُهُمْ حَمِيرًا.
قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: الْعِيرُ الْإِبِلُ الْمَرْحُولَةُ
الْمَرْكُوبَةُ، وَالْمَعْنَى: يَا أصحاب العير، كقوله:"
وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ" [يوسف: 82] وَيَا خَيْلَ اللَّهِ
ارْكَبِي: أَيْ يَا أَصْحَابَ خَيْلِ اللَّهِ، وَسَيَأْتِي.
وَهُنَا اعْتِرَاضَانِ: الْأَوَّلُ- إِنْ قِيلَ: كَيْفَ رَضِيَ
بِنْيَامِينُ بِالْقُعُودِ طَوْعًا وَفِيهِ عُقُوقُ الْأَبِ
بِزِيَادَةِ الْحُزْنِ، وَوَافَقَهُ عَلَى ذَلِكَ يُوسُفُ؟
وَكَيْفَ نَسَبَ يُوسُفُ السَّرِقَةَ إِلَى إِخْوَتِهِ وهم
براء وهوالثاني- فَالْجَوَابُ عَنِ الْأَوَّلِ: أَنَّ
الْحُزْنَ كَانَ قَدْ غَلَبَ عَلَى يَعْقُوبَ بِحَيْثُ لَا
يُؤَثِّرُ فِيهِ فَقْدُ بِنْيَامِينَ كُلَّ التَّأْثِيرِ،
أَوَلَا تَرَاهُ لَمَّا فقده قال:" يا أَسَفى عَلى يُوسُفَ"
[يُوسُفَ: 84] وَلَمْ يُعَرِّجْ عَلَى بِنْيَامِينَ، وَلَعَلَّ
يُوسُفَ إِنَّمَا وَافَقَهُ عَلَى الْقُعُودِ بِوَحْيٍ، فَلَا
اعْتِرَاضَ. وأما نسبة
__________
(1). كذا في اوع وك وى. ولعله الأشبه، وفى و: مالك.
(2). الديسق: خوان من فضه. والبيت من قصيدة يمدح بها المحلق
مطلعها:
أرقت وما هذا السهاد المورق ... وما بي من سقم وما بي معشق
(3). في ع: أبى جعفر. والذي في شواذ ابن خالويه: صواغ سعيد بن
جبير. بغين معجمة، وابن عطية.
(9/230)
قَالُوا وَأَقْبَلُوا
عَلَيْهِمْ مَاذَا تَفْقِدُونَ (71) قَالُوا نَفْقِدُ صُوَاعَ
الْمَلِكِ وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ
زَعِيمٌ (72)
يُوسُفَ السَّرِقَةَ إِلَى إِخْوَتِهِ
فَالْجَوَابُ: أَنَّ الْقَوْمَ كَانُوا قَدْ سَرَقُوهُ مِنْ
أَبِيهِ فَأَلْقَوْهُ فِي الْجُبِّ، ثُمَّ بَاعُوهُ،
فَاسْتَحَقُّوا هَذَا الِاسْمَ بِذَلِكَ الْفِعْلِ، فَصَدَقَ
إِطْلَاقُ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ. جَوَابٌ آخَرُ- وَهُوَ أَنَّهُ
أَرَادَ أَيَّتُهَا الْعِيرُ حَالُكُمْ حَالُ السُّرَّاقِ،
وَالْمَعْنَى: إِنَّ شَيْئًا لِغَيْرِكُمْ صَارَ عِنْدَكُمْ
مِنْ غَيْرِ رِضَا الْمَلِكِ وَلَا عِلْمِهِ. جَوَابٌ آخَرُ-
وَهُوَ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ حِيلَةً لِاجْتِمَاعِ شَمْلِهِ
بِأَخِيهِ، وَفَصْلِهِ عَنْهُمْ إِلَيْهِ، وَهَذَا بِنَاءً
عَلَى أَنَّ بِنْيَامِينَ لَمْ يَعْلَمْ بِدَسِّ الصَّاعِ فِي
رَحْلِهِ، وَلَا أَخْبَرَهُ بِنَفْسِهِ. وَقَدْ قِيلَ: إن معنى
الكلام الاستفهام، أي أو إنكم لسارقون؟ كقوله:" وَتِلْكَ
نِعْمَةٌ" «1» [الشعراء: 22] أي أو تلك نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا
عَلَيَّ؟ وَالْغَرَضُ أَلَّا يُعْزَى إِلَى يوسف صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الكذب.
[سورة يوسف (12): الآيات 71 الى 72]
قالُوا وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ مَاذَا تَفْقِدُونَ (71)
قالُوا نَفْقِدُ صُواعَ الْمَلِكِ وَلِمَنْ جاءَ بِهِ حِمْلُ
بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ (72)
فِيهِ سَبْعُ مَسَائِلَ: الْأُولَى: قَوْلُهُ تَعَالَى:
(وَلِمَنْ جاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ).
الْبَعِيرُ هُنَا الْجَمَلُ فِي قَوْلِ أَكْثَرِ
الْمُفَسِّرِينَ. وَقِيلَ: إِنَّهُ الْحِمَارُ، وَهِيَ لُغَةٌ
لِبَعْضِ الْعَرَبِ، قَالَهُ مُجَاهِدٌ وَاخْتَارَهُ. وَقَالَ
مُجَاهِدٌ: الزَّعِيمُ هُوَ الْمُؤَذِّنُ الَّذِي قَالَ:"
أَيَّتُهَا الْعِيرُ". وَالزَّعِيمُ وَالْكَفِيلُ وَالْحَمِيلُ
وَالضَّمِينُ وَالْقَبِيلُ سَوَاءٌ وَالزَّعِيمُ الرَّئِيسُ.
قَالَ «2»:
وَإِنِّي زَعِيمٌ إِنْ رَجَعْتُ مُمَلَّكًا ... بِسَيْرٍ تَرَى
مِنْهُ الْفُرَانِقَ أَزْوَرَا
وَقَالَتْ لَيْلَى الْأَخْيِلِيَّةُ تَرِثِي أَخَاهَا «3»:
وَمُخَرَّقٌ عَنْهُ الْقَمِيصُ تخاله ... يوم اللقاء من الحياء
سقيما
__________
(1). راجع ج 13 ص 93.
(2). هو امرؤ القيس. والفرانق: سبع يصيح بين يدي الأسد كأنه
ينذر الناس به، وهو فارسي معرب. والأزور: المائل في شق، أي إن
ملكني قيصر فإنى أسير سيرا شديدا يميل منه الفرانق من شدته
بجانب.
(3). كذا في الأصل ولعله ترثى توبة. وفى صفته بخرق القميص
أقوال: الأول- أن ذلك إشارة إلى جذب العفاة له. الثاني- أنه
يؤثر بجيد ثيابه فيكسوها ويكتفى بمعاوزها. الثالث- أنه غليظ
المناكب، وإذا كان كذلك أسرع الخرق إلى قميصه. الرابع- أنه
كثير الغزوات متصل في الأسفار، فقميصه منخرق لذلك.
(9/231)
حَتَّى إِذَا رَفَعَ اللِّوَاءَ رَأَيْتَهُ
... [تَحْتَ اللِّوَاءِ] «1» عَلَى الْخَمِيسِ زَعِيمَا
الثَّانِيَةُ- إِنْ قِيلَ: كَيْفَ ضَمِنَ حِمْلَ الْبَعِيرَ
وَهُوَ مَجْهُولٌ، وَضَمَانُ الْمَجْهُولِ لَا يَصِحُّ؟ قِيلَ
لَهُ: حِمْلُ الْبَعِيرِ كَانَ مُعَيَّنًا مَعْلُومًا
عِنْدَهُمْ كَالْوَسْقِ، فَصَحَّ ضَمَانُهُ، غَيْرَ أَنَّهُ
[كَانَ] «2» بَدَلُ مَالٍ لِلسَّارِقِ، وَلَا يَحِلُّ
لِلسَّارِقِ ذَلِكَ، فَلَعَلَّهُ كَانَ يَصِحُّ فِي شَرْعِهِمْ
أَوْ كَانَ هَذَا جَعَالَةٌ، وَبَذْلُ مَالٍ لِمَنْ [كَانَ]
«3» يُفَتِّشُ وَيَطْلُبُ. الثَّالِثَةُ- قَالَ بَعْضُ
الْعُلَمَاءِ: فِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلِيلَانِ: أَحَدُهُمَا-
جَوَازُ الْجُعْلُ وَقَدْ أُجِيزَ لِلضَّرُورَةِ، فَإِنَّهُ
يَجُوزُ فِيهِ مِنَ الْجَهَالَةِ مَا لَا يَجُوزُ فِي
غَيْرِهِ، فَإِذَا قَالَ الرَّجُلُ: مَنْ فَعَلَ كَذَا فَلَهُ
كَذَا صَحَّ. وَشَأْنُ الْجُعْلِ أَنْ يَكُونَ أَحَدُ
الطَّرَفَيْنِ مَعْلُومًا وَالْآخَرُ مَجْهُولًا لِلضَّرُورَةِ
إِلَيْهِ، بِخِلَافِ الْإِجَارَةِ، فَإِنَّهُ يَتَقَدَّرُ
فِيهَا الْعِوَضُ وَالْمُعَوَّضُ مِنَ الْجِهَتَيْنِ، وَهُوَ
مِنَ الْعُقُودِ الْجَائِزَةِ الَّتِي يَجُوزُ لِأَحَدِهِمَا
فَسْخُهُ، إِلَّا أَنَّ الْمَجْعُولَ لَهُ يَجُوزُ أَنْ
يَفْسَخَهُ قَبْلَ الشُّرُوعِ وَبَعْدَهُ، إِذَا رَضِيَ
بِإِسْقَاطِ حَقِّهِ، وَلَيْسَ لِلْجَاعِلِ أَنْ يَفْسَخَهُ
إِذَا شَرَعَ الْمَجْعُولُ لَهُ فِي الْعَمَلِ. وَلَا
يُشْتَرَطُ فِي عَقْدِ الْجُعْلِ حُضُورُ الْمُتَعَاقِدَيْنِ،
كَسَائِرِ الْعُقُودِ، لِقَوْلِهِ:" وَلِمَنْ جاءَ بِهِ حِمْلُ
بَعِيرٍ" وَبِهَذَا كُلُّهُ قَالَ الشَّافِعِيُّ.
الرَّابِعَةُ- مَتَى قَالَ الْإِنْسَانُ، مَنْ جَاءَ بِعَبْدِي
الْآبِقِ فَلَهُ دِينَارٌ لَزِمَهُ مَا جَعَلَهُ فِيهِ إِذَا
جَاءَ بِهِ، فَلَوْ جَاءَ بِهِ مِنْ غَيْرِ ضَمَانٍ لَزِمَهُ
إِذَا جَاءَ بِهِ عَلَى طَلَبِ الْأُجْرَةِ، وَذَلِكَ أَنَّ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:" مَنْ
جَاءَ بِآبِقٍ فَلَهُ أَرْبَعُونَ دِرْهَمًا" وَلَمْ يُفَصِّلْ
بَيْنَ مَنْ جَاءَ بِهِ مِنْ عَقْدِ ضَمَانٍ أَوْ غير عقد. قال
ابن خويز مَنْدَادَ وَلِهَذَا قَالَ أَصْحَابُنَا: إِنَّ مَنْ
فَعَلَ بِالْإِنْسَانِ مَا يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَفْعَلَهُ
بِنَفْسِهِ مَصَالِحِهِ لَزِمَهُ ذَلِكَ، وَكَانَ لَهُ أَجْرٌ
مِثْلُهُ إِنْ كَانَ مِمَّنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ بِالْأَجْرِ.
قُلْتُ: وخالفنا في هذا كله الشافعي.
__________
(1). كذا في" أمالى القالي" والشعر والشعراء" و" الحماسة". وفى
الأصول: يوم الهياج.
(2). من ع.
(3). من ع.
(9/232)
الْخَامِسَةُ- الدَّلِيلُ الثَّانِي-
جَوَازُ الْكَفَالَةِ عَلَى الرَّجُلِ، لِأَنَّ الْمُؤَذِّنَ
الضَّامِنَ هُوَ غَيْرُ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، قَالَ
عُلَمَاؤُنَا: إِذَا قَالَ الرَّجُلُ تَحَمَّلْتُ أَوْ
تَكَفَّلْتُ أَوْ ضَمِنْتُ أَوْ وَأَنَا حَمِيلٌ لَكَ أَوْ
زَعِيمٌ أَوْ كَفِيلٌ أَوْ ضَامِنٌ أَوْ قَبِيلٌ، أَوْ هُوَ
لَكَ عِنْدِي أَوْ عَلَيَّ أَوْ إِلَيَّ أَوْ قِبَلِي فَذَلِكَ
كُلُّهُ حَمَالَةٌ لَازِمَةٌ، وَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ
فِيمَنْ تَكَفَّلَ بِالنَّفْسِ أَوْ بِالْوَجْهِ، هَلْ
يَلْزَمُهُ ضَمَانُ الْمَالِ أَمْ لَا؟ فَقَالَ
الْكُوفِيُّونَ: مَنْ تَكَفَّلَ بِنَفْسِ رَجُلٍ لَمْ
يَلْزَمْهُ الْحَقُّ الَّذِي عَلَى الْمَطْلُوبِ إِنْ مَاتَ،
وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيِ الشَّافِعِيِّ فِي الْمَشْهُورِ
عَنْهُ. وَقَالَ مَالِكٌ وَاللَّيْثِ وَالْأَوْزَاعِيُّ: إِذَا
تَكَفَّلَ بِنَفْسِهِ وَعَلَيْهِ مَالٌ فَإِنَّهُ إِنْ لَمْ
يأت به غرم المال، ويرجع به على الْمَطْلُوبِ، فَإِنِ
اشْتَرَطَ ضَمَانَ نَفْسِهِ أَوْ وَجْهِهِ وقال: لا أضمن المال
فلا شي عَلَيْهِ مِنَ الْمَالِ، وَالْحُجَّةُ لِمَنْ أَوْجَبَ
غُرْمَ الْمَالِ أَنَّ الْكَفِيلَ قَدْ عَلِمَ أَنَّ
الْمَضْمُونَ وَجْهُهُ لَا يُطْلَبُ بِدَمٍ، وَإِنَّمَا
يُطْلَبُ بِمَالٍ، فَإِذَا ضَمِنَهُ لَهُ وَلَمْ يَأْتِهِ بِهِ
فَكَأَنَّهُ فَوَّتَهُ عَلَيْهِ، وَعَزَّهُ مِنْهُ، فَلِذَلِكَ
لَزِمَهُ الْمَالُ. وَاحْتَجَّ الطَّحَاوِيُّ لِلْكُوفِيِّينَ
فَقَالَ: أَمَّا ضَمَانُ الْمَالِ بِمَوْتِ الْمَكْفُولِ [بِهِ
«1»] فَلَا مَعْنَى لَهُ، لِأَنَّهُ إِنَّمَا تَكَفَّلَ
بِالنَّفْسِ وَلَمْ يَتَكَفَّلْ بِالْمَالِ، فَمُحَالٌ أَنْ
يَلْزَمَهُ مَا لَمْ يَتَكَفَّلْ بِهِ. السَّادِسَةُ-
وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ إِذَا تَكَفَّلَ رَجُلٌ عَنْ رَجُلٍ
بِمَالٍ، هَلْ لِلطَّالِبِ أَنْ يَأْخُذَ مَنْ شَاءَ
مِنْهُمَا؟ فَقَالَ الثَّوْرِيُّ وَالْكُوفِيُّونَ
وَالْأَوْزَاعِيُّ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ:
يَأْخُذُ مَنْ شَاءَ حَتَّى يَسْتَوْفِيَ حَقَّهُ، وَهَذَا
كَانَ قَوْلُ مَالِكٍ ثُمَّ رَجَعَ عَنْهُ فَقَالَ: لَا
يُؤْخَذُ الْكَفِيلُ إِلَّا أَنْ يُفْلِسَ الْغَرِيمُ أَوْ
يَغِيبَ، لِأَنَّ التَّبْدِيَةَ بِالَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ
أَوْلَى، إِلَّا أَنْ يَكُونَ مُعْدِمًا فَإِنَّهُ يُؤْخَذُ
مِنَ الْحَمِيلِ، لِأَنَّهُ مَعْذُورٌ فِي أَخْذِهِ فِي هَذِهِ
الْحَالَةِ، وَهَذَا قَوْلٌ حَسَنٌ. وَالْقِيَاسُ أَنَّ
لِلرَّجُلِ مُطَالَبَةَ أَيِّ الرَّجُلَيْنِ شَاءَ. وَقَالَ
ابْنُ أَبِي لَيْلَى: إِذَا ضَمِنَ الرَّجُلُ عَنْ صَاحِبِهِ
مَالًا تَحَوَّلَ عَلَى الْكَفِيلِ وَبَرِئَ صَاحِبُ
الْأَصْلِ، إِلَّا أَنْ يَشْتَرِطَ الْمَكْفُولُ لَهُ
عَلَيْهِمَا أَنْ يَأْخُذَ أَيَّهُمَا شَاءَ، وَاحْتَجَّ
بِبَرَاءَةِ الْمَيِّتِ مِنَ الدَّيْنِ، بِضَمَانِ أَبِي
قَتَادَةَ «2»، وَبِنَحْوِهِ قَالَ أبو ثور.
__________
(1). من ع وى.
(2). الحديث: روى سلمة بن الأكوع أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُتِيَ بجنازة فقال:" هل عليه من
دين" قالوا: نعم، قال:" هل ترك شيئا" قالوا: لا، قال:" صلوا
على صاحبكم" قال أبو قتادة: صل عليه يا رسول الله وعلى دينه،
فصلى عليه.
(9/233)
قَالُوا تَاللَّهِ
لَقَدْ عَلِمْتُمْ مَا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ وَمَا
كُنَّا سَارِقِينَ (73) قَالُوا فَمَا جَزَاؤُهُ إِنْ كُنْتُمْ
كَاذِبِينَ (74) قَالُوا جَزَاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ
فَهُوَ جَزَاؤُهُ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (75)
السَّابِعَةُ- الزَّعَامَةُ لَا تَكُونُ
إِلَّا فِي الْحُقُوقِ الَّتِي تَجُوزُ «1» النِّيَابَةُ
فِيهَا، مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِالذِّمَّةِ مِنَ الْأَمْوَالِ،
وَكَانَ ثَابِتًا مُسْتَقِرًّا، فَلَا تَصِحُّ الْحَمَالَةُ
بِالْكِتَابَةِ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ بِدَيْنٍ ثَابِتٍ
مُسْتَقِرٍّ، لِأَنَّ الْعَبْدَ إِنْ عَجَزَ رُقَّ
وَانْفَسَخَتِ الْكِتَابَةُ، وَأَمَّا كُلُّ حَقٍّ لَا يَقُومُ
بِهِ أَحَدٌ عَنْ أَحَدٍ كَالْحُدُودِ فَلَا كَفَالَةَ فِيهِ،
وَيُسْجَنُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ الْحَدُّ، حَتَّى يُنْظَرَ
فِي أَمْرِهِ. وَشَذَّ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ فَأَجَازَا
الْكَفَالَةَ فِي الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ، وَقَالَا: إِذَا
قَالَ الْمَقْذُوفُ أَوِ الْمُدَّعِي الْقِصَاصَ بَيِّنَتِي
حَاضِرَةٌ كَفَلَهُ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ، وَاحْتَجَّ لَهُمُ
الطَّحَاوِيُّ بِمَا رَوَاهُ حَمْزَةُ بْنُ عَمْرٍو عَنْ
عُمَرَ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَجَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ
وَالْأَشْعَثِ أَنَّهُمْ حَكَمُوا بِالْكَفَالَةِ بِالنَّفْسِ
بمحضر الصحابة.
[سورة يوسف (12): الآيات 73 الى 75]
قالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ ما جِئْنا لِنُفْسِدَ فِي
الْأَرْضِ وَما كُنَّا سارِقِينَ (73) قالُوا فَما جَزاؤُهُ
إِنْ كُنْتُمْ كاذِبِينَ (74) قالُوا جَزاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي
رَحْلِهِ فَهُوَ جَزاؤُهُ كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (75)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (قالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ مَا
جِئْنا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ) يُرْوَى أَنَّهُمْ كَانُوا
لَا يَنْزِلُونَ عَلَى أَحَدٍ ظُلْمًا، وَلَا يَرْعَوْنَ
زَرْعَ أَحَدٍ، وَأَنَّهُمْ جَمَعُوا عَلَى أَفْوَاهِ
إِبِلِهِمُ الْأَكِمَّةَ لِئَلَّا تَعِيثَ فِي زُرُوعِ
النَّاسِ. ثم قال: (وَما كُنَّا سارِقِينَ) يُرْوَى أَنَّهُمْ
رَدُّوا الْبِضَاعَةَ الَّتِي كَانَتْ فِي رِحَالِهِمْ، أَيْ
فَمَنْ رَدَّ مَا وَجَدَ فَكَيْفَ يَكُونُ سَارِقًا؟!.
قَوْلُهُ تَعَالَى: (قالُوا فَما جَزاؤُهُ إِنْ كُنْتُمْ
كاذِبِينَ) الْمَعْنَى: فَمَا جَزَاءُ الْفَاعِلِ إِنْ بَانَ
كَذِبُكُمْ؟ فَأَجَابَ إِخْوَةُ يُوسُفَ: (جَزاؤُهُ مَنْ
وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزاؤُهُ) أَيْ يُسْتَعْبَدُ
وَيُسْتَرَقُّ." فَجَزاؤُهُ" مُبْتَدَأٌ، وَ" مَنْ وُجِدَ فِي
رَحْلِهِ" خَبَرُهُ، وَالتَّقْدِيرُ: جَزَاؤُهُ اسْتِعْبَادُ
مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ، فَهُوَ كِنَايَةٌ عَنِ
الِاسْتِعْبَادِ، وَفِي الْجُمْلَةِ مَعْنَى التَّوْكِيدِ،
كَمَا تَقُولُ: جَزَاءُ مَنْ سَرَقَ الْقَطْعُ فَهَذَا
جَزَاؤُهُ. (كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ) أَيْ كَذَلِكَ
نَفْعَلُ فِي الظَّالِمِينَ إِذَا سَرَقُوا أَنْ
يُسْتَرَقُّوا، وَكَانَ هَذَا مِنْ دِينِ يَعْقُوبَ عَلَيْهِ
السَّلَامُ وَحُكْمِهِ. وَقَوْلُهُمْ هَذَا قَوْلُ مَنْ لَمْ
يَسْتَرِبْ نَفْسَهُ،
__________
(1). في ع: تجب. [ ..... ]
(9/234)
فَبَدَأَ
بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَاءِ أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا
مِنْ وِعَاءِ أَخِيهِ كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ
لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ
اللَّهُ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي
عِلْمٍ عَلِيمٌ (76)
لِأَنَّهُمُ الْتَزَمُوا اسْتِرْقَاقَ مَنْ
وُجِدَ فِي رَحْلِهِ، وَكَانَ حُكْمُ السَّارِقِ عِنْدَ أَهْلِ
مِصْرَ أَنْ يَغْرَمَ ضِعْفَيْ مَا أَخَذَ، قَالَهُ الْحَسَنُ
وَالسُّدِّيُّ وَغَيْرُهُمَا. مَسْأَلَةٌ- قَدْ تَقَدَّمَ فِي
سُورَةِ" الْمَائِدَةِ" «1» أَنَّ الْقَطْعَ فِي السَّرِقَةِ
نَاسِخٌ لِمَا تَقَدَّمَ مِنَ الشَّرَائِعِ، أَوْ لِمَا كَانَ
فِي شَرْعِ يعقوب من استرقاق السارق، والله أعلم.
[سورة يوسف (12): آية 76]
فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعاءِ أَخِيهِ ثُمَّ
اسْتَخْرَجَها مِنْ وِعاءِ أَخِيهِ كَذلِكَ كِدْنا لِيُوسُفَ
مَا كانَ لِيَأْخُذَ أَخاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلاَّ أَنْ
يَشاءَ اللَّهُ نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ وَفَوْقَ كُلِّ
ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ (76)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعاءِ
أَخِيهِ) إِنَّمَا بَدَأَ يُوسُفُ بِرِحَالِهِمْ لِنَفْيِ
التُّهْمَةِ وَالرِّيبَةِ مِنْ قُلُوبِهِمْ إِنْ بَدَأَ
بِوِعَاءِ أَخِيهِ. وَالْوِعَاءُ يُقَالُ بِضَمِّ الْوَاوِ
وَكَسْرِهَا، لُغَتَانِ، وَهُوَ مَا يُحْفَظُ فِيهِ الْمَتَاعُ
وَيَصُونَهُ. (ثُمَّ اسْتَخْرَجَها مِنْ وِعاءِ أَخِيهِ)
يَعْنِي بِنْيَامِينَ، أَيِ اسْتَخْرَجَ السِّقَايَةَ أَوِ
الصُّوَاعَ عِنْدَ مَنْ يُؤَنِّثُ، وَقَالَ:" وَلِمَنْ جاءَ
بِهِ" [يوسف: 72] فذكر فلما رأى ذلك إخوته نكسوا رؤوسهم،
وَظَنُّوا الظُّنُونَ كُلَّهَا، وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِ
وَقَالُوا وَيْلَكَ يَا بِنْيَامِينُ! مَا رَأَيْنَا
كَالْيَوْمِ قَطُّ، وَلَدَتْ أُمُّكَ" رَاحِيلَ" أَخَوَيْنِ
لِصَّيْنِ! قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ: وَاللَّهِ مَا سَرَقْتُهُ،
وَلَا عِلْمَ لِي بِمَنْ وَضَعَهُ فِي مَتَاعِي. وَيُرْوَى «2»
أَنَّهُمْ قَالُوا لَهُ: يَا بِنْيَامِينُ! أَسَرَقْتَ؟ قَالَ:
لَا وَاللَّهِ، قَالُوا: فَمَنْ جَعَلَ الصُّوَاعَ فِي
رَحْلِكَ؟ قَالَ: الَّذِي جَعَلَ الْبِضَاعَةَ فِي
رِحَالِكُمْ. وَيُقَالُ: إِنَّ الْمُفَتِّشَ كان إذا فرغ من
رحل رحل اسْتَغْفَرَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ تَائِبًا مِنْ
فِعْلِهِ ذَلِكَ، وَظَاهِرُ كَلَامِ قَتَادَةَ وَغَيْرِهِ
أَنَّ الْمُسْتَغْفِرَ كَانَ يُوسُفُ، لِأَنَّهُ كَانَ
يُفَتِّشُهُمْ وَيَعْلَمُ أَيْنَ الصُّوَاعُ حَتَّى فَرَغَ
مِنْهُمْ، وَانْتَهَى إِلَى رَحْلِ بِنْيَامِينَ فَقَالَ: مَا
أَظُنُّ هَذَا الْفَتَى رَضِيَ بِهَذَا وَلَا أَخَذَ شَيْئًا،
فَقَالَ لَهُ إِخْوَتُهُ: وَاللَّهِ لَا نَبْرَحُ حَتَّى
تُفَتِّشَهُ، فَهُوَ أَطْيَبُ لِنَفْسِكَ وَنُفُوسِنَا،
فَفَتَّشَ فَأَخْرَجَ السِّقَايَةَ، وَهَذَا التَّفْتِيشُ مِنْ
يُوسُفَ يَقْتَضِي أَنَّ الْمُؤَذِّنَ سَرَّقَهُمْ بِرَأْيِهِ،
فَيُقَالُ: إِنَّ جَمِيعَ ذَلِكَ كَانَ أَمْرٌ مِنَ اللَّهِ
تَعَالَى، وَيُقَوِّي ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى:" كَذلِكَ
كِدْنا لِيُوسُفَ".
__________
(1). راجع ج 6 ص 162.
(2). في ع: ويقال.
