تفسير القرطبي الر تِلْكَ آيَاتُ
الْكِتَابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ (1)
الجزء العاشر
بسم الله الرحمن الرحيم
تفسير سورة الحجر
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة الحجر (15): آية 1]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ (1)
تقدم «1» معناه. و" الْكِتابِ" قِيلَ فِيهِ: إِنَّهُ اسْمٌ
لِجِنْسِ الْكُتُبِ الْمُتَقَدِّمَةِ مِنَ التَّوْرَاةِ
وَالْإِنْجِيلِ، ثُمَّ قَرَنَهُمَا بِالْكِتَابِ الْمُبِينِ.
وَقِيلَ: الْكِتَابُ هُوَ الْقُرْآنُ، جَمَعَ لَهُ بَيْنَ
الاسمين.
[سورة الحجر (15): آية 2]
رُبَما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كانُوا مُسْلِمِينَ
(2)
" رُبَّ" لَا تَدْخُلُ عَلَى الْفِعْلِ، فَإِذَا لَحِقَتْهَا"
مَا" هَيَّأَتْهَا لِلدُّخُولِ عَلَى الْفِعْلِ تَقُولُ:
رُبَّمَا قَامَ زَيْدٌ، وَرُبَّمَا يَقُومُ زَيْدٌ. وَيَجُوزُ
أَنْ تكون" ما" نكرة بمعنى شي، و" يَوَدُّ" صفة له، أي رب شي
يَوَدُّ الْكَافِرُ. وَقَرَأَ نَافِعٌ وَعَاصِمٌ" رُبَمَا"
مُخَفَّفَ الْبَاءِ. الْبَاقُونَ مُشَدَّدَةً، وَهُمَا
لُغَتَانِ. قَالَ أَبُو حَاتِمٍ: أَهْلُ الْحِجَازِ
يُخَفِّفُونَ رُبَّمَا، قَالَ الشَّاعِرُ:
رُبَّمَا ضَرْبَةٍ بِسَيْفٍ صَقِيلٍ ... بَيْنَ بُصْرَى
وَطَعْنَةٍ نَجْلَاءَ «2»
وَتَمِيمٌ وَقَيْسٌ وَرَبِيعَةُ يُثَقِّلُونَهَا. وَحُكِيَ
فِيهَا: رَبَّمَا وَرَبَمَا، وَرُبَتَمَا وَرُبَّتَمَا،
بِتَخْفِيفِ الْبَاءِ وَتَشْدِيدِهَا أَيْضًا «3». وَأَصْلُهَا
أَنْ تُسْتَعْمَلَ فِي الْقَلِيلِ وَقَدْ تُسْتَعْمَلُ فِي
الْكَثِيرِ، أَيْ يَوَدُّ الْكُفَّارُ فِي أَوْقَاتٍ كَثِيرَةٍ
لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ، قَالَهُ الْكُوفِيُّونَ. ومنه قول
الشاعر:
__________
(1). راجع ج 8 ص 304.
(2). لبيت لعدي بن الرعلاء الغساني. وبصرى: بلدة قرب الشام، هي
كرسي حوران، كان يقوم فيها سوق للجاهلية. قال صاحب خزانة
الأدب:" ... وإنما صح إضافة بين إلى بصرى لاشتمالها على متعدد
من الأمكنة، أي بين أماكن بصرى ونواحيها. وروى الشريف الحسيني
في حماسته:" دون بصرى" ودون هنا بمعنى قبل أو بمعنى خلف. وقال
العيني: بمعنى عند". راجع الخزانة في الشاهد التاسع والتسعين
بعد السبعمائة.
(3). قال ابن هشام في المغني:" وفى رب ست عشرة لغة: ضم الراء
وفتحها، وكلاهما مع التشديد والتخفيف. والأوجه الاربعة مع تاء
التأنيث، ساكنة أو محركة، مع التجريد منها، فهذه اثنتا عشرة.
والضم والفتح مع إسكان الياء وضم الحرفين مع التشديد ومع
التخفيف".
(10/1)
ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا
وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ
(3)
أَلَا رُبَّمَا أَهْدَتْ لَكَ الْعَيْنُ
نَظْرَةً ... قُصَارَاكَ مِنْهَا أَنَّهَا عَنْكَ لَا تُجْدِي
«1»
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: هي للتقليل فهذا الْمَوْضِعِ، لِأَنَّهُمْ
قَالُوا ذَلِكَ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ لَا فِي كُلِّهَا،
لِشُغْلِهِمْ بِالْعَذَابِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. قَالَ:"
رُبَما يَوَدُّ" وَهِيَ إِنَّمَا تَكُونُ لِمَا وَقَعَ،
لِأَنَّهُ لِصِدْقِ الْوَعْدِ كَأَنَّهُ عِيَانٌ قَدْ كَانَ.
وَخَرَّجَ الطَّبَرَانِيُّ أَبُو الْقَاسِمِ مِنْ حَدِيثِ
جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" إِنَّ نَاسًا مِنْ
أُمَّتِي يَدْخُلُونَ النَّارَ بِذُنُوبِهِمْ فَيَكُونُونَ فِي
النَّارِ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَكُونُوا ثُمَّ
يُعَيِّرُهُمْ أَهْلُ الشِّرْكِ فَيَقُولُونَ مَا نَرَى مَا
كُنْتُمْ تُخَالِفُونَا فِيهِ مِنْ تَصْدِيقِكُمْ
وَإِيمَانِكُمْ نَفَعَكُمْ فَلَا يَبْقَى مُوَحِّدٌ إِلَّا
أَخْرَجَهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ- ثُمَّ قَرَأَ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-" رُبَما يَوَدُّ
الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كانُوا مُسْلِمِينَ". قَالَ
الْحَسَنُ: إِذَا رَأَى الْمُشْرِكُونَ المسلمين وقد دخلوا
الجنة وما رأوهم فِي النَّارِ تَمَنَّوْا أَنَّهُمْ كَانُوا
مُسْلِمِينَ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: هَذَا التَّمَنِّي إِنَّمَا
هُوَ عِنْدَ الْمُعَايَنَةِ فِي الدُّنْيَا حِينَ تَبَيَّنَ
لَهُمُ الْهُدَى مِنَ الضَّلَالَةِ. وَقِيلَ: فِي الْقِيَامَةِ
إِذَا رَأَوْا كَرَامَةَ المؤمنين وذل الكافرين.
[سورة الحجر (15): آية 3]
ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ
فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (3)
فِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْأُولَى: قَوْلُهُ تَعَالَى: (ذَرْهُمْ
يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا) تَهْدِيدٌ لَهُمْ. (وَيُلْهِهِمُ
الْأَمَلُ) أَيْ يَشْغَلُهُمْ عَنِ الطَّاعَةِ. يُقَالُ:
أَلْهَاهُ عَنْ كَذَا أَيْ شَغَلَهُ. وَلَهِيَ هُوَ عَنِ
الشَّيْءِ يَلْهَى. (فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ)
إِذَا رَأَوُا الْقِيَامَةَ وَذَاقُوا وَبَالَ مَا صَنَعُوا.
وَهَذِهِ الْآيَةُ مَنْسُوخَةٌ بِالسَّيْفِ. الثَّانِيَةُ- فِي
مُسْنَدِ الْبَزَّارِ عَنْ أَنَسٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" أَرْبَعَةٌ مِنَ
الشَّقَاءِ جُمُودُ الْعَيْنِ وَقَسَاوَةُ الْقَلْبِ وَطُولُ
الْأَمَلِ والحرص على الدنيا". وطول الأمل داء
__________
(1). أي لا تغنى، يقال: ما يجدي عنك هذا، أي ما يغنى. وفى بعض
نسخ الأصل: لا تجزى، بالزاي، وهى بمعنى لا تغنى. [ ..... ]
(10/2)
وَمَا أَهْلَكْنَا
مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا وَلَهَا كِتَابٌ مَعْلُومٌ (4)
عُضَالٌ وَمَرَضٌ مُزْمِنٌ، وَمَتَى
تَمَكَّنَ مِنَ الْقَلْبِ فَسَدَ مِزَاجُهُ وَاشْتَدَّ
عِلَاجُهُ، وَلَمْ يُفَارِقْهُ دَاءٌ ولا نجع فِيهِ دَوَاءٌ،
بَلْ أَعْيَا الْأَطِبَّاءَ وَيَئِسَ مِنْ بُرْئِهِ
الْحُكَمَاءُ وَالْعُلَمَاءُ. وَحَقِيقَةُ الْأَمَلِ:
الْحِرْصُ عَلَى الدُّنْيَا وَالِانْكِبَابُ عَلَيْهَا،
وَالْحُبُّ لَهَا وَالْإِعْرَاضُ عَنِ الْآخِرَةِ. وَرُوِيَ
«1» عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
أَنَّهُ قَالَ:" نَجَا أَوَّلُ هَذِهِ الْأُمَّةِ بِالْيَقِينِ
وَالزُّهْدِ وَيَهْلِكُ آخِرُهَا بِالْبُخْلِ وَالْأَمَلِ".
ويروى عن أبى الدرداء رضى الله أَنَّهُ قَامَ عَلَى دَرَجِ
مَسْجِدِ دِمَشْقَ فَقَالَ: يأهل دِمَشْقَ، أَلَا تَسْمَعُونَ
مِنْ أَخٍ لَكُمْ نَاصِحٍ؟ إِنَّ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ
كَانُوا يَجْمَعُونَ كَثِيرًا وَيَبْنُونَ مَشِيدًا
وَيَأْمُلُونَ بَعِيدًا، فَأَصْبَحَ جَمْعُهُمْ بُورًا
وَبُنْيَانُهُمْ قُبُورًا وَأَمَلُهُمْ غُرُورًا. هَذِهِ عَادٌ
قَدْ مَلَأَتِ الْبِلَادَ أَهْلًا وَمَالًا وَخَيْلًا
وَرِجَالًا، فَمَنْ يَشْتَرِي مِنِّي الْيَوْمَ تَرِكَتَهُمْ
بِدِرْهَمَيْنِ! وَأَنْشَدَ:
يَا ذَا الْمُؤَمِّلُ آمَالًا وَإِنْ بَعُدَتْ ... مِنْهُ
وَيَزْعُمُ أَنْ يَحْظَى بِأَقْصَاهَا
أَنَّى تَفُوزُ بِمَا تَرْجُوهُ وَيْكَ وَمَا ... أَصْبَحْتَ
فِي ثِقَةٍ مِنْ نَيْلِ أَدْنَاهَا
وَقَالَ الْحَسَنُ: مَا أَطَالَ عَبْدٌ الْأَمَلَ إِلَّا
أَسَاءَ الْعَمَلَ. وَصَدَقَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ!
فَالْأَمَلُ يُكْسِلُ عَنِ الْعَمَلِ وَيُورِثُ التَّرَاخِيَ
وَالْتَوَانِيَ، وَيُعْقِبُ التَّشَاغُلَ وَالتَّقَاعُسَ،
وَيُخْلِدُ إِلَى الْأَرْضِ وَيُمِيلُ إِلَى الْهَوَى. وَهَذَا
أَمْرٌ قَدْ شُوهِدَ بِالْعِيَانِ فَلَا يَحْتَاجُ إِلَى
بَيَانٍ وَلَا يُطْلَبُ صَاحِبُهُ بِبُرْهَانٍ، كَمَا أَنَّ
قِصَرَ الْأَمَلِ يَبْعَثُ عَلَى الْعَمَلِ، وَيُحِيلُ عَلَى
الْمُبَادَرَةِ، وَيَحُثُّ عَلَى الْمُسَابَقَةِ.
[سورة الحجر (15): آية 4]
وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلاَّ وَلَها كِتابٌ مَعْلُومٌ
(4)
أَيْ أَجَلٌ مُؤَقَّتٌ كُتِبَ لَهُمْ فِي اللوح المحفوظ.
[سورة الحجر (15): آية 5]
مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها وَما يَسْتَأْخِرُونَ (5)
" مِنْ" صِلَةٌ، كَقَوْلِكَ: مَا جَاءَنِي مِنْ أَحَدٍ. أَيْ
لَا تَتَجَاوَزُ أَجَلَهَا فَتَزِيدُ عَلَيْهِ، وَلَا
تَتَقَدَّمُ قَبْلَهُ. وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:" فَإِذا
جاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا
يَسْتَقْدِمُونَ «2» ".
__________
(1). في ى: يروى.
(2). راجع ج 7 ص 201.
(10/3)
وَقَالُوا يَا
أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ
لَمَجْنُونٌ (6)
[سورة الحجر (15): الآيات 6 الى 7]
وَقالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ
إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ (6) لَوْ مَا تَأْتِينا بِالْمَلائِكَةِ
إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (7)
قَالَهُ كُفَّارُ قُرَيْشٍ لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على وجهة الِاسْتِهْزَاءِ، ثُمَّ طَلَبُوا
مِنْهُ إِتْيَانَ الْمَلَائِكَةِ دَلَالَةً على صدقه. و (لَوْ
ما) تَحْضِيضٌ عَلَى الْفِعْلِ كَلَوْلَا وَهَلَّا. وَقَالَ
الْفَرَّاءُ: الميم في" لَوْ ما" بَدَلٌ مِنَ اللَّامِ فِي
لَوْلَا. وَمِثْلُهُ اسْتَوْلَى عَلَى الشَّيْءِ وَاسْتَوْمَى
عَلَيْهِ، وَمِثْلُهُ خَالَمْتُهُ وَخَالَلْتُهُ، فهو خلمى
وخلى، أي صديقي. وعلى هذا يجوز" لَوْ ما" بِمَعْنَى الْخَبَرِ،
تَقُولُ: لَوْمَا زَيْدٌ لَضُرِبَ عَمْرٌو. قَالَ
الْكِسَائِيُّ: لَوْلَا وَلَوْمَا سَوَاءٌ فِي الْخَبَرِ
وَالِاسْتِفْهَامِ. قَالَ ابْنُ مُقْبِلٍ:
لَوْمَا الْحَيَاءُ وَلَوْمَا الدِّينُ عِبْتُكُمَا ...
بِبَعْضِ مَا فِيكُمَا إِذْ عِبْتُمَا عَوَرِي
يُرِيدُ لَوْلَا الْحَيَاءُ. وَحَكَى النَّحَّاسُ لَوْمَا
وَلَوْلَا وَهَلَّا وَاحِدٌ. وَأَنْشَدَ أَهْلُ اللُّغَةِ
عَلَى ذَلِكَ:
تَعُدُّونَ عَقْرَ النِّيْبِ أَفْضَلَ مَجْدِكُمْ ... بَنِي
ضَوْطَرَى لَوْلَا الْكَمِيُّ الْمُقَنَّعَا «1»
أَيْ هَلَّا تَعُدُّونَ الكمي المقنعا.
[سورة الحجر (15): آية 8]
مَا نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَما كانُوا
إِذاً مُنْظَرِينَ (8)
قَرَأَ حَفْصٌ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ (مَا نُنَزِّلُ
الْمَلائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِّ) وَاخْتَارَهُ أَبُو
عُبَيْدٍ. وَقَرَأَ أَبُو بَكْرٍ وَالْمُفَضَّلُ" مَا
تُنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ". الْبَاقُونَ" مَا تَنَزَّلَ
الْمَلَائِكَةُ" وَتَقْدِيرُهُ: مَا تَتَنَزَّلُ بِتَاءَيْنِ
حُذِفَتْ إِحْدَاهُمَا تَخْفِيفًا، وَقَدْ شَدَّدَ التَّاءَ
البز ي، وَاخْتَارَهُ أَبُو حَاتِمٍ اعْتِبَارًا بِقَوْلِهِ:"
تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ «2» ". وَمَعْنَى" إِلَّا
بِالْحَقِّ" إِلَّا بِالْقُرْآنِ. وَقِيلَ: بِالرِّسَالَةِ،
عَنْ مُجَاهِدٍ. وَقَالَ الْحَسَنُ: إِلَّا بِالْعَذَابِ إِنْ
لَمْ يُؤْمِنُوا." (وَما كانُوا إِذاً مُنْظَرِينَ) " أَيْ
لَوْ تَنَزَّلَتِ الْمَلَائِكَةُ بِإِهْلَاكِهِمْ لَمَا
أُمْهِلُوا وَلَا قُبِلَتْ لَهُمْ تَوْبَةٌ. وَقِيلَ:
الْمَعْنَى لَوْ تنزلت الملائكة تشهد لك فكفروا
__________
(1). البيت لجرير يهجو الفرزدق. والعقر: ضرب قوائم الناقة
بالسيف. والنيب (بكسر النون): جمع ناب، وهى الناقة المسنة.
وضوطرى: هو الرجل الضخم اللئيم الذي لا غناه عنده، وهى كلمة ذم
وسب. والكمي: الشجاع المتكمي في سلاحه، لأنه كمى نفسه أي شدها
بالدرع والبيضة. والمقنع: الذي على رأسه البيضة والمغفر.
(2). راجع ج 20 ص 133.
(10/4)
إِنَّا نَحْنُ
نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (9)
بَعْدَ ذَلِكَ لَمْ يُنْظَرُوا. وَأَصْلُ"
إِذاً" إِذْ أَنْ- وَمَعْنَاهُ حِينَئِذٍ- فَضُمَّ إِلَيْهَا
أَنْ، وَاسْتَثْقَلُوا الهمزة فحذفوها.
[سورة الحجر (15): آية 9]
إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ
(9)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ)
يَعْنِي الْقُرْآنَ. (وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ) مِنْ أَنْ
يُزَادَ فِيهِ أَوْ يُنْقَصَ مِنْهُ. قَالَ قَتَادَةُ
وَثَابِتٌ الْبُنَانِيُّ: حَفِظَهُ اللَّهُ مِنْ أَنْ تَزِيدَ
فِيهِ الشَّيَاطِينُ بَاطِلًا أَوْ تَنْقُصَ مِنْهُ حَقًّا،
فَتَوَلَّى سُبْحَانَهُ حِفْظَهُ فَلَمْ يَزَلْ مَحْفُوظًا،
وَقَالَ فِي غَيْرِهِ:" بِمَا اسْتُحْفِظُوا «1» "، فَوَكَلَ
حِفْظَهُ إِلَيْهِمْ فَبَدَّلُوا وَغَيَّرُوا. أَنْبَأَنَا
الشَّيْخُ الْفَقِيهُ الْإِمَامُ أَبُو الْقَاسِمِ عَبْدُ
اللَّهِ عَنْ أَبِيهِ الشَّيْخِ الْفَقِيهِ الْإِمَامِ
الْمُحَدِّثِ أَبِي الْحَسَنِ عَلِيِّ بْنِ خَلَفِ بْنِ
مَعْزُوزٍ الْكَوْمِيِّ التِّلِمْسَانِيِّ قَالَ: قُرِئَ عَلَى
الشَّيْخَةِ الْعَالِمَةِ «2» فَخْرِ النِّسَاءِ شُهْدَةَ
بِنْتِ أَبِي نَصْرٍ «3» أَحْمَدَ بْنِ الْفَرَجِ
الدِّينَوَرِيِّ وَذَلِكَ بِمَنْزِلِهَا بِدَارِ السَّلَامِ
فِي آخِرِ جُمَادَى الْآخِرَةِ مِنْ سَنَةِ أَرْبَعٍ
وَسِتِّينَ وَخَمْسِمِائَةٍ، قِيلَ لَهَا: أَخْبَرَكُمُ
الشَّيْخُ الْأَجَلُّ الْعَامِلُ نَقِيبُ النُّقَبَاءِ أَبُو
الْفَوَارِسِ طَرَّادُ بْنُ مُحَمَّدٍ الزَّيْنِيُّ قِرَاءَةً
عَلَيْهِ وَأَنْتِ تَسْمَعِينَ سَنَةَ تِسْعِينَ
وَأَرْبَعِمِائَةٍ، أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ
بْنِ إِبْرَاهِيمَ حَدَّثَنَا أَبُو عَلِيٍّ عِيسَى بن محمد بن
أحمد ابن عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ
بْنِ جُرَيْجٍ الْمَعْرُوفُ بِالطُّومَارِيِّ حَدَّثَنَا
الْحُسَيْنُ بْنُ فَهْمٍ قَالَ: سَمِعْتُ يَحْيَى بْنَ
أَكْثَمَ يَقُولُ: كَانَ لِلْمَأْمُونِ- وَهُوَ أَمِيرٌ إِذْ
ذَاكَ- مَجْلِسُ نَظَرٍ، فَدَخَلَ فِي جُمْلَةِ النَّاسِ
رَجُلٌ يَهُودِيٌّ حَسَنُ الثَّوْبِ حَسَنُ الْوَجْهِ طَيِّبُ
الرَّائِحَةِ، قَالَ: فتكلم فأحسن الكلام والعبارة، قال: فلما
أن تَقَوَّضَ الْمَجْلِسُ دَعَاهُ الْمَأْمُونُ فَقَالَ لَهُ:
إِسْرَائِيلِيٌّ؟ قَالَ نَعَمْ. قَالَ لَهُ: أَسْلِمْ حَتَّى
أَفْعَلَ بِكَ وَأَصْنَعَ، وَوَعَدَهُ. فَقَالَ: دِينِي
وَدِينُ آبَائِي! وَانْصَرَفَ. قَالَ: فَلَمَّا كَانَ بَعْدَ
سَنَةٍ جَاءَنَا مُسْلِمًا، قَالَ: فَتَكَلَّمَ عَلَى
الْفِقْهِ فَأَحْسَنَ الْكَلَامَ، فَلَمَّا تَقَوَّضَ
الْمَجْلِسُ دَعَاهُ الْمَأْمُونُ وَقَالَ: أَلَسْتَ
صَاحِبَنَا بِالْأَمْسِ؟ قَالَ لَهُ: بَلَى. قَالَ: فَمَا
كَانَ سَبَبُ إِسْلَامِكَ؟ قَالَ: انْصَرَفْتُ مِنْ حَضْرَتِكَ
فأحببت أن أمتحن هذه الأديان، وأنت (مع ما) «4» تراني حسن
__________
(1). راجع ج 6 ص 188.
(2). في ى: الصالحة.
(3). في و: أبى بكر.
(4). من ى.
(10/5)
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا
مِنْ قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الْأَوَّلِينَ (10)
الْخَطِّ، فَعَمَدْتُ إِلَى التَّوْرَاةِ
فَكَتَبْتُ ثَلَاثَ نُسَخٍ فَزِدْتُ فِيهَا وَنَقَصْتُ،
وَأَدْخَلْتُهَا الْكَنِيسَةَ فَاشْتُرِيَتْ مِنِّي، وعمدت إلى
الإنجيل فكتب ثَلَاثَ نُسَخٍ فَزِدْتُ فِيهَا وَنَقَصْتُ،
وَأَدْخَلْتُهَا الْبِيعَةَ فَاشْتُرِيَتْ مِنِّي، وَعَمَدْتُ
إِلَى الْقُرْآنِ فَعَمِلْتُ ثَلَاثَ نُسَخٍ وَزِدْتُ فِيهَا
وَنَقَصْتُ، وَأَدْخَلْتُهَا الْوَرَّاقِينَ فَتَصَفَّحُوهَا،
فَلَمَّا أَنْ وَجَدُوا فِيهَا الزِّيَادَةَ وَالنُّقْصَانَ
رَمَوْا بِهَا فَلَمْ يَشْتَرُوهَا، فَعَلِمْتُ أَنَّ هَذَا
كِتَابٌ مَحْفُوظٌ، فَكَانَ هَذَا سَبَبُ إِسْلَامِي. قَالَ
يَحْيَى بْنُ أَكْثَمَ: فَحَجَجْتُ تِلْكَ السَّنَةَ فَلَقِيتُ
سُفْيَانَ بْنَ عُيَيْنَةَ فَذَكَرْتُ لَهُ الْخَبَرَ فَقَالَ
لِي: مِصْدَاقُ هَذَا فِي كِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ.
قَالَ قُلْتُ: فِي أَيِّ مَوْضِعٍ؟ قَالَ: فِي قَوْلِ اللَّهِ
تَبَارَكَ وَتَعَالَى فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ:" بِمَا
اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتابِ اللَّهِ"، فَجَعَلَ حِفْظَهُ
إِلَيْهِمْ فَضَاعَ، وَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ:" إِنَّا نَحْنُ
نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ" فَحَفِظَهُ
اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَيْنَا فَلَمْ يَضِعْ. وَقِيلَ:"
وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ" أَيْ لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَنْ يَتَقَوَّلَ عَلَيْنَا أَوْ
نَتَقَوَّلَ عَلَيْهِ. أَوْ" وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ" مِنْ
أَنْ يُكَادَ أَوْ يُقْتَلَ. نَظِيرُهُ" وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ
مِنَ النَّاسِ «1» ". و" نَحْنُ" يجوز أن يكون موضعه رفعا
بالابتداء و" نَزَّلْنَا" الْخَبَرَ. وَالْجُمْلَةُ خَبَرَ"
إِنَّ". وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ" نَحْنُ" تَأْكِيدًا لِاسْمِ"
إِنَّ" فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ، وَلَا تَكُونُ فَاصِلَةً لِأَنَّ
الَّذِي بَعْدَهَا لَيْسَ بِمَعْرِفَةٍ وَإِنَّمَا هُوَ
جُمْلَةٌ، وَالْجُمَلُ تَكُونُ نُعُوتًا للنكرات فحكمها حكم
النكرات.
[سورة الحجر (15): آية 10]
وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الْأَوَّلِينَ
(10)
الْمَعْنَى: وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلًا،
فَحُذِفَ. وَالشِّيَعُ جَمْعُ شِيعَةٍ وَهِيَ الْأُمَّةُ، أَيْ
فِي أممهم، قاله ابن عباس وقتادة. الحسن: فِي فِرَقِهِمْ.
وَالشِّيعَةُ: الْفِرْقَةُ وَالطَّائِفَةُ مِنَ النَّاسِ
الْمُتَآلِفَةُ الْمُتَّفِقَةُ الْكَلِمَةِ. فَكَأَنَّ
الشِّيَعَ الْفِرَقُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:" أَوْ
يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً «2» ". وَأَصْلُهُ مَأْخُوذٌ مِنَ
الشِّيَاعِ وَهُوَ الْحَطَبُ الصِّغَارُ يُوقَدُ بِهِ
الْكِبَارُ- كَمَا تَقَدَّمَ فِي" الْأَنْعَامِ".- وَقَالَ
الْكَلْبِيُّ: إن الشيع هنا القرى.
__________
(1). راجع ج 6 ص 242.
(2). راجع ج 7 ص 9.
(10/6)
وَمَا يَأْتِيهِمْ
مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (11)
كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (12) لَا
يُؤْمِنُونَ بِهِ وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ (13)
[سورة الحجر (15): آية 11]
وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ كانُوا بِهِ
يَسْتَهْزِؤُنَ (11)
تَسْلِيَةٌ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
أَيْ كَمَا فَعَلَ بِكَ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكُونَ فَكَذَلِكَ
فُعِلَ بمن قبلك من الرسل.
[سورة الحجر (15): الآيات 12 الى 13]
كَذلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (12) لَا
يُؤْمِنُونَ بِهِ وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ (13)
قَوْلُهُ تَعَالَى:" كَذلِكَ نَسْلُكُهُ" أَيِ الضَّلَالَ
وَالْكُفْرَ وَالِاسْتِهْزَاءَ وَالشِّرْكَ." فِي قُلُوبِ
الْمُجْرِمِينَ" مِنْ قَوْمِكَ، عَنِ الْحَسَنِ وَقَتَادَةَ
وَغَيْرِهِمَا. أَيْ كَمَا سَلَكْنَاهُ فِي قُلُوبِ مَنْ
تَقَدَّمَ مِنْ شِيَعِ الْأَوَّلِينَ كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ فِي
قُلُوبِ مُشْرِكِي قَوْمِكَ حَتَّى لَا يُؤْمِنُوا بِكَ، كَمَا
لَمْ يُؤْمِنْ مَنْ قَبْلَهُمْ بِرُسُلِهِمْ. وَرَوَى ابْنُ
جُرَيْجٍ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: نَسْلُكُ التَّكْذِيبَ.
وَالسَّلْكُ: إِدْخَالُ الشَّيْءِ فِي الشَّيْءِ كَإِدْخَالِ
الْخَيْطِ فِي الْمِخْيَطِ. يُقَالُ: سَلَكَهُ يَسْلُكُهُ
سَلْكًا وسلوكا، أسلكه إِسْلَاكًا. وَسَلَكَ الطَّرِيقَ
سُلُوكًا وَسَلْكًا وَأَسْلَكَهُ دَخَلَهُ، وَالشَّيْءُ فِي
غَيْرِهِ مِثْلَهُ، وَالشَّيْءُ كَذَلِكَ وَالرُّمْحُ،
وَالْخَيْطُ فِي الْجَوْهَرِ، كُلُّهُ فَعَلَ وَأَفْعَلَ.
وَقَالَ عَدِيُّ بْنُ زَيْدٍ:
وَقَدْ سَلَكُوكَ فِي يَوْمٍ عَصِيبٍ «1»
وَالسِّلْكُ (بِالْكَسْرِ) الْخَيْطُ. وَفِي الْآيَةِ رَدٌّ
عَلَى الْقَدَرِيَّةِ وَالْمُعْتَزِلَةِ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى
نَسْلُكُ الْقُرْآنَ فِي قُلُوبِهِمْ فَيُكَذِّبُونَ بِهِ.
وَقَالَ «2» الْحَسَنُ وَمُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ الْقَوْلُ
الَّذِي عَلَيْهِ أَكْثَرُ أَهْلِ التَّفْسِيرِ، وَهُوَ
أَلْزَمُ حُجَّةً عَلَى الْمُعْتَزِلَةِ. وَعَنِ الْحَسَنِ
أَيْضًا: نَسْلُكُ الذِّكْرَ إِلْزَامًا لِلْحُجَّةِ، ذَكَرَهُ
الْغَزْنَوِيُّ. (وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ) أَيْ
مَضَتْ سُنَّةُ اللَّهِ بِإِهْلَاكِ الْكُفَّارِ، فَمَا
أَقْرَبَ هَؤُلَاءِ مِنَ الْهَلَاكِ. وَقِيلَ:" خَلَتْ سُنَّةُ
الْأَوَّلِينَ" بِمِثْلِ مَا فَعَلَ هَؤُلَاءِ مِنَ
التَّكْذِيبِ وَالْكُفْرِ، فَهُمْ يَقْتَدُونَ بأولئك.
__________
(1). هذا عجز البيت، كما في السان وشعراء النصرانية:
وكنت خصمك لم أعرد
(2). في الأصول:" وقرا".
(10/7)
وَلَوْ فَتَحْنَا
عَلَيْهِمْ بَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ
يَعْرُجُونَ (14) لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا
بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ (15)
[سورة الحجر (15): الآيات 14 الى 15]
وَلَوْ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَابًا مِنَ السَّماءِ فَظَلُّوا
فِيهِ يَعْرُجُونَ (14) لَقالُوا إِنَّما سُكِّرَتْ أَبْصارُنا
بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ (15)
يُقَالُ: ظَلَّ يَفْعَلُ كَذَا، أَيْ يَفْعَلُهُ بِالنَّهَارِ.
وَالْمَصْدَرُ الظُّلُولُ. أَيْ لَوْ أُجِيبُوا إِلَى مَا
اقْتَرَحُوا مِنَ الْآيَاتِ لَأَصَرُّوا عَلَى الْكُفْرِ
وَتَعَلَّلُوا بِالْخَيَالَاتِ، كَمَا قَالُوا لِلْقُرْآنِ
الْمُعْجِزِ: إِنَّهُ سِحْرٌ." يَعْرُجُونَ" مِنْ عَرَجَ
يَعْرُجُ أَيْ صَعِدَ. وَالْمَعَارِجُ الْمَصَاعِدُ. أَيْ لَوْ
صَعِدُوا إِلَى السَّمَاءِ وَشَاهَدُوا الْمَلَكُوتَ
وَالْمَلَائِكَةَ لَأَصَرُّوا عَلَى الْكُفْرِ، عَنِ الْحَسَنِ
وَغَيْرِهِ. وَقِيلَ: الضَّمِيرُ فِي" عَلَيْهِمْ"
لِلْمُشْرِكِينَ. وَفِي" فَظَلُّوا" لِلْمَلَائِكَةِ، تَذْهَبُ
وَتَجِيءُ أَيْ لَوْ كُشِفَ لِهَؤُلَاءِ حَتَّى يُعَايِنُوا
أَبْوَابًا فِي السَّمَاءِ تَصْعَدُ فِيهَا الْمَلَائِكَةُ
وَتَنْزِلُ لَقَالُوا: رَأَيْنَا بِأَبْصَارِنَا مَا لَا
حَقِيقَةَ لَهُ، عَنِ ابن عباس وقتادة. ومعنى (سُكِّرَتْ)
سُدَّتْ بِالسِّحْرِ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالضَّحَّاكُ.
وَقَالَ الْحَسَنُ: سُحِرَتْ. الْكَلْبِيُّ: أُغْشِيَتْ
أَبْصَارُنَا، وَعَنْهُ أَيْضًا عَمِيَتْ. قَتَادَةُ:
أُخِذَتْ. وَقَالَ الْمُؤَرِّجُ: دِيرَ بِنَا، مِنَ
الدَّوَرَانِ، أَيْ صَارَتْ أَبْصَارُنَا سَكْرَى. جُوَيْبِرٌ:
خُدِعَتْ. وَقَالَ أَبُو عَمْرِو بْنُ الْعَلَاءِ:" سُكِّرَتْ"
غُشِّيَتْ وَغُطِّيَتْ. وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
وَطَلَعَتْ شَمْسٌ عَلَيْهَا مِغْفَرُ ... وَجَعَلَتْ عَيْنُ
الْحَرُورِ تَسْكَرُ
وَقَالَ مُجَاهِدٌ:" سُكِّرَتْ" حُبِسَتْ. وَمِنْهُ قَوْلُ
أَوْسِ بْنِ حَجَرٍ:
فَصِرْتُ «1» عَلَى لَيْلَةٍ سَاهِرَةْ ... فَلَيْسَتْ
بِطَلْقٍ وَلَا سَاكِرَةْ
قُلْتُ: وَهَذِهِ أَقْوَالٌ مُتَقَارِبَةٌ يَجْمَعُهَا
قَوْلُكَ: مُنِعَتْ. قَالَ ابْنُ عُزَيْزٍ:" سُكِّرَتْ
أَبْصارُنا" سُدَّتْ أَبْصَارُنَا، هُوَ مِنْ قَوْلِكَ،
سَكَرْتُ النَّهْرَ إِذَا سَدَدْتَهُ. وَيُقَالُ: هُوَ مِنْ
سُكْرِ الشَّرَابِ، كَأَنَّ الْعَيْنَ يَلْحَقُهَا مَا
يَلْحَقُ الشَّارِبَ إِذَا سَكِرَ. وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ"
سَكِرَتْ" بِالتَّخْفِيفِ. وَالْبَاقُونَ بِالتَّشْدِيدِ.
قَالَ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ: سُكِّرَتْ مُلِئَتْ «2». قال
المهدوي: والتخفيف والتشديد
__________
(1). في اللسان مادة سكر:" جذلت" بالجيم والذال المفتوحتين،
ومعنى" جذل" انتصب وثبت لا يبرح. وليلة طلق: مشرق لا برد فيها
ولا حر، ولا مطر ولا قر.
(2). عبارة أبن الاعرابي كما في نسخ الأصل: (سكرت ميلت، وسكرت
ملكت) ولم نر ما يؤيد هذا، ولعله تكرير من النساخ مع تحريف. [
..... ]
(10/8)
وَلَقَدْ جَعَلْنَا
فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ (16)
فِي" سُكِّرَتْ" ظَاهِرَانِ، التَّشْدِيدُ
لِلتَّكْثِيرِ وَالتَّخْفِيفُ يُؤَدِّي عَنْ مَعْنَاهُ.
وَالْمَعْرُوفُ أَنَّ" سَكِرَ" لَا يَتَعَدَّى. قَالَ أَبُو
عَلِيٍّ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ سُمِعَ مُتَعَدِّيًا فِي
الْبَصَرِ. وَمَنْ قَرَأَ" سَكِرَتْ" فَإِنَّهُ شَبَّهَ مَا
عَرَضَ لِأَبْصَارِهِمْ بِحَالِ السَّكْرَانِ، كَأَنَّهَا
جَرَتْ مَجْرَى السَّكْرَانِ لِعَدَمِ تَحْصِيلِهِ. وَقَدْ
قِيلَ: إِنَّهُ بِالتَّخْفِيفِ [مِنْ] سُكْرِ الشَّرَابِ،
وَبِالتَّشْدِيدِ أُخِذَتْ، ذَكَرَهُمَا الْمَاوَرْدِيُّ.
وَقَالَ النَّحَّاسُ: وَالْمَعْرُوفُ مِنْ قِرَاءَةِ مُجَاهِدٍ
وَالْحَسَنِ" سُكِرَتْ" بِالتَّخْفِيفِ. قَالَ الْحَسَنُ: أَيْ
سُحِرَتْ. وَحَكَى أَبُو عُبَيْدٍ عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ
أَنَّهُ يُقَالُ: سُكِّرَتْ أَبْصَارُهُمْ إِذَا غَشِيَهَا
سَمَادِيرُ «1» حَتَّى لَا يُبْصِرُوا. وَقَالَ الْفَرَّاءُ:
مَنْ قَرَأَ" سُكِرَتْ" أَخَذَهُ مِنْ سُكُورِ الرِّيحِ «2».
