تفسير القرطبي الجزء الخامس عشر
[تفسير سورة يس- 36]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ سُورَةُ يس وَهِيَ مكية
بإجماع. وهى ثلاث وثمانون آية، إ لا أَنَّ فِرْقَةً قَالَتْ:
إِنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى" وَنَكْتُبُ ما قَدَّمُوا
وَآثارَهُمْ" [يس: 12] نَزَلَتْ فِي بَنِي سَلِمَةَ مِنَ
الْأَنْصَارِ حِينَ أَرَادُوا أَنْ يَتْرُكُوا دِيَارَهُمْ،
وَيَنْتَقِلُوا إِلَى جِوَارِ مَسْجِدِ الرَّسُولِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، عَلَى مَا يَأْتِي. وَفِي كِتَابِ
أَبِي دَاوُدَ عَنْ مَعْقِلِ بْنِ يَسَارٍ قَالَ: قَالَ
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" قرءوا يس
عَلَى مَوْتَاكُمْ". وَذَكَرَ الْآجُرِّيُّ مِنْ حَدِيثِ أُمِّ
الدَّرْدَاءِ «1» عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قَالَ:" مَا مِنْ مَيِّتٍ يُقْرَأُ عَلَيْهِ سُورَةُ
يس إِلَّا هَوَّنَ اللَّهُ عَلَيْهِ. وَفِي مُسْنَدِ
الدَّارِمِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" من قَرَأَ
سُورَةَ يس فِي لَيْلَةٍ ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ غُفِرَ
لَهُ فِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ" خَرَّجَهُ أَبُو نُعَيْمٍ
الْحَافِظُ أَيْضًا. وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنْ أَنَسٍ
قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ" إِنَّ لِكُلِّ شَيْءٍ قَلْبًا وَقَلْبُ الْقُرْآنِ
يس وَمَنْ قَرَأَ يس كَتَبَ اللَّهُ لَهُ بِقِرَاءَتِهَا
قِرَاءَةَ الْقُرْآنِ عَشْرَ مَرَّاتٍ" قَالَ: هَذَا حَدِيثٌ
غَرِيبٌ، وَفِي إِسْنَادِهِ هَارُونُ أَبُو مُحَمَّدٍ شَيْخٌ
مَجْهُولٌ، وَفِي الْبَابِ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ،
وَلَا يَصِحُّ حَدِيثُ أَبِي بَكْرٍ مِنْ قِبَلِ إِسْنَادِهِ،
وَإِسْنَادُهُ ضَعِيفٌ. وَعَنْ عَائِشَةَ أَنَّ رَسُولَ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:" إِنَّ فِي
الْقُرْآنِ لَسُورَةً تَشْفَعُ لِقُرَّائِهَا وَيُغْفَرُ
لِمُسْتَمِعِهَا أَلَا وَهِيَ سُورَةُ يس تُدْعَى فِي
التَّوْرَاةِ الْمُعِمَّةِ" قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا
الْمُعِمَّةُ؟ قَالَ:" تَعُمُّ صَاحِبَهَا بِخَيْرِ الدُّنْيَا
وَتَدْفَعُ عَنْهُ أَهَاوِيلَ الْآخِرَةِ وَتُدْعَى
الدَّافِعَةَ وَالْقَاضِيَةَ" قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ
وَكَيْفَ ذَلِكَ؟ قَالَ:" تَدْفَعُ عَنْ صَاحِبِهَا كُلَّ
سُوءٍ وَتَقْضِي لَهُ كُلَّ حَاجَةٍ وَمَنْ قَرَأَهَا عَدَلَتْ
لَهُ عِشْرِينَ حَجَّةً وَمَنْ سَمِعَهَا كَانَتْ لَهُ
كَأَلْفِ دِينَارٍ تَصَدَّقَ بِهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَنْ
كَتَبَهَا وَشَرِبَهَا أَدْخَلَتْ جَوْفَهُ أَلْفَ دَوَاءٍ
وَأَلْفَ نُورٍ وَأَلْفَ يَقِينٍ وَأَلْفَ رَحْمَةٍ وَأَلْفَ
رَأْفَةٍ وَأَلْفَ هدى ونزع
__________
(1). كذا في نسخ الأصل والذي في الدر المنثور: أبي الدردا.
(15/1)
عَنْهُ كُلُّ دَاءٍ وَغِلٍّ". ذَكَرَهُ
الثَّعْلَبِيُّ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ، وَالتِّرْمِذِيُّ
الْحَكِيمُ فِي نَوَادِرِ الْأُصُولِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي
بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مُسْنَدًا. وَفِي
مُسْنَدِ الدَّارِمِيِّ عَنْ شَهْرِ بْنِ حَوْشَبٍ قَالَ قَالَ
ابْنُ عَبَّاسٍ: مَنْ قَرَأَ" يس" حِينَ يُصْبِحُ أُعْطِيَ
يُسْرَ يَوْمِهِ حَتَّى يُمْسِيَ وَمَنْ قَرَأَهَا فِي صَدْرِ
لَيْلَتِهِ أُعْطِيَ يُسْرَ لَيْلَتِهِ حَتَّى يُصْبِحَ.
وَذَكَرَ النَّحَّاسُ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي
لَيْلَى قَالَ: لكل شي قَلْبٌ وَقَلْبُ الْقُرْآنِ يس مَنْ
قَرَأَهَا نَهَارًا كُفِيَ هَمَّهُ وَمَنْ قَرَأَهَا لَيْلًا
غُفِرَ ذَنْبُهُ. وقال شهر ابن حَوْشَبٍ: يَقْرَأُ أَهْلُ
الْجَنَّةِ" طَه" وَ" يس" فَقَطْ. رَفَعَ هَذِهِ الْأَخْبَارَ
الثَّلَاثَةَ الْمَاوَرْدِيُّ فَقَالَ: رَوَى الضَّحَّاكِ عَنِ
ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" أن لكل شي قَلْبًا وَإِنَّ قَلْبَ
الْقُرْآنِ يس وَمَنْ قَرَأَهَا فِي لَيْلَةٍ أُعْطِيَ يُسْرَ
تِلْكَ اللَّيْلَةِ وَمَنْ قَرَأَهَا فِي يَوْمٍ أُعْطِيَ
يُسْرَ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَإِنَّ أَهْلَ الْجَنَّةِ يُرْفَعُ
عَنْهُمُ الْقُرْآنُ فَلَا يَقْرَءُونَ شَيْئًا إِلَّا طَهَ
وَيس". وَقَالَ يَحْيَى بْنُ أَبِي كَثِيرٍ: بَلَغَنِي أَنَّ
مَنْ قَرَأَ سُورَةَ" يس" لَيْلًا لَمْ يَزَلْ فِي فَرَحٍ
حَتَّى يُصْبِحَ، وَمَنْ قَرَأَهَا حِينَ يُصْبِحُ لَمْ يَزَلْ
فِي فَرَحٍ حَتَّى يُمْسِيَ، وَقَدْ حَدَّثَنِي مَنْ
جَرَّبَهَا، ذَكَرَهُ الثَّعْلَبِيُّ وَابْنُ عَطِيَّةَ، قَالَ
ابْنُ عَطِيَّةَ: وَيُصَدِّقُ ذَلِكَ التَّجْرِبَةُ. وَذَكَرَ
التِّرْمِذِيُّ الْحَكِيمُ فِي نَوَادِرِ الْأُصُولِ عَنْ
عَبْدِ الْأَعْلَى قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الصَّلْتِ
عَنْ عُمَرَ بْنِ ثَابِتٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مَرْوَانَ عَنْ
أَبِي جَعْفَرٍ قَالَ: مَنْ وَجَدَ فِي قَلْبِهِ قَسَاوَةً
فَلْيَكْتُبْ" يس" فِي جَامٍ بِزَعْفَرَانٍ ثُمَّ يَشْرَبُهُ،
حَدَّثَنِي أَبِي رَحِمَهُ اللَّهُ قَالَ: حَدَّثَنَا أَصْرَمُ
بْنُ حَوْشَبٍ، عَنْ بَقِيَّةَ بْنِ الْوَلِيدِ، عَنِ
الْمُعْتَمِرِ بْنِ أَشْرَفَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ
قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ" القرآن أفضل من كل شي دُونَ اللَّهِ وَفَضْلُ
الْقُرْآنِ عَلَى سَائِرِ الْكَلَامِ كَفَضْلِ اللَّهِ عَلَى
خَلْقِهِ فَمَنْ وَقَّرَ الْقُرْآنَ فَقَدْ وَقَّرَ اللَّهَ
وَمَنَ لَمْ يُوَقِّرِ الْقُرْآنَ لَمْ يُوَقِّرِ اللَّهَ
وَحُرْمَةُ الْقُرْآنِ عِنْدَ اللَّهِ كَحُرْمَةِ الْوَالِدِ
عَلَى وَلَدِهِ. الْقُرْآنُ شَافِعٌ مُشَفَّعٌ وما حل «1»
مُصَدَّقٌ فَمَنْ شَفَعَ لَهُ الْقُرْآنُ شُفِّعَ وَمَنْ محل
به القرآن ص، دق وَمَنْ جَعَلَهُ أَمَامَهُ قَادَهُ إِلَى
الْجَنَّةِ وَمَنْ جَعَلَهُ خَلْفَهُ سَاقَهُ إِلَى النَّارِ.
وَحَمَلَةُ الْقُرْآنِ هُمُ الْمَحْفُوفُونَ بِحُرْمَةِ
اللَّهِ الْمُلْبَسُونَ نُورَ اللَّهِ الْمُعَلَّمُونَ كَلَامَ
اللَّهِ مَنْ وَالَاهُمْ فَقَدْ وَالَى اللَّهَ وَمَنْ
عَادَاهُمْ فَقَدِ عَادَى اللَّهَ، يَقُولُ الله تعالى: يا
حملة القرآن
__________
(1). قال ابن الأثير: ما حل أي خصم مجادل مصدق.
(15/2)
يس (1) وَالْقُرْآنِ
الْحَكِيمِ (2) إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (3) عَلَى
صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (4) تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (5)
اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ بِتَوْقِيرِ
كِتَابِهِ يَزِدْكُمْ حُبًّا وَيُحَبِّبْكُمْ إِلَى عِبَادِهِ
يُدْفَعُ عَنْ مُسْتَمِعِ الْقُرْآنِ بَلْوَى الدُّنْيَا
وَيُدْفَعُ عَنْ تَالِي «1» الْقُرْآنِ بَلْوَى الْآخِرَةِ
وَمَنِ اسْتَمَعَ آيَةً مِنْ كِتَابِ اللَّهِ كَانَ لَهُ
أَفْضَلُ مِمَّا تَحْتَ الْعَرْشِ إِلَى التُّخُومِ وَإِنَّ
فِي كِتَابِ اللَّهِ لَسُورَةً تُدْعَى الْعَزِيزَةَ وَيُدْعَى
صَاحِبُهَا الشَّرِيفَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تَشْفَعُ
لِصَاحِبِهَا فِي أَكْثَرِ مِنْ رَبِيعَةَ وَمُضَرَ وَهِيَ
سُورَةُ يس". وَذَكَرَ الثَّعْلَبِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ
أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
قَالَ:" مَنْ قَرَأَ سُورَةَ يس لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ أَصْبَحَ
مَغْفُورًا لَهُ". وَعَنْ أَنَسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى
قَالَ:" مَنْ دَخَلَ الْمَقَابِرَ فَقَرَأَ سُورَةَ يس خَفَّفَ
اللَّهُ عَنْهُمْ يَوْمَئِذٍ وَكَانَ لَهُ بِعَدَدِ حروفها
حسنات".
[سورة يس (36): الآيات 1 الى 5]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
يس (1) وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ (2) إِنَّكَ لَمِنَ
الْمُرْسَلِينَ (3) عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (4)
تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (5)
قَوْلُهُ تَعَالَى:" يس" فِي" يس" أَوْجُهٌ مِنَ
الْقِرَاءَاتِ: قَرَأَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ وَالْكِسَائِيُّ"
يس وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ" بِإِدْغَامِ النُّونِ فِي
الْوَاوِ. وقرا أبو عمرو والأعمش وحمزة" يس" بِإِظْهَارِ
النُّونِ. وَقَرَأَ عِيسَى بْنُ عُمَرَ" يَسِنَ" بِنَصْبِ
النُّونِ. وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ أَبِي إِسْحَاقَ
وَنَصْرُ بْنُ عَاصِمٍ" يَسِنِ" بِالْكَسْرِ. وَقَرَأَ
هَارُونُ الْأَعْوَرُ وَمُحَمَّدُ بْنُ السَّمَيْقَعِ" يَسِنُ"
بِضَمِّ النُّونِ، فَهَذِهِ خَمْسُ قِرَاءَاتٍ. الْقِرَاءَةُ
الْأُولَى بِالْإِدْغَامِ عَلَى مَا يَجِبُ فِي
الْعَرَبِيَّةِ، لِأَنَّ النُّونَ تُدْغَمُ فِي الْوَاوِ.
وَمَنْ بَيَّنَ قَالَ سَبِيلُ حُرُوفِ الْهِجَاءِ أَنْ يُوقَفَ
عَلَيْهَا، وَإِنَّمَا يَكُونُ الْإِدْغَامُ فِي الْإِدْرَاجِ.
وَذَكَرَ سِيبَوَيْهِ النَّصْبَ وَجَعَلَهُ مِنْ جِهَتَيْنِ:
إِحْدَاهُمَا أَنْ يَكُونَ مَفْعُولًا وَلَا يَصْرِفُهُ،
لِأَنَّهُ عِنْدَهُ اسْمٌ أَعْجَمِيٌّ بِمَنْزِلَةِ هَابِيلَ،
والتقدير أذكر يسئن. وَجَعَلَهُ سِيبَوَيْهِ اسْمًا
لِلسُّورَةِ. وَقَوْلُهُ الْآخَرُ أَنْ يَكُونَ مَبْنِيًّا
عَلَى الْفَتْحِ مِثْلَ كَيْفَ وَأَيْنَ. وَأَمَّا الْكَسْرُ
فَزَعَمَ الْفَرَّاءُ أَنَّهُ مُشَبَّهٌ بِقَوْلِ الْعَرَبِ
جَيْرِ لَا أَفْعَلُ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ" يَسِنِ" قَسَمًا.
وَقَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ. وَقِيلَ: مُشَبَّهٌ بِأَمْسِ
وَحَذَامَ وَهَؤُلَاءِ وَرَقَاشَ. وَأَمَّا الضَّمُّ
فَمُشَبَّهٌ بِمُنْذُ وَحَيْثُ وَقَطُّ، وَبِالْمُنَادَى
الْمُفْرَدِ إِذَا قُلْتَ يَا رَجُلُ، لِمَنْ يَقِفُ عَلَيْهِ.
قَالَ ابْنُ السميقع وهارون: وقد جاء في تفسيرها
__________
(1). الزيادة من" نوادر الأصول" للترمذي الحكيم.
(15/3)
يَا رَجُلُ فَالْأَوْلَى بِهَا الضَّمُّ.
قَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ"" يس" وَقْفٌ حَسَنٌ لِمَنْ قَالَ
هُوَ افْتِتَاحٌ لِلسُّورَةِ. وَمَنْ قَالَ: مَعْنَى" يس" يَا
رَجُلُ لَمْ يَقِفْ عَلَيْهِ. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عباس
مَسْعُودٍ وَغَيْرِهِمَا أَنَّ مَعْنَاهُ يَا إِنْسَانُ،
وَقَالُوا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:" سَلامٌ عَلى إِلْ ياسِينَ"
[الصافات: 130] أَيْ عَلَى آلِ مُحَمَّدٍ. وَقَالَ سَعِيدُ
بْنُ جُبَيْرٍ: هُوَ اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ مُحَمَّدٍ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَدَلِيلُهُ" إِنَّكَ لَمِنَ
الْمُرْسَلِينَ". قَالَ السَّيِّدُ الْحِمْيَرِيُّ:
يَا نَفْسُ لَا تَمْحَضِي بالنصح جاهدة ... وعلى الْمَوَدَّةِ
إِلَّا آلَ يَاسِينَ
وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الْوَرَّاقُ: مَعْنَاهُ يَا سَيِّدَ
الْبَشَرِ. وَقِيلَ: إِنَّهُ اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ،
قَالَ مَالِكٌ. رَوَى عَنْهُ أَشْهَبُ قَالَ: سَأَلْتُهُ هَلْ
يَنْبَغِي لِأَحَدٍ أَنْ يَتَسَمَّى بِيَاسِينَ؟ قَالَ: مَا
أُرَاهُ يَنْبَغِي لِقَوْلِ اللَّهِ:" يس وَالْقُرْآنِ
الْحَكِيمِ" يَقُولُ هَذَا اسْمِي يس. قَالَ ابْنُ
الْعَرَبِيِّ هَذَا كَلَامٌ بَدِيعٌ، وَذَلِكَ أَنَّ الْعَبْدَ
يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَتَسَمَّى بِاسْمِ الرَّبِّ إِذَا كَانَ
فِيهِ مَعْنًى مِنْهُ، كَقَوْلِهِ: عَالِمٌ وَقَادِرٌ
وَمُرِيدٌ وَمُتَكَلِّمٌ. وَإِنَّمَا منع مالك من بالتسمية"
يسئن"، لِأَنَّهُ اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ لَا يُدْرَى
مَعْنَاهُ، فَرُبَّمَا كَانَ مَعْنَاهُ يَنْفَرِدُ بِهِ
الرَّبُّ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقْدِمَ عَلَيْهِ الْعَبْدُ.
فَإِنْ قِيلَ فَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:" سَلامٌ عَلى
إِلْ ياسِينَ" [الصافات: 130] «1» قُلْنَا: ذَلِكَ مَكْتُوبٌ
بِهِجَاءٍ فَتَجُوزُ التَّسْمِيَةُ بِهِ، وَهَذَا الَّذِي
لَيْسَ بِمُتَهَجًّى هُوَ الَّذِي تَكَلَّمَ مَالِكٌ عَلَيْهِ،
لِمَا فِيهِ مِنَ الْإِشْكَالِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَالَ
بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: افْتَتَحَ اللَّهُ هَذِهِ السُّورَةَ
بِالْيَاءِ وَالسِّينِ وَفِيهِمَا مَجْمَعُ الْخَيْرِ: وَدَلَّ
الْمُفْتَتَحُ عَلَى أَنَّهُ قَلْبٌ، وَالْقَلْبُ أَمِيرٌ
عَلَى الْجَسَدِ، وَكَذَلِكَ" يَس" أَمِيرٌ عَلَى سَائِرِ
السُّوَرِ، مُشْتَمِلٌ عَلَى جَمِيعِ الْقُرْآنِ. ثُمَّ
اخْتَلَفُوا فِيهِ أَيْضًا، فَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ
وَعِكْرِمَةُ: هُوَ بِلُغَةِ الْحَبَشَةِ. وَقَالَ
الشَّعْبِيُّ: هُوَ بِلُغَةِ طَيٍّ. الْحَسَنُ: بِلُغَةِ
كَلْبٍ. الْكَلْبِيُّ: هُوَ بِالسُّرْيَانِيَّةِ فَتَكَلَّمَتْ
بِهِ الْعَرَبُ فَصَارَ مِنْ لُغَتِهِمْ. وَقَدْ مَضَى هَذَا
الْمَعْنَى فِي [طه] وَفِي مُقَدِّمَةِ الْكِتَابِ
مُسْتَوْفًى. وَقَدْ سَرَدَ الْقَاضِي عِيَاضٌ أَقْوَالَ
الْمُفَسِّرِينَ فِي مَعْنَى" يس" فَحَكَى أَبُو مُحَمَّدٍ
مَكِّيٌّ أَنَّهُ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: لِي عِنْدَ رَبِّي عَشَرَةُ
أَسْمَاءٍ" ذَكَرَ أَنَّ مِنْهَا طَه وَيس اسْمَانِ لَهُ.
__________
(1). راجع ج 11 ص 165 وما بعدها طبعه أولى أو ثانية. وج 1 ص 67
وما بعدها طبعه ثانية.