(9/235)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (كَذلِكَ كِدْنا
لِيُوسُفَ). فِيهِ ثَلَاثُ مَسَائِلَ: الْأُولَى- قَوْلُهُ
تَعَالَى:" كِدْنا" مَعْنَاهُ صَنَعْنَا، عن ابن عباس. القتبي:
دَبَّرْنَا. ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: أَرَدْنَا، قَالَ
الشَّاعِرُ:
كَادَتْ وَكِدْتُ وَتِلْكَ خَيْرُ إِرَادَةٍ ... لَوْ عَادَ
مِنْ عَهْدِ الصِّبَا مَا قَدْ مَضَى
وَفِيهِ جَوَازُ التَّوَصُّلِ إِلَى الْأَغْرَاضِ بِالْحِيَلِ
إِذَا لَمْ تُخَالِفْ شَرِيعَةً، وَلَا هَدَمَتْ أَصْلًا،
خِلَافًا لِأَبِي حَنِيفَةَ فِي تَجْوِيزِهِ الْحِيَلَ وَإِنْ
خَالَفَتِ الْأُصُولَ، وَخَرَمَتِ التَّحْلِيلَ. الثَّانِيَةُ-
أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ لِلرَّجُلِ قَبْلَ حُلُولِ
الْحَوْلِ التَّصَرُّفَ فِي مَالِهِ بِالْبَيْعِ وَالْهِبَةِ
إِذَا لَمْ يَنْوِ الْفِرَارَ مِنَ الصَّدَقَةِ، وَأَجْمَعُوا
عَلَى أَنَّهُ إِذَا حَالَ الْحَوْلُ وَأَظَلَّ السَّاعِيَ
أَنَّهُ لَا يَحِلُّ لَهُ التَّحَيُّلُ وَلَا النُّقْصَانُ،
وَلَا أَنْ يُفَرِّقَ بَيْنَ مُجْتَمِعٍ، وَلَا أَنْ يَجْمَعَ
بَيْنَ مُتَفَرِّقٍ. وَقَالَ مَالِكٌ: إِذَا فَوَّتَ «1» مِنْ
مَالِهِ شَيْئًا يَنْوِي بِهِ الْفِرَارَ مِنَ الزَّكَاةِ
قَبْلَ الْحَوْلِ بِشَهْرٍ أَوْ نَحْوِهِ لَزِمَتْهُ
الزَّكَاةُ عِنْدَ الْحَوْلِ، أَخْذًا مِنْهُ بِقَوْلِهِ
عَلَيْهِ السَّلَامُ:" خَشْيَةَ الصَّدَقَةِ". وَقَالَ أَبُو
حَنِيفَةَ: إِنْ نَوَى بِتَفْرِيقِهِ «2» الْفِرَارَ مِنَ
الزَّكَاةِ قَبْلَ الْحَوْلِ بِيَوْمٍ لَا يَضُرُّهُ، لِأَنَّ
الزَّكَاةَ لَا تَلْزَمُ إِلَّا بِتَمَامِ الْحَوْلِ، وَلَا
يَتَوَجَّهُ إِلَيْهِ مَعْنَى قَوْلِهِ:" خَشْيَةَ
الصَّدَقَةِ" إِلَّا حِينَئِذٍ. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ:
سَمِعْتُ أَبَا بَكْرٍ مُحَمَّدَ بْنَ الْوَلِيدِ الْفِهْرِيَّ
وَغَيْرَهُ يَقُولُ: كَانَ شَيْخُنَا قَاضِي الْقُضَاةِ أَبُو
عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ الدَّامَغَانِيُّ
صَاحِبَ عَشْرَاتِ آلَافِ [دِينَارٍ] «3» مِنَ الْمَالِ،
فَكَانَ إِذَا جَاءَ رَأْسُ الْحَوْلِ دَعَا بَنِيهِ فَقَالَ
لَهُمْ: كَبِرَتْ سِنِي، وَضَعُفَتْ قُوَّتِي، وَهَذَا مَالٌ
لَا أَحْتَاجُهُ فَهُوَ لَكُمْ، ثُمَّ يُخْرِجُهُ فَيَحْمِلُهُ
الرِّجَالُ عَلَى أَعْنَاقِهِمْ إِلَى دُورِ بَنِيهِ، فَإِذَا
جَاءَ رَأْسُ الْحَوْلِ وَدَعَا بَنِيهِ لِأَمْرٍ قَالُوا: يَا
أَبَانَا! إِنَّمَا أَمَلْنَا حَيَاتَكَ، وَأَمَّا الْمَالُ
فَأَيُّ رَغْبَةٍ لَنَا فِيهِ مَا دُمْتَ حَيًّا، أَنْتَ
وَمَالُكَ لَنَا، فَخُذْهُ إِلَيْكَ، وَيَسِيرُ الرِّجَالُ
بِهِ حَتَّى يَضَعُوهُ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَيَرُدُّهُ إِلَى
مَوْضِعِهِ، يُرِيدُ بِتَبْدِيلِ الْمِلْكِ إِسْقَاطَ
الزَّكَاةِ عَلَى رَأْيِ أَبِي حَنِيفةَ فِي التَّفْرِيقِ
بَيْنَ الْمُجْتَمِعِ، وَالْجَمْعِ بَيْنَ الْمُتَفَرِّقِ،
وَهَذَا خَطْبٌ عَظِيمٌ وَقَدْ صَنَّفَ الْبُخَارِيُّ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ فِي جامعه كتابا مقصود فقال:" كتاب الحيل".
__________
(1). في ع: فرق.
(2). في ع: بتفويته.
(3). من ع وى.
(9/236)
قُلْتُ: وَتَرْجَمَ فِيهِ أَبْوَابًا
مِنْهَا: «بَابُ الزَّكَاةِ وَأَلَّا يُفَرَّقَ بَيْنَ
مُجْتَمِعٍ وَلَا يُجْمَعَ بَيْنَ مُتَفَرِّقٍ خَشْيَةَ
الصَّدَقَةِ». وَأَدْخَلَ فِيهِ حَدِيثَ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ،
وَأَنَّ أَبَا بَكْرٍ كَتَبَ لَهُ فريضة الصدقة، وطلحة بْنِ
عُبَيْدِ اللَّهِ أَنَّ أَعْرَابِيًّا جَاءَ إِلَى رَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَائِرَ الرَّأْسِ.
الْحَدِيثَ، وَفِي آخِرِهِ:" أَفْلَحَ إِنْ صَدَقَ" أَوْ"
دَخَلَ الْجَنَّةَ إِنْ صَدَقَ". وَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ: فِي
عِشْرِينَ وَمِائَةِ بَعِيرٍ حِقَّتَانِ، فَإِنْ أَهْلَكَهَا
مُتَعَمِّدًا أَوْ وَهَبَهَا أَوِ احْتَالَ فِيهَا فرارا من
الزكاة فلا شي عَلَيْهِ، ثُمَّ أَرْدَفَ بِحَدِيثِ أَبِي
هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" يَكُونُ كَنْزُ أَحَدِكُمْ يَوْمَ
الْقِيَامَةِ شُجَاعًا أَقْرَعَ لَهُ زَبِيبَتَانِ وَيَقُولُ
أَنَا كَنْزُكَ" الْحَدِيثَ، قَالَ الْمُهَلَّبُ: إِنَّمَا
قَصَدَ الْبُخَارِيُّ فِي هَذَا الْبَابِ أَنْ يُعَرِّفَكَ
أَنَّ كُلَّ حِيلَةٍ يَتَحَيَّلُ بِهَا أَحَدٌ فِي إِسْقَاطِ
الزَّكَاةِ فَإِنَّ إِثْمَ ذَلِكَ عَلَيْهِ، لِأَنَّ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا مَنَعَ
مِنْ جَمْعِ الْغَنَمِ وَتَفْرِيقِهَا خَشْيَةَ الصَّدَقَةِ
فُهِمَ مِنْهُ هَذَا الْمَعْنَى، وَفُهِمَ مِنْ قَوْلِهِ:"
أَفْلَحَ إِنْ صَدَقَ" أَنَّ مَنْ رَامَ أَنْ يَنْقُضَ شَيْئًا
مِنْ فَرَائِضِ اللَّهِ بِحِيلَةٍ يَحْتَالُهَا أَنَّهُ لَا
يُفْلِحُ، وَلَا يَقُومُ بِذَلِكَ عُذْرُهُ عِنْدَ اللَّهِ،
وَمَا أَجَازَهُ الْفُقَهَاءُ مِنْ تَصَرُّفِ صَاحِبِ الْمَالِ
فِي مَالِهِ قُرْبَ حُلُولِ الْحَوْلِ إِنَّمَا هُوَ مَا لَمْ
يُرِدْ بِذَلِكَ الْهَرَبَ مِنَ الزَّكَاةِ، وَمَنْ نَوَى
ذَلِكَ فَالْإِثْمُ، عَنْهُ غَيْرُ سَاقِطٍ، وَاللَّهُ
حَسِيبُهُ، وَهُوَ كَمَنْ فَرَّ مِنْ صِيَامِ رَمَضَانَ قَبْلَ
رُؤْيَةِ الْهِلَالِ بِيَوْمٍ، وَاسْتَعْمَلَ سَفَرًا لَا
يَحْتَاجُ إِلَيْهِ رَغْبَةً عَنْ فَرْضِ اللَّهِ الَّذِي
كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ، فَالْوَعِيدُ
مُتَوَجِّهٌ عَلَيْهِ، أَلَا تَرَى عُقُوبَةَ مَنْ مَنَعَ
الزَّكَاةَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِأَيِ وَجْهٍ مُتَعَمِّدًا
«1» كَيْفَ تَطَؤُهُ الْإِبِلُ، وَيُمَثَّلُ لَهُ مَالُهُ
شُجَاعًا أَقْرَعَ!؟ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْفِرَارَ
مِنَ الزَّكَاةِ لَا يَحِلُّ، وَهُوَ مُطَالَبٌ بِذَلِكَ فِي
الْآخِرَةِ. الثَّالِثَةُ- قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: قَالَ
بَعْضُ عُلَمَاءِ الشَّافِعِيَّةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:"
كَذلِكَ كِدْنا لِيُوسُفَ مَا كانَ لِيَأْخُذَ أَخاهُ".
دَلِيلٌ عَلَى وَجْهِ الْحِيلَةِ إِلَى الْمُبَاحِ،
وَاسْتِخْرَاجِ الْحُقُوقِ، وهذا وهم عظيم، وقوله تعالى:"
وَكَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ" قِيلَ فِيهِ:
كَمَا مَكَّنَّا لِيُوسُفَ مُلْكَ نَفْسِهِ عَنِ امْرَأَةِ
الْعَزِيزِ مَكَّنَّا لَهُ مُلْكَ الْأَرْضِ عَنِ الْعَزِيزِ،
أَوْ مِثْلَهُ مِمَّا لَا يُشْبِهُ مَا ذَكَرَهُ. قَالَ
الشَّفْعَوِيُّ: وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ:" وَخُذْ
بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ" «2» [ص: 44]
وهذا ليس
__________
(1). في ع وى: بأى وجه منعها.
(2). راجع ج 15 ص 212.
(9/237)
قَالُوا إِنْ يَسْرِقْ
فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي
نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ قَالَ أَنْتُمْ شَرٌّ
مَكَانًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَصِفُونَ (77) قَالُوا يَا
أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَبًا شَيْخًا كَبِيرًا فَخُذْ
أَحَدَنَا مَكَانَهُ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (78)
قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنَا
مَتَاعَنَا عِنْدَهُ إِنَّا إِذًا لَظَالِمُونَ (79)
حِيلَةً، إِنَّمَا هُوَ حَمْلٌ لِلْيَمِينِ
عَلَى الْأَلْفَاظِ أَوْ عَلَى الْمَقَاصِدِ. قَالَ
الشَّفْعَوِيُّ: وَمِثْلُهُ حَدِيثُ أَبِي سَعِيدٍ
الْخُدْرِيِّ فِي عَامِلِ خَيْبَرَ أَنَّهُ أَتَى النَّبِيَّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِتَمْرٍ جَنِيبٍ،
الْحَدِيثَ، وَمَقْصُودُ الشَّافِعِيَّةِ مِنْ هَذَا
الْحَدِيثِ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَمَرَهُ أَنْ يَبِيعَ
جَمْعًا «1» وَيَبْتَاعَ جَنِيبًا مِنَ الَّذِي بَاعَ مِنْهُ
الْجَمْعَ أَوْ مِنْ غَيْرِهِ. وَقَالَتِ الْمَالِكِيَّةُ:
مَعْنَاهُ مِنْ غَيْرِهِ، لِئَلَّا يَكُونَ جَنِيبًا بِجَمْعٍ،
وَالدَّرَاهِمُ رِبًا، كَمَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: جَرِيرَةٌ
بِجَرِيرَةٍ «2» وَالدَّرَاهِمُ رِبًا. قَوْلُهُ تَعَالَى:
(فِي دِينِ الْمَلِكِ) أَيْ سُلْطَانِهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ.
ابْنُ عِيسَى: عَادَاتُهُ، أَيْ يُظْلَمُ بِلَا حُجَّةٍ.
مُجَاهِدٌ: فِي حُكْمِهِ، وَهُوَ اسْتِرْقَاقُ السُّرَّاقِ.
(إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ) أَيْ إِلَّا بِأَنْ يَشَاءَ
اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ السِّقَايَةَ فِي رَحْلِهِ تَعِلَّةً
وَعُذْرًا لَهُ. وَقَالَ قَتَادَةُ: بَلْ كَانَ حُكْمُ
الْمَلِكِ الضَّرْبَ وَالْغُرْمَ ضِعْفَيْنِ، وَلَكِنْ شَاءَ
اللَّهُ أَنْ يُجْرِيَ عَلَى أَلْسِنَتِهِمْ حُكْمَ بَنِي
إِسْرَائِيلَ، عَلَى مَا تَقَدَّمَ. قَوْلُهُ تَعَالَى:
(نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ) أَيْ بالعلم والإيمان. وقرى"
نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ" بِمَعْنَى: نَرْفَعُ مَنْ نشاء
درجات، وقد مضى في" الأنعام" «3» وقوله: (وَفَوْقَ كُلِّ ذِي
عِلْمٍ عَلِيمٌ) رَوَى إِسْرَائِيلُ عَنْ سِمَاكٍ عَنْ
عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: يَكُونُ ذَا أَعْلَمُ
مِنْ ذَا وَذَا أَعْلَمُ مِنْ ذَا، وَاللَّهُ فَوْقَ كُلِّ
عَالِمٍ. وَرَوَى سُفْيَانُ عَنْ عَبْدِ الْأَعْلَى عَنْ
سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: كُنَّا عِنْدَ ابْنِ عَبَّاسٍ
رَحِمَهُ اللَّهُ فَتَحَدَّثَ بِحَدِيثٍ فَتَعَجَّبَ مِنْهُ
رَجُلٌ فَقَالَ: سُبْحَانَ اللَّهِ! وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ
عَلِيمٌ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: بِئْسَ مَا قُلْتَ، الله
العليم وهو فوق كل عالم.
[سورة يوسف (12): الآيات 77 الى 79]
قالُوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ
فَأَسَرَّها يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِها لَهُمْ قالَ
أَنْتُمْ شَرٌّ مَكاناً وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما تَصِفُونَ
(77) قالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَباً شَيْخاً
كَبِيراً فَخُذْ أَحَدَنا مَكانَهُ إِنَّا نَراكَ مِنَ
الْمُحْسِنِينَ (78) قالَ مَعاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلاَّ
مَنْ وَجَدْنا مَتاعَنا عِنْدَهُ إِنَّا إِذاً لَظالِمُونَ
(79)
__________
(1). الجمع: تمر مختلط من انواع متفرقة، وليس مرغوبا فيه.
(2). كذا في الأصل وفى" أحكام القرآن لابن العربي" ولعل
العبارة كما في ع: حريرة بالمهملة.
(3). راجع ج 7 ص 30 فما بعدها.
(9/238)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (قالُوا إِنْ يَسْرِقْ
فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ) الْمَعْنَى: أَيِ
اقْتَدَى بِأَخِيهِ، وَلَوِ اقْتَدَى بِنَا مَا سَرَقَ،
وَإِنَّمَا قَالُوا ذَلِكَ لِيَبْرَءُوا مِنْ فِعْلِهِ،
لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ أُمِّهِمْ، وَأَنَّهُ إِنْ سَرَقَ
فَقَدْ جَذَبَهُ عِرْقُ أَخِيهِ السَّارِقِ، لِأَنَّ
الِاشْتِرَاكَ فِي الْأَنْسَابِ يُشَاكِلُ فِي الْأَخْلَاقِ.
وَقَدِ اخْتَلَفُوا فِي السَّرِقَةِ الَّتِي نَسَبُوا إِلَى
يُوسُفَ، فَرُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ وَغَيْرِهِ أَنَّ عَمَّةَ
يُوسُفَ بِنْتَ إِسْحَاقَ كَانَتْ أَكْبَرَ مِنْ يَعْقُوبَ،
وَكَانَتْ صَارَتْ إِلَيْهَا مِنْطَقَةُ إِسْحَاقَ لِسِنِّهَا،
لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَتَوَارَثُونَ بِالسِّنِّ، وَهَذَا
مِمَّا نُسِخَ حُكْمُهُ بِشَرْعِنَا، وَكَانَ مَنْ سَرَقَ
اسْتُعْبِدَ. وَكَانَتْ عَمَّةُ يُوسُفَ حَضَنَتْهُ
وَأَحَبَّتْهُ حُبًّا شَدِيدًا، فَلَمَّا تَرَعْرَعَ وَشَبَّ
قَالَ لَهَا يَعْقُوبُ: سَلِّمِي يُوسُفَ إِلَيَّ، فَلَسْتُ
أَقْدِرُ أَنْ يَغِيبَ عَنِّي سَاعَةً، فَوَلِعَتْ بِهِ،
وَأَشْفَقَتْ مِنْ فِرَاقِهِ، فَقَالَتْ لَهُ: دَعْهُ عِنْدِي
أَيَّامًا أَنْظُرُ إِلَيْهِ فَلَمَّا خَرَجَ مِنْ عِنْدِهَا
يَعْقُوبُ عَمَدَتْ إِلَى مِنْطَقَةِ إِسْحَاقَ،
فَحَزَّمَتْهَا عَلَى يُوسُفَ مِنْ تَحْتِ ثِيَابِهِ، ثُمَّ
قَالَتْ: لَقَدْ فَقَدْتُ مِنْطَقَةَ إِسْحَاقَ، فَانْظُرُوا
مَنْ أَخَذَهَا وَمَنْ أَصَابَهَا، فَالْتَمَسَتْ ثُمَّ
قَالَتِ: اكْشِفُوا أَهْلَ الْبَيْتِ فَكَشَفُوا، فَوُجِدَتْ
مَعَ يُوسُفَ. فَقَالَتْ: إِنَّهُ وَاللَّهِ لِي سِلْمٌ
أَصْنَعُ فِيهِ مَا شِئْتُ، ثُمَّ أَتَاهَا يَعْقُوبُ
فَأَخْبَرَتْهُ الْخَبَرَ، فَقَالَ لَهَا: أَنْتِ وَذَلِكَ،
إِنْ كَانَ فَعَلَ ذَلِكَ فَهُوَ سِلْمٌ لَكِ، فَأَمْسَكَتْهُ
حَتَّى مَاتَتْ، فَبِذَلِكَ عَيَّرَهُ إِخْوَتُهُ فِي
قَوْلِهِمْ:" إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ
قَبْلُ" وَمِنْ هَاهُنَا تَعَلَّمَ يُوسُفُ وَضْعَ
السِّقَايَةِ فِي رَحْلِ أَخِيهِ كَمَا عَمِلَتْ بِهِ
عَمَّتُهُ. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: إِنَّمَا
أَمَرَتْهُ أَنْ يَسْرِقَ صَنَمًا كَانَ لِجَدِّهِ أَبِي
أُمِّهِ، فَسَرَقَهُ وَكَسَرَهُ وَأَلْقَاهُ عَلَى الطَّرِيقِ،
وَكَانَ ذَلِكَ مِنْهُمَا تَغْيِيرًا للمنكر، فرموه بالسرقة
وعيروه بها، وقاله قَتَادَةُ. وَفِي كِتَابِ الزَّجَّاجِ:
أَنَّهُ كَانَ صَنَمُ ذَهَبٍ. وَقَالَ عَطِيَّةُ الْعَوْفِيُّ:
إِنَّهُ كَانَ مَعَ إِخْوَتِهِ عَلَى طَعَامٍ فَنَظَرَ إِلَى
عِرْقٍ «1» فَخَبَّأَهُ فغيره بِذَلِكَ. وَقِيلَ: إِنَّهُ
كَانَ يَسْرِقُ مِنْ طَعَامِ المائدة للمساكين، حكاه ابن عسى.
وَقِيلَ: إِنَّهُمْ كَذَبُوا عَلَيْهِ فِيمَا نَسَبُوهُ
إِلَيْهِ، قَالَهُ الْحَسَنُ. قَوْلُهُ تَعَالَى: (فَأَسَرَّها
يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِها لَهُمْ) أَيْ أَسَرَّ
فِي نَفْسِهِ قَوْلَهُمْ:" إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ
لَهُ مِنْ قَبْلُ" قَالَهُ ابْنُ شَجَرَةَ وَابْنُ عِيسَى.
وَقِيلَ: إِنَّهُ أَسَرَّ فِي نَفْسِهِ قَوْلَهُ:" أَنْتُمْ
شَرٌّ مَكاناً" ثُمَّ جَهَرَ فَقَالَ:" وَاللَّهُ أَعْلَمُ
بِما تَصِفُونَ".
__________
(1). العرق (بالفتح) هنا القطعة من اللحم المطبوخ.
(9/239)
[قاله ابن عباس، أَيْ أَنْتُمْ شَرٌّ
مَكَانًا مِمَّنْ نَسَبْتُمُوهُ إِلَى هَذِهِ السَّرِقَةِ.
وَمَعْنَى قَوْلِهِ" وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما تَصِفُونَ" «1»]
أَيِ اللَّهُ أَعْلَمُ أَنَّ مَا قُلْتُمْ كَذِبٌ، وَإِنْ
كَانَتْ لِلَّهِ رِضًا. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ إِخْوَةَ يُوسُفَ
فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ مَا كَانُوا أَنْبِيَاءَ. قَوْلُهُ
تَعَالَى: (قالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَباً
شَيْخاً كَبِيراً فَخُذْ أَحَدَنا مَكانَهُ) خَاطَبُوهُ
بِاسْمِ الْعَزِيزِ إِذْ كَانَ فِي تِلْكَ اللَّحْظَةِ
بِعَزْلِ الْأَوَّلِ «2» أَوْ مَوْتِهِ. وَقَوْلُهُمْ:" إِنَّ
لَهُ أَباً شَيْخاً كَبِيراً" أَيْ كَبِيرُ الْقَدْرِ، وَلَمْ
يُرِيدُوا كِبَرَ السِّنِّ، لِأَنَّ ذَلِكَ مَعْرُوفٌ مِنْ
حَالِ الشَّيْخِ." فَخُذْ أَحَدَنا مَكانَهُ" أَيْ عَبْدًا
بَدَلَهُ، وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ هَذَا مَجَازٌ، لِأَنَّهُمْ
يَعْلَمُونَ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ أَخْذُ حُرٍّ يُسْتَرَقُّ
بَدَلَ مَنْ قَدْ أَحْكَمَتِ السُّنَّةُ عِنْدَهُمْ رِقَّهُ،
وَإِنَّمَا هَذَا كَمَا تَقُولُ لِمَنْ تَكْرَهُ فِعْلَهُ:
اقْتُلْنِي وَلَا تَفْعَلْ كَذَا وَكَذَا، وَأَنْتَ لَا
تُرِيدُ أَنْ يَقْتُلَكَ، وَلَكِنَّكَ مُبَالِغٌ فِي
اسْتِنْزَالِهِ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُمْ:"
فَخُذْ أَحَدَنا مَكانَهُ" حَقِيقَةً، وَبَعِيدٌ عَلَيْهِمْ
وَهُمْ أَنْبِيَاءُ «3» أَنْ يَرَوُا اسْتِرْقَاقَ حُرٍّ،
فَلَمْ يَبْقَ إِلَّا أَنْ يُرِيدُوا بِذَلِكَ طَرِيقَ
الْحَمَالَةِ، أَيْ خُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ. حَتَّى
يَنْصَرِفَ إِلَيْكَ صَاحِبُكَ، وَمَقْصِدُهُمْ بِذَلِكَ أَنْ
يَصِلَ بِنْيَامِينُ إِلَى أَبِيهِ، وَيَعْرِفُ يَعْقُوبُ
جَلِيَّةَ الْأَمْرِ، فَمَنَعَ يُوسُفُ عَلَيْهِ السَّلَامُ
مِنْ ذَلِكَ، إِذِ الْحَمَالَةُ فِي الْحُدُودِ وَنَحْوِهَا-
بِمَعْنَى إِحْضَارِ الْمَضْمُونِ فَقَطْ- جَائِزَةٌ مَعَ
التَّرَاضِي، غَيْرُ لَازِمَةٍ إِذَا أَبَى الطَّالِبُ،
وَأَمَّا الْحَمَالَةُ فِي مِثْلِ هَذَا عَلَى أَنْ يَلْزَمَ
الْحَمِيلَ مَا كَانَ يَلْزَمُ الْمَضْمُونَ مِنْ عُقُوبَةٍ،
فَلَا يَجُوزُ إِجْمَاعًا. وَفِي" الْوَاضِحَةِ": إِنَّ
الْحَمَالَةَ فِي الْوَجْهِ فَقَطْ فِي [جَمِيعِ] «4»
الْحُدُودِ جَائِزَةٌ، إِلَّا فِي النَّفْسِ. وَجُمْهُورُ
الْفُقَهَاءِ عَلَى جَوَازِ الْكَفَالَةِ فِي النَّفْسِ.
وَاخْتُلِفَ فِيهَا عَنِ الشَّافِعِيِّ، فَمَرَّةً ضَعَّفَهَا،
وَمَرَّةً أَجَازَهَا. قَوْلُهُ تَعَالَى: (إِنَّا نَراكَ مِنَ
الْمُحْسِنِينَ) يَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدُوا وَصْفَهُ بِمَا
رَأَوْا مِنْ إِحْسَانِهِ فِي جَمِيعِ أَفْعَالِهِ مَعَهُمْ،
وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدُوا: إِنَّا نَرَى لَكَ إِحْسَانًا
عَلَيْنَا فِي هَذِهِ الْيَدِ إِنْ أَسْدَيْتَهَا إِلَيْنَا،
وَهَذَا تَأْوِيلُ ابْنِ إِسْحَاقَ. قَوْلُهُ تَعَالَى: (قالَ
مَعاذَ اللَّهِ) مَصْدَرٌ. (أَنْ نَأْخُذَ) فِي مَوْضِعِ
نَصْبٍ، أَيْ مِنْ أَنْ نَأْخُذَ. (إِلَّا مَنْ وَجَدْنا) فِي
مَوْضِعِ نَصْبٍ بِ" نَأْخُذَ". (مَتاعَنا عِنْدَهُ) أَيْ
مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ البرئ بِالْمُجْرِمِ
وَنُخَالِفَ مَا تَعَاقَدْنَا عَلَيْهِ. (إِنَّا إِذاً
لَظالِمُونَ) أي أن نأخذ غيره.
__________
(1). من ع.
(2). هو قطفير.
(3). قد مضى أنهم ليسوا بأنبياء على الصحيح. [ ..... ]
(4). من ع.
(9/240)
فَلَمَّا
اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا قَالَ كَبِيرُهُمْ
أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ
مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ وَمِنْ قَبْلُ مَا فَرَّطْتُمْ فِي
يُوسُفَ فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي
أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ (80)
[سورة يوسف (12): آية 80]
فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا قالَ
كَبِيرُهُمْ أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَباكُمْ قَدْ أَخَذَ
عَلَيْكُمْ مَوْثِقاً مِنَ اللَّهِ وَمِنْ قَبْلُ مَا
فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّى
يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ
الْحاكِمِينَ (80)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ) أَيْ
يَئِسُوا، مِثْلُ عَجِبَ وَاسْتَعْجَبَ، وَسَخِرَ
وَاسْتَسْخَرَ. (خَلَصُوا) أَيِ انْفَرَدُوا وَلَيْسَ هُوَ
مَعَهُمْ. (نَجِيًّا) نُصِبَ عَلَى الْحَالِ مِنَ الْمُضْمَرِ
فِي" خَلَصُوا" وَهُوَ وَاحِدٌ يُؤَدِّي عَنْ جَمْعٍ، كَمَا
فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَيَقَعُ عَلَى الْوَاحِدِ كَقَوْلِهِ
تَعَالَى:" وَقَرَّبْناهُ نَجِيًّا" «1» [مريم: 52] وَجَمْعُهُ
أَنْجِيَةٌ، قَالَ الشَّاعِرُ «2»:
إِنِّي إِذَا مَا الْقَوْمُ كَانُوا أَنْجِيَهْ ...
وَاضْطَرَبَ الْقَوْمُ اضْطِرَابَ الْأَرْشِيَهْ
هُنَاكَ أَوْصِينِي وَلَا تُوصِي بِيَهْ
وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ:" اسْتَايَسُوا"" وَلَا تَايَسَوا""
إِنَّهُ لَا يَايَسُ"" أَفَلَمْ يَايَسْ" بِأَلِفٍ مِنْ غَيْرِ
هَمْزٍ عَلَى الْقَلْبِ، قُدِّمَتِ الْهَمْزَةُ وَأُخِّرَتِ
الْيَاءُ، ثُمَّ قُلِبَتِ الْهَمْزَةُ أَلِفًا لِأَنَّهَا
سَاكِنَةٌ قَبْلَهَا فَتْحَةٌ، وَالْأَصْلُ قِرَاءَةُ
الْجَمَاعَةِ، لِأَنَّ الْمَصْدَرَ مَا جَاءَ إِلَّا عَلَى
تَقْدِيمِ الْيَاءِ- يَأْسًا- وَالْإِيَاسَ لَيْسَ بِمَصْدَرِ
أَيِسَ، بَلْ هُوَ مَصْدَرٌ أُسْتُهُ أَوْسًا وَإِيَاسًا أَيْ
أَعْطَيْتُهُ. وَقَالَ قَوْمٌ: أَيِسَ وَيَئِسَ لُغَتَانِ،
أَيْ فَلَمَّا يَئِسُوا مِنْ رَدِّ أَخِيهِمْ إِلَيْهِمْ
تَشَاوَرُوا فِيمَا بَيْنَهُمْ لَا يُخَالِطُهُمْ غَيْرُهُمْ
مِنَ النَّاسِ، يَتَنَاجَوْنَ فِيمَا عَرَضَ لَهُمْ.
وَالنَّجِيُّ فَعِيلٌ بِمَعْنَى الْمُنَاجِي. قَوْلُهُ
تَعَالَى: (قالَ كَبِيرُهُمْ) قَالَ قَتَادَةُ: وَهُوَ
رُوبِيلُ، كَانَ أَكْبَرَهُمْ فِي السِّنِّ. مُجَاهِدٌ: هُوَ
شَمْعُونُ، كَانَ أَكْبَرَهُمْ فِي الرَّأْيِ. وَقَالَ
الْكَلْبِيُّ: يَهُوذَا، وَكَانَ أَعْقَلَهُمْ. وَقَالَ
مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ وَابْنُ إِسْحَاقَ: هُوَ لَاوِي، وَهُوَ
أَبُو الْأَنْبِيَاءِ. (أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَباكُمْ قَدْ
أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقاً مِنَ اللَّهِ)
__________
(1). راجع ج 11 ص 113.
(2). هو سحيم بن وثيل اليربوعي يصف قوما أتعبهم السير والسفر
فرقدوا على ركابهم واظطربوا عليها، وشد بعضهم على ناقته حذار
سقوطه. وقيل: إنما ضربه مثلا لنزول الأمر المهم. والأرشية
الحبال التي يستقى بها، والمواد أنه ثابت الجأش. و (أوصيني ولا
توصي) بالياء لأنه يخاطب مؤنثا.
(9/241)
أَيْ عَهْدًا مِنَ اللَّهِ فِي حِفْظِ
ابْنِهِ، وَرَدِّهِ إِلَيْهِ. (وَمِنْ قَبْلُ مَا فَرَّطْتُمْ
فِي يُوسُفَ) " فَلَمَّا" فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَطْفًا عَلَى"
أَنَّ" وَالْمَعْنَى: أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ
أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ، وَتَعْلَمُوا
تَفْرِيطَكُمْ فِي يُوسُفَ، ذَكَرَهُ النَّحَّاسُ وَغَيْرَهُ.