قَالَ النَّحَّاسُ: وَهَذِهِ الْأَقْوَالُ مُتَقَارِبَةٌ.
وَالْأَصْلُ فِيهَا مَا قَالَ أَبُو عَمْرِو بْنُ الْعَلَاءِ
رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى، قَالَ: هُوَ مِنَ السُّكْرِ فِي
الشَّرَابِ. وَهَذَا قَوْلٌ حَسَنٌ، أَيْ غَشِيَهُمْ مَا
غَطَّى أَبْصَارَهُمْ كَمَا غَشِيَ السَّكْرَانَ مَا غَطَّى
عَقْلَهُ. وَسُكُورُ الرِّيحِ سُكُونُهَا وَفُتُورُهَا، فَهُوَ
يَرْجِعُ إِلَى مَعْنَى التحيير.
[سورة الحجر (15): آية 16]
وَلَقَدْ جَعَلْنا فِي السَّماءِ بُرُوجاً وَزَيَّنَّاها
لِلنَّاظِرِينَ (16)
لَمَّا ذَكَرَ كُفْرَ الْكَافِرِينَ وَعَجْزَ أَصْنَامِهِمْ
ذَكَرَ كَمَالَ قُدْرَتِهِ لِيَسْتَدِلَّ بِهَا عَلَى
وَحْدَانِيَّتِهِ. وَالْبُرُوجُ: الْقُصُورُ وَالْمَنَازِلُ.
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَيْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجَ
الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ، أَيْ مَنَازِلَهُمَا. وَأَسْمَاءُ
هَذِهِ الْبُرُوجِ: الْحَمَلُ، وَالثَّوْرُ، وَالْجَوْزَاءُ،
وَالسَّرَطَانُ، وَالْأَسَدُ، وَالسُّنْبُلَةُ، وَالْمِيزَانُ،
وَالْعَقْرَبُ، وَالْقَوْسُ، وَالْجَدْيُ، وَالدَّلْوُ،
وَالْحُوتُ. وَالْعَرَبُ تَعُدُّ الْمَعْرِفَةَ لِمَوَاقِعِ
النُّجُومِ وَأَبْوَابِهَا مِنْ أَجَلِّ الْعُلُومِ،
وَيَسْتَدِلُّونَ بِهَا عَلَى الطُّرُقَاتِ وَالْأَوْقَاتِ
وَالْخِصْبِ وَالْجَدْبِ. وَقَالُوا: الْفَلَكُ اثْنَا عَشَرَ
بُرْجًا، كُلُّ بُرْجٍ مِيلَانِ وَنِصْفٌ. وَأَصْلُ الْبُرُوجِ
الظُّهُورُ، وَمِنْهُ تَبَرُّجُ الْمَرْأَةِ بِإِظْهَارِ
زِينَتِهَا. وَقَدْ تَقَدَّمَ هَذَا الْمَعْنَى فِي النِّسَاءِ
«3». وَقَالَ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ: الْبُرُوجُ النُّجُومُ،
وَسُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِظُهُورِهَا وَارْتِفَاعِهَا. وقيل:
الكواكب العظام، قال أبو صالح،
__________
(1). السمادير: ضعف البصر. وقيل: هو الذي يتراءى للإنسان من
ضعف بصره عند السكر من الشراب.
(2). سكونها بعد الهبوب.
(3). راجع ج 5 ص 284.
(10/9)
وَحَفِظْنَاهَا مِنْ
كُلِّ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ (17)
يَعْنِي السَّبْعَةَ السَّيَّارَةَ «1».
وَقَالَ قَوْمٌ:" بُرُوجاً"، أَيْ قُصُورًا وَبُيُوتًا فِيهَا
الْحَرَسُ، خَلَقَهَا اللَّهُ فِي السَّمَاءِ. فَاللَّهُ
أَعْلَمُ. (وَزَيَّنَّاها) يَعْنِي السَّمَاءَ، كَمَا قَالَ
فِي سُورَةِ الْمُلْكِ:" وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّماءَ
الدُّنْيا بِمَصابِيحَ «2» "." لِلنَّاظِرِينَ" للمعتبرين
والمتفكرين.
[سورة الحجر (15): آية 17]
وَحَفِظْناها مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ رَجِيمٍ (17)
أَيْ مَرْجُومٍ. وَالرَّجْمُ الرَّمْيُ بِالْحِجَارَةِ.
وَقِيلَ: الرَّجْمُ اللَّعْنُ وَالطَّرْدُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ
«3». وَقَالَ الْكِسَائِيُّ: كُلُّ رَجِيمٍ فِي الْقُرْآنِ
فَهُوَ بِمَعْنَى الشَّتْمِ. وَزَعَمَ الْكَلْبِيُّ أَنَّ
السموات كُلَّهَا لَمْ تُحْفَظْ مِنَ الشَّيَاطِينِ إِلَى
زَمَنِ عِيسَى، فَلَمَّا بَعَثَ اللَّهُ تَعَالَى عِيسَى
حَفِظَ منها ثلاث سموات إِلَى مَبْعَثِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَحَفِظَ جَمِيعهَا بَعْدَ
بَعْثِهِ وَحُرِسَتْ مِنْهُمْ بِالشُّهُبِ. وَقَالَهُ ابْنُ
عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ:
(وَقَدْ كَانَتِ الشَّيَاطِينُ لَا يُحْجَبُونَ عَنِ
السَّمَاءِ، فَكَانُوا يَدْخُلُونَهَا وَيُلْقُونَ
أَخْبَارَهَا عَلَى الْكَهَنَةِ، فَيَزِيدُونَ عَلَيْهَا
تِسْعًا فَيُحَدِّثُونَ بِهَا أَهْلَ الْأَرْضِ، الْكَلِمَةُ
حَقٌّ وَالتِّسْعُ بَاطِلٌ، فَإِذَا رَأَوْا شَيْئًا مِمَّا
قَالُوهُ صَدَّقُوهُمْ فِيمَا جَاءُوا به، فلما ولد عيسى بن
مريم عليهما السلام منعوا من ثلاث سموات، فَلَمَّا وُلِدَ
مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُنِعُوا مِنَ
السموات كُلِّهَا، فَمَا مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ يُرِيدُ
اسْتِرَاقَ السَّمْعِ إِلَّا رُمِيَ بِشِهَابٍ، عَلَى مَا
يَأْتِي «4».
[سورة الحجر (15): آية 18]
إِلاَّ مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ مُبِينٌ
(18)
أَيْ لَكِنْ مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ، أَيِ الْخَطْفَةَ
الْيَسِيرَةَ، فَهُوَ اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ. وَقِيلَ، هُوَ
مُتَّصِلٌ، أي إلا ممن استرق السمع. أَيْ حَفِظْنَا السَّمَاءَ
مِنَ الشَّيَاطِينِ أَنْ تَسْمَعَ شَيْئًا مِنَ الْوَحْيِ،
وَغَيْرِهِ، إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَإِنَّا لَمْ
نَحْفَظْهَا مِنْهُ أَنْ تَسْمَعَ الْخَبَرَ مِنْ أَخْبَارِ
السَّمَاءِ سِوَى الْوَحْيِ، فَأَمَّا الْوَحْيُ فَلَا
تَسْمَعُ مِنْهُ شَيْئًا، لِقَوْلِهِ:" إِنَّهُمْ عَنِ
السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ" «5». وإذا استمع الشياطين
__________
(1). وهي- حسب ترتيبها التصاعدى-: القمر، عطارد: الزهرة،
الشمس، المريخ، المشترى، زحل.
(2). راجع ج 18 ص 210.
(3). راجع ج 9 ص 91.
(4). راجع ج 15 ص 64، ج 19 ص 10.
(5). راجع ج 13 ص
(10/10)
إلى شي لَيْسَ بِوَحْيٍ فَإِنَّهُمْ
يَقْذِفُونَهُ إِلَى الْكَهَنَةِ فِي أَسْرَعَ مِنْ طَرْفَةِ
عَيْنٍ، ثُمَّ تَتْبَعُهُمُ الشُّهُبُ فَتَقْتُلُهُمْ أَوْ
تَخْبِلُهُمْ «1»، ذَكَرَهُ الْحَسَنُ وَابْنُ عَبَّاسٍ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: (فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ مُبِينٌ) أَتْبَعَهُ:
أَدْرَكَهُ ولحقه. وشهاب: كَوْكَبٌ مُضِيءٌ. وَكَذَلِكَ
شِهَابٌ ثَاقِبٌ. وَقَوْلُهُ:" بِشِهابٍ قَبَسٍ «2» "
بِشُعْلَةِ نَارٍ فِي رَأْسِ عُودٍ، قَالَهُ ابْنُ عُزَيْزٍ.
وَقَالَ ذُو الرُّمَّةِ:
كَأَنَّهُ كَوْكَبٌ فِي إِثْرِ عِفْرِيَةٍ «3» ... مُسَوَّمٌ
فِي سَوَادِ اللَّيْلِ منقضب
وسمي الكوكب شهابا لبريقه، بشبه النَّارَ. وَقِيلَ: شِهَابٌ
لِشُعْلَةٍ مِنْ نَارٍ، قَبَسٌ لِأَهْلِ الْأَرْضِ،
فَتُحْرِقُهُمْ وَلَا تَعُودُ إِذَا أَحْرَقَتْ كَمَا إِذَا
أَحْرَقَتِ النَّارُ لَمْ تَعُدْ، بِخِلَافِ الْكَوْكَبِ
فَإِنَّهُ إِذَا أَحْرَقَ عَادَ إِلَى مَكَانِهِ. قَالَ ابْنُ
عَبَّاسٍ: تَصْعَدُ الشَّيَاطِينُ أَفْوَاجًا تَسْتَرِقُ
السَّمْعَ فَيَنْفَرِدُ الْمَارِدُ مِنْهَا فَيَعْلُو،
فَيُرْمَى بِالشِّهَابِ فَيُصِيبُ جَبْهَتَهُ أَوْ أَنْفَهُ
أَوْ مَا شَاءَ اللَّهُ فَيَلْتَهِبُ، فَيَأْتِي أَصْحَابَهُ
وَهُوَ يَلْتَهِبُ فَيَقُولُ: إنه كان من الام كَذَا وَكَذَا،
فَيَذْهَبُ أُولَئِكَ إِلَى إِخْوَانِهِمْ مِنَ الْكَهَنَةِ
فَيَزِيدُونَ عَلَيْهَا تِسْعًا، فَيُحَدِّثُونَ بِهَا أَهْلَ
الْأَرْضِ، الْكَلِمَةُ حَقٌّ وَالتِّسْعُ بَاطِلٌ. فَإِذَا
رَأَوْا شَيْئًا مِمَّا قَالُوا قَدْ كَانَ، صَدَّقُوهُمْ
بِكُلِّ مَا جَاءُوا بِهِ مِنْ كَذِبِهِمْ. وَسَيَأْتِي هَذَا
الْمَعْنَى مَرْفُوعًا فِي سُورَةِ" سَبَأٍ «4» " إِنْ شَاءَ
اللَّهُ تَعَالَى. وَاخْتُلِفَ فِي الشِّهَابِ هَلْ يَقْتُلُ
أَمْ لَا. فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الشِّهَابُ يَجْرَحُ
وَيُحْرِقُ وَيُخْبِلُ وَلَا يَقْتُلُ. وَقَالَ الْحَسَنُ
وَطَائِفَةٌ: يَقْتُلُ، فَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ فِي
قَتْلِهِمْ بِالشُّهُبِ قَبْلَ إِلْقَاءِ السَّمْعِ إِلَى
الْجِنِّ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا- أَنَّهُمْ يُقْتَلُونَ
قَبْلَ إِلْقَائِهِمْ مَا اسْتَرَقُوهُ مِنَ السَّمْعِ إِلَى
غَيْرِهِمْ، فَعَلَى هَذَا لَا تَصِلُ أَخْبَارُ السَّمَاءِ
إِلَى غَيْرِ الْأَنْبِيَاءِ، وَلِذَلِكَ انْقَطَعَتِ
الْكِهَانَةُ. وَالثَّانِي: أَنَّهُمْ يُقْتَلُونَ بَعْدَ
إِلْقَائِهِمْ مَا اسْتَرَقُوهُ مِنَ السَّمْعِ إِلَى
غَيْرِهِمْ مِنَ الْجِنِّ، وَلِذَلِكَ مَا يَعُودُونَ إِلَى
اسْتِرَاقِهِ، وَلَوْ لَمْ يَصِلْ لَانْقَطَعَ الِاسْتِرَاقُ
وَانْقَطَعَ الْإِحْرَاقُ، ذَكَرَهُ الْمَاوَرْدِيُّ
__________
(1). الخيل (بسكون الياء): فساد الأعضاء.
(2). راجع ج 13 ص 156.
(3). أي إثر الشيطان، ومسوم: معلم. ومنقضب: منقض من مكانه.
(4). راجع ج 14 ص 295.
(10/11)
وَالْأَرْضَ
مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا
فِيهَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ (19) وَجَعَلْنَا لَكُمْ
فِيهَا مَعَايِشَ وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ (20)
قُلْتُ وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ أَصَحُّ
عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانُهُ فِي" الصَّافَّاتِ". وَاخْتُلِفَ
هَلْ كَانَ رَمْيٌ بِالشُّهُبِ قَبْلَ الْمَبْعَثِ؟ فَقَالَ
الْأَكْثَرُونَ نَعَمْ. وَقِيلَ: لَا، وَإِنَّمَا ذَلِكَ
بَعْدَ الْمَبْعَثِ. وَسَيَأْتِي بَيَانُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ
فِي سُورَةِ" الْجِنِّ (1) " إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
وَفِي" الصَّافَّاتِ" أَيْضًا. قَالَ الزَّجَّاجُ: وَالرَّمْيُ
بِالشُّهُبِ مِنْ آيَاتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ مِمَّا حَدَثَ بَعْدَ مَوْلِدِهِ، لِأَنَّ
الشُّعَرَاءَ فِي الْقَدِيمِ لَمْ يَذْكُرُوهُ فِي
أَشْعَارِهِمْ، وَلَمْ يُشَبِّهُوا الشَّيْءَ السَّرِيعَ بِهِ
كَمَا شَبَّهُوا بِالْبَرْقِ وَبِالسَّيْلِ. وَلَا يَبْعُدُ
أَنْ يُقَالَ: انْقِضَاضُ الْكَوَاكِبِ كَانَ فِي قَدِيمِ
الزَّمَانِ وَلَكِنَّهُ لَمْ يَكُنْ رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ،
ثُمَّ صَارَ رُجُومًا حِينَ وُلِدَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَالَ الْعُلَمَاءُ: نَحْنُ نَرَى
انْقِضَاضَ الْكَوَاكِبِ، فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ كَمَا
نَرَى ثُمَّ يَصِيرَ نَارًا إِذَا أَدْرَكَ الشَّيْطَانَ.
وَيَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: يُرْمَوْنَ بِشُعْلَةٍ مِنْ نَارٍ
مِنَ الْهَوَى فَيُخَيَّلُ إِلَيْنَا أَنَّهُ نَجْمٌ سَرَى.
وَالشِّهَابُ فِي اللُّغَةِ النَّارُ السَّاطِعَةُ. وَذَكَرَ
أَبُو دَاوُدَ عَنْ عَامِرٍ الشَّعْبِيِّ قَالَ: لَمَّا بُعِثَ
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رُجِمَتِ
الشَّيَاطِينُ بِنُجُومٍ لَمْ تَكُنْ تُرْجَمُ بِهَا قَبْلُ،
فَأَتَوْا عَبْدَ يَالِيلَ بْنَ عَمْرٍو الثَّقَفِيَّ
فَقَالُوا: إِنَّ النَّاسَ قَدْ فَزِعُوا وَقَدْ أَعْتَقُوا
رَقِيقَهُمْ وَسَيَّبُوا أَنْعَامَهُمْ لِمَا رَأَوْا فِي
النُّجُومِ. فَقَالَ لَهُمْ- وَكَانَ رَجُلًا أَعْمَى-: لَا
تَعْجَلُوا، وَانْظُرُوا فَإِنْ كَانَتِ النُّجُومُ الَّتِي
تُعْرَفُ فَهِيَ عِنْدَ فَنَاءِ النَّاسِ، وَإِنْ كَانَتْ لَا
تُعْرَفُ فَهِيَ مِنْ حَدَثٍ. فَنَظَرُوا فَإِذَا هِيَ نُجُومٌ
لَا تُعْرَفُ، فَقَالُوا: هَذَا مِنْ حَدَثٍ. فَلَمْ
يَلْبَثُوا حَتَّى سَمِعُوا بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
[سورة الحجر (15): الآيات 19 الى 20]
وَالْأَرْضَ مَدَدْناها وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ
وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ (19)
وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ
بِرازِقِينَ (20)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَالْأَرْضَ مَدَدْناها) هَذَا مِنْ
نِعَمِهِ أَيْضًا، وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى كَمَالِ قُدْرَتِهِ.
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: بَسَطْنَاهَا عَلَى وَجْهِ الْمَاءِ،
كَمَا قَالَ" وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها «1» " أي
__________
(1). راجع ج 19 ص 10، وص 201.
(10/12)
بَسَطَهَا. وَقَالَ:" وَالْأَرْضَ
فَرَشْناها فَنِعْمَ الْماهِدُونَ «1» ". وَهُوَ يَرُدُّ عَلَى
مَنْ زَعَمَ أَنَّهَا كَالْكُرَةِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ «2».
(وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ) جِبَالًا ثَابِتَةً لِئَلَّا
تَتَحَرَّكَ بِأَهْلِهَا. (وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ
شَيْءٍ مَوْزُونٍ) أَيْ مُقَدَّرٍ مَعْلُومٍ، قَالَهُ ابْنُ
عَبَّاسٍ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ. وَإِنَّمَا قَالَ"
مَوْزُونٍ" لِأَنَّ الْوَزْنَ يُعْرَفُ بِهِ مِقْدَارُ
الشَّيْءِ. قَالَ الشَّاعِرُ:
قَدْ كُنْتُ قَبْلَ لِقَائِكُمْ ذَا مِرَّةٍ ... عِنْدِي
لِكُلِّ مُخَاصِمٍ مِيزَانُهُ
وَقَالَ قَتَادَةُ: مَوْزُونٌ يَعْنِي مَقْسُومٌ. وَقَالَ
مُجَاهِدٌ: مَوْزُونٌ مَعْدُودٌ. وَيُقَالُ: هَذَا كَلَامٌ
مَوْزُونٌ، أَيْ مَنْظُومٌ غَيْرُ مُنْتَثِرٍ. فَعَلَى هَذَا
أَيْ أَنْبَتْنَا فِي الْأَرْضِ مَا يُوزَنُ مِنَ الْجَوَاهِرِ
وَالْحَيَوَانَاتِ وَالْمَعَادِنِ. وَقَدْ قَالَ اللَّهُ عَزَّ
وَجَلَّ فِي الْحَيَوَانِ:" وَأَنْبَتَها نَباتاً حَسَناً «3»
". وَالْمَقْصُودُ مِنَ الْإِنْبَاتِ الْإِنْشَاءُ
وَالْإِيجَادُ. وَقِيلَ:" أَنْبَتْنا فِيها" أَيْ فِي
الْجِبَالِ" مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ" من الذهب والفضة
والنحاس والرصاص والقزدير، حَتَّى الزِّرْنِيخَ وَالْكُحْلَ،
كُلُّ ذَلِكَ يُوزَنُ وَزْنًا. رُوِيَ مَعْنَاهُ عَنِ
الْحَسَنِ وَابْنِ زَيْدٍ. وَقِيلَ: أَنْبَتْنَا فِي الْأَرْضِ
الثِّمَارَ مِمَّا يُكَالُ وَيُوزَنُ. وَقِيلَ: مَا يُوزَنُ
فِيهِ الْأَثْمَانُ لِأَنَّهُ أَجَلُّ قَدْرًا وَأَعَمُّ
نَفْعًا مِمَّا لَا ثَمَنَ لَهُ. (وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها
مَعايِشَ) يَعْنِي الْمَطَاعِمَ وَالْمَشَارِبَ الَّتِي
يَعِيشُونَ بِهَا، وَاحِدُهَا مَعِيشَةٌ (بِسُكُونِ الْيَاءِ).
وَمِنْهُ قَوْلُ جَرِيرٍ:
تُكَلِّفُنِي مَعِيشَةَ آلِ زَيْدٍ ... وَمَنْ لِي
بِالْمُرَقَّقِ وَالصِّنَابِ «4»
وَالْأَصْلُ مَعْيَشَةٌ عَلَى مَفْعَلَةٍ (بِتَحْرِيكِ
الْيَاءِ). وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الْأَعْرَافِ «5». وَقِيلَ:
إِنَّهَا الْمَلَابِسُ، قَالَهُ الْحَسَنُ. وَقِيلَ: إِنَّهَا
التَّصَرُّفُ فِي أَسْبَابِ الرِّزْقِ مُدَّةَ الْحَيَاةِ.
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهُوَ الظَّاهِرُ. (وَمَنْ لَسْتُمْ
لَهُ بِرازِقِينَ) يُرِيدُ الدَّوَابَّ وَالْأَنْعَامَ،
قَالَهُ مُجَاهِدٌ. وَعِنْدَهُ أَيْضًا هُمُ الْعَبِيدُ
وَالْأَوْلَادُ الَّذِينَ قَالَ اللَّهُ فِيهِمْ:" نَحْنُ
نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ «6» " وَلَفْظُ" مَنْ" يَجُوزُ أَنْ
يَتَنَاوَلَ الْعَبِيدَ وَالدَّوَابَّ إِذَا اجْتَمَعُوا،
لِأَنَّهُ إِذَا اجْتَمَعَ مَنْ يَعْقِلُ وَمَا لَا يَعْقِلُ،
غَلَبَ من يعقل. أي
__________
(1). راجع ج 71 ص 52. [ ..... ]
(2). راجع ج 9 ص 280.
(3). راجع ج 4 ص 69.
(4). الرقاق الأرغفة الرقيقة الواسعة والخردل المضروب بالزبيب
يؤتدم به.
(5). راجع ج 7 ص 167.
(6). راجع ج 01 ص، 252.
(10/13)
وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ
إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا
بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ (21)
جَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ
وَعَبِيدًا وَإِمَاءً وَدَوَابَّ وَأَوْلَادًا نَرْزُقُهُمْ
وَلَا تَرْزُقُونَهُمْ. فَ" مَنْ" عَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ
فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ، قَالَ مَعْنَاهُ مُجَاهِدٌ وَغَيْرُهُ.
وَقِيلَ: أَرَادَ بِهِ الْوَحْشَ. قَالَ سَعِيدٌ: قَرَأَ
عَلَيْنَا مَنْصُورٌ" وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرازِقِينَ"
قَالَ: الْوَحْشُ. فَ" مَنْ" عَلَى هَذَا تَكُونُ لِمَا لَا
يَعْقِلُ، مِثْلَ" فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى بَطْنِهِ" «1»
الْآيَةَ. وَهِيَ فِي مَحَلِّ خَفْضٍ عَطْفًا عَلَى الْكَافِ
وَالْمِيمِ فِي قَوْلِهِ:" لَكُمْ". وَفِيهِ قُبْحٌ عِنْدَ
الْبَصْرِيِّينَ، فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ عِنْدَهُمْ عَطْفُ
الظَّاهِرِ عَلَى الْمُضْمَرِ إِلَّا بِإِعَادَةِ حَرْفِ
الْجَرِّ، مِثْلَ مَرَرْتُ بِهِ وَبِزَيْدٍ. وَلَا يَجُوزُ
مَرَرْتُ بِهِ وَزَيْدٍ إِلَّا فِي الشِّعْرِ. كَمَا قَالَ:
فَالْيَوْمَ قَرَّبْتَ تَهْجُونَا وَتَشْتِمُنَا ... فَاذْهَبْ
فَمَا بِكَ وَالْأَيَّامِ مِنْ عَجَبِ
وَقَدْ مَضَى هَذَا الْمَعْنَى فِي" الْبَقَرَةِ «2» "
وَسُورَةِ" النِّسَاءِ «3» ".
[سورة الحجر (15): آية 21]
وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ عِنْدَنا خَزائِنُهُ وَما
نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ (21)
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنا
خَزائِنُهُ أَيْ وَإِنْ من شي مِنْ أَرْزَاقِ الْخَلْقِ
وَمَنَافِعِهِمْ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ، يَعْنِي
الْمَطَرَ الْمُنَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ، لِأَنَّ بِهِ نبات كل
شي. قال الحسن: المطر خزائن كل شي. وَقِيلَ: الْخَزَائِنُ
الْمَفَاتِيحُ، أَيْ فِي السَّمَاءِ مَفَاتِيحُ الْأَرْزَاقِ،
قَالَهُ الْكَلْبِيُّ. وَالْمَعْنَى وَاحِدٌ. (وَما
نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ) أَيْ وَلَكِنْ لَا
نُنَزِّلُهُ إِلَّا عَلَى حَسَبِ مَشِيئَتِنَا وَعَلَى حَسَبِ
حَاجَةِ الْخَلْقِ إِلَيْهِ، كَمَا قَالَ:" وَلَوْ بَسَطَ
اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ
وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ «4» ". وَرُوِيَ عَنِ
ابْنِ مَسْعُودٍ والحكم بن عتيبة وَغَيْرِهِمَا أَنَّهُ لَيْسَ
عَامٌ أَكْثَرَ مَطَرًا مِنْ عَامٍ، وَلَكِنَّ اللَّهَ
يَقْسِمُهُ كَيْفَ شَاءَ، فَيُمْطَرُ قَوْمٌ وَيُحْرَمُ
آخَرُونَ، وَرُبَّمَا كَانَ الْمَطَرُ. فِي الْبِحَارِ
وَالْقِفَارِ. وَالْخَزَائِنُ جَمْعُ الْخِزَانَةِ، وَهُوَ
الْمَوْضِعُ الَّذِي يَسْتُرُ فِيهِ الْإِنْسَانُ مَالَهُ
وَالْخِزَانَةُ أَيْضًا مَصْدَرُ خَزَنَ يَخْزُنُ. وَمَا كَانَ
فِي خِزَانَةِ الْإِنْسَانِ كَانَ مُعَدًّا لَهُ. فَكَذَلِكَ
مَا يَقْدِرُ عليه الرب
__________
(1). راجع ج 12 ص 291.
(2). راجع ج 1 ص 300.
(3). راجع ج 5 ص 3 فما بعد.
(4). راجع ج 16 ص 27.
(10/14)
وَأَرْسَلْنَا
الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ فَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً
فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَا أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ (22)
فَكَأَنَّهُ مُعَدٌّ عِنْدَهُ، قَالَهُ
الْقُشَيْرِيُّ. وَرَوَى جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِيهِ
عَنْ جَدِّهِ أَنَّهُ قال: في العرش مثال كل شي خَلَقَهُ
اللَّهُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ. وَهُوَ تَأْوِيلُ قَوْلُهُ
تَعَالَى:" وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ".
وَالْإِنْزَالُ بِمَعْنَى الْإِنْشَاءِ وَالْإِيجَادِ،
كَقَوْلِهِ:" وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعامِ ثَمانِيَةَ
أَزْواجٍ «1» " وَقَوْلِهِ:" وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ
بَأْسٌ شَدِيدٌ «2» ". وَقِيلَ: الْإِنْزَالُ بِمَعْنَى
الْإِعْطَاءِ، وَسَمَّاهُ إِنْزَالًا لِأَنَّ أَحْكَامَ
اللَّهِ إِنَّمَا تنزل من السماء.
[سورة الحجر (15): آية 22]
وَأَرْسَلْنَا الرِّياحَ لَواقِحَ فَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ
مَاءً فَأَسْقَيْناكُمُوهُ وَما أَنْتُمْ لَهُ بِخازِنِينَ
(22)
فِيهِ خَمْسُ مَسَائِلَ: الْأُولَى: قَوْلُهُ تَعَالَى:
(وَأَرْسَلْنَا الرِّياحَ) قِرَاءَةُ الْعَامَّةِ" الرِّياحَ"
بِالْجَمْعِ. وَقَرَأَ حَمْزَةُ بِالتَّوْحِيدِ، لِأَنَّ
مَعْنَى الرِّيحِ الْجَمْعُ أَيْضًا وَإِنْ كَانَ لَفْظُهَا
لَفْظَ الْوَاحِدِ. كَمَا يُقَالُ: جَاءَتِ الرِّيحُ مِنْ
كُلِّ جَانِبٍ. كَمَا يُقَالُ: أَرْضٌ سَبَاسِبُ «3» وَثَوْبٌ
أخلاق. وكذلك تفعل العرب في كل شي اتَّسَعَ. وَأَمَّا وَجْهُ
قِرَاءَةِ الْعَامَّةِ فَلِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى نَعَتَهَا
بِ (لَواقِحَ) وَهِيَ جَمْعٌ. وَمَعْنَى" لَواقِحَ" حَوَامِلَ،
لِأَنَّهَا تَحْمِلُ الْمَاءَ وَالتُّرَابَ وَالسَّحَابَ
وَالْخَيْرَ وَالنَّفْعَ. قَالَ الْأَزْهَرِيُّ: وَجَعَلَ
الرِّيحَ لَاقِحًا لِأَنَّهَا تَحْمِلُ السَّحَابَ، أَيْ
تُقِلُّهُ وَتُصَرِّفُهُ ثُمَّ تَمْرِيهِ «4» فَتَسْتَدِرُّهُ،
أَيْ تُنَزِّلُهُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:" حَتَّى إِذا
أَقَلَّتْ سَحاباً ثِقالًا «5» " أَيْ حَمَلَتْ. وَنَاقَةٌ
لَاقِحٌ وَنُوقٌ لَوَاقِحُ إِذَا حَمَلَتِ الْأَجِنَّةَ في
بطونها. وقيل: لوافح بِمَعْنَى مُلَقَّحَةٌ وَهُوَ الْأَصْلُ،
وَلَكِنَّهَا لَا تُلَقِّحُ إِلَّا وَهِيَ فِي نَفْسِهَا
لَاقِحٌ، كَأَنَّ الرِّيَاحَ لقحت بخير. قيل: ذَوَاتُ لَقْحٍ،
وَكُلُّ ذَلِكَ صَحِيحٌ، أَيْ مِنْهَا مَا يُلَقِّحُ
الشَّجَرَ، كَقَوْلِهِمْ: عِيشَةٌ رَاضِيَةٌ، أَيْ فِيهَا
رِضًا، وَلَيْلٌ نَائِمٌ، أَيْ فِيهِ نَوْمٌ. وَمِنْهَا مَا
تَأْتِي بِالسَّحَابِ. يُقَالُ: لَقِحَتِ النَّاقَةُ
(بِالْكَسْرِ) لَقَحًا وَلَقَاحًا (بِالْفَتْحِ) فَهِيَ
لَاقِحٌ. وَأَلْقَحَهَا الفحل أي ألقى إليها
__________
(1). راجع ج 15 ص 234.
(2). راجع ج 17 ص 260.
(3). السبب: الأرض المستوية البعيدة.
(4). مرت الريح السحاب: إذ أنزلت منه.
(5). راجع ج 7 ص 228. [ ..... ]
(10/15)
الْمَاءَ فَحَمَلَتْهُ، فَالرِّيَاحُ
كَالْفَحْلِ لِلسَّحَابِ. قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: وَرِيَاحٌ
لَوَاقِحُ وَلَا يُقَالُ مَلَاقِحُ، وَهُوَ مِنَ النَّوَادِرِ.
وَحَكَى الْمَهْدَوِيُّ عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ: لَوَاقِحُ
بِمَعْنَى مَلَاقِحُ، ذَهَبَ إِلَى أَنَّهُ جَمْعُ مُلْقِحَةٍ
وَمُلْقِحٍ، ثُمَّ حُذِفَتْ زَوَائِدُهُ. وَقِيلَ: هُوَ جَمْعُ
لَاقِحَةٍ وَلَاقِحٍ، عَلَى مَعْنَى ذَاتِ اللِّقَاحِ عَلَى
النَّسَبِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى لَاقِحٍ حَامِلًا.
والعرب تقول للجنوب: لاقح وحامل، وللشمال حامل وَعَقِيمٌ.
وَقَالَ عُبَيْدُ بْنُ عُمَيْرٍ: يُرْسِلُ اللَّهُ
الْمُبَشِّرَةَ فَتَقُمُّ «1» الْأَرْضَ قَمًّا، ثُمَّ
يُرْسِلُ الْمُثِيرَةَ فَتُثِيرُ السَّحَابَ، ثُمَّ يُرْسِلُ
الْمُؤَلِّفَةَ فَتُؤَلِّفُهُ، ثُمَّ يَبْعَثُ اللَّوَاقِحَ
فَتُلَقِّحُ الشَّجَرَ. وَقِيلَ: الرِّيحُ الْمَلَاقِحُ
الَّتِي تَحْمِلُ النَّدَى فَتَمُجُّهُ فِي السَّحَابِ،
فَإِذَا اجتمع فيه صار مطرا. عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ:
سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
يَقُولُ: (الرِّيحُ الْجَنُوبُ مِنَ الْجَنَّةِ وَهِيَ
الرِّيحُ اللَّوَاقِحُ الَّتِي ذَكَرَهَا اللَّهُ فِي
كِتَابِهِ وَفِيهَا مَنَافِعُ". لِلنَّاسِ) ". وَرُوِيَ عَنْهُ
عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ: (مَا هَبَّتْ جَنُوبٌ
إِلَّا أَنْبَعَ اللَّهُ بِهَا عَيْنًا غَدَقَةً. وَقَالَ
أَبُو بَكْرِ بْنُ عَيَّاشٍ: لَا تَقْطُرُ قَطْرَةً مِنَ
السَّحَابِ إِلَّا بَعْدَ أَنْ تَعْمَلَ الرِّيَاحُ
الْأَرْبَعُ فِيهَا، فَالصَّبَا تُهَيِّجُهُ، وَالدَّبُورُ
تُلَقِّحُهُ، وَالْجَنُوبُ تُدِرُّهُ، وَالشَّمَالُ
تُفَرِّقُهُ. الثَّانِيَةُ- رَوَى ابْنُ وَهْبٍ وَابْنُ
الْقَاسِمِ وَأَشْهَبُ وَابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ عَنْ مَالِكٍ-
وَاللَّفْظُ لِأَشْهَبَ- قَالَ مَالِكٌ: قَالَ اللَّهُ
تَعَالَى:" وَأَرْسَلْنَا الرِّياحَ لَواقِحَ" فَلِقَاحُ
الْقَمْحِ عِنْدِي أَنْ يُحَبِّبَ وَيُسَنْبِلَ، وَلَا أَدْرِي
مَا يَيْبَسُ فِي أَكْمَامِهِ، وَلَكِنْ يُحَبِّبُ حَتَّى
يَكُونَ لو يبس حينئذ لم يكن فسادا لا خير فِيهِ. وَلِقَاحُ
الشَّجَرِ كُلِّهَا أَنْ تُثْمِرَ ثُمَّ يَسْقُطُ مِنْهَا مَا
يَسْقُطُ وَيَثْبُتُ مَا يَثْبُتُ، وَلَيْسَ ذَلِكَ بِأَنْ
تُوَرِّدَ. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: إِنَّمَا عَوَّلَ
مَالِكٌ فِي هَذَا التَّفْسِيرِ عَلَى تَشْبِيهِ لِقَاحِ
الشَّجَرِ بِلِقَاحِ الْحَمْلِ، وَأَنَّ الْوَلَدَ إِذَا
عُقِدَ وَخُلِقَ وَنُفِخَ فِيهِ الرُّوحُ كَانَ بِمَنْزِلَةِ
تَحَبُّبِ الثَّمَرِ وَتَسَنْبُلِهِ، لِأَنَّهُ سُمِّيَ
بِاسْمٍ تَشْتَرِكُ فِيهِ كُلُّ حَامِلَةٍ وَهُوَ اللِّقَاحُ،
وَعَلَيْهِ جَاءَ الْحَدِيثُ (نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ بَيْعِ الْحَبِّ حَتَّى يَشْتَدَّ".
قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: الْإِبَارُ عِنْدَ أَهْلِ
الْعِلْمِ في النخل التلقيح، وهو أن يؤخذ شي مِنْ طَلْعِ
[ذُكُورِ] النَّخْلِ فَيُدْخُلَ بَيْنَ ظَهْرَانَيْ طلع
الإناث.
__________
(1). قم البيت: كنسه.
(10/16)
وَمَعْنَى ذَلِكَ فِي سَائِرِ الثِّمَارِ
طُلُوعُ الثَّمَرَةِ مِنَ التِّينِ وَغَيْرِهِ حَتَّى تَكُونَ
الثَّمَرَةُ مَرْئِيَّةً مَنْظُورًا إِلَيْهَا وَالْمُعْتَبَرُ
عِنْدَ مَالِكٍ وَأَصْحَابِهِ فِيمَا يُذَكَّرُ مِنَ
الثِّمَارِ التَّذْكِيرُ، وَفِيمَا لَا يُذَكَّرُ أن يثبت من
نواره ما يَثْبُتُ وَيَسْقُطَ مَا يَسْقُطُ. وَحَدُّ ذَلِكَ
فِي الزَّرْعِ ظُهُورُهُ مِنَ الْأَرْضِ، قَالَهُ مَالِكٌ.
