تفسير القرطبي سورة القصص
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ مَكِّيَّةٌ كُلُّهَا فِي
قَوْلِ الْحَسَنِ وَعِكْرِمَةَ وَعَطَاءٍ وَقَالَ ابْنُ
عَبَّاسٍ وَقَتَادَةُ إِلَّا آيَةً نَزَلَتْ بَيْنَ مَكَّةَ
وَالْمَدِينَةِ. وَقَالَ ابْنُ سَلَامٍ: بِالْجُحْفَةِ فِي
وَقْتِ، هِجْرَةِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ إِلَى الْمَدِينَةِ. وَهِيَ قَوْلُهُ عَزَّ
وَجَلَّ:" إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ
لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ". وَقَالَ مُقَاتِلٌ: فِيهَا مِنَ
الْمَدَنِيِّ" الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ" إِلَى
قَوْلِهِ:" لَا نَبْتَغِي الْجاهِلِينَ". وهى ثمان وثمانون
آية.
[سورة القصص (28): الآيات 1 الى 6]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
طسم (1) تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ (2) نَتْلُوا
عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ
يُؤْمِنُونَ (3) إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ
أَهْلَها شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ
أَبْناءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ إِنَّهُ كانَ مِنَ
الْمُفْسِدِينَ (4)
وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي
الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ
الْوارِثِينَ (5) وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ
فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما مِنْهُمْ مَا كانُوا
يَحْذَرُونَ (6)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (طسم) تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِيهِ. (تِلْكَ
آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ) " تِلْكَ" فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ
بِمَعْنَى هَذِهِ تِلْكَ وَ" آياتُ" بَدَلٌ مِنْهَا. وَيَجُوزُ
أَنْ يَكُونَ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ بِ" نَتْلُوا" وَ" آياتُ"
بَدَلٌ مِنْهَا أَيْضًا، وَتَنْصِبُهَا كَمَا تَقُولُ: زَيْدًا
ضَرَبْتُ. وَ" الْمُبِينِ"
(13/247)
أَيِ الْمُبِينِ بَرَكَتَهُ وَخَيْرَهُ،
وَالْمُبِينُ الْحَقَّ مِنَ الْبَاطِلِ، وَالْحَلَالَ مِنَ
الْحَرَامِ، وَقَصَصَ الْأَنْبِيَاءِ، وَنُبُوَّةَ مُحَمَّدٍ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَيُقَالُ: بَانَ الشيء
وأبان [اتضح «1»]. (نَتْلُوا عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسى
وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ.) ذَكَرَ
قِصَّةَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَفِرْعَوْنَ وَقَارُونَ،
وَاحْتَجَّ عَلَى مُشْرِكِي قُرَيْشٍ، وَبَيَّنَ أَنَّ
قَرَابَةَ قَارُونَ مِنْ مُوسَى لَمْ تَنْفَعْهُ مَعَ
كُفْرِهِ، وَكَذَلِكَ قَرَابَةُ قُرَيْشٍ لِمُحَمَّدٍ،
وَبَيَّنَ أَنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَتَجَبَّرَ،
فَكَانَ ذَلِكَ مِنْ كُفْرِهِ، فَلْيُجْتَنَبِ الْعُلُوُّ فِي
الْأَرْضِ، وَكَذَلِكَ التَّعَزُّزُ بِكَثْرَةِ الْمَالِ،
وَهُمَا مِنْ سِيرَةِ فِرْعَوْنَ وَقَارُونَ" نَتْلُوا
عَلَيْكَ" أَيْ يَقْرَأُ عَلَيْكَ جِبْرِيلُ بِأَمْرِنَا" مِنْ
نَبَإِ مُوسى وَفِرْعَوْنَ" أَيْ مِنْ خَبَرِهِمَا وَ" مِنْ"
للتبعيض و" مِنْ نَبَإِ" مفعول" نَتْلُوا" أَيْ نَتْلُو
عَلَيْكَ بَعْضَ خَبَرِهِمَا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى:" تَنْبُتُ
بِالدُّهْنِ". وَمَعْنَى" بِالْحَقِّ" أَيْ بِالصِّدْقِ
الَّذِي لَا رَيْبَ فِيهِ وَلَا كَذِبَ." لِقَوْمٍ
يُؤْمِنُونَ" أَيْ يُصَدِّقُونَ بِالْقُرْآنِ وَيَعْلَمُونَ
أَنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، فَأَمَّا مَنْ لَمْ يُؤْمِنْ
فَلَا يَعْتَقِدُ أَنَّهُ حَقٌّ. قَوْلُهُ تَعَالَى: (إِنَّ
فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ) أَيِ اسْتَكْبَرَ وَتَجَبَّرَ،
قَالَهُ ابْنُ عباس والسدي وقال قتادة: علا في نقسه عَنْ
عِبَادَةِ رَبِّهِ بِكُفْرِهِ وَادَّعَى الرُّبُوبِيَّةَ
وَقِيلَ: بِمُلْكِهِ وَسُلْطَانِهِ فَصَارَ عَالِيًا عَلَى
مَنْ تَحْتَ يَدِهِ." فِي الْأَرْضِ" أَيْ أَرْضِ مِصْرَ.
(وَجَعَلَ أَهْلَها شِيَعاً) أَيْ فِرَقًا وَأَصْنَافًا فِي
الْخِدْمَةِ. قَالَ الْأَعْشَى:
وَبَلْدَةٌ يَرْهَبُ الْجَوَّابُ دَجْلَتَهَا ... حَتَّى
تَرَاهُ عَلَيْهَا يَبْتَغِي الشِّيَعَا
(يَسْتَضْعِفُ طائِفَةً مِنْهُمْ) أَيْ مِنْ بَنِي
إِسْرَائِيلَ. (يُذَبِّحُ أَبْناءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي
نِساءَهُمْ إِنَّهُ كانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ) تَقَدَّمَ
الْقَوْلُ فِي هَذَا فِي" الْبَقَرَةِ" «2» عِنْدَ قَوْلِهِ:"
يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ يُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ"
الْآيَةَ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْكَهَنَةَ قَالُوا لَهُ: إِنَّ
مَوْلُودًا يُولَدُ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ يَذْهَبُ مُلْكُكَ
عَلَى يَدَيْهِ، أَوْ قَالَ الْمُنَجِّمُونَ لَهُ ذَلِكَ، أَوْ
رأى رؤيا فعبرت كذلك. قال
__________
(1). في الأصل:" أفصح" وهو تحريف. والتصويب من كتب اللغة.
(2). راجع ج 1 ص 384 وما بعدها طبعه ثانية أو ثالثة.
(13/248)
الزَّجَّاجُ: الْعَجَبُ مِنْ حُمْقِهِ لَمْ
يَدْرِ أَنَّ الْكَاهِنَ إِنْ صَدَقَ فَالْقَتْلُ لَا
يَنْفَعُ، وَإِنْ كَذَبَ فَلَا مَعْنَى لِلْقَتْلِ. وَقِيلَ:
جَعَلَهُمْ شِيَعًا فَاسْتَسْخَرَ كُلَّ قَوْمٍ مِنْ بَنِي
إِسْرَائِيلَ فِي شغل مقرد." إِنَّهُ كانَ مِنَ
الْمُفْسِدِينَ" أَيْ فِي الْأَرْضِ بِالْعَمَلِ وَالْمَعَاصِي
وَالتَّجَبُّرِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ
عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ) أَيْ
نَتَفَضَّلَ عَلَيْهِمْ وَنُنْعِمَ. وَهَذِهِ حِكَايَةٌ
مَضَتْ. (وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً) قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ:
قَادَةً فِي الْخَيْرِ. مُجَاهِدٌ: دُعَاةً إِلَى الْخَيْرِ.
قَتَادَةُ: وُلَاةً وَمُلُوكًا، دَلِيلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:"
وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً" قُلْتُ: وَهَذَا أَعَمُّ فَإِنَّ
الْمَلِكَ إِمَامٌ يُؤْتَمُّ بِهِ وَمُقْتَدًى بِهِ.
(وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ) لِمُلْكِ فِرْعَوْنَ، يَرِثُونَ
مُلْكَهُ، وَيَسْكُنُونَ مَسَاكِنَ الْقِبْطِ وَهَذَا مَعْنَى
قَوْلِهِ تَعَالَى:" وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنى
عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ بِما صَبَرُوا" قَوْلُهُ تَعَالَى:
(وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ) أَيْ نَجْعَلُهُمْ
مُقْتَدِرِينَ عَلَى الْأَرْضِ وَأَهْلِهَا حَتَّى يُسْتَوْلَى
عَلَيْهَا، يَعْنِي أَرْضَ الشَّامِ وَمِصْرَ. (وَنُرِيَ
فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما) أَيْ وَنُرِيدُ أَنْ
نُرِيَ فِرْعَوْنَ وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ وَيَحْيَى وَحَمْزَةُ
وَالْكِسَائِيُّ وَخَلَفٌ" وَيَرَى" بِالْيَاءِ عَلَى أَنَّهُ
فِعْلٌ ثُلَاثِيٌّ مِنْ رَأَى" فِرْعَوْنَ وَهامانَ
وَجُنُودَهُما" رَفْعًا لِأَنَّهُ الْفَاعِلُ الْبَاقُونَ"
نُرِي" بِضَمِّ النُّونِ وَكَسْرِ الرَّاءِ عَلَى أَنَّهُ
فِعْلٌ رُبَاعِيٌّ مِنْ أَرَى يُرِي، وَهِيَ عَلَى نَسَقِ
الْكَلَامِ، لِأَنَّ قَبْلَهُ" وَنُرِيدُ" وَبَعْدَهُ"
وَنُمَكِّنَ"." فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما" نَصْبًا
بِوُقُوعِ الْفِعْلِ وَأَجَازَ الْفَرَّاءُ" وَيُرِيَ
فِرْعَوْنَ" بِضَمِّ الْيَاءِ وَكَسْرِ الرَّاءِ وفتح الياء
بمعنى وَيُرِيَ اللَّهُ فِرْعَوْنَ (مِنْهُمْ مَا كانُوا
يَحْذَرُونَ) وَذَلِكَ أَنَّهُمْ أُخْبِرُوا أَنَّ هَلَاكَهُمْ
عَلَى يَدَيْ رَجُلٍ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ فَكَانُوا عَلَى
وَجَلٍّ" مِنْهُمْ" فَأَرَاهُمُ اللَّهُ" مَا كانُوا
يَحْذَرُونَ" قَالَ قتاد: كَانَ حَازِيًا لِفِرْعَوْنَ-
وَالْحَازِي الْمُنَجِّمُ- قَالَ إِنَّهُ سَيُولَدُ فِي هَذِهِ
السَّنَةِ مَوْلُودٌ يَذْهَبُ بِمُلْكِكَ، فَأَمَرَ فِرْعَوْنُ
بِقَتْلِ الْوِلْدَانِ فِي تِلْكَ السَّنَةِ. وقد تقدم.
(13/249)
وَأَوْحَيْنَا إِلَى
أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ
فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي
إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ
(7) فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا
وَحَزَنًا إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا
خَاطِئِينَ (8) وَقَالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ
لِي وَلَكَ لَا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ
نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (9)
[سورة القصص (28): الآيات 7 الى 9]
وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذا خِفْتِ
عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخافِي وَلا
تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجاعِلُوهُ مِنَ
الْمُرْسَلِينَ (7) فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ
لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهامانَ
وَجُنُودَهُما كانُوا خاطِئِينَ (8) وَقالَتِ امْرَأَتُ
فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لَا تَقْتُلُوهُ عَسى
أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَهُمْ لَا
يَشْعُرُونَ (9)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى أَنْ
أَرْضِعِيهِ) قَدْ تَقَدَّمَ مَعْنَى الْوَحْيِ وَمَحَامِلِهِ.
وَاخْتُلِفَ فِي هَذَا الْوَحْيِ إِلَى أُمِّ مُوسَى،
فَقَالَتْ فِرْقَةٌ: كَانَ قَوْلًا فِي مَنَامِهَا وَقَالَ
قَتَادَةُ: كَانَ إِلْهَامًا وَقَالَتْ فِرْقَةٌ: كَانَ
بِمَلَكٍ يُمَثَّلُ لَهَا، قَالَ مُقَاتِلٌ أَتَاهَا جِبْرِيلُ
بِذَلِكَ، فَعَلَى هَذَا هُوَ وَحْيُ إِعْلَامٍ لَا إِلْهَامٍ
وَأَجْمَعَ الْكُلُّ عَلَى أَنَّهَا لَمْ تَكُنْ نَبِيَّةً،
وَإِنَّمَا إِرْسَالُ الْمَلَكِ إِلَيْهَا عَلَى نَحْوِ
تَكْلِيمِ الْمَلَكِ لِلْأَقْرَعِ وَالْأَبْرَصِ وَالْأَعْمَى
فِي الْحَدِيثِ الْمَشْهُورِ، خَرَّجَهُ الْبُخَارِيُّ
وَمُسْلِمٌ، وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ فِي سُورَةِ" بَرَاءَةٌ" «1»
وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا رُوِيَ مِنْ تَكْلِيمِ الْمَلَائِكَةِ
لِلنَّاسِ مِنْ غَيْرِ نُبُوَّةٍ، وَقَدْ سَلَّمَتْ عَلَى
عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ فَلَمْ يَكُنْ بِذَلِكَ نَبِيًّا
وَاسْمُهَا أَيَارْخَا وَقِيلَ أَيَارْخَتْ فِيمَا ذَكَرَ
السُّهَيْلِيُّ. وَقَالَ الثَّعْلَبِيُّ: وَاسْمُ أُمِّ مُوسَى
لَوْحَا «2» بِنْتُ هَانِدَ بْنِ لَاوَى بْنِ يَعْقُوبَ." أَنْ
أَرْضِعِيهِ" وَقَرَأَ عمر ابن عبد العزير:" أَنْ أَرْضِعِيهِ"
بِكَسْرِ النُّونِ وَأَلِفِ وَصْلٍ، حَذَفَ هَمْزَةَ أَرْضِعْ
تَخْفِيفًا ثُمَّ كَسَرَ النُّونَ لِالْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ
قَالَ مُجَاهِدٌ: وَكَانَ الْوَحْيُ بِالرَّضَاعِ قَبْلَ
الْوِلَادَةِ. وَقَالَ غَيْرُهُ بَعْدَهَا. قَالَ السُّدِّيُّ:
لَمَّا وَلَدَتْ أُمُّ مُوسَى أُمِرَتْ أَنْ تُرْضِعَهُ
عَقِيبَ الْوِلَادَةِ وَتَصْنَعَ بِهِ بِمَا فِي الْآيَةِ،
لِأَنَّ الْخَوْفَ كَانَ عَقِيبَ الْوِلَادَةِ وَقَالَ ابْنُ
جُرَيْجٍ: أُمِرَتْ بِإِرْضَاعِهِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ فِي
بُسْتَانٍ، فَإِذَا خَافَتْ أَنْ يَصِيحَ- لِأَنَّ لَبَنَهَا
لَا يَكْفِيهِ- صَنَعَتْ بِهِ هَذَا. وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ
إِلَّا أَنَّ الْآخَرَ يُعَضِّدُهُ قَوْلُهُ:" فَإِذا خِفْتِ
عَلَيْهِ" وَ" إِذَا" لِمَا يُسْتَقْبَلُ مِنَ الزَّمَانِ،
فَيُرْوَى أَنَّهَا
__________
(1). راجع ج 8 ص 188 وما بعدها طبعه أولى أو ثانية. [ ..... ]
(2). وقيل في اسمها أيضا: يوخابذ. وقيل: يوخابيل، وقيل غير
ذلك.
(13/250)
اتَّخَذَتْ لَهُ تَابُوتًا مِنْ بَرْدِيٍّ
وَقَيَّرَتْهُ بِالْقَارِ مِنْ دَاخِلِهِ، وَوَضَعَتْ فِيهِ
مُوسَى وَأَلْقَتْهُ فِي نِيلِ مِصْرَ. وَقَدْ مَضَى خَبَرُهُ
فِي" طه «1» " قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ
لَمَّا كَثُرُوا بِمِصْرَ اسْتَطَالُوا عَلَى النَّاسِ،
وَعَمِلُوا بِالْمَعَاصِي، فَسَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْهِمِ
الْقِبْطَ، وَسَامُوهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ، إِلَى أَنْ
نَجَّاهُمُ اللَّهُ عَلَى يَدِ مُوسَى قَالَ وَهْبٌ: بَلَغَنِي
أَنَّ فِرْعَوْنَ ذَبَحَ فِي طَلَبِ مُوسَى سَبْعِينَ أَلْفَ
وَلِيدٍ وَيُقَالُ: تِسْعُونَ أَلْفًا وَيُرْوَى أَنَّهَا
حِينَ اقْتَرَبَتْ وَضَرَبَهَا الطَّلْقُ، وَكَانَتْ بَعْضُ
الْقَوَابِلِ الْمُوَكَّلَاتِ بِحَبَالَى بَنِي إِسْرَائِيلَ
مُصَافِيَةً لَهَا، فَقَالَتْ: لِيَنْفَعْنِي حُبُّكِ
الْيَوْمَ، فَعَالَجَتْهَا فَلَمَّا وَقَعَ إِلَى الْأَرْضِ
هَالَهَا نُورٌ بَيْنَ عَيْنَيْهِ، وَارْتَعَشَ كُلُّ مِفْصَلٍ
مِنْهَا، وَدَخَلَ حُبُّهُ قَلْبَهَا، ثُمَّ قَالَتْ: مَا
جِئْتُكِ إِلَّا لِأَقْتُلَ مَوْلُودَكِ وَأُخْبِرَ
فِرْعَوْنَ، وَلَكِنِّي وَجَدْتُ لِابْنِكِ حُبًّا مَا
وَجَدْتُ مِثْلَهُ قَطُّ، فَاحْفَظِيهِ، فَلَمَّا خَرَجَتْ
جَاءَ عُيُونُ فِرْعَوْنَ فَلَفَّتْهُ فِي خِرْقَةٍ
وَوَضَعَتْهُ فِي تَنُّورٍ مَسْجُورٍ نَارًا لَمْ تَعْلَمْ مَا
تَصْنَعُ لَمَّا طَاشَ عَقْلُهَا، فَطَلَبُوا فَلَمْ يَلْفَوْا
شَيْئًا، فَخَرَجُوا وَهِيَ لَا تَدْرِي مَكَانَهُ، فَسَمِعَتْ
بُكَاءَهُ مِنَ التَّنُّورِ، وَقَدْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْهِ
النَّارَ بَرْدًا وَسَلَامًا. قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَلا
تَخافِي) فيه جهان: أَحَدُهُمَا- لَا تَخَافِي عَلَيْهِ
الْغَرَقَ، قَالَهُ ابْنُ زَيْدٍ الثَّانِي- لَا تَخَافِي
عَلَيْهِ الضَّيْعَةَ، قَالَهُ يَحْيَى بْنُ سَلَّامٍ. (وَلا
تَحْزَنِي) فِيهِ أَيْضًا وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا- لَا
تَحْزَنِي لِفِرَاقِهِ، قَالَهُ ابْنُ زَيْدٍ الثَّانِي- لَا
تَحْزَنِي أَنْ يُقْتَلَ، قَالَهُ يَحْيَى بْنُ سَلَّامٍ
فَقِيلَ: إِنَّهَا جَعَلَتْهُ فِي تَابُوتٍ طُولُهُ خَمْسَةُ
أَشْبَارٍ وَعَرْضُهُ خَمْسَةُ أَشْبَارٍ، وَجَعَلَتِ
الْمِفْتَاحَ مَعَ التَّابُوتِ وَطَرَحَتْهُ فِي الْيَمِّ
بَعْدَ أَنْ أَرْضَعَتْهُ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ. وَقَالَ
آخَرُونَ: ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَقَالَ آخَرُونَ ثَمَانِيَةُ
أَشْهُرٍ، فِي حِكَايَةِ الْكَلْبِيِّ. وَحُكِيَ أَنَّهُ
لَمَّا فَرَغَ النَّجَّارُ مِنْ صَنْعَةِ التَّابُوتِ نَمَّ
إِلَى فِرْعَوْنَ بِخَبَرِهِ، فَبَعَثَ مَعَهُ مَنْ
يَأْخُذُهُ، فَطَمَسَ اللَّهُ عَيْنَيْهِ وَقَلْبَهُ فَلَمْ
يَعْرِفِ الطَّرِيقَ، فَأَيْقَنَ أَنَّهُ الْمَوْلُودُ الَّذِي
يَخَافُ مِنْهُ فِرْعَوْنُ، فَآمَنَ مِنْ ذَلِكَ الْوَقْتِ،
وَهُوَ مُؤْمِنُ آلِ فِرْعَوْنَ، ذَكَرَهُ الْمَاوَرْدِيُّ.
وقال ابْنُ عَبَّاسٍ: فَلَمَّا تَوَارَى عَنْهَا نَدَّمَهَا
الشَّيْطَانُ وَقَالَتْ فِي نَفْسِهَا: لَوْ ذُبِحَ عِنْدِي
فَكَفَّنْتُهُ وَوَارَيْتُهُ لَكَانَ أَحَبَّ إِلَيَّ مِنْ
إِلْقَائِهِ فِي البحر،
__________
(1). راجع ج 11 ص 195 وما بعدها طبعه أولى أو ثانية.
(13/251)
فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى:" إِنَّا
رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ" أَيْ
إِلَى أَهْلِ مِصْرَ. حَكَى الْأَصْمَعِيُّ قَالَ سَمِعْتُ
جَارِيَةً أَعْرَابِيَّةً تُنْشِدُ وَتَقُولُ:
أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ لِذَنْبِي كُلِّهِ ... قَبَّلْتُ
إِنْسَانًا بِغَيْرِ حِلِّهِ
مِثْلَ الْغَزَالِ نَاعِمًا فِي دَلِّهِ ... فَانْتَصَفَ
اللَّيْلُ وَلَمْ أُصَلِّهِ
فَقُلْتُ: قَاتَلَكِ اللَّهُ مَا أفصحك! فقالت: أو يعد هَذَا
فَصَاحَةً مَعَ قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ
مُوسى أَنْ أَرْضِعِيهِ" الْآيَةَ، فَجَمَعَ فِي آيَةٍ
وَاحِدَةٍ بَيْنَ أَمْرَيْنِ وَنَهْيَيْنِ وَخَبَرَيْنِ
وَبِشَارَتَيْنِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: (فَالْتَقَطَهُ آلُ
فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً) لَمَّا كَانَ
الْتِقَاطُهُمْ إِيَّاهُ يُؤَدِّي إِلَى كَوْنِهِ لَهُمْ
عَدُوًّا وَحَزَنًا، فَاللَّامُ فِي" لِيَكُونَ" لَامُ
الْعَاقِبَةِ وَلَامُ الصَّيْرُورَةِ، لِأَنَّهُمْ إِنَّمَا
أَخَذُوهُ لِيَكُونَ لَهُمْ قُرَّةَ عَيْنٍ، فَكَانَ عَاقِبَةُ
ذَلِكَ أَنْ كَانَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا. فَذَكَرَ
الْحَالَ بِالْمَآلِ، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ:
وَلِلْمَنَايَا تُرَبِّي كُلُّ مُرْضِعَةٍ ... وَدُورُنَا
لِخَرَابِ الدَّهْرِ نَبْنِيهَا
وَقَالَ آخَرُ:
فَلِلْمَوْتِ تَغْذُو الْوَالِدَاتُ سِخَالَهَا ... كَمَا
لِخَرَابِ الدَّهْرِ تُبْنَى الْمَسَاكِنُ
أَيْ فَعَاقِبَةُ الْبِنَاءِ الْخَرَابُ وَإِنْ كَانَ فِي
الْحَالِ مَفْرُوحًا بِهِ وَالِالْتِقَاطُ وُجُودُ الشَّيْءِ
مِنْ غَيْرِ طَلَبٍ وَلَا إِرَادَةٍ، وَالْعَرَبُ تَقُولُ
لِمَا وَجَدَتْهُ مِنْ غَيْرِ طَلَبٍ وَلَا إِرَادَةٍ:
الْتَقَطَهُ الْتِقَاطًا. وَلَقِيتُ فُلَانًا الْتِقَاطًا.
قَالَ الرَّاجِزُ «1»:
وَمَنْهَلٍ وَرَدْتُهُ الْتِقَاطًا
وَمِنْهُ اللُّقَطَةُ. وَقَدْ مَضَى بَيَانُ ذَلِكَ مِنَ
الْأَحْكَامِ فِي سُورَةِ" يُوسُفَ" «2» بِمَا فِيهِ كِفَايَةٌ
وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ وَيَحْيَى وَالْمُفَضَّلُ وَحَمْزَةُ
وَالْكِسَائِيُّ وَخَلَفٌ" وَحُزْنًا" بِضَمِّ الحاء وسكون
الزاي. الباقون بِفَتْحِهِمَا وَاخْتَارَهُ أَبُو عُبَيْدٍ
وَأَبُو حَاتِمٍ قَالَ التفخيم «3» فيه. وهما لغتان مثل العدم
__________
(1). هو نقادة الأسدي، كما في اللسان مادة" لقط".
(2). راجع ج 9 ص 134 وما بعدها طبعه أولى أو ثانية.
(3). التفخيم في اصطلاح القراء: الفتح.
(13/252)
وَالْعُدْمِ، وَالسَّقَمِ وَالسُّقْمِ،
وَالرَّشَدِ وَالرُّشْدِ. (إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهامانَ) وَكَانَ
وَزِيرَهُ مِنَ الْقِبْطِ. (وَجُنُودَهُما كانُوا خاطِئِينَ)
أَيْ عَاصِينَ مُشْرِكِينَ آثِمِينَ. قَوْلُهُ تَعَالَى:
(وَقالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لَا
تَقْتُلُوهُ) يُرْوَى أَنَّ آسِيَةَ امْرَأَةَ فِرْعَوْنَ
رَأَتِ التَّابُوتَ يَعُومُ فِي الْبَحْرِ، فَأَمَرَتْ
بِسَوْقِهِ إِلَيْهَا وَفَتْحِهِ فَرَأَتْ فِيهِ صبيا صغيرا
فرحمته وأحبته، فقالت لفرعون:" قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ"
أَيْ هُوَ قُرَّةُ عَيْنٍ لي ولك ف" قُرَّتُ" خَبَرُ
ابْتِدَاءٍ مُضْمَرٍ، قَالَهُ الْكِسَائِيُّ وَقَالَ
النَّحَّاسُ: وَفِيهِ وَجْهٌ آخَرُ بَعِيدٌ ذَكَرَهُ أَبُو
إِسْحَاقَ، [قَالَ «1»]: يَكُونُ رَفْعًا بِالِابْتِدَاءِ
وَالْخَبَرُ" لَا تَقْتُلُوهُ" وَإِنَّمَا بَعُدَ لِأَنَّهُ
يَصِيرُ الْمَعْنَى أَنَّهُ مَعْرُوفٌ بِأَنَّهُ قُرَّةُ
عَيْنٍ. وَجَوَازُهُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى: إِذَا كَانَ
قُرَّةَ عَيْنٍ لِي وَلَكَ فَلَا تَقْتُلُوهُ. وَقِيلَ: تَمَّ
الْكَلَامُ عِنْدَ قَوْلِهِ:" وَلَكَ". النَّحَّاسُ:
وَالدَّلِيلُ عَلَى هَذَا أَنَّ فِي قِرَاءَةِ عبد الله بن
مسعود" وقالت امرأت فرعون لا تقتلوه قرت عَيْنٍ لِي وَلَكَ".
وَيَجُوزُ النَّصْبُ بِمَعْنَى لَا تَقْتُلُوا قُرَّةَ عَيْنٍ
لِي وَلَكَ. وَقَالَتْ:" لَا تَقْتُلُوهُ" وَلَمْ تَقُلْ لَا
تَقْتُلْهُ فَهِيَ تُخَاطِبُ فِرْعَوْنَ كَمَا يُخَاطَبُ
الْجَبَّارُونَ، وَكَمَا يُخْبِرُونَ عَنْ أَنْفُسِهِمْ.
وَقِيلَ قَالَتْ" لَا تَقْتُلُوهُ" فَإِنَّ اللَّهَ أَتَى بِهِ
مِنْ أَرْضٍ أُخْرَى وَلَيْسَ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ. (عَسى
أَنْ يَنْفَعَنا) فَنُصِيبُ مِنْهُ خَيْرًا (أَوْ نَتَّخِذَهُ
وَلَداً) وَكَانَتْ لَا تَلِدُ، فَاسْتَوْهَبَتْ مُوسَى مِنْ
فِرْعَوْنَ فَوَهَبَهُ لَهَا، وَكَانَ فِرْعَوْنُ لَمَّا رَأَى
الرُّؤْيَا وَقَصَّهَا عَلَى كَهَنَتِهِ وَعُلَمَائِهِ- عَلَى
مَا تَقَدَّمَ- قَالُوا لَهُ إِنَّ غُلَامًا مِنْ بَنِي
إِسْرَائِيلَ يُفْسِدُ مُلْكَكَ، فَأَخَذَ بَنِي إِسْرَائِيلَ
بِذَبْحِ الْأَطْفَالِ، فَرَأَى أَنَّهُ يَقْطَعُ نَسْلَهُمْ
فَعَادَ يَذْبَحُ عَامًا وَيَسْتَحْيِي عَامًا، فَوُلِدَ
هَارُونُ فِي عَامِ الِاسْتِحْيَاءِ، وَوُلِدَ مُوسَى فِي
عَامِ الذَّبْحِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ)
هَذَا ابْتِدَاءُ كَلَامٍ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، أَيْ وَهُمْ
لَا يَشْعُرُونَ أَنَّ هَلَاكَهُمْ بِسَبَبِهِ وَقِيلَ: هُوَ
مِنْ كَلَامِ الْمَرْأَةِ، أَيْ وَبَنُو إِسْرَائِيلَ لَا
يَدْرُونَ أَنَّا الْتَقَطْنَاهُ، وَلَا يَشْعُرُونَ إِلَّا
أَنَّهُ وَلَدُنَا. وَاخْتَلَفَ الْمُتَأَوِّلُونَ فِي
الْوَقْتِ الَّذِي قالت فيه امرأة فرعون" قُرَّتُ عَيْنٍ لِي
وَلَكَ" فَقَالَتْ فِرْقَةٌ: كَانَ ذَلِكَ عِنْدَ الْتِقَاطِهِ
التَّابُوتَ لَمَّا أَشْعَرَتْ فِرْعَوْنَ بِهِ،
__________
(1). الزيادة من" إعراب القرآن" للنحاس.
(13/253)
وَأَصْبَحَ فُؤَادُ
أُمِّ مُوسَى فَارِغًا إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلَا
أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ
(10) وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ
جُنُبٍ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (11) وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ
الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى
أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ
(12) فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا
وَلَا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ
وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (13) وَلَمَّا بَلَغَ
أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ
نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (14)
وَلَمَّا أَعْلَمَتْهُ سَبَقَ إِلَى
فَهْمِهِ أَنَّهُ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَأَنَّ ذَلِكَ
قُصِدَ بِهِ لِيَتَخَلَّصَ مِنَ الذَّبْحِ فَقَالَ: عَلَيَّ
بِالذَّبَّاحِينَ، فَقَالَتِ امْرَأَتُهُ مَا ذُكِرَ، فَقَالَ
فِرْعَوْنُ: أَمَّا لِي فَلَا. قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" لَوْ قَالَ فِرْعَوْنُ نَعَمْ
لَآمَنَ بِمُوسَى وَلَكَانَ قُرَّةَ عَيْنٍ لَهُ" وَقَالَ
السُّدِّيُّ: بَلْ رَبَّتْهُ حَتَّى دَرَجَ، فَرَأَى
فِرْعَوْنُ فِيهِ شَهَامَةً وَظَنَّهُ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ
وَأَخَذَهُ فِي يَدِهِ، فَمَدَّ مُوسَى يده ونتف لحية فرعون
فهم حينئذ يذبحه، وَحِينَئِذٍ خَاطَبَتْهُ بِهَذَا،
وَجَرَّبَتْهُ لَهُ فِي الْيَاقُوتَةِ وَالْجَمْرَةِ،
فَاحْتَرَقَ لِسَانُهُ وَعَلِقَ الْعُقْدَةَ عَلَى مَا تقدم
في" طه" «1» قال الفراء: معت مُحَمَّدَ بْنَ مَرْوَانَ الَّذِي
يُقَالُ لَهُ السُّدِّيُّ يَذْكُرُ عَنِ الْكَلْبِيُّ عَنْ
أَبِي صَالِحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أنه قال: إنما قالت"
قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لَا" ثُمَّ قَالَتْ:" تَقْتُلُوهُ"
قَالَ الْفَرَّاءُ: وَهُوَ لَحْنٌ، قَالَ ابْنُ
الْأَنْبَارِيِّ: وَإِنَّمَا حُكِمَ عَلَيْهِ بِاللَّحْنِ
لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَكَانَ تَقْتُلُونَهُ
بِالنُّونِ، لِأَنَّ الْفِعْلَ الْمُسْتَقْبَلَ مَرْفُوعٌ
حَتَّى يَدْخُلَ عَلَيْهِ النَّاصِبُ أَوِ الْجَازِمُ،
فَالنُّونُ فِيهِ عَلَامَةُ الرَّفْعِ قَالَ الْفَرَّاءُ:
وَيُقَوِّيكَ عَلَى رَدِّهِ قِرَاءَةُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
مَسْعُودٍ" وقالت امرأت فِرْعَوْنَ لَا تَقْتُلُوهُ قُرَّةُ
عَيْنٍ لِي وَلَكَ" بتقديم" لا تَقْتُلُوهُ".
[سورة القصص (28): الآيات 10 الى 14]
وَأَصْبَحَ فُؤادُ أُمِّ مُوسى فارِغاً إِنْ كادَتْ لَتُبْدِي
بِهِ لَوْلا أَنْ رَبَطْنا عَلى قَلْبِها لِتَكُونَ مِنَ
الْمُؤْمِنِينَ (10) وَقالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ
بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (11) وَحَرَّمْنا
عَلَيْهِ الْمَراضِعَ مِنْ قَبْلُ فَقالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ
عَلى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ
ناصِحُونَ (12) فَرَدَدْناهُ إِلى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ
عَيْنُها وَلا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ
حَقٌّ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (13) وَلَمَّا
بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوى آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً
وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (14)
__________
(1). راجع ج 11 ص 192 وما بعدها طبعه أولى أو ثانية.
(13/254)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَأَصْبَحَ فُؤادُ
أُمِّ مُوسى فارِغاً) قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ وَابْنُ عَبَّاسٍ
وَالْحَسَنُ وَمُجَاهِدٌ وَعِكْرِمَةٌ وَقَتَادَةُ
وَالضَّحَّاكُ وَأَبُو عِمْرَانَ الْجَوْنِيُّ وَأَبُو
عُبَيْدَةَ:" فارِغاً" أَيْ خَالِيًا مِنْ ذِكْرِ كُلِّ شي فِي
الدُّنْيَا إِلَّا مِنْ ذِكْرِ مُوسَى وَقَالَ الْحَسَنُ
أَيْضًا وَابْنُ إِسْحَاقَ وَابْنُ زَيْدٍ:" فارِغاً" مِنَ
الْوَحْيِ إِذْ أَوْحَى إِلَيْهَا حِينَ أُمِرَتْ أن تلقيه في
البحر" لا تَخافِي وَلا تَحْزَنِي" وَالْعَهْدُ الَّذِي
عَهِدَهُ إِلَيْهَا أَنْ يَرُدَّهُ وَيَجْعَلَهُ مِنَ
الْمُرْسَلِينَ، فَقَالَ لَهَا الشَّيْطَانُ: يَا أُمَّ مُوسَى
كَرِهْتِ أَنْ يَقْتُلَ فِرْعَوْنُ مُوسَى فَغَرَّقْتِيهِ
أَنْتِ! ثُمَّ بَلَّغَهَا أَنَّ وَلَدَهَا وَقَعَ فِي يَدِ
فِرْعَوْنَ فَأَنْسَاهَا عِظَمُ الْبَلَاءِ مَا كَانَ مِنْ
عَهْدِ اللَّهِ إِلَيْهَا وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ:" فارِغاً"
مِنَ الْغَمِّ وَالْحُزْنِ لِعِلْمِهَا أَنَّهُ لَمْ يَغْرَقْ،
وَقَالَهُ الْأَخْفَشُ أَيْضًا وَقَالَ الْعَلَاءُ بْنُ
زِيَادٍ:" فارِغاً" نَافِرًا الْكِسَائِيُّ: نَاسِيًا ذَاهِلًا
وَقِيلَ: وَالِهًا، رَوَاهُ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ ابْنُ
الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ: هُوَ ذَهَابُ الْعَقْلِ،
وَالْمَعْنَى أَنَّهَا حِينَ سَمِعَتْ بِوُقُوعِهِ فِي يَدِ
فِرْعَوْنَ طَارَ عَقْلُهَا مِنْ فَرْطِ الْجَزَعِ
وَالدَّهَشِ، وَنَحْوَهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَأَفْئِدَتُهُمْ
هَواءٌ" أَيْ جَوْفٌ لَا عُقُولَ لَهَا كَمَا تَقَدَّمَ فِي
سُورَةِ" إِبْرَاهِيمَ" «1». وَذَلِكَ أَنَّ الْقُلُوبَ
مَرَاكِزُ الْعُقُولِ، أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى:"
فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِها" وَيَدُلُّ
عَلَيْهِ قِرَاءَةُ مَنْ قَرَأَ:" فَزِعًا". النَّحَّاسُ:
أَصَحُّ هَذِهِ الْأَقْوَالِ الْأَوَّلُ، وَالَّذِينَ قَالُوهُ
أَعْلَمُ بِكِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، فإذا كان فارغا من
كل شي إِلَّا مِنْ ذِكْرِ مُوسَى فَهُوَ فَارِغٌ مِنَ
الْوَحْيِ. وَقَوْلُ أَبِي عُبَيْدَةَ فَارِغًا مِنَ الْغَمِّ
غَلَطٌ قَبِيحٌ، لِأَنَّ بَعْدَهُ" إِنْ كادَتْ لَتُبْدِي بِهِ
لَوْلا أَنْ رَبَطْنا عَلى قَلْبِها". رَوَى سَعِيدُ بْنُ
جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كادت تقول وا ابناه! وقرا
فضالة ابن عُبَيْدٍ الْأَنْصَارِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
وَمُحَمَّدُ بْنُ السَّمَيْقَعِ وَأَبُو الْعَالِيَةِ وَابْنُ
مُحَيْصِنٍ" فَزِعًا" بِالْفَاءِ وَالْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ
مِنَ الْفَزَعِ، أَيْ خَائِفَةٌ عَلَيْهِ أَنْ يُقْتَلَ ابْنُ
عَبَّاسٍ:" قَرِعًا" بِالْقَافِ وَالرَّاءِ وَالْعَيْنِ
الْمُهْمَلَتَيْنِ، وَهِيَ رَاجِعَةٌ إِلَى قِرَاءَةِ
الْجَمَاعَةِ" فارِغاً" وَلِذَلِكَ قِيلَ لِلرَّأْسِ الَّذِي
لَا شَعْرَ عَلَيْهِ: أَقْرَعُ، لِفَرَاغِهِ مِنَ الشَّعْرِ
وَحَكَى قُطْرُبٌ أَنَّ بَعْضُ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَرَأَ:" فِرْغًا" بِالْفَاءِ
وَالرَّاءِ وَالْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ مِنْ غَيْرِ أَلِفٍ،
وَهُوَ كَقَوْلِكَ: هَدَرًا وَبَاطِلًا، يقال:
__________
(1). راجع ج 9 ص 377 وما بعدها طبعه أولى أو ثانية.
(13/255)
دِمَاؤُهُمْ بَيْنَهُمْ فِرْغٌ أَيْ
هَدَرٌ، وَالْمَعْنَى بَطَلَ قَلْبُهَا وَذَهَبَ وَبَقِيَتْ
لَا قَلْبَ لَهَا مِنْ شِدَّةِ مَا وَرَدَ عَلَيْهَا وَفِي
قَوْلِهِ تَعَالَى:" وَأَصْبَحَ" وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا-
أَنَّهَا أَلْقَتْهُ لَيْلًا فَأَصْبَحَ فُؤَادُهَا فِي
النَّهَارِ فَارِغًا. الثَّانِي- أَلْقَتْهُ نَهَارًا
وَمَعْنَى:" وَأَصْبَحَ" أَيْ صَارَ، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ:
مَضَى الْخُلَفَاءُ بِالْأَمْرِ الرَّشِيدِ ... وَأَصْبَحَتِ
الْمَدِينَةُ لِلْوَلِيدِ
(إِنْ كادَتْ) أَيْ إِنَّهَا كَادَتْ، فَلَمَّا حُذِفَتِ
الْكِنَايَةُ سُكِّنَتِ النُّونُ فَهِيَ" إِنْ" الْمُخَفَّفَةُ
وَلِذَلِكَ دَخَلَتِ اللَّامُ فِي" لَتُبْدِي بِهِ" أَيْ
لَتُظْهِرَ أَمْرَهُ، مِنْ بَدَا يَبْدُو إِذَا ظَهَرَ قَالَ
ابْنُ عَبَّاسٍ: أي تصيح عند إلقائه: وا ابناه السُّدِّيُّ:
كَادَتْ تَقُولُ لَمَّا حُمِلَتْ لِإِرْضَاعِهِ وَحَضَانَتِهِ
هُوَ ابْنِي وَقِيلَ: إِنَّهُ لَمَّا شَبَّ سَمِعَتِ الناس
يقولون موسى بن فِرْعَوْنَ، فَشَقَّ عَلَيْهَا وَضَاقَ
صَدْرُهَا، وَكَادَتْ تَقُولُ هُوَ ابْنِي وَقِيلَ: الْهَاءُ
فِي" بِهِ" عَائِدَةٌ إلى الوحي تقديره: إن كانت لَتُبْدِي
بِالْوَحْيِ الَّذِي أَوْحَيْنَاهُ إِلَيْهَا أَنْ نَرُدَّهُ
عَلَيْهَا وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ:
كَادَتْ تقول أنا أمه وقال الفراء: إن كانت لتبدي باسمه لضيق
صدرها. (لَوْلا أَنْ رَبَطْنا عَلى قَلْبِها) قَالَ قَتَادَةُ:
بِالْإِيمَانِ. السُّدِّيُّ: بِالْعِصْمَةِ. وَقِيلَ:
بِالصَّبْرِ. وَالرَّبْطُ عَلَى الْقَلْبِ: إِلْهَامُ
الصَّبْرِ. (لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) أَيْ مِنَ
الْمُصَدِّقِينَ بِوَعْدِ اللَّهِ حِينَ قَالَ لَهَا:" إِنَّا
رَادُّوهُ إِلَيْكِ". وَقَالَ" لَتُبْدِي بِهِ" وَلَمْ يَقُلْ:
لَتُبْدِيهِ، لِأَنَّ حُرُوفَ الصِّفَاتِ قَدْ تُزَادُ فِي
الْكَلَامِ، تَقُولُ: أَخَذْتُ الْحَبْلَ وَبِالْحَبْلِ.
وَقِيلَ: أَيْ لَتُبْدِي الْقَوْلَ بِهِ. قَوْلُهُ تَعَالَى:
(وَقالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ) أَيْ قَالَتْ أُمُّ مُوسَى
لِأُخْتِ مُوسَى: اتَّبِعِي أَثَرَهُ حَتَّى تَعْلَمِي
خَبَرَهُ. وَاسْمُهَا مَرْيَمُ بِنْتُ عِمْرَانَ، وَافَقَ
اسْمُهَا اسْمَ مَرْيَمَ أُمِّ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ،
ذَكَرَهُ السُّهَيْلِيُّ وَالثَّعْلَبِيُّ وَذَكَرَ
الْمَاوَرْدِيُّ عَنِ الضَّحَّاكِ: أَنَّ اسْمَهَا كَلْثَمَةُ
وَقَالَ السُّهَيْلِيُّ: كُلْثُومُ، جَاءَ ذَلِكَ فِي حَدِيثٍ
رَوَاهُ الزُّبَيْرُ بْنُ بَكَّارٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِخَدِيجَةَ:"
أَشَعَرْتِ أَنَّ اللَّهَ زَوَّجَنِي مَعَكَ فِي الْجَنَّةِ
مَرْيَمَ بِنْتَ عِمْرَانَ وَكُلْثُومَ أُخْتَ مُوسَى
وَآسِيَةَ امْرَأَةَ فِرْعَوْنَ" فَقَالَتْ: اللَّهُ
أَخْبَرَكَ بِهَذَا؟ فَقَالَ:" نَعَمْ" فَقَالَتْ:
بِالرَّفَاءِ وَالْبَنِينَ. (فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ)
أَيْ بعد، قاله مُجَاهِدٌ وَمِنْهُ الْأَجْنَبِيُّ.