وَ" مِنَ" فِي قَوْلِهِ:" وَمِنْ قَبْلُ" مُتَعَلِّقَةٌ بِ"
تَعْلَمُوا". وَيَجُوزُ أَنْ تكون" فَلَمَّا" زَائِدَةً،
فَيَتَعَلَّقُ الظَّرْفَانِ اللَّذَانِ هُمَا" مِنْ قَبْلُ"
وَ" فِي يُوسُفَ" بِالْفِعْلِ وَهُوَ" فَرَّطْتُمْ". وَيَجُوزُ
أن تكون" فَلَمَّا" وَالْفِعْلُ مَصْدَرًا، وَ" مِنْ قَبْلُ"
مُتَعَلِّقًا بِفِعْلٍ مُضْمَرٍ، التَّقْدِيرُ: تَفْرِيطُكُمْ
فِي يُوسُفَ وَاقِعٌ مِنْ قَبْلُ، فَمَا وَالْفِعْلُ فِي
مَوْضِعِ رَفْعٍ بِالِابْتِدَاءِ، وَالْخَبَرُ هُوَ الْفِعْلُ
الْمُضْمَرُ الَّذِي يَتَعَلَّقُ بِهِ" مِنْ قَبْلُ". (فَلَنْ
أَبْرَحَ الْأَرْضَ) «1» أَيْ أَلْزَمُهَا، وَلَا أَبْرَحُ
مُقِيمًا فِيهَا، يُقَالُ: بَرِحَ بَرَاحًا وَبُرُوحًا أَيْ
زَالَ، فَإِذَا دَخَلَ النَّفْيُ صَارَ مُثْبَتًا. (حَتَّى
يَأْذَنَ لِي أَبِي) بِالرُّجُوعِ فَإِنِّي أستحي منه. (أَوْ
يَحْكُمَ اللَّهُ لِي) بِالْمَمَرِّ مَعَ أَخِي فَأَمْضِي
مَعَهُ إِلَى أَبِي. وَقِيلَ: الْمَعْنَى أَوْ يَحْكُمُ
اللَّهُ لِي بِالسَّيْفِ فَأُحَارِبُ وَآخُذُ أَخِي، أَوْ
أَعْجِزُ فَأَنْصَرِفُ بِعُذْرٍ، وَذَلِكَ أَنَّ يَعْقُوبَ
قَالَ:" لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلَّا أَنْ يُحاطَ بِكُمْ"
[يوسف: 66] وَمَنْ حَارَبَ وَعَجَزَ فَقَدْ أُحِيطَ بِهِ،
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَكَانَ يَهُوذَا إِذَا غَضِبَ
وَأَخَذَ السَّيْفَ فَلَا يَرُدُّ وَجْهَهُ مِائَةُ أَلْفٍ،
يَقُومُ شَعْرُهُ فِي صَدْرِهِ مِثْلُ الْمَسَالِّ فَتَنْفُذُ
مِنْ ثِيَابِهِ. وَجَاءَ فِي الْخَبَرِ أَنَّ يَهُوذَا قَالَ
لِإِخْوَتِهِ- وَكَانَ أَشَدَّهُمْ غَضَبًا-: إِمَّا أَنْ
تَكْفُونِي الْمَلِكَ وَمَنْ مَعَهُ أَكْفِكُمْ أَهْلَ مِصْرَ،
وَإِمَّا أَنْ تَكْفُونِي أَهْلَ مِصْرَ أَكْفِكُمُ الْمَلِكَ
وَمَنْ مَعَهُ، قَالُوا: بَلِ اكْفِنَا الْمَلِكَ وَمَنْ
مَعَهُ نَكْفِكَ أَهْلَ مِصْرَ، فَبَعَثَ وَاحِدًا مِنْ
إِخْوَتِهِ فَعَدُّوا أَسْوَاقَ مِصْرَ فَوَجَدُوا فِيهَا
تِسْعَةَ أَسْوَاقٍ، فَأَخَذَ كُلُّ، وَاحِدٍ مِنْهُمْ سُوقًا،
ثُمَّ إِنَّ يَهُوذَا دَخَلَ عَلَى يُوسُفَ وَقَالَ: أَيُّهَا
الْمَلِكُ! لَئِنْ لَمْ تُخَلِّ مَعَنَا أَخَانَا لَأَصِيحَنَّ
صَيْحَةً تُبْقِي فِي مَدِينَتِكَ حَامِلًا إِلَّا أَسْقَطَتْ
مَا فِي بَطْنِهَا، وَكَانَ ذَلِكَ خَاصَّةً فِيهِمْ عِنْدَ
الْغَضَبِ، فَأَغْضَبَهُ يُوسُفُ وَأَسْمَعَهُ كَلِمَةً،
فَغَضِبَ يَهُوذَا وَاشْتَدَّ غَضَبُهُ، وَانْتَفَجَتْ «2»
شَعَرَاتُهُ، وَكَذَا كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ بَنِي
يَعْقُوبَ، كَانَ إِذَا غَضِبَ، اقْشَعَرَّ جِلْدُهُ،
وَانْتَفَخَ جَسَدُهُ، وَظَهَرَتْ شَعَرَاتُ ظَهْرِهِ، مِنْ
تَحْتِ الثَّوْبِ، حَتَّى تَقْطُرَ مِنْ كُلِّ شَعْرَةٍ
قَطْرَةُ دَمٍ، وَإِذَا ضَرَبَ الْأَرْضَ بِرِجْلِهِ
تَزَلْزَلَتْ وَتَهَدَّمَ الْبُنْيَانُ، وَإِنْ صَاحَ صَيْحَةً
لَمْ تسمعه حامل من النساء والبهائم
__________
(1). في ى: أي من الأرض.
(2). نفجت: ثارت بقوة.
(9/242)
وَالطَّيْرِ إِلَّا وَضَعَتْ مَا فِي
بَطْنِهَا، تَمَامًا أَوْ غَيْرَ تَمَامٍ، فَلَا يَهْدَأُ
غَضَبُهُ إِلَّا أَنْ يَسْفِكَ دَمًا، أَوْ تَمْسِكَهُ يَدٌ
مِنْ نَسْلِ يَعْقُوبَ، فَلَمَّا عَلِمَ يُوسُفَ أَنَّ غَضَبَ
أَخِيهِ يَهُوذَا قَدْ تَمَّ وَكَمُلَ كَلَّمَ وَلَدًا لَهُ
صَغِيرًا بِالْقِبْطِيَّةِ، وَأَمَرَهُ أَنْ يَضَعَ يَدَهُ
بَيْنَ كَتِفَيْ يَهُوذَا مِنْ حَيْثُ لَا يَرَاهُ، فَفَعَلَ
فَسَكَنَ غَضَبُهُ «1» وَأَلْقَى السَّيْفَ فَالْتَفَتَ
يَمِينًا وَشِمَالًا لَعَلَّهُ يَرَى أَحَدًا مِنْ إِخْوَتِهِ
فَلَمْ يَرَهُ، فَخَرَجَ مُسْرِعًا إِلَى إِخْوَتِهِ وَقَالَ:
هَلْ حَضَرَنِي مِنْكُمْ أَحَدٌ؟ قَالُوا: لَا! قَالَ:
فَأَيْنَ ذَهَبَ شَمْعُونُ؟ قَالُوا: ذَهَبَ إِلَى الْجَبَلِ،
فَخَرَجَ فَلَقِيَهُ، وَقَدِ احْتَمَلَ صَخْرَةً عَظِيمَةً،
قَالَ: مَا تَصْنَعُ بِهَذِهِ؟ قَالَ أَذْهَبُ إِلَى السُّوقِ
الَّذِي وَقَعَ فِي نَصِيبِي أَشْدَخُ بِهَا رُءُوسَ كُلِّ
مَنْ فِيهِ، قَالَ: فَارْجِعْ فَرُدَّهَا أَوْ أَلْقِهَا في
البحر، ولا تحدثن حدثا، فو الذي اتَّخَذَ إِبْرَاهِيمَ
خَلِيلًا! لَقَدْ مَسَّنِي كَفٌّ مِنْ نَسْلِ يَعْقُوبَ. ثُمَّ
دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ، وَكَانَ يُوسُفُ أَشَدَّهُمْ بَطْشًا،
فَقَالَ: يَا مَعْشَرَ الْعِبْرَانِيِّينَ! أَتَظُنُّونَ
أَنَّهُ لَيْسَ أَحَدٌ أَشَدُّ مِنْكُمْ قُوَّةً، ثُمَّ عَمَدَ
إِلَى حَجَرٍ عَظِيمٍ مِنْ حِجَارَةِ الطَّاحُونَةِ فَرَكَلَهُ
بِرِجْلِهِ فَدَحَا بِهِ مِنْ خَلْفِ الْجِدَارِ- الرَّكْلُ
الضَّرْبُ بِالرِّجْلِ الْوَاحِدَةِ، وَقَدْ رَكَلَهُ
يَرْكُلُهُ، قَالَ الْجَوْهَرِيُّ- ثُمَّ أَمْسَكَ يَهُوذَا
بِإِحْدَى يَدَيْهِ فَصَرَعَهُ [لِجَنْبِهِ] «2»، وَقَالَ:
هَاتِ الْحَدَّادِينَ أَقْطَعْ أَيْدِيَهُمْ وَأَرْجُلَهُمْ
وَأَضْرِبْ أَعْنَاقَهُمْ، ثُمَّ صَعِدَ عَلَى سَرِيرِهِ
وَجَلَسَ عَلَى فِرَاشِهِ، وَأَمَرَ بِصُوَاعِهِ فَوُضِعَ
بَيْنَ يَدَيْهِ، ثُمَّ نَقَرَهُ نَقْرَةً فَخَرَجَ طَنِينُهُ،
فَالْتَفَتَ إِلَيْهِمْ وَقَالَ: أَتَدْرُونَ مَا يَقُولُ؟
قَالُوا: لَا! قَالَ: فَإِنَّهُ يَقُولُ: إِنَّهُ لَيْسَ عَلَى
قَلْبِ أَبِي هَؤُلَاءِ هَمٌّ وَلَا غَمٌّ وَلَا كَرْبٌ إِلَّا
بِسَبَبِهِمْ، ثُمَّ نَقَرَ نَقْرَةً ثَانِيَةً وَقَالَ:
إِنَّهُ يُخْبِرُنِي أَنَّ هَؤُلَاءِ أَخَذُوا أَخًا لَهُمْ
صَغِيرًا فَحَسَدُوهُ وَنَزَعُوهُ مِنْ أَبِيهِمْ ثُمَّ
أَتْلَفُوهُ، فَقَالُوا: أَيُّهَا الْعَزِيزُ! اسْتُرْ
عَلَيْنَا سَتَرَ اللَّهُ عَلَيْكَ، وَامْنُنْ عَلَيْنَا مَنَّ
اللَّهِ عَلَيْكَ، فَنَقَرَهُ نَقْرَةً ثَالِثَةً وَقَالَ
إِنَّهُ يَقُولُ: إِنَّ هَؤُلَاءِ طَرَحُوا صَغِيرَهُمْ فِي
الْجُبِّ، ثُمَّ بَاعُوهُ بَيْعَ الْعَبِيدِ بِثَمَنٍ بَخْسٍ،
وَزَعَمُوا لِأَبِيهِمْ أَنَّ الذِّئْبَ أَكَلَهُ، ثُمَّ
نَقَرَهُ رَابِعَةً وَقَالَ: إِنَّهُ يُخْبِرُنِي أَنَّكُمْ
أَذْنَبْتُمْ ذَنْبًا مُنْذُ ثَمَانِينَ سَنَةً لَمْ
تَسْتَغْفِرُوا اللَّهَ مِنْهُ، وَلَمْ تَتُوبُوا إِلَيْهِ،
ثُمَّ نَقَرَهُ خَامِسَةً وَقَالَ إِنَّهُ يَقُولُ: إِنَّ
أَخَاهُمُ الَّذِي زَعَمُوا أَنَّهُ هَلَكَ لَنْ تَذْهَبَ
الْأَيَّامُ حَتَّى يَرْجِعَ فَيُخْبِرَ النَّاسَ بِمَا
صَنَعُوا، ثُمَّ نَقَرَهُ سَادِسَةً وَقَالَ إِنَّهُ يَقُولُ:
لَوْ كُنْتُمْ أَنْبِيَاءَ أَوْ بَنِي أَنْبِيَاءَ مَا
كَذَبْتُمْ وَلَا عَقَقْتُمْ وَالِدَكُمْ، لَأَجْعَلَنَّكُمْ
نَكَالًا لِلْعَالَمِينَ. ايتُونِي بالحدادين أقطع
__________
(1). في ى: غيظه.
(2). في ع وى: لجنبه وفى و: لحينه.
(9/243)
ارْجِعُوا إِلَى
أَبِيكُمْ فَقُولُوا يَا أَبَانَا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ وَمَا
شَهِدْنَا إِلَّا بِمَا عَلِمْنَا وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ
حَافِظِينَ (81)
أَيْدِيَهُمْ وَأَرْجُلَهُمْ،
فَتَضَرَّعُوا وَبَكَوْا وَأَظْهَرُوا التَّوْبَةَ وَقَالُوا:
لَوْ قَدْ أَصَبْنَا أَخَانَا يُوسُفَ إِذْ هُوَ حَيٌّ
لَنَكُونَنَّ طَوْعَ يَدِهِ، وَتُرَابًا يَطَأُ عَلَيْنَا
بِرِجْلِهِ، فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ يُوسُفُ مِنْ إِخْوَتِهِ
بَكَى وَقَالَ لَهُمُ: اخْرُجُوا عَنِّي! قَدْ خَلَّيْتُ
سَبِيلَكُمْ إِكْرَامًا لِأَبِيكُمْ، وَلَوْلَا هُوَ
لَجَعَلْتُكُمْ نَكَالًا.
[سورة يوسف (12): آية 81]
ارْجِعُوا إِلى أَبِيكُمْ فَقُولُوا يَا أَبانا إِنَّ ابْنَكَ
سَرَقَ وَما شَهِدْنا إِلاَّ بِما عَلِمْنا وَما كُنَّا
لِلْغَيْبِ حافِظِينَ (81)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (ارْجِعُوا إِلى أَبِيكُمْ) قَالَهُ
الَّذِي قَالَ:" فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ". (فَقُولُوا يَا
أَبانا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ) وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ
وَالضَّحَّاكُ وَأَبُو رَزِينٍ" إِنَّ ابْنَكَ سُرِّقَ".
النَّحَّاسُ: وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ
عُمَرَ قَالَ حَدَّثَنَا ابْنُ شَاذَانَ «1» قَالَ حَدَّثَنَا
أَحْمَدُ بْنُ أَبِي سُرَيْجٍ الْبَغْدَادِيُّ قَالَ:
سَمِعْتُ، الْكِسَائِيَّ يَقْرَأُ:" يَا أَبانا إِنَّ ابْنَكَ
سَرَقَ" بِضَمِّ السِّينِ وَتَشْدِيدِ الرَّاءِ مَكْسُورَةً،
عَلَى مَا لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ، أَيْ نُسِبَ إِلَى السرقة
ورمي بها، مثل خونته وفسقته وجرته إِذَا نَسَبْتُهُ إِلَى
هَذِهِ الْخِلَالِ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ:" سَرَقَ" يَحْتَمِلُ
مَعْنَيَيْنِ: أَحَدُهُمَا- عُلِمَ مِنْهُ السَّرِقُ،
وَالْآخَرُ- اتُّهِمَ بِالسَّرِقِ. قَالَ الْجَوْهَرِيُّ:
وَالسَّرِقُ وَالسَّرِقَةُ بِكَسْرِ الرَّاءِ فِيهِمَا هُوَ
اسْمُ الشَّيْءِ الْمَسْرُوقِ، وَالْمَصْدَرُ يَسْرِقُ سَرَقًا
بِالْفَتْحِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَما شَهِدْنا إِلَّا بِما
عَلِمْنا). فِيهِ أَرْبَعُ مَسَائِلَ: الْأُولَى- قَوْلُهُ
تَعَالَى:" وَما شَهِدْنا إِلَّا بِما عَلِمْنا" يُرِيدُونَ
مَا شَهِدْنَا قَطُّ إِلَّا بِمَا عَلِمْنَا، وَأَمَّا الْآنَ
فَقَدْ شَهِدْنَا بِالظَّاهِرِ وَمَا نَعْلَمُ الْغَيْبَ،
كَأَنَّهُمْ وَقَعَتْ لَهُمْ تُهْمَةٌ مِنْ قَوْلِ
بِنْيَامِينَ: دَسَّ هَذَا فِي رَحْلِي مَنْ دَسَّ
بِضَاعَتَكُمْ فِي رِحَالِكُمْ، قَالَ مَعْنَاهُ ابْنُ
إِسْحَاقَ. وَقِيلَ الْمَعْنَى: مَا شَهِدْنَا عِنْدَ يُوسُفَ
بِأَنَّ السَّارِقَ يُسْتَرَقُّ إِلَّا بِمَا عَلِمْنَا مِنْ
دِينِكَ، قَالَهُ ابْنُ زَيْدٍ. (وَما كُنَّا لِلْغَيْبِ
حافِظِينَ) أَيْ لَمْ نَعْلَمْ وَقْتَ أَخَذْنَاهُ مِنْكَ
أَنَّهُ يَسْرِقُ فَلَا نَأْخُذُهُ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ
وَقَتَادَةُ: ما كنا
__________
(1). هو العباس بن الفضل بن شاذان، كما في" غاية النهاية".
(9/244)
وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ
الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا
وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (82)
نَعْلَمُ أَنَّ ابْنَكَ يُسْتَرَقُّ
وَيَصِيرُ أَمْرُنَا إِلَى هَذَا، وَإِنَّمَا قُلْنَا:
نَحْفَظُ أَخَانَا فِيمَا نُطِيقُ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ:
يَعْنُونَ أَنَّهُ سَرَقَ لَيْلًا وَهُمْ نِيَامٌ، وَالْغَيْبُ
هُوَ اللَّيْلُ بِلُغَةِ حِمْيَرَ، وَعَنْهُ: مَا كُنَّا
نَعْلَمُ مَا يَصْنَعُ فِي لَيْلِهِ وَنَهَارِهِ وَذَهَابِهِ
وَإِيَابِهِ. وَقِيلَ: مَا دَامَ بمرأى منا لم يجز خَلَلٌ،
فَلَمَّا غَابَ عَنَّا خَفِيَتْ عَنَّا حَالَاتُهُ. وَقِيلَ
مَعْنَاهُ: قَدْ أُخِذَتِ السَّرِقَةُ مِنْ رَحْلِهِ، وَنَحْنُ
أَخْرَجْنَاهَا وَنَنْظُرُ إِلَيْهَا، وَلَا عِلْمَ لَنَا
بِالْغَيْبِ، فَلَعَلَّهُمْ سَرَّقُوهُ وَلَمْ يَسْرِقْ.
الثَّانِيَةُ- تَضَمَّنَتْ هَذِهِ الْآيَةُ جَوَازَ
الشَّهَادَةِ بِأَيِ وَجْهٍ حَصَلَ الْعِلْمُ بِهَا، فَإِنَّ
الشَّهَادَةَ مُرْتَبِطَةٌ بِالْعِلْمِ عَقْلًا وَشَرْعًا،
فَلَا تُسْمَعُ إِلَّا مِمَّنْ عَلِمَ، وَلَا تُقْبَلُ إِلَّا
مِنْهُمْ، وَهَذَا هُوَ الْأَصْلُ فِي الشَّهَادَاتِ،
وَلِهَذَا قَالَ أَصْحَابُنَا: شَهَادَةُ الْأَعْمَى
جَائِزَةٌ، وَشَهَادَةُ الْمُسْتَمِعِ جَائِزَةٌ، وَشَهَادَةُ
الْأَخْرَسِ إِذَا فُهِمَتْ إِشَارَتُهُ جَائِزَةٌ، وَكَذَلِكَ
الشَّهَادَةُ عَلَى الْخَطِّ- إِذَا تَيَقَّنَ أَنَّهُ خَطُّهُ
أَوْ خَطُّ فُلَانٍ- صَحِيحَةٌ فَكُلُّ مَنْ حَصَلَ لَهُ
الْعِلْمُ بِشَيْءٍ جَازَ أَنْ يَشْهَدَ بِهِ وَإِنْ لَمْ
يُشْهِدْهُ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:"
إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ" «1»
[الزخرف: 86] وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ:" أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِخَيْرِ الشُّهَدَاءِ خَيْرُ
الشُّهَدَاءِ الَّذِي يَأْتِي بِشَهَادَتِهِ قَبْلَ أَنْ
يُسْأَلَهَا" وَقَدْ مَضَى فِي" الْبَقَرَةِ" «2».
الثَّالِثَةُ- اخْتَلَفَ قَوْلُ مَالِكٍ فِي شَهَادَةِ
الْمُرُورِ، وَهُوَ أَنْ يَقُولَ: مَرَرْتُ بِفُلَانٍ
فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ كَذَا فَإِنِ اسْتَوْعَبَ الْقَوْلَ
شَهِدَ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ، وَفِي الْقَوْلِ الْآخَرِ لَا
يَشْهَدُ حَتَّى يُشْهِدَاهُ. وَالصَّحِيحُ أَدَاءُ
الشَّهَادَةِ عِنْدَ الِاسْتِيعَابِ، وَبِهِ قَالَ جَمَاعَةُ
الْعُلَمَاءِ، وَهُوَ الْحَقُّ، لِأَنَّهُ [قَدْ] «3» حَصَلَ
الْمَطْلُوبُ وَتَعَيَّنَ عَلَيْهِ أَدَاءُ الْعِلْمِ، فَكَانَ
خَيْرَ الشُّهَدَاءِ إِذَا أَعْلَمَ الْمَشْهُودَ لَهُ،
وَشَرَّ الشُّهَدَاءِ إِذَا كَتَمَهَا [وَاللَّهُ أَعْلَمُ]
«4». الرَّابِعَةُ- إِذَا ادَّعَى رَجُلٌ شَهَادَةً لَا
يَحْتَمِلُهَا عُمْرَهُ رُدَّتْ، لِأَنَّهُ ادَّعَى بَاطِلًا
فَأَكْذَبَهُ الْعِيَانُ ظاهر.
[سورة يوسف (12): آية 82]
وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيها وَالْعِيرَ الَّتِي
أَقْبَلْنا فِيها وَإِنَّا لَصادِقُونَ (82)
__________
(1). راجع ج 16 ص 122.
(2). راجع ج 3 ص 399.
(3). من ع.
(4). من ك وى.
(9/245)
قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ
لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللَّهُ
أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ
الْحَكِيمُ (83)
فيه مسألتان: الأولى- قوله تعالى:
(وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيها وَالْعِيرَ)
حَقَّقُوا بِهَا شَهَادَتَهُمْ عِنْدَهُ، وَرَفَعُوا
التُّهْمَةَ عَنْ أَنْفُسِهِمْ لِئَلَّا يتهمهم. فقولهم:
(وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ) أَيْ أَهْلَهَا، فَحُذِفَ،
وَيُرِيدُونَ بِالْقَرْيَةِ مِصْرَ. وَقِيلَ: قَرْيَةٌ مِنْ
قُرَاهَا نَزَلُوا بِهَا وَامْتَارُوا منها. وقيل المعنى"
وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ" وَإِنْ كَانَتْ جَمَادًا، فَأَنْتَ
نَبِيُّ اللَّهِ، وهو «1» ينطق الجماد له، وَعَلَى هَذَا فَلَا
حَاجَةَ إِلَى إِضْمَارٍ، قَالَ سِيبَوَيْهِ: وَلَا يَجُوزُ
كَلِّمْ هِنْدًا وَأَنْتَ تُرِيدُ غُلَامَ هِنْدٍ، لِأَنَّ
هَذَا يُشْكِلُ. وَالْقَوْلُ فِي الْعِيرِ كَالْقَوْلِ فِي
الْقَرْيَةِ سَوَاءٌ. (وَإِنَّا لَصادِقُونَ) فِي قَوْلِنَا.
الثَّانِيَةُ- فِي هَذِهِ الْآيَةِ مِنَ الْفِقْهِ أَنَّ كُلَّ
مَنْ كَانَ عَلَى حَقٍّ، وَعَلِمَ أَنَّهُ قَدْ يُظَنُّ بِهِ
أَنَّهُ عَلَى خِلَافِ مَا هُوَ عَلَيْهِ أَوْ يَتَوَهَّمُ
أَنْ يَرْفَعَ التُّهْمَةَ وَكُلَّ رِيبَةٍ عَنْ نَفْسِهِ،
وَيُصَرِّحُ «2» بِالْحَقِّ الَّذِي هُوَ عَلَيْهِ، حَتَّى لَا
يَبْقَى لِأَحَدٍ مُتَكَلَّمٌ، وَقَدْ فَعَلَ هَذَا نَبِيُّنَا
مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَوْلِهِ
لِلرَّجُلَيْنِ اللَّذَيْنِ مَرَّا وَهُوَ قَدْ خَرَجَ مَعَ
صَفِيَّةَ يَقْلِبُهَا «3» مِنَ الْمَسْجِدِ:" عَلَى
رِسْلِكُمَا إِنَّمَا هِيَ صَفِيَّةُ بِنْتُ حُيَيٍّ"
فَقَالَا: سُبْحَانَ اللَّهِ وَكَبُرَ عَلَيْهِمَا فقال
النبي:" إِنَّ الشَّيْطَانَ يَبْلُغُ مِنَ الْإِنْسَانِ
مَبْلَغَ الدَّمِ وَإِنِّي خَشِيتُ أَنْ يَقْذِفَ فِي
قُلُوبِكُمَا شَيْئًا" رواه البخاري ومسلم.
[سورة يوسف (12): آية 83]
قالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ
جَمِيلٌ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعاً
إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (83)
فِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى: (قالَ
بَلْ سَوَّلَتْ) أَيْ زَيَّنَتْ. (لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ) أَنَّ
ابْنِي سَرَقَ وَمَا سَرَقَ، وَإِنَّمَا ذَلِكَ لِأَمْرٍ
يُرِيدُهُ اللَّهُ. (فَصَبْرٌ جَمِيلٌ) أَيْ فَشَأْنِي صَبْرٌ
جَمِيلٌ، أَوْ صَبْرٌ جَمِيلٌ أَوْلَى بِي، عَلَى مَا
تَقَدَّمَ أَوَّلَ السُّورَةِ.
__________
(1). في ى: أنت نبى والله ينطق الجماد لك.
(2). كذا في الأصول. ولعل الواو زائدة فيكون يصرح خير أن. [
..... ]
(3). يقلبها: يردها.
(9/246)
وَتَوَلَّى عَنْهُمْ
وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ
مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ (84)
الثانية- الْوَاجِبُ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ
إِذَا أُصِيبَ بِمَكْرُوهٍ فِي نَفْسِهِ أَوْ وَلَدِهِ أَوْ
مَالِهِ أَنْ يَتَلَقَّى ذَلِكَ بِالصَّبْرِ الْجَمِيلِ،
وَالرِّضَا وَالتَّسْلِيمِ لِمُجْرِيهِ عَلَيْهِ وَهُوَ
الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ، وَيَقْتَدِي [بِنَبِيِّ اللَّهِ «1»
[يَعْقُوبَ وَسَائِرِ النَّبِيِّينَ، صَلَوَاتُ اللَّهِ
عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ. وَقَالَ سَعِيدِ بْنِ أَبِي عَرُوبَةَ
عَنْ قَتَادَةَ عَنْ الْحَسَنِ قَالَ: مَا مِنْ جَرْعَتَيْنِ
يَتَجَرَّعُهُمَا الْعَبْدُ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنْ
جَرْعَةِ مُصِيبَةٍ يَتَجَرَّعُهَا الْعَبْدُ بِحُسْنِ صَبْرٍ
وَحُسْنِ عَزَاءٍ، وَجَرْعَةِ غَيْظٍ يَتَجَرَّعُهَا الْعَبْدُ
بِحِلْمٍ وَعَفْوٍ. وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي
قَوْلِهِ تَعَالَى:" فَصَبْرٌ جَمِيلٌ" أَيْ لَا أَشْكُو
ذَلِكَ إِلَى أَحَدٍ. وروى قاتل بْنُ سُلَيْمَانَ عَنْ عَطَاءِ
بْنِ أَبِي رَبَاحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ رَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:" مَنْ بَثَّ
لَمْ يَصْبِرْ". وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي" الْبَقَرَةِ" «2» أَنَّ
الصَّبْرَ عِنْدَ أَوَّلِ الصَّدْمَةِ، وَثَوَابُ مَنْ ذَكَرَ
مُصِيبَتَهُ وَاسْتَرْجَعَ وَإِنْ تَقَادَمَ عَهْدُهَا.
وَقَالَ جُوَيْبِرٌ عَنِ الضَّحَّاكِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ
قَالَ: إِنَّ يَعْقُوبَ أُعْطِيَ عَلَى يُوسُفَ أَجْرَ مِائَةِ
شَهِيدٍ، وَكَذَلِكَ مَنِ احْتَسَبَ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ
فِي مُصِيبَتِهِ فَلَهُ [مِثْلُ «3»] أَجْرِ يَعْقُوبَ
عَلَيْهِ السَّلَامُ. قَوْلُهُ تَعَالَى: (عَسَى اللَّهُ أَنْ
يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعاً) لِأَنَّهُ كَانَ عِنْدَهُ أَنَّ
يُوسُفَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَمُتْ،
وَإِنَّمَا غَابَ عَنْهُ خَبَرُهُ، لِأَنَّ يُوسُفَ حُمِلَ
وَهُوَ عَبْدٌ لَا يَمْلِكُ لِنَفْسِهِ شَيْئًا، ثُمَّ
اشْتَرَاهُ الْمَلِكُ فَكَانَ فِي دَارِهِ لَا يَظْهَرُ
لِلنَّاسِ، ثُمَّ حُبِسَ، فَلَمَّا تَمَكَّنَ احْتَالَ فِي
أَنْ يَعْلَمَ أَبُوهُ خَبَرَهُ، وَلَمْ يُوَجِّهْ بِرَسُولٍ
لِأَنَّهُ كَرِهَ مِنْ إِخْوَتِهِ أَنْ يَعْرِفُوا ذَلِكَ
فَلَا يَدَعُوا الرَّسُولَ يَصِلُ إِلَيْهِ. وَقَالَ:" بِهِمْ"
لِأَنَّهُمْ ثَلَاثَةٌ، يُوسُفُ وَأَخُوهُ، وَالْمُتَخَلِّفُ
مِنْ أَجْلِ أَخِيهِ، وَهُوَ الْقَائِلُ:" فَلَنْ أَبْرَحَ
الْأَرْضَ". (إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ) بِحَالِي. (الْحَكِيمُ)
فيما يقضي.