وَقَدْ رُوِيَ عَنْهُ أَنَّ إِبَارَهُ أَنْ يُحَبِّبَ. وَلَمْ
يَخْتَلِفِ الْعُلَمَاءُ أَنَّ الْحَائِطَ إِذَا انْشَقَّ
طَلْعُ إِنَاثِهِ فَأُخِّرَ إِبَارُهُ وَقَدْ أُبِّرَ غَيْرُهُ
ممن حال مِثْلُ حَالِهِ، أَنَّ حُكْمَهُ حُكْمُ مَا أُبِّرَ،
لِأَنَّهُ قَدْ جَاءَ عَلَيْهِ وَقْتُ الْإِبَارِ وَثَمَرَتُهُ
ظَاهِرَةٌ بَعْدَ تَغَيُّبِهَا فِي الْحَبِّ. فَإِنْ أُبِّرَ
بَعْضُ الْحَائِطِ كَانَ مَا لَمْ يُؤَبَّرْ تَبَعًا لَهُ.
كَمَا أَنَّ الْحَائِطَ إِذَا بَدَا صَلَاحُهُ كَانَ سَائِرُ
الْحَائِطِ تَبَعًا لِذَلِكَ الصَّلَاحِ فِي جَوَازِ بَيْعِهِ.
الثَّالِثَةُ: رَوَى الْأَئِمَّةُ كُلُّهُمْ عَنِ ابْنِ عُمَرَ
قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ يَقُولُ:" مَنِ ابْتَاعَ نَخْلًا بَعْدَ أَنْ
تُؤَبَّرَ فَثَمَرَتُهَا لِلَّذِي بَاعَهَا إِلَّا أَنْ
يَشْتَرِطَ الْمُبْتَاعُ. وَمَنِ ابْتَاعَ عَبْدًا فَمَالُهُ
لِلَّذِي بَاعَهُ إِلَّا أَنْ يَشْتَرِطَهُ الْمُبْتَاعُ".
قَالَ عُلَمَاؤُنَا: إِنَّمَا لَمْ يَدْخُلِ الثَّمَرُ
الْمُؤَبَّرُ مَعَ الْأُصُولِ فِي الْبَيْعِ إِلَّا
بِالشَّرْطِ، لِأَنَّهُ عَيْنٌ مَوْجُودَةٌ يُحَاطُ بِهَا
أُمِنَ سُقُوطُهَا غَالِبًا. بِخِلَافِ الَّتِي لَمْ
تُؤَبَّرْ، إِذْ لَيْسَ سُقُوطُهَا مَأْمُونًا فَلَمْ
يَتَحَقَّقْ لَهَا وُجُودٌ، فَلَمْ يَجُزْ لِلْبَائِعِ
اشْتِرَاطُهَا وَلَا اسْتِثْنَاؤُهَا، لِأَنَّهَا
كَالْجَنِينِ. وَهَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ مِنْ مَذْهَبِ
مَالِكٍ. وَقِيلَ: يَجُوزُ اسْتِثْنَاؤُهَا، هُوَ قَوْلُ
الشَّافِعِيِّ. الرَّابِعَةُ: لَوِ اشْتُرِيَ النَّخْلُ
وَبَقِيَ الثَّمَرُ لِلْبَائِعِ جَازَ لِمُشْتَرِي الْأَصْلِ
شِرَاءُ الثَّمَرَةِ قَبْلَ طِيبِهَا عَلَى مَشْهُورِ قَوْلِ
مَالِكٍ، وَيَرَى لَهَا حُكْمَ التَّبَعِيَّةِ وَإِنْ
أُفْرِدَتْ بِالْعَقْدِ. وَعَنْهُ فِي رِوَايَةٍ: لَا يَجُوزُ.
وَبِذَلِكَ قَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ
وَالثَّوْرِيُّ وَأَهْلُ الظَّاهِرِ وَفُقَهَاءُ الْحَدِيثِ.
وَهُوَ الْأَظْهَرُ مِنْ أَحَادِيثِ النَّهْيِ عَنْ بَيْعِ
الثَّمَرَةِ قَبْلَ بُدُوِّ صَلَاحِهَا. الْخَامِسَةُ-
وَمِمَّا يَتَعَلَّقُ بِهَذَا الْبَابِ النَّهْيُ عَنْ بَيْعِ
الْمَلَاقِحِ، وَالْمَلَاقِحُ الْفُحُولُ مِنَ الْإِبِلِ،
الْوَاحِدُ مُلْقِحٌ. وَالْمَلَاقِحُ أَيْضًا الْإِنَاثُ
الَّتِي فِي بُطُونِهَا أَوْلَادُهَا، الْوَاحِدَةُ مُلْقَحَةٌ
(بِفَتْحِ الْقَافِ) وَالْمَلَاقِيحُ مَا فِي بُطُونِ النُّوقِ
مِنَ الْأَجِنَّةِ، الْوَاحِدَةُ مَلْقُوحَةٌ، مِنْ
قَوْلِهِمْ: لُقِحَتْ، كَالْمَحْمُومِ مِنْ حُمَّ،
وَالْمَجْنُونِ مِنْ جُنَّ، وفى هذا جاء النهى. وَقَدْ جَاءَ
عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
(10/17)
وَإِنَّا لَنَحْنُ
نُحْيِي وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوَارِثُونَ (23)
أَنَّهُ نَهَى عَنِ الْمَجْرِ وَهُوَ
بَيْعُ مَا فِي بُطُونِ الْإِنَاثِ. وَنَهَى عَنِ
الْمَضَامِينِ وَالْمَلَاقِيحِ (. قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ:
الْمَضَامِينُ مَا فِي الْبُطُونِ، وَهِيَ الْأَجِنَّةُ.
وَالْمَلَاقِيحُ مَا فِي أَصْلَابِ الْفُحُولِ. وَهُوَ قَوْلُ
سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ وَغَيْرِهِ. وَقِيلَ بِالْعَكْسِ:
إِنَّ الْمَضَامِينَ مَا فِي ظُهُورِ الْجِمَالِ،
وَالْمَلَاقِيحَ مَا فِي بُطُونِ الْإِنَاثِ. وَهُوَ قَوْلُ
ابْنِ حَبِيبٍ وَغَيْرِهِ. وَأَيُّ الْأَمْرَيْنِ كَانَ،
فَعُلَمَاءُ الْمُسْلِمِينَ مُجْمِعُونَ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ
لَا يَجُوزُ. وَذَكَرَ الْمُزَنِيُّ عَنِ ابْنِ هِشَامٍ
شَاهِدًا بِأَنَّ الْمَلَاقِيحَ مَا فِي الْبُطُونِ لِبَعْضِ
الْأَعْرَابِ:
مَنِيَّتِي مَلَاقِحًا فِي الْأَبْطُنِ ... تُنْتَجُ مَا
تَلْقَحُ بَعْدَ أَزْمُنِ «1»
وَذَكَرَ الْجَوْهَرِيُّ عَلَى ذَلِكَ شَاهِدًا قَوْلَ
الرَّاجِزِ:
إِنَّا وَجَدْنَا طَرْدَ الْهَوَامِلِ ... خَيْرًا مِنَ التنان
وَالْمَسَائِلِ «2»
وَعِدَّةِ الْعَامِ وَعَامٍ قَابِلِ ... مَلْقُوحَةً فِي بطن
ناب حامل
قوله تعالى: (فَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ) أَيْ مِنَ
السَّحَابِ. وَكُلُّ مَا عَلَاكَ فَأَظَلَّكَ يُسَمَّى
سَمَاءٌ. وَقِيلَ: مِنْ جِهَةِ السَّمَاءِ. (مَاءً) أَيْ
قَطْرًا. (فَأَسْقَيْناكُمُوهُ) أَيْ جَعَلْنَا ذَلِكَ
الْمَطَرَ لِسُقْيَاكُمْ وَلِشُرْبِ مَوَاشِيكُمْ
وَأَرْضِكُمْ. وَقِيلَ: سَقَى وَأَسْقَى بِمَعْنًى. وَقِيلَ
بِالْفَرْقِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ «3». (وَما أَنْتُمْ لَهُ
بِخازِنِينَ) أَيْ لَيْسَتْ خَزَائِنُهُ عِنْدَكُمْ، أَيْ
نَحْنُ الْخَازِنُونَ لِهَذَا الْمَاءِ نُنَزِّلُهُ إِذَا
شِئْنَا وَنُمْسِكُهُ إِذَا شِئْنَا. وَمِثْلُهُ" وَأَنْزَلْنا
مِنَ السَّماءِ مَاءً طَهُوراً «4» "،" وَأَنْزَلْنا مِنَ
السَّماءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ
وَإِنَّا عَلى ذَهابٍ بِهِ لَقادِرُونَ" «5». وَقَالَ
سُفْيَانُ: لَسْتُمْ بِمَانِعِينَ المطر.
[سورة الحجر (15): آية 23]
وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوارِثُونَ
(23)
أَيِ الأرض ومن عليها، ولا يبقى شي سِوَانَا. نَظِيرُهُ"
إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْها وَإِلَيْنا
يُرْجَعُونَ". فملك كل شي لِلَّهِ تَعَالَى. وَلَكِنْ مَلَّكَ
عِبَادَهُ أَمْلَاكًا فَإِذَا ماتوا انقطعت
__________
(1). كذا في الأصول والسان. وفى ى: منيتي.
(2). الهوامل: الإبل الهملة. والتإنان: الأنين. والناب: الناقة
المسنة. والحائل: التي لم تحبل.
(3). راجع ج 1 ص 417.
(4). راجع ج 13 ص 39 فما بعده.
(5). راجع ج 11 ص 109.
(10/18)
وَلَقَدْ عَلِمْنَا
الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا
الْمُسْتَأْخِرِينَ (24)
الدَّعَاوَى، فَكَانَ اللَّهُ وَارِثًا
مِنْ هَذَا الْوَجْهِ. وَقِيلَ: الْإِحْيَاءُ فِي هَذِهِ
الْآيَةِ إِحْيَاءُ النُّطْفَةِ فِي الْأَرْحَامِ. فَأَمَّا
الْبَعْثُ فَقَدْ ذَكَرَهُ بَعْدَ هذا في قوله:" إِنَّ رَبَّكَ
هُوَ يَحْشُرُهُمْ".
[سورة الحجر (15): آية 24]
وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ
عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ (24)
فِيهِ ثَلَاثُ مَسَائِلَ: الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى:
وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ
عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ فِيهِ ثَمَانِ تَأْوِيلَاتٍ:
الْأَوَّلُ-" الْمُسْتَقْدِمِينَ" فِي الْخَلْقِ إِلَى اليوم،
و" الْمُسْتَأْخِرِينَ" الَّذِينَ لَمْ يُخْلَقُوا بَعْدُ،
قَالَهُ قَتَادَةُ وَعِكْرِمَةُ وغيرهما. الثاني-"
الْمُسْتَقْدِمِينَ" الأموات، و" الْمُسْتَأْخِرِينَ"
الْأَحْيَاءُ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالضَّحَّاكُ.
الثَّالِثُ-" الْمُسْتَقْدِمِينَ" من تقدم أمة محمد، و"
الْمُسْتَأْخِرِينَ" أُمَّةُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَهُ مُجَاهِدٌ. الرابع-"
الْمُسْتَقْدِمِينَ" في الطاعة والخير، و" الْمُسْتَأْخِرِينَ"
فِي الْمَعْصِيَةِ وَالشَّرِّ، قَالَهُ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ
أَيْضًا. الخامس-" الْمُسْتَقْدِمِينَ" في صفوف الحرب، و"
الْمُسْتَأْخِرِينَ" فِيهَا، قَالَهُ سَعِيدُ بْنُ
الْمُسَيَّبِ. السَّادِسُ-" الْمُسْتَقْدِمِينَ" من قتل في
الجهاد، و" الْمُسْتَأْخِرِينَ" مَنْ لَمْ يُقْتَلْ، قَالَهُ
الْقُرَظِيُّ. السَّابِعُ:-" الْمُسْتَقْدِمِينَ" أول الخلق،
و" الْمُسْتَأْخِرِينَ" آخِرُ الْخَلْقِ، قَالَهُ
الشَّعْبِيُّ. الثَّامِنُ-" الْمُسْتَقْدِمِينَ" فِي صفوف
الصلاة، و" الْمُسْتَأْخِرِينَ" فِيهَا بِسَبَبِ النِّسَاءِ.
وَكُلُّ هَذَا مَعْلُومٌ لِلَّهِ تَعَالَى، فَإِنَّهُ عَالِمٌ
بِكُلِّ مَوْجُودٍ وَمَعْدُومٍ، وَعَالِمٌ بِمَنْ خَلَقَ وَمَا
هُوَ خَالِقُهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ. إِلَّا أَنَّ
الْقَوْلَ الثَّامِنَ هُوَ سَبَبُ نُزُولِ الْآيَةِ، لِمَا
رَوَاهُ النَّسَائِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ عَنْ أَبِي
الْجَوْزَاءِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ:" كَانَتِ امْرَأَةٌ
تُصَلِّي خَلْفَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ حَسْنَاءُ مِنْ أَحْسَنِ النَّاسِ، فَكَانَ بَعْضُ
الْقَوْمِ يَتَقَدَّمُ حَتَّى يَكُونَ فِي الصَّفِّ الْأَوَّلِ
لِئَلَّا يَرَاهَا، وَيَتَأَخَّرُ بَعْضُهُمْ حَتَّى يَكُونَ
فِي الصَّفِّ الْمُؤَخَّرِ، فَإِذَا رَكَعَ نَظَرَ مِنْ تَحْتِ
إِبْطِهِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ" وَلَقَدْ
عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا
الْمُسْتَأْخِرِينَ". وَرُوِيَ عَنْ أَبِي الْجَوْزَاءِ وَلَمْ
يُذْكَرْ ابْنُ عَبَّاسٍ. وهو أصح «1».
__________
(1). في ى: الصحيح.
(10/19)
الثَّانِيَةُ- هَذَا يَدُلُّ عَلَى فَضْلِ
أَوَّلِ الْوَقْتِ فِي الصَّلَاةِ وَعَلَى فَضْلِ الصَّفِّ
الْأَوَّلِ، قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ:" لَوْ يَعْلَمُ النَّاسُ مَا فِي النِّدَاءِ
وَالصَّفِّ الْأَوَّلِ ثُمَّ لم يجدوا إلا أن يستهمو «1»
عَلَيْهِ لَاسْتَهَمُوا". فَإِذَا جَاءَ الرَّجُلُ عِنْدَ
الزَّوَالِ فَنَزَلَ فِي الصَّفِّ الْأَوَّلِ مُجَاوِرَ
الْإِمَامِ، حَازَ ثَلَاثَ مَرَاتِبَ فِي الْفَضْلِ: أَوَّلَ
الْوَقْتِ، وَالصَّفَّ الْأَوَّلَ، وَمُجَاوَرَةَ الْإِمَامِ.
فَإِنْ جَاءَ عِنْدَ الزَّوَالِ فَنَزَلَ فِي الصَّفِّ
الْآخِرِ أَوْ فِيمَا نَزَلَ عَنِ الصَّفِّ الْأَوَّلِ، فَقَدْ
حَازَ فَضْلَ أَوَّلِ الْوَقْتِ وَفَاتَهُ فَضْلُ الصَّفِّ
الْأَوَّلِ وَالْمُجَاوَرَةِ. فَإِنْ جَاءَ وَقْتَ الزَّوَالِ
وَنَزَلَ فِي الصَّفِّ الْأَوَّلِ دُونَ مَا يَلِي الْإِمَامَ
فَقَدْ حَازَ فَضْلَ أَوَّلِ الْوَقْتِ وَفَضْلَ الصَّفِّ
الْأَوَّلِ، وَفَاتَهُ مُجَاوَرَةُ الْإِمَامِ. فَإِنْ جَاءَ
بَعْدَ الزَّوَالِ وَنَزَلَ فِي الصَّفِّ الْأَوَّلِ فَقَدْ
فَاتَهُ فَضِيلَةُ أَوَّلِ الْوَقْتِ، وَحَازَ فَضِيلَةَ
الصَّفِّ الْأَوَّلِ وَمُجَاوَرَةَ الْإِمَامِ. وَهَكَذَا.
وَمُجَاوَرَةُ الْإِمَامِ لَا تَكُونُ لِكُلِّ أَحَدٍ،
وَإِنَّمَا هِيَ كَمَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ:
وَسَلَّمَ:" ليلني منكم أولو الأحلام والنهى" الحديث. فيما
يَلِي الْإِمَامَ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ لِمَنْ كَانَتْ
هَذِهِ صِفَتُهُ، فَإِنْ نَزَلَهَا غَيْرُهُ أُخِّرَ
وَتَقَدَّمَ وهو إِلَى الْمَوْضِعِ، لِأَنَّهُ حَقُّهُ
بِأَمْرِ صَاحِبِ الشَّرْعِ، كَالْمِحْرَابِ هُوَ مَوْضِعُ
الْإِمَامِ تَقَدَّمَ أَوْ تَأَخَّرَ. قَالَهُ ابْنُ
الْعَرَبِيِّ. قُلْتُ: وَعَلَيْهِ يُحْمَلُ قَوْلُ عُمَرَ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: تَأَخَّرْ يَا فُلَانُ، تَقَدَّمْ يَا
فُلَانُ، ثُمَّ يَتَقَدَّمُ فَيُكَبِّرُ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ
كَعْبٍ أَنَّ الرَّجُلَ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ لَيَخِرُّ
سَاجِدًا فَيُغْفَرُ لِمَنْ خَلْفَهُ. وَكَانَ كَعْبٌ
يَتَوَخَّى الصَّفَّ الْمُؤَخَّرَ مِنَ الْمَسْجِدِ رَجَاءَ
ذَلِكَ، وَيَذْكُرُ أَنَّهُ وَجَدَهُ كَذَلِكَ فِي
التَّوْرَاةِ. ذَكَرَهُ التِّرْمِذِيُّ الْحَكِيمُ فِي
نَوَادِرِ الْأُصُولِ. وَسَيَأْتِي فِي سُورَةِ" الصَّافَّاتِ
«2» " زِيَادَةُ بَيَانٍ لِهَذَا الْبَابِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ
تَعَالَى. الثَّالِثَةُ- وَكَمَا تَدُلُّ هَذِهِ الْآيَةُ
عَلَى فَضْلِ الصَّفِّ الْأَوَّلِ فِي الصَّلَاةِ، فَكَذَلِكَ
تَدُلُّ عَلَى فَضْلِ الصَّفِّ الْأَوَّلِ فِي الْقِتَالِ،
فَإِنَّ الْقِيَامَ فِي نَحْرِ الْعَدُوِّ، وَبَيْعَ الْعَبْدِ
نَفْسَهُ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى لَا يُوَازِيهِ عَمَلٌ،
فَالتَّقَدُّمُ إِلَيْهِ أَفْضَلُ، وَلَا خِلَافَ فِيهِ وَلَا
خَفَاءَ بِهِ. وَلَمْ يَكُنْ أَحَدٌ يتقدم الْحَرْبِ بَيْنَ
يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
لِأَنَّهُ كَانَ أَشْجَعَ النَّاسِ. قَالَ الْبَرَاءُ:: كُنَّا
وَاللَّهِ إِذَا احْمَرَّ الْبَأْسُ نَتَّقِي بِهِ، وَإِنَّ
الشُّجَاعَ مِنَّا لَلَّذِي يُحَاذِي بِهِ، يَعْنِي النَّبِيَّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ).
__________
(1). أَيْ إلا أن يقترعوا.
(2). راجع ج 15 ص 137 فما بعد.
(10/20)
وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ
يَحْشُرُهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (25)
[سورة الحجر (15): آية 25]
وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ
(25)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ) أَيْ
للحساب والجزاء. (إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ) تقدم «1».
[سورة الحجر (15): آية 26]
وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ
مَسْنُونٍ (26)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ) يَعْنِي
آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ (مِنْ صَلْصالٍ). أَيْ مِنْ طِينٍ
يَابِسٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِ. وَالصَّلْصَالُ:
الطِّينُ الْحُرُّ خُلِطَ بِالرَّمْلِ فَصَارَ يَتَصَلْصَلُ
إِذَا جَفَّ، فَإِذَا طُبِخَ بِالنَّارِ فَهُوَ الْفَخَّارُ،
عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ. وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ
الْمُفَسِّرِينَ. وَأَنْشَدَ أَهْلُ اللُّغَةِ:
كَعَدْوِ الْمُصَلْصِلِ الْجَوَّالِ «2»
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: هُوَ الطِّينُ الْمُنْتِنُ، وَاخْتَارَهُ
الْكِسَائِيُّ. قَالَ: وَهُوَ مِنْ قَوْلِ الْعَرَبِ: صَلَّ
اللَّحْمُ وَأَصَلَّ إِذَا أَنْتَنَ- مَطْبُوخًا كَانَ أَوْ
نِيئًا- يَصِلُّ صُلُولًا. قَالَ الْحُطَيْئَةُ:
ذَاكَ فَتًى يَبْذُلُ ذَا قِدْرِهِ ... لَا يُفْسِدُ اللَّحْمَ
لَدَيْهِ الصُّلُولُ
وَطِينٌ صَلَّالٌ وَمِصْلَالٌ، أَيْ يُصَوِّتُ إِذَا
نَقَرْتَهُ كَمَا يُصَوِّتُ الْحَدِيدُ. فَكَانَ أَوَّلَ
تُرَابًا، أَيْ مُتَفَرِّقَ الْأَجْزَاءِ ثُمَّ بُلَّ فَصَارَ
طِينًا، ثُمَّ تُرِكَ حَتَّى أَنْتَنَ فَصَارَ حَمَأً
مَسْنُونًا، أَيْ مُتَغَيِّرًا، ثُمَّ يَبَسَ فَصَارَ
صَلْصَالًا، عَلَى قَوْلِ الْجُمْهُورِ. وَقَدْ مَضَى فِي"
الْبَقَرَةِ" بَيَانُ «3» هَذَا. وَالْحَمَأُ: الطِّينُ
الأسود، وكذلك الحمأة بالتسكين، تقول منه: حميت البئر حمأ
(بالتسكين) إذا نزعت حماتها. وحميت الْبِئْرُ حَمَأً
(بِالتَّحْرِيكِ) كَثُرَتْ حَمْأَتُهَا. وَأَحْمَأْتُهَا
إِحْمَاءً أَلْقَيْتُ الْحَمْأَةَ، عَنِ ابْنِ السِّكِّيتِ.
وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: الْحَمْأَةُ (بِسُكُونِ الْمِيمِ)
مِثْلُ الْكَمْأَةِ. وَالْجَمْعُ حمأ، مِثْلَ تَمْرَةٍ
وَتَمْرٍ. وَالْحَمَأُ الْمَصْدَرُ، مِثْلُ الْهَلَعِ
وَالْجَزَعِ، ثُمَّ سُمِّيَ بِهِ. وَالْمَسْنُونُ
الْمُتَغَيِّرُ. قَالَ ابن عباس: (هو التراب المبتل المنتن،
__________
(1). راجع ج 1 ص 287، وص 279.
(2). هذا عجز البيت. وتمامه كما في اللسان:
عنتريس تعدو إذا مسها الصو ... ت كعدو المسلسل الجوال
(3). راجع ج 1 ص 287، وص 279.
(10/21)
فَجُعِلَ صَلْصَالًا كَالْفَخَّارِ.
وَمِثْلُهُ قَوْلُ مُجَاهِدٍ وَقَتَادَةَ، قَالَا: الْمُنْتِنُ
الْمُتَغَيِّرُ، مِنْ قَوْلِهِمْ: قَدْ أَسَنَ الْمَاءُ إِذَا
تَغَيَّرَ، وَمِنْهُ" يَتَسَنَّهْ «1» " وَ" ماءٍ غَيْرِ آسِنٍ
«2» ". وَمِنْهُ قَوْلُ أَبِي قَيْسِ بْنِ الْأَسْلَتِ:
سَقَتْ صَدَايَ رُضَابًا غَيْرَ ذِي أَسَنٍ ... كَالْمِسْكِ
فُتَّ عَلَى مَاءِ الْعَنَاقِيدِ
وَقَالَ الْفَرَّاءُ: هُوَ الْمُتَغَيِّرُ، وَأَصْلُهُ مِنْ
قَوْلِهِمْ: سَنَنْتُ الْحَجَرَ عَلَى الْحَجَرِ إِذَا
حَكَكْتُهُ بِهِ. وَمَا يَخْرُجُ مِنَ الْحَجَرَيْنِ يُقَالُ
لَهُ: السَّنَانَةُ وَالسَّنِينُ، وَمِنْهُ الْمِسَنُّ. قَالَ
الشَّاعِرُ:
ثُمَّ خَاصَرْتُهَا إِلَى الْقُبَّةِ الحم ... راء «3» تمشى
تمشى في مرمر مسنون
أي محكول مُمَلَّسٍ. حُكِيَ أَنَّ يَزِيدَ بْنَ مُعَاوِيَةَ
قَالَ لِأَبِيهِ: أَلَا تَرَى عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ
حَسَّانَ يُشَبِّبُ بِابْنَتِكَ. فَقَالَ مُعَاوِيَةُ: وَمَا
قَالَ؟ فَقَالَ قال:
هي زهراء مثل لؤلوة الغو ... اص مِيزَتْ مِنْ جَوْهَرٍ
مَكْنُونِ
فَقَالَ مُعَاوِيَةُ: صَدَقَ! فَقَالَ يَزِيدُ [إِنَّهُ
يَقُولُ «4»]:
وَإِذَا مَا نَسَبْتَهَا لَمْ تَجِدْهَا ... فِي سَنَاءٍ مِنَ
الْمَكَارِمِ دُونِ
فَقَالَ: صَدَقَ! فَقَالَ: أَيْنَ قَوْلُهُ: ثُمَّ
خَاصِرَتُهَا ... الْبَيْتَ. فَقَالَ مُعَاوِيَةُ: كَذَبَ.
وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: الْمَسْنُونُ الْمَصْبُوبُ، وَهُوَ
مِنْ قَوْلِ الْعَرَبِ: سَنَنْتُ الْمَاءَ وَغَيْرَهُ عَلَى
الْوَجْهِ إِذَا صَبَبْتَهُ. وَالسَّنُّ الصَّبُّ. وَرَوَى
عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ:
الْمَسْنُونُ الرَّطْبُ، وَهَذَا بِمَعْنَى الْمَصْبُوبِ،
لِأَنَّهُ لَا يَكُونُ مَصْبُوبًا إِلَّا وَهُوَ رَطْبٌ.
النَّحَّاسُ: وَهَذَا قَوْلٌ حَسَنٌ، لِأَنَّهُ يُقَالُ:
سَنَنْتُ الشَّيْءَ أَيْ صَبَبْتُهُ. قَالَ أَبُو عَمْرِو بْنُ
الْعَلَاءِ: وَمِنْهُ الْأَثَرُ الْمَرْوِيُّ عَنْ عُمَرَ «5»
أَنَّهُ كَانَ يَسُنُّ الْمَاءَ عَلَى وَجْهِهِ وَلَا
يَشُنُّهُ. وَالشَّنُّ (بِالشِّينِ) تَفْرِيقُ الْمَاءِ،
وَبِالسِّينِ الْمُهْمَلَةِ صَبُّهُ مِنْ غَيْرِ تَفْرِيقٍ.
وَقَالَ سِيبَوَيْهِ: الْمَسْنُونُ الْمُصَوَّرُ. أُخِذَ مِنْ
سُنَّةِ الْوَجْهِ وَهُوَ صُورَتُهُ. وقال ذو الرمة:
تريك سنة وجه مفرقة ... ملساء ليس بها خال ولا ندب «6»
__________
(1). راجع ج 3 ص 288.
(2). راجع ج 16 ص 236. [ ..... ]
(3). في اللسان: الخضراء.
(4). الزيادة عن السان.
(5). في نهاية ابن الأثير:" ابن عمر".
(6). السنة: الصورة. والمقرفة: التي دنت من الهجينة. والندب:
الأثر من الجراح والقراخ. وقوله: غير مقرنة، أي غير هجينة،
عفيفة كريمة. خال: شامة، وندب: أثر الجرح.
(10/22)
وَالْجَانَّ
خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نَارِ السَّمُومِ (27)
وَقَالَ الْأَخْفَشُ: الْمَسْنُونُ.
الْمَنْصُوبُ الْقَائِمُ، مِنْ قَوْلِهِمْ: وَجْهٌ مَسْنُونٌ
إِذَا كَانَ فِيهِ طُولٌ. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ الصَّلْصَالَ
لِلتُّرَابِ الْمُدَقَّقِ، حَكَاهُ الْمَهْدَوِيُّ. وَمَنْ
قَالَ: إِنَّ الصَّلْصَالَ هُوَ الْمُنْتِنُ فَأَصْلُهُ صلال،
فأبدل من إحدى اللامين الصاد. و" مِنْ حَمَإٍ" مُفَسِّرٌ
لِجِنْسِ الصَّلْصَالِ، كَقَوْلِكَ: أَخَذْتُ هذا من رجل من
العرب.
[سورة الحجر (15): آية 27]
وَالْجَانَّ خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نارِ السَّمُومِ (27)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَالْجَانَّ خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ) أَيْ
من قبل آدَمَ. وَقَالَ الْحَسَنُ: يَعْنِي إِبْلِيسَ، خَلَقَهُ
اللَّهُ تَعَالَى قَبْلَ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَسُمِّيَ
جَانًّا لِتَوَارِيهِ عَنِ الْأَعْيُنِ. وَفِي صَحِيحِ
مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ ثَابِتٍ عَنْ أَنَسٍ أَنَّ رَسُولَ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:" لَمَّا
صَوَّرَ اللَّهُ تَعَالَى آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي
الْجَنَّةِ تَرَكَهُ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَتْرُكَهُ
فَجَعَلَ إبليس يطيف به وينظر مَا هُوَ فَلَمَّا رَآهُ
أَجْوَفَ عَرَفَ أَنَّهُ خلق خلقا لا يتمالك «1» ". (من النار
السَّمُومِ) قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: (نَارُ السَّمُومِ الَّتِي
خَلَقَ اللَّهُ مِنْهَا الْجَانَّ جُزْءٌ مِنْ سَبْعِينَ
جُزْءًا مِنْ نَارِ جَهَنَّمَ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ:
السَّمُومُ الرِّيحُ الْحَارَّةُ الَّتِي تَقْتُلُ. وَعَنْهُ:
أَنَّهَا نار لا دخان لها، الصواعق تَكُونُ مِنْهَا، وَهِيَ
نَارٌ تَكُونُ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْحِجَابِ. فَإِذَا
أَحْدَثَ اللَّهُ أَمْرًا اخْتَرَقَتِ الْحِجَابَ فَهَوَتِ
الصَّاعِقَةُ إِلَى مَا أُمِرَتْ. فَالْهَدَّةُ «2» الَّتِي
تَسْمَعُونَ خَرْقُ ذَلِكَ الْحِجَابِ. وَقَالَ الْحَسَنُ:
نَارُ السَّمُومِ نَارٌ دُونَهَا حِجَابٌ، وَالَّذِي
تَسْمَعُونَ مِنَ انْغِطَاطِ السَّحَابِ صَوْتُهَا. وَعَنِ
ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا قَالَ: كَانَ إِبْلِيسُ مِنْ حَيٍّ
مِنْ أَحْيَاءِ الْمَلَائِكَةِ يُقَالُ لَهُمُ الْجِنُّ
خُلِقُوا مِنْ نَارِ السَّمُومِ مِنْ بَيْنِ الْمَلَائِكَةِ-
قَالَ- وَخُلِقَتِ الْجِنُّ الَّذِينَ ذُكِرُوا فِي الْقُرْآنِ
مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ. قُلْتُ: هَذَا فِيهِ نَظَرٌ،
فَإِنَّهُ يَحْتَاجُ إِلَى سَنَدٍ يَقْطَعُ الْعُذْرَ، إِذْ
مِثْلُهُ لَا يُقَالُ مِنْ جِهَةِ الرَّأْيِ. وَقَدْ خَرَّجَ
مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ قَالَ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" خُلِقَتِ
الْمَلَائِكَةُ مِنْ نُورٍ وَخُلِقَ الْجَانُّ مِنْ مَارِجٍ
مِنْ نَارٍ وَخُلِقَ آدَمُ مِمَّا وُصِفَ لَكُمْ". فَقَوْلُهُ:
__________
(1). أي لا يملك نفسه ويحبسها عن الشهوات. وقيل: لا يملك دفع
الوسواس عنه.
(2). الهدة: صوت وقع الحائط ونحوه، والهدة: صوت ما يقع من
السحاب.
(10/23)
وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ
لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ
حَمَإٍ مَسْنُونٍ (28) فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ
مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ (29)
فَقَوْلُهُ:" خُلِقَتِ الْمَلَائِكَةُ مِنْ
نُورٍ" يَقْتَضِي الْعُمُومَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَالَ
الْجَوْهَرِيُّ: مَارِجٌ مِنْ نَارٍ نَارٌ لَا دُخَانَ لَهَا
خُلِقَ مِنْهَا الْجَانُّ، وَالسَّمُومُ الرِّيحُ الْحَارَّةُ
تُؤَنَّثُ، يُقَالُ مِنْهُ: سُمَّ يَوْمُنَا فَهُوَ يَوْمٌ
مَسْمُومٌ، وَالْجَمْعُ سَمَائِمُ. قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ:
السَّمُومُ بِالنَّهَارِ وَقَدْ تَكُونُ بِاللَّيْلِ،
وَالْحَرُورُ بِاللَّيْلِ وَقَدْ تَكُونُ بِالنَّهَارِ.
الْقُشَيْرِيُّ: وَسُمِّيَتِ الريح الحارة سموما لدخولها
(بلطفها «1») في مسام البدن.
[سورة الحجر (15): الآيات 28 الى 29]
وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً
مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (28) فَإِذا سَوَّيْتُهُ
وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ (29)
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي
خالِقٌ بَشَراً مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (28)
فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا
لَهُ ساجِدِينَ (29) قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَإِذْ قالَ رَبُّكَ
لِلْمَلائِكَةِ) تَقَدَّمَ فِي" الْبَقَرَةِ «2» ". (إِنِّي
خالِقٌ بَشَراً مِنْ صَلْصالٍ) مِنْ طِينٍ (فَإِذا
سَوَّيْتُهُ) أَيْ سَوَّيْتُ خَلْقَهُ وَصُورَتَهُ.
(وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي) النَّفْخُ إِجْرَاءُ الرِّيحِ
فِي الشَّيْءِ. وَالرُّوحُ جِسْمٌ لَطِيفٌ، أَجْرَى اللَّهُ
الْعَادَةَ بِأَنْ يَخْلُقَ الْحَيَاةَ فِي الْبَدَنِ مَعَ
ذَلِكَ الْجِسْمِ. وَحَقِيقَتُهُ إِضَافَةُ خَلْقٍ إِلَى
خَالِقٍ، فَالرُّوحُ خَلْقٌ مِنْ خَلْقِهِ أَضَافَهُ إِلَى
نَفْسِهِ تَشْرِيفًا وَتَكْرِيمًا، كَقَوْلِهِ:" أَرْضِي
وَسَمَائِي وَبَيْتِي وَنَاقَةُ اللَّهِ وَشَهْرُ اللَّهِ".
وَمِثْلُهُ" وَرُوحٌ مِنْهُ" وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي" النِّسَاءِ
«3» " مُبَيَّنًا. وَذَكَرْنَا فِي كِتَابِ (التَّذْكِرَةِ)
الْأَحَادِيثَ الْوَارِدَةَ الَّتِي تَدُلُّ عَلَى أَنَّ
الرُّوحَ جِسْمٌ لَطِيفٌ، وَأَنَّ النَّفْسَ وَالرُّوحَ
اسْمَانِ لِمُسَمًّى وَاحِدٍ. وَسَيَأْتِي ذَلِكَ إِنْ شَاءَ
اللَّهُ. وَمَنْ قَالَ إِنَّ الرُّوحَ هُوَ الْحَيَاةُ قَالَ
أَرَادَ: فَإِذَا رُكِّبَتْ فِيهِ الْحَيَاةُ. (فَقَعُوا لَهُ
ساجِدِينَ) أَيْ خِرُّوا لَهُ سَاجِدِينَ. وَهُوَ سُجُودُ
تَحِيَّةٍ وَتَكْرِيمٍ لَا سُجُودَ عِبَادَةٍ. وَلِلَّهِ أَنْ
يُفَضِّلَ مَنْ يُرِيدُ، فَفَضَّلَ الْأَنْبِيَاءَ عَلَى
الْمَلَائِكَةِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي" الْبَقَرَةِ «4» "
هَذَا الْمَعْنَى. وَقَالَ الْقَفَّالُ: كَانُوا أَفْضَلَ مِنْ
آدَمَ، وَامْتَحَنَهُمْ (الله «5» بِالسُّجُودِ لَهُ
تَعْرِيضًا لَهُمْ لِلثَّوَابِ الْجَزِيلِ. وَهُوَ مَذْهَبُ
الْمُعْتَزِلَةِ. وَقِيلَ: أُمِرُوا بِالسُّجُودِ لِلَّهِ
عِنْدَ آدم، وكان آدم قبلة لهم.
__________
(1). من ى
(2). راجع ج 1 ص 261، وص 291 قما بعد.