(13/256)
قَالَ الشَّاعِرُ «1»:
فَلَا تَحْرِمَنِّي نَائِلًا عَنْ جَنَابَةٍ ... فَإِنِّي
امْرُؤٌ وَسْطَ الْقِبَابِ غَرِيبُ
وَأَصْلُهُ عَنْ مَكَانٍ جُنُبٍ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ:"
عَنْ جُنُبٍ" أي عن جانب وقرا النعمان ابن سَالِمٍ:" عَنْ
جَانِبٍ" أَيْ عَنْ نَاحِيَةٍ وَقِيلَ: عَنْ شَوْقٍ، وَحَكَى
أَبُو عَمْرِو بْنُ الْعَلَاءِ أَنَّهَا لُغَةٌ لِجُذَامٍ،
يَقُولُونَ: جَنَبْتُ إِلَيْكَ أَيِ اشْتَقْتُ وَقِيلَ:" عَنْ
جُنُبٍ" أَيْ عَنْ مُجَانَبَةٍ لها منه فلم يعرفوا أنها منه
بِسَبِيلٍ وَقَالَ قَتَادَةُ: جَعَلَتْ تَنْظُرُ إِلَيْهِ
بِنَاحِيَةٍ [كَأَنَّهَا «2»] لَا تُرِيدُهُ، وَكَانَ
يَقْرَأُ:" عَنْ جَنْبٍ" بِفَتْحِ الْجِيمِ وَإِسْكَانِ
النُّونِ. (وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ) أَنَّهَا أُخْتُهُ
لِأَنَّهَا كَانَتْ تَمْشِي عَلَى سَاحِلِ الْبَحْرِ حَتَّى
رَأَتْهُمْ قَدْ أَخَذُوهُ. قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَحَرَّمْنا
عَلَيْهِ الْمَراضِعَ مِنْ قَبْلُ) أَيْ مَنَعْنَاهُ مِنْ
الِارْتِضَاعِ مِنْ قَبْلُ، أَيْ مِنْ قَبْلِ مَجِيءِ أُمِّهِ
وَأُخْتِهِ. وَ" الْمَراضِعَ" جَمْعُ مُرْضِعٍ ومن قال مراضيع
فهو جمع مرضاع، ومفعال يَكُونُ لِلتَّكْثِيرِ، وَلَا تَدْخُلُ
الْهَاءُ فِيهِ فَرْقًا بَيْنَ الْمُؤَنَّثِ وَالْمُذَكَّرِ
لِأَنَّهُ لَيْسَ بِجَارٍ عَلَى الْفِعْلِ، وَلَكِنْ مَنْ
قَالَ مِرْضَاعَةٌ جَاءَ بِالْهَاءِ لِلْمُبَالَغَةِ، كَمَا
يُقَالُ مِطْرَابَةٌ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَا يُؤْتَى
بِمُرْضِعٍ فَيَقْبَلُهَا وَهَذَا تَحْرِيمُ مَنْعٍ لَا
تَحْرِيمُ شَرْعٍ، قَالَ امْرُؤُ الْقَيْسِ:
جَالَتْ لِتَصْرَعَنِي فَقُلْتُ لَهَا اقْصُرِي ... إِنِّي
امْرُؤٌ صَرْعِي عَلَيْكِ حَرَامُ
«3» أَيْ مُمْتَنِعٌ. فَلَمَّا رَأَتْ أُخْتُهُ ذَلِكَ
قَالَتْ: (هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ
لَكُمْ) الْآيَةَ. فَقَالُوا لَهَا عِنْدَ قَوْلِهَا:" وَهُمْ
لَهُ ناصِحُونَ" وَمَا يُدْرِيكِ؟ لَعَلَّكِ تَعْرِفِينَ
أَهْلَهُ؟ فَقَالَتْ: لَا، وَلَكِنَّهُمْ يَحْرِصُونَ عَلَى
مَسَرَّةِ الْمَلِكِ، وَيَرْغَبُونَ فِي ظِئْرِهِ. وَقَالَ
السُّدِّيُّ وَابْنُ جُرَيْجٍ: قِيلَ لَهَا لَمَّا قَالَتْ:"
وَهُمْ لَهُ ناصِحُونَ" قَدْ عَرَفْتِ أَهْلَ هَذَا الصَّبِيِّ
فَدُلِّينَا عَلَيْهِمْ، فَقَالَتْ: أَرَدْتُ وَهُمْ
لِلْمَلِكِ نَاصِحُونَ فَدَلَّتْهُمْ عَلَى أُمِّ مُوسَى،
فَانْطَلَقَتْ إِلَيْهَا بِأَمْرِهِمْ فَجَاءَتْ بِهَا،
وَالصَّبِيُّ عَلَى يَدِ فِرْعَوْنَ يُعَلِّلُهُ شَفَقَةً
عَلَيْهِ، وَهُوَ يَبْكِي يَطْلُبُ الرَّضَاعَ، فَدَفَعَهُ
إِلَيْهَا، فلما وجد الصبي
__________
(1). هو علقمة بن عبده، قاله يخاطب به الحرث بن جبلة يمدحه،
وكان قد أسر أخاه شأسا- وأراد بالنائل إطلاق أخيه شأس من سجنه-
فأطلق له أخاه شأسا ومن أسر معه من بني تميم.
(2). الزيادة من كتب التفسير.
(3). جالت: قلقت. يقول: ذهبت الناقة بقلقها ونشاطها لتصرعني
فلم تقدر على ذلك لحذقي بالركوب ومعرفتي به.
(13/257)
رِيحَ أُمِّهِ قَبِلَ ثَدْيَهَا. وَقَالَ
ابْنُ زَيْدٍ اسْتَرَابُوهَا حِينَ قَالَتْ ذَلِكَ فَقَالَتْ
وَهُمْ لِلْمَلِكِ نَاصِحُونَ. وَقِيلَ: إِنَّهَا لَمَّا
قَالَتْ:" هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ
لَكُمْ" وَكَانُوا يُبَالِغُونَ فِي طَلَبِ مُرْضِعَةٍ
يَقْبَلُ ثَدْيَهَا فَقَالُوا: مَنْ هِيَ؟ فَقَالَتْ: أُمِّي،
فَقِيلَ: لَهَا لَبَنٌ؟ قَالَتْ: نعم! لبن هرون- وَكَانَ
وُلِدَ فِي سَنَةٍ لَا يُقْتَلُ فِيهَا الصِّبْيَانُ-
فَقَالُوا صَدَقْتِ وَاللَّهِ." وَهُمْ لَهُ ناصِحُونَ" أَيْ
فِيهِمْ شَفَقَةٌ وَنُصْحٌ، فَرُوِيَ أَنَّهُ قِيلَ لِأُمِّ
مُوسَى حِينَ ارْتَضَعَ مِنْهَا: كَيْفَ ارْتَضَعَ مِنْكِ
وَلَمْ يَرْتَضِعْ مِنْ غَيْرِكِ؟ فَقَالَتْ: إِنِّي امْرَأَةٌ
طَيِّبَةُ الرِّيحِ طَيِّبَةُ اللَّبَنِ، لَا أَكَادُ أُوتَى
بِصَبِيٍّ إِلَّا ارْتَضَعَ مِنِّي قَالَ أَبُو عِمْرَانَ
الْجَوْنِيُّ: وَكَانَ فِرْعَوْنُ يُعْطِي أُمَّ مُوسَى كُلَّ
يَوْمٍ دِينَارًا. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ
كَيْفَ حَلَّ لَهَا أَنْ تَأْخُذَ الْأَجْرَ عَلَى إِرْضَاعِ
وَلَدِهَا؟ قُلْتُ: مَا كَانَتْ تَأْخُذُهُ عَلَى أَنَّهُ
أَجْرٌ عَلَى الرَّضَاعِ، وَلَكِنَّهُ مَالُ حَرْبِيٍّ
تَأْخُذُهُ عَلَى وَجْهِ الِاسْتِبَاحَةِ. قَوْلُهُ تَعَالَى:
(فَرَدَدْناهُ إِلى أُمِّهِ) أَيْ رَدَدْنَاهُ وَقَدْ عَطَفَ
اللَّهُ قَلْبَ الْعَدُوِّ عَلَيْهِ، وَوَفَّيْنَا لَهَا
بِالْوَعْدِ. (كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها) أَيْ بِوَلَدِهَا. (وَلا
تَحْزَنَ) أَيْ بِفِرَاقِ وَلَدِهَا. (وَلِتَعْلَمَ أَنَّ
وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ) أَيْ لِتَعْلَمَ وُقُوعَهُ فَإِنَّهَا
كَانَتْ عَالِمَةً بِأَنَّ رَدَّهُ إِلَيْهَا سَيَكُونُ.
(وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ) يَعْنِي أَكْثَرَ آلِ
فِرْعَوْنَ لَا يَعْلَمُونَ، أَيْ كانوا في غفلة عن التقرير
وشر القضاء. وقيل: أي أكثر الناس يَعْلَمُونَ أَنَّ وَعْدَ
اللَّهِ فِي كُلِّ مَا وَعَدَ حَقٌّ. قَوْلُهُ تَعَالَى:
(وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوى آتَيْناهُ حُكْماً
وَعِلْماً) قَدْ مَضَى الْكَلَامُ فِي الْأَشُدِّ فِي"
الْأَنْعَامِ" «1». وَقَوْلُ رَبِيعَةَ وَمَالِكٍ أَنَّهُ
الْحُلُمُ أَوْلَى مَا قِيلَ فِيهِ، لِقَوْلِهِ تعالى" حَتَّى
إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ" وذلك أَوَّلُ الْأَشُدِّ،
وَأَقْصَاهُ أَرْبَعٌ وَثَلَاثُونَ سَنَةً، وَهُوَ قَوْلُ
سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ." وَاسْتَوى " قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ:
بَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً وَالْحُكْمُ: الْحِكْمَةُ قَبْلَ
النُّبُوَّةِ وَقِيلَ: الْفِقَهُ فِي الدِّينِ وَقَدْ مَضَى
بَيَانُهَا في" البقرة" «2» وغيرها والعلم الفهم قَوْلِ
السُّدِّيِّ. وَقِيلَ: النُّبُوَّةُ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ:
الْفِقْهُ. محمد ابن إِسْحَاقَ: أَيِ الْعِلْمُ بِمَا فِي
دِينِهِ وَدِينِ آبَائِهِ، وَكَانَ لَهُ تِسْعَةٌ مِنْ بَنِي
إِسْرَائِيلَ يَسْمَعُونَ مِنْهُ، وَيَقْتَدُونَ بِهِ،
وَيَجْتَمِعُونَ إِلَيْهِ، وَكَانَ هذا قبل النبوة.
__________
(1). راجع ج 7 ص 134 وما بعدها طبعه أولى أو ثانية.
(2). راجع ج 2 ص 131 طبعه ثانية.
(13/258)
وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ
عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا
رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلَانِ هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ
عَدُوِّهِ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى
الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ
قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ
مُبِينٌ (15) قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ
لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (16)
قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا
لِلْمُجْرِمِينَ (17) فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خَائِفًا
يَتَرَقَّبُ فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالْأَمْسِ
يَسْتَصْرِخُهُ قَالَ لَهُ مُوسَى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ
(18) فَلَمَّا أَنْ أَرَادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ
عَدُوٌّ لَهُمَا قَالَ يَا مُوسَى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي
كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالْأَمْسِ إِنْ تُرِيدُ إِلَّا أَنْ
تَكُونَ جَبَّارًا فِي الْأَرْضِ وَمَا تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ
مِنَ الْمُصْلِحِينَ (19)
(وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) أَيْ
كَمَا جَزَيْنَا أُمَّ مُوسَى لَمَّا اسْتَسْلَمَتْ لِأَمْرِ
اللَّهِ، وَأَلْقَتْ وَلَدَهَا فِي الْبَحْرِ، وَصَدَّقَتْ
بِوَعْدِ اللَّهِ، فَرَدَدْنَا وَلَدَهَا إِلَيْهَا
بِالتُّحَفِ وَالطُّرَفِ وَهِيَ آمِنَةٌ، ثُمَّ وَهَبْنَا لَهُ
الْعَقْلَ وَالْحِكْمَةَ وَالنُّبُوَّةَ، وَكَذَلِكَ نَجْزِي
كُلَّ محسن،
[سورة القصص (28): الآيات 15 الى 19]
وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِها
فَوَجَدَ فِيها رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ
وَهذا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ
عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسى فَقَضى
عَلَيْهِ قالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ
مُضِلٌّ مُبِينٌ (15) قالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي
فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ
الرَّحِيمُ (16) قالَ رَبِّ بِما أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ
أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ (17) فَأَصْبَحَ فِي
الْمَدِينَةِ خائِفاً يَتَرَقَّبُ فَإِذَا الَّذِي
اسْتَنْصَرَهُ بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ قالَ لَهُ مُوسى
إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ (18) فَلَمَّا أَنْ أَرادَ أَنْ
يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُما قالَ يَا مُوسى
أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَما قَتَلْتَ نَفْساً بِالْأَمْسِ
إِنْ تُرِيدُ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ جَبَّاراً فِي الْأَرْضِ
وَما تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ (19)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلى حِينِ
غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِها) قِيلَ: لَمَّا عَرَفَ مُوسَى عَلَيْهِ
السَّلَامُ مَا هُوَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَقِّ فِي دِينِهِ،
عَابَ مَا عَلَيْهِ قَوْمُ فِرْعَوْنَ، وَفَشَا ذَلِكَ، مِنْهُ
فَأَخَافُوهُ فَخَافَهُمْ، فَكَانَ لَا يَدْخُلُ مَدِينَةَ
فِرْعَوْنَ إِلَّا خَائِفًا مُسْتَخْفِيًا وَقَالَ
السُّدِّيُّ: كَانَ مُوسَى فِي وَقْتِ هَذِهِ الْقِصَّةِ عَلَى
رَسْمِ التَّعَلُّقِ بِفِرْعَوْنَ، وَكَانَ يَرْكَبُ
مَرَاكِبَهُ، حَتَّى كان يدعى موسى بن فِرْعَوْنَ، فَرَكِبَ
فِرْعَوْنُ يَوْمًا وَسَارَ إِلَى مَدِينَةٍ مِنْ مَدَائِنِ
مِصْرَ يُقَالُ لَهَا مَنْفُ- قَالَ مُقَاتِلٌ عَلَى رَأْسِ
فَرْسَخَيْنِ مِنْ مِصْرَ- ثُمَّ عَلِمَ مُوسَى بِرُكُوبِ
فِرْعَوْنَ، فَرَكِبَ بَعْدَهُ وَلَحِقَ بِتِلْكَ الْقَرْيَةِ
فِي وَقْتِ
(13/259)
القائلة، وهو وقت الغفلة، قال ابْنُ
عَبَّاسٍ وَقَالَ أَيْضًا: هُوَ بَيْنَ الْعِشَاءِ
وَالْعَتَمَةِ. وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: بَلِ الْمَدِينَةُ
مِصْرُ نَفْسُهَا، وَكَانَ مُوسَى فِي هَذَا الْوَقْتِ قَدْ
أَظْهَرَ خِلَافَ فِرْعَوْنَ، وَعَابَ عَلَيْهِمْ عِبَادَةَ
فِرْعَوْنَ وَالْأَصْنَامِ، فَدَخَلَ مَدِينَةَ فِرْعَوْنَ
يَوْمًا عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا. قَالَ سَعِيدُ
بْنُ جُبَيْرٍ وَقَتَادَةُ: وَقْتَ الظَّهِيرَةِ وَالنَّاسُ
نِيَامٌ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: كَانَ فِرْعَوْنُ قَدْ نَابَذَ
مُوسَى وَأَخْرَجَهُ مِنَ الْمَدِينَةِ، وَغَابَ عَنْهَا
سِنِينَ، وَجَاءَ وَالنَّاسُ عَلَى غَفْلَةٍ بِنِسْيَانِهِمْ
لِأَمْرِهِ، وَبُعْدِ عَهْدِهِمْ بِهِ، وَكَانَ ذَلِكَ يَوْمَ
عِيدٍ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: طَلَبَ أَنْ يَدْخُلَ
الْمَدِينَةَ وَقْتَ غَفْلَةِ أَهْلِهَا، فَدَخَلَهَا حِينَ
عَلِمَ ذَلِكَ مِنْهُمْ، فَكَانَ مِنْهُ مِنْ قَتْلِ الرَّجُلِ
مِنْ قَبْلِ أَنْ يُؤْمَرَ بِقَتْلِهِ، فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ
فَغَفَرَ لَهُ وَيُقَالُ فِي الْكَلَامِ: دَخَلْتُ
الْمَدِينَةَ حِينَ غَفَلَ أَهْلُهَا، وَلَا يُقَالُ: عَلَى
حِينِ غَفَلَ أَهْلُهَا، فَدَخَلَتْ" عَلى " فِي هَذِهِ
الْآيَةِ لِأَنَّ الْغَفْلَةَ هِيَ الْمَقْصُودَةُ، فَصَارَ
هَذَا كَمَا تَقُولُ: جِئْتُ عَلَى غَفْلَةٍ، وَإِنْ شِئْتَ
قُلْتَ: جِئْتُ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ، وَكَذَا الْآيَةُ.
(فَوَجَدَ فِيها رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ هَذَا مِنْ
شِيعَتِهِ) وَالْمَعْنَى: إِذَا نَظَرَ إِلَيْهِمَا النَّاظِرُ
قَالَ هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ، أَيْ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ.
(وَهذا مِنْ عَدُوِّهِ) أَيْ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ.
(فَاسْتَغاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ) أَيْ طَلَبَ نَصْرَهُ
وَغَوْثَهُ، وَكَذَا قَالَ فِي الْآيَةِ بَعْدَهَا:" فَإِذَا
الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ" أَيْ
يَسْتَغِيثُ بِهِ عَلَى قِبْطِيٍّ آخَرَ وَإِنَّمَا أَغَاثَهُ
لِأَنَّ نَصْرَ الْمَظْلُومِ دِينٌ فِي الْمِلَلِ كُلِّهَا
عَلَى الْأُمَمِ، وَفَرْضٌ فِي جَمِيعِ الشَّرَائِعِ. قَالَ
قَتَادَةُ: أَرَادَ الْقِبْطِيُّ أَنْ يُسَخِّرَ
الْإِسْرَائِيلِيَّ لِيَحْمِلَ حَطَبًا لِمَطْبَخِ فِرْعَوْنَ
فَأَبَى عَلَيْهِ، فَاسْتَغَاثَ بِمُوسَى. قَالَ سَعِيدُ بْنُ
جُبَيْرٍ: وَكَانَ خَبَّازًا لفرعون. (فَوَكَزَهُ مُوسى) قَالَ
قَتَادَةُ: بِعَصَاهُ وَقَالَ مُجَاهِدٌ: بِكَفِّهِ، أَيْ
دَفَعَهُ وَالْوَكْزُ وَاللَّكْزُ وَاللَّهْزُ وَاللَّهْدُ
بِمَعْنًى وَاحِدٍ، وَهُوَ الضَّرْبُ بِجُمْعِ الْكَفِّ
مَجْمُوعًا كَعَقْدِ ثَلَاثَةٍ وَسَبْعِينَ وَقَرَأَ ابْنُ
مَسْعُودٍ:" فَلَكَزَهُ". وَقِيلَ: اللَّكْزُ فِي اللَّحْيِ
وَالْوَكْزُ عَلَى الْقَلْبِ. وَحَكَى الثَّعْلَبِيُّ أَنَّ
فِي مُصْحَفِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ" فَنَكَزَهُ"
بِالنُّونِ وَالْمَعْنَى وَاحِدٌ. وَقَالَ الْجَوْهَرِيُّ عَنْ
أَبِي عُبَيْدَةَ: اللَّكْزُ الضَّرْبُ بِالْجُمْعِ عَلَى
الصَّدْرِ. وَقَالَ أَبُو زَيْدٍ: فِي جَمِيعِ الْجَسَدِ،
وَاللَّهْزُ: الضَّرْبُ بِجُمْعِ الْيَدِ فِي الصَّدْرِ مِثْلُ
اللَّكْزِ، عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ أَيْضًا. وَقَالَ أَبُو
زَيْدٍ: هُوَ بِالْجُمْعِ فِي اللَّهَازِمِ وَالرَّقَبَةِ،
وَالرِّجْلُ مِلْهَزٌ بكسر الميم.
(13/260)
وَقَالَ الْأَصْمَعِيُّ: نَكَزَهُ، أَيْ
ضَرَبَهُ وَدَفَعَهُ. الْكِسَائِيُّ: نَهَزَهُ مِثْلُ نَكَزَهُ
وَوَكَزَهُ، أَيْ ضَرَبَهُ وَدَفَعَهُ. وَلَهَدَهُ لَهْدًا
أَيْ دَفَعَهُ لِذُلِّهِ فَهُوَ مَلْهُودٌ، وكذلك لهده، قال
طرفة يذم رجلا:
بطي عَنِ الدَّاعِي «1» سَرِيعٌ إِلَى الْخَنَا ... ذَلُولٌ
بِأَجْمَاعِ الرِّجَالِ مُلَهَّدِ
أَيْ مُدَفَّعٌ وَإِنَّمَا شُدِّدَ لِلْكَثْرَةِ وَقَالَتْ
عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: فَلَهَدَنِي- تَعْنِي
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لَهْدَةً
أَوْجَعَنِي، خَرَّجَهُ مُسْلِمٌ. فَفَعَلَ مُوسَى عَلَيْهِ
السَّلَامُ ذَلِكَ وَهُوَ لَا يُرِيدُ قَتْلَهُ، إِنَّمَا
قَصَدَ دَفْعَهُ فَكَانَتْ فِيهِ نَفْسُهُ، وَهُوَ مَعْنَى:"
فَقَضى عَلَيْهِ". وكل شي أَتَيْتَ عَلَيْهِ وَفَرَغْتَ مِنْهُ
فَقَدْ قَضَيْتَ عَلَيْهِ قَالَ «2»:
قَدْ عَضَّهُ فَقَضَى عَلَيْهِ الْأَشْجَعُ
(قالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ) أَيْ مِنْ إِغْوَائِهِ
قَالَ الْحَسَنُ: لَمْ يَكُنْ يَحِلُّ قَتْلُ الْكَافِرِ
يَوْمَئِذٍ فِي تِلْكَ الْحَالِ، لِأَنَّهَا كَانَتْ حَالَ
كَفٍّ عَنِ الْقِتَالِ." إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ"
خَبَرٌ بَعْدَ خَبَرٍ. (قالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي
فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ) نَدِمَ مُوسَى عَلَيْهِ
السَّلَامُ عَلَى ذَلِكَ الْوَكْزِ الَّذِي كَانَ فِيهِ
ذَهَابُ النَّفْسِ، فَحَمَلَهُ نَدَمُهُ عَلَى الْخُضُوعِ
لِرَبِّهِ وَالِاسْتِغْفَارِ مِنْ ذَنْبِهِ قَالَ قَتَادَةُ:
عَرَفَ وَاللَّهِ الْمَخْرَجَ فَاسْتَغْفَرَ، ثُمَّ لَمْ
يَزَلْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُعَدِّدُ ذَلِكَ
عَلَى نَفْسِهِ، مَعَ عِلْمِهِ بِأَنَّهُ قَدْ غُفِرَ لَهُ،
حَتَّى إِنَّهُ فِي الْقِيَامَةِ يَقُولُ: إِنِّي قَتَلْتُ
نَفْسًا لَمْ أُومَرْ بِقَتْلِهَا. وَإِنَّمَا عَدَّدَهُ عَلَى
نَفْسِهِ ذَنْبًا وَقَالَ:" ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي"
مِنْ أَجْلِ أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي لِنَبِيٍّ أَنْ يَقْتُلَ
حَتَّى يُؤْمَرَ، وَأَيْضًا فَإِنَّ الْأَنْبِيَاءَ
يُشْفِقُونَ مِمَّا لَا يُشْفِقُ مِنْهُ غَيْرُهُمْ. قَالَ
النَّقَّاشُ: لَمْ يَقْتُلْهُ عَنْ عَمْدٍ
مُرِيدًا لِلْقَتْلِ، وَإِنَّمَا وَكَزَهُ وَكْزَةً يُرِيدُ
بِهَا دَفْعَ ظُلْمِهِ. قَالَ وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ هَذَا كَانَ
قَبْلَ النُّبُوَّةِ. وَقَالَ كَعْبٌ: كَانَ إِذْ ذَاكَ ابْنَ
اثْنَتَيْ عَشْرَةَ سَنَةً، وَكَانَ قَتْلُهُ مَعَ ذَلِكَ
خَطَأً فَإِنَّ الْوَكْزَةَ وَاللَّكْزَةَ فِي الْغَالِبِ لَا
تَقْتُلُ. وَرَوَى مُسْلِمٌ عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ
أَنَّهُ قَالَ: يَا أَهْلَ الْعِرَاقِ مَا أَسْأَلَكُمْ عَنِ
الصَّغِيرَةِ، وَأَرْكَبَكُمْ لِلْكَبِيرَةِ! سَمِعْتُ أَبِي
عَبْدَ اللَّهِ بن عمر يقول سمعت
__________
(1). ويروى:" عن الجلى". والذلول ضد الصعب. ويروى:" ذليل".
وأجماع جمع (جمع) وهو ظهر الكف إذا جمعت أصابعك وضممتها. [
..... ]
(2). هو جرير. والأشجع يريد به الشجاع من الحيات. وصدر البيت:
أيفايشون وقد رأوا حفاءهم
(13/261)
رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ يقول:" إن الفتنة تجئ من ها هنا- وَأَوْمَأَ
بِيَدِهِ نَحْوَ الْمَشْرِقِ- مِنْ حَيْثُ يَطْلُعُ قَرْنَا
الشَّيْطَانِ وَأَنْتُمْ بَعْضُكُمْ يَضْرِبُ رِقَابَ بَعْضٍ
وَإِنَّمَا قَتَلَ مُوسَى الَّذِي قَتَلَ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ
خَطَأً فَقَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ:" وَقَتَلْتَ نَفْساً
فَنَجَّيْناكَ مِنَ الْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً". قَوْلُهُ
تَعَالَى: (قالَ رَبِّ بِما أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ
ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ) فِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْأُولَى-
قَوْلُهُ تَعَالَى" قالَ رَبِّ بِما أَنْعَمْتَ عَلَيَّ" أَيْ
من المعرفة والحكمة وَالتَّوْحِيدِ" فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً
لِلْمُجْرِمِينَ" أَيْ عَوْنًا لِلْكَافِرِينَ. قَالَ
الْقُشَيْرِيُّ: وَلَمْ يَقُلْ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ مِنَ
الْمَغْفِرَةِ، لِأَنَّ هَذَا قَبْلَ الْوَحْيِ، وَمَا كَانَ
عَالِمًا بِأَنَّ اللَّهَ غَفَرَ لَهُ ذَلِكَ الْقَتْلَ.
وَقَالَ الْمَاوَرْدِيُّ:" بِما أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فِيهِ
وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا- مِنَ الْمَغْفِرَةِ، وَكَذَلِكَ
ذَكَرَ الْمَهْدَوِيُّ وَالثَّعْلَبِيُّ. قَالَ
الْمَهْدَوِيُّ:" بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ" مِنَ
الْمَغْفِرَةِ فَلَمْ تُعَاقِبْنِي. الْوَجْهُ الثَّانِي- مِنَ
الهداية. قلت:" فَغَفَرَ لَهُ" يَدُلُّ عَلَى الْمَغْفِرَةِ،
وَاللَّهُ أَعْلَمُ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ قَوْلُهُ
تَعَالَى:" بِما أَنْعَمْتَ عَلَيَّ" يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ
قَسَمًا جَوَابُهُ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ، أقسم بإنعامك علي
بالمغفرة لا تؤبن" فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ"
وَأَنْ يَكُونَ اسْتِعْطَافًا كَأَنَّهُ قَالَ: رَبِّ
اعْصِمْنِي بِحَقِّ مَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ مِنَ الْمَغْفِرَةِ
فَلَنْ أَكُونَ إِنْ عَصَمْتَنِي ظَهِيرًا لِلْمُجْرِمِينَ.
وَأَرَادَ بِمُظَاهَرَةِ الْمُجْرِمِينَ إِمَّا صُحْبَةَ
فِرْعَوْنَ وَانْتِظَامَهُ فِي جُمْلَتِهِ، وَتَكْثِيرَ
سَوَادِهِ، حَيْثُ كَانَ يَرْكَبُ بِرُكُوبِهِ كَالْوَلَدِ
مَعَ الْوَالِدِ، وَكَانَ يُسَمَّى ابْنَ فِرْعَوْنَ، وَإِمَّا
بِمُظَاهَرَةِ مَنْ أَدَّتْ مُظَاهَرَتُهُ إِلَى الْجُرْمِ
وَالْإِثْمِ، كَمُظَاهَرَةِ الْإِسْرَائِيلِيِّ الْمُؤَدِّيَةِ
إِلَى الْقَتْلِ الَّذِي لَمْ يَحِلَّ لَهُ قَتْلُهُ وَقِيلَ:
أَرَادَ إِنِّي وَإِنْ أَسَأْتُ فِي هَذَا الْقَتْلِ الَّذِي
لَمْ أُومَرْ بِهِ فَلَا أَتْرُكُ نُصْرَةَ الْمُسْلِمِينَ
عَلَى الْمُجْرِمِينَ، فَعَلَى هَذَا كَانَ الْإِسْرَائِيلِيُّ
مُؤْمِنًا وَنُصْرَةُ الْمُؤْمِنِ وَاجِبَةٌ فِي جَمِيعِ
الشَّرَائِعِ. وَقِيلَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ: إِنَّ ذَلِكَ
الْإِسْرَائِيلِيَّ كَانَ كَافِرًا وَإِنَّمَا قِيلَ لَهُ
إِنَّهُ مِنْ شِيعَتِهِ لِأَنَّهُ كَانَ إِسْرَائِيلِيًّا
وَلَمْ يُرِدِ الْمُوَافَقَةَ فِي الدِّينِ، فَعَلَى هَذَا
نَدِمَ لِأَنَّهُ أعان كافر عَلَى كَافِرٍ، فَقَالَ: لَا
أَكُونُ بَعْدَهَا ظَهِيرًا لِلْكَافِرِينَ. وَقِيلَ: لَيْسَ
هَذَا خَبَرًا بَلْ هُوَ دُعَاءٌ، أَيْ فَلَا أَكُونُ بَعْدَ
هَذَا ظَهِيرًا أَيْ فَلَا تَجْعَلْنِي يَا رَبِّ ظَهِيرًا
لِلْمُجْرِمِينَ. وقال الفراء:
(13/262)
الْمَعْنَى، اللَّهُمَّ فَلَنْ أَكُونَ
بَعْدُ ظَهِيرًا لِلْمُجْرِمِينَ، وَزَعَمَ أَنَّ قَوْلَهُ
هَذَا هُوَ قَوْلُ ابْنِ عباس قال النحاس: وأن يكون بمعنى
الْخَبَرِ أَوْلَى وَأَشْبَهُ بِنَسَقِ الْكَلَامِ، كَمَا
يُقَالُ: لَا أَعْصِيكَ لِأَنَّكَ أَنْعَمْتَ عَلَيَّ، وَهَذَا
قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ عَلَى الْحَقِيقَةِ لَا مَا حَكَاهُ
الْفَرَّاءُ، لِأَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ قَالَ: لَمْ يَسْتَثْنِ
فَابْتُلِيَ مِنْ ثَانِي يَوْمٍ، وَالِاسْتِثْنَاءُ لَا
يَكُونُ فِي الدُّعَاءِ، لَا يُقَالُ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي
إِنْ شِئْتَ، وَأَعْجَبُ الْأَشْيَاءِ أَنَّ الْفَرَّاءَ رَوَى
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ هَذَا ثُمَّ حَكَى عَنْهُ قَوْلَهُ.
قُلْتُ: قَدْ مَضَى هَذَا الْمَعْنَى مُلَخَّصًا مُبَيَّنًا
فِي سُورَةِ" النَّمْلِ" وَأَنَّهُ خَبَرٌ لَا دُعَاءٌ وَعَنِ
ابْنِ عَبَّاسٍ: لَمْ يَسْتَثْنِ فَابْتُلِيَ بِهِ مَرَّةً
أُخْرَى، يَعْنِي لَمْ يَقُلْ فَلَنْ أَكُونَ إِنْ شَاءَ
اللَّهُ وَهَذَا نَحْوَ قَوْلِهِ:" وَلا تَرْكَنُوا إِلَى
الَّذِينَ ظَلَمُوا" الثَّانِيَةُ- قَالَ سَلَمَةُ بْنُ
نُبَيْطٍ: بَعَثَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُسْلِمٍ إِلَى
الضَّحَّاكِ بِعَطَاءِ أَهْلِ بُخَارَى وَقَالَ: أَعْطِهِمْ،
فَقَالَ: اعْفِنِي، فَلَمْ يَزَلْ يَسْتَعْفِيهِ حَتَّى
أَعْفَاهُ. فَقِيلَ لَهُ مَا عَلَيْكَ أَنْ تُعْطِيَهُمْ وأنت
لا ترزؤهم شيئا؟ وقال: لا أحب أن أعين الظلمة على شي مِنْ
أَمْرِهِمْ. وَقَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ الْوَلِيدِ
الْوَصَّافِيُّ قُلْتُ لِعَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ: إِنَّ
لِي أَخًا يَأْخُذُ بِقَلَمِهِ، وَإِنَّمَا يَحْسِبُ مَا
يَدْخُلُ وَيَخْرُجُ، وَلَهُ عِيَالٌ وَلَوْ تَرَكَ ذَلِكَ
لَاحْتَاجَ وَادَّانَ؟ فَقَالَ: مَنِ الرَّأْسُ؟ قُلْتُ:
خَالِدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْقَسْرِيُّ، قَالَ: أَمَا
تَقْرَأُ مَا قَالَ الْعَبْدُ الصَّالِحُ" رَبِّ بِمَا
أَنْعَمْتَ علي فلن أكون ظهير لِلْمُجْرِمِينَ" قَالَ ابْنُ
عَبَّاسٍ: فَلَمْ يَسْتَثْنِ فَابْتُلِيَ بِهِ ثَانِيَةً
فَأَعَانَهُ اللَّهُ، فَلَا يُعِينُهُمْ أَخُوكَ فَإِنَّ
اللَّهَ يُعِينُهُ- قَالَ عَطَاءٌ: فَلَا يَحِلُّ لِأَحَدٍ
أَنْ يُعِينَ ظَالِمًا وَلَا يَكْتُبَ لَهُ وَلَا يَصْحَبَهُ،
وَأَنَّهُ إِنْ فَعَلَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ فَقَدْ صَارَ
مُعِينًا لِلظَّالِمِينَ. وَفِي الْحَدِيثِ:" يُنَادِي مُنَادٍ
يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَيْنَ الظَّلَمَةُ وَأَشْبَاهُ
الظَّلَمَةِ وَأَعْوَانُ الظَّلَمَةِ حَتَّى مَنْ لَاقَ لَهُمْ
دَوَاةً أَوْ بَرَى لَهُمْ قَلَمًا فَيُجْمَعُونَ فِي تَابُوتٍ
مِنْ حَدِيدٍ فَيُرْمَى بِهِ فِي جَهَنَّمَ". وَيُرْوَى عَنِ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ:"
مَنْ مَشَى مَعَ مَظْلُومٍ لِيُعِينَهُ عَلَى مَظْلِمَتِهِ
ثَبَّتَ اللَّهُ قَدَمَيْهِ عَلَى الصِّرَاطِ يَوْمَ
الْقِيَامَةِ يَوْمَ تَزِلُّ فِيهِ الْأَقْدَامُ وَمَنْ مَشَى
مَعَ ظَالِمٍ لِيُعِينَهُ عَلَى ظُلْمِهِ أَزَلَّ اللَّهُ
قَدَمَيْهِ عَلَى الصِّرَاطِ يَوْمَ تُدْحَضُ فِيهِ
الْأَقْدَامُ". وَفِي الْحَدِيثِ:" مَنْ مَشَى مَعَ ظَالِمٍ
فَقَدْ أَجْرَمَ" فَالْمَشْيُ مَعَ الظَّالِمِ لَا يَكُونُ
جرما
(13/263)
إلا إذا مشي معه ليعينه، لأنه ارْتَكَبَ
نَهْيَ اللَّهِ تَعَالَى فِي قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ
وَتَعَالَى:" وَلا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ".
قَوْلُهُ تَعَالَى: (فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خائِفاً)
قَدْ تَقَدَّمَ فِي" طه" «1» وَغَيْرِهَا أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ
صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ يَخَافُونَ، رَدًّا عَلَى مَنْ
قَالَ غَيْرَ ذَلِكَ، وَأَنَّ الْخَوْفَ لَا يُنَافِي
الْمَعْرِفَةَ بِاللَّهِ وَلَا التَّوَكُّلَ عَلَيْهِ فَقِيلَ:
أَصْبَحَ خَائِفًا مِنْ قَتْلِ النَّفْسِ أَنْ يُؤْخَذَ بِهَا.
وَقِيلَ: خَائِفًا مِنْ قَوْمِهِ أَنْ يُسَلِّمُوهُ. وَقِيلَ:
خَائِفًا مِنَ اللَّهِ تَعَالَى. (يَتَرَقَّبُ) قَالَ سَعِيدُ
بْنُ جُبَيْرٍ: يَتَلَفَّتُ مِنَ الْخَوْفِ وَقِيلَ:
يَنْتَظِرُ الطَّلَبَ. وَيَنْتَظِرُ مَا يَتَحَدَّثُ بِهِ
النَّاسُ. وَقَالَ قَتَادَةُ:" يَتَرَقَّبُ" أَيْ يَتَرَقَّبُ
الطَّلَبَ. وَقِيلَ: خَرَجَ يَسْتَخْبِرُ الْخَبَرَ وَلَمْ
يَكُنْ أَحَدٌ عَلِمَ بِقَتْلِ الْقِبْطِيِّ غَيْرَ
الْإِسْرَائِيلِيِّ. وَ" أَصْبَحَ" يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ
بِمَعْنَى صَارَ، أَيْ لَمَّا قَتَلَ صَارَ خَائِفًا.
وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ دَخَلَ فِي الصَّبَاحِ، أَيْ فِي
صَبَاحِ الْيَوْمِ الَّذِي يَلِي يَوْمَهُ. وَ" خائِفاً"
مَنْصُوبٌ عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ أَصْبَحَ، وَإِنْ شِئْتَ عَلَى
الْحَالِ، وَيَكُونُ الظَّرْفُ فِي مَوْضِعِ الْخَبَرِ.
(فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ)
أَيْ فَإِذَا صَاحِبُهُ الْإِسْرَائِيلِيُّ الَّذِي خَلَّصَهُ
بِالْأَمْسِ يُقَاتِلُ قِبْطِيًّا آخر أرد أَنْ يُسَخِّرَهُ.
وَالِاسْتِصْرَاخُ الِاسْتِغَاثَةُ. وَهُوَ مِنَ الصُّرَاخِ،
وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمُسْتَغِيثَ يَصْرُخُ وَيُصَوِّتُ فِي
طَلَبِ الْغَوْثِ. قَالَ «2»:
كُنَّا إِذَا مَا أَتَانَا صَارِخٌ فَزِعٌ ... كَانَ
الصُّرَاخُ لَهُ قَرْعَ الظَّنَابِيبِ
قِيلَ: كَانَ هَذَا الْإِسْرَائِيلِيُّ الْمُسْتَنْصِرُ
السَّامِرِيَّ اسْتَسْخَرَهُ طَبَّاخُ فِرْعَوْنَ فِي حَمْلِ
الْحَطَبِ إِلَى الْمَطْبَخِ، ذَكَرَهُ القشيري و" الَّذِي"
رفع بالابتداءو-" يَسْتَصْرِخُهُ" فِي مَوْضِعِ الْخَبَرِ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلَى الحال. وأمس
لِلْيَوْمِ الَّذِي قَبْلَ يَوْمِكَ، وَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى
الْكَسْرِ لِالْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ فَإِذَا دَخَلَهُ
الْأَلِفُ وَاللَّامُ أَوِ الْإِضَافَةُ تَمَكَّنَ فَأُعْرِبَ
بِالرَّفْعِ وَالْفَتْحِ عِنْدَ أكثر النحويين. منهم مَنْ
يَبْنِيهِ وَفِيهِ الْأَلِفُ وَاللَّامُ. وَحَكَى سِيبَوَيْهِ
وغيره أن
__________
(1). راجع ج 11 ص 202 طبعه أولى أو ثانية.
(2). هو سلامة بن جندل. والطنابيب (جمع ظنبوب): وهو حرف العظم
اليابس من الساق. والمراد سرعة الإجابة.
(13/264)
وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ
أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ
الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي
لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ (20) فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا
يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ
الظَّالِمِينَ (21) وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ
قَالَ عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ (22)
مِنَ الْعَرَبِ مَنْ يُجْرِي أَمْسَ
مَجْرَى مَا لَا يَنْصَرِفُ فِي مَوْضِعِ الرَّفْعِ خَاصَّةً،
وَرُبَّمَا اضْطُرَّ الشَّاعِرُ فَفَعَلَ هَذَا فِي الْخَفْضِ
وَالنَّصْبِ، وقال الشاعر:
لقد رأيت عجبا مذ أمسا
فخفض بمذ مَا مَضَى وَاللُّغَةُ الْجَيِّدَةُ الرَّفْعُ،
فَأُجْرِيَ أَمْسُ فِي الْخَفْضِ مَجْرَاهُ فِي الرَّفْعِ
عَلَى اللُّغَةِ الثَّانِيَةِ. (قالَ لَهُ مُوسى إِنَّكَ
لَغَوِيٌّ مُبِينٌ) وَالْغَوِيُّ الْخَائِبُ، أَيْ لِأَنَّكَ
تُشَادُّ مَنْ لَا تُطِيقُهُ. وَقِيلَ: مُضِلٌّ بَيِّنُ
الضَّلَالَةِ، قَتَلْتُ بِسَبَبِكِ أَمْسِ رَجُلًا،
وَتَدْعُونِي الْيَوْمَ لِآخَرَ. وَالْغَوِيُّ فَعِيلٌ مِنْ
أَغْوَى يُغْوِي، وَهُوَ بِمَعْنَى مُغْوٍ، وَهُوَ
كَالْوَجِيعِ وَالْأَلِيمِ بِمَعْنَى الْمُوجِعِ وَالْمُؤْلِمِ
وَقِيلَ: الْغَوِيُّ بِمَعْنَى الْغَاوِي. أَيْ إِنَّكَ
لَغَوِيٌّ فِي قِتَالِ مَنْ لَا تُطِيقُ دَفْعَ شَرِّهِ
عَنْكَ. وَقَالَ الْحَسَنُ: إِنَّمَا قَالَ لِلْقِبْطِيِّ"
إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ" فِي اسْتِسْخَارِ هَذَا
الْإِسْرَائِيلِيِّ وَهَمَّ أَنْ يَبْطِشَ به. يقال: بَطَشَ
يَبْطِشُ وَيَبْطُشُ وَالضَّمُّ أَقْيَسُ لِأَنَّهُ فِعْلٌ لَا
يَتَعَدَّى. (قالَ يَا مُوسى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي)
قَالَ ابْنُ جُبَيْرٍ. أَرَادَ مُوسَى أَنْ يَبْطِشَ
بِالْقِبْطِيِّ فَتَوَهَّمَ الْإِسْرَائِيلِيُّ أَنَّهُ
يُرِيدُهُ، لِأَنَّهُ أَغْلَظَ لَهُ فِي الْقَوْلِ، فَقَالَ:"
أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَما قَتَلْتَ نَفْساً
بِالْأَمْسِ" فَسَمِعَ الْقِبْطِيُّ الْكَلَامَ فَأَفْشَاهُ.
وَقِيلَ: أَرَادَ أَنْ يَبْطِشَ الْإِسْرَائِيلِيُّ
بِالْقِبْطِيِّ فَنَهَاهُ مُوسَى فَخَافَ مِنْهُ، فَقَالَ:"
أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَما قَتَلْتَ نَفْساً
بِالْأَمْسِ". (إِنْ تُرِيدُ) أَيْ مَا تُرِيدُ. (إِلَّا أَنْ
تَكُونَ جَبَّاراً فِي الْأَرْضِ) أي قتالا، قال عِكْرِمَةُ
وَالشَّعْبِيُّ: لَا يَكُونُ الْإِنْسَانُ جَبَّارًا حَتَّى
يَقْتُلَ نَفْسَيْنِ بِغَيْرِ حَقٍّ. (وَما تُرِيدُ أَنْ
تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ) أَيْ مِنَ الَّذِينَ يُصْلِحُونَ
بين الناس.