[سورة يوسف (12): آية 84]
وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقالَ يَا أَسَفى عَلى يُوسُفَ
وَابْيَضَّتْ عَيْناهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ (84)
فِيهِ ثَلَاثُ مَسَائِلَ: الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى:
(وَتَوَلَّى عَنْهُمْ) أَيْ أَعْرَضَ عَنْهُمْ، وَذَلِكَ أَنَّ
يَعْقُوبَ لَمَّا بَلَغَهُ خَبَرُ بِنْيَامِينَ تَتَامَّ
حُزْنُهُ، وَبَلَغَ جُهْدُهُ، وَجَدَّدَ اللَّهُ مُصِيبَتَهُ
لَهُ فِي يُوسُفَ فَقَالَ: (يا أَسَفى عَلى يُوسُفَ)
__________
(1). من ع. وفي ى: بأيوب، بدل يعقوب. وهو من أغلاط الناسخ.
(2). راجع ج 2 ص 174، 75 1.
(3). من ع وك وى.
(9/247)
وَنَسِيَ ابْنَهُ بِنْيَامِينَ فَلَمْ
يَذْكُرْهُ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ
جُبَيْرٍ: لَمْ يَكُنْ عِنْدَ يَعْقُوبَ مَا فِي كِتَابِنَا
مِنَ الِاسْتِرْجَاعِ، وَلَوْ كَانَ عِنْدَهُ لَمَا قَالَ:"
يَا أَسَفى عَلى يُوسُفَ". قَالَ قَتَادَةُ وَالْحَسَنُ:
وَالْمَعْنَى يَا حُزْنَاهُ «1»! وَقَالَ مُجَاهِدٌ
وَالضَّحَّاكُ: يَا جَزَعَاهُ!، قَالَ كُثَيِّرٌ:
فَيَا أَسَفَا لِلْقَلْبِ كَيْفَ انْصِرَافُهُ ...
وَلِلنَّفْسِ لَمَّا سُلِّيَتْ فَتَسَلَّتِ
وَالْأَسَفُ شِدَّةُ الْحُزْنِ عَلَى مَا فَاتَ. وَالنِّدَاءُ
عَلَى مَعْنَى: تَعَالَ يَا أسف فإنه من أوقاتك. وَقَالَ
الزَّجَّاجُ: الْأَصْلُ يَا أَسَفِي، فَأُبْدِلَ مِنَ الْيَاءِ
أَلِفٌ لِخِفَّةِ الْفَتْحَةِ. (وَابْيَضَّتْ عَيْناهُ مِنَ
الْحُزْنِ) قِيلَ: لَمْ يُبْصِرْ بِهِمَا سِتَّ سِنِينَ، وأنه
عمي، قال مقاتل. وقيل: قد تبيض العين ويبقى شي مِنَ
الرُّؤْيَةِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِحَالِ يَعْقُوبَ،
وَإِنَّمَا ابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْبُكَاءِ، وَلَكِنَّ
سَبَبَ الْبُكَاءِ الْحُزْنُ، فَلِهَذَا قَالَ:" مِنَ
الْحُزْنِ". وَقِيلَ: إِنَّ يَعْقُوبَ كَانَ يُصَلِّي،
وَيُوسُفُ نَائِمًا مُعْتَرِضًا بَيْنَ يَدَيْهِ، فَغَطَّ فِي
نَوْمِهِ، فَالْتَفَتَ يَعْقُوبُ إِلَيْهِ، ثُمَّ غَطَّ
ثَانِيَةً فَالْتَفَتَ إِلَيْهِ، ثُمَّ غَطَّ ثَالِثَةً
فَالْتَفَتَ إِلَيْهِ سُرُورًا بِهِ وَبِغَطِيطِهِ، فَأَوْحَى
اللَّهُ تَعَالَى إِلَى مَلَائِكَتِهِ:" انْظُرُوا إِلَى
صَفِيِّي وَابْنِ خَلِيلِي قَائِمًا فِي مُنَاجَاتِي
يَلْتَفِتُ إِلَى غَيْرِي، وَعِزَّتِي وَجَلَالِي!
لَأَنْزِعَنَّ الْحَدَقَتَيْنِ اللَّتَيْنِ الْتَفَتَ بِهِمَا،
وَلَأُفَرِّقَنَّ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَنِ الْتَفَتَ إِلَيْهِ
ثَمَانِينَ سَنَةً، لِيَعْلَمَ الْعَامِلُونَ أَنَّ مَنْ قَامَ
بين يدي يجب عليه مراقبة نظري". هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ
الِالْتِفَاتَ فِي الصَّلَاةِ- وَإِنْ لَمْ يُبْطِلْ- يَدُلُّ
عَلَى الْعُقُوبَةِ عَلَيْهَا، وَالنَّقْصِ فِيهَا، وَقَدْ
رَوَى الْبُخَارِيُّ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: سَأَلْتُ رَسُولَ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الِالْتِفَاتِ
فِي الصَّلَاةِ فَقَالَ:" هُوَ اخْتِلَاسٌ يَخْتَلِسُهُ
الشَّيْطَانُ مِنْ صَلَاةِ الْعَبْدِ". وَسَيَأْتِي مَا
لِلْعُلَمَاءِ فِي هَذَا فِي أَوَّلِ سُورَةِ" الْمُؤْمِنُونَ"
مُوعَبًا إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. الثَّالِثَةُ- قَالَ
النَّحَّاسُ: فَإِنْ سَأَلَ قَوْمٌ عَنْ مَعْنَى شِدَّةِ
حُزْنِ يَعْقُوبَ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَلَى
نَبِيِّنَا- فَلِلْعُلَمَاءِ فِي هَذَا ثَلَاثَةُ أَجْوِبَةٍ:
مِنْهَا- أَنَّ يَعْقُوبَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
لَمَّا عَلِمَ أَنَّ يُوسُفَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ حَيٌّ خَافَ عَلَى دِينِهِ، فَاشْتَدَّ حُزْنُهُ
لِذَلِكَ. وَقِيلَ: إِنَّمَا حَزِنَ لِأَنَّهُ سَلَّمَهُ
إِلَيْهِمْ صَغِيرًا، فَنَدِمَ عَلَى ذَلِكَ. وَالْجَوَابُ
الثَّالِثُ- وَهُوَ أبينها- هو أن
__________
(1). في وو ى: وا حزناه.
(9/248)
قَالُوا تَاللَّهِ
تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضًا أَوْ
تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ (85) قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو
بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا
لَا تَعْلَمُونَ (86)
الْحُزْنَ لَيْسَ بِمَحْظُورٍ، وَإِنَّمَا
الْمَحْظُورُ الْوَلْوَلَةُ وَشَقُّ الثِّيَابِ، وَالْكَلَامُ
بِمَا لَا يَنْبَغِي وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" تَدْمَعُ الْعَيْنُ وَيَحْزَنُ الْقَلْبُ
وَلَا نَقُولُ مَا يُسْخِطُ الرَّبُّ". وَقَدْ بَيَّنَ اللَّهُ
جَلَّ وَعَزَّ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: (فَهُوَ كَظِيمٌ) أَيْ
مَكْظُومٌ مَمْلُوءٌ مِنَ الْحُزْنِ مُمْسِكٌ عَلَيْهِ لَا
يَبُثُّهُ، وَمِنْهُ كَظْمُ الْغَيْظِ وَهُوَ إِخْفَاؤُهُ،
فَالْمَكْظُومُ الْمَسْدُودُ عَلَيْهِ طَرِيقُ حُزْنِهِ، قَالَ
الله تعالى:" إِذْ نادى وَهُوَ مَكْظُومٌ" «1» [القلم: 48]
أَيْ مَمْلُوءٌ كَرْبًا. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَكْظُومُ
بِمَعْنَى الْكَاظِمِ، وَهُوَ الْمُشْتَمِلُ عَلَى حُزْنِهِ.
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: كَظِيمٌ مَغْمُومٌ، قَالَ الشَّاعِرُ:
فَإِنْ أَكُ كَاظِمًا لِمُصَابٍ شَاسٍ ... فَإِنِّي الْيَوْمَ
مُنْطَلِقٌ لِسَانِي
وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ
قَالَ: ذَهَبَتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ" فَهُوَ كَظِيمٌ"
قَالَ: فَهُوَ مَكْرُوبٌ. وَقَالَ مُقَاتِلُ بْنُ سُلَيْمَانَ
عَنْ عَطَاءٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ:" فَهُوَ
كَظِيمٌ" قَالَ: فَهُوَ كَمِدٌ، يَقُولُ: يَعْلَمُ أَنَّ
يُوسُفَ حَيٌّ، وَأَنَّهُ لَا يَدْرِي أَيْنَ هُوَ، فَهُوَ
كَمِدٌ مِنْ ذَلِكَ. قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: الْكَمَدُ
الْحُزْنُ الْمَكْتُومُ، تَقُولُ مِنْهُ كَمِدَ الرَّجُلُ
فَهُوَ كَمِدٌ وَكَمِيدٌ. النَّحَّاسُ. يُقَالُ فُلَانٌ
كَظِيمٌ وَكَاظِمٌ، أَيْ حَزِينٌ لَا يَشْكُو حُزْنَهُ، قَالَ
الشَّاعِرُ:
فَحَضَضْتُ قَوْمِي وَاحْتَسَبْتُ قِتَالَهُمْ ... والقوم من
خوف المنايا كظم
[سورة يوسف (12): الآيات 85 الى 86]
قالُوا تَاللَّهِ تَفْتَؤُا تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ
حَرَضاً أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهالِكِينَ (85) قالَ إِنَّما
أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ
اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (86)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (قالُوا تَاللَّهِ تَفْتَؤُا تَذْكُرُ
يُوسُفَ) أَيْ قَالَ لَهُ وَلَدُهُ:" تَاللَّهِ تَفْتَؤُا
تَذْكُرُ يُوسُفَ" قَالَ الْكِسَائِيُّ: فَتَأْتُ وَفَتِئْتُ
أَفْعَلُ ذَلِكَ أَيْ مَا زِلْتُ. وَزَعَمَ الْفَرَّاءُ أَنَّ"
لَا" مُضْمَرَةٌ، أَيْ لَا تَفْتَأُ، وَأَنْشَدَ «2»:
فَقُلْتُ يَمِينُ اللَّهِ أَبْرَحُ قَاعِدًا ... وَلَوْ
قَطَعُوا رَأْسِي لديك وأوصالي
__________
(1). راجع ج 18 ص 253.
(2). البيت لامرى القيس و" يمين" بالرفع على الابتداء وإضمار
الخبر، والتقدير: يمين الله لازمني، وبالنصب على إضمار فعل،
وهو كثير في كلام العرب كقولهم: أمانة الله. وقد وصف أنه طوق
محبوبته فخوفته الرقباء، وأمرته بالانصراف، فقال لها هذا،
وأراد: لا أبرح فحذف" لا". والأوصال (جمع وصل) وهى المفاصل.
(9/249)
أَيْ لَا أَبْرَحُ، قَالَ النَّحَّاسُ:
وَالَّذِي قَالَ حَسَنٌ صَحِيحٌ. وَزَعَمَ الْخَلِيلُ
وَسِيبَوَيْهِ أَنَّ" لَا" تُضْمَرُ فِي الْقَسَمِ، لِأَنَّهُ
لَيْسَ فِيهِ إِشْكَالٌ، وَلَوْ كَانَ «1» وَاجِبًا لَكَانَ
بِاللَّامِ وَالنُّونِ، وَإِنَّمَا قالوا له لِأَنَّهُمْ
عَلِمُوا بِالْيَقِينِ أَنَّهُ يُدَاوِمُ عَلَى ذَلِكَ،
يُقَالُ: مَا زَالَ يَفْعَلُ كَذَا، وَمَا فَتِئَ وَفَتَأَ
فَهُمَا لُغَتَانِ، وَلَا يُسْتَعْمَلَانِ إِلَّا مَعَ
الْجَحْدِ قَالَ الشَّاعِرُ «2»:
فَمَا فَتِئْتُ حَتَّى كَأَنَّ غُبَارَهَا «3» ... سُرَادِقُ
يَوْمِ ذِي رِيَاحٍ تُرَفَّعُ
أَيْ مَا بَرِحْتُ فَتَفْتَأُ تَبْرَحُ. وَقَالَ ابْنُ
عَبَّاسٍ: تَزَالُ. (حَتَّى تَكُونَ حَرَضاً) أَيْ تَالِفًا.
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ: دَنِفًا مِنَ الْمَرَضِ،
وَهُوَ مَا دُونَ الْمَوْتِ، قَالَ الشَّاعِرُ:
سَرَى هَمِّي فأمرضني ... وقدما زادني مرضا
كذا الحب قبل اليو ... م مما يورث الحرصا
وَقَالَ قَتَادَةُ: هَرَمًا. الضَّحَّاكُ: بَالِيًا دَاثِرًا.
مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: فَاسِدًا لَا عَقْلَ لَكَ.
الْفَرَّاءُ: الْحَارِضُ الْفَاسِدُ الْجِسْمِ وَالْعَقْلِ،
وَكَذَا الْحَرَضُ. ابْنُ زيد: الحرص الَّذِي قَدْ رُدَّ إِلَى
أَرْذَلِ الْعُمُرِ. الرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ: يَابِسُ
الْجِلْدِ عَلَى الْعَظْمِ. الْمُؤَرِّجُ: ذَائِبًا مِنَ
الْهَمِّ. وَقَالَ الْأَخْفَشُ: ذَاهِبًا. ابْنُ
الْأَنْبَارِيِّ: هَالِكًا، وَكُلُّهَا مُتَقَارِبَةٌ.
وَأَصْلُ الْحَرَضِ الْفَسَادُ فِي الْجِسْمِ أَوِ الْعَقْلِ
مِنَ الْحُزْنِ أَوِ الْعِشْقِ أَوِ الْهَرَمِ، عَنْ أَبِي
عُبَيْدَةَ وَغَيْرِهِ، وَقَالَ الْعَرَجِيُّ:
إِنِّي امْرُؤٌ لَجَّ بِي حُبٌّ فَأَحْرَضَنِي ... حَتَّى
بَلِيتُ وَحَتَّى شَفَّنِي السَّقَمُ
قَالَ النَّحَّاسُ: يُقَالُ حَرَضَ حَرَضًا وَحَرُضَ حُرُوضًا
وَحُرُوضَةً إِذَا بَلِيَ وَسَقَمَ، وَرَجُلٌ حَارِضٌ
وَحَرَضٌ، إِلَّا أَنَّ حَرَضًا لَا يُثَنَّى وَلَا يُجْمَعُ،
وَمِثْلُهُ قَمِنٌ وَحَرِيٌّ لَا يُثَنَّيَانِ وَلَا
يُجْمَعَانِ. الثَّعْلَبِيُّ: وَمِنَ الْعَرَبِ مَنْ يَقُولُ
حَارِضٌ لِلْمُذَكَّرِ، وَالْمُؤَنَّثَةِ حَارِضَةٌ، فَإِذَا
وَصَفَ بِهَذَا اللَّفْظِ ثَنَّى وَجَمَعَ وَأَنَّثَ.
وَيُقَالُ: حَرِضَ يَحْرَضُ حَرَاضَةً فَهُوَ حَرِيضٌ
وَحَرِضٌ. وَيُقَالُ: رَجُلٌ مُحْرَضٌ، وَيُنْشَدُ:
طَلَبَتْهُ الْخَيْلُ يوما كاملا ... ولو ألفته لأضحى محرضا
__________
(1). في ع: موجبا.
(2). هو أوس بن حجر التميمي الجاهلي.
(3). الضمير للخيل.
(9/250)
يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا
فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلَا تَيْأَسُوا مِنْ
رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ
إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ (87)
وَقَالَ امْرُؤُ الْقَيْسِ:
أَرَى الْمَرْءَ ذَا الْأَذْوَادِ يُصْبِحُ مُحْرَضًا ...
كَإِحْرَاضِ بِكْرٍ فِي الدِّيَارِ مَرِيضِ «1»
قَالَ النَّحَّاسُ: وَحَكَى أَهْلُ اللُّغَةِ أَحَرَضَهُ
الْهَمُّ إِذَا أَسْقَمَهُ، وَرَجُلٌ حَارِضٌ أَيْ أَحْمَقُ.
وَقَرَأَ أَنَسٌ:" حُرْضًا" بِضَمِّ الْحَاءِ وَسُكُونِ
الرَّاءِ، أَيْ مِثْلَ عُودِ الْأُشْنَانِ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ
بِضَمِّ الْحَاءِ وَالرَّاءِ. قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: الْحَرَضُ
وَالْحُرُضُ الْأُشْنَانُ. (أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهالِكِينَ)
أَيِ الْمَيِّتِينَ، وَهُوَ قَوْلُ الْجَمِيعِ، وَغَرَضُهُمْ
مَنْعُ يَعْقُوبَ مِنَ الْبُكَاءِ وَالْحُزْنِ شَفَقَةً
عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانُوا السَّبَبَ فِي ذَلِكَ. قوله تعالى:
الَ إِنَّما أَشْكُوا بَثِّي)
حَقِيقَةُ الْبَثِّ فِي اللُّغَةِ مَا يَرِدُ عَلَى
الْإِنْسَانِ مِنَ الْأَشْيَاءِ الْمُهْلِكَةِ الَّتِي لَا
يَتَهَيَّأُ لَهُ أَنْ يُخْفِيَهَا، وَهُوَ مِنْ بَثَثْتُهُ
أَيْ فَرَّقْتُهُ، فَسُمِّيَتِ الْمُصِيبَةُ بَثًّا مَجَازًا،
قَالَ ذُو الرُّمَّةِ:
وَقَفْتُ عَلَى رَبْعٍ لِمَيَّةَ نَاقَتِي ... فَمَا زِلْتُ
أَبْكِي عِنْدَهُ وَأُخَاطِبُهُ
وَأَسْقِيهِ «2» حَتَّى كَادَ مِمَّا أُبِثُّهُ ...
تُكَلِّمُنِي أَحْجَارُهُ وَمَلَاعِبُهُ
وَقَالَ ابن عباس:"ثِّي
" هَمِّي. الْحَسَنُ: حَاجَتِي. وَقِيلَ: أَشَدُّ الْحُزْنِ،
وَحَقِيقَةُ ما ذكرناه. َ- حُزْنِي إِلَى اللَّهِ)
مَعْطُوفٌ عَلَيْهِ، أَعَادَهُ بِغَيْرِ لَفْظِهِ. َ- أَعْلَمُ
مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ)
أَيْ أَعْلَمُ أَنَّ رُؤْيَا يُوسُفَ صَادِقَةٌ، وَأَنِّي
سَأَسْجُدُ لَهُ. قاله ابن عباس. قتادة: إِنِّي أَعْلَمُ مِنْ
إِحْسَانِ اللَّهِ تَعَالَى إِلَيَّ مَا يُوجِبُ حُسْنَ ظَنِّي
بِهِ. وَقِيلَ: قَالَ يَعْقُوبُ لِمَلَكِ الْمَوْتِ هَلْ
قَبَضْتَ رُوحَ يُوسُفَ؟ قَالَ: لَا، فَأَكَّدَ هَذَا
رَجَاءَهُ. وَقَالَ السُّدِّيُّ: أَعْلَمُ أَنَّ يُوسُفَ
حَيٌّ، وَذَلِكَ أَنَّهُ لَمَّا أَخْبَرَهُ وَلَدُهُ بِسِيرَةِ
الْمَلِكِ وَعَدْلِهِ وَخَلْقِهِ وَقَوْلِهِ أَحَسَّتْ نَفْسُ
يَعْقُوبَ أَنَّهُ وَلَدَهُ فَطَمِعَ، وَقَالَ: لَعَلَّهُ
يُوسُفُ. [وَقَالَ: لَا يَكُونُ فِي الْأَرْضِ صِدِّيقٌ إِلَّا
نُبِّئٌ. وَقِيلَ: أَعْلَمُ مِنْ إِجَابَةِ دعاء المضطرين ما
لا تعلمون «3»].
[سورة يوسف (12): آية 87]
يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ
وَلا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ
مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكافِرُونَ (87)
__________
(1). الأذواد: جمع ذود، وهو القطيع من الإبل الثلاث إلى التسع.
والبكر: الفتى من الإبل، يقول: أرى المرء ذا المال يدركه الهرم
والمرض، والفناء بعد ذلك فلا تغنى كثرة ماله، كما أن البكر
يدركه ذلك.
(2). أسقيه: أدعو له بالسقيا.
(3). من (و) و (ى).
(9/251)
فَلَمَّا دَخَلُوا
عَلَيْهِ قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا
وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُزْجَاةٍ
فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا إِنَّ اللَّهَ
يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ (88)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا
فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ) هَذَا يَدُلُّ عَلَى
أَنَّهُ تَيَقَّنَ حَيَاتَهُ، إِمَّا بِالرُّؤْيَا، وَإِمَّا
بِإِنْطَاقِ اللَّهِ تَعَالَى الذِّئْبَ كَمَا فِي أَوَّلِ
الْقِصَّةِ، وَإِمَّا بِإِخْبَارِ مَلَكِ الْمَوْتِ إِيَّاهُ
بِأَنَّهُ لَمْ يَقْبِضْ رُوحَهُ، وَهُوَ أَظْهَرُ.
وَالتَّحَسُّسُ طَلَبُ الشَّيْءِ بِالْحَوَاسِّ، فَهُوَ
تَفَعُّلٌ مِنَ الْحِسِّ، أَيِ اذْهَبُوا إِلَى هَذَا الَّذِي
طَلَبَ مِنْكُمْ أَخَاكُمْ، وَاحْتَالَ عَلَيْكُمْ فِي
أَخْذِهِ فَاسْأَلُوا عَنْهُ وَعَنْ مَذْهَبِهِ. وَيُرْوَى
أَنَّ مَلَكَ الْمَوْتِ قَالَ لَهُ: اطْلُبْهُ مِنْ هَاهُنَا!
وَأَشَارَ إِلَى نَاحِيَةِ مِصْرَ. وَقِيلَ: إِنَّ يَعْقُوبَ
تَنَبَّهَ عَلَى يُوسُفَ بِرَدِ الْبِضَاعَةِ، وَاحْتِبَاسِ
أَخِيهِ، وَإِظْهَارِ الْكَرَامَةِ، فَلِذَلِكَ وَجَّهَهُمْ
إِلَى جِهَةِ مِصْرَ دُونَ غَيْرِهَا. (وَلا تَيْأَسُوا مِنْ
رَوْحِ اللَّهِ) أَيْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ فَرَجِ اللَّهِ،
قَالَهُ ابْنُ زَيْدٍ، يُرِيدُ: أَنَّ الْمُؤْمِنَ يَرْجُو
فَرَجَ اللَّهِ، وَالْكَافِرَ يَقْنَطُ فِي الشِّدَّةِ.
وَقَالَ قَتَادَةُ وَالضَّحَّاكُ: مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ.
(إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ
الْكافِرُونَ) دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْقُنُوطَ مِنَ
الْكَبَائِرِ، وَهُوَ الْيَأْسُ، وَسَيَأْتِي فِي" الزُّمَرِ"
«1» بَيَانُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تعالى.
[سورة يوسف (12): آية 88]
فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ
مَسَّنا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنا بِبِضاعَةٍ مُزْجاةٍ
فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنا إِنَّ اللَّهَ
يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ (88)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قالُوا يَا
أَيُّهَا الْعَزِيزُ) أَيِ الْمُمْتَنِعُ. (مَسَّنا
وَأَهْلَنَا الضُّرُّ) هَذِهِ الْمَرَّةُ الثَّالِثَةُ مِنْ
عَوْدِهِمْ إِلَى مِصْرَ، وَفِي الْكَلَامِ حَذْفٌ، أَيْ
فَخَرَجُوا إِلَى مِصْرَ، فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ
قَالُوا:" مَسَّنا" أَيْ أَصَابَنَا" وَأَهْلَنَا الضُّرُّ"
أَيِ الْجُوعُ وَالْحَاجَةُ، وَفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى
جَوَازِ الشَّكْوَى عِنْدَ الضُّرِّ، أَيِ الْجُوعُ، بَلْ
وَاجِبٌ عَلَيْهِ إِذَا خَافَ عَلَى نَفْسِهِ الضُّرَّ مِنَ
الْفَقْرِ وَغَيْرِهِ أَنْ يُبْدِيَ حَالَتَهُ إِلَى مَنْ
يَرْجُو مِنْهُ النَّفْعَ، كَمَا هُوَ وَاجِبٌ عَلَيْهِ أَنْ
يَشْكُوَ مَا بِهِ مِنَ الْأَلَمِ إِلَى الطَّبِيبِ
لِيُعَالِجَهُ، وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ قَدَحًا فِي
التَّوَكُّلِ، وَهَذَا مَا لَمْ يَكُنِ التَّشَكِّي عَلَى
سَبِيلِ التَّسَخُّطِ، وَالصَّبْرِ وَالتَّجَلُّدِ فِي
النَّوَائِبِ أَحْسَنُ، وَالتَّعَفُّفُ عَنِ المسألة أفضل،
وأحسن الكلام
__________
(1). راجع ج 15 ص 267. [ ..... ]
(9/252)
فِي الشَّكْوَى سُؤَالُ الْمَوْلَى زَوَالَ
الْبَلْوَى، وَذَلِكَ قول يعقوب:"نَّما أَشْكُوا بَثِّي
وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ ما لا
تَعْلَمُونَ
" [يوسف: 86] أَيْ مِنْ جَمِيلِ صُنْعِهِ، وَغَرِيبِ لُطْفِهِ،
وَعَائِدَتِهِ عَلَى عِبَادِهِ، فَأَمَّا الشَّكْوَى عَلَى
غَيْرِ مُشْكٍ فَهُوَ السَّفَهُ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ عَلَى
وَجْهِ الْبَثِّ وَالتَّسَلِّي، كَمَا قَالَ ابْنُ دُرَيْدٍ:
لَا تَحْسَبَنَّ يَا دَهْرُ أَنِّي ضَارِعٌ ... لِنَكْبَةٍ
تَعْرِقُنِي عرق المدى
مارست من لَوْ «1» هَوَتِ الْأَفْلَاكُ مِنْ ... جَوَانِبِ
الْجَوِّ عَلَيْهِ مَا شَكَا
لَكِنَّهَا نَفْثَةُ مَصْدُورٍ إِذَا ... جَاشَ لُغَامٌ «2»
مِنْ نَوَاحِيهَا غَمَا
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَجِئْنا بِبِضاعَةٍ) الْبِضَاعَةُ
الْقِطْعَةُ مِنَ الْمَالِ يُقْصَدُ بِهَا شراء شي، تَقُولُ:
أَبْضَعْتُ الشَّيْءَ وَاسْتَبْضَعْتُهُ أَيْ جَعَلْتُهُ
بِضَاعَةً، وَفِي الْمَثَلِ: كَمُسْتَبْضِعِ التَّمْرِ إِلَى
هَجَرَ «3». قَوْلُهُ تَعَالَى: (مُزْجاةٍ) صِفَةٌ
لِبِضَاعَةٍ، وَالْإِزْجَاءُ السَّوْقُ بِدَفْعٍ، وَمِنْهُ
قَوْلُهُ تَعَالَى:" أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي
سَحاباً" «4» [النور: 43] وَالْمَعْنَى أَنَّهَا بِضَاعَةٌ
تُدْفَعُ، وَلَا يَقْبَلُهَا كُلُّ أَحَدٍ. قَالَ ثَعْلَبٌ:
الْبِضَاعَةُ الْمُزْجَاةُ النَّاقِصَةُ غَيْرُ التامة.
واختلفت فِي تَعْيِينِهَا هُنَا «5»، فَقِيلَ: كَانَتْ
قَدِيدًا وَحَيْسًا «6»، ذَكَرَهُ الْوَاقِدِيُّ عَنْ عَلِيِّ
بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. وَقِيلَ: خَلَقُ
الْغَرَائِرِ وَالْحِبَالِ، رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ.
وَقِيلَ: مَتَاعُ الْأَعْرَابِ صوف وسمن، قال عَبْدُ اللَّهِ
بْنُ الْحَارِثِ. وَقِيلَ: الْحَبَّةُ الْخَضْرَاءُ والصنوبر
وهو البطم، حب شجرة بِالشَّامِ، يُؤْكَلُ وَيُعْصَرُ الزَّيْتُ
مِنْهُ لِعَمَلِ الصَّابُونِ، قَالَهُ أَبُو صَالِحٍ،
فَبَاعُوهَا بِدَرَاهِمَ لَا تَنْفُقُ فِي الطَّعَامِ،
وَتَنْفُقُ فِيمَا بَيْنَ النَّاسِ، فَقَالُوا: خذها منا بحساب
جياد تنفق في الطَّعَامِ. وَقِيلَ: دَرَاهِمُ رَدِيئَةٌ،
قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ أَيْضًا. وَقِيلَ: لَيْسَ عَلَيْهَا
صُورَةُ يُوسُفَ، وَكَانَتْ دَرَاهِمُ مِصْرَ عَلَيْهِمْ
صُورَةُ يُوسُفَ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: النِّعَالُ
وَالْأُدْمُ، وَعَنْهُ: كَانَتْ سَوِيقًا مُنَخَّلًا.
وَاللَّهُ أعلم.
__________
(1). من ع.
(2). الزبد، وهو ما يلقيه البعير من فمه، وغما: سقط، يقال: غما
البعير إذا رماه ينفض رأسه ومشفره.
(3). هجر: مدينة بالبحرين.
(4). راجع ج 12 ص 287.
(5). من ع وى.
(6). كذا في الأصول وفى البحر: قديد وحش.