(3). راجع ج 6 ص 22
(4). راجع ج 1 ص 261، وص 291 قما بعد.
(5). من ى
(10/24)
فَسَجَدَ
الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (30) إِلَّا إِبْلِيسَ
أَبَى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (31)
[سورة الحجر (15): الآيات 30 الى 31]
فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (30) إِلاَّ
إِبْلِيسَ أَبى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (31)
قَوْلُهُ تَعَالَى (فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ
أَجْمَعُونَ. إِلَّا إِبْلِيسَ) فِيهِ مَسْأَلَتَانِ:
الْأُولَى- لَا شَكَّ أَنَّ إِبْلِيسَ كَانَ مَأْمُورًا
بالسجود، لقول:" مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ
«1» " وَإِنَّمَا مَنَعَهُ مِنْ ذَلِكَ الِاسْتِكْبَارُ
وَالِاسْتِعْظَامُ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي" الْبَقَرَةِ «2» "
بَيَانُهُ. ثُمَّ قِيلَ: كَانَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ، فَهُوَ
اسْتِثْنَاءٌ مِنَ الْجِنْسِ. وَقَالَ قَوْمٌ: لَمْ يَكُنْ
مِنَ الْمَلَائِكَةِ، فَهُوَ اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ. وَقَدْ
مَضَى فِي" الْبَقَرَةِ «3» " هَذَا كُلُّهُ مُسْتَوْفًى.
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْجَانُّ أَبُو الْجِنِّ وَلَيْسُوا
شَيَاطِينَ. وَالشَّيَاطِينُ وَلَدُ إِبْلِيسَ، لَا يَمُوتُونَ
إِلَّا مَعَ إِبْلِيسَ. وَالْجِنُّ يَمُوتُونَ، وَمِنْهُمُ
الْمُؤْمِنُ وَمِنْهُمُ الْكَافِرُ. فَآدَمُ أَبُو الْإِنْسِ.
وَالْجَانُّ أَبُو الْجِنِّ. وَإِبْلِيسُ أَبُو الشَّيَاطِينِ،
ذَكَرَهُ الْمَاوَرْدِيُّ. وَالَّذِي تَقَدَّمَ فِي"
الْبَقَرَةِ" خِلَافُ هَذَا، فَتَأَمَّلْهُ هُنَاكَ.
الثَّانِيَةُ- الِاسْتِثْنَاءُ مِنَ الْجِنْسِ غَيْرِ
الْجِنْسِ صَحِيحٌ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ، حَتَّى لَوْ قَالَ:
لِفُلَانٍ عَلَيَّ دِينَارٌ إِلَّا ثَوْبًا، أَوْ عَشْرَةُ
أَثْوَابٍ إِلَّا قَفِيزَ حِنْطَةٍ، وَمَا جَانَسَ ذَلِكَ
كَانَ مَقْبُولًا، وَلَا يَسْقُطُ عَنْهُ مِنَ الْمَبْلَغِ
قِيمَةُ الثَّوْبِ وَالْحِنْطَةِ. وَيَسْتَوِي فِي ذَلِكَ
الْمَكِيلَاتُ وَالْمَوْزُونَاتُ وَالْمُقَدَّرَاتُ. وَقَالَ
مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا:
اسْتِثْنَاءُ الْمَكِيلِ مِنَ الْمَوْزُونِ وَالْمَوْزُونِ
مِنَ الْمَكِيلِ جَائِزٌ، حَتَّى لَوِ اسْتَثْنَى الدَّرَاهِمَ
مِنَ الْحِنْطَةِ وَالْحِنْطَةَ مِنَ الدَّرَاهِمِ قُبِلَ.
فَأَمَّا إِذَا اسْتَثْنَى الْمُقَوَّمَاتِ مِنَ الْمَكِيلَاتِ
أَوِ الْمَوْزُونَاتِ، وَالْمَكِيلَاتِ مِنَ الْمُقَوَّمَاتِ،
مِثْلَ أَنْ يَقُولُ: عَلَيَّ عَشَرَةُ دَنَانِيرَ إِلَّا
ثَوْبًا، أَوْ عَشَرَةُ أَثْوَابٍ إِلَّا دِينَارًا لَا
يَصِحُّ الِاسْتِثْنَاءُ، وَيَلْزَمُ الْمُقِرَّ جَمِيعُ
الْمَبْلَغِ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ:
الِاسْتِثْنَاءُ مِنْ غَيْرِ الْجِنْسِ لَا يَصِحُّ،
وَيَلْزَمُ الْمُقِرَّ جُمْلَةُ «4» مَا أَقَرَّ به. والدليل
__________
(1). راجع ج 7 ص 169.
(2). راجع ج 1 ص 294.
(3). راجع ج 1 ص 294. [ ..... ]
(4). في ى: جميع.
(10/25)
قَالَ يَا إِبْلِيسُ
مَا لَكَ أَلَّا تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (32) قَالَ لَمْ
أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ
حَمَإٍ مَسْنُونٍ (33) قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ
رَجِيمٌ (34) وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلَى يَوْمِ
الدِّينِ (35)
لِقَوْلِ الشَّافِعِيِّ أَنَّ لَفْظَ
الِاسْتِثْنَاءِ يُسْتَعْمَلُ فِي الْجِنْسِ وَغَيْرِ
الْجِنْسِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:" لَا يَسْمَعُونَ فِيها
لَغْواً وَلا تَأْثِيماً. إِلَّا قِيلًا سَلاماً «1» سَلاماً"
فَاسْتَثْنَى السَّلَامَ مِنْ جُمْلَةِ اللَّغْوِ. وَمِثْلُهُ"
فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ. إِلَّا
إِبْلِيسَ" وَإِبْلِيسُ مِنْ جُمْلَةِ الْمَلَائِكَةِ، قَالَ
اللَّهُ تَعَالَى:" إِلَّا إِبْلِيسَ كانَ مِنَ الْجِنِّ
فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ «2» رَبِّهِ". وَقَالَ الشَّاعِرُ:
وَبَلْدَةٍ لَيْسَ بِهَا أَنِيسُ ... إِلَّا الْيَعَافِيرُ
وَإِلَّا الْعِيسُ
فَاسْتَثْنَى الْيَعَافِيرَ وَهِيَ ذُكُورُ الظِّبَاءِ،
وَالْعِيسُ وَهِيَ الْجِمَالُ الْبِيضُ من الأنيس، ومثله قول
النَّابِغَةُ «3»:
حَلَفْتُ يَمِينًا غَيْرَ ذِي مَثْنَوِيَّةٍ ... وَلَا علم إلا
حسن ظن بصاحب
[سورة الحجر (15): الآيات 32 الى 35]
قالَ يَا إِبْلِيسُ مَا لَكَ أَلاَّ تَكُونَ مَعَ
السَّاجِدِينَ (32) قالَ لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ
خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (33) قالَ
فَاخْرُجْ مِنْها فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (34) وَإِنَّ عَلَيْكَ
اللَّعْنَةَ إِلى يَوْمِ الدِّينِ (35)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (قالَ يَا إِبْلِيسُ مَا لَكَ) أَيْ مَا
الْمَانِعُ لَكَ. (أَلَّا تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ) أَيْ
فِي أَلَّا تَكُونَ. (قالَ لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ
خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ) بَيَّنَ
تَكَبُّرَهُ وَحَسَدَهُ، وَأَنَّهُ خَيْرٌ مِنْهُ، إِذْ هُوَ
مِنْ نَارٍ وَالنَّارُ تَأْكُلُ الطِّينَ، كَمَا تَقَدَّمَ
فِي" الْأَعْرَافِ «4» " بَيَانُهُ. (قالَ فَاخْرُجْ مِنْها)
أي من السموات، أَوْ مِنْ جَنَّةِ عَدْنٍ، أَوْ مِنْ جُمْلَةِ
الْمَلَائِكَةِ. (فَإِنَّكَ رَجِيمٌ) أَيْ مَرْجُومٌ
بِالشُّهُبِ. وَقِيلَ: مَلْعُونٌ مَشْئُومٌ. وَقَدْ تَقَدَّمَ
هَذَا كُلُّهُ مُسْتَوْفًى فِي الْبَقَرَةِ وَالْأَعْرَافِ.
(وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ) أَيْ لعنتي، كما في سورة" ص
«5» ".
__________
(1). راجع ج 17 ص 206.
(2). راجع ص 419 من هذا الجزء.
(3). لم يذكر المؤلف رحمة الله عليه قول النابغة، أو لعله سقط
من الناسخ. وكأنه يشير إلى قوله:
حلقت يَمِينًا غَيْرَ ذِي مَثْنَوِيَّةٍ ... وَلَا عِلْمَ
إِلَّا حسن ظن بصاحب
وهذا البيت أورده سيبويه في كتابه شاهدا على نصب ما بعد إلا
على الاستثناء المنقطع، لان حسن الظن ليس من العلم. والمثنوية:
الاستثناء في اليمين. والمعنى: حلفت غير مستثن في يميني حسن ظن
منى بثا حبى قام عندي مقام العلم الذي يوجب اليمين. (راجع كتاب
سيبويه).
(4). راجع ج 7 ص 170.
(5). راجع ج 15 ص 228
(10/26)
قَالَ رَبِّ
فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (36)
[سورة الحجر (15): الآيات 36 الى 38]
قالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (36) قالَ
فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (37) إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ
الْمَعْلُومِ (38)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (قالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ
يُبْعَثُونَ) هَذَا السُّؤَالُ مِنْ إِبْلِيسٍ لَمْ يَكُنْ عن
ثقته مِنْهُ بِمَنْزِلَتِهِ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى،
وَأَنَّهُ أَهْلٌ أَنْ يُجَابَ لَهُ دُعَاءٌ، وَلَكِنْ سَأَلَ
تَأْخِيرَ عَذَابَهُ زِيَادَةً فِي بَلَائِهِ، كَفِعْلِ
الْآيِسِ مِنَ السَّلَامَةِ. وَأَرَادَ بِسُؤَالِهِ
الْإِنْظَارَ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ: أَلَّا يَمُوتَ،
لِأَنَّ يَوْمَ الْبَعْثِ لَا مَوْتَ فِيهِ وَلَا بَعْدَهُ.
(قالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ) يَعْنِي من المؤجلين.
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: (أَرَادَ بِهِ النَّفْخَةَ الْأُولَى)،
أَيْ حِينَ تَمُوتُ الْخَلَائِقُ. وَقِيلَ: الْوَقْتُ
الْمَعْلُومُ الَّذِي اسْتَأْثَرَ اللَّهُ بِعِلْمِهِ،
وَيَجْهَلُهُ إِبْلِيسُ. فَيَمُوتُ إِبْلِيسُ ثُمَّ يُبْعَثُ،
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:" كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ «1» ".
وَفِي كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى لَهُ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا-
كَلَّمَهُ عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ. الثَّانِي- كَلَّمَهُ
تَغْلِيظًا فِي الْوَعِيدِ لَا عَلَى وجه التكرمة والتقريب.
[سورة الحجر (15): آية 39]
قالَ رَبِّ بِما أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي
الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (39)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (قالَ رَبِّ بِما أَغْوَيْتَنِي
لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ) تَقَدَّمَ مَعْنَى
الْإِغْوَاءِ وَالزِّينَةِ فِي الْأَعْرَافِ «2».
وَتَزْيِينُهُ هُنَا يَكُونُ بِوَجْهَيْنِ: إِمَّا بِفِعْلِ
الْمَعَاصِي، وَإِمَّا بِشَغْلِهِمْ بزينة الدنيا عن فعل
الطاعة. ومعنى: (لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ) أَيْ
لَأُضِلَّنَّهُمْ عَنْ طَرِيقِ الْهُدَى. وَرَوَى ابْنُ
لَهِيعَةَ عَبْدُ اللَّهِ عَنْ دَرَّاجٍ أَبِي السَّمْحِ عَنْ
أَبِي الْهَيْثَمِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:"
إِنَّ إِبْلِيس قَالَ يَا رَبِّ وَعِزَّتِكَ وَجَلَالِكَ لَا
أَزَالُ أُغْوِي بَنِي آدَمَ مَا دَامَتْ أَرْوَاحُهُمْ فِي
أَجْسَامِهِمْ فَقَالَ الرَّبُّ وَعِزَّتِي وَجَلَالِي لَا
أَزَالُ أَغْفِرُ لَهُمْ مَا استغفروني".
__________
(1). راجع ج 17 ص 164.
(2). راجع ج 7 ص 174 و195.
(10/27)
إِلَّا عِبَادَكَ
مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (40)
[سورة الحجر (15): آية 40]
إِلاَّ عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (40)
قَرَأَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ وَأَهْلُ الْكُوفَةِ بِفَتْحِ
اللَّامِ، أَيِ الَّذِينَ اسْتَخْلَصْتَهُمْ وَأَخْلَصْتَهُمْ.
وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِكَسْرِ اللَّامِ، أَيِ الَّذِينَ
أَخْلَصُوا لَكَ الْعِبَادَةَ مِنْ فَسَادٍ أَوْ رِيَاءٍ.
حَكَى أَبُو ثُمَامَةَ أَنَّ الْحَوَارِيِّينَ سَأَلُوا عِيسَى
عَلَيْهِ السَّلَامُ عَنِ الْمُخْلَصِينَ لِلَّهِ فَقَالَ:"
الَّذِي يعمل ولا يحب أن يحمده الناس".
[سورة الحجر (15): آية 41]
قالَ هَذَا صِراطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ (41)
قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: مَعْنَاهُ هَذَا صِرَاطٌ
يَسْتَقِيمُ بِصَاحِبِهِ حَتَّى يَهْجُمَ بِهِ عَلَى
الْجَنَّةِ. الْحَسَنُ:" عَلَيَّ" بِمَعْنَى إِلَيَّ.
مُجَاهِدٌ وَالْكِسَائِيُّ: هَذَا عَلَى الْوَعِيدِ
وَالتَّهْدِيدِ، كَقَوْلِكَ لِمَنْ تُهَدِّدَهُ: طَرِيقُكَ
عَلَيَّ وَمَصِيرُكَ إِلَيَّ. وَكَقَوْلِهِ:" إِنَّ رَبَّكَ
لَبِالْمِرْصادِ «1» ". فَكَانَ مَعْنَى الْكَلَامِ: هَذَا
طَرِيقٌ مَرْجِعُهُ إِلَيَّ فَأُجَازِي كُلًّا بِعَمَلِهِ،
يَعْنِي طَرِيقَ الْعُبُودِيَّةِ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى عَلَيَّ
أَنْ أَدُلَّ عَلَى الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ بِالْبَيَانِ
وَالْبُرْهَانِ. وَقِيلَ: بِالتَّوْفِيقِ وَالْهِدَايَةِ.
وَقَرَأَ ابْنُ سِيرِينَ وَقَتَادَةُ وَالْحَسَنُ وَقَيْسُ
بْنُ عَبَّادٍ وَأَبُو رَجَاءٍ وَحُمَيْدٌ وَيَعْقُوبُ" هَذَا
صِراطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ" بِرَفْعِ" عَلِيٌّ"
وَتَنْوِينِهِ، وَمَعْنَاهُ رَفِيعٌ مُسْتَقِيمٌ، أَيْ رَفِيعٌ
فِي الدِّينِ وَالْحَقِّ. وَقِيلَ: رَفِيعٌ أَنْ يُنَالَ،
مُسْتَقِيمٌ أن يمال.
[سورة الحجر (15): آية 42]
إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ إِلاَّ مَنِ
اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ (42)
الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى: (إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ
عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ) قَالَ الْعُلَمَاءَ: يَعْنِي عَلَى
قُلُوبِهِمْ. وَقَالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ: أَيْ فِي أَنْ
يُلْقِيَهُمْ فِي ذَنْبٍ يَمْنَعُهُمْ عَفْوِي وَيُضَيِّقُهُ
عَلَيْهِمْ. وَهَؤُلَاءِ الذين هداهم الله واجتباهم واختارهم
واصطفاهم.
__________
(1). راجع ج 20 ص 50.
(10/28)
وَإِنَّ جَهَنَّمَ
لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ (43) لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ
لِكُلِّ بَابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ (44)
قُلْتُ: لَعَلَّ قَائِلًا يَقُولُ: قَدْ
أَخْبَرَ اللَّهُ عَنْ صِفَةِ آدَمَ وَحَوَّاءَ عَلَيْهِمَا
السَّلَامُ بِقَوْلِهِ:" فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطانُ «1» "،
وَعَنْ جُمْلَةٍ مِنْ أَصْحَابِ نَبِيِّهِ بِقَوْلِهِ:"
إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا
«2» " فَالْجَوَابُ مَا ذُكِرَ، وَهُوَ أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ
سُلْطَانٌ عَلَى قُلُوبِهِمْ، وَلَا مَوْضِعِ إِيمَانِهِمْ،
وَلَا يلقيهم في ذنب يؤول إِلَى عَدَمِ الْقَبُولِ «3»، بَلْ
تُزِيلُهُ التَّوْبَةُ وَتَمْحُوهُ الْأَوْبَةُ. وَلَمْ يَكُنْ
خُرُوجُ آدَمَ عُقُوبَةً لِمَا تَنَاوَلَ، عَلَى مَا تَقَدَّمَ
فِي" الْبَقَرَةِ «4» " بَيَانُهُ. وَأَمَّا أَصْحَابُ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَدْ مَضَى
الْقَوْلُ عَنْهُمْ فِي آلِ عِمْرَانَ «5». ثُمَّ إِنَّ
قَوْلَهُ سُبْحَانَهُ:" لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ"
يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ خَاصًّا فِيمَنْ حَفِظَهُ اللَّهُ،
وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ فِي أَكْثَرِ الْأَوْقَاتِ
وَالْأَحْوَالِ، وَقَدْ يَكُونُ فِي تَسَلُّطِهِ تَفْرِيجُ
كُرْبَةٍ وَإِزَالَةِ غُمَّةٍ، كَمَا فُعِلَ بِبِلَالٍ، إِذْ
أَتَاهُ يهديه كما يهدى الصَّبِيُّ حَتَّى نَامَ، وَنَامَ
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ
فَلَمْ يَسْتَيْقِظُوا حَتَّى طَلَعَتِ الشَّمْسُ، وَفَزِعُوا
وَقَالُوا: مَا كَفَّارَةُ مَا صَنَعْنَا بِتَفْرِيطِنَا فِي
صَلَاتِنَا؟ فَقَالَ لَهُمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" لَيْسَ فِي النَّوْمِ تَفْرِيطٌ"
فَفُرِّجَ عَنْهُمْ. (إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ)
أَيِ الضَّالِّينَ الْمُشْرِكِينَ. أَيْ سُلْطَانُهُ عَلَى
هَؤُلَاءِ، دَلِيلُهُ" إِنَّما سُلْطانُهُ عَلَى الَّذِينَ
يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ «6» ".
الثَّانِيَةُ- وَهَذِهِ الْآيَةُ وَالَّتِي قَبْلَهَا دَلِيلٌ
عَلَى جَوَازِ اسْتِثْنَاءِ الْقَلِيلِ مِنَ الْكَثِيرِ
وَالْكَثِيرِ مِنَ الْقَلِيلِ، مِثْلُ أَنْ يَقُولَ: عَشَرَةٌ
إِلَّا دِرْهَمًا. أَوْ يَقُولَ: عَشَرَةٌ إِلَّا تسعة. وقال
أحمد ابن حَنْبَلٍ: لَا يَجُوزُ أَنْ يُسْتَثْنَى إِلَّا
قَدْرَ النِّصْفِ فَمَا دُونَهُ. وَأَمَّا اسْتِثْنَاءُ
الْأَكْثَرِ مِنَ الْجُمْلَةِ فَلَا يَصِحُّ. وَدَلِيلُنَا
هَذِهِ الْآيَةُ، فَإِنَّ فِيهَا اسْتِثْنَاءُ" الْغاوِينَ"
مِنَ الْعِبَادِ وَالْعِبَادَ مِنَ الْغَاوِينَ، وَذَلِكَ
يَدُلُّ عَلَى أَنَّ اسْتِثْنَاءَ الْأَقَلِّ مِنَ الْجُمْلَةِ
وَاسْتِثْنَاءَ الْأَكْثَرِ مِنَ الْجُمْلَةِ جَائِزٌ.
[سورة الحجر (15): الآيات 43 الى 44]
وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ (43) لَها
سَبْعَةُ أَبْوابٍ لِكُلِّ بابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ
(44)
__________
(1). راجع ج 1 ص 11 وص 321 وج 4 ص 24.
(2). راجع ج 4 ص 243.
(3). في ى: العفو
(4). راجع ج 1 ص 11 وص 321 وج 4 ص 24.
(5). راجع ج 4 ص 243. [ ..... ]
(6). راجع ص 175 من هذا الجزء.
(10/29)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَإِنَّ جَهَنَّمَ
لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ) يَعْنِي إِبْلِيسَ وَمَنِ
اتَّبَعَهُ. (لَها سَبْعَةُ أَبْوابٍ) أَيْ أطباق، طبق فوق طبق
(لِكُلِّ بابٍ) أي لكل طبقة (مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ) أَيْ
حَظٌّ مَعْلُومٌ. ذَكَرَ ابْنُ الْمُبَارَكِ قَالَ:
أَخْبَرَنَا إِبْرَاهِيمُ أَبُو هَارُونَ الْغَنَوِيُّ قَالَ:
سَمِعْتُ حِطَّانَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ الرَّقَاشِيَّ يَقُولُ
سَمِعْتُ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ: هَلْ
تَدْرُونَ كَيْفَ أَبْوَابُ جَهَنَّمَ؟ قُلْنَا: هِيَ مِثْلُ
أَبْوَابِنَا. قَالَ لَا، هِيَ هَكَذَا بَعْضُهَا فَوْقَ
بَعْضٍ- زَادَ الثَّعْلَبِيُّ: وَوَضَعَ إِحْدَى يَدَيْهِ
عَلَى الْأُخْرَى- وَأَنَّ اللَّهَ وَضَعَ الْجِنَانَ عَلَى
الْأَرْضِ، وَالنِّيرَانَ بَعْضَهَا فَوْقَ بَعْضٍ،
فَأَسْفَلُهَا جَهَنَّمُ، وَفَوْقَهَا الْحُطَمَةُ،
وَفَوْقَهَا سَقَرُ، وَفَوْقَهَا الْجَحِيمُ، وَفَوْقَهَا
لَظًى، وَفَوْقَهَا السَّعِيرُ، وَفَوْقَهَا الْهَاوِيَةُ،
وَكُلُّ بَابٍ أَشَدُّ حَرًّا مِنَ الَّذِي يَلِيهِ سَبْعِينَ
مَرَّةً. قُلْتُ: كَذَا وَقَعَ هَذَا التَّفْسِيرُ. وَالَّذِي
عَلَيْهِ الْأَكْثَرُ مِنَ الْعُلَمَاءِ أَنَّ جَهَنَّمَ
أَعْلَى الدَّرَكَاتِ، وَهِيَ مُخْتَصَّةٌ بِالْعُصَاةِ مِنْ
أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهِيَ
الَّتِي تُخْلَى مِنْ أَهْلِهَا فَتَصْفِقُ الرِّيَاحُ
أَبْوَابَهَا. ثُمَّ لَظًى، ثُمَّ الْحُطَمَةُ، ثُمَّ سَعِيرٌ،
ثُمَّ سَقَرُ، ثُمَّ الْجَحِيمُ، ثُمَّ الْهَاوِيَةُ. قَالَ
الضَّحَّاكُ: فِي الدَّرْكِ الْأَعْلَى الْمُحَمَّدِيُّونَ،
وَفِي الثَّانِي النَّصَارَى، وَفِي الثَّالِثِ الْيَهُودِ،
وَفِي الرَّابِعِ الصَّابِئُونَ، وَفِي الْخَامِسِ الْمَجُوسُ،
وَفِي السَّادِسِ مُشْرِكُو الْعَرَبِ، وَفِي السَّابِعِ
الْمُنَافِقُونَ وَآلُ فِرْعَوْنَ وَمَنْ كَفَرَ مِنْ أَهْلِ
الْمَائِدَةِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:" إِنَّ الْمُنافِقِينَ
فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ"- وَقَدْ تَقَدَّمَ
فِي النِّسَاءِ «1» -، وَقَالَ:" أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ
أَشَدَّ الْعَذابِ «2» "، وقال:" فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ
مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذاباً لَا أُعَذِّبُهُ
أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ «3» ". وَقَسَّمَ مُعَاذُ بْنُ
جَبَلٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ الْعُلَمَاءَ السُّوءَ مِنْ
هَذِهِ الْأُمَّةِ تَقْسِيمًا عَلَى تِلْكَ الْأَبْوَابِ،
ذَكَرْنَاهُ فِي كِتَابِ (التَّذْكِرَةِ). وَرَوَى
التِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:"
لِجَهَنَّمَ سَبْعَةُ أَبْوَابٍ بَابٌ مِنْهَا لِمَنْ سَلَّ
سَيْفَهُ عَلَى أُمَّتِي" قَالَ: حَدِيثٌ غَرِيبٌ. وَقَالَ
أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ:: لِجَهَنَّمَ سَبْعَةُ أَبْوَابٍ بَابٌ
مِنْهَا لِلْحَرُورِيَّةِ «4». وَقَالَ وَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ:
بَيْنَ كُلِّ بابين مسيرة سبعين
__________
(1). راجع ج 4 ص 424.
(2). راجع ج 15 ص 318.
(3). راجع ج 6 ص 368.
(4). في كتاب الدر المنقور للسيوطي:" قال كعب رضى الله عنه:
للشهيد نور، ولمن قاتل الحرورية عشرة أنوار. وكان يقول: لجهنم
سبعة أبواب: باب منها للحرورية. قال:" ولقد خرجوا في زمان داود
عليه السلام".
(10/30)
سَنَةً، كُلُّ بَابٍ أَشَدُّ حَرًّا مِنَ
الَّذِي فَوْقَهُ بِسَبْعِينَ ضِعْفًا، وَقَدْ ذَكَرْنَا هَذَا
كُلَّهُ فِي كِتَابِ التَّذْكِرَةِ. وَرَوَى سَلَّامٌ
الطَّوِيلُ عَنْ أَبِي سُفْيَانَ عَنْ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ
عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْلِ
اللَّهِ تَعَالَى:" لَها سَبْعَةُ أَبْوابٍ لِكُلِّ بابٍ
مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ" جُزْءٌ أَشْرَكُوا بِاللَّهِ،
وَجُزْءٌ شَكُّوا فِي اللَّهِ، وَجُزْءٌ غَفَلُوا عَنِ
اللَّهِ، وَجُزْءٌ آثَرُوا شَهَوَاتِهِمْ عَلَى اللَّهِ،
وَجُزْءٌ شَفَوْا غَيْظَهُمْ بِغَضَبِ اللَّهِ، وَجُزْءٌ
صَيَّرُوا رَغْبَتَهُمْ بِحَظِّهِمْ مِنَ اللَّهِ، وَجُزْءٌ
عَتَوْا عَلَى اللَّهِ". ذَكَرَهُ الْحَلِيمِيُّ أَبُو عَبْدِ
اللَّهِ الْحُسَيْنُ بْنُ الْحَسَنِ فِي كِتَابِ (مِنْهَاجِ
الدِّينِ) لَهُ، وَقَالَ: فَإِنْ كَانَ ثَابِتًا
فَالْمُشْرِكُونَ بِاللَّهِ هُمُ الثَّنَوِيَّةُ «1».
وَالشَّاكُّونَ هُمُ الَّذِينَ لَا يَدْرُونَ أَنَّ لَهُمْ
إِلَهًا أَوْ لَا إِلَهَ لَهُمْ، وَيَشُكُّونَ فِي شَرِيعَتِهِ
أَنَّهَا مِنْ عِنْدِهِ أَمْ لَا. وَالْغَافِلُونَ عَنِ
اللَّهِ هُمُ الَّذِينَ يَجْحَدُونَهُ أَصْلًا وَلَا
يُثْبِتُونَهُ، وَهُمُ الدَّهْرِيَّةُ. وَالْمُؤْثِرُونَ
شَهَوَاتِهِمْ عَلَى اللَّهِ هُمُ الْمُنْهَمِكُونَ فِي
الْمَعَاصِي، لِتَكْذِيبِهِمْ رُسُلَ اللَّهِ وَأَمْرِهِ
وَنَهْيِهِ. وَالشَّافُونَ غَيْظَهُمْ بِغَضَبِ اللَّهِ هُمُ
الْقَاتِلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ وَسَائِرَ الدَّاعِينَ
إِلَيْهِ، الْمُعَذِّبُونَ مَنْ يَنْصَحُ لَهُمْ أَوْ يَذْهَبُ
غَيْرَ مَذْهَبِهِمْ، وَالْمُصَيِّرُونَ رَغْبَتَهُمْ
بِحَظِّهِمْ مِنَ اللَّهِ هُمُ الْمُنْكِرُونَ بِالْبَعْثِ
وَالْحِسَابِ، فَهُمْ يَعْبُدُونَ مَا يَرْغَبُونَ فِيهِ،
لَهُمْ جَمِيعُ حَظِّهِمْ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى،
وَالْعَاتُونَ عَلَى اللَّهِ الَّذِينَ لَا يُبَالُونَ، بِأَنْ
يَكُونَ مَا هُمْ فِيهِ حَقًّا أَوْ بَاطِلًا، فَلَا
يَتَفَكَّرُونَ وَلَا يَعْتَبِرُونَ وَلَا يَسْتَدِلُّونَ.
وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا أَرَادَ رَسُولُهُ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنْ ثَبَتَ الْحَدِيثُ. وَيُرْوَى أَنَّ
سَلْمَانَ الْفَارِسِيَّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَمَّا سَمِعَ
هَذِهِ الْآيَةَ" وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ
أَجْمَعِينَ" فَرَّ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ مِنَ الخوف لا يعقل،
فجئ بِهِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فَسَأَلَهُ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ،
أُنْزِلَتْ هذه الآية" وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ
أَجْمَعِينَ"؟ فو الذي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ لَقَدْ قَطَّعَتْ
قَلْبِيَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى" إِنَّ الْمُتَّقِينَ
فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ". وَقَالَ بِلَالٌ: كَانَ النَّبِيُّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي فِي مَسْجِدِ
الْمَدِينَةِ وَحْدَهُ، فَمَرَّتْ بِهِ امْرَأَةٌ
أَعْرَابِيَّةٌ فَصَلَّتْ خَلْفَهُ وَلَمْ يَعْلَمْ بِهَا،
فَقَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
هَذِهِ الْآيَةُ" لَها سَبْعَةُ أَبْوابٍ لِكُلِّ بابٍ
مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ" فَخَرَّتِ الْأَعْرَابِيَّةُ
مَغْشِيًّا عَلَيْهَا، وَسَمِعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَجْبَتَهَا «2» فانصرف ودعا بماء فصب على
وجهها
__________
(1). في ى: الوثنية.
(2). الوجبة: صوت الشيء يسقط فيسمع له كالهدة.
(10/31)
إِنَّ الْمُتَّقِينَ
فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (45) ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ آمِنِينَ
(46)
حَتَّى أَفَاقَتْ وَجَلَسَتْ، فَقَالَ
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" يَا هَذِهِ
مَالَكِ"؟ فَقَالَتْ: أَهَذَا شي مِنْ كِتَابِ اللَّهِ
الْمُنَزَّلِ، أَوْ تَقُولُهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِكَ؟
فَقَالَ:" يَا أَعْرَابِيَّةُ، بَلْ هُوَ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ
تَعَالَى الْمُنَزَّلِ" فَقَالَتْ: كُلُّ عُضْوٍ مِنْ
أَعْضَائِي يُعَذَّبُ عَلَى كُلِّ بَابٍ مِنْهَا؟ قَالَ:" يَا
أَعْرَابِيَّةُ، بَلْ لِكُلِّ بَابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ
يُعَذَّبُ أَهْلُ كُلٍّ مِنْهَا عَلَى قَدْرِ أَعْمَالِهِمْ"
فَقَالَتْ: وَاللَّهِ إِنِّي امْرَأَةٌ مِسْكِينَةٌ، مَا لِي
مَالٌ، وَمَا لِي إِلَّا سَبْعَةُ أَعْبُدٍ، أُشْهِدُكَ يَا
رَسُولَ اللَّهِ، أَنَّ كُلَّ عَبْدٍ مِنْهُمْ عَنْ كُلِّ
بَابٍ مِنْ أَبْوَابِ جَهَنَّمَ حُرٌّ لِوَجْهِ اللَّهِ
تَعَالَى. فَأَتَاهُ جِبْرِيلُ فَقَالَ." يَا رَسُولَ اللَّهِ،
بَشِّرِ الْأَعْرَابِيَّةَ أَنَّ اللَّهَ قَدْ حَرَّمَ
عَلَيْهَا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ كلها وفتح لها أبواب الجنة
كلها".
[سورة الحجر (15): الآيات 45 الى 46]
إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (45) ادْخُلُوها
بِسَلامٍ آمِنِينَ (46)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ
وَعُيُونٍ) أي الذين اتقوا الفواحش والشرك. أَيْ بَسَاتِينَ."
وَعُيُونٍ" هِيَ الْأَنْهَارُ الْأَرْبَعَةُ: مَاءٌ وَخَمْرٌ
وَلَبَنٌ وَعَسَلٌ. وَأَمَّا الْعُيُونُ الْمَذْكُورَةُ فِي
سُورَةِ" الْإِنْسَانِ «1» ": الْكَافُورُ وَالزَّنْجَبِيلُ
وَالسَّلْسَبِيلُ، وَفِي" الْمُطَفِّفِينَ «2» ":
التَّسْنِيمُ، فَيَأْتِي ذِكْرُهَا وَأَهْلُهَا إِنْ شَاءَ
اللَّهُ. وَضَمُّ الْعَيْنِ مِنْ" عُيُونٍ" عَلَى الْأَصْلِ،
وَالْكَسْرُ مراعاة للياء، وقرى بهما .. قرى بِهِمَا.
(ادْخُلُوها بِسَلامٍ آمِنِينَ) قِرَاءَةُ الْعَامَّةِ"
ادْخُلُوها" بِوَصْلِ الْأَلِفِ وَضَمِّ الْخَاءِ، مِنْ دَخَلَ
يَدْخُلُ، عَلَى الْأَمْرِ. تَقْدِيرُهُ: قِيلَ ادْخُلُوهَا.
وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَأَبُو الْعَالِيَةِ وَرُوَيْسٌ عَنْ
يَعْقُوبَ" أُدْخِلُوهَا" بِضَمِّ التَّنْوِينِ وَوَصْلِ
الْأَلِفِ وَكَسْرِ الْخَاءِ عَلَى الْفِعْلِ الْمَجْهُولِ،
مِنْ أَدْخَلَ. أَيْ أَدْخَلَهُمُ اللَّهُ إِيَّاهَا.
وَمَذْهَبُهُمْ كَسْرُ التَّنْوِينِ فِي مِثْلِ" بِرَحْمَةٍ
ادْخُلُوا «3» الْجَنَّةَ" وشبهه، إلا أنهم ها هنا أَلْقَوْا
حَرَكَةَ الْهَمْزَةِ عَلَى التَّنْوِينِ، إِذْ هِيَ أَلِفُ
قَطْعٍ، وَلَكِنْ فِيهِ انْتِقَالٌ مِنْ كَسْرٍ إِلَى ضَمٍّ
ثُمَّ مِنْ ضَمٍّ إِلَى كَسْرٍ فَيَثْقُلُ عَلَى اللِّسَانِ."
بِسَلامٍ" أَيْ بِسَلَامَةٍ مِنْ كُلِّ دَاءٍ وَآفَةٍ.
وَقِيلَ: بِتَحِيَّةٍ مِنَ اللَّهِ لَهُمْ. (آمِنِينَ) أَيْ
مِنَ الْمَوْتِ وَالْعَذَابِ وَالْعَزَلِ والزوال.
__________
(1). راجع ج 19 ص 123، 262 140 139.
(2). راجع ج 19 ص 123، 262 140 139.
(3). راجع ج 7 ص 274.