[سورة القصص (28): الآيات 20 الى 22]
وَجاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعى قالَ يَا
مُوسى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ
فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ (20) فَخَرَجَ
مِنْها خائِفاً يَتَرَقَّبُ قالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ
الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (21) وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقاءَ
مَدْيَنَ قالَ عَسى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَواءَ السَّبِيلِ
(22)
(13/265)
قوله تعالى: (وَجاءَ رَجُلٌ) قَالَ
أَكْثَرُ أَهْلِ التَّفْسِيرِ: هَذَا الرَّجُلُ هُوَ حِزْقِيلُ
بْنُ صَبُورَا مُؤْمِنُ آلِ فِرْعَوْنَ، وَكَانَ ابْنَ عَمِّ
فِرْعَوْنَ، ذَكَرَهُ الثَّعْلَبِيُّ وَقِيلَ: طَالُوتُ،
ذَكَرَهُ السُّهَيْلِيُّ. وَقَالَ الْمَهْدَوِيُّ عَنْ قتادة:
اسمه شَمْعُونُ مُؤْمِنُ آلِ فِرْعَوْنَ. وَقِيلَ: شَمْعَانُ،
قَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ: لَا يُعْرَفُ شَمْعَانُ بِالشِّينِ
الْمُعْجَمَةِ إِلَّا مُؤْمِنُ آلِ فِرْعَوْنَ. وَرُوِيَ أَنَّ
فِرْعَوْنَ أَمَرَ بقتل موسى فسبق ذلك الرجل الخبر، فَ (- قالَ
يَا مُوسى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ) أَيْ
يَتَشَاوَرُونَ فِي قَتْلِكَ بِالْقِبْطِيِّ الَّذِي
قَتَلْتَهُ بِالْأَمْسِ. وَقِيلَ: يَأْمُرُ بَعْضُهُمْ
بَعْضًا. قَالَ الأزهري: ائتمر القوم وتآمروا أي أم بَعْضُهُمْ
بَعْضًا، نَظِيرُهُ قَوْلُهُ:" وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ
بِمَعْرُوفٍ". وَقَالَ النَّمِرُ بْنُ تَوْلَبٍ:
أَرَى النَّاسَ قَدْ أَحْدَثُوا شِيمَةً ... وَفِي كُلِّ
حَادِثَةٍ يُؤْتَمَرُ
(فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ. فَخَرَجَ مِنْها
خائِفاً يَتَرَقَّبُ) أَيْ يَنْتَظِرُ الطَّلَبَ. (قالَ رَبِّ
نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ). قِيلَ: الْجَبَّارُ
الَّذِي يَفْعَلُ مَا يُرِيدُهُ مِنَ الضَّرْبِ وَالْقَتْلِ
بِظُلْمٍ، لَا يَنْظُرُ فِي الْعَوَاقِبِ، وَلَا يَدْفَعُ
بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ. وَقِيلَ: الْمُتَعَظِّمُ الَّذِي لَا
يَتَوَاضَعُ لِأَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى. قَوْلُهُ تَعَالَى:
(وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقاءَ مَدْيَنَ قالَ عَسى رَبِّي أَنْ
يَهْدِيَنِي سَواءَ السَّبِيلِ) لَمَّا خَرَجَ مُوسَى عَلَيْهِ
السَّلَامُ فَارًّا بنفسه منفردا خائفا، لا شي مَعَهُ مِنْ
زَادٍ وَلَا رَاحِلَةٍ وَلَا حِذَاءٍ نَحْوَ مَدْيَنَ،
لِلنَّسَبِ الَّذِي بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ، لِأَنَّ مَدْيَنَ
مِنْ وَلَدِ إِبْرَاهِيمَ، وَمُوسَى مِنْ وَلَدِ يَعْقُوبَ
بْنِ إِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، وَرَأَى حَالَهُ وَعَدَمَ
مَعْرِفَتِهِ بِالطَّرِيقِ، وَخُلُوَّهُ مِنْ زَادٍ
وَغَيْرِهِ، أَسْنَدَ أَمْرَهُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى
بِقَوْلِهِ:" عَسى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَواءَ السَّبِيلِ"
وَهَذِهِ حَالَةُ الْمُضْطَرِّ. قُلْتُ: رُوِيَ أَنَّهُ كَانَ
يَتَقَوَّتُ وَرَقَ الشَّجَرِ، وَمَا وَصَلَ حَتَّى سَقَطَ
خُفُّ قَدَمَيْهِ. قَالَ أَبُو مَالِكٍ: وَكَانَ فِرْعَوْنُ
وَجَّهَ فِي طَلَبِهِ وَقَالَ لَهُمْ: اطْلُبُوهُ فِي
ثَنِيَّاتِ الطَّرِيقِ، فَإِنَّ مُوسَى لَا يَعْرِفُ
الطَّرِيقَ. فَجَاءَهُ مَلَكٌ رَاكِبًا فَرَسًا وَمَعَهُ
عَنَزَةٌ، فَقَالَ لِمُوسَى: اتَّبِعْنِي فَاتَّبَعَهُ،
فَهَدَاهُ إِلَى الطَّرِيقِ. فَيُقَالُ: إِنَّهُ أَعْطَاهُ
الْعَنَزَةَ فَكَانَتْ عَصَاهُ. وَيُرْوَى أَنَّ عَصَاهُ
إِنَّمَا أخذها لرعية الغنم من مدين. وهو أكثر وأصح. وقال
مُقَاتِلٌ وَالسُّدِّيُّ: إِنَّ اللَّهَ بَعَثَ إِلَيْهِ
جِبْرِيلَ، فَاللَّهُ أَعْلَمُ وَبَيْنَ مَدْيَنَ وَمِصْرَ
ثَمَانِيَةُ أَيَّامٍ، قاله ابْنُ جُبَيْرٍ وَالنَّاسُ.
وَكَانَ مُلْكُ مَدْيَنَ لِغَيْرِ فرعون.
(13/266)
وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ
مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ
وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا
خَطْبُكُمَا قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ
وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ (23) فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ
تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا
أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ (24) فَجَاءَتْهُ
إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ قَالَتْ إِنَّ أَبِي
يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا فَلَمَّا
جَاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قَالَ لَا تَخَفْ نَجَوْتَ
مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (25) قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا
أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ
الْقَوِيُّ الْأَمِينُ (26) قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ
أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ
تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا
فَمِنْ عِنْدِكَ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ
سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (27) قَالَ
ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ
فَلَا عُدْوَانَ عَلَيَّ وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ
(28)
[سورة القصص (28): الآيات 23 الى 28]
وَلَمَّا وَرَدَ ماءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ
النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ
تَذُودانِ قالَ مَا خَطْبُكُما قالَتا لَا نَسْقِي حَتَّى
يُصْدِرَ الرِّعاءُ وَأَبُونا شَيْخٌ كَبِيرٌ (23) فَسَقى
لَهُما ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقالَ رَبِّ إِنِّي
لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ (24) فَجاءَتْهُ
إِحْداهُما تَمْشِي عَلَى اسْتِحْياءٍ قالَتْ إِنَّ أَبِي
يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنا فَلَمَّا
جاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قالَ لَا تَخَفْ نَجَوْتَ
مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (25) قالَتْ إِحْداهُما يَا
أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ
الْقَوِيُّ الْأَمِينُ (26) قالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ
أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هاتَيْنِ عَلى أَنْ تَأْجُرَنِي
ثَمانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِنْدِكَ
وَما أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ
اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (27)
قالَ ذلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ
قَضَيْتُ فَلا عُدْوانَ عَلَيَّ وَاللَّهُ عَلى مَا نَقُولُ
وَكِيلٌ (28)
فِيهِ أَرْبَعٌ وَعِشْرُونَ مَسْأَلَةً: الْأُولَى- قَوْلُهُ
تَعَالَى: (وَلَمَّا وَرَدَ ماءَ مَدْيَنَ) مَشَى مُوسَى
عَلَيْهِ السَّلَامُ حَتَّى وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ أَيْ
بَلَغَهَا. وَوُرُودُهُ الْمَاءَ مَعْنَاهُ بَلَغَهُ لَا
أَنَّهُ دَخَلَ فِيهِ. وَلَفْظَةُ الْوُرُودِ قَدْ تَكُونُ
بِمَعْنَى الدُّخُولِ فِي الْمَوْرُودِ، وَقَدْ تَكُونُ
بِمَعْنَى الِاطِّلَاعِ عَلَيْهِ وَالْبُلُوغِ إِلَيْهِ إِنْ
لَمْ يَدْخُلْ. فَوُرُودُ مُوسَى هَذَا الْمَاءَ كَانَ
بِالْوُصُولِ إِلَيْهِ، وَمِنْهُ قَوْلُ زُهَيْرٌ:
فَلَمَّا وَرَدْنَ الْمَاءَ زُرْقًا جِمَامُهُ ... وَضَعْنَ
عِصِيَّ الْحَاضِرِ الْمُتَخَيِّمِ «1»
__________
(1). تقدم شرح هذا البيت في هامش ج 11 ص 137 طبعه أولى أو
ثانية.
(13/267)
وَقَدْ تَقَدَّمَتْ هَذِهِ الْمَعَانِي فِي
قَوْلِهِ:" وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها". وَمَدْيَنُ لَا
تَنْصَرِفُ إِذْ هي بلدة معروفة قال الشاعر «1»:
رُهْبَانُ مَدْيَنَ لَوْ رَأَوْكِ تَنَزَّلُوا ... وَالْعُصْمُ
مِنْ شَعَفِ الْجِبَالِ الْفَادِرِ
وَقِيلَ: قَبِيلَةٌ مِنْ وَلَدِ مَدْيَنَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ،
وَقَدْ مَضَى الْقَوْلُ فِيهِ فِي" الْأَعْرَافِ" «2».
وَالْأُمَّةُ: الْجَمْعُ الْكَثِيرُ وَ" يَسْقُونَ" معناه
ماشيتهم. و (مِنْ دُونِهِمُ) مَعْنَاهُ نَاحِيَةٌ إِلَى
الْجِهَةِ الَّتِي جاء منها، فوصل إلى المرأتين قبل وصول إِلَى
الْأُمَّةِ، وَوَجَدَهُمَا تَذُودَانِ وَمَعْنَاهُ تَمْنَعَانِ
وَتَحْبِسَانِ، ومنه قول عَلَيْهِ السَّلَامُ:" فَلَيُذَادَنَّ
«3» رِجَالٌ عَنْ حَوْضِي" وَفِي بَعْضِ الْمَصَاحِفِ:"
امْرَأَتَيْنِ حَابِسَتَيْنِ تَذُودَانِ" يُقَالُ: ذَادَ
يَذُودُ إِذَا [حَبَسَ «4»]. وَذُدْتُ الشَّيْءَ حَبَسْتُهُ،
قَالَ الشاعر «5»:
أَبِيتُ عَلَى بَابِ الْقَوَافِي كَأَنَّمَا ... أَذُودُ بِهَا
سِرْبًا مِنَ الْوَحْشِ نُزِّعَا
أَيْ أَحْبِسُ وَأَمْنَعُ وقيل:" تَذُودانِ" تطردان، قال «6»:
لَقَدْ سَلَبَتْ عَصَاكَ بَنُو تَمِيمٍ ... فَمَا تَدْرِي
بِأَيِّ عَصًا تَذُودُ
أَيْ تَطْرُدُ وَتَكُفُّ وَتَمْنَعُ ابْنُ سَلَامٍ:
تَمْنَعَانِ غَنَمَهُمَا لِئَلَّا تَخْتَلِطَ بِغَنَمِ
النَّاسِ، فَحُذِفَ الْمَفْعُولُ، إِمَّا إِيهَامًا عَلَى
الْمُخَاطَبِ، وَإِمَّا اسْتِغْنَاءً بِعِلْمِهِ. قَالَ ابْنُ
عَبَّاسٍ: تَذُودَانِ غَنَمَهُمَا عَنِ الْمَاءِ خَوْفًا مِنَ
السُّقَاةِ الْأَقْوِيَاءِ. قَتَادَةُ: تَذُودَانِ النَّاسَ
عَنْ غَنَمِهِمَا، قَالَ النَّحَّاسُ: وَالْأَوَّلُ أَوْلَى،
لِأَنَّ بَعْدَهُ" قالَتا لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ
الرِّعاءُ" وَلَوْ كَانَتَا تَذُودَانِ عَنْ غَنَمِهِمَا
النَّاسَ لَمْ تُخْبِرَا عَنْ سَبَبِ تَأْخِيرِ سَقْيِهِمَا
حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ. فَلَمَّا رَأَى مُوسَى عَلَيْهِ
السَّلَامُ ذَلِكَ مِنْهُمَا" قالَ مَا خَطْبُكُما" أي شأنكما،
قال رؤية:
يا عجبا ما خطبه وخطبي
__________
(1). هو جرير. والعصم (جمع الأعصم): وهو من الظباء الذي في
ذراعه بياض، وقيل: في ذراعيه، والفادر: المسن منها. وقيل:
العظيم. ويروى:" من شعف العقول". وقبله: يا أم طلحة ما لقينا
مثلكم في المنجدين ولا بغور الغائر
(2). راجع ج 7 ص 247 طبعه أولى أو ثانية.
(3). فليذادن، أي ليطردن. ويروى:" فلا تذادن" أي لا تفعلوا
فعلا يوجب طردكم عنه، قال اين الأثير: والأول أشبهه.
(4). في الأصل:" إذا ذهب" وهو تحريف.
(5). هو سويد بن كراع يذكر تنقيحه شعره.
(6). هو جرير يهجو الفرزدق.
(13/268)
ابْنُ عَطِيَّةَ: وَكَانَ اسْتِعْمَالُ
السُّؤَالِ بِالْخَطْبِ إِنَّمَا هُوَ فِي مُصَابٍ، أَوْ
مُضْطَهَدٍ، أَوْ مَنْ يُشْفَقُ عَلَيْهِ، أَوْ يَأْتِي
بِمُنْكَرٍ مِنَ الْأَمْرِ، فَكَأَنَّهُ بِالْجُمْلَةِ فِي
شَرٍّ، فَأَخْبَرَتَاهُ بِخَبَرِهِمَا، وَأَنَّ أَبَاهُمَا
شَيْخٌ كَبِيرٌ، فَالْمَعْنَى: لَا يَسْتَطِيعُ لِضَعْفِهِ
أَنْ يُبَاشِرَ أَمْرَ غَنَمِهِ، وَأَنَّهُمَا لِضَعْفِهِمَا
وَقِلَّةِ طَاقَتِهِمَا لَا تَقْدِرَانِ عَلَى مُزَاحَمَةِ
الْأَقْوِيَاءِ، وَأَنَّ عَادَتَهُمَا التَّأَنِّي حَتَّى
يُصْدِرَ النَّاسُ عَنِ الْمَاءِ وَيُخَلَّى، وَحِينَئِذٍ
تَرِدَانِ. وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ وَأَبُو عَمْرٍو:"
يَصْدُرَ" مِنْ صَدَرَ، وَهُوَ ضِدُّ وَرَدَ أَيْ يَرْجِعُ
الرِّعَاءُ. وَالْبَاقُونَ" يُصْدِرَ" بِضَمِّ الْيَاءِ مِنْ
أَصْدَرَ، أَيْ حَتَّى يُصْدِرُوا مَوَاشِيَهُمْ مِنْ
وِرْدِهِمْ وَالرِّعَاءُ جَمْعُ رَاعٍ، مِثْلُ تَاجِرٍ
وَتِجَارٍ، وَصَاحِبٍ وَصِحَابٍ. قَالَتْ فِرْقَةٌ: كَانَتِ
الْآبَارُ مَكْشُوفَةً، وَكَانَ زَحْمُ النَّاسِ
يَمْنَعُهُمَا، فَلَمَّا أَرَادَ مُوسَى أَنْ يَسْقِيَ لَهُمَا
زَحَمَ النَّاسَ وَغَلَبَهُمْ عَلَى الْمَاءِ حَتَّى سَقَى،
فَعَنْ هَذَا الْغَلَبِ الَّذِي كَانَ مِنْهُ وَصَفَتْهُ
إِحْدَاهُمَا بِالْقُوَّةِ وَقَالَتْ فِرْقَةٌ: إِنَّهُمَا
كَانَتَا تَتَّبِعَانِ فُضَالَتَهُمْ فِي الصَّهَارِيجِ،
فَإِنْ وَجَدَتَا فِي الْحَوْضِ بَقِيَّةً كَانَ ذَلِكَ
سَقْيَهُمَا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ بَقِيَّةٌ عَطِشَتْ
غَنَمُهُمَا، فَرَقَّ لَهُمَا مُوسَى، فَعَمَدَ إِلَى بِئْرٍ
كَانَتْ مُغَطَّاةً وَالنَّاسُ يَسْقُونَ مِنْ غَيْرِهَا،
وَكَانَ حَجَرُهَا لَا يَرْفَعُهُ إِلَّا سَبْعَةٌ، قَالَهُ
ابْنُ زَيْدٍ. ابْنُ جُرَيْجٍ: عَشَرَةٌ. ابْنُ عَبَّاسٍ:
ثَلَاثُونَ. الزَّجَّاجُ: أَرْبَعُونَ، فَرَفَعَهُ. وَسَقَى
لِلْمَرْأَتَيْنِ، فَعَنْ رَفْعِ الصَّخْرَةِ وَصَفَتْهُ
بِالْقُوَّةِ. وَقِيلَ: إِنَّ بِئْرَهُمْ كَانَتْ وَاحِدَةً،
وَأَنَّهُ رَفَعَ عَنْهَا الْحَجَرَ بَعْدَ انْفِصَالِ
السُّقَاةِ، إِذْ كَانَتْ عَادَةُ الْمَرْأَتَيْنِ شُرْبَ
الْفَضَلَاتِ. رَوَى عَمْرُو بْنُ مَيْمُونٍ عَنْ عُمَرَ بْنِ
الْخَطَّابِ أَنَّهُ قَالَ: لَمَّا اسْتَقَى الرُّعَاةُ
غَطَّوْا عَلَى الْبِئْرِ صَخْرَةً لَا يَقْلَعُهَا إِلَّا
عَشَرَةُ رِجَالٍ، فجاء موسى فاقتلعها واسقي ذَنُوبًا وَاحِدًا
لَمْ تَحْتَجْ إِلَى غَيْرِهِ فَسَقَى لَهُمَا. الثَّانِيَةُ-
إِنْ قِيلَ كَيْفَ سَاغَ لِنَبِيِّ اللَّهِ الَّذِي هُوَ
شُعَيْبٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يرضى لا بنتيه
بِسَقْيِ الْمَاشِيَةِ؟ قِيلَ لَهُ: لَيْسَ ذَلِكَ بِمَحْظُورٍ
وَالدِّينُ لَا يَأْبَاهُ، وَأَمَّا الْمُرُوءَةُ فَالنَّاسُ
مُخْتَلِفُونَ فِي ذَلِكَ، وَالْعَادَةُ مُتَبَايِنَةٌ فِيهِ،
وَأَحْوَالُ الْعَرَبِ فِيهِ خِلَافُ أَحْوَالِ الْعَجَمِ،
وَمَذْهَبُ أَهْلِ الْبَدْوِ غَيْرُ مَذْهَبِ الْحَضَرِ،
خُصُوصًا إِذَا كَانَتِ الْحَالَةُ حَالَةَ ضَرُورَةٍ.
الثَّالِثَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى
الظِّلِّ) إِلَى ظِلِّ سَمُرَةٍ «1»، قَالَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ.
وَتَعَرَّضَ لِسُؤَالِ مَا يُطْعِمُهُ بِقَوْلِهِ: (إِنِّي
لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ) " وَكَانَ لَمْ
يَذُقْ طعاما
__________
(1). السمرة: شجرة صغيرة الورق، قصيرة الشوك، لها برمة صفراء
يأكلها الناس.
(13/269)
سَبْعَةَ أَيَّامٍ، وَقَدْ لَصِقَ بَطْنُهُ
بِظَهْرِهِ، فَعَرَّضَ بِالدُّعَاءِ وَلَمْ يُصَرِّحْ
بِسُؤَالٍ، هَكَذَا رَوَى جَمِيعُ الْمُفَسِّرِينَ أَنَّهُ
طَلَبَ فِي هَذَا الْكَلَامِ مَا يَأْكُلُهُ، فَالْخَيْرُ
يَكُونُ بِمَعْنَى الطَّعَامِ كَمَا فِي هذه الآية، يكون
بِمَعْنَى الْمَالِ كَمَا قَالَ:" إِنْ تَرَكَ خَيْراً"
وَقَوْلُهُ:" وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ"
وَيَكُونُ بِمَعْنَى الْقُوَّةِ كَمَا قَالَ:" أَهُمْ خَيْرٌ
أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ" وَيَكُونُ بِمَعْنَى الْعِبَادَةِ
كَقَوْلِ:" وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْراتِ" قَالَ
ابْنُ عَبَّاسٍ: وَكَانَ قَدْ بَلَغَ بِهِ الْجُوعُ،
وَاخْضَرَّ لَوْنُهُ مِنْ أَكْلِ الْبَقْلِ فِي بَطْنِهِ،
وَإِنَّهُ لَأَكْرَمُ الْخَلْقِ عَلَى اللَّهِ. وَيُرْوَى
أَنَّهُ لَمْ يَصِلْ إِلَى مَدْيَنَ حَتَّى سَقَطَ بَاطِنُ
قَدَمَيْهِ. وَفِي هَذَا مُعْتَبَرٌ وَإِشْعَارٌ بِهَوَانِ
الدُّنْيَا عَلَى اللَّهِ وَقَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ طَاهِرٍ
فِي قَوْلِهِ:" إِنِّي لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ
فَقِيرٌ" أَيْ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ مِنْ فَضْلِكَ
وَغِنَاكَ فَقِيرٌ إِلَى أَنْ تُغْنِيَنِي بِكَ عَمَّنْ
سِوَاكَ. قُلْتُ: مَا ذَكَرَهُ أَهْلُ التَّفْسِيرِ أَوْلَى،
فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى إِنَّمَا أَغْنَاهُ بِوَاسِطَةِ
شُعَيْبٍ. الرَّابِعَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (فَجاءَتْهُ
إِحْداهُما تَمْشِي عَلَى اسْتِحْياءٍ) فِي هَذَا الْكَلَامِ
اخْتِصَارٌ يَدُلُّ عَلَيْهِ هَذَا الظَّاهِرُ، قَدَّرَهُ
[ابْنُ «1»] إِسْحَاقَ: فَذَهَبَتَا إِلَى أَبِيهِمَا
سَرِيعَتَيْنِ، وَكَانَتْ عَادَتُهُمَا الْإِبْطَاءَ فِي
السَّقْيِ، فَحَدَّثَتَاهُ بِمَا كَانَ مِنَ الرَّجُلِ الَّذِي
سَقَى لَهُمَا، فَأَمَرَ الْكُبْرَى مِنْ بِنْتَيْهِ- وَقِيلَ
الصُّغْرَى- أَنْ تَدْعُوَهُ لَهُ،" فجاءت" عَلَى مَا فِي
هَذِهِ الْآيَةِ قَالَ عَمْرُو بْنُ مَيْمُونٍ: وَلَمْ تَكُنْ
سَلْفَعًا «2» مِنَ النِّسَاءِ، خَرَّاجَةً وَلَّاجَةً.
وَقِيلَ: جَاءَتْهُ سَاتِرَةً وَجْهَهَا بِكُمِّ دِرْعِهَا،
قَالَهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ. وَرُوِيَ أَنَّ اسْمَ
إِحْدَاهُمَا لَيًّا وَالْأُخْرَى صَفُورِيَّا ابْنَتَا
يَثْرُونَ، ويثرون وهو شُعَيْبٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَقِيلَ:
ابْنُ أَخِي شُعَيْبٍ، وَأَنَّ شُعَيْبًا كَانَ قَدْ مَاتَ.
وَأَكْثَرُ النَّاسِ عَلَى أَنَّهُمَا ابْنَتَا شُعَيْبٍ
عَلَيْهِ السَّلَامُ وَهُوَ ظَاهِرُ الْقُرْآنِ، قَالَ اللَّهُ
تَعَالَى:" وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً" كَذَا فِي
سُورَةِ" الْأَعْرَافِ" وَفِي سُورَةِ الشُّعَرَاءِ:" كَذَّبَ
أَصْحابُ الْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ إِذْ قالَ لَهُمْ
شُعَيْبٌ" قَالَ قَتَادَةُ: بَعَثَ اللَّهُ تَعَالَى شُعَيْبًا
إِلَى أَصْحَابِ الْأَيْكَةِ وَأَصْحَابِ مَدْيَنَ. وَقَدْ
مَضَى فِي" الْأَعْرَافِ" «3» الْخِلَافُ فِي اسْمِ أَبِيهِ
فَرُوِيَ أَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا جَاءَتْهُ
بِالرِّسَالَةِ قَامَ يَتْبَعُهَا، وَكَانَ بَيْنَ مُوسَى
وَبَيْنَ أَبِيهَا ثَلَاثَةُ أَمْيَالٍ، فَهَبَّتْ رِيحٌ
فَضَمَّتْ قَمِيصَهَا فَوَصَفَتْ عَجِيزَتَهَا، فَتَحَرَّجَ
مُوسَى مِنَ النَّظَرِ
__________
(1). في الأصل: أبو إسحاق والتصويب عن تفسير ابن عطية والطبري.
(2). السلفع من النساء: الجريئة على الرجال.
(3). راجع ج 7 ص 247 طبعه أولى أو ثانية. [ ..... ]
(13/270)
إِلَيْهَا فَقَالَ: ارْجِعِي خَلْفِي
وَأَرْشِدِينِي إِلَى الطَّرِيقِ بِصَوْتِكِ وَقِيلَ: إِنَّ
مُوسَى قَالَ ابْتِدَاءً: كُونِي وَرَائِي فَإِنِّي رَجُلٌ
عِبْرَانِيٌّ لَا أَنْظُرُ فِي أَدْبَارِ النِّسَاءِ،
وَدُلِّينِي عَلَى الطَّرِيقِ يَمِينًا أَوْ يسارا، فذلك سبب
وصفها [له] بالأمانة، قاله ابْنُ عَبَّاسٍ. فَوَصَلَ مُوسَى
إِلَى دَاعِيهِ فَقَصَّ عَلَيْهِ أَمْرَهُ مِنْ أَوَّلِهِ
إِلَى آخِرِهِ فَآنَسَهُ بِقَوْلِهِ:" لَا تَخَفْ نَجَوْتَ
مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ" وَكَانَتْ مَدْيَنُ خَارِجَةً
عَنْ مَمْلَكَةِ فِرْعَوْنَ وَقَرَّبَ إِلَيْهِ طَعَامًا
فَقَالَ مُوسَى: لَا آكُلُ، إِنَّا أَهْلُ بَيْتٍ لَا نَبِيعُ
دِينَنَا بِمِلْءِ الْأَرْضِ ذَهَبًا، فَقَالَ شُعَيْبٌ:
لَيْسَ هَذَا عِوَضَ السَّقْيِ، وَلَكِنْ عَادَتِي وَعَادَةُ
آبَائِي قِرَى الضَّيْفِ، وَإِطْعَامُ الطعام، فحينئذ أكل
موسى. الخامسة- قوله تعالى: (قالَتْ إِحْداهُما يَا أَبَتِ
اسْتَأْجِرْهُ) دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْإِجَارَةَ كَانَتْ
عِنْدَهُمْ مَشْرُوعَةً مَعْلُومَةً، وَكَذَلِكَ كَانَتْ فِي
كُلِّ مِلَّةٍ، وَهِيَ مِنْ ضَرُورَةِ الخليقة، ومصلحة الخلطة
بين الناس، خلاف لِلْأَصَمِّ حَيْثُ كَانَ عَنْ سَمَاعِهَا
أَصَمَّ. السَّادِسَةُ- قوله تعالى: (إِنِّي أُرِيدُ أَنْ
أُنْكِحَكَ) الْآيَةَ. فِيهِ عَرْضُ الولي ابنته عَلَى
الرَّجُلِ، وَهَذِهِ سُنَّةٌ قَائِمَةٌ، عَرَضَ صَالِحُ
مَدْيَنَ ابْنَتَهُ عَلَى صَالِحِ بَنِي إِسْرَائِيلَ،
وَعَرَضَ عمر ابن الْخَطَّابِ ابْنَتَهُ حَفْصَةَ عَلَى أَبِي
بَكْرٍ وَعُثْمَانَ، وَعَرَضَتِ الْمَوْهُوبَةُ نَفْسَهَا
عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَمِنَ
الْحَسَنِ عَرْضُ الرَّجُلِ وَلِيَّتَهُ، وَالْمَرْأَةُ
نَفْسَهَا عَلَى الرَّجُلِ الصَّالِحِ، اقْتِدَاءً بِالسَّلَفِ
الصَّالِحِ قَالَ ابْنُ عُمَرَ: لَمَّا تَأَيَّمَتْ حَفْصَةُ
قَالَ عُمَرُ لِعُثْمَانَ: إِنْ شِئْتَ أُنْكِحُكَ حَفْصَةَ
بِنْتَ عُمَرَ، الْحَدِيثَ انْفَرَدَ بِإِخْرَاجِهِ
الْبُخَارِيُّ. السَّابِعَةُ- وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلِيلٌ
عَلَى أَنَّ النِّكَاحَ إِلَى الْوَلِيِّ لَا حَظَّ
لِلْمَرْأَةِ فِيهِ، لِأَنَّ صَالِحَ مَدْيَنَ تَوَلَّاهُ،
وَبِهِ قَالَ فُقَهَاءُ الْأَمْصَارِ. وَخَالَفَ فِي ذَلِكَ
أَبُو حَنِيفَةَ. وَقَدْ مَضَى. الثَّامِنَةُ- هَذِهِ الْآيَةُ
تَدُلُّ عَلَى أَنَّ لِلْأَبِ أَنْ يُزَوِّجَ ابْنَتَهُ
الْبِكْرَ الْبَالِغَ مِنْ غَيْرِ استيمار، وَبِهِ قَالَ
مَالِكٌ وَاحْتَجَّ بِهَذِهِ الْآيَةِ، وَهُوَ ظَاهِرٌ قَوِيٌّ
فِي الْبَابِ، وَاحْتِجَاجُهُ بِهَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ
كَانَ يُعَوِّلُ عَلَى الْإِسْرَائِيلِيَّاتِ، كَمَا
تَقَدَّمَ. وَبِقَوْلِ مَالِكٍ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ قَالَ
الشَّافِعِيُّ وَكَثِيرٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ. وَقَالَ أَبُو
حَنِيفَةَ: إِذَا بَلَغَتِ الصَّغِيرَةُ فَلَا يُزَوِّجُهَا
أَحَدٌ إِلَّا بِرِضَاهَا، لِأَنَّهَا بَلَغَتْ
(13/271)
حَدَّ التَّكْلِيفِ، فَأَمَّا إِذَا
كَانَتْ صَغِيرَةً فَإِنَّهُ يُزَوِّجُهَا بِغَيْرِ رِضَاهَا
لِأَنَّهُ لَا إِذْنَ لَهَا وَلَا رِضًا، بِغَيْرِ خِلَافٍ.
التَّاسِعَةُ- اسْتَدَلَّ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ
بِقَوْلِهِ:" إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ" عَلَى أَنَّ
النِّكَاحَ مَوْقُوفٌ عَلَى لَفْظِ التَّزْوِيجِ
وَالْإِنْكَاحِ. وَبِهِ قَالَ رَبِيعَةُ وَأَبُو ثَوْرٍ
وَأَبُو عُبَيْدٍ وَدَاوُدُ وَمَالِكٌ عَلَى اخْتِلَافٍ
عَنْهُ. وَقَالَ عُلَمَاؤُنَا فِي الْمَشْهُورِ: يَنْعَقِدُ
النِّكَاحُ بِكُلِّ لَفْظٍ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ:
يَنْعَقِدُ بِكُلِّ لَفْظٍ يَقْتَضِي التَّمْلِيكَ عَلَى
التَّأْبِيدِ، أَمَّا الشَّافِعِيَّةُ فَلَا حُجَّةَ لَهُمْ
فِي الْآيَةِ لِأَنَّهُ شَرْعُ مَنْ قَبْلَنَا وَهُمْ لا يرونه
حجة في شي فِي الْمَشْهُورِ عِنْدَهُمْ وَأَمَّا أَبُو
حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ والثوري والحسن ابن حَيٍّ فَقَالُوا:
يَنْعَقِدُ النِّكَاحُ بِلَفْظِ الْهِبَةِ وَغَيْرِهِ إِذَا
كَانَ قَدْ أُشْهِدَ عَلَيْهِ، لِأَنَّ الطَّلَاقَ يَقَعُ
بِالصَّرِيحِ وَالْكِنَايَةِ، قَالُوا: فَكَذَلِكَ النِّكَاحُ
قَالُوا: وَالَّذِي خُصَّ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَعَرِّي الْبُضْعِ مِنَ الْعِوَضِ لَا
النِّكَاحُ بِلَفْظِ الْهِبَةِ، وَتَابَعَهُمِ ابْنُ
الْقَاسِمِ فَقَالَ: إِنْ وَهَبَ ابْنَتَهُ وَهُوَ يُرِيدُ
إِنْكَاحَهَا فَلَا أَحْفَظُ عَنْ مَالِكٍ فِيهِ شَيْئًا،
وَهُوَ عِنْدِي جَائِزٌ كَالْبَيْعِ. قَالَ أَبُو عُمَرَ:
الصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا يَنْعَقِدُ نِكَاحٌ بِلَفْظِ
الْهِبَةِ، كَمَا لَا يَنْعَقِدُ بلفظ النكاح هبة شي مِنَ
الْأَمْوَالِ. وَأَيْضًا فَإِنَّ النِّكَاحَ مُفْتَقِرٌ إِلَى
التَّصْرِيحِ لِتَقَعَ الشَّهَادَةُ عَلَيْهِ، وَهُوَ ضِدُّ
الطَّلَاقِ فَكَيْفَ يُقَاسُ عَلَيْهِ، وَقَدْ أَجْمَعُوا
أَنَّ النِّكَاحَ لا ينعقد بقوله: أَبَحْتُ لَكَ وَأَحْلَلْتُ
لَكَ فَكَذَلِكَ الْهِبَةُ. وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ:" اسْتَحْلَلْتُمْ فُرُوجَهُنَّ بِكَلِمَةِ اللَّهِ"
يَعْنِي الْقُرْآنَ، وَلَيْسَ فِي الْقُرْآنِ عَقْدُ
النِّكَاحِ بِلَفْظِ الْهِبَةِ، وَإِنَّمَا فِيهِ التَّزْوِيجُ
وَالنِّكَاحُ، وَفِي إِجَازَةِ النِّكَاحِ بِلَفْظِ الْهِبَةِ
إِبْطَالُ بَعْضِ خُصُوصِيَّةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. الْعَاشِرَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى:
(إِحْدَى ابْنَتَيَّ هاتَيْنِ) يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ عَرْضٌ
لَا عَقْدٌ، لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ عَقْدًا لَعَيَّنَ
الْمَعْقُودَ عَلَيْهَا لَهُ، لِأَنَّ الْعُلَمَاءَ وإن
كَانُوا قَدِ اخْتَلَفُوا فِي جَوَازِ الْبَيْعِ إِذَا قَالَ:
بِعْتُكَ أَحَدَ عَبْدَيَّ هَذَيْنِ بِثَمَنِ كَذَا،
فَإِنَّهُمُ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ في
النكاح، لأنه خيار وشئ مِنَ الْخِيَارِ لَا يُلْصَقُ
بِالنِّكَاحِ. الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ- قَالَ مَكِّيٌّ: فِي
هَذِهِ الْآيَةِ خَصَائِصُ فِي النِّكَاحِ مِنْهَا أَنَّهُ
لَمْ يُعَيِّنِ الزَّوْجَةَ وَلَا حَدَّ أَوَّلَ الْأَمَدِ،
وَجَعَلَ الْمَهْرَ إِجَارَةً، وَدَخَلَ وَلَمْ يَنْقُدْ
شَيْئًا.
(13/272)
قُلْتُ: فَهَذِهِ أَرْبَعُ مَسَائِلَ
تَضَمَّنَتْهَا الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةَ عشرة. الاولى من
الأربع مسائل، قَالَ عُلَمَاؤُنَا: أَمَّا التَّعْيِينُ
فَيُشْبِهُ أَنَّهُ كَانَ فِي ثَانِي حَالِ الْمُرَاوَضَةِ،
وَإِنَّمَا عَرَضَ الْأَمْرَ مُجْمَلًا، وَعَيَّنَ بَعْدَ
ذَلِكَ وَقَدْ قِيلَ: إِنَّهُ
زَوَّجَهُ صَفُورِيَّا وَهِيَ الصُّغْرَى. يُرْوَى عَنْ أَبِي
ذَرٍّ قَالَ قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إِنْ سُئِلْتَ أَيُّ الْأَجَلَيْنِ قَضَى
مُوسَى فَقُلْ خَيْرُهُمَا وَأَوْفَاهُمَا وَإِنْ سُئِلْتَ
أَيُّ الْمَرْأَتَيْنِ تَزَوَّجَ فَقُلِ الصُّغْرَى وَهِيَ
الَّتِي جَاءَتْ خَلْفَهُ وَهِيَ الَّتِي قَالَتْ:" يَا أَبَتِ
اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ
الْأَمِينُ". قِيلَ: إِنَّ الْحِكْمَةَ فِي تَزْوِيجِهِ
الصُّغْرَى مِنْهُ قَبْلَ الْكُبْرَى وَإِنْ كَانَتِ
الْكُبْرَى أَحْوَجَ إِلَى الرِّجَالِ أَنَّهُ تَوَقَّعَ أَنْ
يَمِيلَ إِلَيْهَا، لِأَنَّهُ رءاها فِي رِسَالَتِهِ،
وَمَاشَاهَا فِي إِقْبَالِهِ إِلَى أَبِيهَا مَعَهَا، فَلَوْ
عَرَضَ عَلَيْهِ الْكُبْرَى رُبَّمَا أَظْهَرَ لَهُ
الِاخْتِيَارَ وَهُوَ يُضْمِرُ غَيْرَهُ وَقِيلَ غَيْرُ هَذَا،
وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَفِي بَعْضِ الْأَخْبَارِ أَنَّهُ
تَزَوَّجَ بِالْكُبْرَى حَكَاهُ الْقُشَيْرِيُّ. الثَّانِيَةُ-
وَأَمَّا ذِكْرُ أَوَّلِ الْمُدَّةِ فَلَيْسَ فِي الْآيَةِ مَا
يَقْتَضِي إِسْقَاطَهُ بَلْ هُوَ مَسْكُوتٌ عَنْهُ، فَإِمَّا
رَسَمَاهُ، وَإِلَّا فَهُوَ مِنْ أَوَّلِ وَقْتِ الْعَقْدِ.
الثَّالِثَةُ- وَأَمَّا النِّكَاحُ بِالْإِجَارَةِ فَظَاهِرٌ
مِنَ الْآيَةِ، وَهُوَ أَمْرٌ قَدْ قَرَّرَهُ شَرْعُنَا،
وَجَرَى فِي حَدِيثِ الذي لم يكن عنده إلا شي مِنَ الْقُرْآنِ،
رَوَاهُ الْأَئِمَّةُ، وَفِي بَعْضِ طُرُقِهِ: فَقَالَ لَهُ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" مَا
تَحْفَظُ مِنَ الْقُرْآنِ" فَقَالَ: سُورَةُ الْبَقَرَةِ
وَالَّتِي تَلِيهَا، قَالَ:" فَعَلِّمْهَا عِشْرِينَ آيَةً
وَهِيَ امْرَأَتُكَ". وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي هَذِهِ
الْمَسْأَلَةِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ: فَكَرِهَهُ مَالِكٌ،
وَمَنَعَهُ ابْنُ الْقَاسِمِ، وَأَجَازَهُ ابْنُ حَبِيبٍ،
وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَأَصْحَابِهِ، قَالُوا: يَجُوزُ
أَنْ تَكُونَ مَنْفَعَةُ الْحُرِّ صَدَاقًا كَالْخِيَاطَةِ
وَالْبِنَاءِ وَتَعْلِيمِ الْقُرْآنِ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ:
لَا يَصِحُّ، وَجَوَّزَ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا بِأَنْ
يُخْدِمَهَا عَبْدَهُ سَنَةً، أَوْ يُسْكِنَهَا دَارَهُ
سَنَةً، لِأَنَّ الْعَبْدَ وَالدَّارَ مَالٌ، وَلَيْسَ
خِدْمَتُهَا بِنَفْسِهِ مَالًا وَقَالَ أَبُو الْحَسَنِ
الْكَرْخِيُّ: إِنَّ عَقْدَ النِّكَاحِ بِلَفْظِ الْإِجَارَةِ
جَائِزٌ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى:" فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ".
وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيُّ: لَا يَصِحُّ لِأَنَّ
الْإِجَارَةَ عَقْدٌ مُؤَقَّتٌ، وَعَقْدُ النِّكَاحِ
مُؤَبَّدٌ، فَهُمَا مُتَنَافِيَانِ وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ:
يَنْفَسِخُ قَبْلَ الْبِنَاءِ وَيَثْبُتُ بَعْدَهُ.
(13/273)
وَقَالَ أَصْبَغُ: إِنْ نَقَدَ مَعَهُ
شَيْئًا فَفِيهِ اخْتِلَافٌ، وَإِنْ لَمْ يَنْقُدْ فَهُوَ
أَشَدُّ، فَإِنْ تُرِكَ مَضَى عَلَى كُلِّ حَالٍ بِدَلِيلِ
قِصَّةِ شُعَيْبٍ، قَالَهُ مَالِكٌ وَابْنُ الْمَوَّازِ
وَأَشْهَبُ. وَعَوَّلَ عَلَى هَذِهِ الْآيَةِ جَمَاعَةٌ مِنَ
الْمُتَأَخِّرِينَ وَالْمُتَقَدِّمِينَ فِي هَذِهِ
النَّازِلَةِ، قَالَ ابْنُ خُوَيْزِ مَنْدَادٍ. تَضَمَّنَتْ
هَذِهِ الْآيَةُ النِّكَاحَ عَلَى الْإِجَارَةِ وَالْعَقْدُ
صَحِيحٌ وَيُكْرَهُ أَنْ تُجْعَلَ الْإِجَارَةُ مَهْرًا،
وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْمَهْرُ مَالًا كَمَا قَالَ عَزَّ
وَجَلَّ:" أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوالِكُمْ مُحْصِنِينَ". هَذَا
قَوْلُ أَصْحَابِنَا جَمِيعًا. الرَّابِعَةُ- وَأَمَّا
قَوْلُهُ: وَدَخَلَ وَلَمْ يَنْقُدْ فَقَدِ اخْتَلَفَ النَّاسُ
فِي هَذَا، هَلْ دَخَلَ حِينَ عَقَدَ أَمْ حِينَ سَافَرَ؟
فَإِنْ كَانَ حِينَ عَقَدَ فَمَاذَا نَقَدَ؟ وَقَدْ مَنَعَ
عُلَمَاؤُنَا مِنَ الدُّخُولِ حَتَّى يَنْقُدَ وَلَوْ رُبُعَ
دينار، قال ابْنُ الْقَاسِمِ فَإِنْ دَخَلَ قَبْلَ أَنْ
يَنْقُدَ مَضَى، لِأَنَّ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ أَصْحَابِنَا
قَالُوا: تَعْجِيلُ الصداق أو شي مِنْهُ مُسْتَحَبٌّ عَلَى
أَنَّهُ إِنْ كَانَ الصَّدَاقُ رِعْيَةَ الْغَنَمِ فَقَدْ
نَقَدَ الشُّرُوعَ فِي الْخِدْمَةِ، وَإِنْ كَانَ دَخَلَ حِينَ
سَافَرَ فَطُولُ الِانْتِظَارِ فِي النِّكَاحِ جَائِزٌ إِنْ
كَانَ مَدَى الْعُمُرِ بِغَيْرِ شَرْطٍ. [وَأَمَّا إِنْ كَانَ
«1» بِشَرْطٍ] فَلَا يَجُوزُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ الْغَرَضُ
صَحِيحًا مِثْلَ التَّأَهُّبِ لِلْبِنَاءِ أَوِ انْتِظَارِ
صَلَاحِيَّةِ الزَّوْجَةِ لِلدُّخُولِ إِنْ كَانَتْ صَغِيرَةً،
نَصَّ عَلَيْهِ عُلَمَاؤُنَا. الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ- فِي
هَذِهِ الْآيَةِ اجْتِمَاعُ إِجَارَةٍ وَنِكَاحٍ، وَقَدْ
اخْتَلَفَ عُلَمَاؤُنَا فِي ذَلِكَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ:
الْأَوَّلُ- قَالَ فِي ثُمَانِيَّةِ أَبِي زَيْدٍ: يُكْرَهُ
ابْتِدَاءً فَإِنْ وَقَعَ مَضَى. الثَّانِي- قَالَ مَالِكٌ
وَابْنُ الْقَاسِمِ فِي الْمَشْهُورِ: لَا يَجُوزُ وَيُفْسَخُ
قَبْلَ الدُّخُولِ وَبَعْدَهُ، لِاخْتِلَافِ مَقَاصِدِهِمَا
كَسَائِرِ الْعُقُودِ الْمُتَبَايِنَةِ. الثَّالِثُ- أَجَازَهُ
أَشْهَبُ وَأَصْبَغُ. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَهَذَا هُوَ
الصَّحِيحُ وَعَلَيْهِ تَدُلُّ الآية، وقد قال مالك النكاح
أشبه شي بِالْبُيُوعِ، فَأَيُّ فَرْقٍ بَيْنَ إِجَارَةٍ
وَبَيْعٍ أَوْ بَيْنَ بَيْعٍ وَنِكَاحٍ فَرْعٌ- وَإِنْ
أَصْدَقَهَا تَعْلِيمَ شِعْرٍ مُبَاحٍ صَحَّ، قَالَ
الْمُزَنِيُّ: وَذَلِكَ مِثْلُ قَوْلِ الشَّاعِرِ:
يَقُولُ الْعَبْدُ فَائِدَتِي وَمَالِي ... وَتَقْوَى اللَّهِ
أَفْضَلُ مَا اسْتَفَادَا
وَإِنْ أَصْدَقَهَا تَعْلِيمَ شِعْرٍ فِيهِ هَجْوٌ أَوْ فُحْشٌ
كَانَ كَمَا لو أصدقها خمرا أو خنزيرا.