(9/253)
قوله تعالى: (فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ
وَتَصَدَّقْ عَلَيْنا) فِيهِ أَرْبَعُ مَسَائِلَ: الْأُولَى-
قَوْلُهُ تَعَالَى:" فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ" يُرِيدُونَ
كَمَا تَبِيعُ بِالدَّرَاهِمِ الْجِيَادِ لا تنقصنا بمكان
دراهمنا، هذا قول أكثرا الْمُفَسِّرِينَ. وَقَالَ ابْنُ
جُرَيْجٍ." فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ" يُرِيدُونَ الْكَيْلَ
الَّذِي كَانَ قَدْ كَالَهُ لِأَخِيهِمْ." وَتَصَدَّقْ
عَلَيْنا" أَيْ تَفَضَّلْ عَلَيْنَا بِمَا بَيْنَ سِعْرِ
الْجِيَادِ وَالرَّدِيئَةِ. قَالَهُ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ
وَالسُّدِّيُّ وَالْحَسَنُ: لِأَنَّ الصَّدَقَةَ تَحْرُمُ
عَلَى الْأَنْبِيَاءِ. وَقِيلَ الْمَعْنَى:" تَصَدَّقْ
عَلَيْنا" بِالزِّيَادَةِ عَلَى حَقِّنَا، قَالَهُ سُفْيَانُ
بْنُ عُيَيْنَةَ. قَالَ مُجَاهِدٌ: وَلَمْ تَحْرُمِ
الصَّدَقَةُ إِلَّا عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: الْمَعْنَى"
تَصَدَّقْ عَلَيْنا" بِرَدِ أَخِينَا إِلَيْنَا. وَقَالَ ابْنُ
شجرة:" تَصَدَّقْ عَلَيْنا" تجوز عنا، واستشهد بِقَوْلِ
الشَّاعِرِ:
تَصَدَّقْ عَلَيْنَا يَا اِبْن عَفَّان «1» وَاحْتَسِبْ ...
وَأْمُرْ عَلَيْنَا الْأَشْعَرِيّ لَيَالِيَا
(إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ) يَعْنِي فِي
الْآخِرَةِ، يُقَالُ: هَذَا مِنْ مَعَارِيضِ الْكَلَامِ،
لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُمْ أنه على دينهم، لذلك لَمْ
يَقُولُوا: إِنَّ اللَّهَ يَجْزِيكَ بِصَدَقَتِكَ، فَقَالُوا
لَفْظًا يُوهِمُهُ أَنَّهُمْ أَرَادُوهُ، وَهُمْ يَصِحُّ
لَهُمْ إِخْرَاجُهُ بِالتَّأْوِيلِ، قَالَهُ النَّقَّاشُ وَفِي
الْحَدِيثِ:" إِنَّ فِي الْمَعَارِيضِ «2» لَمَنْدُوحَةً عَنِ
الْكَذِبِ". الثَّانِيَةُ- اسْتَدَلَّ مَالِكٌ وَغَيْرُهُ مِنَ
الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّ أُجْرَةَ الْكَيَّالِ عَلَى
الْبَائِعِ، قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ وَابْنُ نَافِعٍ قَالَ
مَالِكٌ: قَالُوا لِيُوسُفَ" فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ"
فَكَانَ يُوسُفُ هُوَ الَّذِي يَكِيلُ، وَكَذَلِكَ الْوَزَّانُ
وَالْعَدَّادُ وَغَيْرُهُمْ، لِأَنَّ الرَّجُلَ إِذَا بَاعَ
عِدَّةً مَعْلُومَةً مِنْ طَعَامِهِ، وَأَوْجَبَ الْعَقْدَ
عَلَيْهِ، وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يُبْرِزَهَا وَيُمَيِّزَ حَقَّ
الْمُشْتَرِي مِنْ حَقِّهِ، إِلَّا أَنْ يَبِيعَ مِنْهُ
مُعَيَّنًا- صُبْرَةً «3» أَوْ مَا لَا حَقَّ تَوْفِيَةٍ
فِيهِ- فَخَلَّى [مَا «4»] بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ، فَمَا جَرَى
عَلَى الْمَبِيعِ فَهُوَ عَلَى الْمُبْتَاعِ، وَلَيْسَ
كَذَلِكَ مَا فِيهِ حَقُّ تَوْفِيَةٍ مِنْ كَيْلٍ أَوْ وَزْنٍ،
أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ الْبَائِعُ الثَّمَنَ
إِلَّا بَعْدَ التَّوْفِيَةِ، وَإِنْ تَلِفَ فَهُوَ مِنْهُ قبل
التوفية.
__________
(1). في ى: يا ابن حسان.
(2). المعاريض: جمع معراض، من التعريض وهو خلاف التصريح من
القول.
(3). الصبرة: الطعام المجتمع كالكومة.
(4). من ع.
(9/254)
قَالَ هَلْ عَلِمْتُمْ
مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جَاهِلُونَ
(89) قَالُوا أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَا يُوسُفُ
وَهَذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا إِنَّهُ مَنْ
يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ
الْمُحْسِنِينَ (90) قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ
عَلَيْنَا وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ (91) قَالَ لَا
تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ
وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (92) اذْهَبُوا بِقَمِيصِي
هَذَا فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيرًا
وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ (93)
الثَّالِثَةُ- وَأَمَّا أُجْرَةُ النَّقْدِ
فَعَلَى الْبَائِعِ أَيْضًا، لِأَنَّ الْمُبْتَاعَ الدَّافِعَ
لِدَرَاهِمِهِ يَقُولُ: إِنَّهَا طَيِّبَةٌ، فَأَنْتَ الَّذِي
تَدَّعِي الرَّدَاءَةَ فَانْظُرْ لِنَفْسِكَ، وَأَيْضًا
فَإِنَّ النَّفْعَ يَقَعُ لَهُ فَصَارَ الْأَجْرُ عَلَيْهِ،
وَكَذَلِكَ لَا يَجِبُ عَلَى الَّذِي [يَجِبُ] «1» عَلَيْهِ
الْقِصَاصُ، لِأَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَقْطَعَ يَدَ
نَفْسِهِ، إِلَّا أَنْ يُمَكَّنَ مِنْ ذَلِكَ طَائِعًا، أَلَا
تَرَى أَنَّ فَرْضًا عَلَيْهِ أَنْ يَفْدِيَ يَدَهُ،
وَيُصَالِحَ عَلَيْهِ إِذَا طَلَبَ الْمُقْتَصُّ ذَلِكَ
مِنْهُ، فَأَجْرُ الْقَطَّاعِ عَلَى الْمُقْتَصِّ. وَقَالَ
الشَّافِعِيُّ فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ: إِنَّهَا عَلَى
الْمُقْتَصِّ مِنْهُ كَالْبَائِعِ. الرَّابِعَةُ- يُكْرَهُ
لِلرَّجُلِ أَنْ يَقُولَ فِي دُعَائِهِ: اللَّهُمَّ تَصَدَّقْ
عَلَيَّ، لِأَنَّ الصَّدَقَةَ إِنَّمَا تَكُونُ مِمَّنْ
يَبْتَغِي الثَّوَابَ، وَاللَّهُ تَعَالَى مُتَفَضِّلٌ
بِالثَّوَابِ بِجَمِيعِ النِّعَمِ لَا رَبَّ غَيْرُهُ،
وَسَمِعَ الْحَسَنُ رَجُلًا يَقُولُ: اللَّهُمَّ تَصَدَّقْ
عَلَيَّ، فَقَالَ الْحَسَنُ: يَا هَذَا! إِنَّ اللَّهَ لَا
يَتَصَدَّقُ إِنَّمَا يَتَصَدَّقُ مَنْ يَبْتَغِي الثَّوَابَ،
أَمَا سَمِعْتَ قَوْلَ اللَّهِ تَعَالَى:" إِنَّ اللَّهَ
يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ" قل: اللهم أعطني وتفضل علي.
[سورة يوسف (12): الآيات 89 الى 93]
قالَ هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ
أَنْتُمْ جاهِلُونَ (89) قالُوا أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ
قالَ أَنَا يُوسُفُ وَهذا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا
إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ
أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (90) قالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ
اللَّهُ عَلَيْنا وَإِنْ كُنَّا لَخاطِئِينَ (91) قالَ لَا
تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ
وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (92) اذْهَبُوا بِقَمِيصِي
هَذَا فَأَلْقُوهُ عَلى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيراً
وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ (93)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (قالَ هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ
بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ) اسْتِفْهَامٌ بِمَعْنَى التَّذْكِيرِ
وَالتَّوْبِيخِ، وَهُوَ الَّذِي قَالَ «2» اللَّهُ:"
لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هذا" [يوسف: 15] الْآيَةَ
«3». (إِذْ أَنْتُمْ جاهِلُونَ) دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُمْ
__________
(1). من ع وووى.
(2). أي تصديق قول الله، كما في تفسير الفخر وفى ع: قال الرب.
(3). من ع.
(9/255)
كَانُوا صِغَارًا فِي وَقْتِ أَخْذِهِمْ
لِيُوسُفَ، غَيْرَ أَنْبِيَاءَ، لِأَنَّهُ لَا يُوصَفُ
بِالْجَهْلِ إِلَّا مَنْ كَانَتْ هَذِهِ صِفَتُهُ، وَيَدُلُّ
عَلَى أَنَّهُ حَسُنَتْ حَالُهُمُ الْآنَ، أَيْ فَعَلْتُمْ
ذَلِكَ إِذْ أَنْتُمْ صِغَارٌ جُهَّالٌ، قَالَ مَعْنَاهُ ابْنُ
عَبَّاسٍ وَالْحَسَنُ، وَيَكُونُ قَوْلُهُمْ:" وَإِنْ كُنَّا
لَخاطِئِينَ" عَلَى هَذَا، لِأَنَّهُمْ كَبِرُوا وَلَمْ
يُخْبِرُوا أَبَاهُمْ بِمَا فَعَلُوا حياء وخوفا منه. وقيل:
جاهلون بما تؤول إِلَيْهِ الْعَاقِبَةُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: (قالُوا أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ)
لَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا:" مَسَّنا وَأَهْلَنَا
الضُّرُّ" فَخَضَعُوا لَهُ وَتَوَاضَعُوا رَقَّ لَهُمْ،
وَعَرَّفَهُمْ بِنَفْسِهِ، فَقَالَ:" هَلْ عَلِمْتُمْ مَا
فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ" فتنبهوا فقالوا:" أَإِنَّكَ
لَأَنْتَ يُوسُفُ" قَالَهُ ابْنُ إِسْحَاقَ. وَقِيلَ: إِنَّ
يُوسُفَ تَبَسَّمَ فَشَبَّهُوهُ بِيُوسُفَ وَاسْتَفْهَمُوا.
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ لَمَّا قَالَ لَهُمْ:" هَلْ عَلِمْتُمْ
مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ" الْآيَةَ، ثُمَّ تَبَسَّمَ يُوسُفُ-
وَكَانَ إِذَا تَبَسَّمَ كَأَنَّ ثَنَايَاهُ اللُّؤْلُؤُ
الْمَنْظُومُ- فَشَبَّهُوهُ بيوسف، فقالوا له على جهة
الاستفهام:" أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ". وَعَنِ ابْنِ
عَبَّاسٍ أَيْضًا: أَنَّ إِخْوَتَهُ لَمْ يَعْرِفُوهُ حَتَّى
وَضَعَ التَّاجَ عَنْهُ، وَكَانَ فِي قَرْنِهِ عَلَامَةٌ،
وَكَانَ لِيَعْقُوبَ مِثْلُهَا شَبَهُ الشَّامَةِ، فَلَمَّا
قَالَ لَهُمْ:" هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ"
رَفَعَ التَّاجَ عَنْهُ فَعَرَفُوهُ، فقالوا:" أَإِنَّكَ
لَأَنْتَ يُوسُفُ". وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كَتَبَ يَعْقُوبُ
إِلَيْهِ يَطْلُبُ رَدَّ ابْنِهِ، وَفِي الْكِتَابِ: مِنْ
يَعْقُوبَ صَفِيِّ اللَّهِ ابْنِ إِسْحَاقَ ذَبِيحِ اللَّهِ
ابْنِ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلِ اللَّهِ إِلَى عَزِيزِ مِصْرَ-
أَمَّا بَعْدُ- فَإِنَّا أَهْلُ بَيْتِ بَلَاءٍ وَمِحَنٍ،
ابْتَلَى اللَّهُ جَدِّي إِبْرَاهِيمَ بِنُمْرُوذَ وَنَارِهِ،
ثُمَّ ابْتَلَى أَبِي إِسْحَاقَ بِالذَّبْحِ، ثُمَّ
ابْتَلَانِي بِوَلَدٍ كَانَ لِي أَحَبُّ أَوْلَادِي إِلَيَّ
حَتَّى كُفَّ بَصَرِي مِنَ الْبُكَاءِ، وَإِنِّي لَمْ أَسْرِقْ
وَلَمْ أَلِدْ سَارِقًا وَالسَّلَامُ. فَلَمَّا قَرَأَ يُوسُفُ
الْكِتَابَ ارْتَعَدَتْ مَفَاصِلُهُ، وَاقْشَعَرَّ جِلْدُهُ،
وَأَرْخَى عَيْنَيْهِ بِالْبُكَاءِ، وَعِيلَ صَبْرُهُ فَبَاحَ
بِالسِّرِّ. وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ" إِنَّكَ" عَلَى
الْخَبَرِ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ القراءة استفهاما
كقوله:" وَتِلْكَ نِعْمَةٌ" «1» [الشعراء: 22]. (قالَ أَنَا
يُوسُفُ) أَيْ أَنَا الْمَظْلُومُ وَالْمُرَادُ قَتْلُهُ،
وَلَمْ يَقُلْ أَنَا هُوَ تَعْظِيمًا لِلْقِصَّةِ. (قَدْ مَنَّ
اللَّهُ عَلَيْنا) أَيْ بِالنَّجَاةِ وَالْمُلْكِ. (إِنَّهُ
مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ) أَيْ يَتَّقِ اللَّهَ وَيَصْبِرْ
عَلَى الْمَصَائِبِ، وَعَنِ الْمَعَاصِي. (فَإِنَّ اللَّهَ لَا
يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ) أَيِ الصَّابِرِينَ فِي
بَلَائِهِ، الْقَائِمِينَ بِطَاعَتِهِ. وَقَرَأَ ابْنُ
كَثِيرٍ:" إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِي" بِإِثْبَاتِ الْيَاءِ،
وَالْقِرَاءَةُ بِهَا جَائِزَةٌ على أن تجعل
__________
(1). راجع ج 13 ص 93. [ ..... ]
(9/256)
" مَنَّ" بِمَعْنَى الَّذِي، وَتَدْخُلُ"
يَتَّقِي" فِي الصِّلَةِ، فتثبت الياء لأغير، وَتُرْفَعُ"
وَيَصْبِرُ". وَقَدْ يَجُوزُ أَنْ تُجْزَمَ" وَيَصْبِرْ" عَلَى
أَنْ تُجْعَلَ" يَتَّقِي" فِي مَوْضِعِ جَزْمٍ وَ" مَنَّ"
لِلشَّرْطِ، وَتَثْبُتُ الْيَاءُ، وَتُجْعَلُ عَلَامَةُ
الْجَزْمِ حَذْفَ الضَّمَّةِ الَّتِي كَانَتْ فِي الْيَاءِ
عَلَى الْأَصْلِ، كَمَا قَالَ:
ثُمَّ نَادِي إِذَا دَخَلْتَ دِمَشْقَا ... يَا يَزِيدَ بْنَ
خَالِدِ بْنِ يَزِيدَ
وَقَالَ آخَرُ:
أَلَمْ يَأْتِيكَ وَالْأَنْبَاءُ تَنْمِي ... بِمَا لَاقَتْ
لَبُونُ بَنِي زِيَادِ
وَقِرَاءَةُ الْجَمَاعَةِ ظَاهِرَةٌ، وَالْهَاءُ فِي" إِنَّهُ"
كِنَايَةٌ عَنِ الْحَدِيثِ، وَالْجُمْلَةُ الْخَبَرُ. قَوْلُهُ
تَعَالَى: (قالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنا)
الْأَصْلُ هَمْزَتَانِ خُفِّفَتِ الثَّانِيَةُ، وَلَا يَجُوزُ
تَحْقِيقُهَا، وَاسْمُ الْفَاعِلِ مُؤْثِرٌ، وَالْمَصْدَرُ
إِيثَارٌ. وَيُقَالُ: أَثَرْتُ التُّرَابَ إِثَارَةً فَأَنَا
مُثِيرٌ، وَهُوَ أَيْضًا عَلَى أَفْعَلُ ثُمَّ أُعِلَّ،
وَالْأَصْلُ أَثْيَرُ «1» نُقِلَتْ حَرَكَةُ الْيَاءِ عَلَى
الثَّاءِ، فَانْقَلَبَتِ الْيَاءُ أَلِفًا، ثُمَّ حُذِفَتْ
لِالْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ. وَأَثَرْتُ الْحَدِيثَ عَلَى
فَعَلْتُ فَأَنَا آثِرٌ، وَالْمَعْنَى: لَقَدْ فَضَّلَكَ
اللَّهُ عَلَيْنَا، وَاخْتَارَكَ بِالْعِلْمِ وَالْحِلْمِ
وَالْحُكْمِ وَالْعَقْلِ وَالْمُلْكِ. (وَإِنْ كُنَّا
لَخاطِئِينَ) أَيْ مُذْنِبِينَ مِنْ خَطِئَ يَخْطَأُ إِذَا
أَتَى الْخَطِيئَةَ، وَفِي ضِمْنِ هَذَا سُؤَالُ الْعَفْوِ.
وَقِيلَ لِابْنِ عَبَّاسٍ: كَيْفَ قَالُوا" وَإِنْ كُنَّا
لَخاطِئِينَ" وَقَدْ تَعَمَّدُوا لِذَلِكَ؟ قَالَ: وَإِنْ
تَعَمَّدُوا لِذَلِكَ، فَمَا تَعَمَّدُوا حَتَّى أَخْطَئُوا
الْحَقَّ، وَكَذَلِكَ كُلُّ مَنْ أَتَى ذَنْبًا تَخَطَّى
الْمِنْهَاجَ الَّذِي عَلَيْهِ مِنَ الْحَقِّ، حَتَّى يَقَعَ
فِي الشُّبْهَةِ وَالْمَعْصِيَةِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: (لَا
تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ) أَيْ قَالَ يُوسُفُ- وَكَانَ
حَلِيمًا مُوَفَّقًا-:" لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ"
وَتَمَّ الْكَلَامُ. وَمَعْنَى" الْيَوْمَ": الْوَقْتُ.
وَالتَّثْرِيبُ التَّعْيِيرُ وَالتَّوْبِيخُ، أَيْ لَا
تَعْيِيرَ وَلَا تَوْبِيخَ وَلَا لَوْمَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ،
قَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ وَغَيْرُهُ، وَمِنْهُ قَوْلِهِ
عَلَيْهِ السَّلَامُ:" إِذَا زَنَتْ أَمَةُ أَحَدِكُمْ
فَلْيَجْلِدْهَا الْحَدَّ وَلَا يُثَرِّبْ عَلَيْهَا" أَيْ لَا
يُعَيِّرْهَا، وَقَالَ بِشْرٌ:
فَعَفَوْتُ عَنْهُمْ عَفْوَ غير مثرب ... وتركتهم لعقاب يوم
سرمد
__________
(1). كذا في الأصل وأعراب القرآن للنحاس. ويلاحظ أن عين الفعل
واو لا ياء، وعليه فالأصل أثور، نقلت حركة الواو إلى ما قبلها
فقلبت ألفا، ثم حذفت- عند اتصال الفعل بضمير متحرك- لالتقاء
الساكنين.
(9/257)
وَقَالَ الْأَصْمَعِيُّ: ثَرَّبْتُ
عَلَيْهِ وَعَرَّبْتُ عَلَيْهِ بِمَعْنَى إِذَا قَبَّحْتُ
عَلَيْهِ فِعْلَهُ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: الْمَعْنَى لَا
إِفْسَادَ لِمَا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ مِنَ الْحُرْمَةِ،
وَحَقِّ الْإِخْوَةِ، وَلَكُمْ عِنْدِي الْعَفْوُ وَالصَّفْحُ،
وَأَصْلُ التَّثْرِيبِ الْإِفْسَادُ، وَهِيَ لُغَةُ أَهْلِ
الْحِجَازِ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخَذَ بِعُضَادَتَيِ
الْبَابِ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ، وَقَدْ لَاذَ النَّاسُ
بِالْبَيْتِ فَقَالَ:" الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَ
وَعْدَهُ وَنَصَرَ عَبْدَهُ وَهَزَمَ الْأَحْزَابَ وَحْدَهُ"
ثُمَّ قَالَ:" مَاذَا تَظُنُّونَ يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ"
قَالُوا: خَيْرًا، أَخٌ كَرِيمٌ، وَابْنُ أَخٍ كَرِيمٍ وَقَدْ
قَدَرْتَ، قَالَ:" وَأَنَا أَقُولُ كَمَا قَالَ أَخِي يُوسُفَ"
لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ"" فَقَالَ عُمَرُ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ: فَفِضْتُ عَرَقًا مِنَ الْحَيَاءِ مِنْ قَوْلِ
رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ذَلِكَ
أَنِّي قَدْ كُنْتُ قُلْتُ لَهُمْ حِينَ دَخَلْنَا مَكَّةَ:
الْيَوْمَ نَنْتَقِمُ مِنْكُمْ وَنَفْعَلُ، فَلَمَّا قَالَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا قَالَ
اسْتَحْيَيْتُ مِنْ قَوْلِي. (يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ)
مُسْتَقْبَلٌ فِيهِ مَعْنَى الدُّعَاءِ، سَأَلَ اللَّهَ أَنْ
يَسْتُرَ عَلَيْهِمْ وَيَرْحَمَهُمْ. وَأَجَازَ الْأَخْفَشُ
الْوَقْفَ عَلَى" عَلَيْكُمُ" وَالْأَوَّلُ هُوَ
الْمُسْتَعْمَلُ، فَإِنَّ فِي الْوَقْفِ عَلَى" عَلَيْكُمُ"
والابتداء ب" الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ" جزم
بِالْمَغْفِرَةِ فِي الْيَوْمِ، وَذَلِكَ لَا يَكُونُ إِلَّا
عَنْ وَحْيٍ، وَهَذَا بَيِّنٌ. وَقَالَ عَطَاءٌ
الْخُرَاسَانِيُّ: طَلَبُ الْحَوَائِجِ مِنَ الشَّبَابِ
أَسْهَلُ مِنْهُ مِنَ الشُّيُوخِ، أَلَمْ تَرَ قَوْلَ
يُوسُفَ:" لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ
اللَّهُ لَكُمْ" وَقَالَ يَعْقُوبُ:" سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ
لَكُمْ رَبِّي". قَوْلُهُ تَعَالَى: (اذْهَبُوا بِقَمِيصِي
هَذَا) نَعْتٌ لِلْقَمِيصِ، وَالْقَمِيصُ مُذَكَّرٌ، فَأَمَّا
قَوْلُ الشَّاعِرِ «1»:
تَدْعُو هَوَازِنُ وَالْقَمِيصُ مُفَاضَةٌ ... فَوْقَ
النِّطَاقِ تُشَدُّ بِالْأَزْرَارِ
فَتَقْدِيرُهُ: [وَالْقَمِيصُ] «2» دِرْعٌ مُفَاضَةٌ. قَالَهُ
النَّحَّاسُ. وَقَالَ ابْنُ السُّدِّيِّ عَنْ أَبِيهِ عَنْ
مُجَاهِدٍ: قَالَ لَهُمْ يُوسُفُ:" اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هَذَا
فَأَلْقُوهُ عَلى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيراً" قَالَ: كَانَ
يُوسُفُ أَعْلَمَ بِاللَّهِ مِنْ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ
قَمِيصَهُ يَرُدُّ عَلَى يَعْقُوبَ بَصَرَهُ، وَلَكِنَّ ذَلِكَ
قَمِيصُ إِبْرَاهِيمَ الَّذِي أَلْبَسُهُ اللَّهُ فِي النَّارِ
مِنْ حَرِيرِ الْجَنَّةِ، وَكَانَ كَسَاهُ إِسْحَاقَ، وَكَانَ
إِسْحَاقُ كَسَاهُ يَعْقُوبَ، وَكَانَ يَعْقُوبُ أَدْرَجَ
ذَلِكَ الْقَمِيصَ فِي قَصَبَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَعَلَّقَهُ فِي
عُنُقِ يُوسُفَ، لِمَا كَانَ يَخَافُ عليه من
__________
(1). هو جرير.
(2). الزيادة عن النحاس.
(9/258)
وَلَمَّا فَصَلَتِ
الْعِيرُ قَالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ
لَوْلَا أَنْ تُفَنِّدُونِ (94) قَالُوا تَاللَّهِ إِنَّكَ
لَفِي ضَلَالِكَ الْقَدِيمِ (95) فَلَمَّا أَنْ جَاءَ
الْبَشِيرُ أَلْقَاهُ عَلَى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيرًا
قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا
لَا تَعْلَمُونَ (96) قَالُوا يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا
ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ (97) قَالَ سَوْفَ
أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ
الرَّحِيمُ (98) فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آوَى
إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقَالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ
اللَّهُ آمِنِينَ (99)
الْعَيْنِ، وَأَخْبَرَهُ جِبْرِيلُ بِأَنْ
أَرْسِلْ قَمِيصَكَ فَإِنَّ فيه ريح الجنة، و [إن «1»] رِيحَ
الْجَنَّةِ لَا يَقَعُ عَلَى سَقِيمٍ «2» وَلَا مُبْتَلًى
إِلَّا عُوفِيَ. وَقَالَ الْحَسَنُ: لَوْلَا أَنَّ اللَّهَ
تَعَالَى أَعْلَمَ يُوسُفَ بِذَلِكَ لَمْ يَعْلَمْ أَنَّهُ
يَرْجِعُ إِلَيْهِ بَصَرُهُ، وَكَانَ الَّذِي حَمَلَ قَمِيصَهُ
يَهُوذَا، قَالَ لِيُوسُفَ: أَنَا الَّذِي حَمَلْتُ إِلَيْهِ
قَمِيصَكَ بِدَمٍ كَذِبٍ فَأَحْزَنْتُهُ، وَأَنَا الَّذِي
أَحْمِلُهُ الْآنَ لِأُسِرَّهُ، وَلِيَعُودَ إِلَيْهِ
بَصَرُهُ، فَحَمَلَهُ، حَكَاهُ السُّدِّيُّ. (وَأْتُونِي
بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ) لِتَتَّخِذُوا مِصْرَ دَارًا. قَالَ
مَسْرُوقٌ: فَكَانُوا ثَلَاثَةً وَتِسْعِينَ، مَا بَيْنَ
رَجُلٍ وَامْرَأَةٍ. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ الْقَمِيصَ الَّذِي
بَعَثَهُ هُوَ الْقَمِيصُ الَّذِي قُدَّ مِنْ دبره، ليعلم
يعقوب أنه عصم من الزنى، وَالْقَوْلِ الْأَوَّلُ أَصَحُّ،
وَقَدْ رُوِيَ مَرْفُوعًا مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ عَنِ النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ذكره القشيري والله أعلم.
[سورة يوسف (12): الآيات 94 الى 99]
وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ
رِيحَ يُوسُفَ لَوْلا أَنْ تُفَنِّدُونِ (94) قالُوا تَاللَّهِ
إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ (95) فَلَمَّا أَنْ جاءَ
الْبَشِيرُ أَلْقاهُ عَلى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيراً قالَ
أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا
تَعْلَمُونَ (96) قالُوا يَا أَبانَا اسْتَغْفِرْ لَنا
ذُنُوبَنا إِنَّا كُنَّا خاطِئِينَ (97) قالَ سَوْفَ
أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ
الرَّحِيمُ (98)
فَلَمَّا دَخَلُوا عَلى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ
وَقالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ (99)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ) أَيْ
خَرَجَتْ مُنْطَلِقَةً مِنْ مِصْرَ إِلَى الشَّامِ، يُقَالُ:
فَصَلَ فُصُولًا، وَفَصَلْتُهُ فَصْلًا، فَهُوَ لَازِمٌ
وَمُتَعَدٍّ. (قالَ أَبُوهُمْ) أَيْ قَالَ لِمَنْ حَضَرَ مِنْ
قَرَابَتِهِ مِمَّنْ لَمْ يَخْرُجْ إِلَى مِصْرَ وَهُمْ وَلَدُ
وَلَدِهِ: (إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ). وَقَدْ يَحْتَمِلُ
أَنْ يَكُونَ خَرَجَ بَعْضُ بَنِيهِ، فَقَالَ لِمَنْ بَقِيَ:"
إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلا أَنْ تُفَنِّدُونِ".
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هَاجَتْ «3» رِيحٌ فَحَمَلَتْ رِيحَ
قَمِيصِ يُوسُفَ إِلَيْهِ، وَبَيْنَهُمَا مَسِيرَةُ ثَمَانِ
لَيَالٍ. وَقَالَ الْحَسَنُ: مَسِيرَةُ عَشْرِ لَيَالٍ،
__________
(1). من ى.
(2). في ى: هبت.
(3). من ى.
(9/259)
وَعَنْهُ أَيْضًا مَسِيرَةُ شَهْرٍ.