(10/32)
وَنَزَعْنَا مَا فِي
صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ
مُتَقَابِلِينَ (47) لَا يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ وَمَا هُمْ
مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ (48)
[سورة الحجر (15): الآيات 47 الى 48]
وَنَزَعْنا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْواناً عَلى
سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ (47) لَا يَمَسُّهُمْ فِيها نَصَبٌ وَما
هُمْ مِنْها بِمُخْرَجِينَ (48)
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَوَّلُ مَا يَدْخُلُ أَهْلُ الْجَنَّةِ
الْجَنَّةَ تُعْرَضُ لَهُمْ عَيْنَانِ، فَيَشْرَبُونَ مِنْ
إِحْدَى الْعَيْنَيْنِ فَيُذْهِبُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ
مِنْ غِلٍّ، ثُمَّ يَدْخُلُونَ الْعَيْنَ الْأُخْرَى
فَيَغْتَسِلُونَ فِيهَا فَتُشْرِقُ أَلْوَانُهُمْ وَتَصْفُو
وُجُوهَهُمْ، وَتَجْرِي عَلَيْهِمْ نَضْرَةُ النَّعِيمِ،
وَنَحْوُهُ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. وَقَالَ
عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ: نَزَلَتْ فِي أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ
وَعَلِيٍّ وَالصَّحَابَةِ، يَعْنِي مَا كَانَ بَيْنَهُمْ فِي
الْجَاهِلِيَّةِ مِنَ الْغِلِّ. وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ
أَظْهَرُ، يَدُلُّ عَلَيْهِ سِيَاقُ الْآيَةِ. وَقَالَ عَلِيٌّ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَنَا وَطَلْحَةُ
وَالزُّبَيْرُ مِنْ هَؤُلَاءِ. وَالْغِلُّ: الْحِقْدُ
وَالْعَدَاوَةُ، يُقَالُ مِنْهُ: غَلَّ يَغِلُّ. وَيُقَالُ:
مِنَ الْغُلُولِ وَهُوَ السَّرِقَةُ مِنَ الْمَغْنَمِ: غَلَّ
يَغُلُّ. وَيُقَالُ مِنَ الْخِيَانَةِ: أَغَلَّ يُغِلُّ. كَمَا
قَالَ «1»:
جَزَى اللَّهُ عَنَّا حَمْزَةَ ابْنَةَ نَوْفَلٍ ... جَزَاءَ
مُغِلٍّ بِالْأَمَانَةِ كَاذِبِ
وَقَدْ مَضَى هَذَا فِي آلِ عِمْرَانَ «2». (إِخْواناً عَلى
سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ) أَيْ لَا يَنْظُرُ بَعْضُهُمْ إِلَى
قَفَا بَعْضٍ تَوَاصُلًا وَتَحَابُبًا، عَنْ مُجَاهِدٍ
وَغَيْرِهِ. وَقِيلَ: الْأَسِرَّةُ تَدُورُ كَيْفَمَا شَاءُوا،
فَلَا يَرَى أَحَدٌ قَفَا أَحَدٍ. وَقِيلَ:" مُتَقابِلِينَ"
قَدْ أَقْبَلَتْ عَلَيْهِمُ الْأَزْوَاجُ وَأَقْبَلُوا
عَلَيْهِنَّ بِالْوُدِّ. وَسُرَرٍ جَمْعُ سَرِيرٍ، مِثْلُ
جَدِيدٍ وَجُدُدٍ. وَقِيلَ: هُوَ مِنَ السُّرُورِ، فَكَأَنَّهُ
مَكَانٌ رَفِيعٌ مُمَهَّدٌ لِلسُّرُورِ. وَالْأَوَّلُ
أَظْهَرُ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: عَلَى سُرَرٍ مُكَلَّلَةٍ
بِالْيَاقُوتِ وَالزَّبَرْجَدِ وَالدُّرِّ، السَّرِيرُ مَا
بَيْنَ صَنْعَاءَ «3» إِلَى الْجَابِيَةِ وَمَا بين عدن إلى
أيلة. و" إِخْواناً
" نصب على الحال من" الْمُتَّقِينَ"
__________
(1). البيت للنمر بن أبيات في أم أولاده. وكان من حديثها أن
أخاه الحارث بن تولب سيد قومه أغار غلى بنى أسد فسبى منهم يقال
لها:" حمزة بنت نوفل" فوهبها لأخيه النمر ففركته فحبستها حتى
استقرت وولدت له أولادا، ثم قالت له في بعض أيامها: إنى قد
اشتقت إلى أهلي، فقال لها: إنى أخاف أن صرت إلى أهلك أن
تغلبيني على نفسك فواثقته لترجعن إليه، ثم خانت عهده. (راجع
الأغاني ج 19 ص 158 طبع بولاق). وفى التاج: جمرة. بجيم. فركته:
أبغضته.
(2). راجع ج 4 ص 255.
(3). صنعاء: موضعان، أحدهما باليمين وهى العظمى، وأخرى قرية
بالغوطة. والجابية: قرية من أعمال دمشق. وعدن: مدينة مشهورة
على ساحل بحر الهند من ناحية اليمن. وأيلة: مدينة على ساحل
البحر الأحمر. (عن معجم البلدان).
(10/33)
نَبِّئْ عِبَادِي
أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (49) وَأَنَّ عَذَابِي
هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ (50) وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ
إِبْرَاهِيمَ (51) إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا
قَالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ (52) قَالُوا لَا تَوْجَلْ
إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ (53) قَالَ
أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ
تُبَشِّرُونَ (54)
أَوْ مِنَ الْمُضْمَرِ فِي" ادْخُلُوها"،
أَوْ مِنَ الْمُضْمَرِ فِي" آمِنِينَ" أَوْ يَكُونُ حَالًا
مُقَدَّرَةً مِنَ الْهَاءِ وَالْمِيمِ فِي" صُدُورِهِمْ". (لَا
يَمَسُّهُمْ فِيها نَصَبٌ) أَيْ إِعْيَاءٌ وَتَعَبٌ. (وَما
هُمْ مِنْها بِمُخْرَجِينَ) دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ نَعِيمَ
الْجَنَّةِ دَائِمٌ لَا يَزُولُ، وَأَنَّ أَهْلَهَا فِيهَا
بَاقُونَ." أُكُلُها «1» دائِمٌ"." إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنا مَا
لَهُ «2» مِنْ نَفادٍ".
[سورة الحجر (15): الآيات 49 الى 50]
نَبِّئْ عِبادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (49)
وَأَنَّ عَذابِي هُوَ الْعَذابُ الْأَلِيمُ (50)
هَذِهِ الْآيَةُ وِزَانُ قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ:" لَوْ
يَعْلَمُ الْمُؤْمِنُ مَا عِنْدَ اللَّهِ مِنَ الْعُقُوبَةِ
مَا طَمِعَ بِجَنَّتِهِ أَحَدٌ وَلَوْ يَعْلَمُ الْكَافِرُ مَا
عِنْدَ اللَّهِ مِنَ الرَّحْمَةِ مَا قَنَطَ مِنْ رَحْمَتِهِ
أَحَدٌ" أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ.
وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الْفَاتِحَةِ «3». وَهَكَذَا يَنْبَغِي
لِلْإِنْسَانِ أَنْ يُذَكِّرَ نَفْسَهُ وَغَيْرَهُ فَيُخَوِّفُ
وَيُرَجِّي، وَيَكُونُ الْخَوْفُ فِي الصِّحَّةِ أَغْلَبُ
عَلَيْهِ مِنْهُ فِي الْمَرَضِ. وَجَاءَ فِي الْحَدِيثِ أَنَّ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ عَلَى
الصَّحَابَةِ وَهُمْ يَضْحَكُونَ فَقَالَ:" أَتَضْحَكُونَ
وَبَيْنَ أَيْدِيكُمُ الْجَنَّةَ وَالنَّارَ" فَشَقَّ ذَلِكَ
عَلَيْهِمْ فَنَزَلَتِ الْآيَةُ. ذَكَرَهُ الْمَاوَرْدِيُّ
وَالْمَهْدَوِيُّ. وَلَفْظُ الثَّعْلَبِيِّ عَنِ ابْنِ عُمَرَ
قَالَ: اطَّلَعَ عَلَيْنَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ مِنَ الْبَابِ الَّذِي يَدْخُلُ مِنْهُ بَنُو
شَيْبَةَ وَنَحْنُ نضحك فقال:" ما لكم تَضْحَكُونَ لَا
أَرَاكُمْ تَضْحَكُونَ" ثُمَّ أَدْبَرَ حَتَّى إِذَا كَانَ
عِنْدَ الْحِجْرِ رَجَعَ الْقَهْقَرَى فَقَالَ لَنَا:" إِنِّي
لَمَّا خَرَجْتُ جَاءَنِي جِبْرِيلُ فَقَالَ يَا مُحَمَّدُ
لِمَ تُقَنِّطُ عِبَادِي مِنْ رَحْمَتِي" نَبِّئْ عِبادِي
أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ. وَأَنَّ عَذابِي هُوَ
الْعَذابُ الْأَلِيمُ". فَالْقُنُوطُ إِيَاسٌ، وَالرَّجَاءُ
إهمال، وخير الأمور أوساطها.
[سورة الحجر (15): الآيات 51 الى 54]
وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ (51) إِذْ دَخَلُوا
عَلَيْهِ فَقالُوا سَلاماً قالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ
(52) قالُوا لَا تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ عَلِيمٍ
(53) قالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ
فَبِمَ تُبَشِّرُونَ (54)
__________
(1). راجع ج 9 ص 324. [ ..... ]
(2). راجع ج 15 ص 218.
(3). راجع ج 1 ص 139.
(10/34)
قَالُوا بَشَّرْنَاكَ
بِالْحَقِّ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْقَانِطِينَ (55)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَنَبِّئْهُمْ عَنْ
ضَيْفِ إِبْراهِيمَ) ضَيْفُ إِبْرَاهِيمَ: الْمَلَائِكَةُ
الَّذِينَ بَشَّرُوهُ بِالْوَلَدِ وَبِهَلَاكِ قَوْمِ لُوطٍ.
وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُمْ «1». وَكَانَ إِبْرَاهِيمُ
عَلَيْهِ السَّلَامُ يُكْنَى أَبَا الضِّيفَانِ، وَكَانَ
لِقَصْرِهِ أَرْبَعَةُ أَبْوَابٍ لِكَيْلَا يَفُوتَهُ أَحَدٌ.
وَسُمِّيَ الضَّيْفُ ضَيْفًا لِإِضَافَتِهِ إِلَيْكَ
وَنُزُولِهِ عَلَيْكَ. وَقَدْ مَضَى مِنْ حُكْمِ الضَّيْفِ
فِي" هُودٍ»
" مَا يَكْفِي وَالْحَمْدُ لِلَّهِ. (إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ)
جَمَعَ الْخَبَرَ لِأَنَّ الضَّيْفَ اسْمٌ يَصْلُحُ
لِلْوَاحِدِ وَالْجَمْعِ وَالتَّثْنِيَةِ وَالْمُذَكَّرِ
وَالْمُؤَنَّثِ كَالْمَصْدَرِ. ضَافَهُ وَأَضَافَهُ أَمَالَهُ،
وَمِنْهُ الْحَدِيثُ" حِينَ تَضِيفُ الشَّمْسُ لِلْغُرُوبِ"،
وَضَيْفُوفَةُ «3» السَّهْمِ، وَالْإِضَافَةُ والنحوية.
(فَقالُوا سَلاماً) أَيْ سَلَّمُوا سَلَامًا. (قالَ إِنَّا
مِنْكُمْ وَجِلُونَ) أَيْ فَزِعُونَ خَائِفُونَ، وَإِنَّمَا
قَالَ هَذَا بَعْدَ أَنْ قَرَّبَ الْعِجْلَ وَرَآهُمْ لَا
يَأْكُلُونَ، عَلَى مَا تَقَدَّمَ فِي هُودٍ «4». وَقِيلَ:
أَنْكَرَ السَّلَامَ وَلَمْ يَكُنْ فِي بِلَادِهِمْ رَسْمُ
السَّلَامِ. (قالُوا لَا تَوْجَلْ) أَيْ قَالَتِ
الْمَلَائِكَةُ لَا تَخَفْ. (إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ
عَلِيمٍ) أَيْ حَلِيمٍ «5»، قَالَهُ مُقَاتِلٌ. وَقَالَ
الْجُمْهُورُ: عَالِمٌ. وَهُوَ إِسْحَاقُ. (قالَ
أَبَشَّرْتُمُونِي عَلى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ) " أَنْ"
مَصْدَرِيَّةٌ، أَيْ عَلَى مَسِّ الْكِبَرِ إِيَّايَ وزوجتي،
وقد تقدم في هود وإبراهيم «6»، حيث يقول: (فَبِمَ
تُبَشِّرُونَ) اسْتِفْهَامُ تَعَجُّبٍ. وَقِيلَ: اسْتِفْهَامٌ
حَقِيقِيٌّ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ" تُوجَلُ" بِضَمِ التَّاءِ.
وَالْأَعْمَشُ" بَشَّرْتُمُونِي" بِغَيْرِ أَلِفٍ، وَنَافِعٌ
وَشَيْبَةُ" تُبَشِّرُونِ" بِكَسْرِ النُّونِ والتخفيف، مثل،"
أَتُحاجُّونِّي" وَقَدْ تَقَدَّمَ تَعْلِيلُهُ «7». وَقَرَأَ
ابْنُ كَثِيرٍ وَابْنُ مُحَيْصِنٍ" تُبَشِّرُونِّ" بِكَسْرِ
النُّونِ مُشَدَّدَةً، تَقْدِيرُهُ تُبَشِّرُونَنِي،
فَأَدْغَمَ النُّونَ فِي النُّونِ. الْبَاقُونَ" تُبَشِّرُونَ"
بِنَصْبِ النون بغير إضافة.
[سورة الحجر (15): آية 55]
قالُوا بَشَّرْناكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُنْ مِنَ الْقانِطِينَ
(55)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (قالُوا بَشَّرْناكَ بِالْحَقِّ) أَيْ
بِمَا لَا خُلْفَ فِيهِ، وَأَنَّ الْوَلَدَ لَا بُدَّ مِنْهُ.
(فَلا تَكُنْ مِنَ الْقانِطِينَ) أَيْ مِنَ الْآيِسِينَ مِنَ
الْوَلَدِ، وَكَانَ قَدْ أَيِسَ مِنَ الولد لفرط
__________
(1). راجع ج 9 ص 62، ص 64 فما بعد، ص 375.
(2). ضاف السهم: عدل عن الهدف أو الرمية.
(3). ضاف السهم: عدل عن الهدف أو الرمية.
(4). راجع ج 9 ص 62، ص 64 فما بعد، ص 375.
(5). في ى: حكيم.
(6). راجع ج 9 ص 62، ص 64 فما بعد، ص 375.
(7). راجع ج 7 ص 28.
(10/35)
قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ
مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ (56) قَالَ فَمَا
خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (57) قَالُوا إِنَّا
أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (58) إِلَّا آلَ لُوطٍ
إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ (59) إِلَّا امْرَأَتَهُ
قَدَّرْنَا إِنَّهَا لَمِنَ الْغَابِرِينَ (60)
الْكِبَرِ. وَقِرَاءَةُ الْعَامَّةِ" مِنَ
الْقانِطِينَ" بِالْأَلِفِ. وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ وَيَحْيَى
بْنُ وَثَّابٍ" مِنَ الْقَنِطِينَ" بِلَا أَلِفٍ. وَرُوِيَ
عَنْ أَبِي عَمْرٍو. وَهُوَ مَقْصُورٌ مِنَ" الْقانِطِينَ".
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْ لُغَةِ مَنْ قَالَ: قَنِطَ
يَقْنَطُ، مِثْلَ حَذِرَ يَحْذَرُ. وَفَتْحُ النُّونِ
وَكَسْرُهَا مِنْ" يَقْنَطُ" لُغَتَانِ قُرِئَ بِهِمَا.
وَحُكِيَ فِيهِ" يَقْنُطُ" بِالضَّمِّ. وَلَمْ يَأْتِ فِيهِ"
قَنَطَ يَقْنَطُ" [وَ] مَنْ فَتَحَ النُّونَ فِي الْمَاضِي
وَالْمُسْتَقْبَلِ فَإِنَّهُ جَمَعَ بَيْنَ اللُّغَتَيْنِ،
فَأَخَذَ فِي الْمَاضِي بِلُغَةِ مَنْ قَالَ: قَنَطَ يَقْنِطُ،
وَفِي الْمُسْتَقْبَلِ بِلُغَةِ مَنْ قَالَ: قَنِطَ يقنط، ذكره
المهدوي.
[سورة الحجر (15): آية 56]
قالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ
الضَّالُّونَ (56)
أَيِ الْمُكَذِّبُونَ الذَّاهِبُونَ عَنْ طَرِيقِ الصَّوَابِ.
يَعْنِي أَنَّهُ اسْتَبْعَدَ الْوَلَدَ لِكِبَرِ سِنِّهِ لَا
أنه قنط من رحمة الله تعالى.
[سورة الحجر (15): الآيات 57 الى 60]
قالَ فَما خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (57) قالُوا
إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (58) إِلاَّ آلَ
لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ (59) إِلاَّ
امْرَأَتَهُ قَدَّرْنا إِنَّها لَمِنَ الْغابِرِينَ (60)
فِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْأُولَى- لَمَّا عَلِمَ أَنَّهُمْ
مَلَائِكَةٌ- إِذْ أَخْبَرُوهُ بِأَمْرٍ خَارِقٍ لِلْعَادَةِ
وَهُوَ بُشْرَاهُمْ بِالْوَلَدِ- قَالَ: فَمَا خَطْبُكُمْ؟
وَالْخَطْبُ الْأَمْرُ الْخَطِيرُ. أَيْ فَمَا أَمْرُكُمْ
وَشَأْنُكُمْ وَمَا الَّذِي جِئْتُمْ بِهِ. (قالُوا إِنَّا
أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ) أَيْ مُشْرِكِينَ
ضَالِّينَ. وَفِي الْكَلَامِ إِضْمَارٌ، أَيْ أُرْسِلْنَا
إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ لِنُهْلِكَهُمْ. (إِلَّا آلَ لُوطٍ)
أَتْبَاعَهُ واهل دينه. (إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ) وَقَرَأَ
حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ" لَمُنْجُوهُمْ" بِالتَّخْفِيفِ مِنْ
أَنْجَى. الْبَاقُونَ: بِالتَّشْدِيدِ مِنْ نَجَّى،
وَاخْتَارَهُ أَبُو عُبَيْدٍ وَأَبُو حَاتِمٍ. وَالتَّنْجِيَةُ
وَالْإِنْجَاءُ التَّخْلِيصُ. (إِلَّا امْرَأَتَهُ) اسْتَثْنَى
مِنْ آلِ لُوطٍ امْرَأَتَهُ وَكَانَتْ كَافِرَةً فَالْتَحَقَتْ
بِالْمُجْرِمِينَ فِي الْهَلَاكِ. وَقَدْ تَقَدَّمَتْ قِصَّةُ
قوم لوط
(10/36)
فِي" الْأَعْرَافِ «1» " وَسُورَةِ" هُودٍ
«2» " بِمَا فِيهِ كِفَايَةٌ. (قَدَّرْنا إِنَّها لَمِنَ
الْغابِرِينَ) أَيْ قَضَيْنَا وَكَتَبْنَا إِنَّهَا لَمِنَ
الْبَاقِينَ فِي الْعَذَابِ. وَالْغَابِرُ: الْبَاقِي. قَالَ
«3»:
لَا تَكْسَعُ الشَّوْلَ بِأَغْبَارِهَا ... إِنَّكَ لَا
تَدْرِي مَنِ النَّاتِجِ
الْأَغْبَارُ بَقَايَا اللَّبَنِ. وَقَرَأَ أَبُو بَكْرٍ
وَالْمُفَضَّلُ" قَدَرْنَا" بِالتَّخْفِيفِ هُنَا وَفِي
النَّمْلِ «4»، وَشَدَّدَ الْبَاقُونَ. الْهَرَوِيُّ: يُقَالُ
قَدَّرَ وَقَدَرَ، بِمَعْنًى. الثَّانِيَةُ- لَا خِلَافَ
بَيْنَ أَهْلِ اللِّسَانِ وَغَيْرِهِمْ أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ
مِنَ النَّفْيِ إِثْبَاتٌ وَمِنَ الْإِثْبَاتِ نَفْيٌ، فَإِذَا
قَالَ رَجُلٌ: لَهُ عَلَيَّ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ إِلَّا
أَرْبَعَةً إِلَّا دِرْهَمًا، ثَبَتَ الْإِقْرَارُ بِسَبْعَةٍ،
لِأَنَّ الدِّرْهَمَ مُسْتَثْنًى مِنَ الْأَرْبَعَةِ، وَهُوَ
مُثْبَتٌ لِأَنَّهُ مُسْتَثْنًى مِنْ مَنْفِيٍّ، وَكَانَتِ
الْأَرْبَعَةُ مَنْفِيَّةً لِأَنَّهَا مُسْتَثْنَاةٌ مِنْ
مُوجَبٍ وَهُوَ الْعَشَرَةُ، فَعَادَ الدِّرْهَمُ إِلَى
السِّتَّةِ فَصَارَتْ سَبْعَةً. وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ:
عَلَيَّ خَمْسَةُ دَرَاهِمَ إِلَّا دِرْهَمًا إِلَّا
ثُلُثَيْهِ، كَانَ عَلَيْهِ أَرْبَعَةُ دَرَاهِمَ وَثُلُثٌ.
وَكَذَلِكَ إِذَا قَالَ: لِفُلَانٍ عَلَيَّ عَشَرَةٌ إِلَّا
تِسْعَةً إِلَّا ثَمَانِيَةً إِلَّا سَبْعَةً، كَانَ
الِاسْتِثْنَاءُ الثَّانِي رَاجِعًا إِلَى مَا قَبْلَهُ،
وَالثَّالِثُ إِلَى الثَّانِي فَيَكُونُ عَلَيْهِ دِرْهَمَانِ،
لِأَنَّ الْعَشَرَةَ إِثْبَاتٌ وَالثَّمَانِيَةُ إِثْبَاتٌ
فَيَكُونُ مَجْمُوعُهَا ثَمَانِيَةُ عَشَرَ. وَالتِّسْعَةُ
نَفْيٌ وَالسَّبْعَةُ نَفْيٌ فَيَكُونُ سِتَّةَ عَشَرَ
تَسْقُطُ مِنْ ثَمَانِيَةِ عَشَرَ وَيَبْقَى دِرْهَمَانِ،
وَهُوَ الْقَدْرُ الْوَاجِبُ بِالْإِقْرَارِ لَا غَيْرَ.
فَقَوْلُهُ سُبْحَانَهُ:" إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ
مُجْرِمِينَ. إِلَّا آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ
أَجْمَعِينَ. إِلَّا امْرَأَتَهُ" فَاسْتَثْنَى آلَ لُوطٍ مِنَ
الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ، ثُمَّ قَالَ:" إِلَّا امْرَأَتَهُ"
فَاسْتَثْنَاهَا مِنْ آلِ لُوطٍ، فَرَجَعَتْ فِي التَّأْوِيلِ
إِلَى الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ كَمَا بَيَّنَّا. وَهَكَذَا
الْحُكْمُ فِي الطَّلَاقِ، لَوْ قَالَ لِزَوْجَتِهِ: أَنْتِ
طَالِقٌ ثَلَاثًا إِلَّا اثْنَتَيْنِ إِلَّا وَاحِدَةً
طَلُقَتِ اثْنَتَيْنِ، لِأَنَّ الْوَاحِدَةَ رَجَعَتْ إِلَى
الْبَاقِي مِنَ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ وَهِيَ الثَّلَاثُ.
وَكَذَا كُلُّ ما جاء من هذا فتفهمه.
__________
(1). راجع ج 7 ص 243.
(2). راجع ج 9 ص 62.
(3). القائل هو الحارث بن حلزة. والمسع: ضرب ضرع الناقة بالماء
البارد ليجف لبنها ويتراد في ظهرها فيكون أقوى لها على الجدب
في العام القابل. والشول: جمع شائلة وهى من الإبل التي أتى
عليها من حملها أو وضغها شبعة أشهر فخف لبنها. والأغبار: جمع
الغبر، وهى بقية اللبن في الضرع.
(4). راجع ج 13 ص 219.
(10/37)
فَلَمَّا جَاءَ آلَ
لُوطٍ الْمُرْسَلُونَ (61) قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ
(62) قَالُوا بَلْ جِئْنَاكَ بِمَا كَانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ
(63) وَأَتَيْنَاكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (64)
فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَاتَّبِعْ
أَدْبَارَهُمْ وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ وَامْضُوا
حَيْثُ تُؤْمَرُونَ (65) وَقَضَيْنَا إِلَيْهِ ذَلِكَ
الْأَمْرَ أَنَّ دَابِرَ هَؤُلَاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ (66)
وَجَاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ (67) قَالَ إِنَّ
هَؤُلَاءِ ضَيْفِي فَلَا تَفْضَحُونِ (68) وَاتَّقُوا اللَّهَ
وَلَا تُخْزُونِ (69) قَالُوا أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ
الْعَالَمِينَ (70) قَالَ هَؤُلَاءِ بَنَاتِي إِنْ كُنْتُمْ
فَاعِلِينَ (71)
[سورة الحجر (15): الآيات 61 الى 65]
فَلَمَّا جاءَ آلَ لُوطٍ الْمُرْسَلُونَ (61) قالَ إِنَّكُمْ
قَوْمٌ مُنْكَرُونَ (62) قالُوا بَلْ جِئْناكَ بِما كانُوا
فِيهِ يَمْتَرُونَ (63) وَأَتَيْناكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّا
لَصادِقُونَ (64) فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ
وَاتَّبِعْ أَدْبارَهُمْ وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ
وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ (65)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (فَلَمَّا جاءَ آلَ لُوطٍ الْمُرْسَلُونَ.
قالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ) أَيْ لَا أَعْرِفُكُمْ.
وَقِيلَ: كَانُوا شَبَابًا وَرَأَى جَمَالًا فَخَافَ
عَلَيْهِمْ مِنْ فِتْنَةِ قَوْمِهِ، فَهَذَا هُوَ
الْإِنْكَارُ. (قالُوا بَلْ جِئْناكَ بِما كانُوا فِيهِ
يَمْتَرُونَ) أَيْ يَشُكُّونَ أَنَّهُ نَازِلٌ بِهِمْ، وَهُوَ
الْعَذَابُ. (وَأَتَيْناكَ بِالْحَقِّ) أَيْ بِالصِّدْقِ.
وَقِيلَ: بِالْعَذَابِ. (وَإِنَّا لَصادِقُونَ) أَيْ فِي
هَلَاكِهِمْ. (فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ) "
تقدم في هود «1». (وَاتَّبِعْ أَدْبارَهُمْ) أَيْ كُنْ مِنْ
وَرَائِهِمْ لِئَلَّا يَتَخَلَّفَ مِنْهُمْ أَحَدٌ فَيَنَالَهُ
الْعَذَابُ. (وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ) نُهُوا عَنْ
الِالْتِفَاتِ لِيَجِدُّوا فِي السَّيْرِ وَيَتَبَاعَدُوا عَنِ
الْقَرْيَةِ قَبْلَ أَنْ يُفَاجِئَهُمُ الصُّبْحُ. وَقِيلَ:
الْمَعْنَى لَا يَتَخَلَّفُ. (وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ)
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يَعْنِي الشَّامَ. مُقَاتِلٌ: يَعْنِي
صَفَدَ، قَرْيَةً مِنْ قُرَى لُوطٍ. وَقَدْ تَقَدَّمَ.
وَقِيلَ: إِنَّهُ مَضَى إِلَى أَرْضِ الْخَلِيلِ بِمَكَانٍ
يُقَالُ لَهُ الْيَقِينُ، وَإِنَّمَا سُمِّيَ الْيَقِينُ
لِأَنَّ إِبْرَاهِيمَ لَمَّا خَرَجَتِ الرُّسُلُ شَيَّعَهُمْ،
فَقَالَ لِجِبْرِيلَ: مِنْ أَيْنَ يُخْسَفُ بِهِمْ؟ قَالَ:"
مِنْ هَاهُنَا" وَحَدَّ لَهُ حَدًّا، وَذَهَبَ جِبْرِيلُ،
فَلَمَّا جَاءَ لُوطٌ. جَلَسَ عِنْدَ إِبْرَاهِيمَ
وَارْتَقَبَا ذَلِكَ الْعَذَابَ، فَلَمَّا اهْتَزَّتِ
الْأَرْضُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ:" أَيْقَنْتُ بالله" فسمى
اليقين.
[سورة الحجر (15): الآيات 66 الى 71]
وَقَضَيْنا إِلَيْهِ ذلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دابِرَ هؤُلاءِ
مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ (66) وَجاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ
يَسْتَبْشِرُونَ (67) قالَ إِنَّ هؤُلاءِ ضَيْفِي فَلا
تَفْضَحُونِ (68) وَاتَّقُوا اللَّهَ وَلا تُخْزُونِ (69)
قالُوا أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعالَمِينَ (70)
قالَ هؤُلاءِ بَناتِي إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ (71)
__________
(1). راجع ج 9 ص 79. [ ..... ]
(10/38)
لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ
لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ (72)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَقَضَيْنا إِلَيْهِ)
أَيْ أَوْحَيْنَا إِلَى لُوطٍ. (ذلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دابِرَ
هؤُلاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ) نَظِيرُهُ" فَقُطِعَ دابِرُ
الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا «1» "." مُصْبِحِينَ" أَيْ
عِنْدَ طُلُوعِ الصُّبْحِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ «2». (وَجاءَ
أَهْلُ الْمَدِينَةِ) أَيْ أَهْلُ مَدِينَةِ لُوطٍ
(يَسْتَبْشِرُونَ) مُسْتَبْشِرِينَ بِالْأَضْيَافِ طَمَعًا
مِنْهُمْ فِي رُكُوبِ الفاحشة. (إِنَّ هؤُلاءِ ضَيْفِي) أَيْ
أَضْيَافِي. (فَلا تَفْضَحُونِ) أَيْ تُخْجِلُونِ. (وَاتَّقُوا
اللَّهَ وَلا تُخْزُونِ) يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنَ الْخِزْيِ
وَهُوَ الذُّلُّ وَالْهَوَانُ، ويجوز أن يكون من الخزاية وهو
الحياء وَالْخَجَلُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي هُودٍ «3». (قالُوا
أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعالَمِينَ) أَيْ عَنْ أَنْ تُضِيفَ
أَحَدًا لِأَنَّا نُرِيدُ مِنْهُمُ الْفَاحِشَةَ. وَكَانُوا
يَقْصِدُونَ بِفِعْلِهِمُ الْغُرَبَاءُ، عَنِ الْحَسَنِ.
وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الأعراف «4». وقيل: أو لم نَنْهَكَ عَنْ
أَنْ تُكَلِّمَنَا فِي أَحَدٍ مِنَ النَّاسِ إِذَا قَصَدْنَاهُ
بِالْفَاحِشَةِ. (قالَ هؤُلاءِ بَناتِي إِنْ كُنْتُمْ
فاعِلِينَ) أَيْ فَتَزَوَّجُوهُنَّ وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى
الْحَرَامِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ هَذَا فِي هود «5».
[سورة الحجر (15): آية 72]
لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ (72)
فِيهِ ثَلَاثُ مَسَائِلَ: الْأُولَى- قَالَ الْقَاضِي أَبُو
بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيُّ: قَالَ الْمُفَسِّرُونَ
بِأَجْمَعِهِمْ أَقْسَمَ اللَّهُ تَعَالَى ها هنا بِحَيَاةِ
مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَشْرِيفًا لَهُ،
أَنَّ قَوْمَهُ مِنْ قُرَيْشٍ فِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ
وَفِي حَيْرَتِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ. قُلْتُ: وَهَكَذَا قَالَ
الْقَاضِي عِيَاضٌ: أَجْمَعَ أَهْلُ التَّفْسِيرِ فِي هَذَا
أَنَّهُ قَسَمٌ مِنَ اللَّهِ جَلَّ جَلَالُهُ بِمُدَّةِ
حَيَاةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَأَصْلُهُ ضَمُّ الْعَيْنِ مِنَ الْعَمْرُ وَلَكِنَّهَا
فُتِحَتْ لِكَثْرَةِ الِاسْتِعْمَالِ. وَمَعْنَاهُ وَبَقَائِكَ
يَا مُحَمَّدُ. وَقِيلَ: وَحَيَاتِكَ. وَهَذَا نِهَايَةُ
التَّعْظِيمِ وَغَايَةُ الْبِرِّ وَالتَّشْرِيفِ. قَالَ أَبُو
الْجَوْزَاءِ: مَا أَقْسَمَ اللَّهُ بِحَيَاةِ أَحَدٍ غَيْرِ
مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لِأَنَّهُ
أَكْرَمُ الْبَرِيَّةِ عِنْدَهُ. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ:"
مَا الَّذِي يَمْنَعُ أَنْ يُقْسِمَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ
وَتَعَالَى بحياة لوط ويبلغ به من التشريف
__________
(1). راجع ج 6 ص 427.
(2). راجع ج 9 ص 41 وص 77 فما بعد.
(3). راجع ج 9 ص 41 وص 77 فما بعد.
(4). راجع ج 7 ص 245
(5). راجع ج 9 ص 41 وص 77 فما بعد.
(10/39)
مَا شَاءَ، وَكُلُّ مَا يُعْطِيهِ اللَّهُ
تَعَالَى لِلُوطٍ مِنْ فَضْلٍ يُؤْتِي ضِعْفَيْهِ مِنْ شَرَفٍ
لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لِأَنَّهُ
أَكْرَمُ على الله منه، أو لا تَرَى أَنَّهُ سُبْحَانَهُ
أَعْطَى إِبْرَاهِيمَ الْخُلَّةَ وَمُوسَى التَّكْلِيمَ
وَأَعْطَى ذَلِكَ لِمُحَمَّدٍ، فَإِذَا أَقْسَمَ بِحَيَاةِ
لُوطٍ فَحَيَاةُ مُحَمَّدٍ أَرْفَعُ. وَلَا يُخْرَجُ مِنْ
كَلَامٍ إِلَى كَلَامٍ لَمْ يَجْرِ لَهُ ذِكْرٌ لِغَيْرِ
ضَرُورَةٍ". قُلْتُ: مَا قَالَهُ حَسَنٌ، فَإِنَّهُ كَانَ
يَكُونُ قَسَمُهُ سُبْحَانَهُ بِحَيَاةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَلَامًا مُعْتَرِضًا فِي قِصَّةِ
لُوطٍ. قَالَ الْقُشَيْرِيُّ أَبُو نَصْرٍ عَبْدُ الرَّحِيمِ
بْنُ عَبْدِ الْكَرِيمِ فِي تَفْسِيرِهِ: وَيَحْتَمِلُ أَنْ
يُقَالَ: يَرْجِعُ ذَلِكَ إِلَى قَوْمِ لُوطٍ، أَيْ كَانُوا
فِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ. وَقِيلَ: لَمَّا وَعَظَ لُوطٌ
قَوْمَهُ وَقَالَ هَؤُلَاءِ بَنَاتِي قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ:
يَا لُوطُ،" لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ
يَعْمَهُونَ" وَلَا يَدْرُونَ مَا يَحِلُّ بِهِمْ صَبَاحًا.
فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ أَقْسَمَ تَعَالَى بِالتِّينِ
وَالزَّيْتُونِ وَطُورِ سِينِينَ، فَمَا فِي هَذَا؟ قِيلَ
لَهُ: مَا من شي أَقْسَمَ اللَّهُ بِهِ إِلَّا وَذَلِكَ
دَلَالَةٌ عَلَى فَضْلِهِ عَلَى مَا يَدْخُلُ فِي عِدَادِهِ،
فَكَذَلِكَ نَبِيُّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
يَجِبُ أَنْ يَكُونَ أَفْضَلَ مِمَّنْ هُوَ فِي عِدَادِهِ.
وَالْعُمْرُ وَالْعَمْرُ (بِضَمِّ الْعَيْنِ وَفَتْحِهَا)
لُغَتَانِ وَمَعْنَاهُمَا وَاحِدٌ، إِلَّا أَنَّهُ لَا
يُسْتَعْمَلُ فِي الْقَسَمِ إِلَّا بِالْفَتْحِ لِكَثْرَةِ
الِاسْتِعْمَالِ. وَتَقُولُ: عَمَّرَكَ اللَّهُ، أَيْ أسأل
الله تعميرك. و" لَعَمْرُكَ" رُفِعَ بِالِابْتِدَاءِ
وَخَبَرُهُ مَحْذُوفُ. الْمَعْنَى لَعَمْرُكَ مِمَّا أُقْسِمُ
بِهِ. الثَّانِيَةُ- كَرِهَ كَثِيرٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ أَنْ
يَقُولَ الْإِنْسَانُ لَعَمْرِي، لِأَنَّ مَعْنَاهُ
وَحَيَاتِي. قَالَ إِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ: يُكْرَهُ
لِلرَّجُلِ أَنْ يَقُولَ لَعَمْرِي، لِأَنَّهُ حَلِفٌ
بِحَيَاةِ نَفْسِهِ، وَذَلِكَ مِنْ كَلَامِ ضَعْفَةِ
الرِّجَالِ. وَنَحْوَ هَذَا قَالَ مَالِكٌ: إِنَّ
الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالْمُؤَنَّثِينَ
يُقْسِمُونَ بِحَيَاتِكَ وَعَيْشِكَ، وَلَيْسَ مِنْ كَلَامِ
أَهْلِ الذُّكْرَانِ، وَإِنْ كَانَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ
أَقْسَمَ بِهِ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ، فَذَلِكَ بَيَانٌ
لِشَرَفِ الْمَنْزِلَةِ وَالرِّفْعَةِ لِمَكَانِهِ، فَلَا
يُحْمَلُ عَلَيْهِ سِوَاهُ وَلَا يُسْتَعْمَلُ فِي غَيْرِهِ.
وَقَالَ ابْنُ حَبِيبٍ: يَنْبَغِي أَنْ يُصْرَفَ" لَعَمْرُكَ"
فِي الْكَلَامِ لِهَذِهِ الْآيَةِ. وَقَالَ قَتَادَةُ: هُوَ
مِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَبِهِ
أَقُولُ، لَكِنَّ الشَّرْعَ قَدْ قَطَعَهُ فِي الِاسْتِعْمَالِ
وَرَدَّ الْقَسَمَ إِلَيْهِ. قُلْتُ. الْقَسَمُ بِ" لَعَمْرُكَ
وَلَعَمْرِي" وَنَحْوِهُ فِي أَشْعَارِ الْعَرَبِ وَفَصِيحِ
كلامها كثير.