__________
(1). الزيادة من" أحكام القرآن لابن العربي (.) (
(13/274)
الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ- قَوْلُهُ تَعَالَى:
(عَلى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمانِيَ حِجَجٍ) جَرَى ذِكْرُ
الْخِدْمَةِ مُطْلَقًا وَقَالَ مَالِكٌ: إِنَّهُ جَائِزٌ
وَيُحْمَلُ عَلَى الْعُرْفِ، فَلَا يَحْتَاجُ فِي
التَّسْمِيَةِ إِلَى الْخِدْمَةِ وَهُوَ ظَاهِرُ قِصَّةِ
مُوسَى، فَإِنَّهُ ذَكَرَ إِجَارَةً مُطْلَقَةً وَقَالَ أَبُو
حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ: لَا يَجُوزُ حَتَّى يُسَمَّى
لِأَنَّهُ مَجْهُولٌ. وَقَدْ تَرْجَمَ الْبُخَارِيُّ:" بَابُ
مَنِ اسْتَأْجَرَ أَجِيرًا فَبَيَّنَ لَهُ الْأَجَلَ وَلَمْ
يُبَيِّنْ لَهُ الْعَمَلَ" لِقَوْلِهِ تَعَالَى" عَلى أَنْ
تَأْجُرَنِي ثَمانِيَ حِجَجٍ". قَالَ الْمُهَلَّبُ: لَيْسَ
كَمَا تَرْجَمَ، لِأَنَّ الْعَمَلَ عِنْدَهُمْ كَانَ
مَعْلُومًا مِنْ سَقْيٍ وَحَرْثٍ وَرَعْيٍ وَمَا شَاكَلَ
أَعْمَالَ الْبَادِيَةِ فِي مَهْنَةِ أَهْلِهَا، فَهَذَا
مُتَعَارَفٌ وَإِنْ لَمْ يُبَيِّنْ لَهُ أَشْخَاصَ
الْأَعْمَالِ وَلَا مَقَادِيرَهَا، مِثْلَ أَنْ يَقُولَ لَهُ:
إِنَّكَ تَحْرُثُ كَذَا مِنَ السَّنَةِ، وَتَرْعَى كَذَا مِنَ
السَّنَةِ، فَهَذَا إِنَّمَا هُوَ عَلَى الْمَعْهُودِ مِنْ
خِدْمَةِ الْبَادِيَةِ، وَإِنَّمَا الَّذِي لَا يَجُوزُ عِنْدَ
الْجَمِيعِ أَنْ تَكُونَ الْمُدَّةُ مجهولة، والعمل مجهول
غَيْرَ مَعْهُودٍ لَا يَجُوزُ حَتَّى يُعْلَمَ. قَالَ ابْنُ
الْعَرَبِيِّ: وَقَدْ ذَكَرَ أَهْلُ التَّفْسِيرِ أَنَّهُ
عَيَّنَ لَهُ رِعْيَةَ الْغَنَمِ، وَلَمْ يُرْوَ مِنْ طَرِيقٍ
صَحِيحَةٍ، وَلَكِنْ قَالُوا: إِنَّ صَالِحَ مَدْيَنَ لَمْ
يَكُنْ لَهُ عَمَلٌ إِلَّا رِعْيَةَ الْغَنَمِ، فَكَانَ مَا
عُلِمَ مِنْ حَالِهِ قَائِمًا مَقَامَ التَّعْيِينِ
لِلْخِدْمَةِ فِيهِ. الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ- أَجْمَعَ
الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّهُ جَائِزٌ أَنْ يَسْتَأْجِرَ
الرَّاعِيَ شُهُورًا مَعْلُومَةً، بِأُجْرَةٍ مَعْلُومَةٍ،
لِرِعَايَةِ غَنَمٍ مَعْدُودَةٍ، فَإِنْ كَانَتْ مَعْدُودَةً
مُعَيَّنَةً، فَفِيهَا تَفْصِيلٌ لِعُلَمَائِنَا، قَالَ ابْنُ
الْقَاسِمِ: لَا يَجُوزُ حَتَّى يَشْتَرِطَ الْخَلْفَ إِنْ
مَاتَتْ، وَهِيَ رِوَايَةٌ ضَعِيفَةٌ جِدًّا، وَقَدِ
اسْتَأْجَرَ صَالِحُ مَدْيَنَ مُوسَى عَلَى غَنَمِهِ، وَقَدْ
رَآهَا وَلَمْ يَشْتَرِطْ خَلْفًا، وَإِنْ كَانَتْ مُطْلَقَةً
غَيْرَ مُسَمَّاةٍ وَلَا مُعَيَّنَةٍ جَازَتْ عِنْدَ
عُلَمَائِنَا. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ: لَا
تَجُوزُ لِجَهَالَتِهَا، وَعَوَّلَ عُلَمَاؤُنَا عَلَى
الْعُرْفِ حَسْبَمَا ذَكَرْنَاهُ آنِفًا، وَأَنَّهُ يُعْطَى
بِقَدْرِ مَا تَحْتَمِلُ قُوَّتُهُ. وَزَادَ بَعْضُ
عُلَمَائِنَا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ حَتَّى يَعْلَمَ
الْمُسْتَأْجِرُ قَدْرَ قُوَّتِهِ، وَهُوَ صَحِيحٌ فَإِنَّ
صَالِحَ مَدْيَنَ عَلِمَ قَدْرَ قُوَّةِ مُوسَى بِرَفْعِ
الْحَجَرِ. الْخَامِسَةَ عَشْرَةَ- قَالَ مَالِكٌ: وَلَيْسَ
عَلَى الرَّاعِي ضَمَانٌ وَهُوَ مُصَدَّقٌ فِيمَا هَلَكَ أَوْ
سُرِقَ، لِأَنَّهُ أَمِينٌ كَالْوَكِيلِ. وَقَدْ تَرْجَمَ
الْبُخَارِيُّ:" بَابُ إِذَا أَبْصَرَ الرَّاعِي أَوِ
الْوَكِيلُ شَاةً تَمُوتُ أَوْ شَيْئًا يَفْسُدُ فَأَصْلَحَ
مَا يَخَافُ الْفَسَادَ" وَسَاقَ حَدِيثَ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ
عَنْ أَبِيهِ أنه كانت
(13/275)
لَهُمْ غَنَمٌ تَرْعَى بِسَلْعٍ «1»،
فَأَبْصَرَتْ جَارِيَةٌ لَنَا بِشَاةٍ مِنْ غَنَمِنَا مَوْتًا
فَكَسَرَتْ حَجَرًا فَذَبَحَتْهَا بِهِ، فَقَالَ لَهُمْ: لَا
تَأْكُلُوا حَتَّى أَسْأَلَ النَّبِيَّ- أَوْ أُرْسِلَ إِلَى
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ
يَسْأَلُهُ- وَأَنَّهُ سَأَلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَوْ أَرْسَلَ إِلَيْهِ- فَأَمَرَهُ
بِأَكْلِهَا، قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: فَيُعْجِبُنِي أَنَّهَا
أَمَةٌ وَأَنَّهَا ذَبَحَتْ قَالَ الْمُهَلَّبُ: فِيهِ مِنَ
الْفِقْهِ تَصْدِيقُ الرَّاعِي وَالْوَكِيلِ فِيمَا ائْتُمِنَا
عَلَيْهِ حَتَّى يَظْهَرَ عَلَيْهِمَا دَلِيلُ الْخِيَانَةِ
وَالْكَذِبِ، وَهَذَا قَوْلُ مَالِكٍ وَجَمَاعَةٍ. وَقَالَ
ابْنُ الْقَاسِمِ: إِذَا خَافَ الْمَوْتَ عَلَى شَاةٍ
فَذَبَحَهَا لَمْ يَضْمَنْ وَيُصَدَّقُ إِذَا جَاءَ بِهَا
مَذْبُوحَةً. وَقَالَ غَيْرُهُ: يَضْمَنُ حَتَّى يُبَيِّنَ مَا
قَالَ. السَّادِسَةَ عَشْرَةَ- وَاخْتَلَفَ ابْنُ الْقَاسِمِ
وَأَشْهَبُ إِذَا أَنْزَى الرَّاعِي عَلَى إِنَاثِ
الْمَاشِيَةِ بِغَيْرِ إِذْنِ أَرْبَابِهَا فَهَلَكَتْ،
فَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ، لِأَنَّ
الْإِنْزَاءَ مِنْ إِصْلَاحِ الْمَالِ وَنَمَائِهِ وَقَالَ
أَشْهَبُ: عَلَيْهِ الضَّمَانُ، وَقَوْلُ ابْنِ الْقَاسِمِ
أَشْبَهُ بِدَلِيلِ حَدِيثِ كَعْبٍ، وَأَنَّهُ لَا ضَمَانَ
عَلَيْهِ فِيمَا تَلِفَ عَلَيْهِ بِاجْتِهَادِهِ، إِنْ كَانَ
مِنْ أَهْلِ الصَّلَاحِ، وَمِمَّنْ يُعْلَمُ إِشْفَاقُهُ عَلَى
الْمَالِ، وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْفُسُوقِ
وَالْفَسَادِ وَأَرَادَ صَاحِبُ الْمَالِ أَنْ يُضَمِّنَهُ
فَعَلَ، لِأَنَّهُ لَا يُصَدَّقُ أَنَّهُ رَأَى بِالشَّاةِ
مَوْتًا لِمَا عُرِفَ من فسقه. السبعة عَشْرَةَ- لَمْ يُنْقَلْ
مَا كَانَتْ أُجْرَةُ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَلَكِنْ
رَوَى يَحْيَى بْنُ سَلَّامٍ أَنَّ صَالِحَ مَدْيَنَ جَعَلَ
لِمُوسَى كُلَّ سَخْلَةٍ تُوضَعُ خِلَافَ لَوْنِ أُمِّهَا،
فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَى مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ
بَيْنَهُنَّ يَلِدْنَ خِلَافَ شَبَهِهِنَّ كُلُّهُنَّ. وَقَالَ
غَيْرُ يَحْيَى: بَلْ جَعَلَ لَهُ كُلَّ بَلْقَاءَ تُولَدُ
لَهُ، فَوَلَدْنَ لَهُ كُلُّهُنَّ بُلْقًا. وَذَكَرَ
الْقُشَيْرِيُّ أَنَّ شُعَيْبًا لَمَّا اسْتَأْجَرَ مُوسَى
قَالَ لَهُ: ادْخُلْ بَيْتَ كَذَا وَخُذْ عَصَا مِنَ
الْعِصِيِّ الَّتِي فِي الْبَيْتِ، فَأَخْرَجَ مُوسَى عَصًا،
وَكَانَ أَخْرَجَهَا آدَمُ مِنَ الْجَنَّةِ، وَتَوَارَثَهَا
الْأَنْبِيَاءُ حَتَّى صَارَتْ إِلَى شُعَيْبٍ، فَأَمَرَهُ
شُعَيْبٌ أَنْ يُلْقِيَهَا فِي الْبَيْتِ وَيَأْخُذَ عَصًا
أُخْرَى، فَدَخَلَ وَأَخْرَجَ تِلْكَ الْعَصَا، وَكَذَلِكَ
سَبْعَ مَرَّاتٍ كُلُّ ذَلِكَ لَا تَقَعُ بِيَدِهِ غَيْرُ
تِلْكَ، فَعَلِمَ شُعَيْبٌ أَنَّ لَهُ شَأْنًا، فَلَمَّا
أَصْبَحَ قَالَ لَهُ: سُقِ الْأَغْنَامَ إِلَى مفرق الطريق،
فخذ عن يمينك
__________
(1). سلع: جبل المدينة.
(13/276)
وَلَيْسَ بِهَا عُشْبٌ كَثِيرٌ، وَلَا
تَأْخُذْ عَنْ يَسَارِكَ فَإِنَّ بِهَا عُشْبًا كَثِيرًا
وَتِنِّينًا كَبِيرًا لَا يَقْبَلُ الْمَوَاشِيَ، فَسَاقَ
الْمَوَاشِيَ إِلَى مَفْرِقِ الطَّرِيقِ، فَأَخَذَتْ نَحْوَ
الْيَسَارِ وَلَمْ يَقْدِرْ عَلَى ضَبْطِهَا، فَنَامَ مُوسَى
وَخَرَجَ التِّنِّينُ، فَقَامَتِ الْعَصَا وَصَارَتْ
شُعْبَتَاهَا حَدِيدًا وَحَارَبَتِ التِّنِّينَ حَتَّى
قَتَلَتْهُ، وَعَادَتْ إِلَى مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ،
فَلَمَّا انْتَبَهَ مُوسَى رَأَى الْعَصَا مَخْضُوبَةً
بِالدَّمِ، وَالتِّنِّينَ مَقْتُولًا، فَعَادَ إِلَى شُعَيْبٍ
عِشَاءً، وَكَانَ شُعَيْبٌ ضَرِيرًا فَمَسَّ الْأَغْنَامَ،
فَإِذَا أَثَرُ الْخِصْبِ بَادٍ عَلَيْهَا، فَسَأَلَهُ عَنِ
الْقِصَّةِ فَأَخْبَرَهُ بِهَا، فَفَرِحَ شُعَيْبٌ وَقَالَ:
كُلُّ مَا تَلِدُ هَذِهِ الْمَوَاشِي هَذِهِ السَّنَةَ قَالِبَ
لَوْنٍ- أَيْ ذَاتَ لَوْنَيْنِ- فَهُوَ لَكَ، فَجَاءَتْ
جَمِيعُ السِّخَالِ تِلْكَ السَّنَةَ ذَاتَ لَوْنَيْنِ،
فَعَلِمَ شُعَيْبٌ أَنَّ لِمُوسَى عِنْدَ اللَّهِ مَكَانَةً.
وَرَوَى عُيَيْنَةُ بْنُ حِصْنٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:" أَجَّرَ مُوسَى نَفْسَهُ
بِشِبَعِ بَطْنِهِ وَعِفَّةِ فَرْجِهِ" فَقَالَ لَهُ شُعَيْبٌ
لَكَ مِنْهَا- يَعْنِي مِنْ نِتَاجِ غَنَمِهِ- مَا جَاءَتْ
بِهِ قَالِبَ لَوْنٍ لَيْسَ فِيهَا عَزُوزٌ وَلَا فَشُوشٌ
وَلَا كَمُوَشٌ وَلَا ضَبُوبٌ وَلَا ثَعُولٌ. قَالَ
الْهَرَوِيُّ: الْعَزُوزُ الْبَكِيئَةُ، مَأْخُوذٌ مِنَ
الْعِزَازِ وَهِيَ الْأَرْضُ الصُّلْبَةُ، وَقَدْ تَعَزَّزَتِ
الشَّاةُ. وَالْفَشُوشُ الَّتِي يَنْفَشُّ لَبَنُهَا مِنْ غير
حلب وذلك لسعة الا حليل، وَمِثْلُهُ الْفَتُوحُ وَالثَّرُورُ.
وَمِنْ أَمْثَالِهِمْ: (لَأَفُشَّنَّكَ فَشَّ الْوَطْبِ) أَيْ
لَأُخْرِجَنَّ غَضَبَكَ وَكِبْرَكَ مِنْ رَأْسِكَ. وَيُقَالُ:
فَشَّ السِّقَاءَ إِذَا أَخْرَجَ مِنْهُ الرِّيحَ وَمِنْهُ
الْحَدِيثُ:" إِنَّ الشَّيْطَانَ يَفُشُّ بَيْنَ إِلْيَتَي
أَحَدِكُمْ حَتَّى يُخَيَّلَ إِلَيْهِ أَنَّهُ أَحْدَثَ" أَيْ
يَنْفُخُ نَفْخًا ضَعِيفًا وَالْكَمُوشُ: الصَّغِيرَةُ
الضَّرْعِ، وَهِيَ الكميشة أيضا، سميت بذلك لا نكماش ضَرْعِهَا
وَهُوَ تَقَلُّصُهُ، وَمِنْهُ يُقَالُ: رَجُلٌ كَمِيشُ
الْإِزَارِ. وَالْكَشُودُ مِثْلُ الْكَمُوشِ. وَالضَّبُوبُ
الضَّيِّقَةُ ثُقْبِ الإحليل. والضب الحلب لشدة الْعَصْرِ.
وَالثَّعُولُ الشَّاةُ الَّتِي لَهَا زِيَادَةُ حَلَمَةٍ
وَهِيَ الثَّعْلُ. وَالثَّعْلُ زِيَادَةُ السِّنِّ، وَتِلْكَ
الزِّيَادَةُ هِيَ [الرَّاءُولُ «1»]. وَرَجُلٌ أَثْعَلُ.
وَالثَّعْلُ [ضِيقُ «2»] مَخْرَجِ اللَّبَنِ. قَالَ
الْهَرَوِيُّ: وَتَفْسِيرُ قَالِبِ لَوْنٍ فِي الْحَدِيثِ
أَنَّهَا جَاءَتْ عَلَى غَيْرِ أَلْوَانِ أُمَّهَاتِهَا.
__________
(1). الزيادة من اللسان، وفي الأصل:" هي الثعل" ولعله تحريف،
إذ أن عبارة اللسان" وتلك السن الزائدة يقال لها الراءول".
(2). زيادة يقتضيها المعنى.
(13/277)
الثَّامِنَةَ عَشْرَةَ- الْإِجَارَةُ
بِالْعِوَضِ الْمَجْهُولِ لَا تَجُوزُ، فَإِنَّ وِلَادَةَ
الْغَنَمِ غَيْرُ مَعْلُومَةٍ، وَإِنَّ مِنَ الْبِلَادِ
الْخِصْبَةِ مَا يُعْلَمُ وِلَادُ الْغَنَمِ فِيهَا قَطْعًا
وَعِدَّتُهَا وَسَلَامَةُ سِخَالِهَا كَدِيَارِ مِصْرَ
وَغَيْرِهَا، بَيْدَ أَنَّ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ فِي شَرْعِنَا،
لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى
عَنِ الْغَرَرِ، وَنَهَى عَنِ الْمَضَامِينِ وَالْمَلَاقِيحِ.
وَالْمَضَامِينُ ما فِي بُطُونِ الْإِنَاثِ، وَالْمَلَاقِيحُ
مَا فِي أَصْلَابِ الْفُحُولِ وَعَلَى خِلَافِ ذَلِكَ قَالَ
الشَّاعِرُ:
مَلْقُوحَةٌ فِي بَطْنِ نَابٍ حَامِلِ
وَقَدْ مَضَى فِي سُورَةِ" الْحِجْرِ" «1» بَيَانُهُ. عَلَى
أَنَّ رَاشِدَ بْنَ مَعْمَرٍ أَجَازَ الْإِجَارَةَ عَلَى
الْغَنَمِ بِالثُّلُثِ وَالرُبُعِ وَقَالَ ابْنُ سِيرِينَ
وَعَطَاءٌ: يَنْسِجُ الثَّوْبَ بِنَصِيبٍ مِنْهُ، وَبِهِ قَالَ
أَحْمَدُ. التَّاسِعَةَ عَشْرَةَ- الْكَفَاءَةُ فِي النِّكَاحِ
مُعْتَبَرَةٌ، وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ هَلْ فِي الدِّينِ
وَالْمَالِ وَالْحَسَبِ، أَوْ فِي بَعْضِ ذَلِكَ وَالصَّحِيحُ
جَوَازُ نِكَاحِ الْمَوَالِي لِلْعَرَبِيَّاتِ
وَالْقُرَشِيَّاتِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى:" إِنَّ أَكْرَمَكُمْ
عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ". وَقَدْ جَاءَ مُوسَى إِلَى
صَالِحِ مَدْيَنَ غَرِيبًا طَرِيدًا خَائِفًا وَحِيدَا
جَائِعًا عُرْيَانًا فَأَنْكَحَهُ ابْنَتَهُ لَمَّا تَحَقَّقَ
[مِنْ دِينِهِ «2»] وَرَأَى مِنْ حَالِهِ، وَأَعْرَضَ عَمَّا
سِوَى ذَلِكَ. وَقَدْ تَقَدَّمَتْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ
مُسْتَوْعَبَةً وَالْحَمْدُ لِلَّهِ. الْمُوَفِّيَةُ
عِشْرِينَ- قَالَ بَعْضُهُمْ: هَذَا الَّذِي جَرَى مِنْ
شُعَيْبٍ لَمْ يَكُنْ ذِكْرًا لِصَدَاقِ الْمَرْأَةِ،
وَإِنَّمَا كَانَ اشْتِرَاطًا لِنَفْسِهِ عَلَى مَا يَفْعَلُهُ
الْأَعْرَابُ، فَإِنَّهَا تَشْتَرِطُ صَدَاقَ بَنَاتِهَا،
وَتَقُولُ لِي كَذَا فِي خَاصَّةِ نَفْسِي، وترك الْمَهْرَ
مُفَوَّضًا، وَنِكَاحُ التَّفْوِيضِ جَائِزٌ. قَالَ ابْنُ
الْعَرَبِيِّ: هَذَا الَّذِي تَفْعَلُهُ الْأَعْرَابُ هُوَ
حُلْوَانُ وَزِيَادَةٌ عَلَى الْمَهْرِ، وَهُوَ حَرَامٌ لَا
يَلِيقُ بِالْأَنْبِيَاءِ، فَأَمَّا إِذَا اشْتَرَطَ
الْوَلِيُّ شَيْئًا لِنَفْسِهِ، فَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ
فِيمَا يُخْرِجُهُ الزَّوْجُ مِنْ يَدِهِ وَلَا يَدْخُلُ فِي
يَدِ الْمَرْأَةِ عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا- أَنَّهُ
جَائِزٌ. وَالْآخَرُ- لَا يَجُوزُ. وَالَّذِي يَصِحُّ عِنْدِي
التَّقْسِيمُ، فَإِنَّ الْمَرْأَةَ لَا تَخْلُو أَنْ تَكُونَ
بِكْرًا أَوْ ثَيِّبًا، فَإِنْ كانت ثيبا جاز، لان نكاحها
__________
(1). راجع ج 10 ص 17 وما بعدها طبعه أولى أو ثانية.
(2). الزيادة من" أحكام القرآن لابن العربي".
(13/278)
بِيَدِهَا، وَإِنَّمَا يَكُونُ لِلْوَلِيِّ
مُبَاشَرَةُ الْعَقْدِ، وَلَا يَمْتَنِعُ أَخْذُ الْعِوَضِ
عَلَيْهِ كَمَا يَأْخُذُهُ الْوَكِيلُ عَلَى عَقْدِ الْبَيْعِ،
وَإِنْ كَانَتْ بِكْرًا كَانَ الْعَقْدُ بِيَدِهِ، وَكَأَنَّهُ
عِوَضٌ فِي النِّكَاحِ لِغَيْرِ الزَّوْجِ وَذَلِكَ بَاطِلٌ،
فَإِنْ وَقَعَ فُسِخَ قَبْلَ الْبِنَاءِ، وَثَبَتَ بَعْدَهُ
عَلَى مَشْهُورِ الرِّوَايَةِ. وَالْحَمْدُ الله. الْحَادِيَةَ
وَالْعِشْرُونَ- لَمَّا ذَكَرَ الشَّرْطَ وَأَعْقَبَهُ
بِالطَّوْعِ فِي الْعَشْرِ خَرَجَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا
عَلَى حُكْمِهِ، وَلَمْ يَلْحَقِ الْآخَرُ بِالْأَوَّلِ، وَلَا
اشْتَرَكَ الْفَرْضُ وَالطَّوْعُ، وَلِذَلِكَ يُكْتَبُ فِي
الْعُقُودِ الشُّرُوطُ الْمُتَّفَقُ عَلَيْهَا، ثُمَّ يُقَالُ
وَتَطَوَّعَ بِكَذَا، فَيَجْرِي الشَّرْطُ عَلَى سَبِيلِهِ،
وَالطَّوْعُ عَلَى حُكْمِهِ، وَانْفَصَلَ الواجب من التطوع
وقيل: ومن لفظ شُعَيْبٍ حَسَنٌ فِي لَفْظِ الْعُقُودِ فِي
النِّكَاحِ أَنْكَحَهُ إِيَّاهَا أَوْلَى مِنْ أَنْكَحَهَا
إِيَّاهُ عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانُهُ فِي" الْأَحْزَابِ".
وَجَعَلَ شُعَيْبٌ الثَّمَانِيَةَ الْأَعْوَامَ شَرْطًا،
وَوَكَلَ الْعَاشِرَةَ إِلَى الْمُرُوءَةِ. الثانية والعشرون-
قوله تعالى: (قالَ ذلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا
الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلا عُدْوانَ عَلَيَّ) لَمَّا فَرَغَ
كَلَامُ شُعَيْبٍ قَرَّرَهُ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ
وَكَرَّرَ مَعْنَاهُ عَلَى جِهَةِ التَّوَثُّقِ فِي أَنَّ
الشَّرْطَ إِنَّمَا وَقَعَ في ثمان حِجَجٍ وَ" أَيَّمَا"
اسْتِفْهَامٌ مَنْصُوبٌ بِ" قَضَيْتُ" و" الْأَجَلَيْنِ" مخفوض
بإضافة" أي" إليهما وَ" مَا" صِلَةٌ لِلتَّأْكِيدِ وَفِيهِ
مَعْنَى الشَّرْطِ وَجَوَابُهُ" فَلا عُدْوانَ" وَأَنَّ"
عُدْوانَ" مَنْصُوبٌ بِ" لَا". وَقَالَ ابْنُ كَيْسَانَ:" مَا"
فِي مَوْضِعِ خَفْضٍ بِإِضَافَةِ" أَيْ" إِلَيْهَا وَهِيَ
نَكِرَةٌ وَ" الْأَجَلَيْنِ" بدل منها وكذلك قَوْلِهِ:" فَبِما
رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ" أَيْ رَحْمَةٌ بَدَلٌ مِنْ مَا، قَالَ
مَكِّيٌّ: وَكَانَ يَتَلَطَّفُ فِي أَلَّا يَجْعَلَ شَيْئًا
زَائِدًا فِي الْقُرْآنِ وَيُخَرِّجُ لَهُ وَجْهًا يُخْرِجُهُ
مِنَ الزِّيَادَةِ وَقَرَأَ الْحَسَنُ:" أَيْمَا" بِسُكُونِ
الْيَاءِ. وَقَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ:" أَيُّ الْأَجَلَيْنِ مَا
قَضَيْتُ" وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ:" عُدْوانَ" بِضَمِّ
الْعَيْنِ. وَأَبُو حَيْوَةَ بِكَسْرِهَا، وَالْمَعْنَى: لَا
تَبِعَةَ عَلَيَّ وَلَا طَلَبَ فِي الزِّيَادَةِ عَلَيْهِ.
وَالْعُدْوَانُ التَّجَاوُزُ فِي غَيْرِ الْوَاجِبِ،
وَالْحِجَجُ السُّنُونَ قَالَ الشَّاعِرُ «1»:
لِمَنِ الدِّيَارُ بِقُنَّةِ الْحِجْرِ ... أَقْوَيْنَ مِنْ
حِجَجٍ ومن دهر
__________
(1). هو زهير بن أبى سلمى. ويروى: ومن شهر.
(13/279)
فَلَمَّا قَضَى مُوسَى
الْأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ
نَارًا قَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا
لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ
النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ (29)
الْوَاحِدَةُ حِجَّةٌ بِكَسْرِ الْحَاءِ.
(وَاللَّهُ عَلى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ) قِيلَ: هُوَ مِنْ قَوْلِ
مُوسَى. وَقِيلَ: هُوَ مِنْ قَوْلِ وَالِدِ الْمَرْأَةِ.
فَاكْتَفَى الصَّالِحَانِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمَا فِي
الْإِشْهَادِ عَلَيْهِمَا بِاللَّهِ وَلَمْ يُشْهِدَا أَحَدًا
مِنَ الْخَلْقِ، وَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي وُجُوبِ
الْإِشْهَادِ فِي النِّكَاحِ، وَهِيَ: الثَّالِثَةُ
وَالْعِشْرُونَ- عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّهُ لَا
يَنْعَقِدُ إِلَّا بِشَاهِدَيْنِ وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ
وَالشَّافِعِيُّ. وَقَالَ مَالِكٌ: إِنَّهُ يَنْعَقِدُ دُونَ
شُهُودٍ، لِأَنَّهُ عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ فَلَا يُشْتَرَطُ فِيهِ
الْإِشْهَادُ، وَإِنَّمَا يُشْتَرَطُ فِيهِ الْإِعْلَانُ
وَالتَّصْرِيحُ، وَفَرْقُ مَا بَيْنَ النِّكَاحِ وَالسِّفَاحِ
الدُّفُّ. وَقَدْ مَضَتْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ فِي"
الْبَقَرَةِ" «1» مُسْتَوْفَاةً وَفِي الْبُخَارِيِّ عَنْ
أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ رَجُلًا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ
سَأَلَ بَعْضَ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنْ يُسْلِفَهُ أَلْفَ
دِينَارٍ فَقَالَ ايتِنِي بِالشُّهَدَاءِ أُشْهِدُهُمْ،
فَقَالَ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا، فَقَالَ ايتِنِي بِكَفِيلٍ،
فَقَالَ كَفَى بِاللَّهِ كَفِيلًا قَالَ صَدَقْتَ فَدَفَعَهَا
إِلَيْهِ، وذكر الحديث
[سورة القصص (28): آية 29]
فَلَمَّا قَضى مُوسَى الْأَجَلَ وَسارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ
جانِبِ الطُّورِ نَارًا قالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي
آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ أَوْ
جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ (29)
فِيهِ ثَلَاثُ مَسَائِلَ: الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى:
(فَلَمَّا قَضى مُوسَى الْأَجَلَ) قَالَ سَعِيدُ بْنُ
جُبَيْرٍ: سَأَلَنِي رَجُلٌ مِنَ النَّصَارَى أَيُّ
الْأَجَلَيْنِ قَضَى مُوسَى فَقُلْتُ: لَا أَدْرِي حَتَّى
أَقْدَمَ عَلَى حَبْرِ الْعَرَبِ فَأَسْأَلَهُ- يَعْنِي ابْنَ
عَبَّاسٍ- فَقَدِمْتُ عَلَيْهِ فَسَأَلْتُهُ، فَقَالَ: قَضَى
أَكْمَلَهُمَا وَأَوْفَاهُمَا فَأَعْلَمْتُ النَّصْرَانِيَّ
فَقَالَ: صَدَقَ وَاللَّهِ هَذَا الْعَالِمُ. وَرُوِيَ عَنِ
ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ سَأَلَ فِي ذَلِكَ جِبْرِيلَ فَأَخْبَرَهُ أَنَّهُ
قَضَى عَشْرَ سِنِينَ. وَحَكَى الطَّبَرِيُّ عَنْ مُجَاهِدٍ
أنه قضى عشرا وعشرا بعدها، قال ابن عطية: وهذا ضعيف.
__________
(1). راجع ج 3 ص 79 وما بعدها طبعه أولى أو ثانية.
(13/280)
فَلَمَّا أَتَاهَا
نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ
الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا
اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (30)
الثَّانِيَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَسارَ
بِأَهْلِهِ) قِيلَ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الرَّجُلَ
يَذْهَبُ بِأَهْلِهِ حَيْثُ شَاءَ، لِمَا لَهُ عَلَيْهَا مِنْ
فَضْلِ الْقِوَامِيَّةِ وَزِيَادَةِ الدَّرَجَةِ إِلَّا أَنْ
يَلْتَزِمَ لَهَا أَمْرًا فَالْمُؤْمِنُونَ عِنْدَ
شُرُوطِهِمْ، وَأَحَقُّ الشُّرُوطِ أَنْ يُوَفَّى بِهِ مَا
اسْتَحْلَلْتُمْ بِهِ الْفُرُوجَ. الثَّالِثَةُ- قَوْلُهُ
تَعَالَى: (آنَسَ مِنْ جانِبِ الطُّورِ نَارًا) الْآيَةَ.
تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِي ذَلِكَ فِي" طه". وَالْجِذْوَةُ
بِكَسْرِ الْجِيمِ قِرَاءَةُ الْعَامَّةِ، وَضَمَّهَا حَمْزَةُ
وَيَحْيَى، وَفَتَحَهَا عَاصِمٌ وَالسُّلَمِيُّ وَزِرُّ بْنُ
حُبَيْشٍ. قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: الْجِذْوَةُ وَالْجَذْوَةُ
وَالْجُذْوَةُ الْجَمْرَةُ الْمُلْتَهِبَةُ وَالْجَمْعُ جِذًا
وَجُذًا وَجَذًا قَالَ مُجَاهِدٌ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:" أَوْ
جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ" أَيْ قِطْعَةٍ مِنَ الْجَمْرِ، قَالَ:
وَهِيَ بِلُغَةِ جَمِيعِ الْعَرَبِ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ:
وَالْجَذْوَةُ مِثْلَ الْجِذْمَةِ وَهِيَ الْقِطْعَةُ
الْغَلِيظَةُ مِنَ الْخَشَبِ كَانَ فِي طَرَفِهَا نَارٌ أَوْ
لَمْ يَكُنْ. قَالَ ابْنُ مُقْبِلٍ:
بَاتَتْ حَوَاطِبُ لَيْلَى يَلْتَمِسْنَ لَهَا ... جَزْلَ
الْجِذَا غَيْرَ خَوَّارٍ وَلَا دَعِرِ «1»
وَقَالَ:
وَأَلْقَى عَلَى قَيْسٍ مِنَ النَّارِ جِذْوَةً ... شَدِيدًا
عَلَيْهَا حَمْيُهَا ولهيبها «2»
[سورة القصص (28): آية 30]
فَلَمَّا أَتاها نُودِيَ مِنْ شاطِئِ الْوادِ الْأَيْمَنِ فِي
الْبُقْعَةِ الْمُبارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يَا مُوسى
إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ (30)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (فَلَمَّا أَتاها) يَعْنِي الشَّجَرَةَ
قُدِّمَ ضميرها عليها. (نُودِيَ مِنْ شاطِئِ الْوادِ) " مِنْ"
الْأُولَى وَالثَّانِيَةُ لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ، أَيْ
أَتَاهُ النِّدَاءُ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِي مِنْ قِبَلِ
الشَّجَرَةِ. وَ" مِنَ الشَّجَرَةِ" بَدَلٌ مِنْ قَوْلِهِ"
مِنْ شاطِئِ الْوادِ" بَدَلُ الِاشْتِمَالِ، لِأَنَّ
الشَّجَرَةَ كَانَتْ نَابِتَةً عَلَى الشَّاطِئِ، وَشَاطِئُ
الْوَادِي وَشَطُّهُ جَانِبُهُ، وَالْجَمْعُ شُطَّانٌ وشواطئ،
ذكره الْقُشَيْرِيُّ، وَقَالَ الْجَوْهَرِيُّ: وَيُقَالُ
شَاطِئُ الْأَوْدِيَةِ وَلَا يُجْمَعُ. وَشَاطَأْتُ الرَّجُلَ
إِذَا مَشَيْتُ عَلَى شَاطِئٍ
__________
(1). الخوار هنا العود الذي يتقصف والمدعر الذي إذا وضع على
النار لم يستوقد ودخن.
(2). ويروى:
شديدا عليها حرها والتهابها
(13/281)
وَمَشَى هُوَ عَلَى شَاطِئٍ آخَرَ.
(الْأَيْمَنِ) أَيْ عَنْ يَمِينِ مُوسَى. وَقِيلَ: عَنْ
يَمِينِ الْجَبَلِ. (فِي الْبُقْعَةِ الْمُبارَكَةِ) وَقَرَأَ
الْأَشْهَبُ الْعُقَيْلِيُّ" فِي الْبُقْعَةِ" بِفَتْحِ
الْبَاءِ. وَقَوْلِهِمْ بِقَاعٍ يَدُلُّ عَلَى بَقْعَةٍ، كَمَا
يُقَالُ جَفْنَةٌ وَجِفَانٌ. وَمَنْ قَالَ بُقْعَةً قَالَ
بُقَعٌ مِثْلَ غُرْفَةٍ وَغُرَفٍ. (مِنَ الشَّجَرَةِ) أَيْ
مِنْ نَاحِيَةِ الشَّجَرَةِ. قِيلَ كَانَتْ شَجَرَةَ
الْعُلَّيْقِ. وَقِيلَ سَمُرَةٌ وَقِيلَ عَوْسَجٌ. وَمِنْهَا
كَانَتْ عَصَاهُ، ذَكَرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ وَقِيلَ:
عُنَّابٌ، وَالْعَوْسَجُ إِذَا عَظُمَ يُقَالُ لَهُ
الْغَرْقَدُ. وَفِي الْحَدِيثِ: إِنَّهُ مِنْ شَجَرِ
الْيَهُودِ فَإِذَا نَزَلَ عِيسَى وَقَتَلَ الْيَهُودَ
الَّذِينَ مَعَ الدَّجَّالِ فَلَا يَخْتَفِي أَحَدٌ مِنْهُمْ
خَلْفَ شَجَرَةٍ إِلَّا نَطَقَتْ وَقَالَتْ يَا مُسْلِمُ هَذَا
يَهُودِيٌّ وَرَائِي تَعَالَ فَاقْتُلْهُ إِلَّا الْغَرْقَدَ
فَإِنَّهُ مِنْ شَجَرِ الْيَهُودِ فَلَا يَنْطِقُ. خَرَّجَهُ
مُسْلِمٌ. قَالَ الْمَهْدَوِيُّ: وَكَلَّمَ اللَّهُ تَعَالَى
مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنْ فَوْقِ عَرْشِهِ وَأَسْمَعَهُ
كَلَامَهُ مِنَ الشَّجَرَةِ عَلَى مَا شَاءَ. وَلَا يَجُوزُ
أَنْ يوصف الله تَعَالَى بِالِانْتِقَالِ وَالزَّوَالِ
وَشِبْهِ ذَلِكَ مِنْ صِفَاتِ الْمَخْلُوقِينَ. قَالَ أَبُو
الْمَعَالِي: وَأَهْلُ الْمَعَانِي وَأَهْلُ الْحَقِّ
يَقُولُونَ مَنْ كَلَّمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَخَصَّهُ
بِالرُّتْبَةِ الْعُلْيَا وَالْغَايَةِ الْقُصْوَى، فَيُدْرِكُ
كَلَامَهُ الْقَدِيمَ المتقدس عَنْ مُشَابَهَةِ الْحُرُوفِ
وَالْأَصْوَاتِ وَالْعِبَارَاتِ وَالنَّغَمَاتِ وَضُرُوبِ
اللُّغَاتِ، كَمَا أَنَّ مَنْ خَصَّهُ اللَّهُ بِمَنَازِلِ
الْكَرَامَاتِ وَأَكْمَلَ عَلَيْهِ نِعْمَتَهُ، وَرَزَقَهُ
رُؤْيَتَهُ يَرَى اللَّهَ سُبْحَانَهُ مُنَزَّهًا عَنْ
مُمَاثَلَةِ الْأَجْسَامِ وَأَحْكَامِ الْحَوَادِثِ، وَلَا
مِثْلَ لَهُ سُبْحَانَهُ فِي ذَاتِهِ وَصِفَاتِهِ،
وَأَجْمَعَتِ الْأُمَّةُ عَلَى أَنَّ الرَّبَّ تَعَالَى
خَصَّصَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَغَيْرَهُ مِنَ
الْمُصْطَفَيْنَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ بِكَلَامِهِ. قَالَ
الْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ: اتَّفَقَ أَهْلُ الْحَقِّ عَلَى
أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَ فِي مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ
مَعْنًى مِنَ الْمَعَانِي أَدْرَكَ بِهِ كَلَامَهُ كَانَ
اخْتِصَاصُهُ فِي سَمَاعِهِ، وَأَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى مِثْلِهِ
فِي جَمِيعِ خَلْقِهِ. وَاخْتَلَفُوا فِي نَبِيِّنَا عَلَيْهِ
السَّلَامُ هَلْ سَمِعَ لَيْلَةَ الْإِسْرَاءِ كَلَامَ
اللَّهِ، وَهَلْ سَمِعَ جِبْرِيلُ كَلَامَهُ عَلَى قَوْلَيْنِ،
وَطَرِيقُ أَحَدِهِمَا النَّقْلُ الْمَقْطُوعُ بِهِ وَذَلِكَ
مَفْقُودٌ، وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ سَمَاعَ الْخَلْقِ لَهُ
عِنْدَ قِرَاءَةَ الْقُرْآنِ عَلَى مَعْنَى أَنَّهُمْ سَمِعُوا
الْعِبَارَةَ الَّتِي عَرَفُوا بِهَا مَعْنَاهُ دُونَ
سَمَاعِهِ لَهُ فِي عَيْنِهِ. وَقَالَ عبد الله. ابن سَعْدِ
بْنُ كِلَابٍ: إِنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فَهِمَ
كَلَامَ اللَّهِ الْقَدِيمَ مِنْ أَصْوَاتٍ مَخْلُوقَةٍ
أَثْبَتَهَا اللَّهُ تَعَالَى فِي بَعْضِ الْأَجْسَامِ. قَالَ
أَبُو الْمَعَالِي: وَهَذَا مَرْدُودٌ، بَلْ يَجِبُ اخْتِصَاصُ
موسى
(13/282)
وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ
فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا
وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَى أَقْبِلْ وَلَا تَخَفْ إِنَّكَ
مِنَ الْآمِنِينَ (31) اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ
بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ
مِنَ الرَّهْبِ فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِنْ رَبِّكَ إِلَى
فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ
(32) قَالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْسًا فَأَخَافُ
أَنْ يَقْتُلُونِ (33) وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي
لِسَانًا فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءًا يُصَدِّقُنِي إِنِّي
أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ (34) قَالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ
بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَانًا فَلَا يَصِلُونَ
إِلَيْكُمَا بِآيَاتِنَا أَنْتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا
الْغَالِبُونَ (35)
عَلَيْهِ السَّلَامُ بِإِدْرَاكِ كَلَامِ
اللَّهِ تَعَالَى خَرْقًا لِلْعَادَةِ، وَلَوْ لَمْ يَقُلْ
ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ لِمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ اخْتِصَاصٌ
بِتَكْلِيمِ اللَّهِ إِيَّاهُ. وَالرَّبُّ تَعَالَى أَسْمَعَهُ
كَلَامَهُ الْعَزِيزَ، وَخَلَقَ لَهُ عِلْمًا ضَرُورِيًّا،
حَتَّى عَلِمَ أَنَّ مَا سَمِعَهُ كَلَامُ اللَّهِ، وَأَنَّ
الَّذِي كَلَّمَهُ وَنَادَاهُ هُوَ اللَّهُ رَبُّ
الْعَالَمِينَ. وَقَدْ وَرَدَ فِي الْأَقَاصِيصِ أَنَّ مُوسَى
عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ: سَمِعْتُ كَلَامَ رَبِّي بِجَمِيعِ
جَوَارِحِي، وَلَمْ أَسْمَعْهُ مِنْ جِهَةٍ وَاحِدَةٍ مِنْ
جِهَاتِي وَقَدْ مَضَى هَذَا الْمَعْنَى فِي" الْبَقَرَةِ" «1»
مُسْتَوْفًى. (أَنْ يَا مُوسى) " أَنْ" فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ
بِحَذْفِ حَرْفِ الْجَرِّ أَيْ بِ" أَنْ يَا مُوسى ". (إِنِّي
أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ) نَفْيٌ لِرُبُوبِيَّةِ
غَيْرِهِ سُبْحَانَهُ. وَصَارَ بِهَذَا الْكَلَامِ مِنْ
أَصْفِيَاءِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ لَا مِنْ رُسُلِهِ،
لِأَنَّهُ لَا يَصِيرُ رَسُولًا إِلَّا بَعْدَ أَمْرِهِ
بِالرِّسَالَةِ، وَالْأَمْرُ بِهَا إِنَّمَا كان بعد هذا
الكلام.
[سورة القصص (28): آية 31]
وَأَنْ أَلْقِ عَصاكَ فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ كَأَنَّها
جَانٌّ وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسى أَقْبِلْ
وَلا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ (31)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَأَنْ أَلْقِ عَصاكَ) عُطِفَ عَلَى" أَنْ
يَا مُوسى " وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي هَذَا فِي" النَّمْلِ"
وَ" طه". وَ (مُدْبِراً) نُصِبَ عَلَى الْحَالِ وَكَذَلِكَ
مَوْضِعُ قَوْلِهِ: (وَلَمْ يُعَقِّبْ) نُصِبَ عَلَى الْحَالِ
أَيْضًا. (يَا مُوسى أَقْبِلْ وَلا تَخَفْ) قَالَ وَهْبٌ:
قِيلَ لَهُ ارْجِعْ إِلَى حَيْثُ كُنْتَ. فَرَجَعَ فَلَفَّ
دُرَّاعَتَهُ «2» عَلَى يَدِهِ، فَقَالَ لَهُ الْمَلَكُ:
أَرَأَيْتَ إِنْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَكَ بِمَا
تُحَاذِرُ أَيَنْفَعُكَ لَفُّكَ يَدَكَ؟ قَالَ: لَا وَلَكِنِّي
ضَعِيفٌ خُلِقْتُ مِنْ ضَعْفٍ. وَكَشَفَ يَدَهُ فَأَدْخَلَهَا
فِي فَمِ الْحَيَّةِ فَعَادَتْ عَصًا. (إِنَّكَ مِنَ
الْآمِنِينَ) أَيْ مِمَّا تُحَاذِرُ.
[سورة القصص (28): الآيات 32 الى 35]
اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ
سُوءٍ وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَناحَكَ مِنَ الرَّهْبِ فَذانِكَ
بُرْهانانِ مِنْ رَبِّكَ إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ إِنَّهُمْ
كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ (32) قالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ
مِنْهُمْ نَفْساً فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ (33) وَأَخِي
هارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِساناً فَأَرْسِلْهُ مَعِي
رِدْءاً يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ (34)
قالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُما
سُلْطاناً فَلا يَصِلُونَ إِلَيْكُما بِآياتِنا أَنْتُما
وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغالِبُونَ (35)
__________
(1). راجع ج 1 ص 304 طبعه ثانية أو ثالثة.
(2). الدراعة: ضرب من الثياب التي تلبس. وقيل جبة مشقوقة
المقدم.
(13/283)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (اسْلُكْ يَدَكَ فِي
جَيْبِكَ) الْآيَةَ، تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِيهِ. (وَاضْمُمْ
إِلَيْكَ جَناحَكَ مِنَ الرَّهْبِ) " مِنْ" مُتَعَلِّقَةٌ بِ"
وَلَّى" أَيْ وَلَّى مُدْبِرًا مِنَ الرَّهْبِ. وَقَرَأَ
حَفْصٌ وَالسُّلَمِيُّ وَعِيسَى بْنُ عَمْرٍو وَابْنُ أَبِي
إِسْحَاقَ" مِنَ الرَّهْبِ" بِفَتْحِ الرَّاءِ وَإِسْكَانِ
الْهَاءِ. وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ والكوفيون إلا حفص بِضَمِّ
الرَّاءِ وَجَزْمِ الْهَاءِ. الْبَاقُونَ بِفَتْحِ الرَّاءِ
وَالْهَاءِ. وَاخْتَارَهُ أَبُو عُبَيْدٍ وَأَبُو حَاتِمٍ،
لِقَوْلِهِ تَعَالَى:" وَيَدْعُونَنا رَغَباً وَرَهَباً"
وَكُلُّهَا لُغَاتٌ وَهُوَ بِمَعْنَى الْخَوْفِ. وَالْمَعْنَى
إِذَا هَالَكَ أَمْرُ يَدِكَ وَشُعَاعُهَا فَأَدْخِلْهَا فِي
جَيْبِكَ وَارْدُدْهَا إِلَيْهِ تَعُدْ كَمَا كَانَتْ.