وَقَالَ مَالِكُ [بْنُ أَنَسٍ] «1» رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ:
إِنَّمَا أَوْصَلَ رِيحَهُ مَنْ أَوْصَلَ عَرْشَ بِلْقِيسِ
قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَى سُلَيْمَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ
طَرْفُهُ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: هَبَّتْ رِيحٌ فَصَفَقَتِ «2»
الْقَمِيصَ فَرَاحَتْ رَوَائِحُ الْجَنَّةِ فِي الدُّنْيَا
وَاتَّصَلَتْ بِيَعْقُوبَ، فَوَجَدَ رِيحَ الْجَنَّةِ فَعَلِمَ
أَنَّهُ لَيْسَ فِي الدُّنْيَا مِنْ رِيحِ الْجَنَّةِ إِلَّا
مَا كَانَ مِنْ ذَلِكَ الْقَمِيصِ، فَعِنْدَ ذَلِكَ قَالَ:"
إِنِّي لَأَجِدُ" أَيْ أَشُمُّ، فهو وجود بحاسة الشم. (لَوْلا
أَنْ تُفَنِّدُونِ) قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ: لَوْلَا
أَنْ تُسَفِّهُونِ، وَمِنْهُ قَوْلُ النَّابِغَةِ:
إِلَّا سُلَيْمَانَ إِذْ قَالَ الْمَلِيكُ لَهُ ... قُمْ فِي
الْبَرِيَّةِ فَاحْدُدْهَا عَنِ الْفَنَدِ «3»
أَيْ عَنِ السَّفَهِ. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ
وَالضَّحَّاكُ: لَوْلَا أَنْ تُكَذِّبُونِ. وَالْفَنَدُ
الْكَذِبُ. وَقَدْ أَفْنَدَ إِفْنَادًا كَذَبَ، وَمِنْهُ
قَوْلُ الشَّاعِرِ:
هَلْ فِي افْتِخَارِ الْكَرِيمِ مِنْ أَوَدِ «4» ... أَمْ هَلْ
لِقَوْلِ الصَّدُوقِ مِنْ فَنَدِ
أَيْ مِنْ كَذِبٍ. وَقِيلَ: لَوْلَا أَنْ تُقَبِّحُونَ،
قَالَهُ أَبُو عَمْرٍو، وَالتَّفْنِيدُ التَّقْبِيحُ، قَالَ
الشَّاعِرُ:
يَا صَاحِبَيَّ دَعَا لَوْمِي وَتَفْنِيدِي ... فَلَيْسَ مَا
فَاتَ مِنْ أَمْرِي بِمَرْدُودِ
وَقَالَ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ:" لَوْلا أَنْ تُفَنِّدُونِ"
لولا أن تضعفوا رأي، وَقَالَهُ ابْنُ إِسْحَاقَ. وَالْفَنَدُ
ضَعْفُ الرَّأْيِ مِنْ كِبَرٍ. وَقَوْلٌ رَابِعٌ:
تُضَلِّلُونَ، قَالَهُ أَبُو عُبَيْدَةَ. وَقَالَ الْأَخْفَشُ:
تَلُومُونِي، وَالتَّفْنِيدُ اللَّوْمُ وَتَضْعِيفُ الرَّأْيِ.
وَقَالَ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ وَمُجَاهِدٌ أَيْضًا:
تُهَرِّمُونَ، وَكُلُّهُ مُتَقَارِبُ الْمَعْنَى، وَهُوَ
رَاجِعٌ إِلَى التَّعْجِيزِ وَتَضْعِيفِ الرَّأْيِ، يُقَالُ:
فَنَّدَهُ تَفْنِيدًا إِذَا أَعْجَزَهُ، كَمَا قَالَ:
أَهْلَكَنِي بِاللَّوْمِ وَالتَّفْنِيدِ
وَيُقَالُ: أَفْنَدَ إِذَا تَكَلَّمَ بِالْخَطَأِ، وَالْفَنَدُ
الْخَطَأُ فِي الْكَلَامِ وَالرَّأْيِ، كَمَا قَالَ
النَّابِغَةُ:
... فَاحْدُدْهَا عَنِ الْفَنَدِ
أَيِ امْنَعْهَا عَنِ الْفَسَادِ فِي الْعَقْلِ، وَمِنْ ذَلِكَ
قِيلَ: اللَّوْمُ تَفْنِيدٌ، قَالَ الشَّاعِرُ:
يَا عَاذِلَيَّ دَعَا الْمَلَامَ وَأَقْصِرَا ... طَالَ
الْهَوَى وَأَطَلْتُمَا التَّفْنِيدَا
__________
(1). من ووى.
(2). صفقت الريح الشيء وصفقته إذا قلبته يمينا وشمالا ورددته.
(3). شبه الشاعر النعمان بسيدنا سليمان عليه السلام لعظم ملكه،
وقبل البيت:
ولا أرى فاعلا في الناس يشبهه ... ولا أحاشى من الأقوام من أحد
ويروى: فارددها. واحددها: احبسها. والفند أيضا الخطأ في الرأى.
والظلم أيضا.
(4). أود: عوج.
(9/260)
وَيُقَالُ: أَفْنَدَ فُلَانًا الدَّهْرُ
إِذَا أَفْسَدَهُ، وَمِنْهُ قَوْلُ ابْنُ مُقْبِلٍ:
دَعِ الدَّهْرَ يَفْعَلْ مَا أَرَادَ فَإِنَّهُ ... إِذَا
كُلِّفَ الْإِفْنَادَ بِالنَّاسِ أَفْنَدَا
قَوْلُهُ تَعَالَى: (قالُوا تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ
الْقَدِيمِ) أَيْ لَفِي ذَهَابٍ عَنْ طَرِيقِ الصَّوَابِ.
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ زَيْدٍ: لَفِي خَطَئِكَ
الْمَاضِي مِنْ حُبِّ يُوسُفَ لَا تَنْسَاهُ. وَقَالَ سَعِيدُ
بْنُ جُبَيْرٍ: لَفِي جُنُونِكَ الْقَدِيمِ. قَالَ الْحَسَنُ:
وَهَذَا عُقُوقٌ. وَقَالَ قَتَادَةُ وَسُفْيَانُ: لَفِي
مَحَبَّتِكَ الْقَدِيمَةِ. وَقِيلَ: إِنَّمَا قَالُوا هَذَا،
لِأَنَّ يُوسُفَ عِنْدَهُمْ كَانَ قَدْ مَاتَ. وَقِيلَ: إِنَّ
الَّذِي قَالَ لَهُ ذَلِكَ مَنْ بَقِيَ مَعَهُ مِنْ وَلَدِهِ
وَلَمْ يَكُنْ عِنْدَهُمُ الْخَبَرُ. وَقِيلَ: قَالَ لَهُ
ذَلِكَ مَنْ كَانَ مَعَهُ مِنْ أَهْلِهِ وَقَرَابَتِهِ.
وَقِيلَ: بَنُو بَنِيهِ وَكَانُوا صِغَارًا، فَاللَّهُ
أَعْلَمُ. قَوْلُهُ تَعَالَى: (فَلَمَّا أَنْ جاءَ الْبَشِيرُ
أَلْقاهُ عَلى وَجْهِهِ) أَيْ عَلَى عَيْنَيْهِ. (فَارْتَدَّ
بَصِيراً) " أَنْ" زَائِدَةٌ، وَالْبَشِيرُ قِيلَ هُوَ
شَمْعُونُ. وَقِيلَ: يَهُوذَا قَالَ: أَنَا أَذْهَبُ
بِالْقَمِيصِ الْيَوْمَ كَمَا ذَهَبْتُ بِهِ مُلَطَّخًا
بِالدَّمِ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ. وَعَنِ السُّدِّيِّ
أَنَّهُ قَالَ لِإِخْوَتِهِ: قَدْ عَلِمْتُمْ أَنِّي ذَهَبْتُ
إِلَيْهِ بِقَمِيصِ التَّرْحَةِ فَدَعُونِي أَذْهَبْ إِلَيْهِ
بِقَمِيصِ الْفَرْحَةِ. وَقَالَ يَحْيَى بْنُ يَمَانٍ عَنْ
سُفْيَانَ: لَمَّا جَاءَ الْبَشِيرُ إِلَى يَعْقُوبَ قَالَ
لَهُ: عَلَى أَيِّ دِينٍ تَرَكْتَ يُوسُفَ؟ قَالَ: عَلَى
الْإِسْلَامِ، قَالَ: الْآنَ تَمَّتِ النِّعْمَةُ، وَقَالَ
الْحَسَنُ: لَمَّا وَرَدَ الْبَشِيرُ عَلَى يَعْقُوبَ لَمْ
يَجِدْ عِنْدَهُ شَيْئًا يُثِيبُهُ بِهِ، فَقَالَ: وَاللَّهِ
مَا أَصَبْتَ عِنْدَنَا شَيْئًا، وَمَا خَبَزْنَا شَيْئًا
مُنْذُ سَبْعِ لَيَالٍ، وَلَكِنْ هَوَّنَ اللَّهُ عَلَيْكَ
سَكَرَاتِ الْمَوْتِ. قُلْتُ: وَهَذَا الدُّعَاءُ مِنْ
أَعْظَمِ مَا يَكُونُ مِنَ الْجَوَائِزِ، وَأَفْضَلِ
الْعَطَايَا وَالذَّخَائِرِ. وَدَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى
جَوَازِ الْبَذْلِ وَالْهِبَاتِ عِنْدَ الْبَشَائِرِ. وَفِي
الْبَابِ حَدِيثُ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ- الطَّوِيلُ- وَفِيهِ:"
فَلَمَّا جَاءَنِي الَّذِي سَمِعْتُ صَوْتَهُ يُبَشِّرُنِي
نَزَعْتُ ثَوْبَيَّ فَكَسَوْتُهُمَا إِيَّاهُ بِبِشَارَتِهِ"
وَذَكَرَ الْحَدِيثَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بِكَمَالِهِ فِي
قِصَّةِ الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا «1»، وَكِسْوَةُ
كَعْبٍ ثَوْبَيْهِ لِلْبَشِيرِ مَعَ كَوْنِهِ لَيْسَ لَهُ
غَيْرُهُمَا دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ مِثْلِ ذَلِكَ إِذَا
ارْتَجَى حُصُولَ ما يستبشر به. وهو دليل على
__________
(1). راجع ج 8 ص 282 فما بعد.
(9/261)
جَوَازِ إِظْهَارِ الْفَرَحِ بَعْدَ
زَوَالِ الْغَمِّ وَالتَّرَحِ. وَمِنْ هَذَا الْبَابِ جَوَازُ
حِذَاقَةِ «1» الصِّبْيَانِ، وَإِطْعَامِ الطعام فيها، وقد
نَحَرَ عُمَرُ بَعْدَ [حِفْظِهِ] «2» سُورَةَ" الْبَقَرَةِ"
جَزُورًا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. قَوْلُهُ تَعَالَى: (قالَ
أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا
تَعْلَمُونَ) ذكرهم قوله:"نَّما أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي
إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ
" [يوسف: 86]. قَوْلُهُ تَعَالَى: (قالُوا يَا أَبانَا
اسْتَغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا إِنَّا كُنَّا خاطِئِينَ) فِي
الْكَلَامِ حَذْفٌ، التَّقْدِيرُ: فَلَمَّا رَجَعُوا مِنْ
مِصْرَ قَالُوا يَا أَبَانَا، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ
الَّذِي قَالَ لَهُ:" تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ
الْقَدِيمِ" بَنُو بَنِيهِ أَوْ غَيْرُهُمْ مِنْ قَرَابَتِهِ
وَأَهْلِهِ لَا وَلَدُهُ، فَإِنَّهُمْ كَانُوا غُيَّبًا،
وَكَانَ يَكُونُ ذَلِكَ زِيَادَةً فِي الْعُقُوقِ. وَاللَّهُ
أَعْلَمُ. وَإِنَّمَا سَأَلُوهُ الْمَغْفِرَةَ، لِأَنَّهُمْ
أَدْخَلُوا عَلَيْهِ مِنْ أَلَمِ الْحُزْنِ مَا لَمْ يَسْقُطِ
الْمَأْثَمُ عَنْهُ إِلَّا بِإِحْلَالِهِ. قُلْتُ: وَهَذَا
الْحُكْمُ ثَابِتٌ فِيمَنْ آذَى مُسْلِمًا فِي نَفْسِهِ أَوْ
مَالِهِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ ظَالِمًا لَهُ، فَإِنَّهُ يَجِبُ
عَلَيْهِ أَنْ يَتَحَلَّلَ لَهُ «3» وَيُخْبِرَهُ
بِالْمَظْلِمَةِ «4» وَقَدْرِهَا، وَهَلْ يَنْفَعُهُ
التَّحْلِيلُ الْمُطْلَقُ أَمْ لَا؟ فِيهِ خِلَافٌ،
وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا يَنْفَعُ، فَإِنَّهُ لَوْ أَخْبَرَهُ
بِمَظْلِمَةٍ لَهَا قَدْرٌ وَبَالٌ رُبَّمَا لَمْ تَطِبْ
نَفْسُ الْمَظْلُومِ فِي التَّحَلُّلِ مِنْهَا. وَاللَّهُ
أَعْلَمُ. وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ وَغَيْرِهِ عَنْ أَبِي
هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ:" مَنْ كَانَتْ لَهُ مظلمة لأخيه من عرضه أو شي
فَلْيُحْلِلْهُ مِنْهُ الْيَوْمَ قَبْلَ أَلَّا يَكُونَ
دِينَارٌ وَلَا دِرْهَمٌ إِنْ كَانَ لَهُ عَمَلٌ صَالِحٌ
أُخِذَ مِنْهُ بِقَدْرِ مَظْلَمَتِهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ
حَسَنَاتٌ أُخِذَ مِنْ سَيِّئَاتِ صَاحِبِهِ فَحُمِلَ
عَلَيْهِ" قَالَ الْمُهَلَّبُ فَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" أَخَذَ مِنْهُ بِقَدْرِ مَظْلِمَتِهِ"
يَجِبُ أَنْ تَكُونَ الْمَظْلِمَةُ مَعْلُومَةَ الْقَدْرِ
مُشَارًا إِلَيْهَا مُبَيَّنَةً، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. قَوْلُهُ
تَعَالَى: (قالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي) قَالَ
ابْنُ عَبَّاسٍ: أَخَّرَ دُعَاءَهُ إِلَى السَّحَرِ. وَقَالَ
الْمُثَنَّى بْنُ الصَّبَّاحِ عَنْ طَاوُسٍ قَالَ: سَحَرُ
لَيْلَةِ الْجُمْعَةِ، وَوَافَقَ ذَلِكَ لَيْلَةَ عَاشُورَاءَ.
وَفِي دُعَاءِ الْحِفْظِ- مِنْ كِتَابِ التِّرْمِذِيِّ- عَنِ
ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: بَيْنَمَا نحن عند رسول الله
__________
(1). حذق الغلام القرآن: مهر فيه. في ع: جواز الفرح بحذاق
الصبيان.
(2). من ا، ع، ك، و، ى.
(3). في ع وك: منه. [ ..... ]
(4). مظلمة (بكسر اللام) وحكى فتحها.
(9/262)
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذْ
جَاءَهُ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-
فَقَالَ:- بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي- تَفَلَّتَ هَذَا
الْقُرْآنُ مِنْ صَدْرِي، فَمَا أَجِدُنِي أَقْدِرُ عَلَيْهِ،
فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ:" أَفَلَا أُعَلِّمُكَ كَلِمَاتٍ يَنْفَعُكَ اللَّهُ
بِهِنَّ وَيَنْفَعُ بِهِنَّ مَنْ عَلَّمْتَهُ وَيُثَبِّتُ مَا
تَعَلَّمْتَ فِي صَدْرِكَ" قَالَ: أَجَلْ يَا رَسُولَ اللَّهِ!
فَعَلِّمْنِي، قَالَ:" إِذَا كَانَ لَيْلَةُ الْجُمْعَةِ
فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَقُومَ فِي ثُلُثِ اللَّيْلِ
الْآخِرِ فَإِنَّهَا سَاعَةٌ مَشْهُودَةٌ وَالدُّعَاءُ فِيهَا
مُسْتَجَابٌ وَقَدْ قَالَ أَخِي يَعْقُوبَ لِبَنِيهِ" سَوْفَ
أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي" يَقُولُ حَتَّى تَأْتِيَ لَيْلَةُ
الْجُمْعَةِ" وَذَكَرَ الْحَدِيثَ. وَقَالَ أَيُّوبُ بْنُ
أَبِي تَمِيمَةَ السِّخْتِيَانِيُّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ
قَالَ:" سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي" فِي اللَّيَالِي
الْبِيضِ، فِي الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ، وَالرَّابِعَةَ
عَشْرَةَ، وَالْخَامِسَةَ عَشْرَةَ فَإِنَّ الدُّعَاءَ فِيهَا
مُسْتَجَابٌ. وَعَنْ عَامِرٍ الشَّعْبِيِّ قَالَ:" سَوْفَ
أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي" أَيْ أَسْأَلُ يُوسُفَ إِنْ عَفَا
عَنْكُمُ اسْتَغْفَرْتُ لَكُمْ رَبِّي، وَذَكَرَ سُنَيْدُ بْنُ
دَاوُدَ قَالَ: حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ قَالَ حَدَّثَنَا عَبْدُ
الرَّحْمَنِ بْنُ إِسْحَاقَ عَنْ مُحَارِبِ بْنِ دِثَارٍ عَنْ
عَمِّهِ قَالَ: كُنْتُ آتِي الْمَسْجِدَ فِي السَّحَرِ
فَأَمُرُّ بِدَارِ ابْنِ مَسْعُودٍ فَأَسْمَعُهُ يَقُولُ:
اللَّهُمَّ إِنَّكَ أَمَرْتَنِي فَأَطَعْتُ، وَدَعَوْتَنِي
فَأَجَبْتُ، وَهَذَا سَحَرٌ فَاغْفِرْ لِي، فَلَقِيتُ ابْنَ
مَسْعُودٍ فَقُلْتُ: كَلِمَاتٌ أَسْمَعُكُ تَقُولُهُنَّ فِي
السَّحَرِ فَقَالَ: إِنَّ يَعْقُوبَ أَخَّرَ بَنِيهِ إِلَى
السَّحَرِ بِقَوْلِهِ:" سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي".
قَوْلُهُ تَعَالَى: (فَلَمَّا دَخَلُوا عَلى يُوسُفَ) أَيْ
قَصْرًا كَانَ لَهُ هُنَاكَ. (آوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ)
قِيلَ: إِنَّ يُوسُفَ بَعَثَ مَعَ الْبَشِيرِ مِائَتَيْ
رَاحِلَةٍ وَجَهَازًا، وَسَأَلَ يَعْقُوبَ أَنْ يَأْتِيَهُ
بِأَهْلِهِ وَوَلَدِهِ جَمِيعًا، فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ
آوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ، أَيْ ضَمَّ، وَيَعْنِي بِأَبَوَيْهِ
أَبَاهُ وَخَالَتَهُ، وَكَانَتْ أُمُّهُ قَدْ مَاتَتْ فِي
وِلَادَةِ أَخِيهِ بِنْيَامِينَ. وَقِيلَ: أَحْيَا اللَّهُ
[لَهُ] «1» أُمَّهُ تَحْقِيقًا لِلرُّؤْيَا حَتَّى سَجَدَتْ
لَهُ، قَالَهُ الْحَسَنُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي" الْبَقَرَةِ"
أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَحْيَا لِنَبِيِّهِ عَلَيْهِ
السَّلَامُ أَبَاهُ وَأُمَّهُ فَآمَنَا بِهِ. قَوْلُهُ
تَعَالَى: (ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ)
قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: أَيْ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي
إِنْ شَاءَ اللَّهُ، قَالَ: وَهَذَا مِنْ تَقْدِيمِ الْقُرْآنِ
وَتَأْخِيرِهِ، قَالَ النَّحَّاسُ: يَذْهَبُ ابْنُ جُرَيْجٍ
إِلَى أَنَّهُمْ قَدْ دَخَلُوا مِصْرَ فَكَيْفَ يَقُولُ:"
ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شاءَ اللَّهُ". وَقِيلَ: إِنَّمَا
قَالَ:" إِنْ شاءَ اللَّهُ" تَبَرُّكًا وَجَزْمًا." آمِنِينَ"
مِنَ الْقَحْطِ، أَوْ مِنْ فِرْعَوْنَ، وَكَانُوا لَا
يَدْخُلُونَهَا إِلَّا بِجَوَازِهِ.
__________
(1). من اوع وى.
(9/263)
وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ
عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا وَقَالَ يَا أَبَتِ
هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي
حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ
وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ
الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ
لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (100)
[سورة يوسف (12): آية 100]
وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً
وَقالَ يا أَبَتِ هذا تَأْوِيلُ رُءْيايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ
جَعَلَها رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي
مِنَ السِّجْنِ وَجاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ
نَزَغَ الشَّيْطانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي
لَطِيفٌ لِما يَشاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (100)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ)
قَالَ قَتَادَةُ: يريد السرير، وقد تقدمت محامله، قد يُعَبَّرُ
بِالْعَرْشِ عَنِ الْمُلْكِ وَالْمَلِكِ نَفْسِهِ، وَمِنْهُ
قَوْلُ النَّابِغَةِ الذُّبْيَانِيِّ:
عُرُوشٌ تَفَانَوْا بَعْدَ عِزٍّ وَأَمْنَةٍ
وَقَدْ تَقَدَّمَ «1». قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَخَرُّوا لَهُ
سُجَّداً). فِيهِ ثَلَاثُ مَسَائِلَ: الْأُولَى- قَوْلُهُ
تَعَالَى:" وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً" الْهَاءُ فِي" خَرُّوا
لَهُ" قِيلَ: إِنَّهَا تَعُودُ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى،
الْمَعْنَى: وَخَرُّوا شُكْرًا لِلَّهِ سُجَّدًا، وَيُوسُفُ
كَالْقِبْلَةِ لِتَحْقِيقِ روياه، وَرُوِيَ عَنِ الْحَسَنِ،
قَالَ النَّقَّاشُ: وَهَذَا خَطَأٌ، وَالْهَاءُ رَاجِعَةٌ
إِلَى يُوسُفَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى فِي أول السورة:"
رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ" [يوسف: 4]. وَكَانَ تَحِيَّتَهُمْ
أَنْ يَسْجُدَ الْوَضِيعُ لِلشَّرِيفِ، وَالصَّغِيرُ
لِلْكَبِيرِ، سَجَدَ يَعْقُوبُ وَخَالَتُهُ وَإِخْوَتُهُ
لِيُوسُفَ عَلَيْهِ السلام، فاقشعر جلده وقال:" هذا تَأْوِيلُ
رُءْيايَ مِنْ قَبْلُ" وَكَانَ بَيْنَ رُؤْيَا يُوسُفَ
وَبَيْنَ تَأْوِيلِهَا اثْنَتَانِ وَعِشْرُونَ سَنَةً. وَقَالَ
سَلْمَانُ الْفَارِسِيُّ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ شَدَّادٍ:
أَرْبَعُونَ سَنَةً، قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ شَدَّادٍ:
وَذَلِكَ آخِرُ مَا تُبْطِئُ الرُّؤْيَا. وَقَالَ قَتَادَةُ:
خَمْسٌ وَثَلَاثُونَ سَنَةً. وَقَالَ السُّدِّيُّ وَسَعِيدُ
بْنُ جُبَيْرٍ وَعِكْرِمَةُ: سِتٌّ وَثَلَاثُونَ سَنَةً.
وَقَالَ الْحَسَنُ وَجِسْرُ بْنُ فَرْقَدٍ وفضيل ابن عِيَاضٍ:
ثَمَانُونَ سَنَةٍ. وَقَالَ وَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ: أُلْقِيَ
يُوسُفُ فِي الْجُبِّ وَهُوَ ابْنُ سَبْعَ عَشْرَةَ سَنَةً،
وَغَابَ عَنْ أَبِيهِ ثَمَانِينَ سَنَةً، وَعَاشَ بَعْدَ أَنِ
الْتَقَى بِأَبِيهِ ثَلَاثًا وَعِشْرِينَ
__________
(1). راجع ج 7 ص 220.
(9/264)
سَنَةً، وَمَاتَ وَهُوَ ابْنُ مِائَةٍ
وَعِشْرِينَ سَنَةً. وَفِي التَّوْرَاةِ مِائَةٌ وَسِتٌّ
وَعِشْرُونَ سَنَةً. وَوُلِدَ لِيُوسُفَ مِنَ امْرَأَةِ
الْعَزِيزِ إِفْرَاثِيمُ ومنشا وَرَحْمَةُ امْرَأَةُ أَيُّوبَ.
وَبَيْنَ يُوسُفَ وَمُوسَى أَرْبَعُمِائَةِ سَنَةٍ. وَقِيلَ:
إِنَّ يَعْقُوبَ بَقِيَ عِنْدَ يُوسُفَ عِشْرِينَ سَنَةً،
ثُمَّ تُوُفِّيَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقِيلَ:
أَقَامَ عِنْدَهُ ثَمَانِيَ عَشْرَةَ سَنَةً. وَقَالَ بعض
المحدثين: بعضا وَأَرْبَعِينَ سَنَةً، وَكَانَ بَيْنَ
يَعْقُوبَ وَيُوسُفَ ثَلَاثٌ وَثَلَاثُونَ سَنَةً حَتَّى
جَمَعَهُمُ اللَّهُ. وَقَالَ ابْنُ إسحاق: ثماني عشرة سنة،
والله أعلم. الثاني- قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ عَنْ
قَتَادَةَ عَنِ الْحَسَنِ: فِي قَوْلِهِ:" وَخَرُّوا لَهُ
سُجَّداً"- قَالَ: لَمْ يَكُنْ سُجُودًا، لَكِنَّهُ سُنَّةٌ
كَانَتْ فِيهِمْ، يُومِئُونَ بِرُءُوسِهِمْ إِيمَاءً، كَذَلِكَ
كَانَتْ تَحِيَّتُهُمْ. وَقَالَ الثَّوْرِيُّ وَالضَّحَّاكُ
وَغَيْرُهُمَا: كَانَ سُجُودًا كَالسُّجُودِ الْمَعْهُودِ
عِنْدَنَا، وَهُوَ كَانَ تَحِيَّتَهُمْ. وَقِيلَ: كَانَ
انْحِنَاءً كَالرُّكُوعِ، وَلَمْ يَكُنْ خُرُورًا عَلَى
الْأَرْضِ، وَهَكَذَا كَانَ سَلَامُهُمْ بِالتَّكَفِّي
وَالِانْحِنَاءِ، وَقَدْ نَسَخَ اللَّهُ ذَلِكَ كُلَّهُ فِي
شَرْعِنَا، وَجَعَلَ الْكَلَامَ بَدَلًا عَنِ الِانْحِنَاءِ.
وَأَجْمَعَ الْمُفَسِّرُونَ أَنَّ ذَلِكَ السُّجُودَ عَلَى
أَيِّ وَجْهٍ كَانَ فَإِنَّمَا كَانَ تَحِيَّةً لَا عِبَادَةً،
قَالَ قَتَادَةُ: هَذِهِ كَانَتْ تَحِيَّةَ الْمُلُوكِ
عِنْدَهُمْ، وَأَعْطَى اللَّهُ هَذِهِ الْأُمَّةَ السَّلَامَ
تَحِيَّةَ أَهْلِ الْجَنَّةِ. قُلْتُ: هَذَا الِانْحِنَاءُ
وَالتَّكَفِّي الَّذِي نُسِخَ عَنَّا قَدْ صَارَ عَادَةً
بِالدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ، وَعِنْدَ الْعَجَمِ، وَكَذَلِكَ
قِيَامُ بَعْضِهِمْ إِلَى بَعْضٍ، حَتَّى إِنَّ أَحَدَهُمْ
إِذَا لَمْ يَقُمْ لَهُ وَجَدَ فِي نَفْسِهِ كَأَنَّهُ لَا
يُؤْبَهُ بِهِ، وَأَنَّهُ لَا قَدْرَ لَهُ، وَكَذَلِكَ إِذَا
الْتَقَوُا انْحَنَى بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ، عَادَةٌ
مُسْتَمِرَّةٌ، وَوِرَاثَةٌ مُسْتَقِرَّةٌ لَا سِيَّمَا عِنْدَ
الْتِقَاءِ الْأُمَرَاءِ وَالرُّؤَسَاءِ. نَكَبُوا عَنِ
السُّنَنِ، وَأَعْرَضُوا عَنِ السُّنَنِ. وَرَوَى أَنَسُ بْنُ
مَالِكٍ قَالَ: قُلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيَنْحَنِي
بَعْضُنَا إِلَى بَعْضٍ إِذَا الْتَقَيْنَا؟ قَالَ:" لَا"،
قُلْنَا: أَفَيَعْتَنِقُ بَعْضُنَا بَعْضًا؟ قَالَ" لَا".
قُلْنَا: أَفَيُصَافِحُ بَعْضُنَا بَعْضًا؟ قَالَ" نَعَمْ".
خَرَّجَهُ أَبُو عُمَرَ فِي" التَّمْهِيدِ" فَإِنْ قِيلَ:
فَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ:" قُومُوا إِلَى سَيِّدِكُمْ وَخَيْرِكُمْ"- يَعْنِي
سَعْدَ بْنَ مُعَاذٍ- قُلْنَا: ذَلِكَ مَخْصُوصٌ بِسَعْدٍ
لِمَا تَقْتَضِيهِ الْحَالُ الْمُعَيَّنَةُ، وَقَدْ قِيلَ:
إِنَّمَا كَانَ قِيَامُهُمْ لِيُنْزِلُوهُ عَنِ الْحِمَارِ،
وَأَيْضًا فَإِنَّهُ يَجُوزُ لِلرَّجُلِ الْكَبِيرِ إِذَا لَمْ
يُؤَثِّرْ ذَلِكَ فِي نَفْسِهِ، فَإِنْ أَثَّرَ فِيهِ
وَأُعْجِبَ بِهِ وَرَأَى لِنَفْسِهِ حَظًّا لَمْ يَجُزْ
عَوْنُهُ عَلَى ذَلِكَ،
(9/265)
لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ:" مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَتَمَثَّلَ لَهُ النَّاسُ
قِيَامًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ". وَجَاءَ
عَنِ الصَّحَابَةِ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ
أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ وَجْهٌ أَكْرَمُ عَلَيْهِمْ مِنْ وَجْهُ
رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمَا
كَانُوا يَقُومُونَ لَهُ إِذَا رَأَوْهُ، لِمَا يَعْرِفُونَ
مِنْ كَرَاهَتِهِ لِذَلِكَ. الثَّالِثَةُ- فَإِنْ قِيلَ: فَمَا
تَقُولُ فِي الْإِشَارَةِ بِالْإِصْبَعِ؟ قِيلَ لَهُ: ذَلِكَ
جَائِزٌ إِذَا بَعُدَ عَنْكَ، لِتُعَيِّنَ لَهُ بِهِ وَقْتَ
السَّلَامِ، فَإِنْ كَانَ دَانِيًا فَلَا، وَقَدْ قِيلَ
بِالْمَنْعِ فِي الْقُرْبِ وَالْبُعْدِ، لِمَا جَاءَ عَنْ
رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ
قَالَ:" مَنْ تَشَبَّهَ بِغَيْرِنَا فَلَيْسَ مِنَّا".