(10/40)
قَالَ النَّابِغَةُ:
لَعَمْرِي وَمَا عَمْرِي عَلَيَّ بِهَيِّنٍ ... لَقَدْ
نَطَقَتْ بُطْلًا عَلَيَّ الْأَقَارِعُ «1»
آخَرُ:
لَعَمْرُكَ إِنَّ الْمَوْتَ مَا أَخْطَأَ الْفَتَى ...
لَكَالطِّوَلِ الْمُرْخَى وَثِنْيَاهُ بِالْيَدِ «2»
آخَرُ:
أَيُّهَا الْمُنْكِحُ الثُّرَيَّا سُهَيْلًا ... عَمْرَكَ
اللَّهَ كَيْفَ يَلْتَقِيَانِ
آخَرُ:
إِذَا رَضِيَتْ عَلَيَّ بَنُو قُشَيْرٍ ... لَعَمْرُ اللَّهِ
أَعْجَبَنِي رِضَاهَا
وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْمَعَانِي: لَا يَجُوزُ هَذَا،
لِأَنَّهُ لَا يُقَالُ لِلَّهِ عَمْرٌ، وَإِنَّمَا هُوَ
تَعَالَى أَزَلِيٌّ. ذَكَرَهُ الزَّهْرَاوِيُّ. الثَّالِثَةُ-
قَدْ مَضَى الْكَلَامُ فِيمَا يُحْلَفُ بِهِ وَمَا لَا يَجُوزُ
الْحَلِفُ بِهِ فِي" الْمَائِدَةِ «3» "، وَذَكَرْنَا هُنَاكَ
قَوْلَ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ فِيمَنْ أَقْسَمَ بِالنَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَزِمَتْهُ الْكَفَّارَةُ.
قَالَ ابْنُ خُوَيْزِ مَنْدَادَ: مَنْ جَوَّزَ الْحَلِفَ
بِغَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى مِمَّا يَجُوزُ تَعْظِيمُهُ بِحَقٍّ
مِنَ الْحُقُوقِ فَلَيْسَ يَقُولُ إِنَّهَا يَمِينٌ
تَتَعَلَّقُ بِهَا كَفَّارَةٌ، إِلَّا أَنَّهُ مَنْ قَصَدَ
الْكَذِبَ كَانَ مَلُومًا، لِأَنَّهُ فِي الْبَاطِنِ
مُسْتَخِفٌّ بِمَا وَجَبَ عَلَيْهِ تَعْظِيمُهُ. قَالُوا:
وَقَوْلُهُ تَعَالَى" لَعَمْرُكَ" أَيْ وَحَيَاتِكَ. وَإِذَا
أَقْسَمَ اللَّهُ تَعَالَى بِحَيَاةِ نَبِيِّهِ فَإِنَّمَا
أَرَادَ بَيَانَ التَّصْرِيحِ لَنَا أَنَّهُ يَجُوزُ لَنَا
أَنْ نَحْلِفَ بِحَيَاتِهِ. وَعَلَى مَذْهَبِ مَالِكٍ مَعْنَى
قوله:" لَعَمْرُكَ" و" التِّينِ وَالزَّيْتُونِ «4» ""
وَالطُّورِ. وَكِتابٍ مَسْطُورٍ «5» "" وَالنَّجْمِ إِذا هَوى
"" وَالشَّمْسِ وَضُحاها «6» "" لَا أُقْسِمُ بِهذَا
الْبَلَدِ. وَأَنْتَ حِلٌّ بِهذَا الْبَلَدِ. وَوالِدٍ وَما
وَلَدَ" «7». كُلُّ هَذَا مَعْنَاهُ: وَخَالِقِ التِّينِ
وَالزَّيْتُونِ، وَبِرَبِّ الْكِتَابِ الْمَسْطُورِ، وَبِرَبِّ
الْبَلَدِ الَّذِي حَلَلْتَ بِهِ، وَخَالِقِ عَيْشِكَ
وَحَيَاتِكَ، وَحَقِّ مُحَمَّدٍ، فَالْيَمِينُ وَالْقَسَمُ
حَاصِلٌ بِهِ سُبْحَانَهُ لَا بِالْمَخْلُوقِ. قَالَ ابْنُ
خُوَيْزِ مَنْدَادَ: وَمَنْ جَوَّزَ الْيَمِينَ بِغَيْرِ
اللَّهِ تَعَالَى تَأَوَّلَ قَوْلَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ:" لَا تحلفوا
__________
(1). أراد بالاقارع بنى عوف، وكانوا قد وشوا به إلى النعمان.
(2). البيت لطرفة بن العبد. والطول: الحبل. وثنياه: ما ثنى
منه.
(3). راجع ج 7 ص 269 وما بعدها.
(4). راجع ج 20 ص 110 وص 72 وص 59.
(5). راجع ج 17 ص 58 وص 81.
(6). راجع ج 20 ص 110 وص 72 وص 59.
(7). راجع ج 20 ص 110 وص 72 وص 59.
(10/41)
فَأَخَذَتْهُمُ
الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ (73)
بِآبَائِكُمْ" وَقَالَ: إِنَّمَا نَهَى
عَنِ الْحَلِفِ بِالْآبَاءِ الْكُفَّارِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ
قَالَ لَمَّا حَلَفُوا بِآبَائِهِمْ::" لَلْجَبَلُ عِنْدَ
اللَّهِ أَكْرَمُ مِنْ آبَائِكُمُ الَّذِينَ مَاتُوا فِي
الْجَاهِلِيَّةِ". وَمَالِكٌ حَمَلَ الْحَدِيثَ عَلَى
ظَاهِرِهِ. قَالَ ابْنُ خُوَيْزِ مَنْدَادَ: وَاسْتَدَلَّ
أَيْضًا مَنْ جَوَّزَ ذَلِكَ بِأَنَّ أَيْمَانَ الْمُسْلِمِينَ
جَرَتْ مُنْذُ عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ إِلَى يَوْمِنَا هَذَا أَنْ يَحْلِفُوا بِالنَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حَتَّى أَنَّ أَهْلَ
الْمَدِينَةِ إِلَى يَوْمِنَا هَذَا إِذَا حَاكَمَ أَحَدُهُمْ
صَاحِبَهُ قَالَ: احْلِفْ لِي بِحَقِّ مَا حَوَاهُ هَذَا
الْقَبْرُ، وَبِحَقِّ سَاكِنِ هَذَا الْقَبْرِ، يَعْنِي
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَذَلِكَ
بِالْحَرَمِ وَالْمَشَاعِرِ الْعِظَامِ، وَالرُّكْنِ
وَالْمَقَامِ وَالْمِحْرَابِ وَمَا يُتْلَى فيه «1».
[سورة الحجر (15): الآيات 73 الى 74]
فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ (73) فَجَعَلْنا
عالِيَها سافِلَها وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ
سِجِّيلٍ (74)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ)
نُصِبَ عَلَى الْحَالِ، أَيْ وَقْتَ شُرُوقِ الشَّمْسِ.
يُقَالُ: أَشْرَقَتِ الشَّمْسُ أَيْ أَضَاءَتْ، وَشَرَقَتْ
إِذَا طَلَعَتْ. وَقِيلَ: هُمَا لُغَتَانِ بِمَعْنًى.
وَأَشْرَقَ الْقَوْمُ أَيْ دَخَلُوا فِي وَقْتِ شُرُوقِ
الشَّمْسِ. مِثْلَ أَصْبَحُوا وَأَمْسَوْا، وَهُوَ الْمُرَادُ
فِي الْآيَةِ. وَقِيلَ: أَرَادَ شُرُوقَ الْفَجْرِ. وَقِيلَ:
أَوَّلُ الْعَذَابِ كَانَ عِنْدَ الصُّبْحِ وَامْتَدَّ إِلَى
شُرُوقِ الشَّمْسِ، فَكَانَ تَمَامُ الْهَلَاكِ عِنْدَ ذَلِكَ.
وَاللَّهُ أعلم. و" الصَّيْحَةُ" العذاب. وتقدم ذكر" سجيل «2»
"
[سورة الحجر (15): آية 75]
إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ (75)
فِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى:
(لِلْمُتَوَسِّمِينَ) رَوَى التِّرْمِذِيُّ الْحَكِيمُ فِي
(نَوَادِرِ الْأُصُولِ) مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ
الْخُدْرِيِّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ:" لِلْمُتَفَرِّسِينَ" وَهُوَ قَوْلُ
مُجَاهِدٍ. وَرَوَى أَبُو عِيسَى التِّرْمِذِيُّ عَنْ أَبِي
سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله
__________
(1). تأمل هذا مع قوله عليه الصلاة والسلام" مَنْ كَانَ
حَالِفًا فَلْيَحْلِفْ بِاللَّهِ أَوْ لِيَصْمُتْ".
(2). راجع ج 9 ص 81. [ ..... ]
(10/42)
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" اتَّقُوا فِرَاسَةَ
الْمُؤْمِنِ فَإِنَّهُ يَنْظُرُ بِنُورِ اللَّهِ- ثُمَّ
قَرَأَ-" إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ". قَالَ:
هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ وَابْنُ زَيْدٍ:
لِلْمُتَوَسِّمِينَ لِلْمُتَفَكِّرِينَ. الضَّحَّاكُ:
لِلنَّظَّارِينَ. قَالَ الشَّاعِرُ «1»:
أَوَكُلَّمَا وَرَدَتْ عُكَاظَ قَبِيلَةٌ ... بَعَثُوا إلى
عريفهم يتوسموا
وَقَالَ قَتَادَةُ: لِلْمُعْتَبِرِينَ، قَالَ زُهَيْرٌ:
وَفِيهِنَّ مَلْهًى لِلصَدِيقِ وَمَنْظَرٌ ... أَنِيقٌ
لِعَيْنِ النَّاظِرِ الْمُتَوَسِّمِ
وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: لِلْمُتَبَصِّرِينَ، وَالْمَعْنَى
مُتَقَارِبٌ. وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ الحكيم من حديث ثابت عن
أنس ابن مَالِكٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" إِنَّ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ عِبَادًا
يَعْرِفُونَ النَّاسَ بِالتَّوَسُّمِ". قَالَ الْعُلَمَاءُ:
التَّوَسُّمُ تَفَعُّلٌ مِنَ الْوَسْمِ، وَهِيَ الْعَلَامَةُ
الَّتِي يُسْتَدَلُّ بِهَا عَلَى مَطْلُوبٍ غَيْرِهَا.
يُقَالُ: تَوَسَّمْتُ فِيهِ الْخَيْرَ إِذَا رَأَيْتُ مِيسَمَ
ذَلِكَ فِيهِ، وَمِنْهُ قَوْلُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ
لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
إِنِّي تَوَسَّمْتُ فِيكَ الْخَيْرَ أَعْرِفُهُ ... والله
يَعْلَمُ أَنِّي ثَابِتُ الْبَصَرِ
آخَرُ:
تَوَسَّمْتُهُ لَمَّا رَأَيْتُ مَهَابَةً ... عَلَيْهِ
وَقُلْتُ الْمَرْءُ مِنْ آلِ هَاشِمِ
وَاتَّسَمَ الرَّجُلُ إِذَا جَعَلَ لِنَفْسَةِ عَلَامَةً يعرف
بها. وتوسم الرجل طلب كلا الوسمي. وَأَنْشَدَ:
وَأَصْبَحْنَ كَالدَّوْمِ النَّوَاعِمِ غُدْوَةً ... عَلَى
وِجْهَةٍ مِنْ ظَاعِنٍ مُتَوَسِّمِ
وَقَالَ ثَعْلَبُ: الْوَاسِمُ النَّاظِرُ إِلَيْكَ مِنْ
فَرْقِكَ إِلَى قَدَمِكَ. وَأَصْلُ التَّوَسُّمِ التَّثَبُّتِ
وَالتَّفَكُّرِ، مَأْخُوذٌ مِنَ الْوَسْمِ وَهُوَ التَّأْثِيرُ
بحديدة في جلد البعير وغيره، وذاك يَكُونُ بِجَوْدَةِ
الْقَرِيحَةِ وَحِدَّةِ الْخَاطِرِ وَصَفَاءِ الْفِكْرِ. زَادَ
غَيْرُهُ: وَتَفْرِيغُ الْقَلْبِ مِنْ حَشْوِ الدُّنْيَا،
وَتَطْهِيرُهُ مِنْ أَدْنَاسِ الْمَعَاصِي وَكُدُورَةِ
الْأَخْلَاقِ وَفُضُولِ الدُّنْيَا. رَوَى نَهْشَلٌ عَنِ ابْنِ
عَبَّاسٍ" لِلْمُتَوَسِّمِينَ" قَالَ: لِأَهْلِ الصَّلَاحِ
وَالْخَيْرِ. وَزَعَمَتِ الصُّوفِيَّةُ أَنَّهَا كرامة. وقيل:
بل هي استدلال بالعلامات،
__________
(1). هو طريف بن تمم العنبري (عن شواهد سيبويه)
(10/43)
وَمِنَ الْعَلَامَاتِ مَا يَبْدُو ظَاهِرًا
لِكُلِّ أَحَدٍ وَبِأَوَّلِ نَظْرَةٍ، وَمِنْهَا مَا يَخْفَى
فَلَا يَبْدُو لِكُلِّ أَحَدٍ وَلَا يُدْرَكُ بِبَادِئِ
النَّظَرِ. قَالَ الْحَسَنُ: الْمُتَوَسِّمُونَ هُمُ الَّذِينَ
يَتَوَسَّمُونَ الْأُمُورَ فَيَعْلَمُونَ أَنَّ الَّذِي
أَهْلَكَ قَوْمَ لُوطٍ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُهْلِكَ
الْكُفَّارَ، فَهَذَا مِنَ الدَّلَائِلِ الظَّاهِرَةِ.
وَمِثْلُهُ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ: مَا سَأَلَنِي أَحَدٌ عن شي
إِلَّا عَرَفْتُ أَفَقِيهٌ هُوَ أَوْ غَيْرُ فَقِيهٍ. وَرُوِيَ
عَنِ الشَّافِعِيِّ وَمُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ أَنَّهُمَا
كَانَا بِفِنَاءِ الْكَعْبَةِ وَرَجُلٌ عَلَى بَابِ
الْمَسْجِدِ فَقَالَ أَحَدُهُمَا: أَرَاهُ نَجَّارًا «1»،
وَقَالَ الْآخَرُ: بَلْ حدادا، فتبادر من حضر إلى الرجل فسأله
فَقَالَ: كُنْتُ نَجَّارًا «2» وَأَنَا الْيَوْمَ حَدَّادٌ.
وَرُوِيَ عَنْ جُنْدُبِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْبَجَلِيِّ
أَنَّهُ أَتَى عَلَى رَجُلٍ يَقْرَأُ الْقُرْآنَ فَوَقَفَ
فَقَالَ: مَنْ سَمَّعَ سَمَّعَ اللَّهُ بِهِ، وَمَنْ رَاءَى
رَاءَى اللَّهُ بِهِ. فَقُلْنَا لَهُ: كَأَنَّكَ عَرَّضْتَ
بِهَذَا الرَّجُلِ، فَقَالَ: إِنَّ هَذَا يَقْرَأُ عَلَيْكَ
الْقُرْآنَ الْيَوْمَ وَيَخْرُجُ غَدًا حَرُورِيًّا، فَكَانَ
رَأْسُ الْحَرُورِيَّةِ، وَاسْمُهُ مِرْدَاسٌ. وَرُوِيَ عَنِ
الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ أَنَّهُ دَخَلَ عَلَيْهِ عَمْرُو بْنُ
عُبَيْدٍ فَقَالَ: هَذَا سَيِّدُ فِتْيَانِ الْبَصْرَةِ إِنْ
لَمْ يُحْدِثْ، فَكَانَ مِنْ أَمْرِهِ مِنَ الْقَدَرِ مَا
كَانَ، حَتَّى هَجَرَهُ عَامَّةُ إِخْوَانِهِ. وَقَالَ
لِأَيُّوبَ: هَذَا سَيِّدُ فِتْيَانِ أَهْلِ الْبَصْرَةِ،
وَلَمْ يَسْتَثْنِ. وَرُوِيَ عَنِ الشَّعْبِيِّ أَنَّهُ قَالَ
لِدَاوُدَ الْأَزْدِيِّ وَهُوَ يُمَارِيهِ: إِنَّكَ لَا
تَمُوتُ حَتَّى تُكْوَى فِي رَأْسِكَ، وَكَانَ كَذَلِكَ.
وَرُوِيَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
دَخَلَ عَلَيْهِ قَوْمٌ مِنْ مِذْحَجٍ فِيهِمُ الْأَشْتَرُ،
فَصَعَّدَ فِيهِ النَّظَرَ وَصَوَّبَهُ وَقَالَ: أَيُّهُمْ
هَذَا؟ قَالُوا: مَالِكُ بْنُ الْحَارِثِ. فَقَالَ: مَا لَهُ
قَاتَلَهُ اللَّهُ! إِنِّي لَأَرَى لِلْمُسْلِمِينَ مِنْهُ.
يَوْمًا عَصِيبًا، فَكَانَ مِنْهُ فِي الْفِتْنَةِ مَا كَانَ.
وَرُوِيَ عَنْ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ:
إِنَّ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ دَخَلَ عَلَيْهِ، وَكَانَ قَدْ
مَرَّ بِالسُّوقِ فَنَظَرَ إِلَى امْرَأَةٍ، فَلَمَّا نَظَرَ
إِلَيْهِ قَالَ عُثْمَانُ: يَدْخُلُ أَحَدُكُمْ عَلَيَّ وَفِي
عَيْنَيْهِ أثر الزنى فقال له أنس: أو حيا بَعْدَ رَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فَقَالَ لَا
وَلَكِنْ بُرْهَانٌ وَفِرَاسَةٌ وَصِدْقٌ (. وَمِثْلُهُ
كَثِيرٌ عَنِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُمْ أجمعين. الثَّانِيَةُ- قَالَ (الْقَاضِي «3» أَبُو
بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيِّ:" إِذَا ثَبَتَ أَنَّ التَّوَسُّمَ
وَالتَّفَرُّسَ مِنْ مَدَارِكِ الْمَعَانِي فَإِنَّ ذَلِكَ لَا
يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ حُكْمٌ وَلَا يُؤْخَذُ بِهِ مَوْسُومٌ
وَلَا مُتَفَرَّسٌ. وَقَدْ كَانَ قَاضِي الْقُضَاةِ
الشَّامِيُّ الْمَالِكِيُّ بِبَغْدَادَ أَيَّامَ كَوْنِي
بِالشَّامِ يَحْكُمُ بِالْفِرَاسَةِ فِي الْأَحْكَامِ، جَرْيًا
على طريق إياس
__________
(1). في ى: تاجرا.
(2). في ى: تاجرا.
(3). من ى.
(10/44)
وَإِنَّهَا
لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ (76)
ابن مُعَاوِيَةَ أَيَّامَ كَانَ قَاضِيًا،
وَكَانَ شَيْخُنَا فَخْرُ الْإِسْلَامِ أَبُو بَكْرٍ
الشَّاشِيُّ صَنَّفَ جُزْءًا فِي الرَّدِّ عَلَيْهِ، كَتَبَهُ
لِي بِخَطِّهِ وَأَعْطَانِيهِ، وَذَلِكَ صَحِيحٌ، فَإِنَّ
مَدَاركَ الْأَحْكَامِ مَعْلُومَةٌ شَرْعًا مُدْرَكَةٌ قطعا
وليست الفراسة منها.
[سورة الحجر (15): الآيات 76 الى 79]
وَإِنَّها لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ (76) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً
لِلْمُؤْمِنِينَ (77) وَإِنْ كانَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ
لَظالِمِينَ (78) فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ وَإِنَّهُما
لَبِإِمامٍ مُبِينٍ (79)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَإِنَّها) يَعْنِي قُرَى قَوْمِ لُوطٍ.
(لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ) أَيْ عَلَى طَرِيقِ قَوْمِكَ يَا
مُحَمَّدُ إِلَى الشَّامِ. (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً
لِلْمُؤْمِنِينَ) أَيْ لَعِبْرَةٌ لِلْمُصَدِّقِينَ. (وَإِنْ
كانَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ لَظالِمِينَ) يُرِيدُ قَوْمَ
شُعَيْبٍ، كَانُوا أَصْحَابَ غِيَاضٍ وَرِيَاضٍ وَشَجَرٍ
مُثْمِرٍ. وَالْأَيْكَةُ: الْغَيْضَةُ، وَهِيَ جَمَاعَةُ
الشَّجَرِ، وَالْجَمْعُ الْأَيْكُ. وَيُرْوَى أَنَّ شَجَرَهُمْ
كَانَ دَوْمًا وَهُوَ الْمُقْلُ. قَالَ النَّابِغَةُ:
تَجْلُو بِقَادِمَتَيْ حَمَامَةِ أَيْكَةٍ ... بَرَدًا أُسِفُّ
لِثَاتُهُ بِالْإِثْمِدِ
وَقِيلَ: الْأَيْكَةُ اسْمُ الْقَرْيَةِ. وَقِيلَ اسْمُ
الْبَلْدَةِ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: الْأَيْكَةُ
وَلَيْكَةُ مَدِينَتُهُمْ، بِمَنْزِلَةِ بَكَّةَ مِنْ مَكَّةَ.
وَتَقَدَّمَ خَبَرُ شُعَيْبٍ وَقَوْمِهِ «1». (وَإِنَّهُما
لَبِإِمامٍ مُبِينٍ) أَيْ بِطَرِيقٍ وَاضِحٍ فِي نَفْسِهِ،
يَعْنِي مَدِينَةَ قَوْمِ لُوطٍ وَبُقْعَةَ أَصْحَابِ
الْأَيْكَةِ يَعْتَبِرُ بِهِمَا من يمر عليهما.
[سورة الحجر (15): آية 80]
وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحابُ الْحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ (80)
الْحِجْرُ يَنْطَلِقُ عَلَى مَعَانٍ: مِنْهَا حِجْرُ
الْكَعْبَةِ. وَمِنْهَا الْحَرَامُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:"
وَحِجْراً مَحْجُوراً" «2» أَيْ حَرَامًا مُحَرَّمًا.
وَالْحِجْرُ الْعَقْلُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:" لِذِي حِجْرٍ
«3» " وَالْحِجْرُ حِجْرُ الْقَمِيصِ، وَالْفَتْحُ أَفْصَحُ.
وَالْحِجْرُ الْفَرَسُ الْأُنْثَى. وَالْحِجْرُ دِيَارُ
ثَمُودَ، وَهُوَ الْمُرَادُ هنا،
__________
(1). راجع ج 7 ص 247.
(2). راجع ج 13 ص 58.
(3). راجع ج 20 ص 42.
(10/45)
أي المدينة، قال الْأَزْهَرِيُّ.
قَتَادَةُ: وَهِيَ مَا بَيْنَ مَكَّةَ وَتَبُوكَ، وَهُوَ
الْوَادِي الَّذِي فِيهِ ثَمُودُ. الطَّبَرِيُّ: هِيَ أَرْضٌ
بَيْنَ الْحِجَازِ وَالشَّامِ، وَهُمْ قَوْمُ صَالِحٍ.
وَقَالَ:" الْمُرْسَلِينَ" وَهُوَ صَالِحٌ وَحْدَهُ، وَلَكِنْ
مَنْ كَذَّبَ نَبِيًّا فَقَدْ كَذَّبَ الْأَنْبِيَاءَ
كُلَّهُمْ، لِأَنَّهُمْ عَلَى دِينٍ وَاحِدٍ فِي الْأُصُولِ
فَلَا يَجُوزُ التَّفْرِيقُ بَيْنَهُمْ. وَقِيلَ: كَذَّبُوا
صَالِحًا وَمَنْ تَبِعَهُ وَمَنْ تَقَدَّمَهُ مِنَ
النَّبِيِّينَ أَيْضًا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ رَوَى
الْبُخَارِيِّ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا نَزَلَ الْحِجْرَ فِي
غَزْوَةِ تَبُوكَ أَمَرَهُمْ أَلَّا يَشْرَبُوا مِنْ بِئْرِهَا
وَلَا يَسْتَقُوا مِنْهَا. فَقَالُوا: قَدْ عُجْنَا
وَاسْتَقَيْنَا. فَأَمَرَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُهْرِيقُوا الْمَاءَ وَأَنْ
يَطْرَحُوا ذَلِكَ الْعَجِينَ. وَفِي الصَّحِيحِ عَنِ ابْنِ
عُمَرَ أَنَّ النَّاسَ نَزَلُوا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْحِجْرِ أَرْضِ ثَمُودَ،
فَاسْتَقَوْا مِنْ آبَارِهَا وَعَجَنُوا بِهِ الْعَجِينَ،
فَأَمَرَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أن يُهْرِيقُوا مَا اسْتَقَوْا وَيَعْلِفُوا
الْإِبِلَ الْعَجِينَ، وَأَمَرَهُمْ أَنْ يَسْتَقُوا مِنَ
الْبِئْرِ الَّتِي تَرِدُهَا النَّاقَةُ. وَرُوِيَ أَيْضًا
عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: مَرَرْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْحِجْرِ فَقَالَ
لَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَا
تَدْخُلُوا مَسَاكِنَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ إِلَّا
أَنْ تَكُونُوا بَاكِينَ حَذَرًا أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ مَا
أَصَابَهُمْ ثُمَّ زَجَرَ»
فَأَسْرَعَ. قُلْتُ: فَفِي هَذِهِ الْآيَةِ الَّتِي بَيَّنَ
الشَّارِعُ حُكْمَهَا وَأَوْضَحَ أَمْرَهَا ثَمَانِ مَسَائِلَ،
اسْتَنْبَطَهَا الْعُلَمَاءُ وَاخْتَلَفَ فِي بَعْضِهَا
الْفُقَهَاءُ، فَأَوَّلُهَا- كَرَاهَةُ دُخُولِ تِلْكَ
الْمَوَاضِعِ، وَعَلَيْهَا حَمَلَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ دُخُولَ
مَقَابِرِ الْكُفَّارِ، فَإِنْ دَخَلَ الْإِنْسَانُ شَيْئًا
مِنْ تِلْكَ الْمَوَاضِعِ وَالْمَقَابِرِ فَعَلَى الصِّفَةِ
الَّتِي أَرْشَدَ إِلَيْهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الِاعْتِبَارِ وَالْخَوْفِ
وَالْإِسْرَاعِ. وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" لَا تَدْخُلُوا أَرْضَ بَابِلَ
فَإِنَّهَا مَلْعُونَةٌ". مَسْأَلَةٌ: أَمَرَ النَّبِيُّ
بِهَرْقِ مَا اسْتَقَوْا مِنْ بِئْرِ ثَمُودَ وَإِلْقَاءِ مَا
عُجِنَ وَخُبِزَ بِهِ لِأَجْلِ أَنَّهُ مَاءُ سُخْطٍ، فَلَمْ
يَجُزْ الِانْتِفَاعُ بِهِ فِرَارًا مِنْ سخط الله. وقال"
اعلفوه الإبل".
__________
(1). أس زجر صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ناقته.
(10/46)
قُلْتُ: وَهَكَذَا حُكْمُ الْمَاءِ
النَّجِسِ وَمَا يُعْجَنُ بِهِ. وَثَانِيهَا: قَالَ مَالِكٌ:
إِنَّ مَا لَا يجوز استعماله من الطعام والشراب يجوز أتعلفه
الْإِبِلُ وَالْبَهَائِمُ، إِذْ لَا تَكْلِيفَ عَلَيْهَا،
وَكَذَلِكَ قَالَ، فِي الْعَسَلِ النَّجِسِ: إِنَّهُ
يُعْلَفَهُ النَّحْلُ. وَثَالِثُهَا- أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِعَلْفِ مَا عُجِنَ
بِهَذَا الْمَاءِ الْإِبِلَ، ولم يأمر بطرحه كما أمر لُحُومِ
الْحُمُرِ الْإِنْسِيَّةِ يَوْمَ خَيْبَرَ، فَدَلَّ عَلَى
أَنَّ لَحْمَ الْحُمُرِ أَشَدُّ. فِي التَّحْرِيمِ وَأَغْلَظُ
فِي التَّنْجِيسِ. وَقَدْ أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِكَسْبِ الْحَجَّامِ أَنْ
يُعْلَفَ النَّاضِحَ «1» وَالرَّقِيقَ، وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ
لِتَحْرِيمِ وَلَا تَنْجِيسٍ. قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَلَوْ
كَانَ حَرَامًا لَمْ يَأْمُرْهُ أَنْ يُطْعِمَهُ رَقِيقَهُ،
لِأَنَّهُ مُتَعَبَّدٌ فِيهِ كَمَا تُعُبِّدَ فِي نَفْسِهِ.
وَرَابِعُهَا- فِي أَمْرِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
بِعَلَفِ الْإِبِلِ الْعَجِينَ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ حَمْلِ
الرَّجُلِ النَّجَاسَةَ إِلَى كِلَابِهِ لِيَأْكُلُوهَا،
خِلَافًا لِمَنْ مَنَعَ ذَلِكَ مِنْ أَصْحَابِنَا وَقَالَ:
تُطْلَقُ الْكِلَابُ عَلَيْهَا وَلَا يَحْمِلَهَا إِلَيْهِمْ.
وَخَامِسُهَا- أَمْرُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
أَنْ يَسْتَقُوا مِنْ بِئْرِ النَّاقَةِ دَلِيلٌ عَلَى
التَّبَرُّكِ بِآثَارِ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ، وَإِنْ
تَقَادَمَتْ أَعْصَارُهُمْ وَخَفِيَتْ آثَارُهُمْ، كَمَا أَنَّ
فِي الْأَوَّلِ دَلِيلًا على بعض أَهْلِ الْفَسَادِ وَذَمِّ
دِيَارِهِمْ وَآثَارِهِمْ. هَذَا، وَإِنْ كَانَ التَّحْقِيقُ
أَنَّ الْجَمَادَاتِ غَيْرُ مُؤَاخَذَاتٍ، لَكِنَّ
الْمَقْرُونَ بِالْمَحْبُوبِ مَحْبُوبٌ، وَالْمَقْرُونَ
بِالْمَكْرُوهِ الْمَبْغُوضِ مَبْغُوضٌ، كما كُثَيِّرٌ:
أُحِبُّ لِحُبِّهَا السُّودَانَ حَتَّى ... أُحِبُّ لِحُبِّهَا
سُودَ الْكِلَابِ
وَكَمَا قَالَ آخَرُ:
أَمُرُّ عَلَى الدِّيَارِ دِيَارِ لَيْلَى ... أُقَبِّلُ ذَا
الْجِدَارَ وَذَا الْجِدَارَا
وَمَا تِلْكَ «2» الدِّيَارُ شَغَفْنَ قَلْبِي ... وَلَكِنْ
حُبُّ مَنْ سَكَنَ الدِّيَارَا
وَسَادِسُهَا- مَنَعَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ الصَّلَاةَ بِهَذَا
الْمَوْضِعِ وَقَالَ: لَا تَجُوزُ الصَّلَاةُ فِيهَا
لِأَنَّهَا دَارُ سُخْطٍ وَبُقْعَةُ غَضَبٍ. قَالَ ابْنُ
الْعَرَبِيِّ: فَصَارَتْ هَذِهِ الْبُقْعَةُ مُسْتَثْنَاةً
مِنْ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" جُعِلَتْ
لِيَ الْأَرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا" فَلَا يَجُوزُ
التَّيَمُّمُ بِتُرَابِهَا وَلَا الْوُضُوءُ مِنْ مَائِهَا
وَلَا الصَّلَاةُ
__________
(1). الناضج: البعير يستقى عليه.
(2). الرواية المشهورة:" وما حب الديار". والبيتان لمجنون
ليلى. (راجع خزانة الأدب في الشاهد التسعين بعد المائتين).
(10/47)
فِيهَا. وَقَدْ رَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنِ
ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ نَهَى أَنْ يُصَلَّى فِي سَبْعِ مَوَاطِنَ: فِي
الْمَزْبَلَةِ وَالْمَجْزَرَةِ وَالْمَقْبَرَةِ وَقَارِعَةِ
الطَّرِيقِ، وَفِي الْحَمَّامِ وَفِي مَعَاطِنِ الْإِبِلِ
وَفَوْقَ بَيْتِ اللَّهِ. وَفِي الْبَابِ عَنْ أَبِي مَرْثَدٍ
وَجَابِرٍ وَأَنَسٍ: حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ إِسْنَادُهُ لَيْسَ
بِذَاكَ الْقَوِيِّ، وَقَدْ تُكَلِّمُ فِي زَيْدِ بْنِ
جُبَيْرَةَ مِنْ قِبَلِ حِفْظِهِ. وَقَدْ زَادَ عُلَمَاؤُنَا:
الدَّارَ الْمَغْصُوبَةَ وَالْكَنِيسَةَ وَالْبِيعَةَ
وَالْبَيْتَ الَّذِي فِيهِ تَمَاثِيلُ، وَالْأَرْضَ
الْمَغْصُوبَةَ أَوْ مَوْضِعًا تَسْتَقْبِلُ فِيهِ نَائِمًا
أَوْ وَجْهَ رَجُلٍ أَوْ جِدَارًا عَلَيْهِ نَجَاسَةٌ. قَالَ
ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَمِنْ هَذِهِ الْمَوَاضِعِ مَا مُنِعَ
لِحَقِّ الْغَيْرِ، وَمِنْهُ مَا مُنِعَ لِحَقِّ اللَّهِ
تَعَالَى، وَمِنْهُ مَا مُنِعَ لِأَجْلِ النَّجَاسَةِ
الْمُحَقَّقَةِ أَوْ لِغَلَبَتِهَا، فَمَا مُنِعَ لِأَجْلِ
النَّجَاسَةِ إِنْ فُرِشَ فِيهِ ثَوْبٌ طَاهِرٌ كَالْحَمَّامِ
وَالْمَقْبَرَةِ فِيهَا أَوْ إِلَيْهَا فَإِنَّ ذَلِكَ جَائِزٌ
فِي الْمُدَوَّنَةِ. وَذَكَرَ أَبُو مُصْعَبٍ عَنْهُ
الْكَرَاهَةَ. وَفَرَّقَ عُلَمَاؤُنَا بَيْنَ الْمَقْبَرَةِ
الْقَدِيمَةِ وَالْجَدِيدَةِ لِأَجْلِ النَّجَاسَةِ، وَبَيْنَ
مَقْبَرَةِ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُشْرِكِينَ، لِأَنَّهَا دَارُ
عَذَابٍ وَبُقْعَةُ سُخْطٍ كَالْحِجْرِ. وَقَالَ مَالِكٌ فِي
الْمَجْمُوعَةِ: لَا يُصَلِّي فِي أَعْطَانِ الْإِبِلِ وَإِنْ
فَرَشَ ثَوْبًا، كَأَنَّهُ رَأَى لَهَا عِلَّتَيْنِ:
الِاسْتِتَارَ «1» بِهَا وَنِفَارَهَا فَتُفْسِدُ عَلَى
الْمُصَلِّي صَلَاتَهُ، فَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً «2» فَلَا
بَأْسَ، كَمَا كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ يَفْعَلُ، فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ. وَقَالَ
مَالِكٌ: لَا يُصَلَّى عَلَى بِسَاطٍ فِيهِ تَمَاثِيلُ إِلَّا
من ضرورة. وكره ابن الصَّلَاةَ إِلَى الْقِبْلَةِ فِيهَا
تَمَاثِيلُ، وَفِي الدَّارِ الْمَغْصُوبَةِ، فَإِنْ فَعَلَ
أَجْزَأَهُ وَذَكَرَ بَعْضُهُمْ عَنْ مَالِكٍ أَنَّ الصَّلَاةَ
فِي الدَّارِ الْمَغْصُوبَةِ لَا تُجْزِئُ. قَالَ ابْنُ
الْعَرَبِيِّ: وَذَلِكَ عِنْدِي بِخِلَافِ الْأَرْضِ. فَإِنَّ
الدَّارَ لَا تُدْخَلُ إِلَّا بِإِذْنٍ، وَالْأَرْضُ وَإِنْ
كَانَتْ مِلْكًا فَإِنَّ الْمَسْجِدِيَّةَ فِيهَا قَائِمَةٌ
لَا يُبْطِلُهَا الْمِلْكُ. قُلْتُ: الصَّحِيحُ- إِنْ شَاءَ
اللَّهُ- الَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ النَّظَرُ وَالْخَبَرُ
أَنَّ الصَّلَاةَ بِكُلِّ مَوْضِعٍ طَاهِرٍ جَائِزَةٌ
صَحِيحَةٌ. وَمَا رُوِيَ مِنْ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" إِنَّ هَذَا وَادٍ بِهِ شَيْطَانٌ"
وَقَدْ رَوَاهُ مَعْمَرٌ عَنِ الزُّهْرِيِّ فَقَالَ:
وَاخْرُجُوا عَنِ الْمَوْضِعِ الَّذِي أَصَابَتْكُمْ فِيهِ
الْغَفْلَةُ. وَقَوْلُ عَلِيٍّ: نَهَانِي رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ أُصَلِّي بِأَرْضِ
بَابِلَ فَإِنَّهَا مَلْعُونَةٌ. وَقَوْلُهُ عليه
__________
(1). في الموطأ:" لأنها يستتر بها للبول والغائط، فلا تكاد
تسلم مباركها من النجاسة".