(15/4)
قُلْتُ: وَذَكَرَ الْمَاوَرْدِيُّ عَنْ
عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ" إِنَّ
اللَّهَ تَعَالَى أَسْمَانِي فِي الْقُرْآنِ سَبْعَةَ
أَسْمَاءٍ مُحَمَّدٌ وَأَحْمَدُ وَطَه وَيس وَالْمُزَّمِّلُ
وَالْمُدَّثِّرُ وَعَبْدُ اللَّهِ" قَالَهُ الْقَاضِي. وَحَكَى
أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيُّ عَنْ جَعْفَرٍ
الصَّادِقِ أَنَّهُ أَرَادَ يَا سَيِّدُ، مُخَاطَبَةً
لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَنِ ابْنِ
عَبَّاسٍ:" يس" يَا إِنْسَانُ أَرَادَ مُحَمَّدًا صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَالَ: هُوَ قَسَمٌ وَهُوَ مِنْ
أَسْمَاءِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: قِيلَ
مَعْنَاهُ يَا مُحَمَّدُ وَقِيلَ يَا رَجُلُ وَقِيلَ يَا
إِنْسَانُ. وَعَنِ ابْنِ الْحَنَفِيَّةِ:" يس" يَا مُحَمَّدُ.
وَعَنْ كَعْبٍ:" يس" قَسَمٌ أَقْسَمَ اللَّهُ بِهِ قَبْلَ أَنْ
يَخْلُقَ السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ بِأَلْفَيْ عَامٍ قَالَ «1»
يَا مُحَمَّدُ:" إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ" ثُمَّ قَالَ:"
وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ". فَإِنْ قُدِّرَ أَنَّهُ مِنْ
أَسْمَائِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَصَحَّ فِيهِ
أَنَّهُ قَسَمٌ كَانَ فِيهِ مِنَ التَّعْظِيمِ مَا تقدم، مو كد
فِيهِ الْقَسَمَ عَطْفُ الْقَسَمِ الْآخَرِ عَلَيْهِ. وَإِنْ
كَانَ بِمَعْنَى النِّدَاءِ فَقَدْ جَاءَ قَسَمٌ آخَرُ
بَعْدَهُ لِتَحْقِيقِ رِسَالَتِهِ وَالشَّهَادَةِ
بِهِدَايَتِهِ. أَقْسَمَ اللَّهُ تَعَالَى بِاسْمِهِ
وَكِتَابِهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ بِوَحْيِهِ إِلَى
عِبَادِهِ، وَعَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ مِنْ إِيمَانِهِ، أَيْ
طَرِيقٍ لَا اعْوِجَاجَ فِيهِ وَلَا عُدُولَ عَنِ الْحَقِّ.
قَالَ النَّقَّاشُ: لَمْ يُقْسِمِ اللَّهُ تَعَالَى لِأَحَدٍ
مِنْ أَنْبِيَائِهِ بِالرِّسَالَةِ فِي كِتَابِهِ إِلَّا لَهُ،
وَفِيهِ مِنْ تَعْظِيمِهِ وَتَمْجِيدِهِ عَلَى تَأْوِيلِ مَنْ
قَالَ إِنَّهُ يَا سَيِّدُ مَا فِيهِ، وَقَدْ قَالَ عَلَيْهِ
السَّلَامُ:" أَنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ" انْتَهَى كَلَامُهُ.
وَحَكَى الْقُشَيْرِيُّ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: قَالَتْ
كُفَّارُ قُرَيْشٍ لَسْتَ مُرْسَلًا وَمَا أَرْسَلَكَ اللَّهُ
إِلَيْنَا، فَأَقْسَمَ اللَّهُ بِالْقُرْآنِ الْمُحْكَمِ أَنَّ
مُحَمَّدًا مِنَ الْمُرْسَلِينَ." والْحَكِيمِ" الْمُحْكَمُ
حَتَّى لَا يَتَعَرَّضَ لِبُطْلَانٍ وَتَنَاقُضٍ، كَمَا
قَالَ:" أُحْكِمَتْ آياتُهُ" وَكَذَلِكَ أُحْكِمَ فِي نَظْمِهِ
وَمَعَانِيهِ فَلَا يَلْحَقُهُ خَلَلٌ. وَقَدْ يَكُونُ"
الْحَكِيمِ" فِي حق الله بمعنى المحكم بكسر الكاف كا لأليم
بمعنى المؤلم" عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ" أَيْ دِينٍ
مُسْتَقِيمٍ وَهُوَ الْإِسْلَامُ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: عَلَى
طَرِيقِ الْأَنْبِيَاءِ الَّذِينَ تَقَدَّمُوكَ، وَقَالَ:"
إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ" خَبَرُ إِنَّ، وَ" عَلى صِراطٍ
مُسْتَقِيمٍ" خَبَرٌ ثَانٍ، أَيْ إِنَّكَ لَمِنَ
الْمُرْسَلِينَ، وَإِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ.
وَقِيلَ: الْمَعْنَى لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ عَلَى
اسْتِقَامَةٍ، فَيَكُونُ قَوْلُهُ:" عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ"
مِنْ صِلَةِ الْمُرْسَلِينَ، أي إنك لمن المرسلين
__________
(1). زيادة يقتضيها المقام، ويدل عليها ما ورد في" الدر
المنثور" السيوطي عن كعب.
(15/5)
لِتُنْذِرَ قَوْمًا
مَا أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ (6) لَقَدْ حَقَّ
الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (7)
إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلَالًا فَهِيَ إِلَى
الْأَذْقَانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ (8)
الَّذِينَ أُرْسِلُوا عَلَى طَرِيقَةٍ
مُسْتَقِيمَةٍ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى:" وَإِنَّكَ لَتَهْدِي
إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ. صِرَاطِ اللَّهِ" أَيِ الصِّرَاطُ
الَّذِي أَمَرَ اللَّهُ بِهِ. قَوْلُهُ تَعَالَى:" تَنْزِيلَ
الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ" قَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ وَحَفْصٌ
وَالْأَعْمَشُ وَيَحْيَى وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ
وَخَلَفٌ:" تَنْزِيلَ" بِنَصْبِ اللَّامِ عَلَى الْمَصْدَرِ،
أَيْ نَزَّلَ اللَّهُ ذَلِكَ تَنْزِيلًا. وَأَضَافَ
الْمَصْدَرَ فَصَارَ مَعْرِفَةً كَقَوْلِهِ:" فَضَرْبَ
الرِّقابِ" [محمد: 4] أَيْ فَضَرْبًا لِلرِّقَابِ.
الْبَاقُونَ" تَنْزِيلَ" بِالرَّفْعِ عَلَى خَبَرِ ابْتِدَاءٍ
مَحْذُوفٍ أَيْ هُوَ تَنْزِيلٌ، أَوِ الَّذِي أُنْزِلَ
إِلَيْكَ تَنْزِيلُ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ. هَذَا وقرى:"
تَنْزِيلِ" بِالْجَرِّ عَلَى الْبَدَلِ مِنَ" الْقُرْآنِ"
وَالتَّنْزِيلُ يَرْجِعُ إِلَى الْقُرْآنِ. وَقِيلَ: إِلَى
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَيْ إِنَّكَ
لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ، وَإِنَّكَ" تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ
الرَّحِيمِ". فَالتَّنْزِيلُ عَلَى هَذَا بِمَعْنَى
الْإِرْسَالِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:" قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ
إِلَيْكُمْ ذِكْراً. رَسُولًا يَتْلُوا" [الطلاق: 11 - 10]
وَيُقَالُ: أَرْسَلَ اللَّهُ الْمَطَرَ وَأَنْزَلَهُ
بِمَعْنًى. وَمُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
رَحْمَةُ اللَّهِ أَنْزَلَهَا مِنَ السَّمَاءِ. وَمَنْ نَصَبَ
قَالَ: إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ إِرْسَالًا مِنَ
الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ. وَ" الْعَزِيزِ" المنتقم ممن خالفه"
الرَّحِيمِ" بأهل طاعته.
[سورة يس (36): الآيات 6 الى 8]
لِتُنْذِرَ قَوْماً مَا أُنْذِرَ آباؤُهُمْ فَهُمْ غافِلُونَ
(6) لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لَا
يُؤْمِنُونَ (7) إِنَّا جَعَلْنا فِي أَعْناقِهِمْ أَغْلالاً
فَهِيَ إِلَى الْأَذْقانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ (8)
قَوْلُهُ تَعَالَى:" لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أُنْذِرَ
آباؤُهُمْ"" قَوْماً" لَا مَوْضِعَ لَهَا مِنَ الْإِعْرَابِ
عِنْدَ أَكْثَرِ أَهْلِ التَّفْسِيرِ مِنْهُمْ قَتَادَةُ،
لِأَنَّهَا نَفْيٌ وَالْمَعْنَى: لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَى
آبَاءَهُمْ قَبْلَكَ نَذِيرٌ. وَقِيلَ: هِيَ بِمَعْنَى الَّذِي
فَالْمَعْنَى: لِتُنْذِرَهُمْ مِثْلَ مَا أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ،
قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَعِكْرِمَةُ وقتادة أيضا. وقيل: إن"
قَوْماً" وَالْفِعْلَ مَصْدَرٌ، أَيْ لِتُنْذِرَ قَوْمًا
إِنْذَارَ آبَائِهِمْ. ثُمَّ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْعَرَبُ
قَدْ بَلَغَتْهُمْ بِالتَّوَاتُرِ أَخْبَارُ الْأَنْبِيَاءِ،
فَالْمَعْنَى لَمْ يُنْذَرُوا بِرَسُولٍ مِنْ أَنْفُسِهِمْ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بَلَغَهُمُ الْخَبَرُ وَلَكِنْ
غَفَلُوا وَأَعْرَضُوا وَنَسُوا. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ هَذَا
خِطَابًا لِقَوْمٍ لَمْ يَبْلُغْهُمْ خَبَرُ نَبِيٍّ، وَقَدْ
قَالَ اللَّهُ:" وَما آتَيْناهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَها
وَما أَرْسَلْنا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ"
(15/6)
[سبأ: 44] وَقَالَ:" لِتُنْذِرَ قَوْماً
مَا أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ
يَهْتَدُونَ" [السجدة: 3] أَيْ لَمْ يَأْتِهِمْ نَبِيٌّ.
وَعَلَى قَوْلِ مَنْ قَالَ بَلَغَهُمْ خَبَرُ الْأَنْبِيَاءِ،
فَالْمَعْنَى فَهُمْ مُعْرِضُونَ ألان متغافلون عن ذلك ويقال
لامرض عَنِ الشَّيْءِ إِنَّهُ غَافِلٌ عَنْهُ. وَقِيلَ:"
فَهُمْ غافِلُونَ" عَنْ عِقَابِ اللَّهِ. قَوْلُهُ تَعَالَى:"
لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلى أَكْثَرِهِمْ" أَيْ وَجَبَ
الْعَذَابَ عَلَى أَكْثَرِهِمْ" فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ"
بِإِنْذَارِكَ. وَهَذَا فِيمَنْ سَبَقَ فِي عِلْمِ اللَّهِ
أَنَّهُ يَمُوتُ عَلَى كُفْرِهِ. ثُمَّ بَيَّنَ سَبَبَ
تَرْكِهِمُ الْإِيمَانَ فَقَالَ:" إِنَّا جَعَلْنا فِي
أَعْناقِهِمْ أَغْلالًا". قِيلَ: نزلت في أبي جهل ابن هِشَامٍ
وَصَاحِبَيْهِ الْمَخْزُومِيَّيْنِ، وَذَلِكَ أَنَّ أَبَا
جَهْلٍ حَلَفَ لَئِنْ رَأَى مُحَمَّدًا يُصَلِّي لَيَرْضَخَنَّ
رَأْسَهُ بِحَجَرٍ، فَلَمَّا رَآهُ ذَهَبَ فَرَفَعَ حَجَرًا
لِيَرْمِيَهُ، فَلَمَّا أَوْمَأَ إِلَيْهِ رَجَعَتْ يَدُهُ
إِلَى عُنُقِهِ، وَالْتَصَقَ الْحَجَرُ بِيَدِهِ، قَالَهُ
ابْنُ عَبَّاسٍ وَعِكْرِمَةُ وَغَيْرُهُمَا، فَهُوَ عَلَى
هَذَا تَمْثِيلٌ أَيْ هُوَ بمنزلة من غلت يَدُهُ إِلَى
عُنُقِهِ، فَلَمَّا عَادَ إِلَى أَصْحَابِهِ أَخْبَرَهُمْ
بِمَا رَأَى، فَقَالَ الرَّجُلُ الثَّانِي وَهُوَ الْوَلِيدُ
بْنُ الْمُغِيرَةِ: أَنَا أَرْضَخُ رَأْسَهُ. فَأَتَاهُ وَهُوَ
يُصَلِّي عَلَى حَالَتِهِ لِيَرْمِيَهُ بِالْحَجَرِ فَأَعْمَى
اللَّهُ بَصَرَهُ فَجَعَلَ يَسْمَعُ صَوْتَهُ وَلَا يَرَاهُ،
فَرَجَعَ إِلَى أَصْحَابِهِ فَلَمْ يَرَهُمْ حَتَّى نَادَوْهُ
فَقَالَ: وَاللَّهِ مَا رَأَيْتُهُ وَلَقَدْ سَمِعْتُ
صَوْتَهُ. فَقَالَ الثَّالِثُ: وَاللَّهِ لَأَشْدُخَنَّ أَنَا
رَأْسَهُ. ثُمَّ أَخَذَ الْحَجَرَ وَانْطَلَقَ فَرَجَعَ
الْقَهْقَرَى يَنْكُصُ عَلَى عَقِبَيْهِ حَتَّى خَرَّ عَلَى
قَفَاهُ مَغْشِيًّا عَلَيْهِ. فَقِيلَ لَهُ: مَا شَأْنُكَ؟
قَالَ شَأْنِي عَظِيمٌ رَأَيْتُ الرَّجُلَ فَلَمَّا دَنَوْتُ
مِنْهُ، وَإِذَا فَحْلٌ يَخْطِرُ بِذَنَبِهِ مَا رَأَيْتُ
فَحْلًا قَطُّ أَعْظَمَ منه حال بيني وبينه، فو اللات
وَالْعُزَّى لَوْ دَنَوْتُ مِنْهُ لَأَكَلَنِي. فَأَنْزَلَ
اللَّهُ تَعَالَى:" إِنَّا جَعَلْنا فِي أَعْناقِهِمْ
أَغْلالًا فَهِيَ إِلَى الْأَذْقانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ".
وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ:" إنا جعلنا في أيمانهم". وقال
الزجاج: وقرى" إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَيْدِيهِمْ". قَالَ
النَّحَّاسُ: وَهَذِهِ الْقِرَاءَةُ تَفْسِيرٌ وَلَا يُقْرَأُ
بِمَا خَالَفَ الْمُصْحَفَ. وَفِي الْكَلَامِ حَذْفٌ عَلَى
قِرَاءَةِ الْجَمَاعَةِ، التَّقْدِيرُ: إِنَّا جَعَلْنَا فِي
أَعْنَاقِهِمْ وَفِي أَيْدِيهِمْ أَغْلَالًا فَهِيَ إِلَى
الْأَذْقَانِ، فَهِيَ كِنَايَةٌ عَنِ الْأَيْدِي لَا عَنِ
الْأَعْنَاقِ، وَالْعَرَبُ تَحْذِفُ مِثْلَ هَذَا. ونظيره:"
سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ" [النحل: 81] وَتَقْدِيرُهُ
وَسَرَابِيلُ تَقِيكُمُ الْبَرْدَ فَحُذِفَ، لِأَنَّ مَا وَقَى
مِنَ الْحَرِّ وَقَى مِنَ الْبَرْدِ، لِأَنَّ الْغُلَّ إِذَا
كَانَ فِي الْعُنُقِ فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ فِي الْيَدِ،
وَلَا سِيَّمَا
(15/7)
وَقَدْ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ:"
فَهِيَ إِلَى الْأَذْقانِ" فَقَدْ عُلِمَ أَنَّهُ يُرَادُ بِهِ
الْأَيْدِي." فَهُمْ مُقْمَحُونَ" أي رافعو رؤوسهم لا يستطيعون
الإطراق، لأن من علت يَدُهُ إِلَى ذَقْنِهِ ارْتَفَعَ
رَأْسُهُ. رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يَحْيَى: أَنَّ عَلِيَّ
بْنَ أَبِي طَالِبٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَرَاهُمُ
الْإِقْمَاحَ، فَجَعَلَ يَدَيْهِ تَحْتَ لِحْيَتِهِ
وَأَلْصَقَهُمَا وَرَفَعَ رَأْسَهُ. قَالَ النَّحَّاسُ،
وَهَذَا أَجَلُّ مَا رُوِيَ فِيهِ وَهُوَ مَأْخُوذٌ مِمَّا
حَكَاهُ الْأَصْمَعِيُّ. قَالَ: يُقَالُ أَقْمَحَتِ
الدَّابَّةُ إِذَا جَذَبَتْ لِجَامَهَا لِتَرْفَعَ رَأْسَهَا.
قَالَ النَّحَّاسُ: وَالْقَافُ مُبْدَلَةٌ مِنَ الْكَافِ
لِقُرْبِهَا مِنْهَا. كَمَا يُقَالُ: قَهَرْتُهُ وَكَهَرْتُهُ.
قَالَ الْأَصْمَعِيُّ: يُقَالُ أَكْمَحَتِ الدَّابَّةُ إِذَا
جَذَبَتْ عَنَانَهَا حَتَّى يَنْتَصِبَ رَأْسُهَا. ومنه قول
الشاعر:
... وَالرَّأْسُ مُكْمَحُ «1»
وَيُقَالُ: أَكَمَحْتُهَا وَأَكْفَحْتُهَا وَكَبَحْتُهَا،
هَذِهِ وَحْدَهَا بِلَا أَلِفٍ عَنِ الْأَصْمَعِيِّ. وَقَمَحَ
الْبَعِيرُ قُمُوحًا إِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ عِنْدَ الْحَوْضِ
وَامْتَنَعَ مِنَ الشُّرْبِ، فَهُوَ بَعِيرٌ قَامِحٌ وَقَمِحٌ،
يُقَالُ: شَرِبَ فَتَقَمَّحَ وَانْقَمَحَ بِمَعْنَى إِذَا
رَفَعَ رَأْسَهُ وَتَرَكَ الشُّرْبَ رِيًّا. وَقَدْ قَامَحَتْ
إِبِلُكَ: إِذَا وَرَدَتْ وَلَمْ تَشْرَبْ، وَرَفَعَتْ
رَأْسَهَا مِنْ دَاءٍ يَكُونُ بِهَا أَوْ بَرْدٍ. وَهِيَ
إِبِلٌ مُقَامَحَةٌ، وَبَعِيرٌ مُقَامِحٌ، وَنَاقَةٌ مُقَامِحٌ
أَيْضًا، وَالْجَمْعُ قِمَاحٌ عَلَى غَيْرِ قِيَاسٍ، قَالَ
بِشْرٌ يَصِفُ سَفِينَةً:
ونحن على جوانبها قعود ... ونغض الطَّرْفَ كَالْإِبِلِ
الْقِمَاحِ
وَالْإِقْمَاحُ: رَفْعُ الرَّأْسِ وَغَضُّ الْبَصَرِ، يُقَالُ:
أَقْمَحَهُ الْغُلُّ إِذَا تَرَكَ رَأْسَهُ مرفوعا من ضيقه.
وشهرا قِمَاحٌ: أَشَدُّ مَا يَكُونُ مِنَ الْبَرْدِ، وَهُمَا
الْكَانُونَانِ
سُمِّيَا بِذَلِكَ، لِأَنَّ الْإِبِلَ إِذَا وَرَدَتْ آذَاهَا
بَرْدُ الْمَاءِ فَقَامَحَتْ رُءُوسَهَا، وَمِنْهُ قَمِحْتُ
«2» السَّوِيقَ. وَقِيلَ: هُوَ مَثَلٌ ضَرَبَهُ اللَّهُ
تَعَالَى لهم في امتناعكم من الهدى كامتناع المغلول، قال
يَحْيَى بْنُ سَلَّامٍ وَأَبُو عُبَيْدَةَ. وَكَمَا يُقَالُ:
فُلَانٌ حِمَارٌ، أَيْ لَا يُبْصِرُ الْهُدَى. وَكَمَا قال:
لهم عن الرشد أغلال وأقياد
__________
(1). للبيت الذي الرمة وتمامه:
تمور بضبعيها وترمى بجوزها ... وحذارا من الإيعاد والرأس مكمح
(2). قمح السويق (بكسر الميم) إذا استفه.