وَقَالَ:" لَا تُسَلِّمُوا تَسْلِيمَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى
فَإِنَّ تَسْلِيمَ الْيَهُودِ بِالْأَكُفِّ وَالنَّصَارَى
بِالْإِشَارَةِ". وَإِذَا سَلَّمَ فَإِنَّهُ لَا يَنْحَنِي،
وَلَا أَنْ يُقَبِّلَ مَعَ السَّلَامِ يَدَهُ، وَلِأَنَّ
الِانْحِنَاءَ عَلَى مَعْنَى التَّوَاضُعِ لَا يَنْبَغِي
إِلَّا لِلَّهِ. وَأَمَّا تَقْبِيلُ الْيَدِ فَإِنَّهُ مِنْ
فِعْلِ الْأَعَاجِمِ، وَلَا يُتَّبَعُونَ عَلَى أَفْعَالِهِمُ
الَّتِي أَحْدَثُوهَا تَعْظِيمًا مِنْهُمْ لِكُبَرَائِهِمْ،
قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" لَا
تَقُومُوا عِنْدَ رَأْسِي كَمَا تَقُومُ الْأَعَاجِمُ عِنْدَ
رُءُوسِ أَكَاسِرَتِهَا" فَهَذَا مِثْلُهُ. وَلَا بَأْسَ
بِالْمُصَافَحَةِ، فَقَدْ صَافَحَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَعْفَرَ بْنَ أَبِي طَالِبٍ حِينَ قَدِمَ
مِنَ الْحَبَشَةِ، وَأَمَرَ بِهَا، وَنَدَبَ إِلَيْهَا،
وَقَالَ:" تَصَافَحُوا يَذْهَبِ الْغِلُّ" وَرَوَى غَالِبٌ
التَّمَّارُ عَنِ الشَّعْبِيِّ أَنَّ أَصْحَابَ النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانُوا إِذَا الْتَقَوْا
تَصَافَحُوا، وَإِذَا قَدِمُوا مِنْ سَفَرٍ تَعَانَقُوا «1»،
فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ كَرِهَ مَالِكٌ الْمُصَافَحَةَ؟ قُلْنَا:
رَوَى ابْنُ وَهْبٍ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ كَرِهَ
الْمُصَافَحَةَ وَالْمُعَانَقَةَ، وَذَهَبَ إِلَى هَذَا
سُحْنُونٌ وَغَيْرُهُ مِنْ أَصْحَابِنَا، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ
مَالِكٍ خِلَافَ ذَلِكَ مِنْ جَوَازِ الْمُصَافَحَةِ، وَهُوَ
الَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ مَعْنَى مَا فِي الْمُوَطَّأِ،
وَعَلَى جَوَازِ الْمُصَافَحَةِ جَمَاعَةُ الْعُلَمَاءِ مِنَ
السَّلَفِ وَالْخَلَفِ. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: إِنَّمَا
كَرِهَ مَالِكٌ الْمُصَافَحَةَ لِأَنَّهُ لَمْ يَرَهَا أَمْرًا
عَامًّا فِي الدِّينِ، وَلَا مَنْقُولًا نَقْلَ السَّلَامِ،
وَلَوْ كَانَتْ مِنْهُ «2» لَاسْتَوَى مَعَهُ. قُلْتُ: قَدْ
جَاءَ فِي الْمُصَافَحَةِ حَدِيثٌ يَدُلُّ عَلَى التَّرْغِيبِ
فِيهَا، وَالدَّأَبِ عَلَيْهَا وَالْمُحَافَظَةِ، وَهُوَ مَا
رَوَاهُ الْبَرَاءُ بْنُ عَازِبٍ قَالَ: لَقِيتُ رَسُولَ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فَأَخَذَ بِيَدَيَّ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ!
إِنْ كُنْتُ لَأَحْسِبُ أَنَّ الْمُصَافَحَةَ لِلْأَعَاجِمِ؟
فَقَالَ:" نَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُصَافَحَةِ مِنْهُمْ مأمن
مُسْلِمَيْنِ يَلْتَقِيَانِ فَيَأْخُذُ أَحَدُهُمَا بِيَدِ
صَاحِبِهِ مَوَدَّةً بينهما ونصيحة إلا ألقيت ذنوبها بينهما".
__________
(1). في اوع وك وى: الرابعة. ويلاحظ أن المسائل ثلاث.
(2). في ع، و، ى: سنة.
(9/266)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَقَدْ أَحْسَنَ بِي
إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ) وَلَمْ يَقُلْ مِنَ الْجُبِّ
اسْتِعْمَالًا لِلْكَرَمِ، لِئَلَّا يُذَكِّرَ إِخْوَتَهُ
صَنِيعَهُمْ بَعْدَ عَفْوِهِ [عَنْهُمْ «1»] بِقَوْلِهِ:" لَا
تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ". قُلْتُ: وَهَذَا هُوَ الْأَصْلُ عِنْدَ
مَشَايِخِ الصُّوفِيَّةِ: ذِكْرُ الْجَفَا فِي وَقْتِ الصَّفَا
جَفَا، وَهُوَ قَوْلٌ صَحِيحٌ دل عليه الكتاب. وقيل: لأن في
دخول السِّجْنَ كَانَ بِاخْتِيَارِهِ بِقَوْلِهِ:" رَبِّ
السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ"
[يوسف: 33] وَكَانَ فِي الْجُبِّ بِإِرَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى
لَهُ. وَقِيلَ: لِأَنَّهُ كَانَ فِي السِّجْنِ مَعَ اللُّصُوصِ
وَالْعُصَاةِ، وَفِي الْجُبِّ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى،
وَأَيْضًا فَإِنَّ الْمِنَّةَ فِي النَّجَاةِ مِنَ السِّجْنِ
كَانَتْ أكبر، لأنه دخله بسبب أمرهم بِهِ، وَأَيْضًا دَخَلَهُ
بِاخْتِيَارِهِ إِذْ قَالَ:" رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ"
فَكَانَ الْكَرْبُ فِيهِ أَكْثَرَ، وقال فيه أيضا:" اذْكُرْنِي
عِنْدَ رَبِّكَ" [يوسف: 42] فَعُوقِبَ فِيهِ. (وَجاءَ بِكُمْ
مِنَ الْبَدْوِ) يُرْوَى أَنَّ مَسْكَنَ يَعْقُوبَ كَانَ
بِأَرْضِ كَنْعَانَ، وَكَانُوا أَهْلُ مَوَاشٍ وَبَرِّيَّةٍ،
وَقِيلَ: كَانَ يَعْقُوبُ تَحَوَّلَ إِلَى بَادِيَةٍ
وَسَكَنَهَا، وَأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَبْعَثْ نَبِيًّا مِنْ
أَهْلِ الْبَادِيَةِ. وَقِيلَ: إِنَّهُ كَانَ خَرَجَ إِلَى
بَدَا، وَهُوَ مَوْضِعٌ، وَإِيَّاهُ عَنَى جَمِيلٌ بِقَوْلِهِ:
وَأَنْتِ الَّتِي حَبَّبْتِ شَغْبًا «2» إِلَى بَدَا ...
إِلَيَّ وَأَوْطَانِي بِلَادٌ سِوَاهُمَا
وَلِيَعْقُوبَ بِهَذَا الْمَوْضِعِ مَسْجِدٌ تَحْتَ جَبَلٍ.
يُقَالُ: بَدَا الْقَوْمُ بَدْوًا إِذَا أَتَوْا بَدَا، كَمَا
يُقَالُ: غَارُوا غَوْرًا أَيْ أَتَوُا الْغَوْرَ،
وَالْمَعْنَى: وَجَاءَ بِكُمْ مِنْ مَكَانِ بَدَا، ذَكَرَهُ
الْقُشَيْرِيُّ، وَحَكَاهُ الْمَاوَرْدِيُّ عَنِ الضَّحَّاكِ
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. (مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطانُ
بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي) بِإِيقَاعِ الْحَسَدِ، قَالَهُ
ابْنُ عَبَّاسٍ. وَقِيلَ: أَفْسَدَ مَا بَيْنِي وَبَيْنَ
إِخْوَتِي، أَحَالَ ذَنْبَهُمْ عَلَى الشَّيْطَانِ تَكَرُّمًا
مِنْهُ. (إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِما يَشاءُ) أَيْ رَفِيقٌ
بِعِبَادِهِ. وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ: اللَّطِيفُ هُوَ
الْبَرُّ بِعِبَادِهِ الَّذِي يَلْطُفُ بِهِمْ مِنْ حَيْثُ لَا
يَعْلَمُونَ، وَيُسَبِّبُ لَهُمْ مَصَالِحَهُمْ مِنْ حَيْثُ
لَا يَحْتَسِبُونَ، كَقَوْلِهِ:" اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبادِهِ
يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ «3» " [الشورى: 19]. وَقِيلَ: اللَّطِيفُ
الْعَالِمُ بِدَقَائِقِ الْأُمُورِ، وَالْمُرَادُ هُنَا
الْإِكْرَامُ وَالرِّفْقُ. قَالَ قَتَادَةُ، لَطَفَ بِيُوسُفَ
بِإِخْرَاجِهِ مِنَ السِّجْنِ، وَجَاءَهُ بِأَهْلِهِ مِنَ
الْبَدْوِ، وَنَزَعَ عَنْ قَلْبِهِ نَزْغَ الشَّيْطَانِ.
وَيُرْوَى أَنَّ يَعْقُوبَ لَمَّا قَدِمَ بِأَهْلِهِ
وَوَلَدِهِ وَشَارَفَ أَرْضَ مِصْرَ وَبَلَغَ ذَلِكَ يُوسُفَ
اسْتَأْذَنَ فِرْعَوْنَ- وَاسْمُهُ الرَّيَّانُ- أَنْ يَأْذَنَ
لَهُ فِي تَلَقِّي أَبِيهِ يَعْقُوبَ، وأخبره
__________
(1). من ع وك.
(2). شغب: موضع بين المدينة والشام. و (بدا) يروى منونا وغير
منون.
(3). راجع ج 16 ص 16.
(9/267)
قدومه فَأَذِنَ لَهُ، وَأَمَرَ الْمَلَأَ
مِنْ أَصْحَابِهِ بِالرُّكُوبِ مَعَهُ، فَخَرَجَ يُوسُفُ
وَالْمَلِكُ مَعَهُ فِي أَرْبَعَةِ آلَافٍ مِنَ الْأُمَرَاءِ
مَعَ كُلِّ أَمِيرٍ خَلْقٌ اللَّهُ أَعْلَمُ بِهِمْ، وَرَكِبَ
أَهْلُ مِصْرَ مَعَهُمْ يَتَلَقَّوْنَ يَعْقُوبَ، فَكَانَ
يَعْقُوبُ يَمْشِي مُتَّكِئًا عَلَى يَدِ يَهُوذَا، فَنَظَرَ
يَعْقُوبُ إِلَى الْخَيْلِ وَالنَّاسِ وَالْعَسَاكِرِ فَقَالَ:
يَا يَهُوذَا! هَذَا فِرْعَوْنُ مِصْرَ؟ قَالَ: لَا، بَلْ
هَذَا ابْنُكَ يُوسُفُ، فَلَمَّا دَنَا كُلُّ وَاحِدٍ
مِنْهُمَا مِنْ صَاحِبِهِ ذَهَبَ يُوسُفُ لِيَبْدَأهُ
بِالسَّلَامِ فَمُنِعَ «1» مِنْ ذَلِكَ، وَكَانَ يَعْقُوبُ
أَحَقَّ بِذَلِكَ مِنْهُ وَأَفْضَلَ، فَابْتَدَأَ يَعْقُوبُ
بِالسَّلَامِ فَقَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكَ يَا مُذْهِبَ
الْأَحْزَانِ، وَبَكَى وَبَكَى مَعَهُ يُوسُفُ، فَبَكَى
يَعْقُوبُ فَرَحًا، وَبَكَى يُوسُفُ لِمَا رَأَى بِأَبِيهِ
مِنَ الْحُزْنِ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَالْبُكَاءُ
أَرْبَعَةٌ، بُكَاءٌ مِنَ الْخَوْفِ، وَبُكَاءٌ مِنَ
الْجَزَعِ، وَبُكَاءٌ مِنَ الْفَرَحِ، وَبُكَاءُ رِيَاءٍ.
ثُمَّ قَالَ يَعْقُوبُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَقَرَّ
عَيْنَيَّ بَعْدَ الْهُمُومِ وَالْأَحْزَانِ، وَدَخَلَ مِصْرَ
فِي اثْنَيْنِ وَثَمَانِينَ مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ، فَلَمْ
يَخْرُجُوا مِنْ مِصْرَ حَتَّى بَلَغُوا سِتَّمِائَةِ أَلْفٍ
وَنَيِّفَ أَلْفٍ، وَقَطَعُوا الْبَحْرَ مَعَ مُوسَى عَلَيْهِ
السَّلَامُ، رَوَاهُ عِكْرِمَةُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَحَكَى
ابْنُ مَسْعُودٍ أَنَّهُمْ دَخَلُوا مِصْرَ وَهُمْ ثَلَاثَةٌ
وَتِسْعُونَ إِنْسَانًا مَا بَيْنَ رَجُلٍ وَامْرَأَةٍ،
وَخَرَجُوا مَعَ مُوسَى وَهُمْ سِتُّمِائَةِ [أَلْفٍ] «2»
وَسَبْعُونَ أَلْفًا. وَقَالَ الرَّبِيعُ بْنُ خَيْثَمٍ:
دَخَلُوهَا وَهُمُ اثْنَانِ وَسَبْعُونَ أَلْفًا، وَخَرَجُوا
مَعَ مُوسَى وَهُمْ سِتُّمِائَةِ أَلْفٍ. وَقَالَ وَهْبُ:
[بْنُ مُنَبِّهٍ] «3» دَخَلَ يَعْقُوبُ وَوَلَدُهُ مِصْرَ
وَهُمْ تِسْعُونَ إِنْسَانًا مَا بَيْنَ رَجُلٍ وَامْرَأَةٍ
وَصَغِيرٍ، وَخَرَجُوا مِنْهَا مَعَ مُوسَى فِرَارًا مِنْ
فِرْعَوْنَ، وَهُمْ سِتُّمِائَةِ أَلْفٍ وخمسمائة وبضع وسبعون
رجل مُقَاتِلِينَ، سِوَى الذُّرِّيَّةِ وَالْهَرْمَى
وَالزَّمْنَى، وَكَانَتِ الذُّرِّيَّةُ أَلْفُ أَلْفٍ
وَمِائَتَيْ أَلْفٍ سِوَى الْمُقَاتِلَةِ، وَقَالَ أَهْلُ
التَّوَارِيخِ: أَقَامَ يَعْقُوبُ بِمِصْرَ أَرْبَعًا
وَعِشْرِينَ سَنَةً فِي أَغْبَطِ حَالٍ وَنِعْمَةٍ، وَمَاتَ
بِمِصْرَ، وَأَوْصَى إِلَى ابْنِهِ يُوسُفَ أَنْ يَحْمِلَ
جَسَدَهُ حَتَّى يَدْفِنَهُ عِنْدَ أَبِيهِ إِسْحَاقَ
بِالشَّامِ فَفَعَلَ، ثُمَّ انْصَرَفَ إِلَى مِصْرَ. قَالَ
سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: نُقِلَ يَعْقُوبُ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي تَابُوتٍ مِنْ سَاجٍ إِلَى بَيْتِ
الْمَقْدِسِ، وَوَافَقَ ذَلِكَ يَوْمَ مَاتَ عِيصُو، فَدُفِنَا
فِي قَبْرٍ وَاحِدٍ، فَمِنْ ثَمَّ تَنْقُلُ الْيَهُودُ
مَوْتَاهُمْ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ، مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ
مِنْهُمْ، وَوُلِدَ يَعْقُوبُ وَعِيصُو فِي بَطْنٍ وَاحِدٍ،
وَدُفِنَا فِي قَبْرٍ وَاحِدٍ وَكَانَ عُمْرُهُمَا جَمِيعًا
مِائَةً وسبعا «4» وأربعين سنة.
__________
(1). أي منعه يعقوب عليه السلام لأن القادم يسلم، قاله العيني
في" عقد الجمان". وقال الألوسي: ليعلم أن يعقوب أكرم على الله
منه.
(2). من ع.
(3). من ع.
(4). في ع وك ى: تسعا. والمشهور ما ذكر.
(9/268)
رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي
مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ
فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي
الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي
بِالصَّالِحِينَ (101)
[سورة يوسف (12): آية 101]
رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ
تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ
وَلِيِّي فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِماً
وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (101)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ
وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ) قَالَ قَتَادَةُ:
لَمْ يَتَمَنَّ الْمَوْتَ أَحَدٌ، نَبِيٌّ وَلَا غَيْرُهُ
إِلَّا يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، حِينَ تَكَامَلَتْ
عَلَيْهِ النِّعَمُ وَجُمِعَ لَهُ الشَّمْلُ اشْتَاقَ إِلَى
لِقَاءِ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ. وَقِيلَ: إِنَّ يُوسُفَ لَمْ
يَتَمَنَّ الْمَوْتَ، وَإِنَّمَا تَمَنَّى الْوَفَاةَ عَلَى
الْإِسْلَامِ، أَيْ إِذَا جَاءَ أَجَلِي تَوَفَّنِي مُسْلِمًا،
وَهَذَا قَوْلُ الْجُمْهُورِ. وَقَالَ سَهْلُ بْنُ عَبْدِ
اللَّهِ التُّسْتَرِيُّ: لَا يَتَمَنَّى الْمَوْتَ إِلَّا
ثَلَاثٌ: رَجُلٌ جَاهِلٌ بِمَا بَعْدَ الْمَوْتِ، أَوْ رَجُلٌ
يَفِرُّ مِنْ أَقْدَارِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِ، أَوْ
مُشْتَاقٌ مُحِبٌّ لِلِقَاءِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. وَثَبَتَ
فِي الصَّحِيحِ عَنْ أَنَسٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" لَا يَتَمَنَّيَنَّ
أَحَدُكُمُ الْمَوْتَ لِضُرٍّ نَزَلَ بِهِ فَإِنْ كَانَ لَا
بُدَّ مُتَمَنِّيًا فَلْيَقُلِ اللَّهُمَّ أَحْيِنِي مَا
كَانَتِ الْحَيَاةُ خيرا لي وتوفقني إِذَا كَانَتِ الْوَفَاةُ
خَيْرًا لِي" رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَفِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ
قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ:" لَا يَتَمَنَّيَنَّ أَحَدُكُمُ الْمَوْتَ وَلَا
يَدْعُ «1» بِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُ إِنَّهُ إِذَا
مَاتَ أَحَدُكُمُ انْقَطَعَ عَمَلُهُ وَإِنَّهُ لَا يَزِيدُ
الْمُؤْمِنَ عُمُرُهُ إِلَّا خَيْرًا". وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا
فَكَيْفَ يُقَالُ: إِنَّ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ تَمَنَّى
الْمَوْتَ وَالْخُرُوجَ مِنَ الدُّنْيَا وَقَطْعَ الْعَمَلِ؟
هَذَا بَعِيدٌ! إِلَّا أَنْ يُقَالَ: إِنَّ ذَلِكَ كَانَ
جَائِزًا فِي شَرْعِهِ، أَمَا أَنَّهُ يَجُوزُ تَمَنِّي
الْمَوْتِ وَالدُّعَاءِ بِهِ عِنْدَ ظُهُورِ الْفِتَنِ
وَغَلَبَتِهَا، وَخَوْفِ ذَهَابِ الدِّينِ، عَلَى مَا
بَيَّنَّاهُ فِي كِتَابِ" التَّذْكِرَةِ". وَ" مِنَ" مِنْ
قَوْلِهِ:" مِنَ الْمُلْكِ" لِلتَّبْعِيضِ، وَكَذَلِكَ
قَوْلُهُ:" وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ"
لِأَنَّ مُلْكَ مِصْرَ مَا كَانَ كُلَّ الْمُلْكِ، وَعِلْمُ
التَّعْبِيرِ مَا كَانَ كُلَّ الْعُلُومِ. وَقِيلَ:" مِنَ"
لِلْجِنْسِ كقوله:" فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ «2»
الْأَوْثانِ" [الحج: 30] وَقِيلَ: لِلتَّأَكُّدِ. أَيْ
آتَيْتَنِي الْمُلْكَ وَعَلَّمْتَنِي تَأْوِيلَ الأحاديث
__________
(1). قيل: وجه صحة عطفه على النفي من حيث إنه بمعنى النهى.
وقال ابن حجر: فيه إيماء إلى أن الأول نهى على بابه، ويكون قد
جمع بين لغتي حذف حرف العلة وإثباته.
(2). راجع ج 12 ص 54. [ ..... ]
(9/269)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (فاطِرَ السَّماواتِ
وَالْأَرْضِ) نُصِبَ عَلَى النَّعْتِ لِلنِّدَاءِ، وَهُوَ
رَبِّ، وَهُوَ نِدَاءٌ مُضَافٌ، وَالتَّقْدِيرُ: يَا رَبِّ!
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ نِدَاءً ثَانِيًا. وَالْفَاطِرُ
الْخَالِقُ، فَهُوَ سُبْحَانُهُ فَاطِرُ الْمَوْجُودَاتِ، أَيْ
خَالِقُهَا وَمُبْدِئُهَا وَمُنْشِئُهَا وَمُخْتَرِعُهَا عَلَى
الْإِطْلَاقِ من غير شي، وَلَا مِثَالٍ سَبَقَ، وَقَدْ
تَقَدَّمَ هَذَا الْمَعْنَى فِي" الْبَقَرَةِ" مُسْتَوْفًى
«1»، عِنْدَ قَوْلِهِ:" بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ"
[البقرة: 117] وَزِدْنَاهُ بَيَانًا فِي الْكِتَابِ الْأَسْنَى
فِي شَرْحِ أَسْمَاءِ اللَّهِ الْحُسْنَى. (أَنْتَ وَلِيِّي)
أَيْ نَاصِرِي وَمُتَوَلِّي أُمُورِي فِي الدُّنْيَا
وَالْآخِرَةِ. (تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي
بِالصَّالِحِينَ) يُرِيدُ آبَاءَهُ الثَّلَاثَةَ، إِبْرَاهِيمَ
وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ، فَتَوَفَّاهُ اللَّهُ- طَاهِرًا
طَيِّبًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِمِصْرَ،
وَدُفِنَ فِي النِّيلِ فِي صُنْدُوقٍ مِنْ رُخَامٍ، وَذَلِكَ
أَنَّهُ لَمَّا مَاتَ تَشَاحَّ النَّاسُ عَلَيْهِ، كُلٌّ
يُحِبُّ أَنْ يُدْفَنَ فِي مَحَلَّتِهِمْ، لِمَا يَرْجُونَ
مِنْ بَرَكَتِهِ، وَاجْتَمَعُوا عَلَى ذَلِكَ حَتَّى هَمُّوا
بِالْقِتَالِ، فَرَأَوْا أَنْ يَدْفِنُوهُ فِي النِّيلَ مِنْ
حَيْثُ مَفْرِقُ الْمَاءِ بِمِصْرَ، فَيَمُرُّ عَلَيْهِ
الْمَاءُ، ثُمَّ يَتَفَرَّقُ فِي جَمِيعِ مِصْرَ، فَيَكُونُوا
فِيهِ شَرَعًا فَفَعَلُوا، فَلَمَّا خَرَجَ مُوسَى بِبَنِي
إِسْرَائِيلَ أَخْرَجَهُ مِنَ النِّيلِ: وَنَقَلَ تَابُوتَهُ
بَعْدَ أَرْبَعِمِائَةِ سَنَةٍ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ،
فَدَفَنُوهُ مَعَ آبَائِهِ لِدَعْوَتِهِ:" وَأَلْحِقْنِي
بِالصَّالِحِينَ" وَكَانَ عُمْرُهُ مِائَةَ عَامٍ وَسَبْعَةَ
أَعْوَامٍ. وَعَنِ الْحَسَنِ قَالَ: أُلْقِيَ يُوسُفُ فِي
الْجُبِّ وَهُوَ ابْنُ سَبْعَ عَشْرَةَ سَنَةً، وَكَانَ فِي
الْعُبُودِيَّةِ وَالسِّجْنِ وَالْمُلْكِ ثَمَانِينَ سَنَةً،
ثُمَّ جُمِعَ لَهُ شَمْلُهُ فَعَاشَ بَعْدَ ذَلِكَ ثَلَاثًا
وَعِشْرِينَ سَنَةً، وَكَانَ لَهُ مِنَ الْوَلَدِ
إِفْرَاثِيمُ، وَمَنْشَا، وَرَحْمَةُ، زَوْجَةُ أَيُّوبَ، فِي
قَوْلِ ابْنِ لَهِيعَةَ. قَالَ الزُّهْرِيُّ: وَوُلِدَ
لِإِفْرَاثِيمَ- بْنِ يُوسُفَ- نُونُ بْنُ إِفْرَاثِيمَ،
وَوُلِدَ لِنُونٍ يُوشَعُ، فَهُوَ يُوشَعُ بْنُ نُونٍ، وَهُوَ
فَتَى مُوسَى الَّذِي كَانَ مَعَهُ صَاحِبُ أَمْرِهِ،
وَنَبَّأَهُ اللَّهُ فِي زَمَنِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ،
فَكَانَ بَعْدَهُ نَبِيًّا، وَهُوَ الَّذِي افْتَتَحَ
أَرِيحَا، وَقَتَلَ مَنْ كَانَ بِهَا مِنَ الْجَبَابِرَةِ،
وَاسْتَوْقِفَتْ لَهُ الشَّمْسُ حَسَبَ مَا تَقَدَّمَ فِي"
الْمَائِدَةِ" «2». وَوُلِدَ لَمَنْشَا بْنِ يُوسُفَ مُوسَى
بْنُ مَنْشَا، قَبْلَ مُوسَى بْنِ عِمْرَانَ. وَأَهْلُ
التَّوْرَاةِ يَزْعُمُونَ أَنَّهُ هُوَ الَّذِي طَلَبَ
الْعَالِمَ لِيَتَعَلَّمَ مِنْهُ حَتَّى أَدْرَكَهُ،
وَالْعَالِمُ هُوَ الَّذِي خرق
__________
(1). راجع ج 2 ص 86 فما بعد.
(2). راجع ج 60 ص 130 فما بعد.
(9/270)
ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ
الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ
أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ (102) وَمَا
أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ (103) وَمَا
تَسْأَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ
لِلْعَالَمِينَ (104)
السَّفِينَةَ، وَقَتَلَ الْغُلَامَ،
وَبَنَى الْجِدَارَ، وَمُوسَى بْنُ مَنْشَا مَعَهُ حَتَّى
بَلَغَهُ مَعَهُ حَيْثُ بَلَغَ، وَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ
يُنْكِرُ ذَلِكَ، وَالْحَقُّ الَّذِي قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ،
وَكَذَلِكَ فِي الْقُرْآنِ. ثُمَّ كَانَ بَيْنَ يُوسُفَ
وَمُوسَى أُمَمٌ وَقُرُونٌ، وَكَانَ فِيمَا بَيْنَهُمَا
شُعَيْبٌ، صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ أجمعين.
[سورة يوسف (12): الآيات 102 الى 104]
ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَما كُنْتَ
لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ
(102) وَما أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ
(103) وَما تَسْئَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ هُوَ
إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ (104)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ)
ابْتِدَاءٌ وَخَبَرٌ. (نُوحِيهِ إِلَيْكَ) خَبَرٌ ثَانٍ. قَالَ
الزَّجَّاجُ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ" ذلِكَ" بِمَعْنَى
الَّذِي،" نُوحِيهِ إِلَيْكَ" خَبَرَهُ، أَيِ الَّذِي مِنْ
أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ، يَعْنِي هُوَ الَّذِي
قَصَصْنَا عَلَيْكَ يَا مُحَمَّدُ مِنْ أَمْرِ يُوسُفَ مِنْ
أَخْبَارِ الْغَيْبِ" نُوحِيهِ إِلَيْكَ" أَيْ نُعَلِّمُكَ
بِوَحْيِ هَذَا إِلَيْكَ. (وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ) أَيْ مَعَ
إِخْوَةِ يُوسُفَ (إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ) فِي إِلْقَاءِ
يُوسُفَ فِي الْجُبِّ. (وَهُمْ يَمْكُرُونَ) أَيْ بِيُوسُفَ
فِي إِلْقَائِهِ فِي الْجُبِّ. وَقِيلَ:" يَمْكُرُونَ"
بِيَعْقُوبَ حِينَ جَاءُوهُ بِالْقَمِيصِ مُلَطَّخًا
بِالدَّمِ، أَيْ مَا شَاهَدْتَ تِلْكَ الْأَحْوَالَ، وَلَكِنَّ
اللَّهَ أَطْلَعَكَ عَلَيْهَا. قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَما
أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ) ظَنَّ أَنَّ
الْعَرَبَ لَمَّا سَأَلَتْهُ عَنْ هَذِهِ الْقِصَّةِ
وَأَخْبَرَهُمْ يُؤْمِنُونَ، فَلَمْ يُؤْمِنُوا، فَنَزَلَتِ
الْآيَةُ تَسْلِيَةٌ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ، أَيْ لَيْسَ تَقْدِرُ عَلَى هِدَايَةِ مَنْ
أَرَدْتَ هِدَايَتَهُ، تَقُولُ: حَرَصَ يَحْرِصُ، مِثْلُ:
ضَرَبَ يَضْرِبُ. وَفِي لُغَةٍ ضَعِيفَةٍ حَرِصَ يَحْرَصُ
مِثْلُ حَمِدَ يَحْمَدُ. وَالْحِرْصُ طَلَبُ الشَّيْءِ
بِاخْتِيَارٍ «1». قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَما تَسْئَلُهُمْ
عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ) " مِنْ" صِلَةٍ، أَيْ مَا تَسْأَلُهُمْ
جُعْلًا. (إِنْ هُوَ) أَيْ مَا هُوَ، يعني القرآن والوحي.