وَقِيلَ: أَمَرَهُ اللَّهُ أَنْ يَضُمَّ يَدَهُ إِلَى صَدْرِهِ
فَيَذْهَبُ عَنْهُ خَوْفُ الْحَيَّةِ. عَنْ مُجَاهِدٍ
وَغَيْرِهِ وَرَوَاهُ الضَّحَّاكُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ
فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَيْسَ مِنْ أَحَدٍ يَدْخُلُهُ رُعْبٌ
بَعْدَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، ثُمَّ يُدْخِلُ يَدَهُ
فَيَضَعُهَا عَلَى صَدْرِهِ إِلَّا ذَهَبَ عَنْهُ الرُّعْبُ.
وَيُحْكَى عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ رَحِمَهُ
اللَّهُ أَنَّ كَاتِبًا كَانَ يَكْتُبُ بَيْنَ يَدَيْهِ،
فَانْفَلَتَتْ مِنْهُ فَلْتَةُ رِيحٍ فَخَجِلَ وَانْكَسَرَ،
فَقَامَ وَضَرَبَ بِقَلَمِهِ الْأَرْضَ فَقَالَ لَهُ عُمَرُ:
خُذْ قَلَمَكَ وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ، وَلْيُفْرِخْ
رَوْعُكَ فَإِنِّي مَا سَمِعْتُهَا مِنْ أَحَدٍ أَكْثَرَ
مِمَّا سَمِعْتُهَا مِنْ نَفْسِي. وَقِيلَ: الْمَعْنَى اضْمُمْ
يَدَكَ إِلَى صَدْرِكَ لِيُذْهِبَ اللَّهُ مَا فِي صَدْرِكَ
مِنَ الْخَوْفِ. وَكَانَ مُوسَى يَرْتَعِدُ خَوْفًا إِمَّا
مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ وَإِمَّا مِنَ الثُّعْبَانِ. وَضَمُّ
الْجَنَاحِ هُوَ السُّكُونُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى:" وَاخْفِضْ
لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ" يُرِيدُ الرِّفْقَ
وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ:" وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ
مِنَ الْمُؤْمِنِينَ" أَيِ ارْفُقْ بِهِمْ. وَقَالَ
الْفَرَّاءُ: أَرَادَ بِالْجَنَاحِ عَصَاهُ. وَقَالَ بَعْضُ
أَهْلِ الْمَعَانِي: الرَّهْبُ الْكُمُّ بِلُغَةِ حِمْيَرَ
وَبَنِي حَنِيفَةَ قَالَ مُقَاتِلٌ: سَأَلَتْنِي
أَعْرَابِيَّةٌ شَيْئًا وَأَنَا آكُلُ فَمَلَأْتُ الكف وأومأت
إليها
(13/284)
فقالت: ها هنا فِي رَهْبِي. تُرِيدُ فِي
كُمِّي. وَقَالَ الْأَصْمَعِيُّ: سَمِعْتُ أَعْرَابِيًّا
يَقُولُ لِآخَرَ أَعْطِنِي رَهْبَكَ. فَسَأَلْتُهُ عَنِ
الرَّهْبِ فَقَالَ: الْكُمُّ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ مَعْنَاهُ
اضْمُمْ إِلَيْكَ يَدَكَ وَأَخْرِجْهَا مِنَ الْكُمِّ،
لِأَنَّهُ تَنَاوَلَ الْعَصَا وَيَدُهُ فِي كُمِّهِ
وَقَوْلُهُ:" اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ" يَدُلُّ عَلَى
أَنَّهَا الْيَدُ الْيُمْنَى، لِأَنَّ الْجَيْبَ عَلَى
الْيَسَارِ. ذَكَرَهُ الْقُشَيْرِيُّ قُلْتُ: وَمَا فَسَّرُوهُ
مِنْ ضَمِّ الْيَدِ إِلَى الصَّدْرِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ
الْجَيْبَ مَوْضِعُهُ الصَّدْرُ. وَقَدْ مَضَى فِي سُورَةِ"
النُّورِ" «1» بَيَانُهُ. الزَّمَخْشَرِيُّ: وَمِنْ بِدَعِ
التَّفَاسِيرِ أَنَّ الرَّهْبَ الْكُمُّ بِلُغَةِ حِمْيَرَ
وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ أَعْطِنِي مِمَّا فِي رَهْبِكَ،
وَلَيْتَ شِعْرِي كَيْفَ صِحَّتُهُ فِي اللُّغَةِ! وَهَلْ
سُمِعَ مِنَ الْأَثْبَاتِ الثِّقَاتِ الَّذِينَ تُرْتَضَى
عَرَبِيَّتُهُمْ، ثُمَّ لَيْتَ شِعْرِي كَيْفَ مَوْقِعُهُ فِي
الْآيَةِ، وَكَيْفَ تَطْبِيقُهُ الْمُفَصَّلُ كَسَائِرِ
كَلِمَاتِ التَّنْزِيلِ، على أن موسى صلوات عَلَيْهِ مَا كَانَ
عَلَيْهِ لَيْلَةَ الْمُنَاجَاةِ إِلَّا زُرْمَانِقَةً «2»
مِنْ صُوفٍ لَا كُمَّيْنِ لَهَا. قَالَ الْقُشَيْرِيُّ:
وَقَوْلُهُ:" وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَناحَكَ" يُرِيدُ
الْيَدَيْنِ إِنْ قُلْنَا أَرَادَ الْأَمْنَ مِنْ فَزَعِ
الثُّعْبَانِ. وَقِيلَ:" وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَناحَكَ" أَيْ
شَمِّرْ وَاسْتَعِدَّ لِتَحَمُّلِ أَعْبَاءِ الرِّسَالَةِ.
قُلْتُ: فَعَلَى هَذَا قِيلَ:" إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ" أَيْ
مِنَ الْمُرْسَلِينَ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى:" إِنِّي لَا يَخافُ
لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ" قَالَ ابْنُ بَحْرٍ: فَصَارَ عَلَى
هَذَا التَّأْوِيلِ رَسُولًا بهذا القول. وقيل إنما صار رسولا
بقول: (فَذانِكَ بُرْهانانِ مِنْ رَبِّكَ إِلى فِرْعَوْنَ
وَمَلَائِهِ) والبرهان الْيَدُ وَالْعَصَا وَقَرَأَ ابْنُ
كَثِيرٍ بِتَشْدِيدِ النُّونِ وَخَفَّفَهَا الْبَاقُونَ.
وَرَوَى أَبُو عُمَارَةَ عَنْ أَبِي الْفَضْلِ عَنْ أَبِي
بَكْرٍ عَنِ ابْنِ كَثِيرٍ،" فَذَانِّيكَ" بِالتَّشْدِيدِ
وَالْيَاءِ. وَعَنْ أَبِي عَمْرٍو أَيْضًا قَالَ لُغَةُ
هُذَيْلٍ" فَذَانِيكَ" بِالتَّخْفِيفِ وَالْيَاءِ. وَلُغَةُ
قُرَيْشٍ" فَذانِكَ" كَمَا قَرَأَ أَبُو عَمْرٍو وَابْنُ
كَثِيرٍ. وَفِي تَعْلِيلِهِ خَمْسَةُ أَقْوَالٍ: قِيلَ شَدَّدَ
النُّونَ عِوَضًا مِنَ الْأَلِفِ السَّاقِطَةِ فِي ذَانِكَ
الَّذِي هُوَ تَثْنِيَةُ ذَا الْمَرْفُوعِ، وَهُوَ رَفْعٌ
بِالِابْتِدَاءِ، وَأَلِفُ ذَا مَحْذُوفَةٌ لِدُخُولِ أَلِفِ
التَّثْنِيَةِ عَلَيْهَا، وَلَمْ يَلْتَفِتْ إِلَى الْتِقَاءِ
السَّاكِنَيْنِ، لِأَنَّ أصله فذاانك فَحُذِفَ الْأَلِفُ
الْأُولَى عِوَضًا مِنَ النُّونِ الشَّدِيدَةِ. وقيل:
__________
(1). راجع ج 12 ص 231 طبعه أولى أو ثانية.
(2). الزرمانقة: جبة من صوف وهي عجمية معربة. [ ..... ]
(13/285)
التَّشْدِيدُ لِلتَّأْكِيدِ كَمَا
أَدْخَلُوا اللَّامَ فِي ذَلِكَ. مَكِّيٌّ: وَقِيلَ إِنَّ مَنْ
شَدَّدَ إِنَّمَا بَنَاهُ عَلَى لُغَةِ مَنْ قَالَ فِي
الْوَاحِدِ ذَلِكَ، فَلَمَّا بَنَى أَثْبَتَ اللَّامَ بَعْدَ
نُونِ التَّثْنِيَةِ، ثُمَّ أَدْغَمَ اللَّامَ فِي النُّونِ
عَلَى حُكْمِ إِدْغَامِ الثَّانِي فِي الْأَوَّلِ، وَالْأَصْلُ
أَنْ يُدْغَمَ الْأَوَّلُ أَبَدًا فِي الثَّانِي، إِلَّا أَنْ
يَمْنَعَ مِنْ ذَلِكَ عِلَّةٌ فَيُدْغَمُ الثَّانِي فِي
الْأَوَّلِ، وَالْعِلَّةُ الَّتِي مَنَعَتْ فِي هَذَا أَنْ
يُدْغَمَ الْأَوَّلُ فِي الثَّانِي أَنَّهُ لَوْ فُعِلَ ذَلِكَ
لَصَارَ فِي مَوْضِعِ النُّونِ الَّتِي تَدُلُّ عَلَى
التَّثْنِيَةِ لَامٌ مُشَدَّدَةٌ فَيَتَغَيَّرُ لَفْظُ
التَّثْنِيَةِ فَأُدْغِمَ الثَّانِي فِي الْأَوَّلِ لِذَلِكَ،
فَصَارَ نُونًا مُشَدَّدَةً. وقد قيل: إنه لما تنأ في ذَلِكَ
أُثْبِتَ اللَّامُ قَبْلَ النُّونِ ثُمَّ أُدْغِمَ الْأَوَّلُ
فِي الثَّانِي عَلَى أُصُولُ الْإِدْغَامِ فَصَارَ نُونًا
مُشَدَّدَةً. وَقِيلَ: شُدِّدَتْ فَرْقًا بَيْنَهَا وَبَيْنَ
الظاهر التي تسقط لاضافة نُونَهُ، لِأَنَّ ذَانِ لَا يُضَافُ.
وَقِيلَ: لِلْفَرْقِ بَيْنَ الِاسْمِ الْمُتَمَكِّنِ
وَبَيْنَهَا. وَكَذَلِكَ الْعِلَّةُ فِي تَشْدِيدِ النُّونِ
فِي" اللَّذَانِّ" وَ" هَذَانِّ". قَالَ أَبُو عَمْرٍو:
إِنَّمَا اخْتَصَّ أَبُو عَمْرٍو هَذَا الْحَرْفَ
بِالتَّشْدِيدِ دُونَ كُلِّ تَثْنِيَةٍ مِنْ جِنْسِهِ لقلة
حروفه فقرأه بِالتَّثْقِيلِ. وَمَنْ قَرَأَ:" فَذَانِيكَ"
بِيَاءٍ مَعَ تَخْفِيفِ النُّونِ فَالْأَصْلُ عِنْدَهُ"
فَذَانِّكَ" بِالتَّشْدِيدِ فَأَبْدَلَ مِنَ النُّونِ
الثَّانِيَةِ يَاءً كَرَاهِيَةَ التَّضْعِيفِ، كَمَا قَالُوا:
لَا أَمْلَاهُ فِي لَا أَمَلُّهُ فَأَبْدَلُوا اللَّامَ
الثَّانِيَةَ أَلِفًا. وَمَنْ قَرَأَ بِيَاءٍ بَعْدَ النُّونِ
الشَّدِيدَةِ فَوَجْهُهُ أَنَّهُ أَشْبَعَ كَسْرَةَ النُّونِ
فَتَوَلَّدَتْ عَنْهَا الْيَاءُ. قَوْلُهُ تَعَالَى:
(فَأَرْسِلْهُ مَعِي رِدْءاً) يَعْنِي مُعِينًا مُشْتَقٌّ مِنْ
أَرْدَأْتُهُ أَيْ أَعَنْتُهُ. وَالرِّدْءُ الْعَوْنُ قَالَ
الشَّاعِرُ:
أَلَمْ تَرَ أَنَّ أَصْرَمَ كَانَ رِدْئِي ... وَخَيْرُ
النَّاسِ فِي قُلٍّ وَمَالِ
النَّحَّاسُ: وَقَدْ أَرْدَأَهُ وَرَدَّاهُ أَيْ أَعَانَهُ،
وَتَرَكَ هَمْزَهُ تَخْفِيفًا. وَبِهِ قَرَأَ نَافِعٌ: وَهُوَ
بِمَعْنَى الْمَهْمُوزِ. قَالَ الْمَهْدَوِيُّ: وَيَجُوزُ أَنْ
يَكُونَ تَرْكُ الْهَمْزِ مِنْ قَوْلِهِمْ أَرْدَى عَلَى
الْمِائَةِ أَيْ زَادَ عَلَيْهَا، وَكَأَنَّ الْمَعْنَى
أَرْسِلْهُ مَعِيَ زِيَادَةً فِي تَصْدِيقِي. قَالَهُ مُسْلِمُ
بْنُ جُنْدُبٍ. وَأَنْشَدَ قَوْلَ الشَّاعِرِ:
وَأَسْمَرُ خَطِّيًّا كَأَنَّ كُعُوبَهُ ... نَوَى الْقَسْبِ
قَدْ أَرْدَى ذِرَاعًا عَلَى الْعَشْرِ
كَذَا أَنْشَدَ الْمَاوَرْدِيُّ هَذَا الْبَيْتَ: قَدْ
أَرْدَى. وَأَنْشَدَهُ الْغَزْنَوِيُّ وَالْجَوْهَرِيُّ فِي
الصِّحَاحِ قَدْ أَرْمَى «1»، قَالَ: وَالْقَسْبُ الصُّلْبُ،
وَالْقَسْبُ تَمْرٌ يَابِسٌ يَتَفَتَّتُ في الفم صلب النواة.
قال
__________
(1). أرمى وأربى لغتان.
(13/286)
فَلَمَّا جَاءَهُمْ
مُوسَى بِآيَاتِنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا إِلَّا
سِحْرٌ مُفْتَرًى وَمَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا
الْأَوَّلِينَ (36) وَقَالَ مُوسَى رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ
جَاءَ بِالْهُدَى مِنْ عِنْدِهِ وَمَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ
الدَّارِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (37) وَقَالَ
فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ
إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ
فَاجْعَلْ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى
وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ (38) وَاسْتَكْبَرَ
هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا
أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لَا يُرْجَعُونَ (39) فَأَخَذْنَاهُ
وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ فَانْظُرْ كَيْفَ
كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (40) وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً
يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا
يُنْصَرُونَ (41) وَأَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا
لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ
(42)
يَصِفُ رُمْحًا: وَأَسْمَرُ. الْبَيْتُ.
قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: رَدُؤَ الشيء يردؤ رداءة فهو ردئ أَيْ
فَاسِدٌ، وَأَرْدَأْتُهُ أَفْسَدْتُهُ، وَأَرْدَأْتُهُ أَيْضًا
بِمَعْنَى أَعَنْتُهُ، تَقُولُ: أَرْدَأْتُهُ بِنَفْسِي أَيْ
كُنْتُ لَهُ رِدْءًا وَهُوَ الْعَوْنُ. قَالَ اللَّهُ
تَعَالَى:" فَأَرْسِلْهُ مَعِي رِدْءاً يُصَدِّقُنِي". قَالَ
النَّحَّاسُ: وَقَدْ حَكَى رَدَأْتُهُ: رِدْءًا وَجَمْعُ
رِدْءٍ أَرْدَاءُ. وَقَرَأَ عَاصِمٌ وَحَمْزَةُ" يُصَدِّقُنِي"
بِالرَّفْعِ. وَجَزَمَ الْبَاقُونَ، وَهُوَ اخْتِيَارُ أَبِي
حَاتِمٍ عَلَى جَوَابِ الدُّعَاءِ. وَاخْتَارَ الرَّفْعَ أَبُو
عُبَيْدٍ عَلَى الْحَالِ مِنَ الْهَاءِ فِي" فَأَرْسِلْهُ"
أَيْ أَرْسِلْهُ رِدْءًا مُصَدِّقًا حَالَةَ التَّصْدِيقِ،
كَقَوْلِهِ:" أَنْزِلْ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ
تَكُونُ" أَيْ كَائِنَةً، حَالٌ صُرِفَ إِلَى الِاسْتِقْبَالِ
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ صِفَةً لِقَوْلِهِ:" رِدْءاً". (إِنِّي
أَخافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ) إِذَا لَمْ يَكُنْ لِي وَزِيرٌ
وَلَا مُعِينٌ، لِأَنَّهُمْ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ
عَنِّي، فَ" (قالَ) الله عز وجل له (سَنَشُدُّ عَضُدَكَ
بِأَخِيكَ) أَيْ نُقَوِّيكَ بِهِ، وَهَذَا تَمْثِيلٌ، لِأَنَّ
قُوَّةَ الْيَدِ بِالْعَضُدِ. قَالَ طَرَفَةُ:
بَنِي لُبَيْنَى لَسْتُمُ بِيَدٍ ... إِلَّا يَدًا لَيْسَتْ
لَهَا عَضُدُ
وَيُقَالُ فِي دُعَاءِ الْخَيْرِ: شَدَّ اللَّهُ عَضُدَكَ.
وَفِي ضِدِّهِ: فَتَّ اللَّهُ فِي عَضُدِكَ. (وَنَجْعَلُ
لَكُما سُلْطاناً) أَيْ حُجَّةً وَبُرْهَانًا. (فَلا يَصِلُونَ
إِلَيْكُما) بِالْأَذَى (بِآياتِنا) أَيْ تَمْتَنِعَانِ
مِنْهُمْ" بِآياتِنا" فَيَجُوزُ أَنْ يُوقَفَ عَلَى"
إِلَيْكُما" وَيَكُونُ فِي الْكَلَامِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ.
وَقِيلَ: التَّقْدِيرُ" أَنْتُما وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا
الْغالِبُونَ" بآياتنا. قاله الْأَخْفَشُ وَالطَّبَرِيُّ قَالَ
الْمَهْدَوِيُّ: وَفِي هَذَا تَقْدِيمُ الصِّلَةِ عَلَى
الْمَوْصُولِ، إِلَّا أَنْ يُقَدَّرَ أَنْتُمَا غَالِبَانِ
بِآيَاتِنَا أَنْتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ.
وَعَنَى بالآيات سائر معجزاته.
[سورة القصص (28): الآيات 36 الى 42]
فَلَمَّا جاءَهُمْ مُوسى بِآياتِنا بَيِّناتٍ قالُوا مَا هَذَا
إِلاَّ سِحْرٌ مُفْتَرىً وَما سَمِعْنا بِهذا فِي آبائِنَا
الْأَوَّلِينَ (36) وَقالَ مُوسى رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جاءَ
بِالْهُدى مِنْ عِنْدِهِ وَمَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ
الدَّارِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (37) وَقالَ
فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ
(13/287)
مِنْ إِلهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا
هامانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحاً لَعَلِّي
أَطَّلِعُ إِلى إِلهِ مُوسى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ
الْكاذِبِينَ (38) وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي
الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنا لَا
يُرْجَعُونَ (39) فَأَخَذْناهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْناهُمْ فِي
الْيَمِّ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (40)
وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ
الْقِيامَةِ لَا يُنْصَرُونَ (41) وَأَتْبَعْناهُمْ فِي هذِهِ
الدُّنْيا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ هُمْ مِنَ
الْمَقْبُوحِينَ (42)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (فَلَمَّا جاءَهُمْ مُوسى بِآياتِنا
بَيِّناتٍ) أَيْ ظَاهِرَاتٍ وَاضِحَاتٍ (قالُوا مَا هَذَا
إِلَّا سِحْرٌ مُفْتَرىً) مَكْذُوبٌ مُخْتَلَقٌ (وَما سَمِعْنا
بِهذا فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ). وَقِيلَ: إِنَّ هَذِهِ
الْآيَاتِ وَمَا احْتَجَّ بِهِ مُوسَى فِي إِثْبَاتِ
التَّوْحِيدِ مِنَ الْحُجَجِ الْعَقْلِيَّةِ. وَقِيلَ: هِيَ
مُعْجِزَاتُهُ. قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَقالَ مُوسى) قِرَاءَةُ
الْعَامَّةِ بِالْوَاوِ. وَقَرَأَ مُجَاهِدٌ وَابْنُ كَثِيرٍ
وَابْنُ مُحَيْصِنٍ" قَالَ" بِلَا وَاوٍ، وَكَذَلِكَ هُوَ فِي
مُصْحَفِ أَهْلِ مَكَّةَ (رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جاءَ
بِالْهُدى) أَيْ بِالرَّشَادِ. (مِنْ عِنْدِهِ وَمَنْ تَكُونُ
لَهُ) قَرَأَ الْكُوفِيُّونَ إِلَّا عَاصِمًا" يَكُونُ"
بِالْيَاءِ وَالْبَاقُونَ بِالتَّاءِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ هَذَا.
(عاقِبَةُ الدَّارِ) أَيْ دَارِ الْجَزَاءِ. (إِنَّهُ)
الْهَاءُ ضَمِيرُ الْأَمْرِ وَالشَّأْنِ (لَا يُفْلِحُ
الظَّالِمُونَ). قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَقالَ فِرْعَوْنُ يَا
أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي)
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كَانَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ قَوْلِهِ:"
أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى " أَرْبَعُونَ سَنَةً، وَكَذَبَ
عَدُوُّ اللَّهِ بَلْ عَلِمَ أَنَّ لَهُ ثَمَّ رَبًّا هُوَ
خالقه وخالق قومه" ولين سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ
لَيَقُولُنَّ اللَّهُ". قَالَ: (فَأَوْقِدْ لِي يَا هامانُ
عَلَى الطِّينِ) أَيِ اطْبُخْ لِي الْآجُرَّ، عَنِ ابْنِ
عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. وَقَالَ قَتَادَةُ: هُوَ
أَوَّلُ مَنْ صَنَعَ الْآجُرَّ وَبَنَى بِهِ. وَلَمَّا أَمَرَ
فِرْعَوْنُ وَزِيرَهُ هَامَانَ بِبِنَاءِ الصَّرْحِ جَمَعَ
هَامَانُ الْعُمَّالَ- قِيلَ خَمْسِينَ أَلْفَ بَنَّاءٍ سِوَى
الْأَتْبَاعِ وَالْأُجَرَاءِ- وَأَمَرَ بِطَبْخِ الْآجُرِّ
وَالْجِصِّ، وَنَشْرِ الْخَشَبِ
(13/288)
وَضَرْبِ الْمَسَامِيرِ، فَبَنَوْا
وَرَفَعُوا الْبِنَاءَ وَشَيَّدُوهُ بِحَيْثُ لم يبلغه بنيان
منذ خلق الله السموات وَالْأَرْضَ، فَكَانَ الْبَانِي لَا
يَقْدِرُ أَنْ يَقُومَ عَلَى رَأْسِهِ، حَتَّى أَرَادَ اللَّهُ
أَنْ يَفْتِنَهُمْ فِيهِ. فَحَكَى السُّدِّيُّ أَنَّ
فِرْعَوْنَ صَعِدَ السَّطْحَ وَرَمَى بِنُشَّابَةٍ نَحْوَ
السَّمَاءِ، فَرَجَعَتْ مُتَلَطِّخَةً بِدِمَاءٍ، فَقَالَ قَدْ
قَتَلْتُ إِلَهَ مُوسَى. فَرُوِيَ أَنَّ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ
السَّلَامُ بَعَثَهُ اللَّهُ تَعَالَى عِنْدَ مَقَالَتِهِ،
فَضَرَبَ الصَّرْحَ بِجَنَاحِهِ فَقَطَعَهُ ثَلَاثَ قِطَعٍ،
قِطْعَةٍ عَلَى عَسْكَرِ فِرْعَوْنَ قَتَلَتْ مِنْهُمْ أَلْفَ
أَلْفٍ، وَقِطْعَةٍ فِي الْبَحْرِ، وَقِطْعَةٍ فِي الْغَرْبِ،
وَهَلَكَ كُلُّ مَنْ عَمِلَ فِيهِ شَيْئًا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ
بِصِحَّةِ ذَلِكَ. (وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكاذِبِينَ)
الظَّنُّ هُنَا شَكٌّ، فَكَفَرَ عَلَى الشَّكِّ، لِأَنَّهُ
قَدْ رَأَى مِنَ الْبَرَاهِينِ مَا لَا يُخِيلُ «1» عَلَى ذِي
فِطْرَةٍ. قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَاسْتَكْبَرَ) أَيْ تعظم (هُوَ
وَجُنُودُهُ) أي عَنِ الْإِيمَانِ بِمُوسَى. (فِي الْأَرْضِ
بِغَيْرِ الْحَقِّ) أَيْ بِالْعُدْوَانِ، أَيْ لَمْ تَكُنْ
لَهُ حُجَّةٌ تَدْفَعُ مَا جَاءَ بِهِ مُوسَى (وَظَنُّوا
أَنَّهُمْ إِلَيْنا لَا يُرْجَعُونَ) أَيْ تَوَهَّمُوا أَنَّهُ
لَا مَعَادَ وَلَا بَعْثَ. وَقَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ
مُحَيْصِنٍ وَشَيْبَةُ وَحُمَيْدٌ وَيَعْقُوبُ وَحَمْزَةُ
وَالْكِسَائِيُّ" لَا يَرْجِعُونَ" بِفَتْحِ الْيَاءِ وَكَسْرِ
الْجِيمِ عَلَى أَنَّهُ مُسَمَّى الْفَاعِلِ. الْبَاقُونَ"
يُرْجَعُونَ" عَلَى الْفِعْلِ الْمَجْهُولِ. وَهُوَ اخْتِيَارُ
أَبِي عُبَيْدٍ، وَالْأَوَّلُ اخْتِيَارُ أَبِي حَاتِمٍ.
(فَأَخَذْناهُ وَجُنُودَهُ) وَكَانُوا أَلْفَيْ أَلْفٍ
وَسِتَّمِائَةِ أَلْفٍ. (فَنَبَذْناهُمْ فِي الْيَمِّ) أَيْ
طَرَحْنَاهُمْ فِي الْبَحْرِ الْمَالِحِ. قَالَ قَتَادَةُ:
بَحْرٌ مِنْ وَرَاءِ مِصْرَ يُقَالُ لَهُ إِسَافٌ أَغْرَقَهُمُ
اللَّهُ فِيهِ. وَقَالَ وَهْبٌ وَالسُّدِّيُّ: الْمَكَانُ
الَّذِي أَغْرَقَهُمُ اللَّهُ فِيهِ بِنَاحِيَةِ الْقُلْزُمِ
يُقَالُ لَهُ بَطْنُ مُرَيْرَةَ، وَهُوَ إِلَى الْيَوْمِ
غَضْبَانُ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: يَعْنِي نَهْرَ النِّيلِ.
وَهَذَا ضَعِيفٌ وَالْمَشْهُورُ الْأَوَّلُ. (فَانْظُرْ) يَا
مُحَمَّدُ (كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الظَّالِمِينَ) أَيْ آخِرُ
أَمْرِهِمْ. (وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً) أَيْ جَعَلْنَاهُمْ
زُعَمَاءَ يُتَّبَعُونَ عَلَى الْكُفْرِ، فَيَكُونُ عَلَيْهِمْ
وِزْرُهُمْ وَوِزْرُ مَنِ اتَّبَعَهُمْ حَتَّى يَكُونَ
عِقَابُهُمْ أَكْثَرَ. وَقِيلَ: جَعَلَ اللَّهُ الْمَلَأَ مِنْ
قَوْمِهِ رُؤَسَاءَ السَّفَلَةِ مِنْهُمْ، فَهُمْ يَدْعُونَ
إِلَى جَهَنَّمَ. وَقِيلَ: أَئِمَّةٌ يَأْتَمُّ بِهِمْ ذَوُو
الْعِبَرِ وَيَتَّعِظُ بِهِمْ أَهْلُ الْبَصَائِرِ. (يَدْعُونَ
إِلَى النَّارِ) أَيْ إِلَى عَمَلِ أَهْلِ
__________
(1). لا يخيل: أي لا يشكل.
(13/289)
وَلَقَدْ آتَيْنَا
مُوسَى الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ
الْأُولَى بَصَائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ
يَتَذَكَّرُونَ (43)
النَّارِ (وَيَوْمَ الْقِيامَةِ لَا
يُنْصَرُونَ). (وَأَتْبَعْناهُمْ فِي هذِهِ الدُّنْيا
لَعْنَةً) أَيْ أَمَرْنَا الْعِبَادَ بِلَعْنِهِمْ فَمَنْ
ذَكَرَهُمْ لَعَنَهُمْ. وَقِيلَ: أَيْ أَلْزَمْنَاهُمُ
اللَّعْنَ أَيِ الْبُعْدَ عَنِ الْخَيْرِ. (وَيَوْمَ
الْقِيامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ) أي مِنَ
الْمُهْلَكِينَ الْمَمْقُوتِينَ. قَالَهُ ابْنُ كَيْسَانِ
وَأَبُو عُبَيْدَةَ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْمُشَوَّهِينَ
الْخِلْقَةِ بِسَوَادِ الْوُجُوهِ وَزُرْقَةِ الْعُيُونِ
وَقِيلَ: مِنَ الْمُبْعَدِينَ. يُقَالُ: قَبَّحَهُ اللَّهُ
أَيْ نَحَّاهُ مِنْ كُلِّ خَيْرٍ، وَقَبَحَهُ وَقَبَّحَهُ
إِذَا جَعَلَهُ قَبِيحًا. وَقَالَ أَبُو عَمْرٍو قَبَحْتُ
وَجْهَهُ بِالتَّخْفِيفِ مَعْنَاهُ قَبَّحْتُ. قَالَ
الشَّاعِرُ:
أَلَا قَبَحَ اللَّهُ الْبَرَاجِمَ كُلَّهَا ... وَقَبَّحَ
يربوعا وقبح دارما
وانتصب يوما عَلَى الْحَمْلِ عَلَى مَوْضِعٍ" فِي هَذِهِ
الدُّنْيَا" وَاسْتُغْنِيَ عَنْ حَرْفِ الْعَطْفِ فِي
قَوْلِهِ:" مِنَ الْمَقْبُوحِينَ" كَمَا اسْتُغْنِيَ عَنْهُ
فِي قَوْلِهِ:" سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ".
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْعَامِلُ فِي" يَوْمَ" مُضْمَرًا
يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ:" هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ"
فَيَكُونُ كَقَوْلِهِ:" يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ لَا
بُشْرى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ". وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ
الْعَامِلُ فِي" يَوْمَ" قَوْلُهُ:" هُمْ مِنَ
الْمَقْبُوحِينَ" وَإِنْ كَانَ الظَّرْفُ مُتَقَدِّمًا
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَفْعُولًا عَلَى السَّعَةِ، كَأَنَّهُ
قَالَ: وَأَتْبَعْنَاهُمْ فِي هذه الدنيا لعنة ولعنة يوم
القيامة.
[سورة القصص (28): آية 43]
وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ مِنْ بَعْدِ مَا
أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولى بَصائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدىً
وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (43)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ)
يَعْنِي التَّوْرَاةَ، قَالَهُ قَتَادَةُ. قَالَ يَحْيَى بْنُ
سَلَّامٍ: هُوَ أَوَّلُ كِتَابٍ- يَعْنِي التَّوْرَاةَ-
نَزَلَتْ فِيهِ الْفَرَائِضُ وَالْحُدُودُ وَالْأَحْكَامُ.
وَقِيلَ: الْكِتَابُ هُنَا سِتٌّ مِنَ الْمَثَانِي السَّبْعِ
الَّتِي أَنْزَلَهَا اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ،
وَرَوَاهُ مَرْفُوعًا. (مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا
الْقُرُونَ الْأُولى) قَالَ أَبُو سعيد الخدري قَالَ
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" مَا أَهْلَكَ
اللَّهُ قَوْمًا وَلَا قَرْنًا وَلَا أُمَّةً وَلَا أَهْلَ
قَرْيَةٍ بِعَذَابٍ مِنَ السَّمَاءِ وَلَا مِنَ الْأَرْضِ
مُنْذُ أَنْزَلَ اللَّهُ التَّوْرَاةَ عَلَى مُوسَى غَيْرَ
الْقَرْيَةِ الَّتِي مُسِخَتْ قِرَدَةً أَلَمْ تَرَ إِلَى
قَوْلِهِ تَعَالَى:" وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ مِنْ
بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولى "
(13/290)
وَمَا كُنْتَ
بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الْأَمْرَ
وَمَا كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ (44) وَلَكِنَّا أَنْشَأْنَا
قُرُونًا فَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ وَمَا كُنْتَ
ثَاوِيًا فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا
وَلَكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (45)
أَيْ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ
وَثَمُودَ. وَقِيلَ: أَيْ مِنْ بَعْدِ مَا أَغْرَقْنَا
فِرْعَوْنَ وَقَوْمَهُ وَخَسَفْنَا بِقَارُونَ. (بَصائِرَ
لِلنَّاسِ) أَيْ آتَيْنَاهُ الْكِتَابَ بَصَائِرَ. أَيْ
لِيَتَبَصَّرُوا (وَهُدىً) أَيْ مِنَ الضَّلَالَةِ لِمَنْ
عَمِلَ بِهَا (وَرَحْمَةً) لِمَنْ آمَنَ بِهَا (لَعَلَّهُمْ
يَتَذَكَّرُونَ) أَيْ لِيَذْكُرُوا هَذِهِ النِّعْمَةَ فيقموا
عَلَى إِيمَانِهِمْ فِي الدُّنْيَا، وَيَثِقُوا بِثَوَابِهِمْ
فِي الآخرة.
[سورة القصص (28): الآيات 44 الى 45]
وَما كُنْتَ بِجانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنا إِلى مُوسَى
الْأَمْرَ وَما كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ (44) وَلكِنَّا
أَنْشَأْنا قُرُوناً فَتَطاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ وَما
كُنْتَ ثاوِياً فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُوا عَلَيْهِمْ
آياتِنا وَلكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (45)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَما كُنْتَ) أَيْ مَا كُنْتَ يَا
مُحَمَّدُ (بِجانِبِ الْغَرْبِيِّ) أَيْ بِجَانِبِ الْجَبَلِ
الْغَرْبِيِّ قَالَ الشَّاعِرُ:
أَعْطَاكَ مَنْ أَعْطَى الْهُدَى النَّبِيَّا ... نُورًا
يُزَيِّنُ الْمِنْبَرَ الْغَرْبِيَّا
(إِذْ قَضَيْنا إِلى مُوسَى الْأَمْرَ) إِذْ كَلَّفْنَاهُ
أَمْرَنَا وَنَهْيَنَا، وَأَلْزَمْنَاهُ عَهْدَنَا وَقِيلَ:
أَيْ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى أَمْرَكَ وَذَكَرْنَاكَ
بِخَيْرِ ذِكْرٍ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ:" إِذْ قَضَيْنا"
أَيْ أَخْبَرْنَا أَنَّ أُمَّةَ مُحَمَّدٍ خَيْرُ الْأُمَمِ.
(وَما كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ) أَيْ مِنَ الحاضرين. قوله
تعالى: (وَلكِنَّا أَنْشَأْنا قُرُوناً) أَيْ مِنْ بَعْدِ
مُوسَى (فَتَطاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ) حَتَّى نَسُوا
ذِكْرَ اللَّهِ أَيْ عَهْدَهُ وَأَمْرَهُ. نَظِيرُهُ:" فَطالَ
عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ". وَظَاهِرُ هَذَا
يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ جَرَى لِنَبِيِّنَا عَلَيْهِ السَّلَامُ
ذِكْرٌ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، وَأَنَّ اللَّهَ سَيَبْعَثُهُ،
وَلَكِنْ طَالَتِ الْمُدَّةُ، وَغَلَبَتِ الْقَسْوَةُ،
فَنَسِيَ الْقَوْمُ ذَلِكَ وَقِيلَ: آتَيْنَا مُوسَى
الْكِتَابَ وَأَخَذْنَا عَلَى قَوْمِهِ الْعُهُودَ، ثُمَّ
تَطَاوَلَ الْعَهْدُ فَكَفَرُوا، فَأَرْسَلْنَا مُحَمَّدًا
مُجَدِّدًا لِلدِّينِ وداعيا الخلق إليه. قوله تعالى: (وَما
كُنْتَ ثاوِياً فِي أَهْلِ مَدْيَنَ) أَيْ مُقِيمًا كَمُقَامِ
مُوسَى وَشُعَيْبٍ بَيْنَهُمْ. قَالَ الْعَجَّاجُ:
فَبَاتَ حَيْثُ يَدْخُلُ الثَّوِيُّ
أَيِ الضَّيْفُ الْمُقِيمُ. وقوله: (تَتْلُوا عَلَيْهِمْ
آياتِنا) أَيْ تُذَكِّرُهُمْ بِالْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ.
(وَلكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ) أَيْ أَرْسَلْنَاكَ فِي أَهْلِ
مَكَّةَ، وَآتَيْنَاكَ كِتَابًا فِيهِ هَذِهِ الْأَخْبَارُ،
وَلَوْلَا ذَلِكَ لما علمتها.
(13/291)
وَمَا كُنْتَ
بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا وَلَكِنْ رَحْمَةً مِنْ
رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ
قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (46)
[سورة القصص (28): آية 46]
وَما كُنْتَ بِجانِبِ الطُّورِ إِذْ نادَيْنا وَلكِنْ رَحْمَةً
مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْماً مَا أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ
مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (46)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَما كُنْتَ بِجانِبِ الطُّورِ إِذْ
نادَيْنا) أَيْ كَمَا لَمْ تَحْضُرْ جَانِبَ الْمَكَانِ
الْغَرْبِيِّ إِذْ أَرْسَلَ اللَّهُ مُوسَى إِلَى فِرْعَوْنَ،
فَكَذَلِكَ لَمْ تَحْضُرْ جَانِبَ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا
مُوسَى لَمَّا أَتَى الْمِيقَاتَ مَعَ السَّبْعِينَ. وَرَوَى
عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ يَرْفَعُهُ قَالَ:" نُودِيَ يَا أُمَّةَ
مُحَمَّدٍ أَجَبْتُكُمْ قَبْلَ أَنْ تَدْعُونِي
وَأَعْطَيْتُكُمْ قَبْلَ أَنْ تَسْأَلُونِي" فَذَلِكَ
قَوْلُهُ:" وَما كُنْتَ بِجانِبِ الطُّورِ إِذْ نادَيْنا".
وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ- وَفِي رِوَايَةٍ عَنِ ابْنِ
عَبَّاسٍ- إِنَّ اللَّهَ قَالَ:" يَا أُمَّةَ مُحَمَّدٍ قَدْ
أَجَبْتُكُمْ قَبْلَ أَنْ تَدْعُونِي وَأَعْطَيْتُكُمْ قَبْلَ
أَنْ تَسْأَلُونِي وَغَفَرْتُ لَكُمْ قَبْلَ أَنْ
تَسْتَغْفِرُونِي وَرَحِمْتُكُمْ قَبْلَ أَنْ
تَسْتَرْحِمُونِي" قَالَ وَهْبٌ: وَذَلِكَ أَنَّ مُوسَى لَمَّا
ذَكَرَ اللَّهُ لَهُ فَضْلَ مُحَمَّدٍ وَأُمَّتِهِ قَالَ: يَا
رَبِّ أَرِنِيهِمْ. فَقَالَ اللَّهُ:" إِنَّكَ لَنْ
تُدْرِكَهُمْ وإن شِئْتَ نَادَيْتُهُمْ فَأَسْمَعْتُكَ
صَوْتَهُمْ" قَالَ: بَلَى يَا رَبِّ. فَقَالَ اللَّهُ
تَعَالَى:" يَا أُمَّةَ مُحَمَّدٍ" فَأَجَابُوا مِنْ أَصْلَابِ
آبَائِهِمْ. فَقَالَ:" قَدْ أَجَبْتُكُمْ قَبْلَ أَنْ
تَدْعُوَنِي" وَمَعْنَى الْآيَةِ عَلَى هَذَا مَا كُنْتَ
بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ كَلَّمْنَا مُوسَى فَنَادَيْنَا
أُمَّتَكَ وَأَخْبَرْنَاهُ بِمَا كَتَبْنَاهُ لَكَ
وَلِأُمَّتِكَ مِنَ الرَّحْمَةِ إِلَى آخِرِ الدُّنْيَا.
(وَلكِنْ) فَعَلْنَا ذَلِكَ (رَحْمَةً) مِنَّا بِكُمْ. قَالَ
الْأَخْفَشُ:" رَحْمَةً" نُصِبَ عَلَى الْمَصْدَرِ أَيْ
وَلَكِنْ رَحِمْنَاكَ رَحْمَةً. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: هُوَ
مَفْعُولٌ مِنْ أَجْلِهِ أَيْ فَعَلَ ذَلِكَ بِكَ لِأَجْلِ
الرَّحْمَةِ. النَّحَّاسُ: أَيْ لَمْ تَشْهَدْ قَصَصَ
الْأَنْبِيَاءِ، وَلَا تُلِيَتْ عَلَيْكَ، وَلَكِنَّا
بَعَثْنَاكَ وَأَوْحَيْنَاهَا إِلَيْكَ لِلرَّحْمَةِ. وَقَالَ
الْكِسَائِيُّ: عَلَى خَبَرِ كَانَ، التَّقْدِيرُ: وَلَكِنْ
كَانَ رَحْمَةً. قَالَ: وَيَجُوزُ الرَّفْعُ بِمَعْنَى هِيَ
رَحْمَةٌ. الزَّجَّاجُ: الرَّفْعُ بِمَعْنَى وَلَكِنْ فِعْلُ
ذَلِكَ رَحْمَةٌ. (لِتُنْذِرَ قَوْماً مَا أَتاهُمْ مِنْ
نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ) يَعْنِي الْعَرَبَ، أَيْ لَمْ
تُشَاهِدْ تِلْكَ الْأَخْبَارَ، وَلَكِنْ أَوْحَيْنَاهَا
إِلَيْكَ رَحْمَةً بِمَنْ أُرْسِلْتَ إِلَيْهِمْ لتنذرهم بها
(لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ).
(13/292)
وَلَوْلَا أَنْ
تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ
فَيَقُولُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا
فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (47)
فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا لَوْلَا
أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسَى أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِمَا
أُوتِيَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ قَالُوا سِحْرَانِ تَظَاهَرَا
وَقَالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كَافِرُونَ (48)
[سورة القصص (28): الآيات 47 الى 48]
وَلَوْلا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِما قَدَّمَتْ
أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا
رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آياتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ
(47) فَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا لَوْلا
أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسى أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِما
أُوتِيَ مُوسى مِنْ قَبْلُ قالُوا سِحْرانِ تَظاهَرا وَقالُوا
إِنَّا بِكُلٍّ كافِرُونَ (48)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَلَوْلا أَنْ تُصِيبَهُمْ) يُرِيدُ
قُرَيْشًا. وَقِيلَ: الْيَهُودَ. (مُصِيبَةٌ) أَيْ عُقُوبَةٌ
وَنِقْمَةٌ (بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ) مِنَ الْكُفْرِ
وَالْمَعَاصِي. وَخَصَّ الْأَيْدِي بِالذِّكْرِ، لِأَنَّ
الْغَالِبَ مِنَ الْكَسْبِ إِنَّمَا يَقَعُ بِهَا. وَجَوَابُ"
لَوْلَا" مَحْذُوفٌ أَيْ لَوْلَا أَنْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ
بِسَبَبِ معاصيهم المتقدمة (فَيَقُولُوا رَبَّنا لَوْلا) أَيْ
هَلَّا (أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولًا) لَمَا بَعَثْنَا
الرُّسُلَ. وَقِيلَ: لَعَاجَلْنَاهُمْ بِالْعُقُوبَةِ وَبَعْثُ
الرُّسُلِ إِزَاحَةٌ لِعُذْرِ الْكُفَّارِ كَمَا تَقَدَّمَ
فِي" سِبْحَانَ" وَآخِرِ" طه". (فَنَتَّبِعَ آياتِكَ) نصب على
جواب التخصيص. (وَنَكُونَ) عُطِفَ عَلَيْهِ. (مِنَ
الْمُؤْمِنِينَ) مِنَ الْمُصَدِّقِينَ. وَقَدِ احْتَجَّ
بِهَذِهِ الْآيَةِ مَنْ قَالَ: إِنَّ الْعَقْلَ يُوجِبُ
الْإِيمَانَ وَالشُّكْرَ، لِأَنَّهُ قَالَ:" بِما قَدَّمَتْ
أَيْدِيهِمْ" وذلك موجب للعقاب إذا تَقَرَّرَ الْوُجُوبُ
قَبْلَ بَعْثِهِ الرُّسُلِ، وَإِنَّمَا يَكُونُ ذَلِكَ
بِالْعَقْلِ. قَالَ الْقُشَيْرِيُّ: وَالصَّحِيحُ أَنَّ
الْمَحْذُوفَ لَوْلَا كَذَا لَمَا احْتِيجَ إِلَى تَجْدِيدِ
الرُّسُلِ. أَيْ هَؤُلَاءِ الْكُفَّارُ غَيْرُ مَعْذُورِينَ
إِذْ بَلَغَتْهُمُ الشَّرَائِعُ السَّابِقَةُ وَالدُّعَاءُ
إِلَى التَّوْحِيدِ، وَلَكِنْ تَطَاوَلَ الْعَهْدُ، فَلَوْ
عَذَّبْنَاهُمْ فَقَدْ يَقُولُ قَائِلٌ مِنْهُمْ طَالَ
الْعَهْدُ بِالرُّسُلِ، وَيَظُنُّ أَنَّ ذَلِكَ عُذْرٌ وَلَا
عُذْرَ لَهُمْ بَعْدَ أَنْ بَلَغَهُمْ خَبَرُ الرُّسُلِ،
وَلَكِنْ أَكْمَلْنَا إِزَاحَةَ الْعُذْرِ، وَأَكْمَلْنَا
الْبَيَانَ فَبَعَثْنَاكَ يَا مُحَمَّدُ إِلَيْهِمْ. وَقَدْ
حَكَمَ اللَّهُ بِأَنَّهُ لَا يُعَاقِبُ عَبْدًا إِلَّا بَعْدَ
إِكْمَالِ الْبَيَانِ وَالْحُجَّةِ وَبَعْثَةِ الرُّسُلِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: (فَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ
عِنْدِنا) يَعْنِي مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ (قالُوا) يَعْنِي كُفَّارَ مَكَّةَ (لَوْلا) أَيْ
هَلَّا (أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسى) مِنَ الْعَصَا
وَالْيَدِ الْبَيْضَاءِ،
(13/293)
قُلْ فَأْتُوا
بِكِتَابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَا
أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (49) فَإِنْ لَمْ
يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ
أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ
بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي
الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (50) وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ
الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (51)
وَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنَ جُمْلَةً
وَاحِدَةً كَالتَّوْرَاةِ، وَكَانَ بَلَغَهُمْ ذَلِكَ مِنْ
أَمْرِ مُوسَى قَبْلَ مُحَمَّدٍ، فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى:
(أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِما أُوتِيَ مُوسى مِنْ قَبْلُ قالُوا)
سَاحِرَانِ «1» (تَظاهَرا) أَيْ موسى ومحمد تعاونا على السحر.