(15/8)
وَجَعَلْنَا مِنْ
بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا
فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ (9) وَسَوَاءٌ
عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا
يُؤْمِنُونَ (10) إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ
وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ
وَأَجْرٍ كَرِيمٍ (11)
وَفِي الْخَبَرِ: أَنَّ أَبَا ذُؤَيْبٍ
كَانَ يَهْوَى امْرَأَةً فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَلَمَّا
أَسْلَمَ رَاوَدَتْهُ فَأَبَى وَأَنْشَأَ يَقُولُ:
فَلَيْسَ كَعَهْدِ الدَّارِ يَا أُمَّ مالك ... وولكن
أَحَاطَتْ بِالرِّقَابِ السَّلَاسِلُ
وَعَادَ الْفَتَى كَالْكَهْلِ لَيْسَ بقائل ... وسوى الْعَدْلِ
شَيْئًا فَاسْتَرَاحَ الْعَوَاذِلُ «1»
أَرَادَ مُنِعْنَا بِمَوَانِعِ الْإِسْلَامِ عَنْ تَعَاطِي
الزِّنَى وَالْفِسْقِ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ أَيْضًا: هَذَا
ضَرْبُ مَثَلٍ، أَيْ حَبَسْنَاهُمْ عَنِ الْإِنْفَاقِ فِي
سَبِيلِ اللَّهِ، وَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى:" وَلا تَجْعَلْ
يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ" [الإسراء: 29] وَقَالَ
الضَّحَّاكُ. وَقِيلَ: إِنَّ هَؤُلَاءِ صَارُوا فِي
الِاسْتِكْبَارِ عَنِ الْحَقِّ كَمَنْ جُعِلَ فِي يَدِهِ غُلٌّ
فَجُمِعَتْ إِلَى عُنُقِهِ، فَبَقِيَ رَافِعًا رَأْسَهُ لَا
يَخْفِضُهُ، وَغَاضًّا بَصَرَهُ لَا يَفْتَحُهُ.
وَالْمُتَكَبِّرُ يُوصَفُ بِانْتِصَابِ الْعُنُقِ. وَقَالَ
الْأَزْهَرِيُّ: إِنَّ أَيْدِيَهُمْ لما علت عِنْدَ
أَعْنَاقِهِمْ رَفَعَتِ الْأَغْلَالُ أَذْقَانَهُمْ
وَرُءُوسَهُمْ صُعُدًا كَالْإِبِلِ تَرْفَعُ رُءُوسَهَا.
وَهَذَا الْمَنْعُ بِخَلْقِ الْكُفْرِ فِي قُلُوبِ
الْكُفَّارِ، وَعِنْدَ قَوْمٍ بِسَلْبِهِمُ التَّوْفِيقَ
عُقُوبَةً لَهُمْ عَلَى كُفْرِهِمْ. وَقِيلَ: الْآيَةُ
إِشَارَةٌ إِلَى مَا يُفْعَلُ بِأَقْوَامٍ غَدًا فِي النَّارِ
مِنْ وَضْعِ الْأَغْلَالِ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلَاسِلِ،
كَمَا قَالَ تَعَالَى:" إِذِ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ
وَالسَّلاسِلُ" [غافر: 71] وَأَخْبَرَ عَنْهُ بِلَفْظِ
الْمَاضِي." فَهُمْ مُقْمَحُونَ" تَقَدَّمَ تفسيره. وقال
مجاهد:" مُقْمَحُونَ" مغلون عن كل خير.
[سورة يس (36): الآيات 9 الى 11]
وَجَعَلْنا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ
سَدًّا فَأَغْشَيْناهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ (9) وَسَواءٌ
عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا
يُؤْمِنُونَ (10) إِنَّما تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ
وَخَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ
وَأَجْرٍ كَرِيمٍ (11)
قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَجَعَلْنا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ
سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا" قَالَ مُقَاتِلٌ: لَمَّا
عَادَ أَبُو جَهْلٍ إِلَى أَصْحَابِهِ، وَلَمْ يَصِلْ إِلَى
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَسَقَطَ
الْحَجَرُ مِنْ يَدِهِ، أَخَذَ
__________
(1). يقول: رجع الفتى عما كان عليه من فتوته، وصار كأنه كهل،
فاستراح العواذل لأنهم لا يجدن ما يعذلن فيه. سوى العدل. أي
سوى الحق.
(15/9)
الْحَجَرَ رَجُلٌ آخَرُ مِنْ بَنِي
مَخْزُومٍ وَقَالَ: أَقْتُلُهُ بِهَذَا الْحَجَرِ. فَلَمَّا
دَنَا مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
طَمَسَ اللَّهُ عَلَى بَصَرِهِ فَلَمْ يَرَ النَّبِيَّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَرَجَعَ إِلَى أَصْحَابِهِ
فَلَمْ يُبْصِرْهُمْ حَتَّى نَادَوْهُ، فَهَذَا مَعْنَى
الْآيَةِ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ فِي رِوَايَتِهِ:
جَلَسَ عُتْبَةُ وَشَيْبَةُ ابْنَا رَبِيعَةَ، وَأَبُو جَهْلٍ
وَأُمَيَّةُ بْنُ خَلَفٍ، يَرْصُدُونَ النَّبِيَّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيَبْلُغُوا مِنْ أَذَاهُ،
فَخَرَجَ عَلَيْهِمْ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَهُوَ يَقْرَأُ" يس"
وَفِي يَدِهِ تُرَابٌ فَرَمَاهُمْ بِهِ وَقَرَأَ:" وَجَعَلْنا
مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا"
فَأَطْرَقُوا حَتَّى مَرَّ عَلَيْهِمْ عَلَيْهِ السَّلَامُ.
وَقَدْ مَضَى هَذَا فِي سُورَةِ" سُبْحَانَ" «1» وَمَضَى فِي"
الْكَهْفِ" «2» الْكَلَامُ فِي" سُدًّا" بِضَمِّ السِّينِ
وفتحها وهما لغتان." فَأَغْشَيْناهُمْ" أَيْ غَطَّيْنَا
أَبْصَارَهُمْ، وَقَدْ مَضَى فِي أَوَّلِ [الْبَقَرَةِ «3»].
وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَعِكْرِمَةُ وَيَحْيَى بْنُ
يَعْمُرَ" فَأَعْشَيْنَاهُمْ" بِالْعَيْنِ غَيْرَ مُعْجَمَةٍ
مِنَ الْعَشَاءِ فِي الْعَيْنِ وَهُوَ ضَعْفُ بَصَرِهَا حَتَّى
لَا تُبْصِرُ بِاللَّيْلِ قَالَ:
مَتَى تَأْتِهِ تَعْشُو إِلَى ضَوْءِ نَارِهِ «4»
وَقَالَ تَعَالَى:" وَمَنْ يَعْشُ عن ذكر الرحمن" [الزخرف: 36]
الْآيَةَ. وَالْمَعْنَى مُتَقَارِبٌ، وَالْمَعْنَى
أَعْمَيْنَاهُمْ، كَمَا قَالَ:
ومن الحوادث لا أبا لك أنني ... وضربت عَلَيَّ الْأَرْضُ
بِالْأَسْدَادِ
لَا أَهْتَدِي فِيهَا لِمَوْضِعِ تلعة ... وبين العذب وَبَيْنَ
أَرْضِ مُرَادِ
" فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ" أَيِ الهدى، قاله قتادة. وقيل:
محمدا حِينَ ائْتَمَرُوا عَلَى قَتْلِهِ، قَالَهُ السُّدِّيُّ.
وَقَالَ الضَّحَّاكُ:" وَجَعَلْنا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ
سَدًّا" أَيِ الدُّنْيَا" وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا" أَيِ
الْآخِرَةُ أَيْ عَمُوا عَنِ الْبَعْثِ وَعَمُوا عَنْ قَبُولِ
الشَّرَائِعِ فِي الدُّنْيَا، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:"
وَقَيَّضْنا لَهُمْ قُرَناءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ مَا بَيْنَ
أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ" أَيْ زَيَّنُوا لَهُمُ
الدُّنْيَا وَدَعَوْهُمْ إِلَى التَّكْذِيبِ بِالْآخِرَةِ.
وَقِيلَ: عَلَى هَذَا" مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا" أَيْ
غُرُورًا بِالدُّنْيَا" وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا" أَيْ
تَكْذِيبًا بِالْآخِرَةِ وَقِيلَ:" مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ"
الْآخِرَةِ" وَمِنْ خَلْفِهِمْ" الدُّنْيَا." وَسَواءٌ
عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا
يُؤْمِنُونَ تَقَدَّمَ فِي" الْبَقَرَةِ" «5» وَالْآيَةُ رَدٌّ
عَلَى الْقَدَرِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ.
__________
(1). راجع ج 10 ص 269 طبعه أولى أو ثانيه.
(2). راجع ج 11 ص 59 طبعه أولى أو ثانيه.
(3). راجع ج 1 ص 191 طبعه ثانيه أو ثالثه.
(4). هو الحطيئة وتمام البيت:
تجد خير نار عندها خير موقد
(5). راجع ج 8 ص 184 طبعه ثانيه أو ثالثه.
(15/10)
إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ
الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ
شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ (12)
وَعَنِ ابْنِ شِهَابٍ: أَنَّ عُمَرَ بْنَ
عَبْدِ الْعَزِيزِ أَحْضَرَ غَيْلَانَ الْقَدَرِيَّ فَقَالَ:
يَا غَيْلَانُ بَلَغَنِي أَنَّكَ تَتَكَلَّمُ بِالْقَدَرِ،
فَقَالَ: يَكْذِبُونَ عَلَيَّ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ.
ثُمَّ قَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَرَأَيْتَ قَوْلَ
اللَّهِ تَعَالَى:" إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ
نُطْفَةٍ أَمْشاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْناهُ سَمِيعاً
بَصِيراً. إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ إِمَّا شاكِراً
وَإِمَّا كَفُوراً" [الإنسان: 3 - 2] قَالَ: اقْرَأْ يَا
غَيْلَانُ فَقَرَأَ حَتَّى انْتَهَى إِلَى قَوْلِهِ:" فَمَنْ
شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلًا" [الإنسان: 29] فقال اقرأ
فقال:" وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ" [الإنسان:
30] فَقَالَ: وَاللَّهِ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إِنْ
شَعَرْتُ أَنَّ هَذَا فِي كِتَابِ اللَّهِ قَطُّ. فَقَالَ
لَهُ: يَا غَيْلَانُ اقْرَأْ أَوَّلَ سُورَةِ [يس] فَقَرَأَ
حَتَّى بَلَغَ" وَسَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ
لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ" فَقَالَ غَيْلَانُ:
وَاللَّهِ يا أمير المؤمنين كأني لَمْ أَقْرَأْهَا قَطُّ
قَبْلَ الْيَوْمِ، اشْهَدْ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَنِّي
تَائِبٌ. قَالَ عُمَرُ: اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ صَادِقًا فَتُبْ
عَلَيْهِ وَثَبِّتْهُ، وَإِنْ كَانَ كَاذِبًا فَسَلِّطْ
عَلَيْهِ مَنْ لَا يَرْحَمُهُ وَاجْعَلْهُ آيَةً
لِلْمُؤْمِنِينَ، فَأَخَذَهُ هِشَامٌ فَقَطَعَ يَدَيْهِ
وَرِجْلَيْهِ وَصَلَبَهُ. وَقَالَ ابْنُ عَوْنٍ: فَأَنَا
رَأَيْتُهُ مَصْلُوبًا عَلَى بَابِ دِمَشْقَ. فَقُلْنَا: مَا
شَأْنُكَ يَا غَيْلَانُ؟ فَقَالَ: أَصَابَتْنِي دَعْوَةُ
الرَّجُلِ الصَّالِحِ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ. قَوْلُهُ
تَعَالَى:" إِنَّما تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ" يَعْنِي
الْقُرْآنَ وَعَمِلَ بِهِ." وَخَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ"
أَيْ مَا غَابَ مِنْ عَذَابِهِ وَنَارِهِ، قَالَهُ قَتَادَةُ.
وَقِيلَ: أَيْ يَخْشَاهُ فِي مَغِيبِهِ عَنْ أَبْصَارِ
النَّاسِ وَانْفِرَادِهِ بِنَفْسِهِ." فَبَشِّرْهُ
بِمَغْفِرَةٍ" أَيْ لِذَنْبِهِ" وَأَجْرٍ كَرِيمٍ" أي الجنة.
[سورة يس (36): آية 12]
إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا
وَآثارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ فِي إِمامٍ مُبِينٍ
(12)
فِيهِ أَرْبَعُ مَسَائِلَ الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى:"
إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتى " أَخْبَرَنَا تَعَالَى
بِإِحْيَائِهِ الْمَوْتَى رَدًّا عَلَى الْكَفَرَةِ. وَقَالَ
الضَّحَّاكُ وَالْحَسَنُ: أَيْ نُحْيِيهِمْ بِالْإِيمَانِ
بَعْدَ الْجَهْلِ، وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ أَيْ نُحْيِيهِمْ
بِالْبَعْثِ لِلْجَزَاءِ. ثُمَّ تَوَعَّدَهُمْ بِذِكْرِهِ
كَتْبَ الْآثَارِ وَهِيَ الثانية- وإحصاء كل شي وَكُلِّ مَا
يَصْنَعُهُ الْإِنْسَانُ. قَالَ قَتَادَةُ: مَعْنَاهُ مِنْ
عَمَلٍ. وَقَالَهُ مُجَاهِدٌ وَابْنُ زَيْدٍ. وَنَظِيرُهُ
قوله:" عَلِمَتْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ": [الانفطار:
5] وقوله:" يُنَبَّأْ
(15/11)
الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ بِما قَدَّمَ
وَأَخَّرَ
" [الْقِيَامَةِ: 13]، وَقَالَ:" اتَّقُوا اللَّهَ
وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ" [الحشر: 18]
فَآثَارُ الْمَرْءِ الَّتِي تَبْقَى وَتُذْكَرُ بَعْدَ
الْإِنْسَانِ مِنْ خَيْرٍ أَوْ شَرٍّ يُجَازَى عَلَيْهَا: مِنْ
أَثَرٍ حَسَنٍ، كَعِلْمٍ عَلَّمُوهُ، أَوْ كِتَابٍ صَنَّفُوهُ،
أَوْ حَبِيسٍ احْتَبَسُوهُ، أَوْ بِنَاءٍ بَنَوْهُ مِنْ
مَسْجِدٍ أَوْ رِبَاطٍ أَوْ قَنْطَرَةٍ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ.
أَوْ سَيِّئٍ كَوَظِيفَةٍ وَظَّفَهَا بَعْضُ الظُّلَّامِ عَلَى
الْمُسْلِمِينَ، وَسَكَّةٍ أَحْدَثَهَا فِيهَا تَخْسِيرُهُمْ،
أَوْ شي أَحْدَثَهُ فِيهِ صَدٌّ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ مِنْ
أَلْحَانٍ وَمَلَاهٍ، وَكَذَلِكَ كُلُّ سُنَّةٍ حَسَنَةٍ، أَوْ
سيئة يستن بها. وقيل: هي آثار المشاءين إِلَى الْمَسَاجِدِ.
وَعَلَى هَذَا الْمَعْنَى تَأَوَّلَ الْآيَةَ عُمَرُ وَابْنُ
عَبَّاسٍ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ
أَيْضًا أَنَّ مَعْنَى:" وَآثَارُهُمْ" خُطَاهُمْ إِلَى
الْمَسَاجِدِ. قَالَ النَّحَّاسُ: وَهَذَا أَوْلَى مَا قِيلَ
فِيهِ، لِأَنَّهُ قَالَ: إِنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي ذَلِكَ،
لِأَنَّ الْأَنْصَارَ كَانَتْ مَنَازِلُهُمْ بَعِيدَةً عَنِ
الْمَسْجِدِ. وَفِي الْحَدِيثِ مَرْفُوعًا إِلَى النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:" يُكْتَبُ لَهُ
بِرِجْلٍ حَسَنَةٌ وَتُحَطُّ عَنْهُ بِرِجْلٍ سَيِّئَةٌ
ذَاهِبًا وراجعا إذ اخرج إِلَى الْمَسْجِدِ". قُلْتُ: وَفِي
التِّرْمِذِيِّ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ:
كَانَتْ بَنُو سَلِمَةَ «1» فِي نَاحِيَةِ الْمَدِينَةِ
فَأَرَادُوا النُّقْلَةَ إِلَى قُرْبِ الْمَسْجِدِ فنزلت هذه
الآية:" إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتى وَنَكْتُبُ مَا
قَدَّمُوا وَآثارَهُمْ" فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ" إِنَّ آثَارَكُمْ تُكْتَبُ"
فَلَمْ يَنْتَقِلُوا. قَالَ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ «2» غَرِيبٌ
مِنْ حَدِيثِ الثَّوْرِيِّ. وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ
جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: أَرَادَ بَنُو سَلِمَةَ
أَنْ يَتَحَوَّلُوا إِلَى قُرْبِ الْمَسْجِدِ، قَالَ:
وَالْبِقَاعُ خَالِيَةٌ، قَالَ: فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ:" يَا بَنِي
سَلِمَةَ دِيَارَكُمْ تُكْتَبْ آثَارُكُمْ دِيَارَكُمْ
تُكْتَبْ آثَارُكُمْ" فَقَالُوا: مَا كَانَ يَسُرُّنَا أَنَّا
كُنَّا تَحَوَّلْنَا. وَقَالَ ثَابِتٌ الْبُنَانِيُّ: مَشَيْتُ
مَعَ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ إِلَى الصَّلَاةِ فَأَسْرَعْتُ،
فَحَبَسَنِي فَلَمَّا انْقَضَتِ الصَّلَاةُ قَالَ: مَشَيْتُ
مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَأَسْرَعْتُ، فَحَبَسَنِي فَلَمَّا انْقَضَتِ الصَّلَاةُ
قال:" أما علم أَنَّ الْآثَارَ تُكْتَبُ" فَهَذَا احْتِجَاجٌ
بِالْآيَةِ. وَقَالَ قَتَادَةُ وَمُجَاهِدٌ أَيْضًا
وَالْحَسَنُ: الْآثَارُ فِي هَذِهِ الآية الخطا. وَحَكَى
الثَّعْلَبِيُّ عَنْ أَنَسٍ أَنَّهُ قَالَ: الْآثَارُ هي الخطا
إِلَى الْجُمُعَةِ. وَوَاحِدُ الْآثَارِ أَثَرٌ وَيُقَالُ
أَثْرٌ.
__________
(1). سلمة بكسر اللام بطن من الأنصار. [ ..... ]
(2). الزيادة من صحيح الترمذي.
(15/12)
وَاضْرِبْ لَهُمْ
مَثَلًا أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ
(13) إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا
فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ
مُرْسَلُونَ (14) قَالُوا مَا أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ
مِثْلُنَا وَمَا أَنْزَلَ الرَّحْمَنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ
أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ (15) قَالُوا رَبُّنَا يَعْلَمُ
إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ (16) وَمَا عَلَيْنَا إِلَّا
الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (17) قَالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا
بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ
وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ (18) قَالُوا
طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَئِنْ ذُكِّرْتُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ
مُسْرِفُونَ (19)
الثَّالِثَةُ- فِي هَذِهِ الْأَحَادِيثِ
الْمُفَسِّرَةِ لِمَعْنَى الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ
الْبُعْدَ مِنَ الْمَسْجِدِ أَفْضَلُ، فَلَوْ كَانَ بِجِوَارِ
مَسْجِدٍ، فَهَلْ لَهُ أَنْ يُجَاوِزَهُ إِلَى الْأَبْعَدِ؟
اخْتُلِفَ فِيهِ، فَرُوِيَ عَنْ أَنَسٍ أَنَّهُ كَانَ
يُجَاوِزُ الْمُحْدَثَ إِلَى الْقَدِيمِ. وَرُوِيَ عَنْ
غَيْرِهِ: الْأَبْعَدُ فَالْأَبْعَدُ مِنَ الْمَسْجِدِ
أَعْظَمُ أَجْرًا. وَكَرِهَ الْحَسَنُ وَغَيْرُهُ هَذَا،
وَقَالَ: لَا يَدَعُ مَسْجِدًا قُرْبَهُ وَيَأْتِي غَيْرَهُ.
وَهَذَا مَذْهَبُ مَالِكٍ. وَفِي تَخَطِّي مَسْجِدِهِ إِلَى
الْمَسْجِدِ الْأَعْظَمِ قَوْلَانِ. وَخَرَّجَ ابْنُ مَاجَهْ
مِنْ حَدِيثِ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" صَلَاةُ
الرَّجُلِ فِي بَيْتِهِ بِصَلَاةٍ وَصَلَاتُهُ فِي مَسْجِدِ
الْقَبَائِلِ بِخَمْسٍ وَعِشْرِينَ صَلَاةً وَصَلَاتُهُ فِي
الْمَسْجِدِ الَّذِي يُجَمَّعُ «1» فيه بخمسمائة صلاة"."