(2). أي ناقة واحدة.
(10/48)
السَّلَامُ حِينَ مَرَّ بِالْحِجْرِ مِنْ
ثَمُودَ:" لَا تَدْخُلُوا عَلَى هَؤُلَاءِ الْمُعَذَّبِينَ
إِلَّا أَنْ تَكُونُوا بَاكِينَ" وَنَهْيُهُ عَنِ الصَّلَاةِ
فِي مَعَاطِنِ الْإِبِلِ إِلَى ذَلِكَ مِمَّا فِي هَذَا
الْبَابِ، فَإِنَّهُ مَرْدُودٌ إِلَى الْأُصُولِ الْمُجْتَمَعِ
عَلَيْهَا وَالدَّلَائِلِ الصَّحِيحِ مَجِيئُهَا. قَالَ
الْإِمَامُ الْحَافِظُ أَبُو عُمَرَ: الْمُخْتَارُ عِنْدَنَا
فِي هَذَا الْبَابِ أَنَّ ذَلِكَ الْوَادِيَ وَغَيْرَهُ مِنْ
بِقَاعِ الْأَرْضِ جَائِزٌ أَنْ يُصَلَّى فِيهَا كُلُّهَا مَا
لَمْ تَكُنْ فِيهَا نَجَاسَةٌ مُتَيَقَّنَةٌ تَمْنَعُ مِنْ
ذَلِكَ، وَلَا مَعْنَى لِاعْتِلَالِ مَنِ اعْتَلَّ بِأَنَّ
مَوْضِعَ النَّوْمِ عَنِ الصَّلَاةِ مَوْضِعُ شَيْطَانٍ،
وَمَوْضِعٌ مَلْعُونٌ لَا يَجِبُ أَنْ تُقَامَ فِيهِ
الصَّلَاةُ، وَكُلُّ مَا رُوِيَ فِي هَذَا الْبَابِ مِنَ
النَّهْيِ عَنِ الصَّلَاةِ فِي الْمَقْبَرَةِ وَبِأَرْضِ
بَابِلَ وَأَعْطَانِ الْإِبِلِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا فِي
هَذَا الْمَعْنَى، كُلُّ ذَلِكَ عِنْدَنَا مَنْسُوخٌ
وَمَدْفُوعٌ لِعُمُومِ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: جُعِلَتْ لِيَ الْأَرْضُ كلها مسجدا وطهور"،
وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُخْبِرًا:
إِنَّ ذلك من فضائله ومما خصى بِهِ، وَفَضَائِلُهُ عِنْدَ
أَهْلِ الْعِلْمِ لَا يَجُوزُ عَلَيْهَا النَّسْخُ وَلَا
التَّبْدِيلُ وَلَا النَّقْصُ. قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ:" أُوتِيتُ خَمْسًا- وَقَدْ رُوِيَ سِتًّا، وَقَدْ
رُوِيَ ثَلَاثًا وَأَرْبَعًا، وَهِيَ تَنْتَهِي إِلَى أَزْيَدَ
مِنْ تِسْعٍ «1»، قَالَ فِيهِنَّ-" لَمْ يُؤْتَهُنَّ أَحَدٌ
قَبْلِي بُعِثْتُ إِلَى الْأَحْمَرِ وَالْأَسْوَدِ وَنُصِرْتُ
بِالرُّعْبِ وَجُعِلَتْ أُمَّتِي خَيْرَ الْأُمَمِ وَأُحِلَّتْ
لِيَ الْغَنَائِمُ وَجُعِلَتْ لِي الْأَرْضُ مَسْجِدًا
وَطَهُورًا وَأُوتِيتُ الشَّفَاعَةَ وَبُعِثْتُ بِجَوَامِعِ
الْكَلِمِ وَبَيْنَا أنا نائم أتيت بِمَفَاتِيحِ الْأَرْضِ
فَوُضِعَتْ فِي يَدِي وَأُعْطِيتُ الْكَوْثَرَ. وَخُتِمَ بِيَ
النَّبِيُّونَ" رَوَاهُ جَمَاعَةٌ مِنَ الصَّحَابَةِ.
وَبَعْضُهُمْ يَذْكُرُ بَعْضَهَا، وَيَذْكُرُ بَعْضُهُمْ مَا
لَمْ يَذْكُرْ غَيْرُهُ، وَهِيَ صِحَاحٌ كُلُّهَا. وَجَائِزٌ
عَلَى فَضَائِلِهِ الزِّيَادَةُ وَغَيْرُ جَائِزٍ فِيهَا
النُّقْصَانُ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ كَانَ عَبْدًا قَبْلَ أَنْ
يَكُونَ نَبِيًّا ثُمَّ كَانَ نَبِيًّا قَبْلَ أَنْ يَكُونَ
رَسُولًا، وَكَذَلِكَ رُوِيَ عَنْهُ. وَقَالَ:" مَا أَدْرِي
مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ" ثُمَّ نَزَلَتْ" لِيَغْفِرَ
لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ «2»
". وسمع رجلا يقوله: يَا خَيْرَ الْبَرِيَّةِ، فَقَالَ:" ذَاكَ
إِبْرَاهِيمُ" وَقَالَ:" لَا يَقُولَنَّ أَحَدُكُمْ أَنَا
خَيْرٌ مِنْ يُونُسَ بْنِ مَتَّى" وَقَالَ:" السَّيِّدُ
يُوسُفُ بْنِ يَعْقُوبُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ
عَلَيْهِمُ السَّلَامُ" ثُمَّ قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ كُلِّهِ:"
أَنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ وَلَا فَخْرَ". فَفَضَائِلُهُ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم تزل
__________
(1). في ووى.
(2). راجع ج 16 ص 261. [ ..... ]
(10/49)
تَزْدَادُ إِلَى أَنْ قَبَضَهُ اللَّهُ،
فَمِنْ هَاهُنَا قُلْنَا: إِنَّهُ لَا يَجُوزُ عَلَيْهَا
النَّسْخُ وَلَا الِاسْتِثْنَاءُ وَلَا النُّقْصَانُ وَجَائِزٌ
فِيهَا الزِّيَادَةُ. وَبِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ:" جُعِلَتْ لِيَ الْأَرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا"
أَجَزْنَا الصَّلَاةَ فِي الْمَقْبَرَةِ وَالْحَمَّامِ وَفِي
كُلِّ مَوْضِعٍ مِنَ الْأَرْضِ إِذَا كَانَ طَاهِرًا مِنَ
الْأَنْجَاسِ. وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
لِأَبِي ذَرٍّ:" حَيْثُمَا أَدْرَكَتْكَ الصَّلَاةُ فَصَلِّ
فَإِنَّ الْأَرْضَ كُلَّهَا مَسْجِدٌ" ذَكَرَهُ الْبُخَارِيُّ
وَلَمْ يَخُصَّ مَوْضِعًا مِنْ مَوْضِعٍ. وَأَمَّا مَنِ
احْتَجَّ بِحَدِيثِ ابْنِ وَهْبٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي يَحْيَى
بْنُ أَيُّوبَ عَنْ زَيْدِ بْنِ جُبَيْرَةَ عَنْ دَاوُدَ بْنِ
حُصَيْنٍ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ حَدِيثَ
التِّرْمِذِيِّ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ فَهُوَ حَدِيثٌ انْفَرَدَ
بِهِ زَيْدُ بْنُ جُبَيْرَةَ وَأَنْكَرُوهُ عَلَيْهِ، وَلَا
يُعْرَفُ هَذَا الْحَدِيثُ مُسْنَدًا إِلَّا بِرِوَايَةِ
يَحْيَى بْنِ أَيُّوبَ عَنْ زَيْدِ بْنِ جُبَيْرَةَ. وَقَدْ
كَتَبَ اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
نَافِعٍ مَوْلَى ابْنِ عُمَرَ يَسْأَلُهُ عَنْ هَذَا
الْحَدِيثِ، وَكَتَبَ إِلَيْهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ نَافِعٍ
لَا أَعْلَمَ مَنْ حَدَّثَ بِهَذَا عَنْ نَافِعٍ إِلَّا قَدْ
قَالَ عَلَيْهِ الْبَاطِلُ. ذَكَرَهُ الْحَلْوَانِيُّ عَنْ
سَعِيدِ بْنِ أَبِي مَرْيَمَ عَنِ اللَّيْثِ، وَلَيْسَ فِيهِ
تَخْصِيصُ مَقْبَرَةِ الْمُشْرِكِينَ مِنْ غَيْرِهَا. وَقَدْ
رُوِيَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ قَالَ: نَهَانِي
حَبِيبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ أُصَلِّيَ
فِي الْمَقْبَرَةِ، وَنَهَانِي أَنْ أُصَلِّيَ فِي أَرْضِ
بَابِلَ فَإِنَّهَا مَلْعُونَةٌ. وَإِسْنَادُهُ ضَعِيفٌ
مُجْتَمِعٌ عَلَى ضَعْفِهِ، وَأَبُو صَالِحٍ الَّذِي رَوَاهُ
عَنْ عَلِيٍّ هُوَ سَعِيدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ
الْغِفَارِيُّ، بَصْرِيٌّ لَيْسَ بِمَشْهُورٍ وَلَا يَصِحُّ
لَهُ سَمَاعٌ عَنْ عَلِيٍّ، وَمَنْ دُونَهُ مَجْهُولُونَ لَا
يُعْرَفُونَ. قَالَ أَبُو عُمَرَ: وَفِي الْبَابِ عَنْ عَلِيٍّ
مِنْ قَوْلِهِ غَيْرُ مَرْفُوعٍ حَدِيثٌ حَسَنُ الْإِسْنَادِ،
رَوَاهُ الْفَضْلُ بْنُ دُكَيْنٍ قَالَ: حَدَّثَنَا
الْمُغِيرَةُ بْنُ أَبِي الْحُرِّ الْكِنْدِيُّ قَالَ
حَدَّثَنِي أَبُو الْعَنْبَسِ حُجْرُ بْنُ عَنْبَسٍ قَالَ:
خَرَجْنَا مَعَ عَلِيٍّ إِلَى الْحَرُورِيَّةِ، فَلَمَّا
جَاوَزْنَا سُورِيَّا وَقَعَ بِأَرْضِ بَابِلَ، قُلْنَا: يَا
أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَمْسَيْتَ، الصَّلَاةَ الصَّلَاةَ،
فَأَبَى أَنْ يُكَلِّمَ أَحَدًا. قَالُوا: يَا أَمِيرَ
الْمُؤْمِنِينَ، قَدْ أَمْسَيْتَ. قَالَ بَلَى، وَلَكِنْ لَا
أُصَلِّي فِي أَرْضٍ خَسَفَ اللَّهُ بِهَا. وَالْمُغِيرَةُ
بْنُ أَبِي الْحُرِّ كُوفِيٌّ ثِقَةٌ، قَالَهُ يَحْيَى بْنُ
مَعِينٍ وَغَيْرُهُ. وَحُجْرُ بْنُ عَنْبَسٍ مِنْ كِبَارِ
أَصْحَابِ عَلِيٍّ. وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ
الْخُدْرِيِّ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" الْأَرْضُ كُلُّهَا مَسْجِدٌ إِلَّا
الْمَقْبَرَةَ وَالْحَمَّامَ". قَالَ التِّرْمِذِيُّ: رَوَاهُ
سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ عَنْ عَمْرِو بْنِ
(10/50)
يَحْيَى عَنْ أَبِيهِ عَنِ النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُرْسَلًا، وَكَأَنَّهُ
أَثْبَتُ وَأَصَحُّ. قَالَ أَبُو عُمَرَ: فَسَقَطَ
الِاحْتِجَاجُ بِهِ عِنْدَ مَنْ لَا يَرَى الْمُرْسَلَ
حُجَّةً، وَلَوْ ثَبَتَ كَانَ الْوَجْهُ مَا ذَكَرْنَا.
وَلَسْنَا نَقُولُ كَمَا قَالَ بَعْضُ الْمُنْتَحِلِينَ
لِمَذْهَبِ الْمَدَنِيِّينَ: أَنَّ الْمَقْبَرَةَ فِي هَذَا
الْحَدِيثِ وَغَيْرِهِ أُرِيدَ بِهَا مَقْبَرَةَ
الْمُشْرِكِينَ خَاصَّةً، فَإِنَّهُ قَالَ: الْمَقْبَرَةُ
وَالْحَمَّامُ بِالْأَلِفِ وَاللَّامِ، فَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ
يُرَدَّ ذَلِكَ إِلَى مَقْبَرَةٍ دُونَ مَقْبَرَةٍ أَوْ
حَمَّامٍ دُونَ حَمَّامٍ بِغَيْرِ تَوْقِيفٍ عَلَيْهِ، فَهُوَ
قَوْلٌ لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا سُنَّةٍ وَلَا
خَبَرٍ صَحِيحٍ، وَلَا مَدْخَلَ لَهُ فِي الْقِيَاسِ وَلَا فِي
الْمَعْقُولِ، وَلَا دَلَّ عَلَيْهِ فَحْوَى الْخِطَابِ وَلَا
خَرَجَ عَلَيْهِ الْخَبَرُ. وَلَا يَخْلُو تَخْصِيصُ مَنْ
خَصَّ مَقْبَرَةَ الْمُشْرِكِينَ مِنْ أَحَدِ وَجْهَيْنِ:
إِمَّا أَنْ يَكُونَ مِنْ أَجْلِ اخْتِلَافِ الْكُفَّارِ
إِلَيْهَا بِأَقْدَامِهِمْ فَلَا مَعْنَى لِخُصُوصِ
الْمَقْبَرَةِ بِالذِّكْرِ، لِأَنَّ كُلَّ مَوْضِعٍ هُمْ فِيهِ
بِأَجْسَامِهِمْ وَأَقْدَامِهِمْ فَهُوَ كَذَلِكَ، وَقَدْ
جَلَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ
يَتَكَلَّمَ بِمَا لَا مَعْنَى لَهُ. أَوْ يَكُونَ مِنْ أَجْلِ
أَنَّهَا بُقْعَةُ سُخْطٍ، فَلَوْ كَانَ كَذَلِكَ مَا كَانَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيَبْنِيَ
مَسْجِدَهُ فِي مَقْبَرَةِ الْمُشْرِكِينَ وَيَنْبِشَهَا
وَيُسَوِّيَهَا وَيَبْنِي عَلَيْهَا، وَلَوْ جَازَ لِقَائِلٍ
أَنْ يَخُصَّ مِنَ الْمَقَامِ مَقْبَرَةً لِلصَّلَاةِ فِيهَا
لَكَانَتْ مَقْبَرَةُ الْمُشْرِكِينَ أَوْلَى بِالْخُصُوصِ
وَالِاسْتِثْنَاءِ مِنْ أَجْلِ هَذَا الْحَدِيثِ. وَكُلُّ مَنْ
كَرِهَ الصَّلَاةَ فِي الْمَقْبَرَةِ لَمْ يَخُصَّ مَقْبَرَةً
مِنْ مَقْبَرَةٍ، لِأَنَّ الْأَلِفَ وَاللَّامَ إِشَارَةٌ
إِلَى الْجِنْسِ لَا إِلَى مَعْهُودٍ، وَلَوْ كَانَ بين مقبرة
المسلمين والمشركين فرق لنبيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ وَلَمْ يُهْمِلْهُ، لِأَنَّهُ بُعِثَ مُبَيِّنًا.
وَلَوْ سَاغَ لِجَاهِلٍ أَنْ يَقُولَ: مَقْبَرَةُ كَذَا
لَجَازَ لِآخَرَ أَنْ يَقُولَ: حَمَّامُ كَذَا، لِأَنَّ فِي
الْحَدِيثِ الْمَقْبَرَةُ وَالْحَمَّامُ. وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ:
الْمَزْبَلَةُ وَالْمَجْزَرَةُ، غَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يُقَالَ:
مَزْبَلَةٌ كَذَا وَلَا مَجْزَرَةٌ كَذَا وَلَا طَرِيقٌ كَذَا،
لِأَنَّ التَّحَكُّمَ فِي دِينِ اللَّهِ غَيْرُ جَائِزٍ.
وَأَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ التَّيَمُّمَ عَلَى
مَقْبَرَةِ الْمُشْرِكِينَ إِذَا كَانَ الْمَوْضِعُ طَيِّبًا
طَاهِرًا نَظِيفًا جَائِزٌ. وَكَذَلِكَ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ
مَنْ صَلَّى فِي
كَنِيسَةٍ أَوْ بِيعَةٍ عَلَى مَوْضِعٍ طَاهِرٍ، أَنَّ
صَلَاتَهُ مَاضِيَةٌ جَائِزَةٌ. وَقَدْ تَقَدَّمَ هَذَا فِي
سُورَةِ" بَرَاءَةٌ" «1». وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْكَنِيسَةَ
أَقْرَبُ إِلَى أَنْ تَكُونَ بُقْعَةَ سُخْطٍ مِنَ المقبرة،
__________
(1). راجع ج 8 ص 255.
(10/51)
لِأَنَّهَا بُقْعَةٌ يُعْصَى اللَّهُ
وَيُكْفَرُ بِهِ فِيهَا، وَلَيْسَ كَذَلِكَ الْمَقْبَرَةُ.
وَقَدْ وَرَدَتِ السُّنَّةُ بِاتِّخَاذِ الْبِيَعِ
وَالْكَنَائِسِ مَسَاجِدَ. رَوَى النَّسَائِيُّ عَنْ طَلْقِ
بْنِ عَلِيٍّ قَالَ: خَرَجْنَا وَفْدًا إِلَى النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَبَايَعْنَاهُ
وَصَلَّيْنَا مَعَهُ، وَأَخْبَرْنَاهُ أَنَّ بِأَرْضِنَا
بِيعَةً لَنَا، وَذَكَرَ الْحَدِيثَ. وَفِيهِ:" فَإِذَا
أَتَيْتُمْ أَرْضَكُمْ فَاكْسِرُوا بِيعَتَكُمْ وَاتَّخِذُوهَا
مَسْجِدًا (. وَذَكَرَ أَبُو دَاوُدَ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ
أَبِي الْعَاصِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَمَرَهُ أَنْ يَجْعَلَ مَسْجِدَ الطَّائِفِ حَيْثُ
كَانَتْ طَوَاغِيتُهُمْ. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي" بَرَاءَةٌ"
«1». وَحَسْبُكَ بِمَسْجِدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِي أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى
مَبْنِيًّا فِي مَقْبَرَةِ الْمُشْرِكِينَ، وَهُوَ حُجَّةٌ
عَلَى كُلِّ مَنْ كَرِهَ الصَّلَاةَ فِيهَا. وَمِمَّنْ كَرِهَ
الصَّلَاةَ فِي الْمَقْبَرَةِ سَوَاءٌ كانت لمسلمين أو مشركين
الثوري أَجْزَأَهُ إِذَا صَلَّى فِي الْمَقْبَرَةِ فِي
مَوْضِعٍ لَيْسَ فِيهِ نَجَاسَةٌ، لِلْأَحَادِيثِ
الْمَعْلُومَةِ فِي ذَلِكَ، وَلِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ
أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
قَالَ:" صَلُّوا فِي بُيُوتِكُمْ وَلَا تَتَّخِذُوهَا
قُبُورًا"، وَلِحَدِيثِ أَبِي مَرْثَدٍ الْغَنَوِيِّ عَنِ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ:"
لَا تُصَلُّوا إِلَى الْقُبُورِ وَلَا تَجْلِسُوا عَلَيْهَا".
وَهَذَانِ حَدِيثَانِ ثَابِتَانِ مِنْ جِهَةِ الْإِسْنَادِ،
وَلَا حُجَّةَ فِيهِمَا، لِأَنَّهُمَا مُحْتَمِلَانِ
لِلتَّأْوِيلِ، وَلَا يَجِبُ أَنْ يُمْتَنَعَ مِنَ الصَّلَاةِ
فِي كُلِّ مَوْضِعٍ طَاهِرٍ إِلَّا بِدَلِيلٍ لَا يَحْتَمِلُ
تَأْوِيلًا. وَلَمْ يُفَرِّقْ أَحَدٌ مِنْ فُقَهَاءِ
الْمُسْلِمِينَ بَيْنَ مَقْبَرَةِ الْمُسْلِمِينَ
وَالْمُشْرِكِينَ إِلَّا مَا حَكَيْنَاهُ مِنْ خَطَلِ
الْقَوْلِ الَّذِي لَا يُشْتَغَلُ بِمِثْلِهِ، وَلَا وَجْهَ
لَهُ فِي نَظَرٍ وَلَا فِي صَحِيحِ أَثَرٍ. وَثَامِنُهَا «2» -
الْحَائِطُ يُلْقَى فِيهِ النَّتْنُ وَالْعَذِرَةُ لِيُكْرَمَ
فَلَا يُصَلَّى فِيهِ حَتَّى يُسْقَى ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، لِمَا
رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ
عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي
الْحَائِطِ يُلْقَى فِيهِ الْعَذِرَةُ وَالنَّتْنُ قَالَ:"
إِذَا سُقِيَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ فَصَلِّ فِيهِ". وَخَرَّجَهُ
أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ
سُئِلَ عَنْ هَذِهِ الْحِيطَانِ الَّتِي تُلْقَى فِيهَا
الْعَذُرَاتِ وَهَذَا الزِّبْلُ، أَيُصَلَّى فِيهَا؟ فَقَالَ:
إِذَا سُقِيَتْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ فَصَلِّ فِيهَا. رُفِعَ
ذَلِكَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
اختلفا في الاسناد، والله أعلم.
__________
(1). راجع ج 8 ص 254 فأبعد.
(2). أراد ثامن المسائل التي استنبطها الفقهاء. والحائط
الحديقة.
(10/52)
وَآتَيْنَاهُمْ
آيَاتِنَا فَكَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ (81) وَكَانُوا
يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا آمِنِينَ (82)
فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ (83) فَمَا أَغْنَى
عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (84) وَمَا خَلَقْنَا
السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا
بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ
الْجَمِيلَ (85) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ
(86)
[سورة الحجر (15): آية 81]
وَآتَيْناهُمْ آياتِنا فَكانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ (81)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَآتَيْناهُمْ آياتِنا) أَيْ بِآيَاتِنَا
كَقَوْلِهِ:" آتِنا غَداءَنا «1» " أي بغذائنا. وَالْمُرَادُ
النَّاقَةُ، وَكَانَ فِيهَا آيَاتٌ جَمَّةٌ: خُرُوجُهَا مِنَ
الصَّخْرَةِ، وَدُنُوُّ نِتَاجِهَا عِنْدَ خُرُوجِهَا،
وَعِظَمُهَا حَتَّى لَمْ تُشْبِهْهَا نَاقَةٌ، وَكَثْرَةُ
لَبَنِهَا حَتَّى تَكْفِيَهُمْ جَمِيعًا. وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ
كَانَ لِصَالِحٍ آيَاتٌ أخر سوى الناقة، كالبئر وغيره.
(فَكانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ) أي لم يعتبروا.
[سورة الحجر (15): الآيات 82 الى 84]
وَكانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً آمِنِينَ (82)
فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ (83) فَما أَغْنى
عَنْهُمْ مَا كانُوا يَكْسِبُونَ (84)
النَّحْتُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ: الْبَرْيُ وَالنَّجْرُ.
نَحَتَهُ يَنْحِتُهُ (بِالْكَسْرِ «2» نَحْتًا أَيْ بَرَاهُ.
وَالنُّحَاتَةُ الْبُرَايَةُ. وَالْمِنْحَتُ مَا يُنْحَتُ
بِهِ. وَفِي التَّنْزِيلِ" أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ «3»
" أَيْ تَنْجُرُونَ وَتَصْنَعُونَ. فَكَانُوا يَتَّخِذُونَ
مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا لِأَنْفُسِهِمْ بِشِدَّةِ
قُوَّتِهِمْ. (آمِنِينَ) أَيْ مِنْ أَنْ تَسْقُطَ عَلَيْهِمْ
أَوْ تَخْرَبَ. وَقِيلَ: آمِنِينَ مِنَ الْمَوْتِ. وَقِيلَ:
مِنَ الْعَذَابِ. (فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ)
أَيْ فِي وَقْتِ الصُّبْحِ، وَهُوَ نَصْبٌ عَلَى الْحَالِ.
وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ الصَّيْحَةِ فِي هُودٍ وَالْأَعْرَافِ
«4». (فَما أَغْنى عَنْهُمْ مَا كانُوا يَكْسِبُونَ) مِنَ
الْأَمْوَالِ وَالْحُصُونِ فِي الْجِبَالِ، وَلَا مَا
أُعْطَوْهُ مِنَ الْقُوَّةِ.
[سورة الحجر (15): الآيات 85 الى 86]
وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما
إِلاَّ بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ فَاصْفَحِ
الصَّفْحَ الْجَمِيلَ (85) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلاَّقُ
الْعَلِيمُ (86)
__________
(1). راجع ج 11 ص 12.
(2). وبالفتح وبه قرأ الحسن وذكر في المثلثات أن المتواتر هو
الصحيح.
(3). راجع ج 15 ص 96.
(4). راجع ج 9 ص 61 وج 7 ص 242.
(10/53)
وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ
سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ (87)
(وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ
وَما بَيْنَهُما إِلَّا بِالْحَقِّ) أَيْ لِلزَّوَالِ
وَالْفَنَاءِ. وَقِيلَ: أَيْ لِأُجَازِيَ الْمُحْسِنَ
وَالْمُسِيءَ، كَمَا قَالَ:" وَلِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ
وَما فِي الْأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَساؤُا بِما
عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا «1» بِالْحُسْنَى".
(وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ) أَيْ لَكَائِنَةٌ فَيُجْزَى
كُلٌّ بِعَمَلِهِ. (فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ) مِثْلُ"
وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلًا «2» " أي تجاوز عنهم يا محمد،
وأعفو عَفْوًا حَسَنًا، ثُمَّ نُسِخَ بِالسَّيْفِ. قَالَ
قَتَادَةُ: نَسَخَهُ قَوْلُهُ:" فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ
حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ «3» ". وَأَنَّ النبي صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فال لَهُمْ:" لَقَدْ جِئْتُكُمْ
بِالذَّبْحِ وَبُعِثْتُ بِالْحَصَادِ «4» وَلَمْ أُبْعَثْ
بِالزِّرَاعَةِ"، قَالَهُ عِكْرِمَةُ وَمُجَاهِدٌ. وَقِيلَ:
لَيْسَ بمنسوخ، وأنه أمر بالصفح في نَفْسِهِ فِيمَا بَيْنَهُ
وَبَيْنَهُمْ. وَالصَّفْحُ: الْإِعْرَاضُ، عَنِ الْحَسَنِ
وَغَيْرِهِ. إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلَّاقُ) أَيِ
الْمُقَدِّرُ لِلْخَلْقِ وَالْأَخْلَاقِ «5». الْعَلِيمُ
بِأَهْلِ الْوِفَاقِ وَالنِّفَاقِ.
[سورة الحجر (15): آية 87]
وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي وَالْقُرْآنَ
الْعَظِيمَ (87)
اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي السَّبْعِ الْمَثَانِي، فَقِيلَ:
الْفَاتِحَةُ، قَالَهُ عَلِيُّ بْنُ أَبَى طَالِبٍ وَأَبُو
هُرَيْرَةَ وَالرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ وَأَبُو الْعَالِيَةِ
وَالْحَسَنُ وَغَيْرُهُمْ، وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ وُجُوهٍ ثَابِتَةٍ، مِنْ
حَدِيثِ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ وَأَبِي سَعِيدِ بْنِ
الْمُعَلَّى. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ الْفَاتِحَةِ
«6». وَخَرَّجَ التِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ
قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ:" الْحَمْدُ لِلَّهِ أُمُّ الْقُرْآنِ وَأُمُّ
الْكِتَابِ وَالسَّبْعُ الْمَثَانِي". قَالَ: هَذَا حَدِيثٌ
حَسَنٌ صَحِيحٌ. وَهَذَا نَصٌّ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي
الْفَاتِحَةِ. وَقَالَ الشَّاعِرُ:
نَشَدْتُكُمْ بِمُنَزِّلِ الْقُرْآنِ ... أُمِّ الْكِتَابِ
السَّبْعِ مِنْ مَثَانِي
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هِيَ السَّبْعُ الطُّوَلُ:
الْبَقَرَةُ، وَآلُ عِمْرَانَ، وَالنِّسَاءُ، وَالْمَائِدَةُ،
وَالْأَنْعَامُ، وَالْأَعْرَافُ، وَالْأَنْفَالُ وَالتَّوْبَةُ
مَعًا، إِذْ ليس بينهما التسمية. روى النسائي
__________
(1). راجع ج 17 ص 105.
(2). راجع ج 19 ص 44.
(3). راجع ج 5 ص 310.
(4). كذا في الأصول وتفسير الطبري. وفى الكتاب الجامع الصغير:"
بالجهاد".
(5). كذا في الأصول.
(6). راجع ج 1 ص 108.
(10/54)
حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ حُجْرٍ
أَخْبَرَنَا شَرِيكٌ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ
جُبَيْرٍ. عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ:
(سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي) قَالَ: السَّبْعُ الطُّوَلُ:
وَسُمِّيَتْ مَثَانِي لِأَنَّ الْعِبَرَ وَالْأَحْكَامَ
وَالْحُدُودَ ثُنِّيَتْ فِيهَا. وَأَنْكَرَ قَوْمٌ هَذَا
وَقَالُوا: أُنْزِلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ بِمَكَّةَ، ولم ينزل من
الطول شي إِذْ ذَاكَ. وَأُجِيبَ بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى
أَنْزَلَ القرآن إلى السماء الدنيا ثم أنزله مِنْهَا نُجُومًا:
فَمَا أَنْزَلَهُ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا فَكَأَنَّمَا
آتَاهُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِنْ
لَمْ يَنْزِلْ عَلَيْهِ بَعْدُ. وَمِمَّنْ قَالَ إِنَّهَا
السَّبْعُ الطُّوَلُ: عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ وَعَبْدُ
اللَّهِ بْنُ عُمَرَ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَمُجَاهِدٌ.
وَقَالَ جَرِيرٌ:
جَزَى اللَّهُ الْفَرَزْدَقَ حِينَ يُمْسِي ... مُضِيعًا
لِلْمُفَصَّلِ وَالْمَثَانِي
وَقِيلَ: الْمَثَانِي الْقُرْآنُ كُلُّهُ، قَالَ اللَّهُ
تَعَالَى:" كِتاباً مُتَشابِهاً «1» مَثانِيَ". هذا قول الضحاك
وطاوس وأبو مَالِكٍ، وَقَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ. وَقِيلَ لَهُ:
مَثَانِي، لِأَنَّ الْأَنْبَاءَ وَالْقَصَصَ ثُنِّيَتْ فِيهِ.
وَقَالَتْ صَفِيَّةُ بِنْتُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ تَرْثِي
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
فَقَدْ كَانَ نُورًا سَاطِعًا يهتدى به ... يخص بتنزيل المثاني
الْمُعَظَّمِ
أَيِ الْقُرْآنَ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالسَّبْعِ الْمَثَانِي
أَقْسَامُ الْقُرْآنِ مِنَ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ
وَالتَّبْشِيرِ وَالْإِنْذَارِ وَضَرْبِ الْأَمْثَالِ
وَتَعْدِيدِ نِعَمٍ وَأَنْبَاءِ قُرُونٍ، قَالَ زِيَادُ بْنُ
أَبِي مَرْيَمَ. وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ لِأَنَّهُ نَصٌّ.
وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي الْفَاتِحَةِ أَنَّهُ لَيْسَ فِي
تَسْمِيَتِهَا بِالْمَثَانِي مَا يَمْنَعُ مِنْ تَسْمِيَةِ
غَيْرِهَا بِذَلِكَ، إِلَّا أَنَّهُ إِذَا وَرَدَ عَنِ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَثَبَتَ عَنْهُ
نص في شي لَا يَحْتَمِلُ التَّأْوِيلَ كَانَ الْوُقُوفُ
عِنْدَهُ. قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ) فِيهِ
إِضْمَارٌ تَقْدِيرُهُ: وَهُوَ أَنَّ الْفَاتِحَةَ الْقُرْآنُ
الْعَظِيمُ لِاشْتِمَالِهَا عَلَى مَا يَتَعَلَّقُ بِأُصُولِ
الْإِسْلَامِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ «2» فِي الْفَاتِحَةِ.
وَقِيلَ: الْوَاوُ مُقْحَمَةٌ، التَّقْدِيرُ: وَلَقَدْ
آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي الْقُرْآنَ الْعَظِيمَ.
وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرُ:
إِلَى الْمَلِكِ الْقَرْمِ وَابْنِ الْهُمَامِ ... وَلَيْثِ
الْكَتِيبَةِ فِي الْمُزْدَحَمْ
وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ:" حافِظُوا عَلَى
الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى «3» ".
__________
(1). راجع ج 15 ص 248. [ ..... ]
(2). راجع ج 1 ص 112.
(3). راجع ج 3 ص 213.
(10/55)
لَا تَمُدَّنَّ
عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ
وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ
لِلْمُؤْمِنِينَ (88)
[سورة الحجر (15): آية 88]
لَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى مَا مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً
مِنْهُمْ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَناحَكَ
لِلْمُؤْمِنِينَ (88)
فِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى: (لَا
تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ) الْمَعْنَى: قَدْ أَغْنَيْتُكَ
بِالْقُرْآنِ عَمَّا فِي أَيْدِي النَّاسِ، فَإِنَّهُ لَيْسَ
مِنَّا مَنْ لَمْ يَتَغَنَّ بِالْقُرْآنِ، أَيْ لَيْسَ مِنَّا
مَنْ رَأَى أَنَّهُ لَيْسَ يَغْنَى بِمَا عِنْدَهُ مِنَ
الْقُرْآنِ حَتَّى يَطْمَحَ بَصَرُهُ إِلَى زَخَارِفِ
الدُّنْيَا وَعِنْدَهُ مَعَارِفُ الْمَوْلَى. يُقَالُ: إِنَّهُ
وَافَى سَبْعَ قوافل من البصرة وَأَذْرِعَاتَ لِيَهُودِ
قُرَيْظَةَ وَالنَّضِيرِ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ، فِيهَا الْبُرُّ
وَالطِّيبُ وَالْجَوْهَرُ وَأَمْتِعَةُ الْبَحْرِ، فَقَالَ
الْمُسْلِمُونَ: لَوْ كَانَتْ هَذِهِ الْأَمْوَالُ لَنَا
لَتَقَوَّيْنَا بِهَا وَأَنْفَقْنَاهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ،
فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى:" وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً
مِنَ الْمَثانِي" أَيْ فَهِيَ خَيْرٌ لَكُمْ مِنَ الْقَوَافِلِ
السَّبْعِ، فَلَا تَمُدُّنَّ أَعْيُنَكُمْ إِلَيْهَا. وَإِلَى
هَذَا صَارَ ابْنُ عُيَيْنَةَ، وَأَوْرَدَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ
السَّلَامُ:" لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَمْ يَتَغَنَّ بِالْقُرْآنِ"
أَيْ مَنْ لَمْ يَسْتَغْنِ بِهِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ هَذَا
الْمَعْنَى فِي أول «1» الكتاب. ومعنى (أَزْواجاً مِنْهُمْ)
أَيْ أَمْثَالًا فِي النِّعَمِ، أَيِ الْأَغْنِيَاءِ
بَعْضُهُمْ أَمْثَالُ بَعْضٍ فِي الْغِنَى، فَهُمْ أَزْوَاجٌ.
الثَّانِيَةُ- هَذِهِ الْآيَةُ تَقْتَضِي الزَّجْرَ عَنِ
التَّشَوُّفِ إِلَى مَتَاعِ الدُّنْيَا عَلَى الدَّوَامِ،
وَإِقْبَالَ الْعَبْدِ عَلَى عِبَادَةِ مَوْلَاهُ. وَمِثْلُهُ"
وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ
أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا
لِنَفْتِنَهُمْ «2» فِيهِ" الْآيَةَ. وَلَيْسَ كَذَلِكَ،
فَإِنَّهُ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ:" حُبِّبَ إِلَيَّ مِنْ دُنْيَاكُمُ
«3» النِّسَاءُ وَالطِّيبُ وَجُعِلَتْ قُرَّةُ عَيْنِي فِي
الصَّلَاةِ". وَكَانَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ
يَتَشَاغَلُ بِالنِّسَاءِ، جِبِلَّةَ الْآدَمِيَّةِ
وَتَشَوُّفَ الْخِلْقَةِ الْإِنْسَانِيَّةِ، وَيُحَافِظُ عَلَى
الطِّيبِ، وَلَا تَقَرُّ لَهُ عَيْنٌ إِلَّا فِي الصَّلَاةِ
لَدَى مُنَاجَاةِ الْمَوْلَى، وَيَرَى أَنَّ مُنَاجَاتَهُ
أَحْرَى مِنْ ذَلِكَ وَأَوْلَى. وَلَمْ يَكُنْ فِي دِينِ
مُحَمَّدٍ الرَّهْبَانِيَّةُ وَالْإِقْبَالُ عَلَى
الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ بالكلية «4» كما كان في دين عيسى،
__________
(1). راجع ج 1 ص 12.
(2). راجع ج 11 ص 261.