قال الْكَلْبِيُّ: بَعَثَتْ قُرَيْشٌ إِلَى الْيَهُودِ
وَسَأَلُوهُمْ عَنْ بَعْثِ مُحَمَّدٍ وَشَأْنِهِ فَقَالُوا:
إِنَّا نَجِدُهُ فِي التَّوْرَاةِ بِنَعْتِهِ وَصِفَتِهِ.
فَلَمَّا رَجَعَ الْجَوَابُ إِلَيْهِمْ" قَالُوا سَاحْرَانِ
تَظَاهَرَا". وَقَالَ قَوْمٌ: إِنَّ الْيَهُودَ عَلَّمُوا
الْمُشْرِكِينَ، وَقَالُوا قُولُوا لِمُحَمَّدٍ لَوْلَا
أُوتِيتَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسَى، فَإِنَّهُ أُوتِيَ
التَّوْرَاةَ دَفْعَةً وَاحِدَةً. فَهَذَا الِاحْتِجَاجُ
وَارِدٌ عَلَى الْيَهُودِ، أي أو لم يَكْفُرْ هَؤُلَاءِ
الْيَهُودُ بِمَا أُوتِيَ مُوسَى حِينَ قالوا في موسى وهارون
هما ساحران و (إِنَّا بِكُلٍّ كافِرُونَ) أَيْ وَإِنَّا
كَافِرُونَ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا. وَقَرَأَ
الْكُوفِيُّونَ:" سِحْرانِ" بِغَيْرِ أَلِفٍ، أَيِ
الْإِنْجِيلُ وَالْقُرْآنُ. وَقِيلَ: التَّوْرَاةُ
وَالْفُرْقَانُ، قَالَهُ الْفَرَّاءُ. وَقِيلَ: التَّوْرَاةُ
وَالْإِنْجِيلُ. قَالَهُ أَبُو رُزَيْنٍ. الْبَاقُونَ"
سَاحِرَانِ" بِأَلِفٍ. وَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَقَاوِيلَ:
أَحَدُهَا- مُوسَى وَمُحَمَّدٌ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ.
وَهَذَا قَوْلُ مُشْرِكِي الْعَرَبِ. وَبِهِ قَالَ ابْنُ
عَبَّاسٍ وَالْحَسَنُ. الثَّانِي- مُوسَى وهرون. وَهَذَا
قَوْلُ الْيَهُودِ لَهُمَا فِي ابْتِدَاءِ الرِّسَالَةِ.
وَبِهِ قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَمُجَاهِدٌ وَابْنُ
زَيْدٍ. فَيَكُونُ الْكَلَامُ احْتِجَاجًا عَلَيْهِمْ. وَهَذَا
يَدُلُّ على أن المحذوف في قوله:" لَوْلا أَنْ تُصِيبَهُمْ
مُصِيبَةٌ" لَمَا جَدَّدْنَا بَعْثَةَ الرُّسُلِ، لِأَنَّ
الْيَهُودَ اعْتَرَفُوا بِالنُّبُوَّاتِ وَلَكِنَّهُمْ
حَرَّفُوا وَغَيَّرُوا وَاسْتَحَقُّوا الْعِقَابَ، فَقَالَ:
قَدْ أَكْمَلْنَا إِزَاحَةَ عُذْرِهِمْ بِبَعْثَةِ مُحَمَّدٍ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. الثَّالِثُ- عِيسَى
وَمُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِمَا وَسَلَّمَ. وَهَذَا
قَوْلُ الْيَهُودِ الْيَوْمَ. وَبِهِ قَالَ قَتَادَةُ.
وَقِيلَ: أو لم يَكْفُرْ جَمِيعُ الْيَهُودِ بِمَا أُوتِيَ
مُوسَى فِي التَّوْرَاةِ مِنْ ذِكْرِ الْمَسِيحِ، وَذِكْرِ
الْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ، فرأوا موسى ومحمدا ساحرين
والكتابين سحرين.
[سورة القصص (28): الآيات 49 الى 51]
قُلْ فَأْتُوا بِكِتابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدى
مِنْهُما أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (49) فَإِنْ
لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّما يَتَّبِعُونَ
أَهْواءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَواهُ بِغَيْرِ
هُدىً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ
الظَّالِمِينَ (50) وَلَقَدْ وَصَّلْنا لَهُمُ الْقَوْلَ
لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (51)
__________
(1). قراءة نافع:" ساحران تظاهرا" وعليهما المصنف.
(13/294)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (قُلْ فَأْتُوا
بِكِتابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدى مِنْهُما
أَتَّبِعْهُ) أَيْ قُلْ يا محمد إذا كَفَرْتُمْ مَعَاشِرَ
الْمُشْرِكِينَ بِهَذَيْنِ الْكِتَابَيْنِ" فَأْتُوا بِكِتابٍ
مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدى مِنْهُما أَتَّبِعْهُ"
لِيَكُونَ ذَلِكَ عُذْرًا لَكُمْ فِي الْكُفْرِ (إِنْ كُنْتُمْ
صادِقِينَ) فِي أَنَّهُمَا سِحْرَانِ. أَوْ فَأْتُوا بِكِتَابٍ
هُوَ أَهْدَى مِنْ كِتَابَي مُوسَى وَمُحَمَّدٍ عَلَيْهِمَا
السَّلَامُ. وَهَذَا يُقَوِّي قِرَاءَةَ الْكُوفِيِّينَ"
سِحْرانِ"." أَتَّبِعْهُ" قَالَ الْفَرَّاءُ: بِالرَّفْعِ،
لِأَنَّهُ صِفَةٌ لِلْكِتَابِ وَكِتَابٌ نَكِرَةٌ. قَالَ:
وَإِذَا جَزَمْتَ- وَهُوَ الْوَجْهُ- فَعَلَى الشَّرْطِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: (فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ) يا محمد
أن يَأْتُوا بِكِتَابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ (فَاعْلَمْ أَنَّما
يَتَّبِعُونَ أَهْواءَهُمْ) أَيْ آرَاءَ قُلُوبِهِمْ وَمَا
يَسْتَحْسِنُونَهُ وَيُحَبِّبُهُ لَهُمُ الشَّيْطَانُ،
وَإِنَّهُ لَا حُجَّةَ لَهُمْ. (وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ
اتَّبَعَ هَواهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ) أَيْ لَا أَحَدَ
أَضَلُّ مِنْهُ (إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ
الظَّالِمِينَ). قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَلَقَدْ وَصَّلْنا
لَهُمُ الْقَوْلَ) أَيْ أَتْبَعْنَا بَعْضَهُ بَعْضًا،
وَبَعَثْنَا رَسُولًا بَعْدَ رَسُولٍ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ"
وَصَلْنَا" مُخَفَّفًا وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ
وَالْأَخْفَشُ: مَعْنَى" وَصَّلْنا" أَتْمَمْنَا كَصِلَتِكَ
الشَّيْءَ. وَقَالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ وَالسُّدِّيُّ:
بَيَّنَّا. وَقَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ:
فَصَّلْنَا. وَكَذَلِكَ كَانَ يَقْرَؤُهَا. وَقَالَ ابْنُ
زَيْدٍ: وَصَلْنَا لَهُمْ خَبَرَ الدُّنْيَا بِخَبَرِ
الْآخِرَةِ حَتَّى كَأَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ فِي الدُّنْيَا.
وَقَالَ. أَهْلُ الْمَعَانِي: وَالَيْنَا وَتَابَعْنَا
وَأَنْزَلْنَا الْقُرْآنَ تَبِعَ بَعْضُهُ بَعْضًا: وَعْدًا
وَوَعِيدًا وَقَصَصًا وَعِبَرًا وَنَصَائِحَ وَمَوَاعِظَ
إِرَادَةَ أَنْ يَتَذَكَّرُوا فَيُفْلِحُوا. وَأَصْلُهَا مِنْ
وَصْلِ الْحِبَالِ بَعْضِهَا بِبَعْضٍ. قَالَ الشَّاعِرُ:
فَقُلْ لِبَنِي مَرْوَانَ مَا بَالُ ذِمَّةٍ ... وَحَبْلٍ
ضَعِيفٍ مَا يَزَالُ يُوَصَّلُ «1»
وَقَالَ امْرُؤُ الْقَيْسِ:
دَرِيرٍ كخذروف الوليد أمره ... تقلب كفيه بخيط موصل «2»
__________
(1). رواية البحر وروح المعاني:
ما بال ذمتي ... بحبل ...... إلخ
(2). درير: مستدر في العدو، يصف سرعة جري فرسه. والخذروف شي
يدوره الصبي في يده ويسمع له صوت ويسمى الخرارة. وأمره أحكم
فتله.
(13/295)
الَّذِينَ
آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ
(52) وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ
الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ
مُسْلِمِينَ (53)
وَالضَّمِيرُ فِي" لَهُمُ" لِقُرَيْشٍ،
عَنْ مُجَاهِدٍ وَقِيلَ: هُوَ لِلْيَهُودِ. وَقِيلَ: هُوَ
لَهُمْ جَمِيعًا. وَالْآيَةُ رَدٌّ عَلَى مَنْ قَالَ هَلَّا
أُوتِيَ مُحَمَّدٌ الْقُرْآنَ جُمْلَةً وَاحِدَةً.
(لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ:
يَتَذَكَّرُونَ مُحَمَّدًا فَيُؤْمِنُوا بِهِ. وَقِيلَ:
يَتَذَكَّرُونَ فَيَخَافُوا أَنْ يَنْزِلَ بِهِمْ مَا نَزَلَ
بِمَنْ قَبْلَهُمْ، قَالَهُ عَلِيُّ بْنُ عِيسَى. وَقِيلَ:
لَعَلَّهُمْ يَتَّعِظُونَ بِالْقُرْآنِ عَنْ عِبَادَةِ
الْأَصْنَامِ. حَكَاهُ النَّقَّاشُ.
[سورة القصص (28): الآيات 52 الى 53]
الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ
يُؤْمِنُونَ (52) وَإِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ قالُوا آمَنَّا
بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنا إِنَّا كُنَّا مِنْ
قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ (53)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ مِنْ
قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ) أَخْبَرَ أَنَّ قَوْمًا
مِمَّنْ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ
قَبْلِ الْقُرْآنِ يُؤْمِنُونَ بِالْقُرْآنِ، كَعَبْدِ اللَّهِ
بْنِ سَلَّامٍ وَسَلْمَانَ. وَيَدْخُلُ فِيهِ مَنْ أَسْلَمَ
مِنْ عُلَمَاءِ النَّصَارَى، وَهُمْ أَرْبَعُونَ رَجُلًا،
قَدِمُوا مَعَ جَعْفَرِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ الْمَدِينَةَ،
اثْنَانِ وثلاثون رجلا من الحبشة، وثمانية نفرا أَقْبَلُوا
مِنَ الشَّامِ وَكَانُوا أَئِمَّةَ النَّصَارَى: مِنْهُمْ
بحيراء الرَّاهِبُ وَأَبْرَهَةُ وَالْأَشْرَفُ وَعَامِرٌ
وَأَيْمَنُ وَإِدْرِيسُ وَنَافِعٌ. كَذَا سَمَّاهُمِ
الْمَاوَرْدِيُّ. وَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِمْ هَذِهِ
الْآيَةَ وَالَّتِي بَعْدَهَا" أُولئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ
مَرَّتَيْنِ بِما صَبَرُوا" قَالَهُ قَتَادَةُ. وَعَنْهُ
أَيْضًا: أنها أنزلت فِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ
وَتَمِيمٍ الدَّارِيِّ وَالْجَارُودِ الْعَبْدِيِّ وَسَلْمَانَ
الْفَارِسِيِّ، أَسْلَمُوا فَنَزَلَتْ فِيهِمْ هَذِهِ
الْآيَةُ. وَعَنْ رِفَاعَةَ الْقُرَظِيِّ: نَزَلَتْ فِي
عَشَرَةٍ أَنَا أَحَدُهُمْ. وَقَالَ عُرْوَةُ بْنُ
الزُّبَيْرِ: نَزَلَتْ فِي النَّجَاشِيِّ وَأَصْحَابِهِ
وَوَجَّهَ بِاثْنَيْ عَشَرَ رَجُلًا فَجَلَسُوا مَعَ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَانَ أَبُو
جَهْلٍ وَأَصْحَابُهُ قَرِيبًا مِنْهُمْ، فَآمَنُوا
بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمَّا
قَامُوا مِنْ عِنْدِهِ تَبِعَهُمْ أَبُو جَهْلٍ وَمَنْ مَعَهُ،
فَقَالَ لَهُمْ: خَيَّبَكُمُ اللَّهُ مِنْ رَكْبٍ، وقبحكم من
وفد، لم تَلْبَثُوا أَنْ صَدَّقْتُمُوهُ، وَمَا رَأَيْنَا
رَكْبًا أَحْمَقَ مِنْكُمْ وَلَا أَجْهَلَ، فَقَالُوا:" سَلامٌ
عَلَيْكُمْ" لَمْ نَأْلُ أَنْفُسَنَا رُشْدًا" لَنا أَعْمالُنا
وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ" وقد تقدم هذا في" المائدة" «1»
__________
(1). راجع ج 6 ص 255 وما بعدها طبعه أولى أو ثانية.
(13/296)
أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ
أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا وَيَدْرَءُونَ
بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ
يُنْفِقُونَ (54) وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا
عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ
سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ (55)
عِنْدَ قَوْلِهِ" وَإِذا سَمِعُوا مَا
أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ" مُسْتَوْفًى. وَقَالَ أَبُو
الْعَالِيَةِ: هَؤُلَاءِ قَوْمٌ آمَنُوا بِمُحَمَّدٍ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْلَ أَنْ يُبْعَثَ وَقَدْ
أَدْرَكَهُ بَعْضُهُمْ. (مِنْ قَبْلِهِ) أَيْ مِنْ قَبْلِ
الْقُرْآنِ. وَقِيلَ: مِنْ قَبْلِ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ
السَّلَامُ (هُمْ بِهِ) أَيْ بِالْقُرْآنِ أَوْ بِمُحَمَّدٍ
عَلَيْهِ السَّلَامُ (يُؤْمِنُونَ). (وَإِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ
قالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنا) أَيْ
إِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ قَالُوا صَدَّقْنَا بِمَا
فِيهِ (إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ) أَيْ مِنْ قَبْلِ
نُزُولِهِ، أَوْ مِنْ قَبْلِ بَعْثَةِ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ
السَّلَامُ (مُسْلِمِينَ) أَيْ مُوَحِّدِينَ، أَوْ مُؤْمِنِينَ
بِأَنَّهُ سَيُبْعَثُ مُحَمَّدٌ وَيَنْزِلُ عَلَيْهِ القرآن.
[سورة القصص (28): الآيات 54 الى 55]
أُولئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِما صَبَرُوا
وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا
رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (54) وَإِذا سَمِعُوا اللَّغْوَ
أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقالُوا لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ
أَعْمالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجاهِلِينَ
(55)
فِيهِ أَرْبَعُ مَسَائِلَ: الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى:
(أُولئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِما صَبَرُوا)
ثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي مُوسَى أَنَّ رَسُولَ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:" ثَلَاثَةٌ
يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ
الْكِتَابِ آمَنَ بِنَبِيِّهِ وَأَدْرَكَ النَّبِيَّ- صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَآمَنَ بِهِ وَاتَّبَعَهُ
وَصَدَّقَهُ فَلَهُ أَجْرَانِ وَعَبْدٌ مَمْلُوكٌ أَدَّى حَقَّ
اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَحَقَّ سَيِّدِهِ فَلَهُ أَجْرَانِ
وَرَجُلٌ كَانَتْ لَهُ أَمَةٌ فَغَذَّاهَا فَأَحْسَنَ
غِذَاءَهَا ثُمَّ أدبها فأحسن أَدَّبَهَا ثُمَّ أَعْتَقَهَا
وَتَزَوَّجَهَا فَلَهُ أَجْرَانِ" قَالَ الشعبي للخراساني: خذا
هذا الحديث بغير شي، فَقَدْ كَانَ الرَّجُلُ يَرْحَلُ فِيمَا
دُونَ هَذَا إِلَى الْمَدِينَةِ. وَخَرَّجَهُ الْبُخَارِيُّ
أَيْضًا. قَالَ عُلَمَاؤُنَا: لَمَّا كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ
هَؤُلَاءِ مُخَاطَبًا بِأَمْرَيْنِ مِنْ جِهَتَيْنِ اسْتَحَقَّ
كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ أَجْرَيْنِ، فَالْكِتَابِيُّ كَانَ
مُخَاطَبًا مِنْ جِهَةِ نَبِيِّهِ، ثُمَّ إِنَّهُ خُوطِبَ مِنْ
جِهَةِ نَبِيِّنَا فَأَجَابَهُ وَاتَّبَعَهُ فَلَهُ أَجْرُ
الْمِلَّتَيْنِ، وَكَذَلِكَ الْعَبْدُ هُوَ مَأْمُورٌ مِنْ
جِهَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَمِنْ جِهَةِ سَيِّدِهِ، وَرَبُّ
الْأَمَةِ لَمَّا قَامَ بِمَا خُوطِبَ بِهِ مِنْ تَرْبِيَتِهِ
أَمَتَهُ وَأَدَبِهَا فَقَدْ أَحْيَاهَا إِحْيَاءَ
التَّرْبِيَةِ، ثُمَّ إِنَّهُ لَمَّا أَعْتَقَهَا
وَتَزَوَّجَهَا أَحْيَاهَا إِحْيَاءَ الْحُرِّيَّةِ الَّتِي
أَلْحَقَهَا فِيهِ بِمَنْصِبِهِ، فقد قام
(13/297)
بِمَا أُمِرَ فِيهَا، فَأَجْرُ كُلِّ
وَاحِدٍ مِنْهُمْ أَجْرَيْنِ. ثُمَّ إِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنَ
الْأَجْرَيْنِ مُضَاعَفٌ فِي نَفْسِهِ، الْحَسَنَةُ بِعَشْرِ
أَمْثَالِهَا فَتَتَضَاعَفُ الْأُجُورُ. وَلِذَلِكَ قِيلَ:
إِنَّ الْعَبْدَ الَّذِي يَقُومُ بِحَقِ سَيِّدِهِ وَحَقِّ
اللَّهِ تَعَالَى أَفْضَلُ مِنَ الْحُرِّ، وَهُوَ الَّذِي
ارْتَضَاهُ أَبُو عُمَرَ بْنُ عَبْدِ الْبَرِّ وَغَيْرُهُ.
وَفِي الصَّحِيحُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" لِلْعَبْدِ
الْمَمْلُوكِ الْمُصْلِحِ أَجْرَانِ" وَالَّذِي نَفْسُ أَبِي
هُرَيْرَةَ بِيَدِهِ لَوْلَا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ
وَالْحَجُّ وَبِرُّ أُمِّي لَأَحْبَبْتُ أَنْ أَمُوتَ وَأَنَا
مَمْلُوكٌ قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ: وَبَلَغَنَا أَنَّ
أَبَا هُرَيْرَةَ لَمْ يَكُنْ يَحُجُّ حَتَّى مَاتَتْ أُمُّهُ
لِصُحْبَتِهَا. وَفِي الصَّحِيحُ أَيْضًا عَنْ أَبِي
هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" نِعِمَّا لِلْمَمْلُوكِ أَنْ يُتَوَفَّى
يُحْسِنُ عِبَادَةَ اللَّهِ وَصَحَابَةَ سَيِّدِهِ نِعِمَّا
لَهُ". الثَّانِيَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى (بِما صَبَرُوا)
عَامٌّ فِي صَبْرِهِمْ عَلَى مِلَّتِهِمْ، ثُمَّ عَلَى هَذِهِ
وَعَلَى الْأَذَى الَّذِي يَلْقَوْنَهُ مِنَ الْكُفَّارِ
وَغَيْرِ ذلك. الثالثة- قوله تعالى: (وَيَدْرَؤُنَ
بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ) أَيْ يَدْفَعُونَ دَرَأْتُ إِذَا
دَفَعْتُ، وَالدَّرْءُ الدَّفْعُ. وَفِي الْحَدِيثِ" ادْرَءُوا
الْحُدُودَ بِالشُّبُهَاتِ". قِيلَ: يَدْفَعُونَ
بِالِاحْتِمَالِ وَالْكَلَامِ الْحَسَنِ الْأَذَى. وَقِيلَ:
يَدْفَعُونَ بِالتَّوْبَةِ وَالِاسْتِغْفَارِ الذُّنُوبَ،
وَعَلَى الْأَوَّلِ فَهُوَ وَصْفٌ لِمَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ،
أَيْ مَنْ قَالَ لَهُمْ سوءا لا ينوه وَقَابَلُوهُ مِنَ
الْقَوْلِ الْحَسَنِ بِمَا يَدْفَعُهُ فَهَذِهِ آيَةُ
مُهَادَنَةٍ، وَهِيَ مِنْ صَدْرِ الْإِسْلَامِ، وَهِيَ مِمَّا
نَسَخَتْهَا آيَةُ السَّيْفِ وَبَقِيَ حُكْمُهَا فِيمَا دُونَ
الْكُفْرِ يَتَعَاطَاهُ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ. وَمِنْهُ
قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِمُعَاذٍ:" وَأَتْبِعِ
السَّيِّئَةَ الْحَسَنَةَ تَمْحُهَا وَخَالِقْ النَّاسَ
بِخُلُقٍ حَسَنٍ" وَمِنَ الْخُلُقِ الْحَسَنِ دَفْعُ
الْمَكْرُوهِ وَالْأَذَى، وَالصَّبْرُ عَلَى الْجَفَا
بِالْإِعْرَاضِ عَنْهُ وَلِينِ الْحَدِيثِ. الرَّابِعَةُ-
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ)
أَثْنَى عَلَيْهِمْ بِأَنَّهُمْ يُنْفِقُونَ مِنْ
أَمْوَالِهِمْ فِي الطَّاعَاتِ وَفِي رَسْمِ الشَّرْعِ، وَفِي
ذَلِكَ حَضٌّ عَلَى الصَّدَقَاتِ. وَقَدْ يَكُونُ الْإِنْفَاقُ
مِنَ الْأَبْدَانِ بِالصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ، ثُمَّ مَدَحَهُمْ
أَيْضًا عَلَى إِعْرَاضِهِمْ عَنِ اللَّغْوِ، كَمَا قَالَ
تَعَالَى:" وَإِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً" أَيْ
إِذَا سَمِعُوا مَا قَالَ لَهُمُ الْمُشْرِكُونَ مِنَ الْأَذَى
والشتم أعرضوا
(13/298)
إِنَّكَ لَا تَهْدِي
مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ
وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (56) وَقَالُوا إِنْ
نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا
أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ
ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِنْ لَدُنَّا وَلَكِنَّ
أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (57) وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ
قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ
تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلًا وَكُنَّا نَحْنُ
الْوَارِثِينَ (58)
عَنْهُ، أَيْ لَمْ يَشْتَغِلُوا بِهِ
(وَقالُوا لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ سَلامٌ
عَلَيْكُمْ) أَيْ مُتَارَكَةٌ، مثل قول:" وَإِذا خاطَبَهُمُ
الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً" أَيْ لَنَا دِينُنَا وَلَكُمْ
دِينُكُمْ. (سَلامٌ عَلَيْكُمْ) أَيْ أَمْنًا لَكُمْ مِنَّا
فَإِنَّا لَا نُحَارِبُكُمْ، وَلَا نُسَابُّكُمْ، وليس من
التحية في شي. قَالَ الزَّجَّاجُ: وَهَذَا قَبْلَ الْأَمْرِ
بِالْقِتَالِ. (لَا نَبْتَغِي الْجاهِلِينَ) أَيْ لَا
نَطْلُبُهُمْ لِلْجِدَالِ وَالْمُرَاجَعَةِ والمشاتمة.
[سورة القصص (28): آية 56]
إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي
مَنْ يَشاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (56)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ)
قَالَ الزَّجَّاجُ: أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّهَا
نَزَلَتْ فِي أَبِي طَالِبٍ. قُلْتُ: وَالصَّوَابُ أَنْ
يُقَالَ أَجْمَعَ جُلُّ الْمُفَسِّرِينَ عَلَى أَنَّهَا
نَزَلَتْ فِي شَأْنِ أَبِي طَالِبٍ عَمِّ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُوَ نَصُّ حَدِيثِ
الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ، وَقَدْ تقدم الكلام ذَلِكَ فِي"
بَرَاءَةٌ" «1». وَقَالَ أَبُو رَوْقٍ قَوْلُهُ: (وَلكِنَّ
اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ) إِشَارَةٌ إِلَى الْعَبَّاسِ.
وَقَالَهُ قَتَادَةُ. (وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ)
قَالَ مُجَاهِدٌ: لِمَنْ قُدِّرَ لَهُ أَنْ يَهْتَدِيَ.
وَقِيلَ: مَعْنَى" مَنْ أَحْبَبْتَ" أَيْ مَنْ أَحْبَبْتَ أَنْ
يَهْتَدِيَ. وَقَالَ جُبَيْرُ بْنُ مُطْعِمٍ: لَمْ يَسْمَعْ
أَحَدٌ الْوَحْيَ يُلْقَى عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَّا أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ فَإِنَّهُ
سَمِعَ جِبْرِيلَ وَهُوَ يَقُولُ: يَا مُحَمَّدُ اقْرَأْ"
إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي
مَنْ يَشاءُ".
[سورة القصص (28): الآيات 57 الى 58]
وَقالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ
أَرْضِنا أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبى
إِلَيْهِ ثَمَراتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقاً مِنْ لَدُنَّا
وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (57) وَكَمْ أَهْلَكْنا
مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَها فَتِلْكَ مَساكِنُهُمْ
لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلاَّ قَلِيلاً وَكُنَّا
نَحْنُ الْوارِثِينَ (58)
__________
(1). راجع ج 8 ص 272 وما بعدها طبعه أولى أو ثانية.
(13/299)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَقالُوا إِنْ
نَتَّبِعِ الْهُدى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنا) هَذَا
قَوْلُ مُشْرِكِي مَكَّةَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: قَائِلُ
ذَلِكَ مِنْ قُرَيْشٍ الْحَارِثُ بْنُ عُثْمَانَ بْنِ نَوْفَلِ
بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ الْقُرَشِيُّ، قَالَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ قَوْلَكَ
حَقٌّ، وَلَكِنْ يَمْنَعُنَا أَنْ نَتَّبِعَ الْهُدَى مَعَكَ،
وَنُؤْمِنَ بِكَ، مَخَافَةُ أَنْ يَتَخَطَّفَنَا الْعَرَبُ
مِنْ أَرْضِنَا- يَعْنِي مَكَّةَ- لِاجْتِمَاعِهِمْ عَلَى
خِلَافِنَا، وَلَا طَاقَةَ لَنَا بِهِمْ. وَكَانَ هَذَا مِنْ
تَعَلُّلَاتِهِمْ، فَأَجَابَ اللَّهُ تَعَالَى عَمَّا اعْتَلَّ
بِهِ فَقَالَ: (أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً)
أَيْ ذَا أَمْنٍ. وَذَلِكَ أَنَّ الْعَرَبَ كَانَتْ فِي
الْجَاهِلِيَّةِ يُغِيرُ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ، وَيَقْتُلُ
بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَأَهْلُ مَكَّةَ آمِنُونَ حَيْثُ كَانُوا
بِحُرْمَةِ الْحَرَمِ، فَأَخْبَرَ أَنَّهُ قَدْ أَمَّنَهُمْ
بِحُرْمَةِ الْبَيْتِ، وَمَنَعَ عَنْهُمْ عَدُوَّهُمْ، فَلَا
يَخَافُونَ أَنْ تَسْتَحِلَّ الْعَرَبُ حُرْمَةً فِي
قِتَالِهِمْ. وَالتَّخَطُّفُ الِانْتِزَاعُ بِسُرْعَةٍ، وَقَدْ
تَقَدَّمَ. قَالَ يَحْيَى بْنُ سَلَّامٍ يَقُولُ: كُنْتُمْ
آمِنِينَ فِي حَرَمِي، تَأْكُلُونَ رِزْقِي، وَتَعْبُدُونَ
غَيْرِي، أَفَتَخَافُونَ إِذَا عَبَدْتُمُونِي وَآمَنْتُمْ
بِي. (يُجْبى إِلَيْهِ ثَمَراتُ كُلِّ شَيْءٍ) أَيْ يُجْمَعُ
إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ أَرْضٍ وَبَلَدٍ، عَنِ ابْنِ
عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِ. يُقَالُ: جَبَى الْمَاءَ فِي الْحَوْضِ
أَيْ جَمَعَهُ. وَالْجَابِيَةُ الْحَوْضُ الْعَظِيمُ. وَقَرَأَ
نَافِعٌ:" تُجْبَى" بِالتَّاءِ، لِأَجْلِ الثَّمَرَاتِ.
والياقوت بِالْيَاءِ، لِقَوْلِهِ:" كُلِّ شَيْءٍ" وَاخْتَارَهُ
أَبُو عُبَيْدٍ. قَالَ: لِأَنَّهُ حَالَ بَيْنَ الِاسْمِ
الْمُؤَنَّثِ وَبَيْنَ فِعْلِهِ حَائِلٌ وَأَيْضًا فَإِنَّ
الثَّمَرَاتِ جَمْعٌ، وَلَيْسَ بتأنيث حقيقي. (رِزْقاً مِنْ
لَدُنَّا) أي من عندنا. (وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا
يَعْلَمُونَ) أي لا يعقلون، أي هم غافلون عن الاستدلال، وأن من
رزقهم وأمنهم فيما مضى حال كفرهم يرزقهم لو أسلموا، ويمنع
الكفار عنهم في إسلامهم." رِزْقاً" نصب على المفعول من أجله.
ويجوز نصبه على المصدر بالمعنى، لان معنى" تجبى" ترزق. وقرى"
تجبني" بالنون من الجنا، وتعديته بإلى كَقَوْلِكَ يَجْنِي
إِلَى فِيهِ وَيُجْنَى إِلَى الْخَافَّةِ «1». قَوْلُهُ
تَعَالَى: (وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ
مَعِيشَتَها) بَيَّنَ لِمَنْ تَوَهَّمَ أَنَّهُ لَوْ آمَنَ
لَقَاتَلَتْهُ الْعَرَبُ أَنَّ الْخَوْفَ فِي تَرْكِ
الْإِيمَانِ أَكْثَرُ، فَكَمْ مِنْ قَوْمٍ كَفَرُوا ثُمَّ
حَلَّ بهم البوار، والبطر
__________
(1). الخافة العيبة ومنه الحديث" المؤمن كمثل خافه الزرع".
(13/300)
وَمَا كَانَ رَبُّكَ
مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا
يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى
إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ (59) وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ
شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا وَمَا
عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى أَفَلَا تَعْقِلُونَ (60)
أَفَمَنْ وَعَدْنَاهُ وَعْدًا حَسَنًا فَهُوَ لَاقِيهِ كَمَنْ
مَتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ
الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (61)
وَالطُّغْيَانُ بِالنِّعْمَةِ، قَالَهُ
الزَّجَّاجُ" مَعِيشَتَها" أَيْ فِي مَعِيشَتِهَا فَلَمَّا
حُذِفَ (فِي) تَعَدَّى الْفِعْلُ، قَالَهُ الْمَازِنِيُّ.
الزَّجَّاجُ كَقَوْلِهِ:" وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ سَبْعِينَ
رَجُلًا". الْفَرَّاءُ: هُوَ مَنْصُوبٌ عَلَى التَّفْسِيرِ.
قَالَ كَمَا تَقُولُ: أَبَطَرْتَ مَالَكَ وَبَطِرْتَهُ.
وَنَظِيرُهُ عِنْدَهُ" إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ" وَكَذَا
عِنْدَهُ" فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً"
وَنَصْبُ الْمَعَارِفِ عَلَى التَّفْسِيرِ مُحَالٌ عِنْدَ
الْبَصْرِيِّينَ، لِأَنَّ مَعْنَى التَّفْسِيرِ وَالتَّمْيِيزِ
أَنْ يَكُونَ وَاحِدًا نَكِرَةً يَدُلُّ عَلَى الْجِنْسِ.
وَقِيلَ: انْتَصَبَ بِ" بَطِرَتْ" وَمَعْنَى" بَطِرَتْ"
جَهِلَتْ، فَالْمَعْنَى: جَهِلَتْ شُكْرَ مَعِيشَتَهَا.
(فَتِلْكَ مَساكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا
قَلِيلًا) أَيْ لَمْ تُسْكَنْ بَعْدَ إِهْلَاكِ أَهْلِهَا
إِلَّا قَلِيلًا مِنَ الْمَسَاكِنِ وَأَكْثَرُهَا خَرَابٌ.
وَالِاسْتِثْنَاءُ يرجع الْمَسَاكِنِ أَيْ بَعْضُهَا يُسْكَنُ،
قَالَهُ الزَّجَّاجُ. وَاعْتُرِضَ عَلَيْهِ، فَقِيلَ: لَوْ
كَانَ الِاسْتِثْنَاءُ يَرْجِعُ إِلَى الْمَسَاكِنِ لَقَالَ
إِلَّا قَلِيلٌ، لِأَنَّكَ تَقُولُ: الْقَوْمُ لَمْ تَضْرِبْ
إِلَّا قَلِيلٌ، تَرْفَعُ إِذَا كَانَ الْمَضْرُوبُ قَلِيلًا،
وَإِذَا نَصَبْتَ كَانَ الْقَلِيلُ صِفَةً لِلضَّرْبِ، أَيْ
لَمْ تَضْرِبْ إِلَّا ضَرْبًا قَلِيلًا، فَالْمَعْنَى إِذًا:
فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ يَسْكُنْهَا إِلَّا
الْمُسَافِرُونَ وَمَنْ مَرَّ بِالطَّرِيقِ يَوْمًا أَوْ
بَعْضَ يَوْمٍ، أَيْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا
سُكُونًا قَلِيلًا. وَكَذَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَمْ
يَسْكُنْهَا إِلَّا الْمُسَافِرُ أَوْ مَارُّ الطَّرِيقِ
يَوْمًا أَوْ سَاعَةً. (وَكُنَّا نَحْنُ الْوارِثِينَ) أَيْ
لِمَا خلفوا بعد هلاكهم.
[سورة القصص (28): الآيات 59 الى 61]
وَما كانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى حَتَّى يَبْعَثَ فِي
أُمِّها رَسُولاً يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا وَما كُنَّا
مُهْلِكِي الْقُرى إِلاَّ وَأَهْلُها ظالِمُونَ (59) وَما
أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا
وَزِينَتُها وَما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقى أَفَلا
تَعْقِلُونَ (60) أَفَمَنْ وَعَدْناهُ وَعْداً حَسَناً فَهُوَ
لاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْناهُ مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا ثُمَّ
هُوَ يَوْمَ الْقِيامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (61)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَما كانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى) أَيِ
القرى الكافرة. (حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّها) قُرِئَ بِضَمِّ
الْهَمْزَةِ وَكَسْرِهَا لِإِتْبَاعِ الْجَرِّ يَعْنِي مَكَّةَ
وَ (رَسُولًا) يَعْنِي مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ
(13/301)
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقِيلَ:" فِي
أُمِّها" يَعْنِي فِي أعظمها" رَسُولًا" ينذرهم. وَقَالَ
الْحَسَنُ: فِي أَوَائِلِهَا قُلْتُ: وَمَكَّةُ أَعْظَمُ
الْقُرَى لِحُرْمَتِهَا وَأَوَّلُهَا، لِقَوْلِهِ تَعَالَى:"
إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ" وَخُصَّتْ
بِالْأَعْظَمِ لِبَعْثَةِ الرَّسُولِ فِيهَا، لِأَنَّ
الرُّسُلَ تُبْعَثُ إِلَى الْأَشْرَافِ وَهُمْ يَسْكُنُونَ
الْمَدَائِنَ وَهِيَ أُمُّ مَا حَوْلَهَا. وَقَدْ مَضَى هَذَا
الْمَعْنَى فِي آخِرِ سُورَةِ" يُوسُفَ" «1». (يَتْلُوا
عَلَيْهِمْ آياتِنا) " يَتْلُوا" فِي مَوْضِعِ الصِّفَةِ أَيْ
تَالِيًا أَيْ يُخْبِرُهُمْ أَنَّ الْعَذَابَ يَنْزِلُ بِهِمْ
إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا. (وَما كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرى)
سَقَطَتِ النُّونُ لِلْإِضَافَةِ مثل" ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ"
(إِلَّا وَأَهْلُها ظالِمُونَ) أي لم أهلكهم إلا وقد استحقوا
الا هلاك لِإِصْرَارِهِمْ عَلَى الْكُفْرِ بَعْدَ الْإِعْذَارِ
إِلَيْهِمْ. وَفِي هَذَا بَيَانٌ لِعَدْلِهِ وَتَقَدُّسِهِ
عَنِ الظُّلْمِ. أَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّهُ لَا يُهْلِكُهُمْ
إِلَّا إِذَا اسْتَحَقُّوا الا هلاك بِظُلْمِهِمْ، وَلَا
يُهْلِكُهُمْ مَعَ كَوْنِهِمْ ظَالِمِينَ إِلَّا بَعْدَ
تَأْكِيدِ الْحُجَّةِ وَالْإِلْزَامِ بِبَعْثَةِ الرُّسُلِ،
وَلَا يَجْعَلُ عِلْمَهُ بِأَحْوَالِهِمْ حُجَّةً عَلَيْهِمْ.
وَنَزَّهَ ذَاتَهُ أَنْ يُهْلِكَهُمْ وَهُمْ غَيْرُ
ظَالِمِينَ، كَمَا قَالَ عَزَّ مِنْ قَائِلٍ:" وَما كانَ
رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُها مُصْلِحُونَ"
فَنَصَّ فِي قَوْلِهِ" بِظُلْمٍ" عَلَى أَنَّهُ لَوْ
أَهْلَكَهُمْ وَهُمْ مُصْلِحُونَ لَكَانَ ذَلِكَ ظُلْمًا
لَهُمْ مِنْهُ، وَإِنَّ حَالَهُ فِي غِنَاهُ وَحِكْمَتَهُ
مُنَافِيَةٌ لِلظُّلْمِ، دَلَّ عَلَى ذَلِكَ بِحَرْفِ
النَّفْيِ مَعَ لَامِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى:" وَما كانَ
اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ". قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَما
أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ) يَا أَهْلَ مَكَّةَ (فَمَتاعُ
الْحَياةِ الدُّنْيا وَزِينَتُها) أَيْ تَتَمَتَّعُونَ بِهَا
مُدَّةَ حَيَاتِكُمْ، أَوْ مُدَّةً فِي حَيَاتِكُمْ، فَإِمَّا
أَنْ تَزُولُوا عَنْهَا أَوْ تَزُولَ عَنْكُمْ. (وَما عِنْدَ
اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقى) أَيْ أَفْضَلُ وَأَدْوَمُ، يُرِيدُ
الدَّارَ الْآخِرَةَ وَهِيَ الْجَنَّةُ. (أَفَلا تَعْقِلُونَ)
أَنَّ الْبَاقِيَ أَفْضَلُ مِنَ الْفَانِي. قَرَأَ أَبُو
عَمْرٍو" يَعْقِلُونَ" بِالْيَاءِ. الْبَاقُونَ بِالتَّاءِ
عَلَى الْخِطَابِ وَهُوَ الِاخْتِيَارُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى:"
وَما أُوتِيتُمْ". قَوْلُهُ تَعَالَى: (أَفَمَنْ وَعَدْناهُ
وَعْداً حَسَناً فَهُوَ لاقِيهِ) يَعْنِي الْجَنَّةَ وَمَا
فِيهَا مِنَ الثَّوَابِ (كَمَنْ مَتَّعْناهُ مَتاعَ الْحَياةِ
الدُّنْيا) فأعطى منها بعض ما أراد. (ثُمَّ هُوَ يَوْمَ
الْقِيامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ) أي في النار. ونظيره قوله:"
وَلَوْلا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ"
__________
(1). انظر ج 9 ص 274 طبعه أولى أو ثانية.
(13/302)
وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ
فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ
(62) قَالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ رَبَّنَا
هَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنَا أَغْوَيْنَاهُمْ كَمَا
غَوَيْنَا تَبَرَّأْنَا إِلَيْكَ مَا كَانُوا إِيَّانَا
يَعْبُدُونَ (63) وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ فَدَعَوْهُمْ
فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَرَأَوُا الْعَذَابَ لَوْ
أَنَّهُمْ كَانُوا يَهْتَدُونَ (64) وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ
فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ (65) فَعَمِيَتْ
عَلَيْهِمُ الْأَنْبَاءُ يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لَا يَتَسَاءَلُونَ
(66) فَأَمَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَعَسَى
أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ (67)
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: نَزَلَتْ فِي
حَمْزَةَ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَفِي أَبِي جَهْلِ بْنِ
هِشَامٍ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: نَزَلَتْ فِي النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبِي جَهْلٍ. وَقَالَ مُحَمَّدُ
بْنُ كَعْبٍ. نَزَلَتْ فِي حَمْزَةَ وَعَلِيٍّ، وَفِي أَبِي
جَهْلٍ وَعِمَارَةَ بْنِ الْوَلِيدِ. وَقِيلَ: فِي عَمَّارٍ
وَالْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ، قَالَهُ السُّدِّيُّ. قَالَ
الْقُشَيْرِيُّ: وَالصَّحِيحُ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي
الْمُؤْمِنِ وَالْكَافِرِ عَلَى التَّعْمِيمِ. الثَّعْلَبِيُّ:
وَبِالْجُمْلَةِ فَإِنَّهَا نَزَلَتْ فِي كُلِّ كَافِرٍ
مُتِّعَ فِي الدُّنْيَا بِالْعَافِيَةِ وَالْغِنَى وَلَهُ فِي
الْآخِرَةِ النَّارُ، وَفِي كُلِّ مُؤْمِنٍ صَبَرَ عَلَى
بَلَاءِ الدُّنْيَا ثِقَةً بِوَعْدِ اللَّهِ وَلَهُ في الآخرة
الجنة.
[سورة القصص (28): الآيات 62 الى 67]
وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ
كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (62) قالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ
الْقَوْلُ رَبَّنا هؤُلاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنا
أَغْوَيْناهُمْ كَما غَوَيْنا تَبَرَّأْنا إِلَيْكَ مَا كانُوا
إِيَّانا يَعْبُدُونَ (63) وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ
فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَرَأَوُا الْعَذابَ
لَوْ أَنَّهُمْ كانُوا يَهْتَدُونَ (64) وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ
فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ (65) فَعَمِيَتْ
عَلَيْهِمُ الْأَنْباءُ يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لَا يَتَساءَلُونَ
(66)
فَأَمَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَعَسى أَنْ
يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ (67)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ) أَيْ يُنَادِي
اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ
(فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ) بِزَعْمِكُمْ أَنَّهُمْ
يَنْصُرُونَكُمْ وَيَشْفَعُونَ لَكُمْ. (قالَ الَّذِينَ حَقَّ
عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ) أَيْ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ
الْعَذَابِ وَهُمُ الرُّؤَسَاءُ، قَالَهُ الْكَلْبِيُّ.
وَقَالَ قَتَادَةُ: هم الشياطين. (رَبَّنا هؤُلاءِ الَّذِينَ
أَغْوَيْنا) أَيْ دَعَوْنَاهُمْ إِلَى الْغَيِّ. فَقِيلَ
لَهُمْ: أَغْوَيْتُمُوهُمْ؟ قَالُوا: (أَغْوَيْناهُمْ كَما
غَوَيْنا). يَعْنُونَ أَضْلَلْنَاهُمْ كَمَا كنا ضالين.