دِيَارَكُمْ" مَنْصُوبٌ عَلَى الْإِغْرَاءِ أَيِ الْزَمُوا وَ"
نَكْتُبُ" جَزْمٌ عَلَى جَوَابِ ذَلِكَ الْأَمْرِ." وكُلَّ"
نُصِبَ بِفِعْلٍ مُضْمَرٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ" أَحْصَيْناهُ"
كَأَنَّهُ قَالَ: وأحصينا كل شي أَحْصَيْنَاهُ. وَيَجُوزُ
رَفْعُهُ بِالِابْتِدَاءِ إِلَّا أَنَّ نَصْبَهُ أَوْلَى،
لِيُعْطَفَ مَا عَمِلَ فِيهِ الْفِعْلُ عَلَى مَا عَمِلَ فِيهِ
الْفِعْلُ. وَهُوَ قَوْلُ الْخَلِيلِ وَسِيبَوَيْهِ.
وَالْإِمَامُ: الْكِتَابُ الْمُقْتَدَى بِهِ الَّذِي هُوَ
حُجَّةٌ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ وَابْنُ زَيْدٍ:
أَرَادَ اللَّوْحَ الْمَحْفُوظَ. وَقَالَتْ فِرْقَةٌ: أَرَادَ
صَحَائِفَ الْأَعْمَالِ.
[سورة يس (36): الآيات 13 الى 19]
وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً أَصْحابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جاءَهَا
الْمُرْسَلُونَ (13) إِذْ أَرْسَلْنا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ
فَكَذَّبُوهُما فَعَزَّزْنا بِثالِثٍ فَقالُوا إِنَّا
إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ (14) قالُوا مَا أَنْتُمْ إِلاَّ
بَشَرٌ مِثْلُنا وَما أَنْزَلَ الرَّحْمنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ
أَنْتُمْ إِلاَّ تَكْذِبُونَ (15) قالُوا رَبُّنا يَعْلَمُ
إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ (16) وَما عَلَيْنا إِلاَّ
الْبَلاغُ الْمُبِينُ (17)
قالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا
لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ
(18) قالُوا طائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَإِنْ ذُكِّرْتُمْ بَلْ
أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ (19)
__________
(1). يجمع (بالتشديد) من التجمع، أي يصلى فيه الجمعة.
(15/13)
خِطَابٌ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُمِرَ أَنْ يَضْرِبَ لِقَوْمِهِ مَثَلًا
بِأَصْحَابِ الْقَرْيَةِ «1» هَذِهِ الْقَرْيَةُ هِيَ
أَنْطَاكِيَةُ فِي قَوْلِ جَمِيعِ الْمُفَسِّرِينَ فِيمَا
ذَكَرَ الْمَاوَرْدِيُّ. نُسِبَتْ إِلَى أَهْلِ أَنْطَبِيسَ
وَهُوَ اسْمُ الَّذِي بَنَاهَا ثُمَّ غُيِّرَ لَمَّا عُرِّبَ،
ذَكَرَهُ السُّهَيْلِيُّ. وَيُقَالُ فِيهَا: أَنْتَاكِيَةُ
بِالتَّاءِ بَدَلَ الطَّاءِ. وَكَانَ بِهَا فِرْعَوْنُ يُقَالُ
لَهُ أَنْطَيخَسُ بْنُ أَنْطِيخَسَ يَعْبُدُ الْأَصْنَامَ،
ذَكَرَهُ الْمَهْدَوِيُّ، وَحَكَاهُ أَبُو جَعْفَرٍ
النَّحَّاسُ عَنْ كَعْبٍ وَوَهْبٍ. فَأَرْسَلَ اللَّهُ
إِلَيْهِ ثَلَاثَةً: وَهُمْ صَادِقٌ، وَصَدُوقٌ، وَشَلَومُ
هُوَ الثَّالِثُ. هَذَا قَوْلُ الطَّبَرِيِّ. وَقَالَ
غَيْرُهُ: شَمْعُونُ وَيُوحَنَّا. وَحَكَى النَّقَّاشُ:
سَمْعَانُ وَيَحْيَى وَلَمْ يَذْكُرَا صَادِقًا وَلَا
صَدُوقًا. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ" مَثَلًا" وَ" أَصْحابَ
الْقَرْيَةِ" مَفْعُولَيْنِ لِ اضْرِبْ، أَوْ" أَصْحابَ
الْقَرْيَةِ" بَدَلًا مِنْ" مَثَلًا" أَيِ اضْرِبْ لَهُمْ
مَثَلَ أَصْحَابِ الْقَرْيَةِ فَحَذَفَ الْمُضَافَ. أُمِرَ
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِإِنْذَارِ
هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ أَنْ يَحِلَّ بِهِمْ مَا حَلَّ
بِكُفَّارِ أَهْلِ الْقَرْيَةِ الْمَبْعُوثِ إِلَيْهِمْ
ثَلَاثَةُ رُسُلٍ. قِيلَ: رُسُلٌ مِنَ اللَّهِ عَلَى
الِابْتِدَاءِ. وَقِيلَ: إِنَّ عِيسَى بَعَثَهُمْ إِلَى
أَنْطَاكِيَةَ لِلدُّعَاءِ إلى الله .. أضاف الرَّبُّ ذَلِكَ
إِلَى نَفْسِهِ، لِأَنَّ عِيسَى أَرْسَلَهُمَا بِأَمْرِ
الرَّبِّ، وَكَانَ ذَلِكَ حِينَ رُفِعَ عِيسَى إلى السماء. قيل
ضربوهما وسجنوهما." فَعَزَّزْنا بِثالِثٍ" أَيْ فَقَوَّيْنَا
وَشَدَّدْنَا الرِّسَالَةَ" بِثالِثٍ". وَقَرَأَ أَبُو بَكْرٍ
عَنْ عَاصِمٍ" فَعَزَزْنَا بِثَالِثٍ" بِالتَّخْفِيفِ
وَشَدَّدَ الباقون. قال الجوهري: وقول تَعَالَى:" فَعَزَّزْنا
بِثالِثٍ" يُخَفَّفُ وَيُشَدَّدُ، أَيْ قَوَّيْنَا
وَشَدَّدْنَا. قَالَ الْأَصْمَعِيُّ: أَنْشَدَنِي فِيهِ أَبُو
عَمْرِو بْنُ الْعَلَاءِ لِلْمُتَلَمِّسِ:
أُجُدٌّ إِذَا رَحَلَتْ «2» تَعَزَّزَ لَحْمُهَا ... وَإِذَا
تُشَدُّ بِنِسْعِهَا لَا تَنْبِسُ
أَيْ لَا تَرْغُو، فَعَلَى هَذَا تَكُونُ الْقِرَاءَتَانِ
بِمَعْنًى. وَقِيلَ: التَّخْفِيفُ بِمَعْنَى غَلَبْنَا
وَقَهَرْنَا وَمِنْهُ" وَعَزَّنِي فِي الْخِطابِ" [ص: 23].
وَالتَّشْدِيدُ بِمَعْنَى قَوَّيْنَا وَكَثَّرْنَا. وَفِي
الْقِصَّةِ: أَنَّ عيسى أرسل
__________
(1). الزيادة من حاشية جمل ان القربى.
(2). وفي السان: أجد إذا ضمرت. ويروى في غيره: عنس إذا ضمرت.
(15/14)
إِلَيْهِمْ رَسُولَيْنِ فَلَقِيَا شَيْخًا
يَرْعَى غُنَيْمَاتٍ لَهُ وَهُوَ حَبِيبٌ النَّجَّارُ صَاحِبُ"
يس" فَدَعَوْهُ إِلَى اللَّهِ وَقَالَا: نَحْنُ رَسُولَا
عِيسَى نَدْعُوكَ إِلَى عِبَادَةِ اللَّهِ. فَطَالَبَهُمَا
بِالْمُعْجِزَةِ فَقَالَا: نَحْنُ نَشْفِي الْمَرْضَى وَكَانَ
لَهُ ابْنٌ مَجْنُونٌ. وَقِيلَ: مَرِيضٌ عَلَى الْفِرَاشِ
فَمَسَحَاهُ، فَقَامَ بِإِذْنِ اللَّهِ صَحِيحًا، فَآمَنَ
الرَّجُلُ بِاللَّهِ. وَقِيلَ: هُوَ الَّذِي جَاءَ مِنْ
أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعى، فَفَشَا أَمْرُهُمَا، وَشَفَيَا
كَثِيرًا مِنَ الْمَرْضَى، فَأَرْسَلَ الْمَلِكُ إِلَيْهِمَا-
وَكَانَ يَعْبُدُ الْأَصْنَامَ- يَسْتَخْبِرُهُمَا فَقَالَا:
نَحْنُ رَسُولَا عِيسَى. فَقَالَ: وَمَا آيَتُكُمَا؟ قَالَا:
نُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَنُبْرِئُ الْمَرِيضَ
بِإِذْنِ اللَّهِ، وَنَدْعُوكَ إِلَى عِبَادَةِ اللَّهِ
وَحْدَهُ. فَهَمَّ الْمَلِكُ بِضَرْبِهِمَا. وَقَالَ وَهْبٌ:
حَبَسَهُمَا الْمَلِكُ وَجَلَدَهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ،
فَانْتَهَى الْخَبَرُ إِلَى عِيسَى فَأَرْسَلَ ثَالِثًا.
قِيلَ: شَمْعُونَ الصَّفَا رَأْسَ الْحَوَارِيِّينَ
لِنَصْرِهِمَا، فَعَاشَرَ حَاشِيَةَ الْمَلِكِ حَتَّى
تَمَكَّنَ مِنْهُمْ، وَاسْتَأْنَسُوا بِهِ، وَرَفَعُوا
حَدِيثَهُ إِلَى الْمَلِكِ فَأَنِسَ بِهِ، وَأَظْهَرَ
مُوَافَقَتَهُ فِي دِينِهِ، فَرَضِيَ الْمَلِكُ طَرِيقَتَهُ،
ثُمَّ قَالَ يَوْمًا لِلْمَلِكِ: بَلَغَنِي أَنَّكَ حَبَسْتَ
رَجُلَيْنِ دَعَوَاكَ إِلَى اللَّهِ، فَلَوْ سَأَلْتَ
عَنْهُمَا مَا وَرَاءَهُمَا. فَقَالَ: إِنَّ الْغَضَبَ حَالَ
بَيْنِي وَبَيْنَ سُؤَالِهِمَا. قَالَ: فَلَوْ
أَحْضَرْتَهُمَا. فَأَمَرَ بِذَلِكَ، فَقَالَ لَهُمَا
شَمْعُونُ: مَا بُرْهَانُكُمَا عَلَى مَا تَدَّعِيَانِ؟
فَقَالَا: نُبْرِئُ الْأَكْمَهَ والأبرص. فجئ بِغُلَامٍ
مَمْسُوحِ الْعَيْنَيْنِ، مَوْضِعُ عَيْنَيْهِ كَالْجَبْهَةِ،
فَدَعَوَا رَبَّهُمَا فَانْشَقَّ مَوْضِعُ الْبَصَرِ،
فَأَخَذَا بُنْدُقَتَيْنِ طِينًا فَوَضَعَاهُمَا فِي
خَدَّيْهِ، فَصَارَتَا مُقْلَتَيْنِ يُبْصِرُ بِهِمَا، فعجب
الملك وقال: إن ها هنا غُلَامًا مَاتَ مُنْذُ سَبْعَةِ
أَيَّامٍ وَلَمْ أَدْفِنْهُ حتى يجئ أبوه فهل يحييه ربكما؟
فدعوا الله علا نية، وَدَعَاهُ شَمْعُونُ سِرًّا، فَقَامَ
الْمَيِّتُ حَيًّا، فَقَالَ لِلنَّاسِ: إِنِّي مُتُّ مُنْذُ
سَبْعَةِ أَيَّامٍ، فَوُجِدْتُ مُشْرِكًا، فَأُدْخِلْتُ فِي
سَبْعَةِ أَوْدِيَةٍ مِنَ النَّارِ، فَأُحَذِّرُكُمْ مَا
أَنْتُمْ فِيهِ فَآمِنُوا بِاللَّهِ، ثُمَّ فتحت أبواب السماء،
فرأي شَابًّا حَسَنَ الْوَجْهِ يَشْفَعُ لِهَؤُلَاءِ
الثَّلَاثَةِ شَمْعُونَ وَصَاحِبَيْهِ، حَتَّى أَحْيَانِي
اللَّهُ، وَأَنَا أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ
وَحْدَهُ لَا شريك له، وأن عيسى روج اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ،
وَأَنَّ هَؤُلَاءِ هُمْ رُسُلُ اللَّهِ. فقالوا له وهذا شمعون
أيضا معهم؟ قال: نَعَمْ وَهُوَ أَفْضَلُهُمْ. فَأَعْلَمَهُمْ
شَمْعُونُ أَنَّهُ رَسُولُ الْمَسِيحِ إِلَيْهِمْ، فَأَثَّرَ
قَوْلُهُ فِي الْمَلِكِ، فَدَعَاهُ إِلَى اللَّهِ، فَآمَنَ
الْمَلِكُ فِي قَوْمٍ كَثِيرٍ وَكَفَرَ آخَرُونَ. وَحَكَى
الْقُشَيْرِيُّ أَنَّ الْمَلِكَ آمَنَ وَلَمْ يُؤْمِنْ
قَوْمُهُ، وَصَاحَ جِبْرِيلُ صَيْحَةً مَاتَ كُلُّ مَنْ بَقِيَ
مِنْهُمْ مِنَ الْكُفَّارِ.
(15/15)
وَرُوِيَ أَنَّ عِيسَى لَمَّا أَمَرَهُمْ
أَنْ يَذْهَبُوا إِلَى تِلْكَ الْقَرْيَةِ قَالُوا: يَا
نَبِيَّ اللَّهِ إِنَّا لَا نَعْرِفُ أَنْ نَتَكَلَّمَ
بِأَلْسِنَتِهِمْ وَلُغَاتِهِمْ. فَدَعَا اللَّهُ لَهُمْ
فَنَامُوا بِمَكَانِهِمْ، فَهَبُّوا مِنْ نومتهم قد حملتهم
الملائكة فألقتهم بأرضي أَنْطَاكِيَةَ، فَكَلَّمَ كُلٌّ
وَاحِدٍ صَاحِبَهُ بِلُغَةِ الْقَوْمِ، فذلك قول:"
وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ" [البقرة: 87] فَقَالُوا
جَمِيعًا:" إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ" قالُوا مَا
أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا" تَأْكُلُونَ الطَّعَامَ
وَتَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ" وَما أَنْزَلَ الرَّحْمنُ مِنْ
شَيْءٍ يأمر به ولا من شي»
يَنْهَى عَنْهُ" إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ" فِي دعواكم
الرسالة،" رَبُّنا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ"
فَقَالَتِ الرُّسُلُ:" رَبُّنا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ
لَمُرْسَلُونَ" وَإِنْ كَذَّبْتُمُونَا" وَما عَلَيْنا إِلَّا
الْبَلاغُ الْمُبِينُ" فِي أَنَّ اللَّهَ وَاحِدٌ" قالُوا"
لَهُمْ" إِنَّا تَطَيَّرْنا بِكُمْ" أَيْ تَشَاءَمْنَا بِكُمْ.
قَالَ مُقَاتِلٌ: حُبِسَ عَنْهُمُ الْمَطَرُ ثَلَاثَ سِنِينَ
فَقَالُوا هَذَا بِشُؤْمِكُمْ. وَيُقَالُ إِنَّهُمْ أَقَامُوا
يُنْذِرُونَهُمْ عَشْرَ سِنِينَ." لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا"
عَنْ إِنْذَارِنَا" لَنَرْجُمَنَّكُمْ" قَالَ الْفَرَّاءُ:
لَنَقْتُلَنَّكُمْ. قَالَ: وَعَامَّةُ مَا فِي الْقُرْآنِ مِنَ
الرَّجْمِ مَعْنَاهُ الْقَتْلُ. وَقَالَ قَتَادَةُ: هُوَ عَلَى
بَابِهِ مِنَ الرَّجْمِ بِالْحِجَارَةِ. وَقِيلَ:
لَنَشْتِمَنَّكُمْ، وَقَدْ تَقَدَّمَ جَمِيعُهُ «2»."
وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ" قِيلَ: هُوَ
الْقَتْلُ. وَقِيلَ: هُوَ التَّعْذِيبُ الْمُؤْلِمُ. وَقِيلَ:
هُوَ التَّعْذِيبُ الْمُؤْلِمُ قَبْلَ الْقَتْلِ كَالسَّلْخِ
وَالْقَطْعِ وَالصَّلْبِ. فقالت الرسل:" طائِرُكُمْ مَعَكُمْ"
أي شومكم مَعَكُمْ أَيْ حَظُّكُمْ مِنَ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ
مَعَكُمْ وَلَازِمٌ فِي أَعْنَاقِكُمْ، وَلَيْسَ هُوَ مِنْ
شُؤْمِنَا، قَالَ مَعْنَاهُ الضَّحَّاكُ. وَقَالَ قَتَادَةُ:
أَعْمَالُكُمْ مَعَكُمْ. ابْنُ عَبَّاسٍ: مَعْنَاهُ
الْأَرْزَاقُ وَالْأَقْدَارُ تَتْبَعُكُمْ. الْفَرَّاءُ:"
طائِرُكُمْ مَعَكُمْ" رِزْقُكُمْ وَعَمَلُكُمْ، وَالْمَعْنَى
وَاحِدٌ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ:" اطَّيْرُكُمْ" أَيْ
تَطَيُّرُكُمْ «3»." أَإِنْ ذُكِّرْتُمْ" قَالَ قَتَادَةُ:
إِنْ ذُكِّرْتُمْ تَطَيَّرْتُمْ. وَفِيهِ تِسْعَةُ أَوْجُهٍ
مِنَ الْقِرَاءَاتِ: قَرَأَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ" أَيِنْ
ذُكِّرْتُمْ" بِتَخْفِيفِ الْهَمْزَةِ الثَّانِيَةِ. وَقَرَأَ
أَهْلُ الْكُوفَةِ:" أَإِنْ" بِتَحْقِيقِ الْهَمْزَتَيْنِ.
وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ:" أَاإِنْ ذُكِّرْتُمْ" بِهَمْزَتَيْنِ
بَيْنَهُمَا أَلِفٌ أُدْخِلَتِ الْأَلِفُ كَرَاهَةً لِلْجَمْعِ
بَيْنَ الْهَمْزَتَيْنِ. وَالْوَجْهُ الرَّابِعُ" أَايِنْ"
بِهَمْزَةٍ بَعْدَهَا أَلِفٌ وَبَعْدَ الْأَلْفِ هَمْزَةٌ
مُخَفَّفَةٌ. وَالْقِرَاءَةُ الْخَامِسَةُ" أَاأَنْ"
بِهَمْزَتَيْنِ مَفْتُوحَتَيْنِ بَيْنَهُمَا أَلِفٌ.
وَالْوَجْهُ السَّادِسُ" أَأَنْ" بِهَمْزَتَيْنِ
مُحَقَّقَتَيْنِ مَفْتُوحَتَيْنِ. وَحَكَى الْفَرَّاءُ: أَنَّ
هَذِهِ القراءة قراءة أبي رزين.
__________
(1). زيادة يقتضيها السياق.
(2). راجع ج 9 ص 91 طبعه أولى أو ثانيه.
(3). قال أبو حيان في هذه القراءة:" اطيركم" مصدر أطير الذي
فأدغمت التاء في الطاء، فاجتلبت همزة الوصل في الماضي والمصدر.