(3). كذا في سنن النسائي ومسند الامام أحمد. والذي في الأصول:"
حبب إلى من دنياكم ثلاث ... إلخ" وبكلمة" ثلاث" لا يستقيم
الكلام. راجع كشف الخفا ج 1 ص 338 ففيه بحث شيق واف.
(4). أي الانقطاع الكلى عن الدنيا فإنه من معاني الرهبانية.
(10/56)
وَقُلْ إِنِّي أَنَا
النَّذِيرُ الْمُبِينُ (89) كَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى
الْمُقْتَسِمِينَ (90)
وَإِنَّمَا شَرَعَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ
حَنِيفِيَّةً سَمْحَةً خَالِصَةً عَنِ الْحَرَجِ خَفِيفَةً
عَلَى الْآدَمِيِّ، يَأْخُذُ مِنَ الْآدَمِيَّةِ
بِشَهَوَاتِهَا وَيَرْجِعُ إِلَى اللَّهِ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ.
وراي الفراء وَالْمُخْلِصُونَ مِنَ الْفُضَلَاءِ الِانْكِفَافَ
عَنِ اللَّذَّاتِ وَالْخُلُوصَ لرب الأرض والسموات الْيَوْمَ
أَوْلَى، لِمَا غَلَبَ عَلَى الدُّنْيَا مِنَ الْحَرَامِ،
وَاضْطُرَّ الْعَبْدُ فِي الْمَعَاشِ إِلَى مُخَالَطَةِ مَنْ
لَا تَجُوزُ مُخَالَطَتُهُ وَمُصَانَعَةِ مَنْ تَحْرُمُ
مُصَانَعَتُهُ، فَكَانَتِ الْقِرَاءَةُ أَفْضَلُ، وَالْفِرَارُ
عَنِ الدُّنْيَا أَصْوَبُ لِلْعَبْدِ وَأَعْدَلُ، قَالَ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" أتى عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ
يَكُونُ خَيْرُ مَالِ الْمُسْلِمِ غَنَمًا يَتْبَعُ بِهَا
شَعَفَ «1» الْجِبَالِ وَمَوَاقِعَ الْقَطْرِ يَفِرُّ
بِدِينِهِ مِنَ الْفِتَنِ". قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلا تَحْزَنْ
عَلَيْهِمْ أَيْ وَلَا تَحْزَنْ عَلَى الْمُشْرِكِينَ إِنْ
لَمْ يُؤْمِنُوا. وَقِيلَ: الْمَعْنَى لَا تَحْزَنْ عَلَى مَا
مُتِّعُوا بِهِ فِي الدُّنْيَا فَلَكَ فِي الْآخِرَةِ أَفْضَلُ
مِنْهُ. وَقِيلَ: لَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ إِنْ صَارُوا إِلَى
الْعَذَابِ فَهُمْ أَهْلُ الْعَذَابِ. (وَاخْفِضْ جَناحَكَ
لِلْمُؤْمِنِينَ) أَيْ أَلِنْ جَانِبَكَ لِمَنْ آمَنَ بِكَ
وَتَوَاضَعْ لَهُمْ. وَأَصْلُهُ أَنَّ الطَّائِرَ إِذَا ضَمَّ
فَرْخَهُ إِلَى نَفْسِهِ بَسَطَ جَنَاحَهُ ثُمَّ قَبَضَهُ
عَلَى الْفَرْخِ، فَجُعِلَ ذَلِكَ وَصْفًا لِتَقْرِيبِ
الْإِنْسَانِ أَتْبَاعَهُ. وَيُقَالُ: فُلَانٌ خَافِضُ
الْجَنَاحِ، أَيْ وَقُورٌ سَاكِنٌ. وَالْجَنَاحَانِ مِنَ ابْنِ
آدَمَ جَانِبَاهُ، وَمِنْهُ" وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَى جَنَاحِكَ
«2» " وَجَنَاحُ الطَّائِرِ يَدُهُ. وَقَالَ الشَّاعِرُ:
وَحَسْبُكَ فِتْيَةٌ لِزَعِيمِ قَوْمٍ ... يَمُدُّ عَلَى أَخِي
سَقَمٍ جَنَاحَا
أي تواضعا ولينا.
[سورة الحجر (15): الآيات 89 الى 90]
وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ (89) كَما
أَنْزَلْنا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ (90)
فِي الْكَلَامِ حَذْفٌ، أَيْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ
الْمُبِينُ عَذَابًا، فَحَذَفَ الْمَفْعُولَ، إِذْ كَانَ
الْإِنْذَارُ يَدُلُّ عَلَيْهِ، كَمَا قَالَ فِي مَوْضِعٍ
آخَرَ:" أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ «3»
وَثَمُودَ". قيل: الْكَافُ زَائِدَةٌ، أَيْ أَنْذَرْتُكُمْ مَا
أَنْزَلْنَا عَلَى المقتسمين، كقوله:" لَيْسَ كَمِثْلِهِ
شَيْءٌ «4» " أنذرتكم
__________
(1). أي رءوسها.
(2). راجع ج 11 ص 190.
(3). راجع ج 15 ص 346.
(4). راجع ج 16 ص 7.
(10/57)
الَّذِينَ جَعَلُوا
الْقُرْآنَ عِضِينَ (91)
مِثْلَ مَا أَنْزَلْنَا
بِالْمُقْتَسِمِينَ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى كَمَا أَنْزَلْنَا
عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ، أَيْ مِنَ الْعَذَابِ وَكَفَيْنَاكَ
المستهزئين، فاصدع بما تؤمر وأعرض عن وقيل الْمُشْرِكِينَ
الَّذِينَ بَغَوْا، فَإِنَّا كَفَيْنَاكَ أُولَئِكَ
الرُّؤَسَاءِ الَّذِينَ كُنْتَ تَلْقَى مِنْهُمْ مَا تَلْقَى.
وَاخْتُلِفَ فِي" الْمُقْتَسِمِينَ" عَلَى أَقْوَالٍ سَبْعَةٍ:
الْأَوَّلُ- قَالَ مُقَاتِلٌ وَالْفَرَّاءُ: هُمْ سِتَّةَ
عَشَرَ رَجُلًا بَعَثَهُمُ الْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ
أَيَّامَ الْمَوْسِمِ فَاقْتَسَمُوا أَعْقَابَ «1» مَكَّةَ
وَأَنْقَابَهَا وَفِجَاجَهَا يَقُولُونَ لِمَنْ سَلَكَهَا: لَا
تَغْتَرُّوا بِهَذَا الْخَارِجِ فِينَا يَدَّعِي النُّبُوَّةَ،
فَإِنَّهُ مَجْنُونٌ، وَرُبَّمَا قَالُوا سَاحِرٌ، وَرُبَّمَا
قَالُوا شَاعِرٌ، وَرُبَّمَا قَالُوا كَاهِنٌ. وَسُمُّوا
الْمُقْتَسِمِينَ لِأَنَّهُمُ اقْتَسَمُوا هَذِهِ الطُّرُقَ،
فَأَمَاتَهُمُ اللَّهُ شَرَّ مِيتَةٍ، وَكَانُوا نَصَّبُوا
الْوَلِيدَ بْنَ الْمُغِيرَةِ حَكَمًا عَلَى بَابِ
الْمَسْجِدِ، فَإِذَا سَأَلُوهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: صَدَقَ أُولَئِكَ.
الثَّانِي- قَالَ قَتَادَةُ: هُمْ قَوْمٌ مِنْ كُفَّارِ
قُرَيْشٍ اقْتَسَمُوا كِتَابَ اللَّهِ فَجَعَلُوا بَعْضَهُ
شِعْرًا، وَبَعْضَهُ سِحْرًا، وَبَعْضَهُ كِهَانَةً،
وَبَعْضَهُ أَسَاطِيرَ الْأَوَّلِينَ. الثَّالِثُ- قَالَ ابْنُ
عَبَّاسٍ: هُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ آمَنُوا بِبَعْضِهِ
وَكَفَرُوا بِبَعْضِهِ. وَكَذَلِكَ قَالَ عِكْرِمَةُ: هُمْ
أَهْلُ الْكِتَابِ، وَسُمُّوا مُقْتَسِمِينَ لِأَنَّهُمْ
كَانُوا مُسْتَهْزِئِينَ، فَيَقُولُ بَعْضُهُمْ: هَذِهِ
السُّورَةُ لِي وَهَذِهِ السُّورَةُ لَكَ. وَهُوَ الْقَوْلُ
الرَّابِعُ. الْخَامِسُ- قَالَ قَتَادَةُ: قَسَّمُوا
كِتَابَهُمْ فَفَرَّقُوهُ وَبَدَّدُوهُ وَحَرَّفُوهُ.
السَّادِسُ- قَالَ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ: الْمُرَادُ قَوْمُ
صَالِحٍ، تَقَاسَمُوا عَلَى قَتْلِهِ فَسُمُّوا مُقْتَسِمِينَ،
كَمَا قَالَ تَعَالَى:" تَقاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ
وَأَهْلَهُ»
". السَّابِعُ- قَالَ الْأَخْفَشُ: هُمْ قَوْمٌ اقْتَسَمُوا
أَيْمَانًا تَحَالَفُوا عَلَيْهَا. وَقِيلَ: إِنَّهُمُ
الْعَاصُ بْنُ وَائِلٍ وَعُتْبَةُ وَشَيْبَةُ ابْنَا رَبِيعَةَ
وَأَبُو جَهْلِ بْنُ هِشَامٍ وَأَبُو الْبَخْتَرِيِّ بْنُ
هِشَامٍ وَالنَّضْرُ بْنُ الْحَارِثِ وَأُمَيَّةُ بْنُ خَلَفٍ
ومنبه بن الحجاج، ذكره الماوردي.
[سورة الحجر (15): آية 91]
الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ (91)
هَذِهِ صِفَةُ الْمُقْتَسِمِينَ. وقيل: هو مبتدأ وخبره"
لَنَسْئَلَنَّهُمْ". وَوَاحِدُ الْعِضِينَ عِضَةٌ، مِنْ
عَضَّيْتُ الشَّيْءَ تَعْضِيَةً أَيْ فَرَّقْتُهُ، وَكُلُّ
فِرْقَةٍ عِضَةٌ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: كانت في الأصل
__________
(1). الأعقاب ما بعد مكة من الطرق يفد منها الناس، والأنقاب:
منافذ الجبال، والفجاج: الطرق الواسعة.
(2). راجع ج 13 ص 216.
(10/58)
فَوَرَبِّكَ
لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (92) عَمَّا كَانُوا
يَعْمَلُونَ (93)
عِضْوَةٌ فَنُقِصَتِ الْوَاوُ، وَلِذَلِكَ
جُمِعَتْ عِضِينَ، كَمَا قَالُوا: عِزِينَ فِي جَمْعِ عِزَةٍ،
وَالْأَصْلُ عِزْوَةٌ. وَكَذَلِكَ ثِبَةٌ وَثِبِينَ.
وَيَرْجِعُ الْمَعْنَى إِلَى مَا ذَكَرْنَاهُ فِي
الْمُقْتَسِمِينَ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: آمَنُوا بِبَعْضٍ
وَكَفَرُوا بِبَعْضٍ. وَقِيلَ: فَرَّقُوا أَقَاوِيلَهُمْ فِيهِ
فَجَعَلُوهُ كَذِبًا وَسِحْرًا وَكِهَانَةً وَشِعْرًا.
عَضَوْتُهُ أَيْ فَرَّقْتُهُ. قَالَ الشَّاعِرُ- هُوَ
رُؤْبَةُ-:
وَلَيْسَ دِينُ اللَّهِ بِالْمُعَضَّى
أَيْ بِالْمُفَرَّقِ. وَيُقَالُ: نُقْصَانُهُ الْهَاءُ
وَأَصْلُهُ عِضْهَةٌ، لِأَنَّ الْعِضَهَ وَالْعِضِينَ فِي
لُغَةِ قُرَيْشٍ السِّحْرُ. وَهُمْ يَقُولُونَ لِلسَّاحِرِ:
عَاضِهٌ وَلِلسَّاحِرَةِ عَاضِهَةٌ. قَالَ الشَّاعِرُ:
أَعُوَذُ بِرَبِّي مِنَ النَّافِثَا ... تَ فِي عَقْدِ
الْعَاضِهِ الْمُعْضِهِ
وَفِي الْحَدِيثِ: لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْعَاضِهَةَ وَالْمُسْتَعْضِهَةَ،
وَفُسِّرَ: السَّاحِرَةَ وَالْمُسْتَسْحِرَةَ. وَالْمَعْنَى:
أَكْثَرُوا الْبَهْتَ عَلَى الْقُرْآنِ وَنَوَّعُوا الْكَذِبَ
فِيهِ، فَقَالُوا: سِحْرٌ وَأَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ،
وَأَنَّهُ مُفْتَرًى، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ. وَنَظِيرُ عِضَةٍ
فِي النُّقْصَانِ شَفَةٌ، وَالْأَصْلُ شَفَهَةٌ. كَمَا
قَالُوا: سَنَةٌ، وَالْأَصْلُ سَنَهَةٌ، فَنَقَصُوا الْهَاءَ
الْأَصْلِيَّةَ وَأُثْبِتَتْ هَاءُ الْعَلَامَةِ وَهِيَ
لِلتَّأْنِيثِ. وَقِيلَ: هُوَ مِنَ الْعِضَهِ وَهِيَ
النَّمِيمَةُ. وَالْعَضِيهَةُ الْبُهْتَانُ، وَهُوَ أَنْ
يَعْضَهَ الْإِنْسَانُ وَيَقُولَ فِيهِ مَا لَيْسَ فِيهِ.
يُقَالُ عَضَهَهُ عَضْهًا رَمَاهُ بِالْبُهْتَانِ. وَقَدْ
أَعْضَهْتَ أَيْ جِئْتَ بِالْبُهْتَانِ. قَالَ الْكِسَائِيُّ:
الْعِضَةُ الْكَذِبُ وَالْبُهْتَانُ، وَجَمْعُهَا عِضُونَ،
مِثْلَ عِزَةٌ وَعِزُونَ، قَالَ تَعَالَى:" الَّذِينَ جَعَلُوا
الْقُرْآنَ عِضِينَ". وَيُقَالُ: عَضُّوهُ أَيْ آمَنُوا بِمَا
أَحَبُّوا منه وكفروا بالباقي، فأحب كُفْرُهُمْ إِيمَانَهُمْ.
وَكَانَ الْفَرَّاءُ يَذْهَبُ إِلَى أَنَّهُ مَأْخُوذٌ مِنَ
الْعَضَاةِ، وَهِيَ شَجَرُ الْوَادِي وَيَخْرُجُ كالشوك.
[سورة الحجر (15): الآيات 92 الى 93]
فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (92) عَمَّا
كانُوا يَعْمَلُونَ (93)
قوله تعالى: (فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ)
أَيْ لَنَسْأَلَنَّ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ جَرَى ذِكْرُهُمْ
عَمَّا عَمِلُوا فِي الدُّنْيَا. وَفِي الْبُخَارِيِّ: وَقَالَ
عدة من أهل العلم في قوله:" فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ
أَجْمَعِينَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ" عَنْ لَا إِلَهَ إلا
الله.
(10/59)
قُلْتُ: وَهَذَا قَدْ رُوِيَ مَرْفُوعًا،
رَوَى التِّرْمِذِيُّ الْحَكِيمُ قَالَ: حَدَّثَنَا
الْجَارُودُ بْنُ مُعَاذٍ قَالَ حَدَّثَنَا الْفَضْلُ بْنُ
مُوسَى عَنْ شَرِيكٍ عَنْ لَيْثٍ عَنْ بَشِيرِ بْنِ نَهِيكٍ
عَنْ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في قوله:" فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ
أَجْمَعِينَ. عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ" قَالَ:" عَنْ قَوْلِ
لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ" قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ:
مَعْنَاهُ عِنْدَنَا عَنْ صِدْقِ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ
وَوَفَائِهَا، وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذَكَرَ فِي
تَنْزِيلِهِ الْعَمَلَ فَقَالَ:" عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ"
وَلَمْ يَقُلْ عَمَّا كَانُوا يَقُولُونَ، وَإِنْ كَانَ قَدْ
يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْقَوْلُ أَيْضًا عَمَلُ اللِّسَانِ،
فَإِنَّمَا الْمَعْنِيُّ بِهِ مَا يَعْرِفُهُ أَهْلُ اللُّغَةِ
أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلٌ وَالْعَمَلَ عَمَلٌ. وَإِنَّمَا قَالَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" عَنْ لَا
إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ" أَيْ عَنِ الْوَفَاءِ بِهَا
وَالصِّدْقِ لِمَقَالِهَا. كَمَا قَالَ الْحَسَنُ
الْبَصْرِيُّ: لَيْسَ الْإِيمَانُ بِالتَّحَلِّي وَلَا
الدِّينُ بِالتَّمَنِّي وَلَكِنْ مَا وَقَرَ فِي الْقُلُوبِ
وَصَدَّقَتْهُ الْأَعْمَالُ. وَلِهَذَا مَا قَالَ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" مَنْ قَالَ لَا
إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ مُخْلِصًا دَخَلَ الْجَنَّةَ" قِيلَ:
يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَمَا إِخْلَاصُهَا؟ قَالَ:" أَنْ
تَحْجِزَهُ عَنْ مَحَارِمِ اللَّهِ". رَوَاهُ زَيْدُ بْنُ
أَرْقَمَ. وَعَنْهُ أَيْضًا قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ
إِلَيَّ أَلَّا يَأْتِيَنِي أَحَدٌ مِنْ أُمَّتِي بِلَا إِلَهَ
إِلَّا اللَّهُ لَا يَخْلِطُ بِهَا شَيْئًا إِلَّا وَجَبَتْ
لَهُ الْجَنَّةُ" قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا الَّذِي
يُخْلَطُ بِلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ؟ قَالَ:" حِرْصًا عَلَى
الدُّنْيَا وَجَمْعًا لَهَا وَمَنْعًا لَهَا، يَقُولُونَ
قَوْلَ الْأَنْبِيَاءِ وَيَعْمَلُونَ أَعْمَالَ
الْجَبَابِرَةِ". وَرَوَى أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ قَالَ قَالَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" لَا
إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ تَمْنَعُ الْعِبَادَ مِنْ سُخْطِ
اللَّهِ مَا لَمْ يُؤْثِرُوا صَفْقَةَ دُنْيَاهُمْ عَلَى
دِينِهِمْ فَإِذَا آثَرُوا صَفْقَةَ دُنْيَاهُمْ عَلَى
دِينِهِمْ ثُمَّ قَالُوا لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ رُدَّتْ
عَلَيْهِمْ وَقَالَ اللَّهُ كَذَبْتُمْ". أَسَانِيدُهَا فِي
نَوَادِرِ الْأُصُولِ. قُلْتُ: وَالْآيَةُ بِعُمُومِهَا
تَدُلُّ عَلَى سُؤَالِ الْجَمِيعِ وَمُحَاسَبَتِهِمْ
كَافِرِهِمْ وَمُؤْمِنِهِمْ، إِلَّا مَنْ دَخَلَ الْجَنَّةَ
بِغَيْرِ حِسَابٍ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ فِي كِتَابِ
(التَّذْكِرَةِ). فَإِنْ قِيلَ: وَهَلْ يُسْأَلُ الْكَافِرُ
وَيُحَاسَبُ؟ قُلْنَا: فِيهِ خِلَافٌ وَذَكَرْنَاهُ فِي
التَّذْكِرَةِ. وَالَّذِي يظهر سؤال، للآية وقوله:"
وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ «1» " وَقَوْلُهُ:" إِنَّ
إِلَيْنا إِيابَهُمْ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا حِسابَهُمْ «2» ".
فإن قيل: فقد قال تعالى:
__________
(1). راجع ج 15 ص 72.
(2). راجع ج 20 ص 38. [ ..... ]
(10/60)
فَاصْدَعْ بِمَا
تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (94) إِنَّا
كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ (95)
" وَلا يُسْئَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ
الْمُجْرِمُونَ «1» " وقال:" فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْئَلُ عَنْ
ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌّ «2» "، وَقَالَ:" وَلا
يُكَلِّمُهُمُ «3» اللَّهُ"، وَقَالَ:" إِنَّهُمْ عَنْ
رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ «4» ". قُلْنَا:
الْقِيَامَةُ مَوَاطِنُ، فَمَوْطِنٌ يَكُونُ فِيهِ سؤال وكلام،
موطن لَا يَكُونُ ذَلِكَ فِيهِ. قَالَ عِكْرِمَةُ:
الْقِيَامَةُ مَوَاطِنُ، يُسْأَلُ فِي بَعْضِهَا وَلَا
يُسْأَلُ فِي بَعْضِهَا. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَا
يَسْأَلُهُمْ سُؤَالَ اسْتِخْبَارٍ وَاسْتِعْلَامٍ هَلْ
عَمِلْتُمْ كَذَا وَكَذَا، لِأَنَّ الله عالم بكل شي، وَلَكِنْ
يَسْأَلُهُمْ سُؤَالَ تَقْرِيعٍ وَتَوْبِيخٍ فَيَقُولُ لَهُمْ:
لِمَ عَصَيْتُمُ الْقُرْآنَ وَمَا حُجَّتُكُمْ فِيهِ؟
وَاعْتَمَدَ قطرب هذا القول. وقيل:" لَنَسْئَلَنَّهُمْ
أَجْمَعِينَ" يَعْنِي الْمُؤْمِنِينَ الْمُكَلَّفِينَ،
بَيَانُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:" ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ
عَنِ النَّعِيمِ «5» ". وَالْقَوْلُ بِالْعُمُومِ أولى كما
ذكر. والله أعلم.
[سورة الحجر (15): الآيات 94 الى 95]
فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (94)
إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ (95)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ) أَيْ بِالَّذِي
تُؤْمَرُ بِهِ، أَيْ بَلِّغْ رِسَالَةَ اللَّهِ جَمِيعَ
الْخَلْقِ لِتَقُومَ الْحُجَّةُ عَلَيْهِمْ، فَقَدْ أَمَرَكَ
اللَّهُ بِذَلِكَ. وَالصَّدْعُ: الشَّقُّ. وَتَصَدَّعَ
الْقَوْمُ أَيْ تَفَرَّقُوا، وَمِنْهُ" يَوْمَئِذٍ
يَصَّدَّعُونَ «6» " أَيْ يَتَفَرَّقُونَ. وَصَدَعْتُهُ
فَانْصَدَعَ أَيِ انْشَقَّ. أَصْلُ الصَّدْعِ الْفَرْقُ
وَالشَّقُّ. قَالَ أَبُو ذُؤَيْبٍ يَصِفُ الْحِمَارَ
وَأُتُنَهُ:
وَكَأَنَّهُنَّ رِبَابَةٌ وَكَأَنَّهُ ... يَسَرٌ يُفِيضُ
عَلَى الْقِدَاحِ وَيَصْدَعُ «7»
أي يفرق ويشق. فقوله:" فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ" قَالَ
الْفَرَّاءُ: أَرَادَ فَاصْدَعْ بِالْأَمْرِ، أَيْ أَظْهِرْ
دِينَكَ، فَ" مَا" مَعَ الْفِعْلِ عَلَى هَذَا بِمَنْزِلَةِ
الْمَصْدَرِ. وَقَالَ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ: مَعْنَى اصْدَعْ
بِمَا تُؤْمَرُ، أَيِ اقْصِدْ. وَقِيلَ:" فَاصْدَعْ بِما
تُؤْمَرُ" أَيْ فَرِّقْ جَمْعَهُمْ وَكَلِمَتَهُمْ بِأَنْ
تَدْعُوَهُمْ إِلَى التَّوْحِيدِ فَإِنَّهُمْ يَتَفَرَّقُونَ
بِأَنْ يُجِيبَ الْبَعْضُ، فَيَرْجِعُ الصَّدْعُ عَلَى هَذَا
إِلَى صدع جماعة الكفار.
__________
(1). راجع ج 13 ص 315.
(2). راجع ج 17 ص 173.
(3). راجع ج 2 ص 234.
(4). راجع ج 19 ص 257.
(5). راجع ج 20 ص 174.
(6). راجع ج 14 ص 21.
(7). الربابة: الجلدة التي تجمع فيها السهام. واليسر: صاحب
الميسر الذي يضرب بالقداح.
(10/61)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَأَعْرِضْ عَنِ
الْمُشْرِكِينَ) أَيْ عَنْ الِاهْتِمَامِ بِاسْتِهْزَائِهِمْ
وَعَنِ الْمُبَالَاةِ بِقَوْلِهِمْ، فَقَدْ بَرَّأَكَ اللَّهُ
عَمَّا يَقُولُونَ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هُوَ مَنْسُوخٌ
بِقَوْلِهِ" فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ «1» ". وَقَالَ عَبْدُ
اللَّهِ بْنُ عُبَيْدٍ: مَا زَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُسْتَخْفِيًا حَتَّى نَزَلَ قَوْلُهُ
تَعَالَى:" فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ" فَخَرَجَ هُوَ
وَأَصْحَابُهُ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: أَرَادَ الْجَهْرَ
بِالْقُرْآنِ فِي الصَّلَاةِ." وَأَعْرِضْ عَنِ
الْمُشْرِكِينَ" لا تبال بهم. وقال ابْنُ إِسْحَاقَ: لَمَّا
تَمَادَوْا فِي الشَّرِّ وَأَكْثَرُوا بِرَسُولِ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الِاسْتِهْزَاءَ أَنْزَلَ
اللَّهُ تَعَالَى فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ
الْمُشْرِكِينَ. إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ.
الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَسَوْفَ
يَعْلَمُونَ). وَالْمَعْنَى: اصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرْ وَلَا
تَخَفْ غَيْرَ اللَّهِ، فَإِنَّ اللَّهَ كَافِيكَ مِنْ أَذَاكَ
كَمَا كَفَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ، وَكَانُوا خَمْسَةً مِنْ
رُؤَسَاءِ أَهْلِ مَكَّةَ، وَهُمُ الْوَلِيدُ بْنُ
الْمُغِيرَةِ وَهُوَ رَأْسُهُمْ، وَالْعَاصُ بْنُ وَائِلٍ،
وَالْأَسْوَدُ بْنُ الْمُطَّلِبِ بْنِ أَسَدٍ أَبُو زَمْعَةَ.
وَالْأَسْوَدُ بْنُ عَبْدِ يَغُوثَ، وَالْحَارِثُ بن الطلاطلة،
أهلكهم الله جميعا، قيل يَوْمِ بَدْرٍ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ،
لِاسْتِهْزَائِهِمْ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ. وَسَبَبُ هَلَاكِهِمْ فِيمَا ذَكَرَ ابْنُ
إِسْحَاقَ: أَنَّ جِبْرِيلَ أَتَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُمْ يَطُوفُونَ بِالْبَيْتِ،
فَقَامَ وَقَامَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فَمَرَّ به الأسود ابن الْمُطَّلِبِ فَرَمَى فِي
وَجْهِهِ بِوَرَقَةٍ خَضْرَاءَ فَعَمِيَ وَوُجِعَتْ عَيْنُهُ،
فَجَعَلَ يَضْرِبُ بِرَأْسِهِ الْجِدَارَ. وَمَرَّ بِهِ
الْأَسْوَدُ بْنُ عَبْدِ يَغُوثَ فَأَشَارَ إِلَى بَطْنِهِ
فَاسْتَسْقَى بَطْنَهُ فَمَاتَ مِنْهُ حَبَنًا. (يُقَالُ:
حَبِنَ (بِالْكَسْرِ) حَبَنًا وَحُبِنَ لِلْمَفْعُولِ عَظُمَ
بَطْنُهُ بِالْمَاءِ الْأَصْفَرِ، فَهُوَ أَحْبَنُ،
وَالْمَرْأَةُ حَبْنَاءُ، قَالَهُ فِي الصِّحَاحِ (. وَمَرَّ
بِهِ الْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ فَأَشَارَ إِلَى أَثَرِ
جُرْحٍ بِأَسْفَلِ كَعْبِ رِجْلِهِ، وَكَانَ أَصَابَهُ قَبْلَ
ذَلِكَ بِسِنِينَ، وَهُوَ يَجُرُّ سَبَلَهُ «2»، وَذَلِكَ
أَنَّهُ مَرَّ بِرَجُلٍ مِنْ خُزَاعَةَ يَرِيشُ نَبْلًا لَهُ
فَتَعَلَّقَ سَهْمٌ مِنْ نَبْلِهِ بِإِزَارِهِ فَخَدَشَ فِي
رِجْلِهِ ذَلِكَ الْخَدْشَ وَلَيْسَ بِشَيْءٍ، فَانْتَقَضَ
بِهِ فَقَتَلَهُ. وَمَرَّ بِهِ الْعَاصُ بن وائل فأشار إلى
أخمص رجله، فخرج عَلَى حِمَارٍ لَهُ يُرِيدُ الطَّائِفَ،
فَرَبَضَ بِهِ على شبرمة «3» فَدَخَلَتْ فِي أَخْمَصِ رِجْلِهِ
شَوْكَةٌ فَقَتَلَتْهُ. وَمَرَّ بِهِ الْحَارِثُ بْنُ
الطُّلَاطِلَةِ، فَأَشَارَ إِلَى رَأْسِهِ
__________
(1). راجع ج 8 ص 72.
(2). السبل (بالتحريك): الثياب المسبلة، يفعل ذلك كبرا
واختيالا.
(3). السبرق: نبى حجازي يؤكل، وله شوك.
(10/62)
الَّذِينَ يَجْعَلُونَ
مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (96)
وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ
(97) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ
(98) وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ (99)
فَامْتَخَطَ «1» قَيْحًا فَقَتَلَهُ.
وَقَدْ ذُكِرَ فِي سَبَبِ مَوْتِهِمُ اخْتِلَافٌ قَرِيبٌ مِنْ
هَذَا. وَقِيلَ: إِنَّهُمُ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى:"
فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ «2» " شَبَّهَ
مَا أَصَابَهُمْ فِي مَوْتِهِمْ بِالسَّقْفِ الواقع عليهم، على
ما يأتي.
[سورة الحجر (15): آية 96]
الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَسَوْفَ
يَعْلَمُونَ (96)
هَذِهِ صِفَةُ الْمُسْتَهْزِئِينَ. وَقِيلَ: هُوَ ابْتِدَاءٌ
وخبره" فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ".
[سورة الحجر (15): آية 97]
وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِما يَقُولُونَ
(97)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ
صَدْرُكَ) أَيْ قَلْبُكَ، لِأَنَّ الصَّدْرَ مَحَلُّ
الْقَلْبِ. (بِما يَقُولُونَ) أَيْ بِمَا تَسْمَعُهُ مِنْ
تَكْذِيبِكَ وَرَدِّ قولك، وتناله. ويناله أصحابك من أعدائك.
[سورة الحجر (15): الآيات 98 الى 99]
فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (98)
وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ (99)
فيه مسألتان: الاولى- قوله تعالى: (فَسَبِّحْ) أَيْ فَافْزَعْ
إِلَى الصَّلَاةِ، فَهِيَ غَايَةُ التسبيح ونهاية التقديس.
وذلك تفسير لقوله: (وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ) لَا خَفَاءَ
أَنَّ غَايَةَ الْقُرْبِ فِي الصَّلَاةِ حَالُ السُّجُودِ،
كَمَا قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: (أَقْرَبُ مَا يَكُونُ
الْعَبْدُ مِنْ رَبِّهِ وَهُوَ سَاجِدٌ فَأَخْلِصُوا «3»
الدُّعَاءَ). وَلِذَلِكَ خَصَّ السُّجُودَ بِالذِّكْرِ
الثَّانِيَةُ: قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: ظَنَّ بَعْضُ
النَّاسِ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْأَمْرِ هُنَا السُّجُودُ
نَفْسَهُ، فَرَأَى هَذَا الْمَوْضِعَ مَحَلَّ سُجُودٍ فِي
الْقُرْآنِ، وَقَدْ شَاهَدْتُ الْإِمَامَ بِمِحْرَابِ
زَكَرِيَّا مِنَ الْبَيْتِ الْمُقَدَّسِ طَهَّرَهُ اللَّهُ،
يَسْجُدُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ وَسَجَدْتُ مَعَهُ فِيهَا،
وَلَمْ يَرَهُ جَمَاهِيرُ الْعُلَمَاءِ. قُلْتُ: قَدْ ذَكَرَ
أَبُو بَكْرٍ النَّقَّاشُ أَنَّ هَاهُنَا سَجْدَةً عِنْدَ
أَبِي حُذَيْفَةَ وَيَمَانِ بن رئاب، وراي أنها واجبة
__________
(1). المخط: السيلان والخروج.
(2). راجع ص 97 من هذا الجزء
(3). الرواية" فأكثروا" كما في الجامع الصغير.
(10/63)
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَاعْبُدْ رَبَّكَ
حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ (99) فِيهِ مَسْأَلَةٌ
وَاحِدَةٌ: وَهُوَ أَنَّ الْيَقِينَ الْمَوْتُ. أَمَرَهُ
بِعِبَادَتِهِ «1» إِذْ قَصَّرَ عِبَادُهُ فِي خِدْمَتِهِ،
وَأَنَّ ذَلِكَ يَجِبُ عَلَيْهِ. فَإِنْ قِيلَ: فَمَا فائدة
قول:" حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ" وَكَانَ قَوْلُهُ:"
وَاعْبُدْ رَبَّكَ" كَافِيًا فِي الْأَمْرِ بِالْعِبَادَةِ.
قِيلَ لَهُ: الْفَائِدَةُ فِي هَذَا أَنَّهُ لَوْ قَالَ:"
وَاعْبُدْ رَبَّكَ" مُطْلَقًا ثُمَّ عَبَدَهُ مَرَّةً
وَاحِدَةً كَانَ مُطِيعًا، وَإِذَا قَالَ" حَتَّى يَأْتِيَكَ
الْيَقِينُ" كَانَ مَعْنَاهُ لَا تُفَارِقْ هَذَا حَتَّى
تَمُوتَ. فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ قَالَ سُبْحَانَهُ:" وَاعْبُدْ
رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ" وَلَمْ يَقُلْ أَبَدًا،
فَالْجَوَابُ أَنَّ الْيَقِينَ أَبْلَغُ مِنْ قَوْلِهِ:
أَبَدًا، لِاحْتِمَالِ لَفْظِ الْأَبَدِ لِلَّحْظَةِ
الْوَاحِدَةِ وَلِجَمِيعِ الْأَبَدِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ هَذَا
الْمَعْنَى «2». وَالْمُرَادُ اسْتِمْرَارُ الْعِبَادَةِ
مُدَّةَ حَيَاتِهِ، كَمَا قَالَ الْعَبْدُ الصَّالِحِ:"
وَأَوْصانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا".
وَيَتَرَكَّبُ عَلَى هَذَا أَنَّ الرَّجُلَ إِذَا قَالَ
لِامْرَأَتِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ أَبَدًا، وَقَالَ: نَوَيْتُ
يَوْمًا أَوْ شَهْرًا كَانَتْ عَلَيْهِ الرَّجْعَةُ. وَلَوْ
قَالَ: طَلَّقْتُهَا حَيَاتَهَا لَمْ يُرَاجِعْهَا.
وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْيَقِينَ الْمَوْتُ حَدِيثُ أُمِّ
الْعَلَاءِ الْأَنْصَارِيَّةِ، وَكَانَتْ مِنَ
الْمُبَايِعَاتِ، وَفِيهِ: فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" أَمَّا عُثْمَانُ- أَعْنِي
عُثْمَانَ بْنَ مَظْعُونٍ- فَقَدْ جَاءَهُ الْيَقِينُ وَإِنِّي
لَأَرْجُوُ لَهُ الْخَيْرَ وَاللَّهِ مَا أَدْرِي وَأَنَا
رَسُولُ اللَّهِ مَا يُفْعَلُ بِهِ" وَذَكَرَ الْحَدِيثَ «3».
انْفَرَدَ بِإِخْرَاجِهِ الْبُخَارِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ!
وَكَانَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ يَقُولُ: مَا رَأَيْتُ
يَقِينًا أَشْبَهَ بِالشَّكِّ مِنْ يَقِينِ النَّاسِ
بِالْمَوْتِ ثُمَّ لَا يَسْتَعِدُّونَ لَهُ، يَعْنِي
كَأَنَّهُمْ فِيهِ شَاكُّونَ. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ الْيَقِينَ
هُنَا الْحَقُّ الَّذِي لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ نَصْرِكَ عَلَى
أعدائك، قال ابْنُ شَجَرَةَ، وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ، وَهُوَ
قَوْلُ مُجَاهِدٍ وَقَتَادَةَ وَالْحَسَنِ. وَاللَّهُ
أَعْلَمُ. وَقَدْ رَوَى جُبَيْرُ بْنُ نُفَيْرٍ عَنْ أَبِي
مُسْلِمٍ الْخَوْلَانِيِّ أَنَّهُ سَمِعَهُ يَقُولُ إِنَّ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:" مَا
أُوحِيَ إِلَيَّ أَنْ أَجْمَعَ الْمَالَ وَأَكُونَ مِنَ
التَّاجِرِينَ لَكِنْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنْ سَبِّحْ بِحَمْدِ
رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى
يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ".
__________
(1). في ى: وقد. [ ..... ]
(2). راجع ج 2 ص 33.
(3). راجع صحيح البخاري ج 3 ص 151 طبعه بولاق.
(10/64)
|