(تَبَرَّأْنا إِلَيْكَ) أَيْ تَبَرَّأَ بَعْضُنَا مِنْ بَعْضٍ،
وَالشَّيَاطِينُ يَتَبَرَّءُونَ مِمَّنْ أَطَاعَهُمْ،
وَالرُّؤَسَاءُ يَتَبَرَّءُونَ مِمَّنْ قَبِلَ مِنْهُمْ، كَمَا
قَالَ تَعَالَى:" الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ
لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ".
(13/303)
وَرَبُّكَ يَخْلُقُ
مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ
سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (68)
وَرَبُّكَ يَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ
(69) وَهُوَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْحَمْدُ
فِي الْأُولَى وَالْآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ
تُرْجَعُونَ (70)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَقِيلَ) أَيْ
لِلْكُفَّارِ (ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ) أَيِ اسْتَغِيثُوا
بِآلِهَتِكُمُ الَّتِي عَبَدْتُمُوهَا فِي الدُّنْيَا
لِتَنْصُرَكُمْ وَتَدْفَعَ عَنْكُمْ. (فَدَعَوْهُمْ) أَيِ
اسْتَغَاثُوا بِهِمْ. (فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ) أَيْ
فَلَمْ يُجِيبُوهُمْ وَلَمْ يَنْتَفِعُوا بِهِمْ. (وَرَأَوُا
الْعَذابَ لَوْ أَنَّهُمْ كانُوا يَهْتَدُونَ) قَالَ
الزَّجَّاجُ: جَوَابُ" لَوْ" مَحْذُوفٌ، وَالْمَعْنَى: لَوْ
أَنَّهُمْ كَانُوا يَهْتَدُونَ لَأَنْجَاهُمُ الْهُدَى،
وَلَمَا صَارُوا إِلَى الْعَذَابِ. وَقِيلَ: أَيْ لَوْ
أَنَّهُمْ كَانُوا يَهْتَدُونَ مَا دَعَوْهُمْ. وَقِيلَ
الْمَعْنَى: وَدُّوا حِينَ رَأَوُا الْعَذَابَ لَوْ أَنَّهُمْ
كَانُوا يَهْتَدُونَ فِي الدُّنْيَا إِذَا رَأَوُا الْعَذَابَ
يَوْمَ الْقِيَامَةِ. (مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ) أَيْ
يَقُولُ اللَّهُ لَهُمْ مَا كَانَ جَوَابُكُمْ لِمَنْ أُرْسِلَ
إِلَيْكُمْ مِنَ النَّبِيِّينَ لَمَّا بَلَّغُوكُمْ
رِسَالَاتِي. (فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْباءُ يَوْمَئِذٍ)
أَيْ خَفِيَتْ عَلَيْهِمُ الْحُجَجُ، قَالَهُ مُجَاهِدٌ،
لِأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَعْذَرَ إِلَيْهِمْ فِي الدُّنْيَا
فَلَا يَكُونُ لَهُمْ عُذْرٌ وَلَا حُجَّةٌ يَوْمَ
الْقِيَامَةِ. وَ" الْأَنْباءُ" الْأَخْبَارُ، سَمَّى
حُجَجَهُمْ أَنْبَاءً لِأَنَّهَا أَخْبَارٌ يُخْبِرُونَهَا.
(فَهُمْ لَا يَتَساءَلُونَ) أَيْ لَا يَسْأَلُ بَعْضُهُمْ
بَعْضًا عَنِ الْحُجَجِ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَدْحَضَ
حُجَجَهُمْ، قَالَهُ الضَّحَّاكُ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ:"
لَا يَتَساءَلُونَ" أَيْ لَا يَنْطِقُونَ بِحُجَّةٍ. وَقِيلَ:"
لَا يَتَساءَلُونَ" فِي تِلْكَ السَّاعَةِ، وَلَا يَدْرُونَ
مَا يُجِيبُونَ بِهِ مِنْ هَوْلِ تِلْكَ السَّاعَةِ، ثُمَّ
يُجِيبُونَ بَعْدَ ذَلِكَ كَمَا أَخْبَرَ عَنْ قَوْلِهِمْ:"
وَاللَّهِ رَبِّنا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ". وَقَالَ
مُجَاهِدٌ: لَا يَتَسَاءَلُونَ بِالْأَنْسَابِ. وَقِيلَ: لَا
يَسْأَلُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا أَنْ يَحْمِلَ مِنْ ذنوبه شيئا،
حكاه بن عِيسَى. قَوْلُهُ تَعَالَى: (فَأَمَّا مَنْ تابَ) أَيْ
مِنَ الشِّرْكِ (وَآمَنَ) أَيْ صَدَّقَ (وَعَمِلَ صالِحاً)
أَدَّى الْفَرَائِضَ وَأَكْثَرَ مِنَ النَّوَافِلِ (فَعَسى
أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ) أَيْ مِنَ الْفَائِزِينَ
بِالسَّعَادَةِ. وعسى من الله واجبة.
[سورة القصص (28): الآيات 68 الى 70]
وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشاءُ وَيَخْتارُ مَا كانَ لَهُمُ
الْخِيَرَةُ سُبْحانَ اللَّهِ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ
(68) وَرَبُّكَ يَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَما
يُعْلِنُونَ (69) وَهُوَ اللَّهُ لَا إِلهَ إِلاَّ هُوَ لَهُ
الْحَمْدُ فِي الْأُولى وَالْآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ
وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (70)
(13/304)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَرَبُّكَ يَخْلُقُ
مَا يَشاءُ وَيَخْتارُ) هذا متصل بذكر الشركاء اعبدوهم
وَاخْتَارُوهُمْ لِلشَّفَاعَةِ، أَيِ الِاخْتِيَارُ إِلَى
اللَّهِ تَعَالَى فِي الشُّفَعَاءِ لَا إِلَى الْمُشْرِكِينَ.
وَقِيلَ هُوَ جواب الوليد بن المغيرة حين قال:" لَوْلا نُزِّلَ
هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ"
يَعْنِي نَفْسَهُ زَعَمَ، وَعُرْوَةَ بْنَ مَسْعُودٍ
الثَّقَفِيَّ مِنَ الطَّائِفِ. وَقِيلَ: هُوَ جَوَابُ
الْيَهُودِ إِذْ قَالُوا لَوْ كَانَ الرَّسُولُ إِلَى
مُحَمَّدٍ غير جبريل لآمنا به. قال ابْنُ عَبَّاسٍ:
وَالْمَعْنَى، وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ مِنْ خَلْقِهِ
وَيَخْتَارُ مِنْهُمْ مَنْ يَشَاءُ لِطَاعَتِهِ. وَقَالَ
يَحْيَى بْنُ سَلَّامٍ: وَالْمَعْنَى، وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا
يَشَاءُ مِنْ خَلْقِهِ وَيَخْتَارُ مَنْ يَشَاءُ
لِنُبُوَّتِهِ. وَحَكَى النَّقَّاشُ: أَنَّ الْمَعْنَى
وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ مِنْ خَلْقِهِ يَعْنِي
مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَيَخْتَارُ
الْأَنْصَارَ لِدِينِهِ. قُلْتُ: وَفِي كِتَابِ الْبَزَّارِ
مَرْفُوعًا صَحِيحًا عَنْ جَابِرٍ" إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى
اخْتَارَ أَصْحَابِي عَلَى الْعَالَمِينَ سِوَى النَّبِيِّينَ
وَالْمُرْسَلِينَ وَاخْتَارَ لِي مِنْ أَصْحَابِي أَرْبَعَةً-
يَعْنِي أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَلِيًّا-
فَجَعَلَهُمْ أَصْحَابِي وَفِي أَصْحَابِي كُلِّهِمْ خَيْرٌ
وَاخْتَارَ أُمَّتِي عَلَى سَائِرِ الْأُمَمِ وَاخْتَارَ لِي
مِنْ أُمَّتِي أَرْبَعَةَ قُرُونٍ". وَذَكَرَ سُفْيَانُ بْنُ
عُيَيْنَةَ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ عَنْ وَهْبِ بْنِ
مُنَبِّهٍ عَنْ أَبِيهِ فِي قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ:"
وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشاءُ وَيَخْتارُ" قَالَ مِنَ
النَّعَمِ الضَّأْنُ، وَمِنَ الطَّيْرِ الْحَمَامُ.
وَالْوَقْفُ التَّامُّ" وَيَخْتارُ". وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ
سُلَيْمَانَ: هَذَا وَقْفُ التَّمَامِ وَلَا يَجُوزُ أَنْ
تَكُونَ" مَا" فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ بِ" يَخْتارُ" لِأَنَّهَا
لَوْ كَانَتْ في موضع نصب لم يعد عليها شي. قَالَ وَفِي هَذَا
رَدٌّ عَلَى الْقَدَرِيَّةِ. قَالَ النَّحَّاسُ: التَّمَامُ"
وَيَخْتارُ" أَيْ وَيَخْتَارُ الرُّسُلَ. (مَا كانَ لَهُمُ
الْخِيَرَةُ) أَيْ لَيْسَ يُرْسِلُ مَنِ اخْتَارُوهُ هُمْ.
قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ:" وَيَخْتارُ" هَذَا الْوَقْفُ
التَّامُّ الْمُخْتَارُ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ" مَا" فِي
مَوْضِعِ نَصْبٍ بِ" يَخْتارُ" وَيَكُونُ الْمَعْنَى
وَيَخْتَارُ الَّذِي كَانَ لَهُمْ فِيهِ الْخِيَرَةُ. قَالَ
الْقُشَيْرِيُّ: الصَّحِيحُ الْأَوَّلُ لِإِطْبَاقِهِمْ
[عَلَى] الْوَقْفِ عَلَى قَوْلِهِ" وَيَخْتارُ". قَالَ
الْمَهْدَوِيُّ: وَهُوَ أَشْبَهُ بِمَذْهَبِ أَهْلِ السُّنَّةِ
وَ" مَا" مِنْ قَوْلِهِ:" مَا كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ" نَفْيٌ
عَامٌّ لِجَمِيعِ الْأَشْيَاءِ أن يكون للعبد فيها شي سِوَى
اكْتِسَابِهِ بِقُدْرَةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ.
الزَّمَخْشَرِيُّ:" مَا كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ" بَيَانٌ
لِقَوْلِهِ:" وَيَخْتارُ" لِأَنَّ مَعْنَاهُ يَخْتَارُ مَا
يَشَاءُ، وَلِهَذَا لَمْ يدخل العاطف، والمعنى، وإن الخيرة
الله تعالى في أفعاله وهو أعلم بوجوده الْحِكْمَةِ فِيهَا أَيْ
لَيْسَ لِأَحَدٍ
(13/305)
مِنْ خَلْقِهِ أَنْ يَخْتَارَ عَلَيْهِ
وَأَجَازَ الزَّجَّاجُ وَغَيْرُهُ أَنْ تَكُونَ" مَا"
مَنْصُوبَةٌ بِ" يَخْتارُ". وَأَنْكَرَ الطَّبَرِيُّ أَنْ
تَكُونَ" مَا" نَافِيةً، لِئَلَّا يَكُونَ الْمَعْنَى
إِنَّهُمْ لَمْ تَكُنْ لَهُمُ الْخِيَرَةُ فِيمَا مَضَى وَهِيَ
لَهُمْ فِيمَا يُسْتَقْبَلُ، وَلِأَنَّهُ لَمْ يَتَقَدَّمْ
كَلَامٌ بِنَفْيٍ. قَالَ الْمَهْدِيُّ: وَلَا يَلْزَمُ ذَلِكَ،
لِأَنَّ" مَا" تَنْفِي الْحَالَ وَالِاسْتِقْبَالَ كليس
وَلِذَلِكَ عَمِلَتْ عَمَلَهَا، وَلِأَنَّ الْآيَ كَانَتْ
تَنْزِلُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
عَلَى مَا يُسْأَلُ عَنْهُ، وَعَلَى مَا هُمْ مُصِرُّونَ
عَلَيْهِ مِنَ الْأَعْمَالِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ فِي
النَّصِّ. وَتَقْدِيرُ الْآيَةِ عِنْدَ الطَّبَرِيِّ:
وَيَخْتَارُ لِوِلَايَتِهِ الْخِيَرَةَ مِنْ خَلْقِهِ، لِأَنَّ
الْمُشْرِكِينَ كَانُوا يَخْتَارُونَ خِيَارَ أَمْوَالِهِمْ
فَيَجْعَلُونَهَا لِآلِهَتِهِمْ، فَقَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ
وَتَعَالَى:" وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشاءُ وَيَخْتارُ"
لِلْهِدَايَةِ مِنْ خَلْقِهِ مَنْ سَبَقَتْ لَهُ السَّعَادَةُ
فِي عِلْمِهِ، كَمَا اخْتَارَ الْمُشْرِكُونَ خِيَارَ
أَمْوَالِهِمْ لِآلِهَتِهِمْ، فَ" مَا" عَلَى هَذَا لِمَنْ
يَعْقِلُ وهي بمعنى الذي و" الْخِيَرَةُ" رفع بالابتداءو"
لَهُمُ" الخبر والجملة خبر" كانَ". وشبهه بقولك: كان زيد أبوه
منطلق وفيه ضعف، إذا لَيْسَ فِي الْكَلَامِ عَائِدٌ يَعُودُ
عَلَى اسْمِ كَانَ إِلَّا أَنْ يُقَدَّرَ فِيهِ حَذْفٌ
فَيَجُوزُ عَلَى بُعْدٍ. وَقَدْ رُوِيَ مَعْنَى مَا قَالَهُ
الطبري عن ابن عباس قال الثعلبي:" مَا" نَفْيٌ أَيْ لَيْسَ
لَهُمُ الِاخْتِيَارُ عَلَى اللَّهِ. وَهَذَا أَصْوَبُ
كَقَوْلِهِ تَعَالَى:" وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ
إِذا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ
الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ". قَالَ مَحْمُودُ الْوَرَّاقِ:
تَوَكَّلْ عَلَى الرَّحْمَنِ فِي كُلِّ حَاجَةٍ ... أَرَدْتَ
فَإِنَّ اللَّهَ يَقْضِي وَيَقْدِرُ
إِذَا مَا يُرِدْ ذُو الْعَرْشِ أَمْرًا بِعَبْدِهِ ...
يُصِبْهُ وَمَا لِلْعَبْدِ «1» مَا يَتَخَيَّرُ
وَقَدْ يَهْلِكُ الإنسان ومن وَجْهِ حِذْرِهِ ... وَيَنْجُو
بِحَمْدِ اللَّهِ مِنْ حَيْثُ يَحْذَرُ «2»
وَقَالَ آخَرُ:
الْعَبْدُ ذُو ضَجَرٍ وَالرَّبُّ ذُو قَدَرٍ ... وَالدَّهْرُ
ذُو دُوَلٍ وَالرِّزْقُ مَقْسُومُ
والخير أجمع فيها اخْتَارَ خَالِقُنَا ... وَفِي اخْتِيَارِ
سِوَاهُ اللَّوْمُ وَالشُّومُ
قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ أَنْ يقدر
عَلَى أَمْرٍ مِنْ أُمُورِ الدُّنْيَا حَتَّى يَسْأَلَ اللَّهَ
الْخِيَرَةَ فِي ذَلِكَ بِأَنْ يُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ صَلَاةَ
الِاسْتِخَارَةِ يَقْرَأُ فِي الرَّكْعَةِ الْأُولَى بَعْدَ
الفاتحة" قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ"
__________
(1). في بعض نسخ الأصل: وما للعبد لا يتخير. والتصحيح من
النسخة الخيرية.
(2). لعل صواب البيت: وينجو بحمد الله من ليس يحذر. وهذا ما
يفيده معنى التوكل.
(13/306)
فِي الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ" قُلْ هُوَ
اللَّهُ أَحَدٌ". وَاخْتَارَ بَعْضُ الْمَشَايِخِ أَنْ
يَقْرَأَ فِي الرَّكْعَةِ الْأُولَى" وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا
يَشاءُ وَيَخْتارُ مَا كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ" الْآيَةَ،
وَفِي الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ" وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا
مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ
يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ" وَكُلٌّ حَسَنٌ.
ثُمَّ يَدْعُو بِهَذَا الدُّعَاءِ بَعْدَ السَّلَامِ، وَهُوَ
مَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ من صَحِيحِهِ عَنْ جَابِرِ بْنِ
عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُعَلِّمُنَا الِاسْتِخَارَةَ فِي
الْأُمُورِ كُلِّهَا، كَمَا يُعَلِّمُنَا السُّورَةَ فِي
الْقُرْآنِ، يَقُولُ:" إِذَا هَمَّ أَحَدُكُمْ بِالْأَمْرِ
فَلْيَرْكَعْ رَكْعَتَيْنِ غَيْرَ الْفَرِيضَةِ ثُمَّ لْيَقُلْ
اللَّهُمَّ إني أستخيرك بعلمك وأستقدرك بقدوتك وَأَسْأَلُكَ
مِنْ فَضْلِكَ الْعَظِيمِ فَإِنَّكَ تَقْدِرُ وَلَا أَقْدِرُ
وَتَعْلَمُ وَلَا أَعْلَمَ وَأَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ
اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنَّ هَذَا الْأَمْرَ خَيْرٌ
لِي فِي دِينِي وَمَعَاشِي وَعَاقِبَةِ أَمْرِي- أَوْ قَالَ
فِي عَاجِلِ أَمْرِي وَآجِلِهِ- فَاقْدُرْهُ لِي وَيَسِّرْهُ
لِي ثُمَّ بَارِكْ لِي فِيهِ اللَّهُمَّ وَإِنْ كُنْتَ
تَعْلَمُ أَنَّ هَذَا الْأَمْرَ شَرٌّ لِي فِي دِينِي
وَدُنْيَايَ وَمَعَاشِي وَعَاقِبَةِ أَمْرِي- أَوْ قَالَ فِي
عَاجِلِ أَمْرِي وَآجِلِهِ- فَاصْرِفْهُ عَنِّي وَاصْرِفْنِي
عَنْهُ وَاقْدُرْ لِيَ الْخَيْرَ حَيْثُ كَانَ ثُمَّ رَضِّنِي
بِهِ" قَالَ: وَيُسَمِّي حَاجَتَهُ. وَرَوَتْ عَائِشَةُ عَنْ
أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ النَّبِيَّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا أَرَادَ
أَمْرًا قَالَ:" اللَّهُمَّ خِرْ لِي وَاخْتَرْ لِي" وَرَوَى
أَنَسٌ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ قال له" يَا
أَنَسُ إِذَا هَمَمْتَ بِأَمْرٍ فَاسْتَخِرْ رَبَّكَ فِيهِ
سَبْعَ مَرَّاتٍ ثُمَّ انْظُرْ إِلَى مَا يَسْبِقُ قَلْبُكَ
فَإِنَّ الْخَيْرَ فِيهِ". قَالَ الْعُلَمَاءُ: وَيَنْبَغِي
لَهُ أَنْ يُفْرِغَ قَلْبَهُ مِنْ جَمِيعِ الْخَوَاطِرِ حَتَّى
لَا يَكُونَ مَائِلًا إِلَى أَمْرٍ مِنَ الْأُمُورِ، فَعِنْدَ
ذَلِكَ مَا يَسْبِقُ إِلَى قَلْبِهِ يَعْمَلُ عَلَيْهِ،
فَإِنَّ الْخَيْرَ فِيهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ. وَإِنْ عَزَمَ
عَلَى سَفَرٍ فَيَتَوَخَّى بِسَفَرِهِ يَوْمَ الْخَمِيسِ أَوْ
يَوْمَ الِاثْنَيْنِ اقْتِدَاءً بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. ثُمَّ نزه نفسه سبحانه بقوله
الحق، فَقَالَ:" سُبْحانَ اللَّهِ" أَيْ تَنْزِيهًا.
(وَتَعالى) أَيْ تَقَدَّسَ وَتَمَجَّدَ (عَمَّا يُشْرِكُونَ).
وَرَبُّكَ يَعْلَمُ مَا تكن صدور هم وَمَا يُعْلِنُونَ)
يُظْهِرُونَ. وَقَرَأَ ابْنُ مُحَيْصِنٍ وَحُمَيْدٌ:" تُكِنُّ"
بِفَتْحِ التَّاءِ وَضَمِّ الْكَافِ وَقَدْ تَقَدَّمَ هَذَا
فِي" النَّمْلِ". تَمَدَّحَ سُبْحَانَهُ بِأَنَّهُ عَالِمُ
الغيب والشهادة لا يخفى عليه شي (هُوَ اللَّهُ لَا إِلهَ
إِلَّا هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولى وَالْآخِرَةِ وَلَهُ
الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) تقدم معناه، وأنه المنفرد
بالوحدانية، إن جَمِيعَ الْمَحَامِدِ إِنَّمَا تَجِبُ لَهُ
وَأَنْ لَا حكم إلا له وإليه المصير.
(13/307)
قُلْ أَرَأَيْتُمْ
إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى
يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ
بِضِيَاءٍ أَفَلَا تَسْمَعُونَ (71) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ
جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ
الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ
تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلَا تُبْصِرُونَ (72) وَمِنْ رَحْمَتِهِ
جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ
وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (73)
وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ
كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (74) وَنَزَعْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ
شَهِيدًا فَقُلْنَا هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ فَعَلِمُوا أَنَّ
الْحَقَّ لِلَّهِ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ
(75)
[سورة القصص (28): الآيات 71 الى 73]
قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ
سَرْمَداً إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ
يَأْتِيكُمْ بِضِياءٍ أَفَلا تَسْمَعُونَ (71) قُلْ
أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهارَ
سَرْمَداً إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ
يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلا تُبْصِرُونَ
(72) وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ
لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ
وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (73)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ
عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَداً) أَيْ دَائِمًا، وَمِنْهُ
قَوْلُ طَرَفَةُ.
لَعَمْرُكَ مَا أَمْرِي عَلَيَّ بِغُمَّةٍ ... نَهَارِي ولا
ليلي بِسَرْمَدِ «1»
بَيَّنَ سُبْحَانَهُ أَنَّهُ مَهَّدَ أَسْبَابَ الْمَعِيشَةِ
لِيَقُومُوا بِشُكْرِ نِعَمِهِ. (مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ
يَأْتِيكُمْ بِضِياءٍ) أَيْ بِنُورٍ تَطْلُبُونَ فِيهِ
الْمَعِيشَةَ. وَقِيلَ: بِنَهَارٍ تُبْصِرُونَ فِيهِ
مَعَايِشَكُمْ وَتَصْلُحُ فِيهِ الثِّمَارُ وَالنَّبَاتُ.
(أَفَلا تَسْمَعُونَ) سَمَاعَ فَهْمٍ وَقَبُولٍ. (قُلْ
أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهارَ
سَرْمَداً إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ
يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ) أَيْ تَسْتَقِرُّونَ
فِيهِ مِنَ النَّصَبِ. (أَفَلا تُبْصِرُونَ) مَا أَنْتُمْ
فِيهِ مِنَ الْخَطَإِ فِي عِبَادَةِ غَيْرِهِ، فَإِذَا
أَقْرَرْتُمْ بِأَنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى إِيتَاءِ اللَّيْلِ
وَالنَّهَارِ غَيْرُهُ فَلِمَ تُشْرِكُونَ بِهِ. (وَمِنْ
رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لِتَسْكُنُوا
فِيهِ) أَيْ فِيهِمَا. وَقِيلَ: الضَّمِيرُ لِلزَّمَانِ وَهُوَ
اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ. (وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ) أَيْ
لِتَطْلُبُوا مِنْ رِزْقِهِ فِيهِ أَيْ فِي النَّهَارِ
فَحُذِفَ. (وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) الله على ذلك.
[سورة القصص (28): الآيات 74 الى 75]
وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ
كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (74) وَنَزَعْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ
شَهِيداً فَقُلْنا هاتُوا بُرْهانَكُمْ فَعَلِمُوا أَنَّ
الْحَقَّ لِلَّهِ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (75)
__________
(1). الغمة: الامر الذي لا يهتدى له، والمعنى، لا أتحير في
أمري نهارا وأؤخره ليلا فيطول على الليل.
(13/308)
إِنَّ قَارُونَ كَانَ
مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنَ
الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ
أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ
إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ (76) وَابْتَغِ فِيمَا
آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ
مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ
وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا
يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (77)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ
فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ)
أَعَادَ هَذَا الضَّمِيرَ لِاخْتِلَافِ الْحَالَيْنِ،
يُنَادَوْنَ مَرَّةً فَيُقَالُ لَهُمْ:" أَيْنَ شُرَكائِيَ
الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ" فَيَدْعُونَ الْأَصْنَامَ
فَلَا يَسْتَجِيبُونَ، فَتَظْهَرُ حَيْرَتُهُمْ «1»، ثُمَّ
يُنَادَوْنَ مَرَّةً أُخْرَى فَيَسْكُتُونَ. وَهُوَ تَوْبِيخُ
وَزِيَادَةُ خِزْيِ. وَالْمُنَادَاةُ هُنَا لَيْسَتْ مِنَ
اللَّهِ؟ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يُكَلِّمُ الْكُفَّارَ
لِقَوْلِهِ تَعَالَى:" وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ
الْقِيامَةِ" لَكِنَّهُ تَعَالَى يَأْمُرُ مَنْ يُوَبِّخُهُمْ
وَيُبَكِّتُهُمْ، وَيُقِيمُ الْحُجَّةَ عَلَيْهِمْ فِي مَقَامِ
الْحِسَابِ. وَقِيلَ: يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مِنَ اللَّهِ،
وَقَوْلُهُ:" وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ" حين يقال لهم:"
اخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ" وَقَالَ:" شُرَكائِيَ"
لِأَنَّهُمْ جَعَلُوا لَهُمْ نَصِيبًا مِنْ أَمْوَالِهِمْ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَنَزَعْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً)
أَيْ نَبِيًّا، عَنْ مُجَاهِدٍ. وَقِيلَ: هُمْ عُدُولُ
الْآخِرَةِ يَشْهَدُونَ عَلَى الْعِبَادِ بِأَعْمَالِهِمْ فِي
الدُّنْيَا. وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى:"
فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا
بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً" وَشَهِيدُ كُلِّ أُمَّةٍ
رَسُولُهَا الَّذِي يَشْهَدُ عَلَيْهَا. وَالشَّهِيدُ
الْحَاضِرُ. أَيْ أَحْضَرْنَا رَسُولَهُمُ الْمَبْعُوثَ
إِلَيْهِمْ. (فَقُلْنا هاتُوا بُرْهانَكُمْ) أَيْ حُجَّتُكُمْ.
(فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ) أَيْ عَلِمُوا صِدْقَ مَا
جَاءَتْ بِهِ الْأَنْبِيَاءُ. (وَضَلَّ عَنْهُمْ) أَيْ ذَهَبَ
عَنْهُمْ وَبَطَلَ. (مَا كانُوا يَفْتَرُونَ) أَيْ
يَخْتَلِقُونَهُ مِنَ الْكَذِبِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى مِنْ
أَنَّ مَعَهُ آلِهَةً تعبد.
[سورة القصص (28): الآيات 76 الى 77]
إِنَّ قارُونَ كانَ مِنْ قَوْمِ مُوسى فَبَغى عَلَيْهِمْ
وَآتَيْناهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفاتِحَهُ لَتَنُوأُ
بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا
تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ (76)
وَابْتَغِ فِيما آتاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلا
تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيا وَأَحْسِنْ كَما أَحْسَنَ
اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ
اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (77)
__________
(1). في نسخة، فيظهر حزنهم.
(13/309)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (إِنَّ قارُونَ كانَ
مِنْ قَوْمِ مُوسى) لَمَّا قَالَ تَعَالَى:" وَما أُوتِيتُمْ
مِنْ شَيْءٍ فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَزِينَتُها"
بَيَّنَ أَنَّ قَارُونَ أُوتِيهَا وَاغْتَرَّ بِهَا وَلَمْ
تَعْصِمْهُ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ كَمَا لَمْ تَعْصِمْ
فِرْعَوْنَ، وَلَسْتُمْ أَيُّهَا الْمُشْرِكُونَ بِأَكْثَرَ
عَدَدًا وَمَالًا مِنْ قَارُونَ وَفِرْعَوْنَ، فَلَمْ يَنْفَعْ
فِرْعَوْنَ جُنُودُهُ وَأَمْوَالُهُ، وَلَمْ يَنْفَعْ قَارُونَ
قَرَابَتُهُ مِنْ مُوسَى وَلَا كُنُوزُهُ. قَالَ النَّخَعِيُّ
وَقَتَادَةُ وَغَيْرُهُمَا: كَانَ ابْنَ عَمِّ مُوسَى لَحًّا،
وَهُوَ قَارُونُ بْنِ يَصْهَرَ بْنِ قَاهِثِ بْنِ لَاوِي بْنِ
يَعْقُوبَ، وَمُوسَى بْنُ عِمْرَانَ بْنِ قَاهِثَ. وَقَالَ
ابْنُ إِسْحَاقَ: كَانَ عَمَّ مُوسَى لِأَبٍ وَأُمٍّ. وَقِيلَ:
كَانَ ابْنَ خَالَتِهِ. وَلَمْ يَنْصَرِفْ لِلْعُجْمَةِ
وَالتَّعْرِيفِ. وَمَا كَانَ عَلَى وَزْنِ فَاعُولَ
أَعْجَمِيًّا لَا يَحْسُنُ فِيهِ الْأَلِفُ وَاللَّامُ لَمْ
يَنْصَرِفْ فِي الْمَعْرِفَةِ وَانْصَرَفَ فِي النَّكِرَةِ،
فَإِنْ حَسُنَتْ فِيهِ الْأَلِفُ وَاللَّامُ انْصَرَفَ إِنْ
كَانَ اسْمًا لِمُذَكَّرٍ نَحْوَ طَاوُسٍ وَرَاقُودٍ. قَالَ
الزَّجَّاجُ: وَلَوْ كَانَ قَارُونُ مِنْ قَرَنْتُ الشَّيْءَ
لَانْصَرَفَ. (فَبَغى عَلَيْهِمْ) بَغْيُهُ أَنَّهُ زَادَ فِي
طُولِ ثَوْبِهِ شِبْرًا، قَالَهُ شَهْرُ بْنُ حَوْشَبٍ. وَفِي
الْحَدِيثِ" لَا يَنْظُرُ اللَّهُ إِلَى مَنْ جَرَّ إِزَارَهُ
بَطَرًا" وَقِيلَ: بَغْيُهُ كُفْرُهُ بِاللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ،
قَالَهُ الضَّحَّاكُ. وَقِيلَ: بَغْيُهُ اسْتِخْفَافُهُ بِهِمْ
بِكَثْرَةِ مَالِهِ وَوَلَدِهِ، قَالَهُ قَتَادَةُ. وَقِيلَ:
بَغْيُهُ نِسْبَتُهُ مَا آتَاهُ اللَّهُ مِنَ الْكُنُوزِ إِلَى
نَفْسِهِ بِعِلْمِهِ وَحِيلَتِهِ، قَالَهُ ابْنُ بَحْرٍ.
وَقِيلَ: بَغْيُهُ قَوْلُهُ إِذَا كَانَتِ النبوة لموسى
والمذبح والقربان في هرون فمالي! فَرُوِيَ أَنَّهُ لَمَّا
جَاوَزَ بِهِمْ مُوسَى الْبَحْرَ وَصَارَتِ الرِّسَالَةُ
لِمُوسَى وَالْحُبُورَةُ لِهَارُونَ، يُقَرِّبُ الْقُرْبَانَ
وَيَكُونُ رَأْسًا فِيهِمْ، وَكَانَ الْقُرْبَانُ لِمُوسَى
فَجَعَلَهُ مُوسَى إِلَى أَخِيهِ، وَجَدَ قَارُونُ فِي
نَفْسِهِ وَحَسَدَهُمَا فَقَالَ لِمُوسَى: الْأَمْرُ لَكُمَا
وَلَيْسَ لِي شي إِلَى مَتَى أَصْبِرُ. قَالَ مُوسَى: هَذَا
صُنْعُ اللَّهِ. قَالَ: وَاللَّهِ لَا أُصَدِّقَنَّكَ حَتَّى
تَأْتِيَ بآية، فأمر رؤساء بني إسرائيل أن يجئ كُلُّ وَاحِدٍ
مِنْهُمْ بِعَصَاهُ، فَحَزَمَهَا وَأَلْقَاهَا فِي الْقُبَّةِ
الَّتِي كَانَ الْوَحْيُ يَنْزِلُ عَلَيْهِ فِيهَا، وَكَانُوا
يَحْرُسُونَ عِصِيِّهِمْ بِاللَّيْلِ فَأَصْبَحُوا وَإِذَا
بِعَصَا هرون تَهْتَزُّ وَلَهَا وَرَقٌ أَخْضَرُ- وَكَانَتْ
مِنْ شَجَرِ اللَّوْزِ- فَقَالَ قَارُونُ: مَا هُوَ بِأَعْجَبَ
مِمَّا تَصْنَعُ مِنَ السِّحْرِ." فَبَغى عَلَيْهِمْ" مِنَ
الْبَغْيِ وَهُوَ الظُّلْمُ. وَقَالَ يَحْيَى بْنُ سَلَّامٍ
وَابْنُ الْمُسَيِّبِ: كَانَ قَارُونُ غَنِيًّا عَامِلًا
لِفِرْعَوْنَ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فَتَعَدَّى عَلَيْهِمْ
وَظَلَمَهُمْ وَكَانَ مِنْهُمْ وَقَوْلٌ سَابِعٌ: رُوِيَ عَنِ
ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَمَّا أَمَرَ اللَّهُ
(13/310)
تَعَالَى بِرَجْمِ الزَّانِي عَمَدَ
قَارُونُ إِلَى امْرَأَةٍ بَغِيٍّ وَأَعْطَاهَا مَالًا،
وَحَمَلَهَا عَلَى أَنِ ادَّعَتْ عَلَى مُوسَى أَنَّهُ زَنَى
بِهَا وَأَنَّهُ أَحْبَلَهَا، فَعَظُمَ عَلَى مُوسَى ذَلِكَ
وَأَحْلَفَهَا بِاللَّهِ الَّذِي فَلَقَ الْبَحْرَ لِبَنِي
إِسْرَائِيلَ، وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ عَلَى مُوسَى إِلَّا
صَدَقَتْ. فَتَدَارَكَهَا اللَّهُ فَقَالَتْ: أَشْهَدُ أنك
برئ، وَأَنَّ قَارُونَ أَعْطَانِي مَالًا، وَحَمَلَنِي عَلَى
أَنْ قُلْتُ مَا قُلْتُ، وَأَنْتَ الصَّادِقُ وَقَارُونُ
الْكَاذِبُ. فَجَعَلَ اللَّهُ أَمْرَ قَارُونَ إِلَى مُوسَى
وَأَمَرَ الْأَرْضَ أَنْ تُطِيعَهُ. فَجَاءَهُ وَهُوَ يَقُولُ
لِلْأَرْضِ: يَا أَرْضُ خُذِيهِ، وَهِيَ تَأْخُذُهُ شَيْئًا
فَشَيْئًا وَهُوَ يَسْتَغِيثُ يَا مُوسَى! إِلَى أَنْ سَاخَ
فِي الْأَرْضِ هُوَ وَدَارُهُ وَجُلَسَاؤُهُ الَّذِينَ كَانُوا
عَلَى مَذْهَبِهِ. وَرُوِيَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَوْحَى
إِلَى مُوسَى: اسْتَغَاثَ بِكَ عِبَادِي فَلَمْ تَرْحَمْهُمْ،
أَمَا إِنَّهُمْ لَوْ دَعَوْنِي لَوَجَدُونِي قَرِيبًا
مُجِيبًا. ابْنُ جُرَيْجٍ: بَلَغَنَا أَنَّهُ يُخْسَفُ بِهِمْ
كُلَّ يَوْمٍ قَامَةً، فَلَا يَبْلُغُونَ إِلَى أَسْفَلِ
الْأَرْضِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَذَكَرَ ابْنُ أَبِي
الدُّنْيَا فِي كِتَابِ الْفَرَجِ: حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ
بْنُ رَاشِدٍ قَالَ حَدَّثَنِي دَاوُدُ بْنُ مِهْرَانَ، عَنِ
الْوَلِيدِ بن مسلم، عن مروان ابن جَنَاحٍ، عَنْ يُونُسَ بْنِ
مَيْسَرَةَ بْنِ حَلْبَسٍ قَالَ: لَقِيَ قَارُونُ يُونُسَ فِي
ظُلُمَاتِ الْبَحْرِ، فَنَادَى قَارُونُ يُونُسَ، فَقَالَ: يَا
يُونُسُ: تُبْ إِلَى اللَّهِ فَإِنَّكَ تَجِدُهُ عِنْدَ
أَوَّلِ قَدَمٍ تَرْجِعُ بِهَا إِلَيْهِ. فَقَالَ يُونُسُ: مَا
مَنَعَكَ مِنَ التَّوْبَةِ. فَقَالَ: إِنَّ تَوْبَتِي جُعِلَتْ
إِلَى ابْنِ عَمِّي فَأَبَى أَنْ يَقْبَلَ مِنِّي. وَفِي
الْخَبَرِ: إِذَا وَصَلَ قَارُونُ إِلَى قَرَارِ الْأَرْضِ
السَّابِعَةِ نَفَخَ إِسْرَافِيلُ فِي الصُّوَرِ. وَاللَّهُ
أَعْلَمُ. قَالَ السُّدِّيُّ: وَكَانَ اسْمُ الْبَغِيِّ
سَبَرَتَا، وَبَذَلَ لَهَا قَارُونُ أَلْفَيْ دِرْهَمٍ.
قَتَادَةُ: وَكَانَ قَطَعَ الْبَحْرَ مَعَ مُوسَى وَكَانَ
يُسَمَّى الْمُنَوِّرَ مِنْ حُسْنِ صُورَتِهِ فِي
التَّوْرَاةِ، وَلَكِنَّ عَدُوَّ اللَّهِ نَافَقَ كَمَا
نَافَقَ السَّامِرِيُّ. قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَآتَيْناهُ مِنَ
الْكُنُوزِ) قَالَ عَطَاءٌ: أَصَابَ كَثِيرًا مِنْ كُنُوزِ
يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَقَالَ الْوَلِيدُ بْنُ
مَرْوَانَ: إِنَّهُ كَانَ يَعْمَلُ الْكِيمْيَاءَ. (مَا إِنَّ
مَفاتِحَهُ) " إِنَّ" وَاسْمَهَا وَخَبَرَهَا فِي صِلَةِ" مَا"
و" ما" مفعولة" آتَيْناهُ". قَالَ النَّحَّاسُ: وَسَمِعْتُ
عَلِيَّ بْنَ سُلَيْمَانَ
يَقُولُ مَا أَقْبَحَ مَا يَقُولُ الْكُوفِيُّونَ فِي
الصِّلَاتِ، إِنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ صِلَةُ الَّذِي
وَأَخَوَاتُهُ" إِنَّ" وَمَا عَمِلَتْ فِيهِ، وَفِي
الْقُرْآنِ" مَا إِنَّ مَفاتِحَهُ". وَهُوَ جَمْعُ مِفْتَحٍ
بِالْكَسْرِ وَهُوَ مَا يُفْتَحُ
(13/311)
بِهِ. وَمَنْ قَالَ مِفْتَاحٌ قَالَ
مَفَاتِيحُ. وَمَنْ قال هي الخزائن فواحدها مفتح بالفتح.
(لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ) أَحْسَنُ مَا قِيلَ فِيهِ أَنَّ
الْمَعْنَى لتنئ الْعُصْبَةَ أَيْ تُمِيلُهُمْ بِثِقَلِهَا،
فَلَمَّا انْفَتَحَتِ التَّاءُ دَخَلَتِ الْبَاءُ. كَمَا
قَالُوا هُوَ يَذْهَبُ بِالْبُؤْسِ ومذهب البؤس. فصار"
لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ" فَجَعَلَ الْعُصْبَةَ تَنُوءُ أَيْ
تَنْهَضُ مُتَثَاقِلَةً، كَقَوْلِكَ قُمْ بِنَا أَيِ
اجْعَلْنَا نَقُومُ. يُقَالُ: نَاءَ يَنُوءُ نَوْءًا إِذَا
نَهَضَ بِثِقَلٍ. قَالَ الشاعر «1»:
تنوء بأخراها فلأيا قيامها ... وتمشي الهوينى عَنْ قَرِيبٍ
فَتَبْهَرُ
وَقَالَ آخَرُ:
أَخَذْتُ فَلَمْ أملك ونوت فَلَمْ أَقُمْ ... كَأَنِّيَ مِنْ
طُولِ الزَّمَانِ مُقَيَّدُ
وَأَنَاءَنِي إِذَا أَثْقَلَنِي، عَنْ أَبِي زَيْدٍ. وَقَالَ
أبو عبيدة: قوله" لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ" مَقْلُوبٌ،
وَالْمَعْنَى لَتَنُوءُ بِهَا الْعُصْبَةُ أَيْ تنهض بها. أبو
زيد: نوت بِالْحِمْلِ إِذَا نَهَضْتُ. قَالَ الشَّاعِرُ:
إِنَّا وَجَدْنَا خَلَفًا بِئْسَ الْخَلَفْ ... عَبْدًا إِذَا
مَا نَاءَ بِالْحِمْلِ وَقَفْ
وَالْأَوَّلُ مَعْنَى قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَأَبِي صَالِحٍ
وَالسُّدِّيِّ. وَهُوَ قَوْلُ الْفَرَّاءِ وَاخْتَارَهُ
النَّحَّاسُ. كَمَا يُقَالُ: ذَهَبْتُ بِهِ وَأَذْهَبْتُهُ
وَجِئْتُ به وأجأته ونوت بِهِ وَأَنَأْتُهُ، فَأَمَّا
قَوْلُهُمْ: لَهُ عِنْدِي مَا سَاءَهُ وَنَاءَهُ فَهُوَ
إِتْبَاعٌ كَانَ يَجِبُ أَنْ يُقَالَ وَأَنَاءَهُ. وَمِثْلُهُ
هَنَّأَنِي الطَّعَامَ وَمَرَّأَنِي، وَأَخْذُهُ مَا قَدُمَ
وَمَا حَدُثَ وَقِيلَ: هُوَ مَأْخُوذٌ مِنَ النَّأْيِ وَهُوَ
الْبُعْدُ. وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
ينأون عنا وما تنأى مودتهم ... فالقلب فِيهِمْ رَهِينٌ
حَيْثُمَا كَانُوا
وَقَرَأَ بُدَيْلُ بْنُ مَيْسَرَةَ:" لَيَنُوءُ" بِالْيَاءِ،
أَيْ لَيَنُوءُ الْوَاحِدُ مِنْهَا أَوِ الْمَذْكُورُ فَحُمِلَ
عَلَى الْمَعْنَى. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: قُلْتُ
لِرُؤْبَةَ بْنِ الْعَجَّاجِ فِي قَوْلِهِ:
فِيهَا خُطُوطٌ مِنْ سَوَادٍ وَبَلَقْ ... كَأَنَّهُ فِي
الْجِلْدِ تَوْلِيعُ الْبَهَقْ
إِنْ كُنْتَ أَرَدْتَ الْخُطُوطَ فَقُلْ كَأَنَّهَا، وَإِنْ
كُنْتَ أَرَدْتَ السَّوَادَ وَالْبَلَقَ فَقُلْ كَأَنَّهُمَا.
فَقَالَ: أَرَدْتُ كُلَّ ذَلِكَ. وَاخْتُلِفَ فِي الْعُصْبَةِ
وَهِيَ الْجَمَاعَةُ الَّتِي يَتَعَصَّبُ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ
عَلَى أَحَدَ عَشَرَ قَوْلًا: الْأَوَّلُ- ثَلَاثَةُ رِجَالٍ،
قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ. وَعَنْهُ أَيْضًا مِنَ الثلاثة إلى
العشرة.
__________
(1). هو ذو الرمة. يريد تنيئها عجيزتها إلى الأرض لضخامتها
وكثرة لحمها في أردافها. [ ..... ]
(13/312)
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: الْعُصْبَةُ هُنَا مَا
بَيْنَ الْعِشْرِينَ إِلَى خَمْسَةَ عَشَرَ. وَعَنْهُ أَيْضًا:
مَا بَيْنَ الْعَشْرَةِ إِلَى الْخَمْسَةَ عَشَرَ. وَعَنْهُ
أَيْضًا: مِنْ عَشَرَةٍ إِلَى خَمْسَةٍ. ذَكَرَ الْأَوَّلَ
الثَّعْلَبِيُّ، وَالثَّانِيَ الْقُشَيْرِيُّ
وَالْمَاوَرْدِيُّ، وَالثَّالِثُ الْمَهْدَوِيُّ. وَقَالَ
أَبُو صَالِحٍ وَالْحَكَمُ بْنُ عُتَيْبَةَ وَقَتَادَةُ
وَالضَّحَّاكُ: أَرْبَعُونَ رَجُلًا. السُّدِّيُّ مَا بَيْنَ
الْعَشَرَةِ إِلَى الْأَرْبَعِينَ. وَقَالَهُ قَتَادَةُ
أَيْضًا. وَقَالَ عِكْرِمَةُ: مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ
أَرْبَعُونَ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ سَبْعُونَ. وَهُوَ
قَوْلُ أَبِي صَالِحٍ إِنَّ الْعُصْبَةَ سَبْعُونَ رَجُلًا،
ذَكَرَهُ الْمَاوَرْدِيُّ. وَالْأَوَّلُ ذَكَرَهُ عَنْهُ
الثَّعْلَبِيُّ. وَقِيلَ: سِتُّونَ رَجُلًا. وَقَالَ سَعِيدُ
بْنُ جُبَيْرٍ: سِتٌّ أَوْ سَبْعٌ. وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ
بْنُ زَيْدٍ: مَا بَيْنَ الثَّلَاثَةِ وَالتِّسْعَةِ وَهُوَ
النَّفَرُ. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: عَشَرَةٌ لِقَوْلِ إِخْوَةِ
يُوسُفَ" وَنَحْنُ عُصْبَةٌ" وَقَالَهُ مُقَاتِلٌ. وَقَالَ
خَيْثَمَةُ: وَجَدْتُ فِي الْإِنْجِيلِ أَنَّ مَفَاتِيحَ
خَزَائِنِ قَارُونَ وَقْرُ سِتِّينَ بَغْلًا غَرَّاءَ محجلة،
وأنها لتنوء بها من ثِقَلَهَا، وَمَا يَزِيدُ مِفْتَحٌ مِنْهَا
عَلَى إِصْبَعٍ، لِكُلِّ مِفْتَحٍ مِنْهَا كَنْزُ مَالٍ، لَوْ
قُسِمَ ذَلِكَ الْكَنْزُ عَلَى أَهْلِ الْبَصْرَةِ
لَكَفَاهُمْ. قَالَ مُجَاهِدٌ: كَانَتِ الْمَفَاتِيحُ مِنْ
جُلُودِ الْإِبِلِ. وَقِيلَ: مِنْ جُلُودِ الْبَقَرِ لِتَخِفَّ
عَلَيْهِ، وَكَانَتْ تُحْمَلُ مَعَهُ إِذَا رَكِبَ عَلَى
سَبْعِينَ بَغْلًا فِيمَا ذَكَرَهُ الْقُشَيْرِيُّ. وَقِيلَ:
عَلَى أَرْبَعِينَ بَغْلًا. وَهُوَ قَوْلُ الضَّحَّاكِ.