(15/16)
وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى
الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا
الْمُرْسَلِينَ (20) اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا
وَهُمْ مُهْتَدُونَ (21) وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي
فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (22) أَأَتَّخِذُ مِنْ
دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لَا تُغْنِ
عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلَا يُنْقِذُونِ (23) إِنِّي
إِذًا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (24) إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ
فَاسْمَعُونِ (25) قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ
قَوْمِي يَعْلَمُونَ (26) بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي
مِنَ الْمُكْرَمِينَ (27) وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى قَوْمِهِ
مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا كُنَّا
مُنْزِلِينَ (28) إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً
فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ (29)
قُلْتُ: وَحَكَاهُ الثَّعْلَبِيُّ عَنْ
زِرِّ بْنِ حُبَيْشٍ وابن السميق. وَقَرَأَ عِيسَى بْنُ عُمَرَ
وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ:" قَالُوا طَائِركُمْ مَعَكُمْ
أَيْنَ ذُكِّرْتُمْ" بِمَعْنَى حَيْثُ. وَقَرَأَ يَزِيدُ بْنُ
الْقَعْقَاعِ وَالْحَسَنُ وَطَلْحَةُ" ذُكِرْتُمْ"
بِالتَّخْفِيفِ، ذَكَرَ جَمِيعَهُ النَّحَّاسُ. وَذَكَرَ
الْمَهْدَوِيُّ عَنْ طَلْحَةَ بن مصرف وعيسى الهمذاني:" آنْ
ذُكِّرْتُمْ" بِالْمَدِّ، عَلَى أَنَّ هَمْزَةَ
الِاسْتِفْهَامِ دَخَلَتْ عَلَى هَمْزَةٍ مَفْتُوحَةٍ.
الْمَاجِشُونُ:" أَنْ ذُكِّرْتُمْ" بِهَمْزَةٍ وَاحِدَةٍ
مَفْتُوحَةٍ. فَهَذِهِ تِسْعُ قِرَاءَاتٍ. وَقَرَأَ ابن هرمز"
طيركم معك"." أَإِنْ ذُكِّرْتُمْ" أَيْ لَإِنْ وُعِظْتُمْ،
وَهُوَ كَلَامٌ مُسْتَأْنَفٌ أَيْ إِنْ وُعِظْتُمْ
تَطَيَّرْتُمْ. وَقِيلَ: إِنَّمَا تَطَيَّرُوا لَمَّا
بَلَغَهُمْ أَنَّ كُلَّ نَبِيٍّ دَعَا قَوْمَهُ فلم يجيب كان
عاقبتهم الهلاك. قَالَ قَتَادَةُ: مُسْرِفُونَ فِي
تَطَيُّرِكُمْ. يَحْيَى بْنُ سَلَّامٍ: مُسْرِفُونَ فِي
كُفْرِكُمْ. وَقَالَ ابْنُ بَحْرٍ: السرف ها هنا الْفَسَادُ
وَمَعْنَاهُ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُفْسِدُونَ. وَقِيلَ:
مُسْرِفُونَ مُشْرِكُونَ، وَالْإِسْرَافُ مُجَاوَزَةُ الْحَدِّ
وَالْمُشْرِكُ يُجَاوِزُ الحد.
[سورة يس (36): الآيات 20 الى 29]
وَجاءَ مِنْ أَقْصَا الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعى قالَ يا
قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ (20) اتَّبِعُوا مَنْ لا
يَسْئَلُكُمْ أَجْراً وَهُمْ مُهْتَدُونَ (21) وَما لِيَ لَا
أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (22)
أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمنُ
بِضُرٍّ لَا تُغْنِ عَنِّي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً وَلا
يُنْقِذُونِ (23) إِنِّي إِذاً لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (24)
إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ (25) قِيلَ ادْخُلِ
الْجَنَّةَ قالَ يا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ (26) بِما
غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ (27) وَما
أَنْزَلْنا عَلى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ
السَّماءِ وَما كُنَّا مُنْزِلِينَ (28) إِنْ كانَتْ إِلاَّ
صَيْحَةً واحِدَةً فَإِذا هُمْ خامِدُونَ (29)
هُوَ حَبِيبُ بْنُ مُرِّيٍّ وَكَانَ نَجَّارًا. وَقِيلَ:
إِسْكَافًا. وَقِيلَ: قَصَّارًا. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ
وَمُجَاهِدٌ ومقاتل: هو حبيب
(15/17)
ابن إِسْرَائِيلَ النَّجَّارُ وَكَانَ
يَنْحِتُ الْأَصْنَامَ، وَهُوَ مِمَّنْ آمَنَ بِالنَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَيْنَهُمَا سِتُّمِائَةِ
سَنَةٍ، كَمَا آمَنَ بِهِ تُبَّعٌ الْأَكْبَرُ وَوَرَقَةُ بْنُ
نَوْفَلٍ وَغَيْرُهُمَا. وَلَمْ يُؤْمِنْ بِنَبِيٍّ أَحَدٌ
إِلَّا بَعْدَ ظُهُورِهِ. قَالَ وَهْبٌ: وَكَانَ حَبِيبٌ
مَجْذُومًا، وَمَنْزِلُهُ عِنْدَ أَقْصَى بَابٍ مِنْ أَبْوَابِ
الْمَدِينَةِ، وَكَانَ يَعْكُفُ عَلَى عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ
سَبْعِينَ سَنَةً يَدْعُوهُمْ، لَعَلَّهُمْ يَرْحَمُونَهُ
وَيَكْشِفُونَ ضُرَّهُ فَمَا اسْتَجَابُوا لَهُ، فَلَمَّا
أَبْصَرَ الرُّسُلَ دَعَوْهُ إِلَى عِبَادَةِ اللَّهِ فَقَالَ:
هَلْ مِنْ آيَةٍ؟ قَالُوا: نَعَمْ نَدْعُو رَبَّنَا الْقَادِرَ
فَيُفَرِّجُ عَنْكَ ما بك. فقال: إن هذا لعجب لي، أَدْعُو
هَذِهِ الْآلِهَةَ سَبْعِينَ سَنَةً تُفَرِّجُ عَنِّي فَلَمْ
تَسْتَطِعْ، فَكَيْفَ «1» يُفَرِّجُهُ رَبُّكُمْ فِي غَدَاةٍ
وَاحِدَةٍ؟ قَالُوا: نَعَمْ رَبُّنَا عَلَى مَا يَشَاءُ
قَدِيرٌ، وَهَذِهِ لَا تَنْفَعُ شَيْئًا وَلَا تَضُرُّ.
فَآمَنَ وَدَعَوْا رَبَّهُمْ فَكَشَفَ اللَّهُ مَا بِهِ،
كَأَنْ لَمْ يَكُنْ بِهِ بَأْسٌ، فَحِينَئِذٍ أَقْبَلَ على
التكسب، فإذا أم سى تَصَدَّقَ بِكَسْبِهِ، فَأَطْعَمَ
عِيَالَهُ نِصْفًا وَتَصَدَّقَ بِنِصْفٍ، فَلَمَّا هَمَّ
قَوْمُهُ بِقَتْلِ الرُّسُلِ جَاءَهُمْ. فَ" قالَ يا قَوْمِ
اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ" الآية قال قَتَادَةُ: كَانَ
يَعْبُدُ اللَّهَ فِي غَارٍ، فَلَمَّا سَمِعَ بِخَبَرِ
الْمُرْسَلِينَ جَاءَ يَسْعَى، فَقَالَ لِلْمُرْسَلِينَ:
أَتَطْلُبُونَ عَلَى مَا جِئْتُمْ بِهِ أَجْرًا؟ قَالُوا: لَا
مَا أَجْرُنَا إِلَّا عَلَى اللَّهِ. قَالَ أَبُو
الْعَالِيَةِ: فَاعْتَقَدَ صِدْقَهُمْ وَآمَنَ بِهِمْ
وَأَقْبَلَ على قومه ف" قالَ يا قَوْمِ اتَّبِعُوا
الْمُرْسَلِينَ". أَيْ لَوْ كَانُوا مُتَّهَمِينَ لَطَلَبُوا
مِنْكُمُ الْمَالَ" وَهُمْ مُهْتَدُونَ" فَاهْتَدُوا بِهِمْ."
وَما لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي" قَالَ قَتَادَةُ:
قَالَ لَهُ قَوْمُهُ أَنْتَ عَلَى دِينِهِمْ؟! فَقَالَ:" وَما
لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي" أي خلقني." وَإِلَيْهِ
تُرْجَعُونَ" وَهَذَا احْتِجَاجٌ مِنْهُ عَلَيْهِمْ. وَأَضَافَ
الْفِطْرَةَ إِلَى نَفْسِهِ، لِأَنَّ ذَلِكَ نِعْمَةٌ عَلَيْهِ
تُوجِبُ الشُّكْرَ، وَالْبَعْثَ إِلَيْهِمْ: لِأَنَّ ذَلِكَ
وَعِيدٌ يَقْتَضِي الزَّجْرَ، فَكَانَ إِضَافَةُ النِّعْمَةِ
إِلَى نَفْسِهِ أَظْهَرَ شُكْرًا، وَإِضَافَةُ الْبَعْثِ إِلَى
الْكَافِرِ أَبْلَغُ أَثَرًا." أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ
آلِهَةً" يَعْنِي أَصْنَامًا." إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمنُ
بِضُرٍّ" يَعْنِي مَا أَصَابَهُ مِنَ السَّقَمِ." لَا تُغْنِ
عَنِّي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً وَلا يُنْقِذُونِ" يُخَلِّصُونِي
مِمَّا أَنَا فِيهِ مِنَ الْبَلَاءِ" إِنِّي إِذاً" يَعْنِي
إِنْ فَعَلْتُ ذَلِكَ" لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ أَيْ خُسْرَانٌ
ظَاهِرٌ." إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ" قَالَ
ابْنُ مَسْعُودٍ: خَاطَبَ الرُّسُلَ بِأَنَّهُ
__________
(1). الزيادة من تفسير الآلوسي.
(15/18)
مُؤْمِنٌ بِاللَّهِ رَبِّهِمْ، وَمَعْنَى"
فَاسْمَعُونِ" أَيْ فَاشْهَدُوا، أَيْ كُونُوا شُهُودِي
بِالْإِيمَانِ. وَقَالَ كَعْبٌ وَوَهْبٌ: إِنَّمَا قَالَ
ذَلِكَ لِقَوْمِهِ إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ الَّذِي
كَفَرْتُمْ بِهِ. وَقِيلَ: إِنَّهُ لَمَّا قَالَ لقومه"
اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ. اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْئَلُكُمْ
أَجْراً" رَفَعُوهُ إِلَى الْمَلِكِ وَقَالُوا: قَدْ تَبِعْتَ
عَدُوَّنَا، فَطَوَّلَ مَعَهُمُ الْكَلَامَ لِيَشْغَلَهُمْ
بِذَلِكَ عَنْ قَتْلِ الرُّسُلِ، إِلَى أَنْ قَالَ:" إِنِّي
آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ" فَوَثَبُوا عَلَيْهِ فَقَتَلُوهُ. قَالَ
ابْنُ مَسْعُودٍ: وَطَئُوهُ بِأَرْجُلِهِمْ حَتَّى خَرَجَ
قَصَبُهُ «1» مِنْ دُبُرِهِ، وَأُلْقِيَ فِي بِئْرٍ وَهِيَ
الرَّسُّ وَهُمْ أَصْحَابُ الرَّسِّ. وَفِي رِوَايَةٍ
أَنَّهُمْ قَتَلُوا الرُّسُلَ الثَّلَاثَةَ. وَقَالَ
السُّدِّيُّ رَمَوْهُ بِالْحِجَارَةِ وَهُوَ يَقُولُ:
اللَّهُمَّ اهْدِ قَوْمِي حَتَّى قَتَلُوهُ. وَقَالَ
الْكَلْبِيُّ: حَفَرُوا حُفْرَةً وَجَعَلُوهُ فِيهَا،
وَرَدَمُوا فَوْقَهُ التُّرَابَ فَمَاتَ رَدْمًا. وَقَالَ
الْحَسَنُ: حَرَّقُوهُ حَرْقًا، وَعَلَّقُوهُ مِنْ سُورِ
الْمَدِينَةِ وَقَبْرُهُ فِي سُورِ أَنْطَاكِيَةَ، حَكَاهُ
الثعلبي. قال الْقُشَيْرِيُّ: وَقَالَ الْحَسَنُ لَمَّا
أَرَادَ الْقَوْمُ أَنْ يَقْتُلُوهُ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَى
السَّمَاءِ، فَهُوَ فِي الْجَنَّةِ لَا يَمُوتُ إِلَّا
بِفَنَاءِ السَّمَاءِ وَهَلَاكِ الْجَنَّةِ، فَإِذَا أَعَادَ
اللَّهُ الْجَنَّةَ أُدْخِلَهَا. وَقِيلَ: نَشَرُوهُ
بِالْمِنْشَارِ حَتَّى خَرَجَ مِنْ بَيْنِ رِجْلَيْهِ،
فَوَاللَّهِ مَا خَرَجَتْ رُوحُهُ إِلَّا إِلَى الْجَنَّةِ
فدخلها، فذلك قوله:" قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ" وَقَالَ
جَمَاعَةٌ: مَعْنَى" قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ" وَجَبَتْ لَكَ
الْجَنَّةُ، فَهُوَ خَبَرٌ بِأَنَّهُ قَدِ اسْتَحَقَّ دُخُولَ
الْجَنَّةِ: لِأَنَّ دُخُولَهَا يُسْتَحَقُّ بَعْدَ الْبَعْثِ.
__________
(1). القصب المعى.
(15/19)
قُلْتُ: وَالظَّاهِرُ مِنَ الْآيَةِ
أَنَّهُ لَمَّا قُتِلَ قِيلَ لَهُ ادْخُلِ الْجَنَّةَ. قَالَ
قَتَادَةُ: أَدْخَلَهُ اللَّهُ الْجَنَّةَ وَهُوَ فِيهَا حَيٌّ
يُرْزَقُ، أَرَادَ قول تَعَالَى:" وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ
قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ
رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ" [آل عمران: 169] عَلَى مَا تَقَدَّمَ
فِي [آلِ عِمْرَانَ] بَيَانُهُ «1». وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَوْلُهُ تَعَالَى:" قالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ"
مُرَتَّبٌ عَلَى تَقْدِيرِ سُؤَالِ سَائِلٍ عَمَّا وُجِدَ مِنْ
قَوْلٍ عِنْدَ ذَلِكَ الْفَوْزِ الْعَظِيمِ الَّذِي هُوَ" بِما
غَفَرَ لِي رَبِّي" وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ" وقرى" من
المكرمين" وفي معنى تمنيه قولان: أحد هما أَنَّهُ تَمَنَّى
أَنْ يَعْلَمُوا بِحَالِهِ لِيَعْلَمُوا حُسْنَ مَآلِهِ
وَحَمِيدَ عَاقِبَتِهِ. الثَّانِي تَمَنَّى ذَلِكَ
لِيُؤْمِنُوا مِثْلَ إِيمَانِهِ فَيَصِيرُوا إِلَى مِثْلِ
حَالِهِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: نَصَحَ قَوْمَهُ حَيًّا
وَمَيِّتًا. رَفَعَهُ الْقُشَيْرِيُّ فَقَالَ: وَفِي الْخَبَرِ
أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ"
إِنَّهُ نَصَحَ لَهُمْ فِي حَيَاتِهِ وَبَعْدَ مَوْتِهِ".
وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى: سُبَّاقُ الْأُمَمِ ثَلَاثَةٌ
لَمْ يَكْفُرُوا بِاللَّهِ طَرْفَةَ عَيْنٍ، عَلِيُّ بْنُ
أَبِي طَالِبٍ وَهُوَ أَفْضَلُهُمْ، وَمُؤْمِنُ آلِ
فِرْعَوْنَ، وَصَاحِبُ يس، فَهُمُ الصِّدِّيقُونَ. ذَكَرَهُ
الزَّمَخْشَرِيُّ مَرْفُوعًا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ تَنْبِيهٌ
عَظِيمٌ، وَدَلَالَةٌ عَلَى وُجُوبِ كَظْمِ الْغَيْظِ،
وَالْحِلْمِ عَنْ أَهْلِ الْجَهْلِ، وَالتَّرَؤُّفِ عَلَى مَنْ
أَدْخَلَ نَفْسَهُ فِي غِمَارِ الْأَشْرَارِ وَأَهْلِ
الْبَغْيِ، وَالتَّشَمُّرِ فِي تَخْلِيصِهِ، وَالتَّلَطُّفِ
فِي افْتِدَائِهِ، وَالِاشْتِغَالِ بِذَلِكَ عَنِ الشَّمَاتَةِ
بِهِ وَالدُّعَاءِ عَلَيْهِ. أَلَا تَرَى كَيْفَ تَمَنَّى
الْخَيْرَ لِقَتَلَتِهِ، وَالْبَاغِينَ لَهُ الْغَوَائِلَ
وَهُمْ كَفَرَةٌ عَبَدَةُ أَصْنَامٍ، فَلَمَّا قُتِلَ حَبِيبٌ
غَضِبَ اللَّهُ لَهُ وَعَجَّلَ النِّقْمَةَ عَلَى قَوْمِهِ،
فَأَمَرَ جِبْرِيلَ فَصَاحَ بِهِمْ صَيْحَةً فَمَاتُوا عَنْ
آخِرِهِمْ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ:" وَما أَنْزَلْنا عَلى قَوْمِهِ
مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّماءِ وَما كُنَّا
مُنْزِلِينَ" أَيْ مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهِمْ من رسالة ولا
نبي بعد قتله، قال قَتَادَةُ وَمُجَاهِدٌ وَالْحَسَنُ. قَالَ
الْحَسَنُ: الْجُنْدُ الْمَلَائِكَةُ النَّازِلُونَ
بِالْوَحْيِ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ. وَقِيلَ: الْجُنْدُ
الْعَسَاكِرُ، أَيْ لَمْ أَحْتَجْ فِي هَلَاكِهِمْ إِلَى
إِرْسَالِ جُنُودٍ وَلَا جُيُوشٍ وَلَا عَسَاكِرَ بَلْ
أُهْلِكُهُمْ بِصَيْحَةٍ وَاحِدَةٍ. قَالَ مَعْنَاهُ ابْنُ
مَسْعُودٍ وَغَيْرُهُ. فَقَوْلُهُ:" وَما كُنَّا مُنْزِلِينَ"
تَصْغِيرٌ لِأَمْرِهِمْ، أَيْ أَهْلَكْنَاهُمْ بِصَيْحَةٍ
وَاحِدَةٍ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ الرَّجُلِ، أَوْ مِنْ بَعْدِ
رَفْعِهِ إِلَى السَّمَاءِ. وَقِيلَ:" وَما كُنَّا
مُنْزِلِينَ" عَلَى مَنْ كَانَ قَبْلَهُمْ.
__________
(1). راجع ج 4 ص 268 وما بعدها طبعه أولى أو ثانيه.
(15/20)
الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ فَلِمَ
أَنْزَلَ الْجُنُودَ مِنَ السَّمَاءِ يَوْمَ بَدْرٍ
وَالْخَنْدَقِ؟ فَقَالَ:" فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً
وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْها" [الأحزاب 9]، وقال:" بِثَلاثَةِ
آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ" [آل عمران: 24 1]."
بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ" [آل عمران:
125]. قُلْتُ: إِنَّمَا كَانَ يَكْفِي مَلَكٌ وَاحِدٌ، فَقَدْ
أُهْلِكَتْ مَدَائِنُ قَوْمِ لُوطٍ بِرِيشَةٍ مِنْ جَنَاحِ
جِبْرِيلَ، وَبِلَادُ ثَمُودَ وَقَوْمُ صَالِحٍ بِصَيْحَةٍ،
وَلَكِنَّ اللَّهَ فَضَّلَ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ بكل شي عَلَى سَائِرِ الْأَنْبِيَاءِ وَأُولِي
الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ فَضْلًا عَنْ حَبِيبٍ النَّجَّارِ،
وَأَوْلَاهُ مِنْ أَسْبَابِ الْكَرَامَةِ وَالْإِعْزَازِ مَا
لَمْ يُولِهِ أَحَدًا، فَمِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ أَنْزَلَ لَهُ
جُنُودًا مِنَ السَّمَاءِ، وَكَأَنَّهُ أَشَارَ بِقَوْلِهِ:"
وَما أَنْزَلْنا"." وَما كُنَّا مُنْزِلِينَ" إِلَى أَنَّ
إِنْزَالَ الْجُنُودِ مِنْ عَظَائِمِ الْأُمُورِ الَّتِي لَا
يُؤَهَّلُ لَهَا إِلَّا مِثْلُكَ، وَمَا كُنَّا نَفْعَلُ
لِغَيْرِكَ." إِنْ كانَتْ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً" قِرَاءَةُ
الْعَامَّةِ" واحِدَةً" بِالنَّصْبِ عَلَى تَقْدِيرِ مَا
كَانَتْ عُقُوبَتُهُمْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً. وَقَرَأَ
أَبُو جَعْفَرِ بْنُ الْقَعْقَاعِ وَشَيْبَةُ وَالْأَعْرَجُ:"
صَيْحَةٌ" بِالرَّفْعِ هُنَا، وَفِي قَوْلِهِ:" إِنْ كانَتْ
إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً فَإِذا هُمْ جَمِيعٌ" جَعَلُوا
الْكَوْنَ بِمَعْنَى الْوُقُوعِ وَالْحُدُوثِ، فَكَأَنَّهُ
قَالَ: مَا وَقَعَتْ عَلَيْهِمْ إِلَّا صَيْحَةٌ وَاحِدَةٌ.