(إِلَّا ذِكْرٌ) أي عظة وتذكرة (لِلْعالَمِينَ).
__________
(1). قال الراغب في مفردات القرآن: الحرص فرط الشره وفرط
الإرادة.
(9/271)
وَكَأَيِّنْ مِنْ
آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا
وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ (105) وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ
بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ (106) أَفَأَمِنُوا أَنْ
تَأْتِيَهُمْ غَاشِيَةٌ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ أَوْ
تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ
(107) قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى
بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا
أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (108)
[سورة يوسف (12): الآيات 105 الى 108]
وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ
يَمُرُّونَ عَلَيْها وَهُمْ عَنْها مُعْرِضُونَ (105) وَما
يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلاَّ وَهُمْ مُشْرِكُونَ
(106) أَفَأَمِنُوا أَنْ تَأْتِيَهُمْ غاشِيَةٌ مِنْ عَذابِ
اللَّهِ أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً وَهُمْ لَا
يَشْعُرُونَ (107) قُلْ هذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ
عَلى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحانَ اللَّهِ
وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (108)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّماواتِ
وَالْأَرْضِ) قَالَ الْخَلِيلُ وَسِيبَوَيْهِ: هِيَ" أَيْ"
دَخَلَ عَلَيْهَا كَافُ التَّشْبِيهِ وَبُنِيَتْ مَعَهَا،
فَصَارَ فِي الْكَلَامِ مَعْنَى كَمْ، وَقَدْ مَضَى فِي" آلِ
عِمْرَانَ" «1» الْقَوْلُ فِيهَا مُسْتَوْفًى. وَمَضَى
الْقَوْلُ فِي آيَةِ" السَّماواتِ وَالْأَرْضِ" فِي"
الْبَقَرَةِ" «2». وَقِيلَ: الْآيَاتُ آثَارُ عُقُوبَاتِ
الْأُمَمِ السَّالِفَةِ، أَيْ هُمْ غَافِلُونَ مُعْرِضُونَ
عَنْ تَأَمُّلِهَا. وَقَرَأَ عِكْرِمَةُ وَعَمْرُو بْنُ
فَائِدٍ" وَالْأَرْضِ" رَفْعًا ابْتِدَاءٌ، وَخَبَرُهُ.
(يَمُرُّونَ عَلَيْها). وَقَرَأَ السُّدِّيُّ" وَالْأَرْضِ"
نَصْبًا بِإِضْمَارِ فِعْلٍ، وَالْوَقْفُ عَلَى هَاتَيْنِ
الْقِرَاءَتَيْنِ عَلَى" السَّماواتِ". وَقَرَأَ ابْنُ
مَسْعُودٍ:" يَمْشُونَ عَلَيْهَا". قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَما
يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ)
نَزَلَتْ فِي قَوْمٍ أَقَرُّوا بِاللَّهِ خَالِقِهِمْ
وَخَالِقِ الْأَشْيَاءِ كُلِّهَا، وَهُمْ يعبدون الأوثان، قاله
الحسن ومجاهد وعامر الشعبي وَأَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ.
وَقَالَ عِكْرِمَةُ هُوَ قَوْلُهُ:" وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ
مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ" «3» [الزخرف: 87] ثُمَّ
يَصِفُونَهُ بِغَيْرِ صِفَتِهِ وَيَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا،
وَعَنِ الْحَسَنِ أَيْضًا: أَنَّهُمْ أَهْلُ كِتَابٍ مَعَهُمْ
شِرْكٌ وَإِيمَانٌ، آمَنُوا بِاللَّهِ وَكَفَرُوا بِمُحَمَّدٍ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَا يَصِحُّ
إِيمَانُهُمْ، حَكَاهُ ابْنُ الْأَنْبَارِيُّ. وَقَالَ ابْنُ
عَبَّاسٍ: نَزَلَتْ فِي تَلْبِيَةِ مُشْرِكِي الْعَرَبِ:
لَبَّيْكَ لَا شَرِيكَ لَكَ إِلَّا شَرِيكًا هُوَ لَكَ
تَمْلِكُهُ وَمَا مَلَكَ. وَعَنْهُ أَيْضًا أَنَّهُمُ
النَّصَارَى. وَعَنْهُ أَيْضًا أَنَّهُمُ المشبهة، آمنوا مجملا
وأشركوا
__________
(1). راجع ج 4 ص 228 فما بعد.
(2). راجع ج 2 ص 192 فما بعد.
(3). راجع ج 16 ص 123.
(9/272)
مُفَصَّلًا. وَقِيلَ: نَزَلَتْ فِي
الْمُنَافِقِينَ، الْمَعْنَى:" وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ
بِاللَّهِ" أَيْ بِاللِّسَانِ إِلَّا وَهُوَ كَافِرٌ
بِقَلْبِهِ، ذَكَرَهُ الْمَاوَرْدِيُّ عَنِ الْحَسَنِ أَيْضًا.
وَقَالَ عَطَاءٌ: هَذَا فِي الدُّعَاءِ، وَذَلِكَ أَنَّ
الْكُفَّارَ يَنْسَوْنَ رَبَّهُمْ فِي الرَّخَاءِ، فَإِذَا
أَصَابَهُمُ الْبَلَاءُ أَخْلَصُوا فِي الدُّعَاءِ،
بَيَانُهُ:" وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ" «1» [يونس:
22] الْآيَةَ. وَقَوْلُهُ:" وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ الضُّرُّ
دَعانا لِجَنْبِهِ" «2» [يونس: 12] الْآيَةَ. وَفِي آيَةٍ
أُخْرَى:" وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعاءٍ عَرِيضٍ" «3»
[فصلت: 51]. وَقِيلَ: مَعْنَاهَا أَنَّهُمْ يَدْعُونَ اللَّهَ
يُنْجِيهِمْ مِنَ الْهَلَكَةِ، فَإِذَا أَنْجَاهُمْ قَالَ
قَائِلُهُمْ: لَوْلَا فُلَانٌ مَا نَجَوْنَا، وَلَوْلَا
الْكَلْبُ لَدَخَلَ عَلَيْنَا اللِّصُّ، وَنَحْوَ هَذَا،
فَيَجْعَلُونَ نِعْمَةَ اللَّهِ مَنْسُوبَةً إِلَى فُلَانٍ،
وَوِقَايَتَهُ مَنْسُوبَةً إِلَى الْكَلْبِ. قُلْتُ: وَقَدْ
يَقَعُ فِي هَذَا الْقَوْلِ وَالَّذِي قَبْلَهُ كَثِيرٌ مِنْ
عَوَامِّ الْمُسْلِمِينَ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا
بِاللَّهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ. وَقِيلَ: نَزَلَتْ هَذِهِ
الْآيَةُ فِي قِصَّةِ الدُّخَانِ، وَذَلِكَ أَنَّ أَهْلَ
مَكَّةَ لَمَّا غَشِيَهُمُ الدُّخَانُ فِي سِنِي الْقَحْطِ
قَالُوا:" رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذابَ إِنَّا
مُؤْمِنُونَ" «4» [الدخان: 12] فَذَلِكَ إِيمَانُهُمْ،
وَشِرْكُهُمْ عَوْدُهُمْ إِلَى الْكُفْرِ بَعْدَ كشف العذاب،
بيانه قوله:" إِنَّكُمْ عائِدُونَ" [الدخان: 15] وَالْعَوْدُ
لَا يَكُونُ إِلَّا بَعْدَ ابْتِدَاءٍ، فَيَكُونُ مَعْنَى:"
إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ" أَيْ إِلَّا وَهُمْ عَائِدُونَ
[إِلَى الشِّرْكِ «5»]، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. قَوْلُهُ
تَعَالَى: (أَفَأَمِنُوا أَنْ تَأْتِيَهُمْ غاشِيَةٌ مِنْ
عَذابِ اللَّهِ)
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مُجَلَّلَةٌ «6». وَقَالَ مُجَاهِدٌ:
عَذَابٌ يَغْشَاهُمْ، نَظِيرُهُ." يَوْمَ يَغْشاهُمُ الْعَذابُ
مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ" «7» [العنكبوت:
55]. وَقَالَ قَتَادَةُ: وَقِيعَةٌ تَقَعُ لَهُمْ. وَقَالَ
الضَّحَّاكُ: يَعْنِي الصَّوَاعِقَ وَالْقَوَارِعَ. (أَوْ
تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ) يَعْنِي الْقِيَامَةَ. (بَغْتَةً)
نُصِبَ عَلَى الْحَالِ، وَأَصْلُهُ الْمَصْدَرُ. وَقَالَ
الْمُبَرِّدُ: جَاءَ عَنِ الْعَرَبِ حَالٌ بَعْدَ نَكِرَةٍ،
وَهُوَ قَوْلُهُمْ: وَقَعَ أَمْرٌ بَغْتَةً وَفَجْأَةً، قَالَ
النَّحَّاسُ: وَمَعْنَى" بَغْتَةً" إِصَابَةٌ «8» مِنْ حَيْثُ
لَمْ يَتَوَقَّعْ. (وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ) وَهُوَ تَوْكِيدٌ.
وَقَوْلُهُ:" بَغْتَةً" قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: تَصِيحُ
الصَّيْحَةُ بِالنَّاسِ وَهُمْ فِي أَسْوَاقِهِمْ
وَمَوَاضِعِهِمْ، كَمَا قَالَ:" تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ
يَخِصِّمُونَ" [يس: 49] على ما يأتي «9».
__________
(1). راجع ج 8 ص 325 وص 317.
(2). راجع ج 8 ص 325 وص 317.
(3). راجع ج 15 ص 373 وص 38.
(4). راجع ج 16 ص 132.
(5). من ع، وفى ع: أصابهم.
(6). مجللة: عامة التغطية.
(7). راجع ج 13 ص.
(8). من ع، وفى ع: أصابهم. [ ..... ]
(9). راجع ج 15 ص 373 وص 38.
(9/273)
وَمَا أَرْسَلْنَا
مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ
الْقُرَى أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا
كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَدَارُ
الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أَفَلَا تَعْقِلُونَ
(109) حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ
قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ
وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (110)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (قُلْ هذِهِ سَبِيلِي)
ابْتِدَاءٌ وَخَبَرٌ، أَيْ قُلْ يَا مُحَمَّدُ هَذِهِ طَرِيقِي
وَسُنَّتِي وَمِنْهَاجِي، قَالَهُ ابْنُ زَيْدٍ. وَقَالَ
الرَّبِيعُ: دَعْوَتِي، مُقَاتِلٌ: دِينِي، وَالْمَعْنَى
وَاحِدٌ، أَيِ الَّذِي أَنَا عَلَيْهِ وَأَدْعُو إِلَيْهِ
يُؤَدِّي إِلَى الْجَنَّةِ. (عَلى بَصِيرَةٍ) أَيْ عَلَى
يَقِينٍ وَحَقٍّ، وَمِنْهُ: فُلَانٌ مُسْتَبْصِرٌ بِهَذَا.
(أَنَا) تَوْكِيدٌ. (وَمَنِ اتَّبَعَنِي) عَطْفٌ عَلَى
الْمُضْمَرِ. (وَسُبْحانَ اللَّهِ) أَيْ قُلْ يَا مُحَمَّدُ:"
وَسُبْحانَ اللَّهِ". (وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ) الذين
يتخذون من دون الله أندادا.
[سورة يوسف (12): الآيات 109 الى 110]
وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلاَّ رِجالاً نُوحِي
إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرى أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي
الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ
قَبْلِهِمْ وَلَدارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا
أَفَلا تَعْقِلُونَ (109) حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ
وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جاءَهُمْ نَصْرُنا
فَنُجِّيَ مَنْ نَشاءُ وَلا يُرَدُّ بَأْسُنا عَنِ الْقَوْمِ
الْمُجْرِمِينَ (110)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا
رِجالًا نُوحِي «1» إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرى) هذا رد
على القائلين:" لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ" «2»
[الأنعام: 8] أَيْ أَرْسَلْنَا رِجَالًا لَيْسَ فِيهِمُ
امْرَأَةٌ وَلَا جِنِّيٌّ وَلَا مَلَكٌ، وَهَذَا يَرُدُّ مَا
يُرْوَى عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
أَنَّهُ قَالَ:" إِنَّ فِي النِّسَاءِ أَرْبَعُ نَبِيَّاتٍ
حَوَّاءُ وَآسِيَةُ وَأُمُّ مُوسَى وَمَرْيَمُ". وَقَدْ
تَقَدَّمَ فِي" آل عمران" «3» شي مِنْ هَذَا." مِنْ أَهْلِ
الْقُرى " يُرِيدُ الْمَدَائِنَ، وَلَمْ يَبْعَثِ اللَّهُ
نَبِيًّا مِنْ أَهْلِ الْبَادِيَةِ لِغَلَبَةِ الْجَفَاءِ
وَالْقَسْوَةِ عَلَى أَهْلِ الْبَدْوِ، وَلِأَنَّ أَهْلَ
الْأَمْصَارِ أَعْقَلُ وَأَحْلَمُ وَأَفْضَلُ وَأَعْلَمُ.
قَالَ الْحَسَنُ: لَمْ يَبْعَثِ اللَّهُ نَبِيًّا مِنْ أَهْلِ
الْبَادِيَةِ قَطُّ، وَلَا مِنَ النِّسَاءِ، وَلَا مِنَ
الْجِنِّ. وَقَالَ قَتَادَةُ:" مِنْ أَهْلِ الْقُرى " أَيْ
مِنْ أَهْلِ الْأَمْصَارِ، لِأَنَّهُمْ أَعْلَمُ وَأَحْلَمُ.
وَقَالَ الْعُلَمَاءُ: مِنْ شَرْطِ الرَّسُولِ أَنْ يَكُونَ
رَجُلًا آدَمِيًّا مَدَنِيًّا، وَإِنَّمَا قَالُوا آدَمِيًّا
تَحَرُّزًا، مِنْ قوله:" يَعُوذُونَ بِرِجالٍ مِنَ الْجِنِّ"
«4» [الجن: 6] والله أعلم.
__________
(1). وقراءة نافع والجمهور: يوحى. بالبناء للمجهول.
(2). راجع ج 6 ص 393.
(3). راجع ج 4 ص 82 فما بعد. وج 6 ص 251.
(4). راجع ج 19 ص 8 فما بعد.
(9/274)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (أَفَلَمْ يَسِيرُوا
فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا) إِلَى مَصَارِعِ الْأُمَمِ
الْمُكَذِّبَةِ لِأَنْبِيَائِهِمْ فَيَعْتَبِرُوا. (وَلَدارُ
الْآخِرَةِ خَيْرٌ) ابْتِدَاءٌ وَخَبَرُهُ. وَزَعَمَ
الْفَرَّاءُ أَنَّ الدَّارَ هِيَ الْآخِرَةُ، وَأُضِيفَ
الشَّيْءُ إِلَى نَفْسِهِ لِاخْتِلَافِ اللَّفْظِ، كَيَوْمِ
الْخَمِيسِ، وَبَارِحَةِ الْأُولَى، قَالَ الشَّاعِرُ:
وَلَوْ أَقْوَتْ عَلَيْكَ دِيَارُ عَبْسٍ «1» ... عَرَفْتَ
الذُّلَّ عِرْفَانَ الْيَقِينِ
أَيْ عِرْفَانًا يَقِينًا، وَاحْتَجَّ الْكِسَائِيُّ
بِقَوْلِهِمْ: صَلَاةُ الْأُولَى، وَاحْتَجَّ الْأَخْفَشُ
بِمَسْجِدِ الْجَامِعِ. قَالَ النَّحَّاسُ: إِضَافَةُ
الشَّيْءِ إِلَى نَفْسِهِ مُحَالٌ، لِأَنَّهُ إِنَّمَا يُضَافُ
الشَّيْءُ إِلَى غَيْرِهِ لِيَتَعَرَّفَ بِهِ، وَالْأَجْوَدُ
الصَّلَاةُ الْأُولَى، وَمَنْ قَالَ صَلَاةُ الْأُولَى
فَمَعْنَاهُ: عِنْدَ صَلَاةِ الْفَرِيضَةِ الْأُولَى،
وَإِنَّمَا سُمِّيَتِ الْأُولَى لِأَنَّهَا أَوَّلُ مَا
صُلِّيَ حِينَ فُرِضَتِ الصَّلَاةُ، وَأَوَّلُ مَا أُظْهِرَ،
فَلِذَلِكَ قِيلَ لَهَا أَيْضًا الظُّهْرُ. وَالتَّقْدِيرُ:
وَلَدَارُ الْحَالِ الْآخِرَةِ خَيْرٌ، وَهَذَا قَوْلُ
الْبَصْرِيِّينَ، وَالْمُرَادُ بِهَذِهِ الدَّارِ الْجَنَّةُ،
أي هي خير للمتقين. وقرى:" وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ". وَقَرَأَ
نَافِعٌ وَعَاصِمٌ وَيَعْقُوبُ وَغَيْرُهُمْ (أَفَلا
تَعْقِلُونَ) بِالتَّاءِ عَلَى الْخِطَابِ. الْبَاقُونَ
بِالْيَاءِ عَلَى الْخَبَرِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: (حَتَّى إِذَا
اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ) تَقَدَّمَ الْقِرَاءَةُ فِيهِ
وَمَعْنَاهُ «2». (وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا) وهذه
الْآيَةُ فِيهَا تَنْزِيهُ الْأَنْبِيَاءِ وَعِصْمَتُهُمْ
عَمَّا لَا يَلِيقُ بِهِمْ. وَهَذَا الْبَابُ عَظِيمٌ،
وَخَطَرُهُ جَسِيمٌ، يَنْبَغِي الْوُقُوفُ، عَلَيْهِ لِئَلَّا
يَزِلَّ الْإِنْسَانُ فَيَكُونُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ.
الْمَعْنَى: وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ يَا مُحَمَّدُ إِلَّا
رِجَالًا ثُمَّ لَمْ نُعَاقِبْ أُمَمَهُمْ بِالْعَذَابِ «3»."
حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ" أَيْ يَئِسُوا مِنْ
إِيمَانِ قَوْمِهِمْ." وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا"
بِالتَّشْدِيدِ، أَيْ أَيْقَنُوا أَنَّ قَوْمَهُمْ
كَذَّبُوهُمْ. وَقِيلَ الْمَعْنَى: حَسِبُوا أَنَّ مَنْ آمَنَ
بِهِمْ مِنْ قَوْمِهِمْ كَذَّبُوهُمْ، لَا أَنَّ الْقَوْمَ
كَذَّبُوا، وَلَكِنَّ الْأَنْبِيَاءَ ظَنُّوا وَحَسِبُوا
أَنَّهُمْ يُكَذِّبُونَهُمْ، أَيْ خَافُوا أَنْ يَدْخُلَ
قُلُوبَ أَتْبَاعِهِمْ شَكٌّ، فَيَكُونُ" وَظَنُّوا" عَلَى
بَابِهِ فِي هَذَا التَّأْوِيلِ. وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ
وَابْنُ مَسْعُودٍ وَأَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيُّ
وَأَبُو جَعْفَرِ بْنُ الْقَعْقَاعِ وَالْحَسَنُ وَقَتَادَةُ
وَأَبُو رَجَاءٍ الْعُطَارِدِيُّ وَعَاصِمٌ وَحَمْزَةُ
وَالْكِسَائِيُّ وَيَحْيَى بْنُ وَثَّابٍ وَالْأَعْمَشُ
وَخَلَفٌ" كُذِبُوا" بِالتَّخْفِيفِ، أَيْ ظَنَّ الْقَوْمُ
أَنَّ الرُّسُلَ كَذَبُوهُمْ فِيمَا أَخْبَرُوا به من العذاب،
__________
(1). وفى رواية:" فإنك لو حللت ديار عبس" في ع وك وى: عرفت
الدار.
(2). راجع ص 241 من هذا الجزء.
(3). من ع وح الجمل عن القرطبي. وفى اوح وك ى: بالعقاب.
(9/275)
وَلَمْ يَصْدُقُوا. وَقِيلَ: الْمَعْنَى
ظَنَّ الْأُمَمُ أَنَّ الرُّسُلَ قَدْ كَذَبُوا فِيمَا
وَعَدُوا بِهِ مِنْ نَصْرِهِمْ. وَفِي رِوَايَةٍ عَنِ ابْنِ
عَبَّاسٍ، ظَنَّ الرُّسُلُ أَنَّ اللَّهَ أَخْلَفَ مَا
وَعَدَهُمْ. وَقِيلَ: لَمْ تَصِحَّ هَذِهِ الرِّوَايَةُ،
لِأَنَّهُ لَا يُظَنُّ بِالرُّسُلِ هَذَا الظَّنُّ، وَمَنْ
ظَنَّ هَذَا الظَّنَّ لَا يَسْتَحِقُّ النَّصْرَ، فَكَيْفَ
قَالَ: (جَاءَهُمْ نَصْرُنَا)؟! قال القشيري أبو نصر: ولا يبعد
إن صَحَّتِ الرِّوَايَةُ أَنَّ الْمُرَادَ خَطَرَ بِقُلُوبِ
الرُّسُلِ «1» هَذَا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَتَحَقَّقُوهُ فِي
نُفُوسِهِمْ، وَفِي الْخَبَرِ:" إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى
تَجَاوَزَ لِأُمَّتِي عَمَّا حَدَّثَتْ بِهِ أَنْفُسَهَا مَا
لَمْ يَنْطِقْ بِهِ لِسَانٌ أَوْ تَعْمَلْ بِهِ". وَيَجُوزُ
أَنْ يُقَالَ: قَرُبُوا مِنْ ذَلِكَ الظَّنِّ، كَقَوْلِكَ:
بَلَغْتُ الْمَنْزِلَ، أَيْ قَرُبْتُ مِنْهُ. وَذَكَرَ
الثَّعْلَبِيُّ وَالنَّحَّاسُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ:
كَانُوا بَشَرًا فَضَعُفُوا مِنْ طُولِ الْبَلَاءِ، وَنَسُوا
وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُخْلِفُوا، ثُمَّ تَلَا:" حَتَّى يَقُولَ
الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتى نَصْرُ اللَّهِ"
«2» [البقرة: 214]. وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ الْحَكِيمُ:
وَجْهُهُ عِنْدَنَا أَنَّ الرُّسُلَ كَانَتْ تَخَافُ بُعْدَ
مَا وَعَدَ اللَّهُ النَّصْرَ، لَا مِنْ تُهْمَةٍ لِوَعْدِ
اللَّهِ، وَلَكِنْ لِتُهْمَةِ النُّفُوسِ أَنْ تَكُونَ قَدْ
أَحْدَثَتْ، حَدَثًا يَنْقُضُ ذَلِكَ الشَّرْطَ وَالْعَهْدَ
الَّذِي عُهِدَ إِلَيْهِمْ، فَكَانَتْ إِذَا طَالَتْ
[عَلَيْهِمُ] «3» الْمُدَّةُ دَخَلَهُمُ الْإِيَاسُ
وَالظُّنُونُ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ. وَقَالَ الْمَهْدَوِيُّ
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: ظَنَّتِ الرُّسُلُ أَنَّهُمْ قَدْ
أُخْلِفُوا عَلَى مَا يَلْحَقُ الْبَشَرَ، وَاسْتَشْهَدَ
بِقَوْلِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السلام:" رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ
تُحْيِ الْمَوْتى " «4» [البقرة: 260] الْآيَةَ.
وَالْقِرَاءَةُ الْأُولَى أَوْلَى. وَقَرَأَ مُجَاهِدٌ
وَحُمَيْدٌ-" قَدْ كَذَبُوا" بِفَتْحِ الْكَافِ وَالذَّالِ
مُخَفَّفًا، عَلَى مَعْنَى: وَظَنَّ قَوْمُ الرُّسُلِ أَنَّ
الرُّسُلَ قَدْ كَذَبُوا، لِمَا رَأَوْا مِنْ تَفَضُّلِ
اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فِي تَأْخِيرِ الْعَذَابِ. وَيَجُوزُ
أَنْ يَكُونَ المعنى: و [لما] أَيْقَنَ الرُّسُلُ أَنَّ
قَوْمَهُمْ قَدْ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ بِكُفْرِهِمْ جَاءَ
الرُّسُلَ نَصْرُنَا. وَفِي الْبُخَارِيِّ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ
عَائِشَةَ قَالَتْ لَهُ وَهُوَ يَسْأَلُهَا عَنْ قَوْلِ
اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ:" حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ"
قَالَ قُلْتُ: أَكُذِبُوا أَمْ كُذِّبُوا؟ قَالَتْ عَائِشَةُ:
كُذِبُوا. قُلْتُ: فَقَدِ اسْتَيْقَنُوا أَنَّ قَوْمَهُمْ
كَذَّبُوهُمْ فَمَا هُوَ بِالظَّنِّ؟ قَالَتْ: أَجَلَّ!
لَعَمْرِي! لَقَدِ اسْتَيْقَنُوا بِذَلِكَ، فَقُلْتُ لَهَا:"
وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا" قَالَتْ: مَعَاذَ اللَّهِ!
لَمْ تَكُنِ الرُّسُلُ تَظُنُّ ذَلِكَ بِرَبِّهَا. قُلْتُ:
فَمَا هَذِهِ الْآيَةُ؟ قَالَتْ: هُمْ أَتْبَاعُ الرُّسُلِ
[الَّذِينَ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَصَدَّقُوهُمْ، فَطَالَ
عَلَيْهِمُ الْبَلَاءُ، وَاسْتَأْخَرَ عَنْهُمُ النصر حتى إذا
استيأس الرسل «5»]
__________
(1). من ع. وهو الصواب، وفى غيرها البشر.
(2). راجع ج 3 ص 33 فما بعد، وص 273.
(3). من ع. وهو الصواب، وفى غيرها البشر.
(4). راجع ج 3 ص 33 فما بعد، وص 273.
(5). الزيادة من صحيح البخاري.
(9/276)
لَقَدْ كَانَ فِي
قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا
يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ
وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ
يُؤْمِنُونَ (111)
مِمَّنْ كَذَّبَهُمْ مِنْ قَوْمِهِمْ،
وَظَنَّتِ الرُّسُلُ أَنَّ أَتْبَاعَهُمْ [قَدْ] «1»
كَذَّبُوهُمْ جَاءَهُمْ نَصْرُنَا عِنْدَ ذَلِكَ. وَفِي
قَوْلِهِ تَعَالَى:" جاءَهُمْ نَصْرُنا" قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا- جاء الرسل نصر الله، قاله مُجَاهِدٌ. الثَّانِي-
جَاءَ قَوْمَهُمْ عَذَابُ اللَّهِ، قَالَهُ ابن عباس. (فننجي
«2» مَنْ نَشَاءُ) قِيلَ: الْأَنْبِيَاءُ وَمَنْ آمَنَ
مَعَهُمْ. وَرُوِيَ عَنْ عَاصِمٍ" فَنُجِّيَ مَنْ نَشاءُ"
بِنُونٍ وَاحِدَةٍ مَفْتُوحَةِ الْيَاءِ، وَ" مِنَ" فِي
مَوْضِعِ رَفْعٍ، اسْمُ مَا لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ،
وَاخْتَارَ أَبُو عُبَيْدٍ هَذِهِ الْقِرَاءَةَ لِأَنَّهَا فِي
مُصْحَفِ عُثْمَانَ، وَسَائِرِ مَصَاحِفَ الْبُلْدَانِ بِنُونٍ
وَاحِدَةٍ «3». وَقَرَأَ ابْنُ مُحَيْصِنٍ" فَنَجَا" فِعْلٌ
مَاضٍ، وَ" مِنَ" فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ لِأَنَّهُ الْفَاعِلُ،
وَعَلَى قِرَاءَةِ الْبَاقِينَ نَصَبًا عَلَى الْمَفْعُولِ.
(وَلا يُرَدُّ بَأْسُنا) أَيْ عَذَابُنَا. (عَنِ الْقَوْمِ
الْمُجْرِمِينَ) أَيِ الْكَافِرِينَ المشركين.
[سورة يوسف (12): آية 111]
لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبابِ مَا
كانَ حَدِيثاً يُفْتَرى وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ
يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً
لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (111)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ) أَيْ فِي
قِصَّةِ يُوسُفَ وَأَبِيهِ وَإِخْوَتِهِ، أَوْ فِي قَصَصِ
الْأُمَمِ. (عِبْرَةٌ) أَيْ فِكْرَةٌ وَتَذْكِرَةٌ وَعِظَةٌ.
(لِأُولِي الْأَلْبابِ) أَيِ الْعُقُولِ. وَقَالَ مُحَمَّدُ
بْنُ إِسْحَاقَ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ
إِبْرَاهِيمَ بْنِ الْحَارِثِ التَّيْمِيِّ: إِنَّ يَعْقُوبَ
عَاشَ مِائَةَ سَنَةٍ وَسَبْعًا وَأَرْبَعِينَ سَنَةً،
وَتُوُفِّيَ أَخُوهُ عِيصُو مَعَهُ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ،
وَقُبِرَا فِي قَبْرٍ وَاحِدٍ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ:" لَقَدْ
كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ" إِلَى
آخِرِ السُّورَةِ. (مَا كانَ حَدِيثاً يُفْتَرى) أَيْ مَا
كَانَ الْقُرْآنُ حَدِيثًا يُفْتَرَى، أَوْ مَا كَانَتْ هَذِهِ
الْقِصَّةُ حَدِيثًا يُفْتَرَى. (وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي
بَيْنَ يَدَيْهِ) أي [ولكن كان «4» تصديق، وَيَجُوزُ الرَّفْعُ
بِمَعْنَى لَكِنْ هُوَ تَصْدِيقٌ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ
أَيْ] مَا كَانَ قَبْلَهُ مِنَ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ
وَسَائِرِ كُتُبِ اللَّهِ تَعَالَى، وَهَذَا تَأْوِيلُ مَنْ
زَعَمَ أَنَّهُ الْقُرْآنُ. (وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ) مِمَّا
يَحْتَاجُ الْعِبَادُ إِلَيْهِ مِنَ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ،
وَالشَّرَائِعِ وَالْأَحْكَامِ. (وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ
يُؤْمِنُونَ).
__________
(1). من ع. [ ..... ]
(2). قراءة نافع وكذا باقى السبعة بنونين ما عدا عاصما كما
يأتي.
(3). يعنى في الرسم.
(4). من ع وك.
(9/277)
|