وَعَنْهُ أَيْضًا: إِنَّ مَفَاتِحَهُ أَوْعِيَتُهُ. وَكَذَا
قَالَ أَبُو صَالِحٍ: إِنَّ الْمُرَادَ بِالْمَفَاتِحِ
الْخَزَائِنُ، فَاللَّهُ أَعْلَمُ. (إِذْ قالَ لَهُ قَوْمُهُ)
أَيِ الْمُؤْمِنُونَ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، قَالَهُ
السُّدِّيُّ. وَقَالَ يَحْيَى بْنُ سَلَّامٍ: الْقَوْمُ هُنَا
مُوسَى. وقاله الْفَرَّاءُ. وَهُوَ جَمْعٌ أُرِيدَ بِهِ
وَاحِدٌ كَقَوْلِهِ:" الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ"
وَإِنَّمَا هُوَ نُعَيْمُ بْنُ مَسْعُودٍ عَلَى مَا تَقَدَّمَ.
(لَا تَفْرَحْ) أي لا تأشر ولا تبطر. (إِنَّ اللَّهَ لا
يُحِبُّ الْفَرِحِينَ) أي البطرين، قاله مجاهد والسدي. قَالَ
الشَّاعِرُ: وَلَسْتُ بِمِفْرَاحٍ إِذَا الدَّهْرُ سَرَّنِي
وَلَا ضَارِعٌ فِي صَرْفِهِ «1» الْمُتَقَلِّبِ وَقَالَ
الزَّجَّاجُ: الْمَعْنَى لَا تَفْرَحْ بِالْمَالِ فَإِنَّ
الْفَرِحَ بِالْمَالِ لَا يُؤَدِّي حَقَّهُ. وَقَالَ مُبَشَّرُ
«2» بْنُ عَبْدِ اللَّهِ: لَا تَفْرَحْ لَا تُفْسِدْ. قَالَ
الشَّاعِرُ «3»:
إِذَا أَنْتَ لَمْ تَبْرَحْ تُؤَدِّي أَمَانَةً ... وَتَحْمِلُ
أخرى أفرحتك الودائع
__________
(1). ويروى: ولا جازع من صرفها المتحول.
(2). التصحيح من النسخة الخيرية.
(3). أنشده أبو عبيدة لبيعس العذري.
(13/313)
أَيْ أَفْسَدَتْكَ. وَقَالَ أَبُو عَمْرٍو:
أَفْرَحَهُ الدَّيْنُ أَثْقَلَهُ. وَأَنْشَدَهُ: إِذَا أَنْتَ
... الْبَيْتَ. وَأَفْرَحَهُ سَرَّهُ فَهُوَ مُشْتَرَكٌ. قَالَ
الزَّجَّاجُ: وَالْفَرِحِينَ وَالْفَارِحِينَ سَوَاءٌ.
وَفَرَّقَ بَيْنَهُمَا الْفَرَّاءُ فَقَالَ: مَعْنَى
الْفَرِحِينَ الَّذِينَ هُمْ فِي حَالِ فَرَحٍ،
وَالْفَارِحِينَ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ فِي الْمُسْتَقْبَلِ.
وَزَعَمَ أَنَّ مِثْلَهُ طَمِعٌ وَطَامِعٌ وَمَيِّتٌ
وَمَائِتٌ. وَيَدُلُّ عَلَى خِلَافِ مَا قَالَ قَوْلُ اللَّهِ
عَزَّ وَجَلَّ:" إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ"
وَلَمْ يَقُلْ مَائِتٌ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ أَيْضًا: مَعْنَى"
لَا تَفْرَحْ" لَا تَبْغِ" إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ
الْفَرِحِينَ" أَيِ الْبَاغِينَ. وَقَالَ ابْنُ بَحْرٍ: لَا
تَبْخَلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْبَاخِلِينَ. قَوْلُهُ
تَعَالَى: (وَابْتَغِ فِيما آتاكَ اللَّهُ الدَّارَ
الْآخِرَةَ) أَيِ اطْلُبْ فِيمَا أَعْطَاكَ اللَّهُ مِنَ
الدُّنْيَا الدَّارَ الْآخِرَةَ وَهِيَ الْجَنَّةُ، فَإِنَّ
مِنْ حَقِّ الْمُؤْمِنِ أَنْ يَصْرِفَ الدُّنْيَا فِيمَا
يَنْفَعُهُ فِي الْآخِرَةِ لَا فِي التَّجَبُّرِ وَالْبَغْيِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيا)
اخْتُلِفَ فِيهِ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالْجُمْهُورُ: لَا
تُضَيِّعْ عُمْرَكَ فِي أَلَّا تَعْمَلَ عَمَلًا صَالِحًا فِي
دُنْيَاكَ، إِذِ الْآخِرَةُ إِنَّمَا يُعْمَلُ لَهَا،
فَنَصِيبُ الْإِنْسَانِ عُمْرُهُ وَعَمَلُهُ الصَّالِحُ
فِيهَا. فَالْكَلَامُ عَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ شِدَّةٌ فِي
الْمَوْعِظَةِ. وَقَالَ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ: مَعْنَاهُ لَا
تُضَيِّعُ حَظَّكَ مِنْ دُنْيَاكَ فِي تَمَتُّعِكَ
بِالْحَلَالِ وَطَلَبِكَ إِيَّاهُ، وَنَظَرِكَ لِعَاقِبَةِ
دُنْيَاكَ. فَالْكَلَامُ عَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ فِيهِ
بَعْضُ الرِّفْقِ بِهِ وَإِصْلَاحُ الْأَمْرِ الَّذِي
يَشْتَهِيهِ. وَهَذَا مِمَّا يَجِبُ اسْتِعْمَالُهُ مَعَ
الْمَوْعُوظِ خَشْيَةَ النَّبْوَةِ مِنَ الشِّدَّةِ، قَالَهُ
ابْنُ عَطِيَّةَ. قُلْتُ: وَهَذَانِ التَّأْوِيلَانِ قَدْ
جَمَعَهُمَا ابْنُ عُمَرَ فِي قَوْلِهِ: احْرُثْ لِدُنْيَاكَ
كَأَنَّكَ تَعِيشُ أَبَدًا، وَاعْمَلْ لِآخِرَتِكَ كَأَنَّكَ
تَمُوتُ غَدًا وَعَنِ الْحَسَنِ: قَدِّمِ الْفَضْلَ،
وَأَمْسِكْ مَا يُبَلِّغُ. وَقَالَ مَالِكٌ: هُوَ الْأَكْلُ
وَالشُّرْبُ بِلَا سَرَفٍ. وَقِيلَ: أَرَادَ بِنَصِيبِهِ
الْكَفَنَ. فَهَذَا وَعْظٌ مُتَّصِلٌ، كَأَنَّهُمْ قَالُوا:
لَا تَنْسَ أَنَّكَ تَتْرُكُ جَمِيعَ مَالِكَ إِلَّا نَصِيبَكَ
هَذَا الَّذِي هُوَ الْكَفَنُ. وَنَحْوَ هَذَا قَوْلُ الشاعر:
نصيبك مما تجمع الدهر كله ... رداء ان تُلْوَى فِيهِمَا
وَحَنُوطُ
وَقَالَ آخَرُ:
وَهِيَ الْقَنَاعَةُ لَا تَبْغِي بِهَا بَدَلًا ... فِيهَا
النَّعِيمُ وَفِيهَا رَاحَةُ الْبَدَنِ
انْظُرْ لِمَنْ مَلَكَ الدُّنْيَا بِأَجْمَعِهَا ... هَلْ
رَاحَ مِنْهَا بِغَيْرِ الْقُطْنِ وَالْكَفَنِ
قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَأَبْدَعَ مَا فِيهِ عِنْدِي
قَوْلُ قَتَادَةِ: وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ الْحَلَالَ، فَهُوَ
نَصِيبُكَ مِنَ الدُّنْيَا وَيَا مَا أَحْسَنَ هَذَا.
(وَأَحْسِنْ كَما أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ) أَيْ أَطِعِ
اللَّهَ وَاعْبُدْهُ كَمَا أَنْعَمَ عَلَيْكَ.
(13/314)
قَالَ إِنَّمَا
أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ
اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ
هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا وَلَا
يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ (78)
وَمِنْهُ الْحَدِيثُ: مَا الْإِحْسَانُ؟
قَالَ: (أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ) وَقِيلَ:
هُوَ أَمْرٌ بِصِلَةِ الْمَسَاكِينِ. قَالَ ابْنُ
الْعَرَبِيِّ: فِيهِ أَقْوَالٌ كَثِيرَةٌ جِمَاعُهَا
اسْتِعْمَالُ نِعَمِ اللَّهِ فِي طَاعَةِ اللَّهِ. وقال مالك:
هو الْأَكْلُ وَالشُّرْبُ مِنْ غَيْرِ سَرَفٍ. قَالَ ابْنُ
الْعَرَبِيِّ: أَرَى مَالِكًا أَرَادَ الرَّدَّ عَلَى
الْغَالِينَ فِي الْعِبَادَةِ وَالتَّقَشُّفِ، فَإِنَّ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُحِبُّ
الْحَلْوَاءَ، وَيَشْرَبُ الْعَسَلَ، وَيَسْتَعْمِلُ
الشِّوَاءَ، وَيَشْرَبُ الْمَاءَ الْبَارِدَ. وَقَدْ مَضَى
هَذَا الْمَعْنَى فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ (وَلا تَبْغِ الْفَسادَ
فِي الْأَرْضِ) أَيْ لَا تَعْمَلْ بِالْمَعَاصِي (إِنَّ
اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ)
[سورة القصص (28): آية 78]
قالَ إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ عِنْدِي أَوَلَمْ
يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ
الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ
جَمْعاً وَلا يُسْئَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ (78)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (قالَ إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ
عِنْدِي) يَعْنِي عِلْمَ التَّوْرَاةِ. وَكَانَ فِيمَا رُوِيَ
مِنْ أَقْرَأِ النَّاسِ لَهَا، وَمِنْ أَعْلَمِهِمْ بِهَا.
وَكَانَ أَحَدَ الْعُلَمَاءِ السَّبْعِينَ الذين اخْتَارَهُمْ
مُوسَى لِلْمِيقَاتِ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: أَيْ إِنَّمَا
أُوتِيتُهُ لِعِلْمِهِ بِفَضْلِي وَرِضَاهُ عَنِّي.
فَقَوْلُهُ:" عِنْدِي" مَعْنَاهُ إِنَّ عِنْدِي أَنَّ اللَّهَ
تَعَالَى آتَانِي هَذِهِ الْكُنُوزَ عَلَى عِلْمٍ مِنْهُ
بِاسْتِحْقَاقِي إِيَّاهَا لِفَضْلٍ فِيَّ. وَقِيلَ:
أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ مِنْ عِنْدِي بِوُجُوهِ التِّجَارَةِ
وَالْمَكَاسِبِ، قَالَهُ عَلِيُّ بْنُ عِيسَى. وَلَمْ يَعْلَمْ
أَنَّ اللَّهَ لَوْ لَمْ يُسَهِّلْ لَهُ اكْتِسَابَهَا لَمَا
اجْتَمَعَتْ عِنْدَهُ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: عَلَى عِلْمٍ
عِنْدِي بِصَنْعَةِ الذَّهَبِ. وَأَشَارَ إِلَى عِلْمِ
الْكِيمْيَاءِ. وَحَكَى النَّقَّاشُ: أَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ
السَّلَامُ عَلَّمَهُ الثُّلُثَ مِنْ صَنْعَةِ الْكِيمْيَاءِ،
وَيُوشَعُ الثُّلُثَ، وَهَارُونُ الثُّلُثَ، فَخَدَعَهُمَا
قَارُونُ- وَكَانَ عَلَى إِيمَانِهِ- حَتَّى عَلِمَ مَا
عِنْدَهُمَا وَعَمِلَ الْكِيمْيَاءَ، فَكَثُرَتْ أَمْوَالُهُ.
وَقِيلَ: إِنَّ مُوسَى عَلَّمَ الْكِيمْيَاءَ ثَلَاثَةً،
يُوشَعَ بْنَ نُونٍ، [وَكَالِبَ بْنَ يُوفِنَا «1»]،
وَقَارُونَ، وَاخْتَارَ الزَّجَّاجُ الْقَوْلَ الْأَوَّلَ،
وَأَنْكَرَ قَوْلَ مَنْ قَالَ إِنَّهُ يَعْمَلُ الْكِيمْيَاءَ.
قَالَ: لِأَنَّ الْكِيمْيَاءَ بَاطِلٌ لَا حَقِيقَةَ لَهُ.
وَقِيلَ: إِنَّ مُوسَى عَلَّمَ أُخْتَهُ عِلْمَ الْكِيمْيَاءِ،
وَكَانَتْ زَوْجَةَ قَارُونَ، وَعَلَّمَتْ أُخْتُ مُوسَى
قارون، والله أعلم
__________
(1). في الأصول" طالوت" وهو تحريف. والتصويب من كتب التفسير.
(13/315)
فَخَرَجَ عَلَى
قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ
الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ
إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (79) وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا
الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ
وَعَمِلَ صَالِحًا وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ
(80)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (أَوَلَمْ يَعْلَمْ
أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ) أَيْ
بِالْعَذَابِ. (مِنَ الْقُرُونِ) أَيِ الْأُمَمِ الْخَالِيَةِ
الْكَافِرَةِ. (مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ
جَمْعاً) أَيْ لِلْمَالِ، وَلَوْ كَانَ الْمَالُ يَدُلُّ عَلَى
فَضْلٍ لَمَا أَهْلَكَهُمْ. وَقِيلَ: الْقُوَّةُ الْآلَاتُ،
وَالْجَمْعُ الْأَعْوَانُ وَالْأَنْصَارُ، وَالْكَلَامُ خرج
مخرج التقريع من الله تعال لِقَارُونَ، أَيْ" أَوَلَمْ
يَعْلَمْ" قَارُونُ" أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ
قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ". (وَلا يُسْئَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ
الْمُجْرِمُونَ) أَيْ لَا يُسْأَلُونَ سُؤَالَ اسْتِعْتَابٍ
كَمَا قَالَ:" وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ""- فَما هُمْ مِنَ
الْمُعْتَبِينَ" وَإِنَّمَا يُسْأَلُونَ سُؤَالَ تَقْرِيعٍ
وتوبيخ لقوله:" فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ"
قَالَهُ الْحَسَنُ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: لَا تُسْأَلُ
الْمَلَائِكَةُ غَدًا عَنِ الْمُجْرِمِينَ، فَإِنَّهُمْ
يُعْرَفُونَ بِسِيمَاهُمْ، فَإِنَّهُمْ يُحْشَرُونَ سُودَ
الْوُجُوهِ زُرْقَ الْعُيُونِ. وَقَالَ قَتَادَةُ: لَا
يُسْأَلُ الْمُجْرِمُونَ عَنْ ذُنُوبِهِمْ لِظُهُورِهَا
وَكَثْرَتِهَا، بَلْ يَدْخُلُونَ النَّارَ بِلَا حِسَابٍ.
وَقِيلَ: لَا يُسْأَلُ مُجْرِمُو هَذِهِ الْأُمَّةِ عَنْ
ذُنُوبِ الْأُمَمِ الْخَالِيَةِ الَّذِينَ عُذِّبُوا فِي
الدُّنْيَا. وَقِيلَ: أَهْلَكَ مَنْ أَهْلَكَ مِنَ الْقُرُونِ
عَنْ عِلْمٍ مِنْهُ بِذُنُوبِهِمْ فَلَمْ يَحْتَجْ إِلَى
مَسْأَلَتِهِمْ عَنْ ذنوبهم.
[سورة القصص (28): الآيات 79 الى 80]
فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قالَ الَّذِينَ
يُرِيدُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا يَا لَيْتَ لَنا مِثْلَ مَا
أُوتِيَ قارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (79) وَقالَ
الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوابُ اللَّهِ خَيْرٌ
لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً وَلا يُلَقَّاها إِلاَّ
الصَّابِرُونَ (80)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ)
أَيْ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِيمَا رَآهُ زِينَةً مِنْ
مَتَاعِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، مِنَ الثِّيَابِ وَالدَّوَابِّ
وَالتَّجَمُّلِ فِي يَوْمِ عِيدٍ. قَالَ الْغَزْنَوِيُّ: فِي
يَوْمِ السَّبْتَ." فِي زِينَتِهِ" أَيْ مَعَ زِينَتِهِ. قَالَ
الشَّاعِرُ: إِذَا مَا قُلُوبُ الْقَوْمِ طَارَتْ مَخَافَةً
مِنَ الْمَوْتِ أَرْسَوْا بِالنُّفُوسِ الْمَوَاجِدَ «1» أَيْ
مَعَ النُّفُوسِ. كَانَ خَرَجَ فِي سَبْعِينَ أَلْفًا مِنْ
تَبَعِهِ، عَلَيْهِمُ الْمُعَصْفَرَاتُ، وَكَانَ أَوَّلَ مَنْ
صُبِغَ لَهُ الثِّيَابُ الْمُعَصْفَرَةُ. قَالَ السُّدِّيُّ:
مَعَ أَلْفِ جَوَارٍ بِيضٍ عَلَى بِغَالٍ بِيضٍ بِسُرُوجٍ من
__________
(1). في نسخة: ارموا بالنفوس. وفي نسخة أخرى أرسوا بالنفوس
النواجذ. ولم نعثر عليه.
(13/316)
فَخَسَفْنَا بِهِ
وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ
يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ
الْمُنْتَصِرِينَ (81) وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا
مَكَانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ
يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ
لَوْلَا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا
وَيْكَأَنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ (82)
ذَهَبٍ عَلَى قُطُفِ الْأُرْجُوَانِ. قَالَ
ابْنُ عَبَّاسٍ: خَرَجَ عَلَى الْبِغَالِ الشُّهُبِ.
مُجَاهِدٌ: عَلَى بَرَاذِينَ بِيضٍ عَلَيْهَا سُرُوجُ
الْأُرْجُوَانِ، وَعَلَيْهِمُ الْمُعَصْفَرَاتُ، وَكَانَ ذلك
أول يوم رؤي فِيهِ الْمُعَصْفَرُ. قَالَ قَتَادَةُ: خَرَجَ
عَلَى أَرْبَعَةِ آلَافِ دَابَّةٍ عَلَيْهِمْ ثِيَابٌ حُمْرٌ،
مِنْهَا أَلْفُ بَغْلٍ أَبْيَضَ عَلَيْهَا قُطُفٌ حُمْرٌ.
قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: خَرَجَ عَلَى بَغْلَةٍ شَهْبَاءَ
عَلَيْهَا الْأُرْجُوَانُ، وَمَعَهُ ثَلَاثُمِائَةِ جَارِيَةٍ
عَلَى الْبِغَالِ الشُّهُبِ عَلَيْهِنَّ الثِّيَابُ الْحُمْرُ.
وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: خَرَجَ فِي سَبْعِينَ أَلْفًا
عَلَيْهِمُ الْمُعَصْفَرَاتُ. الْكَلْبِيُّ: خَرَجَ فِي ثَوْبٍ
أَخْضَرَ كَانَ اللَّهُ أَنْزَلَهُ عَلَى مُوسَى مِنَ
الْجَنَّةِ فَسَرَقَهُ مِنْهُ قَارُونُ. وَقَالَ جَابِرُ بْنُ
عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: كَانَتْ زِينَتُهُ
الْقِرْمِزَ. قُلْتُ: الْقِرْمِزُ صِبْغٌ أَحْمَرُ مِثْلُ
الْأُرْجُوَانِ، وَالْأُرْجُوَانُ فِي اللُّغَةِ صِبْغٌ
أَحْمَرُ، ذَكَرَهُ الْقُشَيْرِيُّ. (قالَ الَّذِينَ
يُرِيدُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا يَا لَيْتَ لَنا مِثْلَ مَا
أُوتِيَ قارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ) أَيْ نَصِيبٍ
وَافِرٍ مِنَ الدُّنْيَا. ثُمَّ قِيلَ: هَذَا مِنْ قَوْلِ
مُؤْمِنِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، تَمَنَّوْا مِثْلَ مَالِهِ
رَغْبَةً فِي الدُّنْيَا. وَقِيلَ: هُوَ مِنْ قَوْلِ أَقْوَامٍ
لَمْ يُؤْمِنُوا بِالْآخِرَةِ وَلَا رَغِبُوا فِيهَا، وَهُمُ
الْكُفَّارُ. قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا
الْعِلْمَ) وهم أحبار بني إسرائيل لِلَّذِينَ تَمَنَّوْا
مَكَانَهُ (وَيْلَكُمْ ثَوابُ اللَّهِ خَيْرٌ) يَعْنِي
الْجَنَّةَ. (لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً وَلا يُلَقَّاها
إِلَّا الصَّابِرُونَ) أَيْ لَا يُؤْتَى الْأَعْمَالُ
الصَّالِحَةُ، أَوْ لَا يُؤْتَى الْجَنَّةَ فِي الْآخِرَةِ
إِلَّا الصَّابِرُونَ عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ. وَجَازَ
ضَمِيرُهَا لأنها المعنية بقوله:" ثَوابُ اللَّهِ".
[سورة القصص (28): الآيات 81 الى 82]
فَخَسَفْنا بِهِ وَبِدارِهِ الْأَرْضَ فَما كانَ لَهُ مِنْ
فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَما كانَ مِنَ
المُنْتَصِرِينَ (81) وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا
مَكانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ
الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلا أَنْ
مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا لَخَسَفَ بِنا وَيْكَأَنَّهُ لَا
يُفْلِحُ الْكافِرُونَ (82)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (فَخَسَفْنا بِهِ وَبِدارِهِ الْأَرْضَ)
قَالَ مُقَاتِلٌ: لَمَّا أَمَرَ مُوسَى الْأَرْضَ
فَابْتَلَعَتْهُ قَالَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ: إِنَّمَا
أَهْلَكَهُ لِيَرِثَ مَالَهُ، لِأَنَّهُ كَانَ ابْنَ عَمِّهِ،
أَخِي أبيه، فخسف
(13/317)
اللَّهُ تَعَالَى بِهِ وَبِدَارِهِ
الْأَرْضَ وَبِجَمِيعِ أَمْوَالِهِ بَعْدَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ،
فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَى مُوسَى إِنِّي لَا أُعِيدُ طَاعَةَ
الْأَرْضِ إِلَى أَحَدٍ بَعْدَكَ أَبَدًا. يُقَالُ: خَسَفَ
الْمَكَانُ يَخْسِفُ خُسُوفًا ذَهَبَ فِي الْأَرْضِ وَخَسَفَ
اللَّهُ بِهِ الْأَرْضَ خَسْفًا أَيْ غَابَ بِهِ فِيهَا.
وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:" فَخَسَفْنا بِهِ وَبِدارِهِ
الْأَرْضَ" وَخَسَفَ هُوَ فِي الْأَرْضِ وَخُسِفَ بِهِ.
وَخُسُوفُ الْقَمَرِ كُسُوفُهُ. قَالَ ثَعْلَبُ: كَسَفَتِ
الشَّمْسُ وَخَسَفَ الْقَمَرُ، هَذَا أَجْوَدُ الْكَلَامِ.
وَالْخَسْفُ النُّقْصَانُ، يُقَالُ: رَضِيَ فُلَانٌ
بِالْخَسْفِ أَيْ بِالنَّقِيصَةِ. (فَما كانَ لَهُ مِنْ
فِئَةٍ) أَيْ جَمَاعَةٍ وَعِصَابَةٍ. (يَنْصُرُونَهُ مِنْ
دُونِ اللَّهِ وَما كانَ مِنَ المُنْتَصِرِينَ) لِنَفْسِهِ
أَيِ الْمُمْتَنِعِينَ فِيمَا نَزَلَ بِهِ مِنَ الْخَسْفِ.
فَيُرْوَى أَنَّ قَارُونَ يَسْفُلُ كُلَّ يَوْمٍ بِقَدْرِ
قَامَةٍ، حَتَّى إِذَا بَلَغَ قَعْرَ الْأَرْضِ السُّفْلَى
نَفَخَ إِسْرَافِيلُ فِي الصُّورِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ،
وَاللَّهُ أَعْلَمُ. قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَأَصْبَحَ الَّذِينَ
تَمَنَّوْا مَكانَهُ بِالْأَمْسِ) أَيْ صَارُوا يَتَنَدَّمُونَ
عَلَى ذَلِكَ التَّمَنِّي وَ (يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ)
[وَيْ] حَرْفُ تَنَدُّمٍ. قَالَ النَّحَّاسُ: أَحْسَنُ مَا
قِيلَ فِي هَذَا قَوْلُ الْخَلِيلِ وَسِيبَوَيْهِ وَيُونُسَ
وَالْكِسَائِيِّ أَنَّ الْقَوْمَ تَنَبَّهُوا أَوْ نُبِّهُوا،
فَقَالُوا وَيْ، وَالْمُتَنَدِّمُ مِنَ الْعَرَبِ يَقُولُ فِي
خِلَالِ تَنَدُّمِهِ وَيْ. قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: وَيْ.
كَلِمَةُ تَعَجُّبٍ، وَيُقَالُ: وَيْكَ وَوَيْ لِعَبْدِ
اللَّهِ. وَقَدْ تَدْخُلُ وَيْ عَلَى كَأَنْ الْمُخَفَّفَةِ
وَالْمُشَدَّدَةِ تَقُولُ: وَيْكَأَنَّ اللَّهُ. قَالَ
الْخَلِيلُ: هِيَ مَفْصُولَةٌ، تَقُولُ:" وَيْ" ثُمَّ
تَبْتَدِئُ فَتَقُولُ" كَأَنَّ". قَالَ الثَّعْلَبِيُّ:
وَقَالَ الْفَرَّاءُ هِيَ كَلِمَةُ تَقْرِيرٍ، كَقَوْلِكَ:
أَمَا تَرَى إِلَى صُنْعِ اللَّهِ وَإِحْسَانِهِ، وَذُكِرَ
أَنَّ أَعْرَابِيَّةً قَالَتْ لِزَوْجِهَا: أَيْنَ ابْنُكَ
ويلك؟ فَقَالَ: وَيْ كَأَنَّهُ وَرَاءَ الْبَيْتِ، أَيْ أَمَا
تَرَيْنَهُ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنُ: وَيْكَ
كَلِمَةُ ابْتِدَاءٍ وَتَحْقِيقٍ تَقْدِيرُهُ: إِنَّ اللَّهَ
يَبْسُطُ الرِّزْقَ. وَقِيلَ: هُوَ تَنْبِيهٌ بِمَنْزِلَةِ
أَلَا فِي قَوْلِكَ ألا تفعل وأما فِي قَوْلِكَ أَمَّا بَعْدُ.
قَالَ الشَّاعِرُ «1»:
سَالَتَانِي الطَّلَاقَ إِذْ رَأَتَانِي ... قَلَّ مَالِي قَدْ
جِئْتُمَانِي بِنُكْرِ
وَيْ كَأَنْ مَنْ يَكُنْ لَهُ نَشَبٌ يحبب ... ومن يفتقر يعش
ضر
__________
(1). هو زيد بن عمر بن نفيل.
(13/318)
تِلْكَ الدَّارُ
الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا
فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ
(83) مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَمَنْ
جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا
السَّيِّئَاتِ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (84)
وَقَالَ قُطْرُبٌ: إِنَّمَا هُوَ وَيْلُكَ
وَأُسْقِطَتْ لَامُهُ وَضُمَّتِ الْكَافُ الَّتِي هِيَ
لِلْخِطَابِ إِلَى وَيْ. قَالَ عَنْتَرَةُ:
وَلَقَدْ شَفَى نَفْسِي وَأَبْرَأَ سُقْمَهَا ... قول
الْفَوَارِسُ وَيْكَ عَنْتَرَ أَقْدِمِ
وَأَنْكَرَهُ النَّحَّاسُ وَغَيْرُهُ، وَقَالُوا: إِنَّ
الْمَعْنَى لَا يَصِحُّ عَلَيْهِ، لِأَنَّ القوم لم يخاطبوا
أحدا فيقولوا له ويلك، وَلَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَكَانَ إِنَّهُ
بِالْكَسْرِ. وَأَيْضًا فَإِنَّ حَذْفَ اللَّامِ مِنْ وَيْلِكَ
لَا يَجُوزُ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: التَّقْدِيرُ وَيْلَكَ
اعْلَمْ أَنَّهُ، فَأُضْمِرَ اعْلَمِ. ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ:"
وَيْكَأَنَّ اللَّهَ" أَيِ اعْلَمْ. وَقِيلَ: مَعْنَاهُ أَلَمْ
تَرَ أَنَّ اللَّهَ. وَقَالَ الْقُتَبِيُّ: مَعْنَاهُ رَحْمَةٌ
لَكَ بِلُغَةِ حِمْيَرَ. وَقَالَ الْكِسَائِيُّ: وَيْ فِيهِ
مَعْنَى التَّعَجُّبِ. وَيُرْوَى عَنْهُ أَيْضًا الْوَقْفُ
عَلَى وَيْ وَقَالَ كَلِمَةُ تَفَجُّعٍ. وَمَنْ قَالَ: وَيْكَ
فَوَقَفَ عَلَى الْكَافِ فَمَعْنَاهُ أَعْجَبُ لِأَنَّ اللَّهَ
يَبْسُطُ الرِّزْقَ وَأَعْجَبُ لِأَنَّهُ لَا يُفْلِحُ
الْكَافِرُونَ. وَيَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ الْكَافُ حَرْفَ
خِطَابٍ لَا اسْمًا، لِأَنَّ وَيْ لَيْسَتْ مِمَّا يُضَافُ.
وَإِنَّمَا كُتِبَتْ مُتَّصِلَةً، لِأَنَّهَا لَمَّا كَثُرَ
اسْتِعْمَالُهَا جُعِلَتْ مَعَ مَا بَعْدَهَا كَشَيْءٍ واحد.
(لَوْلا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا) بِالْإِيمَانِ
وَالرَّحْمَةِ وَعَصَمَنَا مِنْ مِثْلِ مَا كَانَ عَلَيْهِ
قَارُونُ مِنَ الْبَغْيِ وَالْبَطَرِ" لَخَسَفَ بِنا".
وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ:" لَوْلَا مَنُّ اللَّهُ عَلَيْنَا".
وَقَرَأَ حَفْصُ:" لَخَسَفَ بِنا" مُسَمَّى الْفَاعِلِ.
الْبَاقُونَ: عَلَى مَا لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ وَهُوَ
اخْتِيَارُ أَبِي عُبَيْدٍ وَفِي حَرْفِ عبد الله" لا نخسف
بِنَا" كَمَا تَقُولُ انْطَلِقْ بِنَا. وَكَذَلِكَ قَرَأَ
الْأَعْمَشُ وَطَلْحَةُ بْنُ مُصَرِّفٍ. وَاخْتَارَ قِرَاءَةَ
الْجَمَاعَةِ أَبُو حَاتِمٍ لِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا
قَوْلُهُ:" فَخَسَفْنا بِهِ وَبِدارِهِ الْأَرْضَ". والثاني
قول:" لَوْلا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا" فَهُوَ بِأَنْ
يُضَافَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى لِقُرْبِ اسْمِهِ مِنْهُ
أَوْلَى. (وَيْكَأَنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ) عند الله.
[سورة القصص (28): الآيات 83 الى 84]
تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لَا
يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلا فَساداً وَالْعاقِبَةُ
لِلْمُتَّقِينَ (83) مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ
مِنْها وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى الَّذِينَ
عَمِلُوا السَّيِّئاتِ إِلاَّ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ (84)
(13/319)
إِنَّ الَّذِي فَرَضَ
عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ قُلْ رَبِّي
أَعْلَمُ مَنْ جَاءَ بِالْهُدَى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلَالٍ
مُبِينٍ (85) وَمَا كُنْتَ تَرْجُو أَنْ يُلْقَى إِلَيْكَ
الْكِتَابُ إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ
ظَهِيرًا لِلْكَافِرِينَ (86) وَلَا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آيَاتِ
اللَّهِ بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ وَادْعُ إِلَى
رَبِّكَ وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (87) وَلَا
تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ
كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ
وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (88)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (تِلْكَ الدَّارُ
الْآخِرَةُ) يَعْنِي الْجَنَّةَ. وَقَالَ ذَلِكَ عَلَى جِهَةِ
التَّعْظِيمِ لَهَا وَالتَّفْخِيمِ لِشَأْنِهَا يَعْنِي تِلْكَ
الَّتِي سَمِعْتَ بِذِكْرِهَا، وَبَلَغَكَ وَصْفُهَا
(نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي
الْأَرْضِ) أَيْ رِفْعَةً وَتَكَبُّرًا عَلَى الْإِيمَانِ
وَالْمُؤْمِنِينَ (وَلا فَساداً) عملا بالمعاصي. قاله ابن جريح
ومقاتل. وقال عكرمة ومسلم البطين: أَخْذُ الْمَالِ بِغَيْرِ
حَقٍّ. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ الدُّعَاءُ إِلَى غَيْرِ
عِبَادَةِ اللَّهِ. وَقَالَ يَحْيَى بْنُ سَلَّامٍ: هُوَ
قَتْلُ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُؤْمِنِينَ. (وَالْعاقِبَةُ
لِلْمُتَّقِينَ) قَالَ الضَّحَّاكُ: الْجَنَّةُ. وَقَالَ أَبُو
مُعَاوِيَةَ: الَّذِي لَا يُرِيدُ عُلُوًّا هُوَ مَنْ لَمْ
يَجْزَعْ مِنْ ذُلِّهَا. وَلَمْ يُنَافِسْ فِي عِزِّهَا،
وَأَرْفَعُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَشَدُّهُمْ تَوَاضُعًا،
وَأَعَزُّهُمْ غَدًا أَلْزَمُهُمْ لِذُلٍّ الْيَوْمَ. وَرَوَى
سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي
خَالِدٍ قَالَ: مَرَّ عَلِيُّ عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ وَهُوَ
رَاكِبٌ عَلَى مَسَاكِينَ يَأْكُلُونَ كِسَرًا لَهُمْ،
فَسَلَّمَ عَلَيْهِمْ فَدَعَوْهُ إِلَى طَعَامِهِمْ، فَتَلَا
هَذِهِ الْآيَةَ" تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُها
لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلا
فَساداً" ثُمَّ نَزَلَ وَأَكَلَ مَعَهُمْ. ثُمَّ قَالَ: قَدْ
أَجَبْتُكُمْ فَأَجِيبُونِي. فَحَمَلَهُمْ إِلَى مَنْزِلِهِ
فَأَطْعَمَهُمْ وَكَسَاهُمْ وَصَرَفَهُمْ. خَرَّجَهُ أَبُو
الْقَاسِمِ الطَّبَرَانِيُّ سُلَيْمَانُ بْنُ أَحْمَدَ قَالَ:
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، قَالَ
حَدَّثَنِي أَبِي، قَالَ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ
عُيَيْنَةَ. فَذَكَرَهُ. وَقِيلَ: لَفْظُ الدَّارِ الْآخِرَةِ
يَشْمَلُ الثَّوَابَ وَالْعِقَابَ. وَالْمُرَادُ إِنَّمَا
يَنْتَفِعُ بِتِلْكَ الدَّارِ مَنِ اتَّقَى، وَمَنْ لَمْ
يَتَّقِ فَتِلْكَ الدَّارُ عَلَيْهِ لَا لَهُ، لِأَنَّهَا
تَضُرُّهُ وَلَا تَنْفَعُهُ، قَوْلُهُ تَعَالَى: (مَنْ جاءَ
بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها) تَقَدَّمَ فِي" النمل".
وقال عكرمة: ليس شي خَيْرًا مِنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ.
وَإِنَّمَا المعني من جاء بلا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ فَلَهُ
مِنْهَا خَيْرٌ. (وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ) أَيْ
بِالشِّرْكِ (فَلا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ
إِلَّا مَا كانُوا يَعْمَلُونَ) أَيْ يعاقب بما يليق بعلمه.
[سورة القصص (28): الآيات 85 الى 88]
إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرادُّكَ إِلى
مَعادٍ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جاءَ بِالْهُدى وَمَنْ هُوَ
فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (85) وَما كُنْتَ تَرْجُوا أَنْ يُلْقى
إِلَيْكَ الْكِتابُ إِلاَّ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ فَلا
تَكُونَنَّ ظَهِيراً
(13/320)
لِلْكافِرِينَ (86) وَلا يَصُدُّنَّكَ عَنْ
آياتِ اللَّهِ بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ وَادْعُ إِلى
رَبِّكَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (87) وَلا تَدْعُ
مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ لَا إِلهَ إِلاَّ هُوَ كُلُّ شَيْءٍ
هالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ
(88)
قَوْلِهِ تَعَالَى: (إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ
لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ) خَتَمَ السُّورَةَ بِبِشَارَةِ
نَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
بِرَدِّهِ إِلَى مَكَّةَ قَاهِرًا لِأَعْدَائِهِ. وَقِيلَ:
هُوَ بِشَارَةٌ لَهُ بِالْجَنَّةِ. وَالْأَوَّلُ أَكْثَرُ.
وَهُوَ قَوْلُ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ وَابْنِ عَبَّاسٍ
وَمُجَاهِدٍ وَغَيْرِهِمْ. قَالَ الْقُتَبِيُّ: مَعَادُ
الرَّجُلِ بَلَدُهُ، لِأَنَّهُ يَنْصَرِفُ ثُمَّ يَعُودُ.
وَقَالَ مُقَاتِلٌ: خَرَجَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ مِنَ الْغَارِ لَيْلًا مُهَاجِرًا إلى المدينة في
غير طريق مَخَافَةَ الطَّلَبِ، فَلَمَّا رَجَعَ إِلَى
الطَّرِيقِ وَنَزَلَ الْجُحْفَةَ عَرَفَ الطَّرِيقَ إِلَى
مَكَّةَ فَاشْتَاقَ إِلَيْهَا، فَقَالَ لَهُ جِبْرِيلُ إِنَّ
اللَّهَ يَقُولُ:" إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ
لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ" أَيْ إِلَى مَكَّةَ ظَاهِرًا
عَلَيْهَا. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ
بِالْجُحْفَةِ لَيْسَتْ مَكِّيَّةً وَلَا مَدَنِيَّةً. وَرَوَى
سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ" إِلى مَعادٍ"
قَالَ: إِلَى الْمَوْتِ. وَعَنْ مُجَاهِدٍ أَيْضًا
وَعِكْرِمَةَ وَالزُّهْرِيِّ وَالْحَسَنِ: أَنَّ الْمَعْنَى
لَرَادُّكَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَهُوَ اخْتِيَارُ
الزَّجَّاجِ. يُقَالُ بَيْنِي وَبَيْنَكَ الْمَعَادُ، أَيْ
يَوْمَ القيامة، لان الناس يعودون فيه أحياء. و" فَرَضَ"
مَعْنَاهُ أَنْزَلَ. وَعَنْ مُجَاهِدٍ أَيْضًا وَأَبِي مَالِكٍ
وَأَبِي صَالِحٍ" إِلى مَعادٍ" إِلَى الْجَنَّةِ. وَهُوَ
قَوْلُ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ وَابْنُ عَبَّاسٍ أَيْضًا،
لِأَنَّهُ دَخَلَهَا لَيْلَةَ الْإِسْرَاءِ. وَقِيلَ: لِأَنَّ
أَبَاهُ آدَمَ خَرَجَ مِنْهَا. (قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ) أَيْ
قُلْ لِكُفَّارِ مَكَّةَ إِذَا قَالُوا إِنَّكَ لَفِي ضَلَالٍ
مُبِينٍ" رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جاءَ بِالْهُدى وَمَنْ هُوَ فِي
ضَلالٍ مُبِينٍ" أَنَا أَمْ أنتم. قوله تعالى: (وَما كُنْتَ
تَرْجُوا أَنْ يُلْقى إِلَيْكَ الْكِتابُ) أَيْ مَا عَلِمْتَ
أَنَّنَا نُرْسِلُكَ إِلَى الْخَلْقِ وَنُنَزِّلُ عَلَيْكَ
الْقُرْآنَ. (إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ) قَالَ
الْكِسَائِيُّ: هُوَ اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ بِمَعْنَى
لَكِنْ. (فَلا تَكُونَنَّ ظَهِيراً لِلْكافِرِينَ) أَيْ
عَوْنًا لَهُمْ وَمُسَاعِدًا. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي هَذِهِ
السُّورَةِ.
(13/321)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَلا يَصُدُّنَّكَ
عَنْ آياتِ اللَّهِ بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ) يَعْنِي
أَقْوَالَهُمْ وَكَذِبَهُمْ وَأَذَاهُمْ، وَلَا تَلْتَفِتْ
نَحْوَهُمْ وَامْضِ لِأَمْرِكَ وَشَأْنِكَ. وقرا يعقوب" يصدنك"
مجزوم النون. وقرى" يُصِدُّنَّكَ" مِنْ أَصَدَّهُ بِمَعْنَى
صَدَّهُ وَهَى لُغَةٌ فِي كَلْبٍ. قَالَ الشَّاعِرُ «1»:
أُنَاسٌ أَصَدُّوا النَّاسَ بِالسَّيْفِ عَنْهُمْ ... صُدُودَ
السَّوَاقِي عَنْ أُنُوفِ الْحَوَائِمِ «2»
(وَادْعُ إِلى رَبِّكَ) أَيْ إِلَى التَّوْحِيدِ. وَهَذَا
يَتَضَمَّنُ الْمُهَادَنَةَ وَالْمُوَادَعَةَ. وَهَذَا كُلُّهُ
مَنْسُوخٌ بِآيَةِ السَّيْفِ. وَسَبَبُ هَذِهِ الْآيَةِ مَا
كَانَتْ قُرَيْشٌ تَدْعُو رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى تَعْظِيمِ أَوْثَانِهِمْ، وَعِنْدَ
ذَلِكَ أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ أَمْرَ
الْغَرَانِيقِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ «3». وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ)
أَيْ لَا تَعْبُدْ مَعَهُ غَيْرَهُ فَإِنَّهُ لَا إِلَهَ
إِلَّا هُوَ. نَفْيٌ لِكُلِّ مَعْبُودٍ وَإِثْبَاتٌ
لِعِبَادَتِهِ. (كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ) قَالَ
مُجَاهِدٌ: مَعْنَاهُ إِلَّا هُوَ. وَقَالَ الصَّادِقُ:
دِينُهُ. وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ وَسُفْيَانُ: أَيْ إِلَّا
مَا أُرِيدَ بِهِ وَجْهُهُ، أَيْ مَا يُقْصَدُ إِلَيْهِ
بِالْقُرْبَةِ. قَالَ:
أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ ذَنْبًا لَسْتُ مُحْصِيَهُ ... رَبَّ
الْعِبَادِ إِلَيْهِ الْوَجْهُ وَالْعَمَلُ
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ يَزِيدَ: حَدَّثَنِي الثَّوْرِيُّ
قَالَ سَأَلْتُ أَبَا عُبَيْدَةَ عَنْ قَوْلِهِ تَعَالَى:"
كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ" فَقَالَ: إِلَّا
جَاهَهُ، كَمَا تَقُولُ لِفُلَانٍ وَجْهٌ فِي النَّاسِ أَيْ
جَاهٌ. (لَهُ الْحُكْمُ) فِي الْأُولَى وَالْآخِرَةِ
(وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ). قَالَ الزَّجَّاجُ:" وَجْهَهُ"
مَنْصُوبٌ عَلَى الِاسْتِثْنَاءِ، وَلَوْ كَانَ فِي غَيْرِ
الْقُرْآنِ كَانَ إلا وجهه بالرفع، بمعنى كل شي غير وجهه هالك
كَمَا قَالَ «4»:
وَكُلُّ أَخٍ مُفَارِقُهُ أَخُوهُ ... لَعَمْرِ أَبِيكَ إِلَّا
الْفَرْقَدَانِ
وَالْمَعْنَى كُلُّ أَخٍ غَيْرُ الْفَرْقَدَيْنِ مُفَارِقُهُ
أَخُوهُ." وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ" بِمَعْنَى تُرْجَعُونَ
إِلَيْهِ. تمت سورة القصص والحمد لله
__________
(1). هو ذو الرمة.
(2). ويروي بالضرب ... من أنوف المحازم.
(3). راجع ج 12 ص 79 وما بعدها طبعه أولى أو ثانية.
(4). هو عمرو بن كرب، ويروي لسوار بن المضرب. شواهد سيبويه.
(13/322)
|