وَأَنْكَرَ هَذِهِ الْقِرَاءَةَ أَبُو حَاتِمٍ وَكَثِيرٌ مِنَ
النَّحْوِيِّينَ بِسَبَبِ التَّأْنِيثِ فَهُوَ ضَعِيفٌ، كَمَا
تَكُونُ مَا قَامَتْ إِلَّا هِنْدٌ ضَعِيفًا مِنْ حَيْثُ كَانَ
الْمَعْنَى مَا قَامَ أَحَدٌ إِلَّا هِنْدٌ. قَالَ أَبُو
حَاتِمٍ: فَلَوْ كَانَ كَمَا قَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ لَقَالَ:
إِنْ كَانَ إِلَّا صَيْحَةٌ. قَالَ النَّحَّاسُ: لا يمتنع شي
مِنْ هَذَا، يُقَالُ: مَا جَاءَتْنِي إِلَّا جَارِيَتُكَ،
بِمَعْنَى مَا جَاءَتْنِي امْرَأَةٌ أَوْ جَارِيَةٌ إِلَّا
جَارِيَتُكَ. وَالتَّقْدِيرُ فِي الْقِرَاءَةِ بِالرَّفْعِ مَا
قَالَهُ أَبُو إِسْحَاقَ، قَالَ: الْمَعْنَى إِنْ كَانَتْ
عَلَيْهِمْ صَيْحَةٌ إِلَّا صَيْحَةٌ وَاحِدَةٌ، وَقَدَّرَهُ
غَيْرُهُ: مَا وَقَعَ عَلَيْهِمْ إِلَّا صَيْحَةٌ وَاحِدَةٌ.
وَكَانَ بِمَعْنَى وَقَعَ كَثِيرٌ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ.
وَقَرَأَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْأَسْوَدِ- وَيُقَالُ
إِنَّهُ فِي حَرْفِ عبد الله كذلك-" إن كانت إلا زقه واحذ".
وَهَذَا مُخَالِفٌ لِلْمُصْحَفِ. وَأَيْضًا فَإِنَّ اللُّغَةَ
الْمَعْرُوفَةَ زَقَا يَزْقُو إِذَا صَاحَ، وَمِنْهُ
الْمَثَلُ: أَثْقَلُ مِنَ الزَّوَاقِي، فَكَانَ يَجِبُ عَلَى
هَذَا أَنْ يَكُونَ زِقْوَةً. ذَكَرَهُ النَّحَّاسُ.
(15/21)
يَا حَسْرَةً عَلَى
الْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ
يَسْتَهْزِئُونَ (30) أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا
قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لَا
يَرْجِعُونَ (31) وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنَا
مُحْضَرُونَ (32)
قُلْتُ: وَقَالَ الْجَوْهَرِيُّ الزَّقْوُ
وَالزَّقْيُ مَصْدَرٌ، وَقَدْ زَقَا الصَّدَى يَزْقُو زُقَاءً:
أَيْ صَاحَ، وَكُلُّ صَائِحٍ زَاقٍ، وَالزِّقْيَةُ
الصَّيْحَةُ. قُلْتُ: وَعَلَى هَذَا يقال: زقوة وزقية لغتان،
فالقراء صَحِيحَةٌ لَا اعْتِرَاضَ عَلَيْهَا. وَاللَّهُ
أَعْلَمُ." فَإِذا هُمْ خامِدُونَ" أَيْ مَيِّتُونَ
هَامِدُونَ، تَشْبِيهًا بِالرَّمَادِ الخامد. وقال قتادة:
هلكى. والمعنى واحد.
[سورة يس (36): الآيات 30 الى 32]
يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبادِ مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ
إِلاَّ كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (30) أَلَمْ يَرَوْا كَمْ
أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ
لَا يَرْجِعُونَ (31) وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنا
مُحْضَرُونَ (32)
قوله تعالى:" يا حَسْرَةً عَلَى الْعِبادِ" مَنْصُوبٌ،
لِأَنَّهُ نِدَاءُ نَكِرَةٍ وَلَا يَجُوزُ فِيهِ غَيْرُ
النَّصْبِ عِنْدَ الْبَصْرِيِّينَ. وَفِي حَرْفِ أُبَيٍّ" يَا
حَسْرَةَ الْعِبَادِ" عَلَى الْإِضَافَةِ. وَحَقِيقَةُ
الْحَسْرَةِ فِي اللُّغَةِ أَنْ يَلْحَقَ الْإِنْسَانَ مِنَ
النَّدَمِ مَا يَصِيرُ بِهِ حَسِيرًا. وَزَعَمَ الْفَرَّاءُ
أَنَّ الِاخْتِيَارَ النَّصْبُ، وَأَنَّهُ لَوْ رَفَعْتَ
النَّكِرَةَ الْمَوْصُولَةَ بِالصِّلَةِ كَانَ صَوَابًا.
وَاسْتَشْهَدَ بِأَشْيَاءَ مِنْهَا أَنَّهُ سَمِعَ مِنَ
الْعَرَبِ: يَا مُهْتَمُّ بِأَمْرِنَا لَا تَهْتَمَّ.
وَأَنْشَدَ:
يَا دَارُ غَيَّرَهَا الْبِلَى تَغْيِيرَا «1»
قَالَ النَّحَّاسُ: وَفِي هَذَا إِبْطَالُ بَابِ النِّدَاءِ
أَوْ أَكْثَرِهِ، لِأَنَّهُ يَرْفَعُ النَّكِرَةَ الْمَحْضَةَ،
وَيَرْفَعُ مَا هُوَ بِمَنْزِلَةِ الْمُضَافِ فِي طول،
وَيَحْذِفُ التَّنْوِينَ مُتَوَسِّطًا، وَيَرْفَعُ مَا هُوَ
فِي الْمَعْنَى مَفْعُولٌ بِغَيْرِ عِلَّةٍ أَوْجَبَتْ ذَلِكَ.
فَأَمَّا مَا حَكَاهُ عَنِ الْعَرَبِ فَلَا يُشْبِهُ مَا
أَجَازَهُ، لِأَنَّ تَقْدِيرَ يَا مُهْتَمُّ بِأَمْرِنَا لَا
تَهْتَمَّ عَلَى التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ، وَالْمَعْنَى
يَا أَيُّهَا الْمُهْتَمُّ لَا تَهْتَمَّ بِأَمْرِنَا.
وَتَقْدِيرُ الْبَيْتِ: يَا أَيَّتُهَا الدَّارُ، ثُمَّ
حَوَّلَ الْمُخَاطَبَةَ، أَيْ يَا هَؤُلَاءِ غَيَّرَ هَذِهِ
الدَّارَ الْبِلَى، كَمَا قَالَ اللَّهُ جَلَّ وَعَزَّ:"
حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ" [يونس:
22]. فَ" حَسْرَةً" مَنْصُوبٌ عَلَى النِّدَاءِ، كَمَا تَقُولُ
يا رجلا أقبل، ومعنى النداء
__________
(1). البيت للأحوص، وتمامه:
وسفت عليها الريح بعدك مورا
(15/22)
هَذَا مَوْضِعُ حُضُورِ الْحَسْرَةِ.
الطَّبَرِيُّ: الْمَعْنَى يَا حَسْرَةً مِنَ الْعِبَادِ عَلَى
أَنْفُسِهِمْ وَتَنَدُّمًا وَتَلَهُّفًا في استهزائهم برسل
عَلَيْهِمُ السَّلَامُ. ابْنُ عَبَّاسٍ:" يَا حَسْرَةً عَلَى
الْعِبادِ" أَيْ يَا وَيْلًا عَلَى الْعِبَادِ. وَعَنْهُ
أَيْضًا حَلَّ هَؤُلَاءِ مَحَلَّ مَنْ يُتَحَسَّرُ عَلَيْهِمْ.
وَرَوَى الرَّبِيعُ عَنْ أَنَسٍ عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ أن
العباد ها هنا الرُّسُلُ، وَذَلِكَ أَنَّ الْكُفَّارَ لَمَّا
رَأَوُا الْعَذَابَ قَالُوا:" يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبادِ"
فَتَحَسَّرُوا عَلَى قَتْلِهِمْ، وَتَرْكِ الْإِيمَانِ بِهِمْ،
فَتَمَنَّوُا الْإِيمَانَ حِينَ لم ينفعهم الإيمان، وقال
مُجَاهِدٌ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: إِنَّهَا حَسْرَةُ
الْمَلَائِكَةِ عَلَى الْكُفَّارِ حِينَ كَذَّبُوا الرُّسُلَ.
وَقِيلَ:" يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبادِ" مِنْ قَوْلِ
الرَّجُلِ الَّذِي جَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى،
لَمَّا وَثَبَ الْقَوْمُ لِقَتْلِهِ. وَقِيلَ: إِنَّ الرُّسُلَ
الثَّلَاثَةَ هُمُ الَّذِينَ قَالُوا لَمَّا قَتَلَ الْقَوْمُ
ذَلِكَ الرَّجُلَ الَّذِي جَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ
يَسْعَى، وَحَلَّ بِالْقَوْمِ العذاب: يا حسرة على هؤلاء،
كأنهم أمنوا أَنْ يَكُونُوا قَدْ آمَنُوا. وَقِيلَ: هَذَا مِنْ
قَوْلِ الْقَوْمِ قَالُوا لَمَّا قَتَلُوا الرَّجُلَ
وَفَارَقَتْهُمُ الرُّسُلُ، أَوْ قَتَلُوا الرَّجُلَ مَعَ
الرُّسُلِ الثَّلَاثَةِ، عَلَى اخْتِلَافِ الرِّوَايَاتِ: يَا
حَسْرَةً عَلَى هَؤُلَاءِ الرُّسُلِ، وَعَلَى هَذَا الرَّجُلِ،
لَيْتَنَا آمَنَّا بِهِمْ فِي الْوَقْتِ الَّذِي يَنْفَعُ
الْإِيمَانُ وَتَمَّ الْكَلَامُ عَلَى هَذَا، ثُمَّ ابْتَدَأَ
فَقَالَ:" مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ". وَقَرَأَ ابْنُ
هُرْمُزَ وَمُسْلِمُ بْنُ جُنْدَبٍ وَعِكْرِمَةُ:" يَا
حَسْرَهْ عَلَى الْعِبَادِ" بِسُكُونِ الْهَاءِ لِلْحِرْصِ
عَلَى الْبَيَانِ وَتَقْرِيرِ الْمَعْنَى فِي النَّفْسِ، إِذْ
كَانَ مَوْضِعَ وَعْظٍ وَتَنْبِيهٍ وَالْعَرَبُ تَفْعَلُ
ذَلِكَ فِي مِثْلِهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَوْضِعًا
لِلْوَقْفِ. وَمِنْ ذَلِكَ مَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَانَ يَقْطَعُ
قِرَاءَتَهُ حَرْفًا حَرْفًا، حِرْصًا عَلَى الْبَيَانِ
وَالْإِفْهَامِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ" عَلَى الْعِبادِ"
مُتَعَلِّقًا بِالْحَسْرَةِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ
مُتَعَلِّقًا بِمَحْذُوفٍ لَا بِالْحَسْرَةِ، فَكَأَنَّهُ
قَدَّرَ الْوَقْفَ عَلَى الْحَسْرَةِ فَأَسْكَنَ الْهَاءَ،
ثُمَّ قَالَ:" عَلَى الْعِبادِ" أَيْ أَتَحَسَّرُ عَلَى
الْعِبَادِ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالضَّحَّاكِ
وَغَيْرِهِمَا:" يَا حَسْرَةَ الْعِبَادِ" مُضَافٌ بِحَذْفِ"
عَلَى". وَهُوَ خِلَافُ الْمُصْحَفِ. وَجَازَ أَنْ يَكُونَ
مِنْ بَابِ الْإِضَافَةِ إِلَى الْفَاعِلِ فَيَكُونُ
الْعِبَادُ فَاعِلِينَ، كَأَنَّهُمْ إِذَا شَاهَدُوا
الْعَذَابَ تَحَسَّرُوا فَهُوَ كَقَوْلِكَ يَا قِيَامَ زَيْدٍ.
وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مِنْ بَابِ الْإِضَافَةِ إِلَى
الْمَفْعُولِ، فَيَكُونُ الْعِبَادُ مَفْعُولِينَ، فَكَأَنَّ
الْعِبَادَ يَتَحَسَّرُ عَلَيْهِمْ مَنْ يُشْفِقُ لَهُمْ.
وَقِرَاءَةُ مَنْ قَرَأَ:" يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبادِ"
مُقَوِّيَةٌ لهذا المعنى.
(15/23)
قَالَ سِيبَوَيْهِ:" أَنَّ" بَدَلٌ مِنْ"
كَمْ"، وَمَعْنَى كم ها هنا الْخَبَرُ، فَلِذَلِكَ جَازَ أَنْ
يُبْدَلَ مِنْهَا مَا لَيْسَ بِاسْتِفْهَامٍ. وَالْمَعْنَى:
أَلَمْ يَرَوْا أَنَّ الْقُرُونَ الَّذِينَ أَهْلَكْنَاهُمْ
أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لَا يَرْجِعُونَ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ:"
كَمْ" فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا بِ"
يَرَوْا" وَاسْتَشْهَدَ عَلَى هَذَا بِأَنَّهُ فِي قِرَاءَةِ
ابْنِ مَسْعُودٍ" أَلَمْ يَرَوْا مَنْ أَهْلَكْنَا".
وَالْوَجْهُ الْآخَرُ أَنْ يَكُونَ" كَمْ" فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ
بِ" أَهْلَكْنا". قَالَ النَّحَّاسُ: الْقَوْلُ الْأَوَّلُ
مُحَالٌ، لِأَنَّ" كَمْ" لَا يَعْمَلُ فِيهَا مَا قَبْلَهَا،
لِأَنَّهَا اسْتِفْهَامٌ، وَمُحَالٌ أَنْ يَدْخُلَ
الِاسْتِفْهَامُ فِي خَبَرِ مَا قَبْلَهُ. وَكَذَا حُكْمُهَا
إِذَا كَانَتْ خَبَرًا، وَإِنْ كَانَ سِيبَوَيْهِ قَدْ
أَوْمَأَ إِلَى بَعْضِ هَذَا فَجَعَلَ" أَنَّهُمْ" بَدَلًا
مِنْ كَمْ. وَقَدْ رَدَّ ذَلِكَ مُحَمَّدُ بْنُ يَزِيدَ
أَشَدَّ رَدٍّ، وَقَالَ:" كَمْ" فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ بِ"
أَهْلَكْنا" وَ" أَنَّهُمْ" فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ، وَالْمَعْنَى
عِنْدَهُ بِأَنَّهُمْ أَيْ" أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا
قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ" بِالِاسْتِئْصَالِ. قَالَ:
وَالدَّلِيلُ عَلَى هَذَا أَنَّهَا فِي قِرَاءَةِ عَبْدِ
اللَّهِ" مَنْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ
أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لَا يَرْجِعُونَ". وَقَرَأَ الْحَسَنُ:"
إِنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لَا يَرْجِعُونَ" بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ
عَلَى الِاسْتِئْنَافِ. وَهَذِهِ الْآيَةُ رَدٌّ عَلَى مَنْ
زَعَمَ أَنَّ مِنَ الْخَلْقِ مَنْ يَرْجِعُ قَبْلَ
الْقِيَامَةِ بَعْدَ الْمَوْتِ. يُرِيدُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ
لِلْجَزَاءِ. وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ وعاصم وحمزة:" وَإِنْ
كُلٌّ لَمَّا" بتشديد" لَمَّا". وخفف الباقون. فإن مُخَفَّفَةٌ
مِنَ الثَّقِيلَةِ وَمَا بَعْدَهَا مَرْفُوعٌ بِالِابْتِدَاءِ،
وَمَا بَعْدَهُ الْخَبَرُ. وَبَطَلَ عَمَلُهَا حِينَ تَغَيَّرَ
لَفْظُهَا. وَلَزِمَتِ اللَّامُ فِي الْخَبَرِ فَرْقًا
بَيْنَهَا وَبَيْنَ إِنْ الَّتِي بِمَعْنَى مَا." وَمَا"
عِنْدَ أَبِي عُبَيْدَةَ زَائِدَةٌ. وَالتَّقْدِيرُ عِنْدَهُ:
وَإِنْ كُلٌّ لَجَمِيعٌ. قَالَ الْفَرَّاءُ: وَمَنْ شَدَّدَ
جَعَلَ" لَمَّا" بِمَعْنَى إِلَّا وَ" إِنْ" بِمَعْنَى مَا،
أَيْ مَا كُلٌّ إِلَّا لَجَمِيعٌ، كَقَوْلِهِ:" إِنْ هُوَ
إِلَّا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ" [المؤمنون: 25]. وَحَكَى
سِيبَوَيْهِ: فِي قَوْلِهِ سَأَلْتُكَ بِاللَّهِ لَمَا
فَعَلْتَ. وَزَعَمَ الْكِسَائِيُّ أَنَّهُ لَا يُعْرَفُ هَذَا.
وَقَدْ مَضَى هَذَا الْمَعْنَى فِي [هُودٍ «1»]. وَفِي حَرْفِ
أُبَيٍّ" وَإِنْ مِنْهُمْ إِلَّا جَمِيعٌ لَدَيْنَا محضرون".
__________
(1). راجع ج 9 ص 105 وما بعدها طبعه أولى أو ثانيه.
(15/24)
وَآيَةٌ لَهُمُ
الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا
حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ (33) وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ
مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنَ الْعُيُونِ
(34) لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ
أَفَلَا يَشْكُرُونَ (35) سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ
الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ
أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لَا يَعْلَمُونَ (36)
[سورة يس (36): الآيات 33 الى 36]
وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْناها
وَأَخْرَجْنا مِنْها حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ (33)
وَجَعَلْنا فِيها جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ
وَفَجَّرْنا فِيها مِنَ الْعُيُونِ (34) لِيَأْكُلُوا مِنْ
ثَمَرِهِ وَما عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلا يَشْكُرُونَ (35)
سُبْحانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها مِمَّا تُنْبِتُ
الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لَا يَعْلَمُونَ (36)
قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ
أَحْيَيْناها" نَبَّهَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى بِهَذَا عَلَى
إِحْيَاءِ الْمَوْتَى، وَذَكَّرَهُمْ تَوْحِيدَهُ وَكَمَالَ
قُدْرَتِهِ، وَهِيَ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَاهَا
بِالنَّبَاتِ وَإِخْرَاجِ الْحَبِّ مِنْهَا." فَمِنْهُ" أَيْ
مِنَ الْحَبِّ" يَأْكُلُونَ" وَبِهِ يَتَغَذَّوْنَ. وَشَدَّدَ
أَهْلُ الْمَدِينَةِ" الْمَيِّتَةُ" وَخَفَّفَ الْبَاقُونَ
وَقَدْ تَقَدَّمَ «1»." وَجَعَلْنا فِيها" أَيْ فِي
الْأَرْضِ." جَنَّاتٍ" أَيْ بَسَاتِينَ." مِنْ نَخِيلٍ
وَأَعْنابٍ" وَخَصَّصَهُمَا بِالذِّكْرِ، لِأَنَّهُمَا أَعْلَى
الثِّمَارِ." وَفَجَّرْنا فِيها مِنَ الْعُيُونِ" أَيْ فِي
الْبَسَاتِينِ." لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ" الْهَاءُ فِي"
ثَمَرِهِ" تَعُودُ عَلَى مَاءِ الْعُيُونِ، لِأَنَّ الثَّمَرَ
مِنْهُ انْدَرَجَ، قَالَهُ الْجُرْجَانِيُّ وَالْمَهْدَوِيُّ
وَغَيْرُهُمَا. وَقِيلَ: أَيْ لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِ مَا
ذَكَرْنَا، كَمَا قَالَ:" وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ
لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ" [النحل: 66].
وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ:" مِنْ ثُمُرِهِ" بِضَمِّ
الثَّاءِ وَالْمِيمِ. وَفَتَحَهُمَا الْبَاقُونَ. وَعَنِ
الْأَعْمَشِ ضَمُّ الثَّاءِ وَإِسْكَانُ الْمِيمِ. وَقَدْ
مَضَى الْكَلَامُ فِيهِ فِي [الأنعام «2»]." مَا" فِي مَوْضِعِ
خَفْضٍ عَلَى الْعَطْفِ عَلَى" مِنْ ثَمَرِهِ" أَيْ وَمِمَّا
عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ. وَقَرَأَ الْكُوفِيُّونَ:" وَمَا
عَمِلَتْ" بِغَيْرِ هَاءٍ. الْبَاقُونَ" عَمِلَتْهُ" عَلَى
الْأَصْلِ مِنْ غَيْرِ حَذْفٍ. وَحَذْفُ الصِّلَةِ أَيْضًا فِي
الْكَلَامِ كَثِيرٌ لِطُولِ الِاسْمِ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ"
مَا" نَافِيَةً لَا مَوْضِعَ لَهَا فَلَا تَحْتَاجُ إِلَى
صِلَةٍ وَلَا رَاجِعٍ. أَيْ وَلَمْ تَعْمَلْهُ أَيْدِيهِمْ
مِنَ الزَّرْعِ الَّذِي أَنْبَتَهُ اللَّهُ لَهُمْ. وَهَذَا
قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالضَّحَّاكِ وَمُقَاتِلٍ. وَقَالَ
غَيْرُهُمُ: الْمَعْنَى وَمِنَ الَّذِي عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ
أَيْ مِنَ الثِّمَارِ، وَمِنْ أَصْنَافِ الْحَلَاوَاتِ
والأطعمة، ومما
__________
(1). راجع ج 2 ص 216 وما بعدها طبعه ثانيه.
(2). راجع ج 7 ص 49 وما بعدها طبعه أولى أو ثانيه. [ ..... ]
(15/25)
وَآيَةٌ لَهُمُ
اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ
مُظْلِمُونَ (37) وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا
ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (38)
اتَّخَذُوا مِنَ الْحُبُوبِ بِعِلَاجٍ
كَالْخُبْزِ وَالدُّهْنِ الْمُسْتَخْرَجِ مِنَ السُّمْسُمِ
وَالزَّيْتُونِ. وَقِيلَ: يَرْجِعُ ذَلِكَ إِلَى مَا
يَغْرِسُهُ النَّاسُ. رُوِيَ مَعْنَاهُ عَنِ ابْنِ عباس أيضا.
نعمه. نَزَّهَ نَفْسَهُ سُبْحَانَهُ عَنْ قَوْلِ الْكُفَّارِ،
إِذْ عَبَدُوا غَيْرَهُ مَعَ مَا رَأَوْهُ مِنْ نِعَمِهِ
وَآثَارِ قُدْرَتِهِ. وَفِيهِ تَقْدِيرُ الْأَمْرِ، أَيْ
سَبِّحُوهُ وَنَزِّهُوهُ عَمَّا لَا يَلِيقُ بِهِ. وَقِيلَ:
فِيهِ مَعْنَى التَّعَجُّبِ، أَيْ عَجَبًا لِهَؤُلَاءِ فِي
كُفْرِهِمْ مَعَ مَا يُشَاهِدُونَهُ مِنْ هَذِهِ الْآيَاتِ،
وَمَنْ تعجب من شي قَالَ: سُبْحَانَ اللَّه. وَالْأَزْوَاجُ
الْأَنْوَاعُ وَالْأَصْنَافُ، فَكُلُّ زَوْجٍ صِنْفٌ،
لِأَنَّهُ مُخْتَلِفٌ فِي الْأَلْوَانِ وَالطُّعُومِ
وَالْأَشْكَالِ وَالصِّغَرِ وَالْكِبَرِ، فَاخْتِلَافُهَا هُوَ
ازْدِوَاجُهَا. وَقَالَ قَتَادَةُ: يَعْنِي الذَّكَرَ
وَالْأُنْثَى. (مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ) يَعْنِي مِنَ
النَّبَاتِ، لِأَنَّهُ أَصْنَافٌ. (وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ)
يَعْنِي وَخَلَقَ مِنْهُمْ أَوْلَادًا أَزْوَاجًا ذُكُورًا
وَإِنَاثًا. و (مِمَّا لَا يَعْلَمُونَ) أَيْ مِنْ أَصْنَافِ
خَلْقِهِ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَالسَّمَاءِ وَالْأَرْضِ.
ثُمَّ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَا يَخْلُقُهُ لَا يَعْلَمُهُ
الْبَشَرُ وَتَعْلَمُهُ الْمَلَائِكَةُ. وَيَجُوزُ أَلَّا
يَعْلَمَهُ مَخْلُوقٌ. وَوَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ فِي هَذِهِ
الْآيَةِ أَنَّهُ إِذَا انْفَرَدَ بِالْخَلْقِ فلا ينبغي أن
يشرك به.
[سورة يس (36): الآيات 37 الى 38]
وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ فَإِذا
هُمْ مُظْلِمُونَ (37) وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها
ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (38)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ
النَّهارَ) أَيْ وَعَلَامَةٌ دَالَّةٌ على توحيد الله وقدرته
ووجوب إلاهيته. وَالسَّلْخُ: الْكَشْطُ وَالنَّزْعُ، يُقَالُ:
سَلَخَهُ اللَّهُ مِنْ دِينِهِ، ثُمَّ تُسْتَعْمَلُ بِمَعْنَى
الْإِخْرَاجِ. وَقَدْ جَعَلَ ذَهَابَ الضَّوْءِ وَمَجِيءَ
الظُّلْمَةِ كَالسَّلْخِ مِنَ الشَّيْءِ وَظُهُورِ
الْمَسْلُوخِ فَهِيَ اسْتِعَارَةٌ. وَ (مُظْلِمُونَ)
دَاخِلُونَ فِي الظَّلَامِ، يُقَالُ: أَظْلَمْنَا أَيْ
دَخَلْنَا فِي ظَلَامِ اللَّيْلِ، وَأَظْهَرْنَا دَخَلْنَا فِي
وَقْتِ الظُّهْرِ، وَكَذَلِكَ أَصْبَحْنَا وَأَضْحَيْنَا
وَأَمْسَيْنَا. وَقِيلَ:" مِنْهُ" بِمَعْنَى عَنْهُ،
وَالْمَعْنَى نَسْلَخُ عَنْهُ ضِيَاءَ النَّهَارِ." فَإِذا
هُمْ مُظْلِمُونَ" أَيْ فِي ظُلْمَةٍ، لِأَنَّ ضَوْءَ
النَّهَارِ يَتَدَاخَلُ فِي الْهَوَاءِ فَيُضِيءُ فَإِذَا
خَرَجَ منه أظلم.
(15/26)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَالشَّمْسُ تَجْرِي
لِمُسْتَقَرٍّ لَها) يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ تَقْدِيرُهُ وَآيَةٌ
لَهُمُ الشَّمْسُ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الشَّمْسُ
مَرْفُوعًا بِإِضْمَارِ فِعْلٍ يُفَسِّرُهُ الثَّانِي.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَرْفُوعًا بِالِابْتِدَاءِ" تَجْرِي"
فِي مَوْضِعِ الْخَبَرِ أَيْ جَارِيَةٌ. وَفِي صَحِيحِ
مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ قَوْلِهِ عَزَّ
وَجَلَّ:" وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها" قَالَ:"
مُسْتَقَرُّهَا تَحْتَ الْعَرْشِ". وَفِيهِ عَنْ أَبِي ذَرٍّ
أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ
يَوْمًا: (أَتَدْرُونَ أَيْنَ تَذْهَبُ هَذِهِ الشَّمْسُ)
قَالُوا اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ:" إِنَّ هَذِهِ
تَجْرِي حَتَّى تَنْتَهِيَ إِلَى مُسْتَقَرِّهَا تَحْتَ
الْعَرْشِ فَتَخِرُّ سَاجِدَةً فَلَا تَزَالُ كَذَلِكَ حَتَّى
يُقَالَ لَهَا ارْتَفِعِي ارْجِعِي مِنْ حَيْثُ جِئْتِ
فَتَرْجِعُ فَتُصْبِحُ طَالِعَةً مِنْ مَطْلِعِهَا ثُمَّ
تَجْرِي حَتَّى تَنْتَهِيَ إِلَى مُسْتَقَرِّهَا تَحْتَ
الْعَرْشِ فَتَخِرُّ سَاجِدَةً وَلَا تَزَالُ كَذَلِكَ حَتَّى
يُقَالَ لَهَا ارْتَفِعِي ارْجِعِي مِنْ حَيْثُ جِئْتِ
فَتَرْجِعُ فَتُصْبِحُ طَالِعَةً مِنْ مَطْلِعِهَا ثُمَّ
تَجْرِي لَا يَسْتَنْكِرُ النَّاسُ مِنْهَا شَيْئًا حَتَّى
تَنْتَهِيَ إِلَى مُسْتَقَرِّهَا ذَاكَ تَحْتَ الْعَرْشِ
فَيُقَالُ لَهَا ارْتَفِعِي أَصْبِحِي طَالِعَةً مِنْ
مَغْرِبِكِ فَتُصْبِحُ طَالِعَةً مِنْ مَغْرِبِهَا) فَقَالَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:"
أَتَدْرُونَ مَتَى ذَلِكُمْ ذَاكَ حِينَ" لَا يَنْفَعُ نَفْساً
إِيمانُها لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي
إِيمانِها خَيْراً" [الأنعام: 158] (. وَلَفْظُ الْبُخَارِيِّ
عَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَبِي ذَرٍّ حِينَ غَرَبَتِ الشَّمْسُ:"
تَدْرِي أَيْنَ تَذْهَبُ" قُلْتُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ
أَعْلَمُ، قَالَ:" فَإِنَّهَا تَذْهَبُ حَتَّى تَسْجُدَ تَحْتَ
الْعَرْشِ فَتَسْتَأْذِنُ فَيُؤْذَنُ لَهَا وَيُوشِكُ أَنْ
تَسْجُدَ فَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا وَتَسْتَأْذِنَ فَلَا
يُؤْذَنُ لَهَا يُقَالُ لَهَا ارْجِعِي مِنْ حَيْثُ جِئْتِ
فَتَطْلُعُ مِنْ مَغْرِبِهَا فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى:"
وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها ذلِكَ تَقْدِيرُ
الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ". وَلَفْظُ التِّرْمِذِيِّ عَنْ أَبِي
ذَرٍّ قَالَ: دَخَلْتُ الْمَسْجِدَ حِينَ غَابَتِ الشَّمْسُ
وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَالِسٌ.
فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" يَا
أَبَا ذَرٍّ أَتَدْرِي أَيْنَ تَذْهَبُ هَذِهِ" قَالَ قُلْتُ:
اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ:" فَإِنَّهَا تَذْهَبُ
فَتَسْتَأْذِنُ فِي السُّجُودِ فَيُؤْذَنُ لَهَا وَكَأَنَّهَا
قَدْ قِيلَ لَهَا اطْلُعِي مِنْ حَيْثُ جِئْتِ فَتَطْلُعُ مِنْ
مَغْرِبِهَا" قَالَ: ثُمَّ قَرَأَ" ذَلِكَ «1» مُسْتَقَرٌّ
لَهَا" قَالَ وَذَلِكَ قِرَاءَةُ عَبْدِ اللَّهِ. قَالَ أَبُو
عِيسَى: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ.
__________
(1). كذا في الأصول وفى صحيح الترمذي والعلة تحريف، إذ لا تعرف
قراءة بهذا النص، وقراءة عبد الله بن مسعود" والشمس تجرى لا
مستقر لها" كما سيأتي.
(15/27)
وَقَالَ عِكْرِمَةُ: إِنَّ الشَّمْسَ إِذَا
غَرَبَتْ دَخَلَتْ مِحْرَابًا تَحْتَ الْعَرْشِ تُسَبِّحُ
اللَّهَ حَتَّى تُصْبِحَ، فَإِذَا أَصْبَحَتِ اسْتَعْفَتْ
رَبَّهَا مِنَ الْخُرُوجِ فَيَقُولُ لَهَا الرَّبُّ: وَلِمَ
ذَاكَ؟ قَالَتْ: إِنِّي إِذَا خَرَجْتُ عُبِدْتُ مِنْ دُونِكَ.
فَيَقُولُ الرَّبُّ تَبَارَكَ وتعالى: أخرجي فليس عليك من ذاك
شي، سَأَبْعَثُ إِلَيْهِمْ جَهَنَّمَ مَعَ سَبْعِينَ أَلْفَ
مَلَكٍ يَقُودُونَهَا حَتَّى يُدْخِلُوهُمْ فِيهَا. وَقَالَ
الْكَلْبِيُّ وَغَيْرُهُ: الْمَعْنَى تَجْرِي إِلَى أَبْعَدِ
مَنَازِلِهَا فِي الْغُرُوبِ، ثُمَّ تَرْجِعُ إِلَى أَدْنَى
مَنَازِلِهَا، فَمُسْتَقَرُّهَا بُلُوغُهَا الْمَوْضِعَ
الَّذِي لَا تَتَجَاوَزُهُ بَلْ تَرْجِعُ مِنْهُ،
كَالْإِنْسَانِ يَقْطَعُ مَسَافَةً حَتَّى يَبْلُغَ أَقْصَى
مَقْصُودِهِ فيقضي وطره، ثم يرجع إلى منزل الْأَوَّلِ الَّذِي
ابْتَدَأَ مِنْهُ سَفَرَهُ. وَعَلَى تَبْلِيغِ الشَّمْسِ
أَقْصَى مَنَازِلِهَا، وَهُوَ مُسْتَقَرُّهَا إِذَا طَلَعَتِ
الْهَنْعَةَ، وَذَلِكَ الْيَوْمُ أَطْوَلُ الْأَيَّامِ فِي
السَّنَةِ، وَتِلْكَ اللَّيْلَةُ أَقْصَرُ اللَّيَالِي،
فَالنَّهَارُ خَمْسَ عَشْرَةَ سَاعَةً وَاللَّيْلُ تِسْعُ
سَاعَاتٍ، ثُمَّ يَأْخُذُ فِي النُّقْصَانِ وَتَرْجِعُ
الشَّمْسَ، فَإِذَا طَلَعَتِ الثُّرَيَّا اسْتَوَى اللَّيْلُ
وَالنَّهَارُ، وَكُلُّ وَاحِدٍ ثِنْتَا عَشْرَةَ سَاعَةً،
ثُمَّ تَبْلُغُ أَدْنَى مَنَازِلِهَا وَتَطْلُعُ النَّعَائِمَ،
وَذَلِكَ الْيَوْمُ أَقْصَرُ الْأَيَّامِ، وَاللَّيْلُ خَمْسَ
عَشْرَةَ سَاعَةً، حَتَّى إِذَا طَلَعَ فَرْغُ الدَّلْوِ
الْمُؤَخَّرِ اسْتَوَى اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ، فَيَأْخُذُ
اللَّيْلُ مِنَ النَّهَارِ كُلَّ يَوْمٍ عُشْرَ ثُلُثِ
سَاعَةٍ، وَكُلَّ عَشَرَةِ أَيَّامٍ ثُلُثَ سَاعَةٍ، وَكُلَّ
شَهْرٍ سَاعَةً تَامَّةً، حَتَّى يَسْتَوِيَا وَيَأْخُذُ
اللَّيْلُ حَتَّى يَبْلُغَ خَمْسَ عَشْرَةَ سَاعَةً،
وَيَأْخُذُ النَّهَارُ مِنَ اللَّيْلِ كَذَلِكَ. وَقَالَ
الْحَسَنُ: إِنَّ لِلشَّمْسِ فِي السَّنَةِ ثَلَاثَمِائَةٍ
وَسِتِّينَ مَطْلِعًا، تَنْزِلُ فِي كُلِّ يَوْمٍ مَطْلِعًا،
ثُمَّ لَا تَنْزِلُهُ إِلَى الْحَوْلِ، فَهِيَ تَجْرِي فِي
تِلْكَ الْمَنَازِلِ وَهِيَ مُسْتَقَرُّهَا. وَهُوَ مَعْنَى
الَّذِي قَبْلَهُ سَوَاءً. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِنَّهَا
إِذَا غَرَبَتْ وَانْتَهَتْ إِلَى الْمَوْضِعِ الَّذِي لَا
تَتَجَاوَزُهُ اسْتَقَرَّتْ تَحْتَ الْعَرْشِ إِلَى أَنْ
تَطْلُعَ. قُلْتُ: مَا قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ يَجْمَعُ
الْأَقْوَالَ فَتَأَمَّلْهُ. وَقِيلَ: إِلَى انْتِهَاءِ
أَمَدِهَا عِنْدَ انْقِضَاءِ الدُّنْيَا وقرا ابن مسعود وا بن
عَبَّاسٍ" وَالشَّمْسُ تَجْرِي لَا مُسْتَقَرَ لَهَا" أَيْ
إِنَّهَا تَجْرِي فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَا وُقُوفَ
لَهَا وَلَا قَرَارَ، إِلَى أَنْ يُكَوِّرَهَا اللَّهُ يَوْمَ
الْقِيَامَةِ. وَقَدِ احْتَجَّ مَنْ خَالَفَ الْمُصْحَفَ
فَقَالَ: أَنَا أَقْرَأُ بِقِرَاءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ
عَبَّاسٍ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ الْأَنْبَارِيُّ: وَهَذَا
بَاطِلٌ مردود على من نقله، لأن أبا عمر وروى عَنْ مُجَاهِدٍ
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنَ كَثِيرٍ روى
(15/28)
وَالْقَمَرَ
قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ
الْقَدِيمِ (39)
عَنْ مُجَاهِدٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ"
وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها" فَهَذَانَ
السَّنَدَانِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ اللَّذَانِ يَشْهَدُ
بِصِحَّتِهِمَا الْإِجْمَاعُ، يُبْطِلَانِ مَا رُوِيَ
بِالسَّنَدِ الضَّعِيفِ مِمَّا يُخَالِفُ مَذْهَبَ
الْجَمَاعَةِ، وَمَا اتَّفَقَتْ عَلَيْهِ الْأُمَّةُ. قُلْتُ:
وَالْأَحَادِيثُ الثَّابِتَةُ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا تَرُدُّ
قَوْلَهُ، فَمَا أَجْرَأَهُ عَلَى كِتَابِ اللَّهِ، قَاتَلَهُ
اللَّهُ. وَقَوْلُهُ:" لِمُسْتَقَرٍّ لَها" أَيْ إِلَى
مُسْتَقَرِّهَا، وَالْمُسْتَقَرُّ مَوْضِعُ الْقَرَارِ. (ذلِكَ
تَقْدِيرُ) أَيِ الَّذِي ذُكِرَ مِنْ أَمْرِ اللَّيْلِ
وَالنَّهَارِ والشمس تقدير" الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ".
[سورة يس (36): آية 39]
وَالْقَمَرَ قَدَّرْناهُ مَنازِلَ حَتَّى عادَ كَالْعُرْجُونِ
الْقَدِيمِ (39)
فيه ثلاث مسائل: الأولى- قوله تعالى:" وَالْقَمَرَ" يَكُونُ
تَقْدِيرُهُ وَآيَةٌ لَهُمُ الْقَمَرُ. وَيَجُوزُ أَنْ
يَكُونَ" وَالْقَمَرُ" مَرْفُوعًا بِالِابْتِدَاءِ. وَقَرَأَ
الْكُوفِيُّونَ" وَالْقَمَرَ" بِالنَّصْبِ عَلَى إِضْمَارِ
فِعْلٍ وَهُوَ اخْتِيَارُ أَبِي عُبَيْدٍ. قَالَ: لِأَنَّ
قَبْلَهُ فِعْلًا وَبَعْدَهُ فِعْلًا، قَبْلَهُ" نَسْلَخُ"
وَبَعْدَهُ" قَدَّرْناهُ". النَّحَّاسُ: وَأَهْلُ
الْعَرَبِيَّةِ جَمِيعًا فِيمَا عَلِمْتُ عَلَى خِلَافِ مَا
قَالَ: مِنْهُمُ الْفَرَّاءُ قَالَ: الرَّفْعُ أَعْجَبُ
إِلَيَّ، وَإِنَّمَا كَانَ الرَّفْعُ عِنْدَهُمْ أَوْلَى،
لِأَنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلَى مَا قَبْلَهُ وَمَعْنَاهُ وَآيَةٌ
لَهُمُ الْقَمَرُ. وَقَوْلُهُ: إِنَّ قَبْلَهُ" نَسْلَخُ"
فَقَبْلَهُ مَا هُوَ أَقْرَبُ مِنْهُ وَهُوَ" تَجْرِي"
وَقَبْلَهُ" وَالشَّمْسُ" بِالرَّفْعِ. وَالَّذِي ذَكَرَهُ
بَعْدَهُ وَهُوَ" قَدَّرْنَاهُ" قَدْ عَمِلَ فِي الْهَاءِ.
قَالَ أَبُو حَاتِمٍ: الرَّفْعُ أَوْلَى، لِأَنَّكَ شَغَلْتَ
الْفِعْلَ عَنْهُ بِالضَّمِيرِ فَرَفَعْتَهُ بِالِابْتِدَاءِ.
وَيُقَالُ: الْقَمَرُ لَيْسَ هُوَ الْمَنَازِلَ فَكَيْفَ
قَالَ:" قَدَّرْناهُ مَنازِلَ" فَفِي هَذَا جَوَابَانِ:
أَحَدُهُمَا قَدَّرْنَاهُ إذا منازل، مثل:" وَسْئَلِ
الْقَرْيَةَ" [يوسف: 82]. وَالتَّقْدِيرُ الْآخَرُ قَدَّرْنَا
لَهُ مَنَازِلَ ثُمَّ حُذِفَتِ اللَّامُ، وَكَانَ حَذْفُهَا
حَسَنًا لِتَعَدِّي الْفِعْلِ إِلَى مَفْعُولَيْنِ مِثْلَ"
وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا" [الأعراف: 155].
وَالْمَنَازِلُ ثَمَانِيَةٌ وَعِشْرُونَ مَنْزِلًا، يَنْزِلُ
الْقَمَرُ كُلَّ لَيْلَةٍ مِنْهَا بِمَنْزِلٍ، وَهِيَ،
الشَّرَطَانُ. الْبُطَيْنُ. الثُّرَيَّا. الدَّبَرَانُ.
الْهَقْعَةُ. الْهَنْعَةُ. الذِّرَاعُ. النَّثْرَةُ. الطَّرْفُ
الْجَبْهَةُ. الْخَرَاتَانِ. الصُّرْفَةُ. الْعَوَّاءُ.
السِّمَاكُ. الْغَفْرُ. الزُّبَانَيَانِ.
(15/29)
الْإِكْلِيلُ. الْقَلْبُ. الشَّوْلَةُ.
النَّعَائِمُ. الْبَلَدَّةُ. سَعْدُ الذَّابِحِ. سَعْدُ
بُلَعَ. سَعْدُ السُّعُودِ. سَعْدُ الْأَخْبِيَةِ. الْفَرْغُ
المقدم. الفرغ المؤخر. بَطْنُ الْحُوتِ. فَإِذَا صَارَ
الْقَمَرُ فِي آخِرِهَا عَادَ إِلَى أَوَّلِهَا، فَيَقْطَعُ
الْفَلَكَ فِي ثَمَانٍ وَعِشْرِينَ لَيْلَةً. ثُمَّ
يَسْتَسِرُّ ثُمَّ يَطْلُعُ هِلَالًا، فَيَعُودُ فِي قَطْعِ
الْفَلَكِ عَلَى الْمَنَازِلِ، وَهِيَ مُنْقَسِمَةٌ عَلَى
الْبُرُوجِ لِكُلِّ بُرْجٍ مَنْزِلَانِ وَثُلُثٌ. فَلِلْحَمَلِ
الشَّرَطَانُ وَالْبُطَيْنُ وَثُلُثُ الثُّرَيَّا،
وَلِلثَّوْرِ ثُلُثَا الثُّرَيَّا وَالدَّبَرَانِ وَثُلُثَا
الْهَقْعَةِ، ثُمَّ كَذَلِكَ إِلَى سَائِرِهَا. وَقَدْ مَضَى
فِي" الْحِجْرِ" «1» تَسْمِيَةُ الْبُرُوجِ وَالْحَمْدُ
لِلَّهِ. وَقِيلَ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَ الشَّمْسَ
وَالْقَمَرَ مِنْ نَارٍ ثُمَّ كُسِيَا النُّورَ عِنْدَ
الطُّلُوعِ، فَأَمَّا نُورُ الشَّمْسِ فَمِنْ نُورِ الْعَرْشِ،
وَأَمَّا نُورُ الْقَمَرِ فَمِنْ نُورِ الْكُرْسِيِّ، فَذَلِكَ
أَصْلُ الْخِلْقَةِ وَهَذِهِ الْكِسْوَةِ. فَأَمَّا الشَّمْسُ
فَتُرِكَتْ كِسْوَتُهَا عَلَى حَالِهَا لِتُشَعْشِعَ
وَتُشْرِقَ، وَأَمَّا القمر فأمر الروح الأمين جناح عَلَى
وَجْهِهِ فَمَحَا ضَوْءَهُ بِسُلْطَانِ الْجَنَاحِ، وَذَلِكَ
أَنَّهُ رُوحٌ وَالرُّوحُ سُلْطَانُهُ غَالِبٌ عَلَى
الْأَشْيَاءِ. فَبَقِيَ ذَلِكَ الْمَحْوُ عَلَى مَا يَرَاهُ
الْخَلْقُ، ثُمَّ جُعِلَ فِي غِلَافٍ مِنْ مَاءٍ، ثُمَّ جُعِلَ
لَهُ مَجْرًى، فَكُلُّ لَيْلَةٍ يَبْدُو لِلْخَلْقِ مِنْ
ذَلِكَ الْغِلَافِ قَمَرًا بِمِقْدَارِ مَا يُقْمَرُ لَهُمْ
حَتَّى يَنْتَهِيَ بَدْؤُهُ، وَيَرَاهُ الْخَلْقُ بِكَمَالِهِ
وَاسْتِدَارَتِهِ. ثُمَّ لَا يَزَالُ يَعُودُ إِلَى الْغِلَافِ
كل ليلة شي منه فينقص من الرؤية والإفمار بِمِقْدَارِ مَا
زَادَ فِي الْبَدْءِ. وَيَبْتَدِئُ فِي النُّقْصَانِ مِنَ
النَّاحِيَةِ الَّتِي لَا تَرَاهُ الشَّمْسُ وَهِيَ نَاحِيَةُ
الْغُرُوبِ حَتَّى يَعُودَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ، وَهُوَ
الْعِذْقُ الْمُتَقَوِّسُ لِيُبْسِهِ وَدِقَّتِهِ. وَإِنَّمَا
قِيلَ الْقَمَرُ، لِأَنَّهُ يُقْمِرُ أَيْ يُبَيِّضُ الْجَوَّ
بِبَيَاضِهِ إِلَى أَنْ يَسْتَسِرَ. الثَّانِيَةُ-" حَتَّى
عادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ" قَالَ الزَّجَّاجُ: هُوَ
عُودُ الْعِذْقِ الَّذِي عَلَيْهِ الشَّمَارِيخُ، وَهُوَ
فُعْلُونُ مِنَ الِانْعِرَاجِ وَهُوَ الِانْعِطَافُ، أَيْ
سَارَ فِي مَنَازِلِهِ، فَإِذَا كَانَ فِي آخِرِهَا دَقَّ
وَاسْتَقْوَسَ وَضَاقَ حَتَّى صَارَ كَالْعُرْجُونِ. وَعَلَى
هَذَا فَالنُّونُ زَائِدَةٌ. وَقَالَ قَتَادَةُ: هُوَ
الْعِذْقُ الْيَابِسُ الْمُنْحَنِي مِنَ النَّخْلَةِ.
ثَعْلَبٌ:" كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ" قال:" كَالْعُرْجُونِ"
الَّذِي يَبْقَى مِنَ الْكِبَاسَةِ فِي النَّخْلَةِ إِذَا
قُطِعَتْ، وَ" الْقَدِيمِ" الْبَالِي. الْخَلِيلُ: فِي بَابِ
الرُّبَاعِيِّ" الْعُرْجُونُ" أَصْلُ الْعِذْقِ وَهُوَ
أَصْفَرُ عَرِيضٌ يشبه به الهلال إذا انحنى. الجوهري:
__________
(1)." راجع ج 10 ص 9 طبعة أولى أو ثانيه.
(15/30)
الْعُرْجُونُ" أَصْلُ الْعِذْقِ الَّذِي
يَعْوَجُّ وَتُقْطَعُ مِنْهُ الشَّمَارِيخُ فَيَبْقَى عَلَى
النَّخْلِ يَابِسًا، وَعَرْجَنَهُ ضَرَبَهُ بِالْعُرْجُونِ.
فَالنُّونُ عَلَى قَوْلِ هَؤُلَاءِ أَصْلِيَّةٌ، وَمِنْهُ
شِعْرُ أَعْشَى بَنِي قَيْسٍ:
شَرَقُ الْمِسْكِ وَالْعَبِيرِ «1» بها ... وفهي صَفْرَاءُ
كَعُرْجُونِ الْقَمَرْ
فَالْعُرْجُونُ إِذَا عَتَقَ وَيَبِسَ وتوس شُبِّهَ الْقَمَرُ
فِي دِقَّتِهِ وَصُفْرَتِهِ بِهِ. وَيُقَالُ لَهُ أَيْضًا
الْإِهَانُ وَالْكِبَاسَةُ وَالْقِنْوُ، وَأَهْلُ مِصْرَ
يسمونه الإسباطة. وقرى:" الْعِرْجَوْنِ" بِوَزْنِ
الْفِرْجَوْنِ وَهُمَا لُغَتَانِ كَالْبُزْيُونِ «2»
وَالْبِزْيَوْنِ، ذَكَرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ وَقَالَ: هُوَ
عُودُ الْعِذْقِ مَا بَيْنَ شَمَارِيخِهِ إِلَى مَنْبَتِهِ
مِنَ النَّخْلَةِ. وَاعْلَمْ أَنَّ السَّنَةَ مُنْقَسِمَةٌ
عَلَى أَرْبَعَةِ فُصُولٍ، لِكُلِّ فَصْلٍ سَبْعَةُ مَنَازِلَ:
فَأَوَّلُهَا الرَّبِيعُ، وَأَوَّلُهُ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا
مِنْ آذَارَ، وَعَدَدُ أَيَّامِهِ اثْنَانِ وَتِسْعُونَ
يَوْمًا، تَقْطَعُ فِيهِ الشَّمْسُ ثَلَاثَةَ بُرُوجٍ:
الْحَمَلُ، وَالثَّوْرُ، وَالْجَوْزَاءُ، وَسَبْعَةَ
مَنَازِلَ: الشَّرَطَانُ وَالْبُطَيْنُ وَالثُّرَيَّا
وَالدَّبَرَانُ وَالْهَقْعَةُ وَالْهَنْعَةُ وَالذِّرَاعُ.
ثُمَّ يَدْخُلُ فَصْلُ الصَّيْفِ فِي خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا
مِنْ حُزَيْرَانَ، وَعَدَدُ أَيَّامِهِ اثْنَانِ وَتِسْعُونَ
يَوْمًا، تَقْطَعُ الشَّمْسُ فِيهِ ثَلَاثَةَ بُرُوجٍ:
الشَّرَطَانُ، وَالْأَسَدُ، وَالسُّنْبُلَةُ، وَسَبْعَةَ
مَنَازِلَ: وَهِيَ النَّثْرَةُ وَالطَّرْفُ وَالْجَبْهَةُ
وَالْخَرَاتَانِ وَالصُّرْفَةُ وَالْعَوَّاءُ وَالسِّمَاكُ.
ثُمَّ يَدْخُلُ فَصْلُ الْخَرِيفِ فِي خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا
مِنْ أَيْلُولَ، وَعَدَدُ أَيَّامِهِ أَحَدٌ وَتِسْعُونَ
يَوْمًا، تَقْطَعُ فِيهِ الشَّمْسُ ثَلَاثَةَ بُرُوجٍ، وَهِيَ
الْمِيزَانُ، وَالْعَقْرَبُ، وَالْقَوْسُ، وَسَبْعَةَ
مَنَازِلَ الْغَفْرُ وَالزُّبَانَانِ وَالْإِكْلِيلُ
وَالْقَلْبُ وَالشَّوْلَةُ وَالنَّعَائِمُ وَالْبَلْدَةُ.
ثُمَّ يَدْخُلُ فَصْلُ الشِّتَاءِ فِي خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا
مِنْ كَانُونَ الْأَوَّلِ، وَعَدَدُ أَيَّامِهِ تِسْعُونَ
يَوْمًا وَرُبَّمَا كَانَ أَحَدًا وَتِسْعِينَ يَوْمًا،
تَقْطَعُ فِيهِ الشَّمْسُ ثَلَاثَةَ بُرُوجٍ: وَهِيَ الْجَدْيُ
وَالدَّلْوُ وَالْحُوتُ، وَسَبْعَةَ مَنَازِلَ سَعْدَ
الذَّابِحِ وَسَعْدَ بُلَعَ وَسَعْدَ السُّعُودِ وَسَعْدَ
الْأَخْبِيَةِ وَالْفَرْغَ الْمُقَدَّمَ، وَالْفَرْغَ
الْمُؤَخَّرَ وَبَطْنَ الْحُوتِ. وَهَذِهِ قِسْمَةُ
السُّرْيَانِيِّينَ لِشُهُورِهَا: تِشْرِينُ الْأَوَّلُ،
تِشْرِينُ الثَّانِي، كَانُونُ الْأَوَّلُ، كَانُونُ
الثَّانِي، أَشْبَاطُ، آذَارُ، نِيسَانُ، أَيَارُ، حَزِيرَانُ،
تَمُّوزُ، آبٌ، أَيْلُولُ، وَكُلُّهَا أَحَدٌ وَثَلَاثُونَ
إِلَّا تِشْرِينَ الثَّانِيَ وَنِيسَانَ وَحَزِيرَانَ
وَأَيْلُولَ، فَهِيَ ثَلَاثُونَ، وأشباط ثمانية وعشرون يوما
وربع يوم.
__________
(1). كذا في الأصل ولم نعثر عليه في ديوانه، ويحتمل أن يكون:
شرق العنبر والمسك بها.
(2). اليزيون: السندس. وقيل هو رقيق الديباج.
(15/31)
لَا الشَّمْسُ
يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ
سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (40)
وَإِنَّمَا أَرَدْنَا بِهَذَا أَنْ
تَنْظُرَ فِي قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى فَذَلِكَ قَوْلُهُ
تَعَالَى:" وَالْقَمَرَ قَدَّرْناهُ مَنازِلَ" فَإِذَا كَانَتِ
الشَّمْسُ فِي مَنْزِلٍ أَهَلَّ الْهِلَالُ بِالْمَنْزِلِ
الَّذِي بَعْدَهُ، وَكَانَ الْفَجْرُ بِمَنْزِلَتَيْنِ مِنْ
قَبْلِهِ، فَإِذَا كَانَتِ الشَّمْسُ بِالثُّرَيَّا فِي خمسة
وعشرين وما مِنْ نِيسَانَ، كَانَ الْفَجْرُ بِالشَّرَطَيْنِ،
وَأَهَلَّ الْهِلَالُ بِالدَّبَرَانِ، ثُمَّ يَكُونُ لَهُ فِي
كُلِّ لَيْلَةٍ مَنْزِلَةٌ حَتَّى يَقْطَعَ فِي ثَمَانٍ
وَعِشْرِينَ لَيْلَةٍ ثَمَانِيًا وَعِشْرِينَ مَنْزِلَةً.
وَقَدْ قَطَعَتِ الشَّمْسُ مَنْزِلَتَيْنِ فَيَقْطَعُهُمَا،
ثُمَّ يَطْلُعُ فِي الْمَنْزِلَةِ الَّتِي بَعْدَ مَنْزِلَةِ
الشَّمْسِ فَ" ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ".
الثَّالِثَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى:" الْقَدِيمِ" قَالَ
الزَّمَخْشَرِيُّ: الْقَدِيمُ الْمُحْوِلُ وَإِذَا قَدُمَ
دَقَّ وَانْحَنَى وَاصْفَرَّ فَشُبِّهَ الْقَمَرُ بِهِ مِنْ
ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ. وَقِيلَ: أَقَلُّ عدة الموصوف بالقد يم
لحول، فَلَوْ أَنَّ رَجُلًا قَالَ: كُلُّ مَمْلُوكٍ لِي
قَدِيمٍ فَهُوَ حُرٌّ، أَوْ كَتَبَ ذَلِكَ فِي وَصِيَّتِهِ
عَتَقَ مَنْ مَضَى لَهُ حَوْلٌ أَوْ أَكْثَرُ. قُلْتُ: قَدْ
مَضَى فِي" الْبَقَرَةِ" «1» مَا يَتَرَتَّبُ عَلَى
الْأَهِلَّةِ مِنَ الْأَحْكَامِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ.
[سورة يس (36): آية 40]
لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا
اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ
(40)
قَوْلُهُ تَعَالَى:" لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أَنْ
تُدْرِكَ الْقَمَرَ" رُفِعَتِ الشَّمْسُ بِالِابْتِدَاءِ،
وَلَا يَجُوزُ أَنْ تَعْمَلَ" لَا" فِي مَعْرِفَةٍ. وَقَدْ
تكلم العلماءء فِي مَعْنَى هَذِهِ الْآيَةِ، فَقَالَ
بَعْضُهُمْ: مَعْنَاهَا أَنَّ الشَّمْسَ لَا تُدْرِكُ
الْقَمَرَ فَتُبْطِلُ مَعْنَاهُ. أَيْ لِكُلٍ وَاحِدٍ
مِنْهُمَا سُلْطَانٌ عَلَى حِيَالِهِ، فَلَا يَدْخُلُ
أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ فَيُذْهِبُ سُلْطَانَهُ، إِلَى
أَنْ يُبْطِلَ اللَّهُ مَا دَبَّرَ مِنْ ذَلِكَ، فَتَطْلُعُ
الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا عَلَى مَا تقدم في آخر سو ره"
الْأَنْعَامِ" «2» بَيَانُهُ. وَقِيلَ: إِذَا طَلَعَتِ
الشَّمْسُ لَمْ يَكُنْ لِلْقَمَرِ ضَوْءٌ، وَإِذَا طَلَعَ
الْقَمَرُ لَمْ يَكُنْ لِلشَّمْسِ ضَوْءٌ. رُوِيَ مَعْنَاهُ
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالضَّحَّاكِ وَقَالَ مُجَاهِدٌ: أَيْ
لَا يُشْبِهُ ضَوْءُ أَحَدِهِمَا ضَوْءَ الْآخَرِ. وَقَالَ
قَتَادَةُ: لِكُلٍّ حد وعلم لا يعدوه
__________
(1). راجع ج 2 ص 341 وما بعدها طبعه ثانية.
(2). راجع ج 7 ص 145 وما بعدها طبعه أولى أو ثانية.
(15/32)
وَلَا يَقْصُرُ دُونَهُ إِذَا جَاءَ
سُلْطَانُ هَذَا ذَهَبَ سُلْطَانُ هَذَا. وَقَالَ
الْحَسَنُ: إِنَّهُمَا لَا يَجْتَمِعَانِ فِي السَّمَاءِ
لَيْلَةَ الْهِلَالِ خَاصَّةً. أَيْ لَا تَبْقَى الشَّمْسُ
حَتَّى يَطْلُعَ الْقَمَرُ، وَلَكِنْ إِذَا غَرَبَتِ
الشَّمْسُ طَلَعَ الْقَمَرُ. يَحْيَى بْنُ سَلَّامٍ: لَا
تُدْرِكُ الشَّمْسُ الْقَمَرَ لَيْلَةَ الْبَدْرِ خَاصَّةً
لِأَنَّهُ يُبَادِرُ بِالْمَغِيبِ قَبْلَ طُلُوعِهَا.
وَقِيلَ: مَعْنَاهُ إِذَا اجْتَمَعَا فِي السَّمَاءِ كَانَ
أَحَدُهُمَا بَيْنَ يَدَيِ الْآخَرِ فِي مَنَازِلَ لَا
يَشْتَرِكَانِ فِيهَا، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ أَيْضًا.
وَقِيلَ: الْقَمَرُ فِي السَّمَاءِ الدُّنْيَا وَالشَّمْسُ
فِي السَّمَاءِ الرَّابِعَةِ فَهِيَ لَا تُدْرِكُهُ،
ذَكَرَهُ النَّحَّاسُ وَالْمَهْدَوِيُّ. قَالَ
النَّحَّاسُ: وَأَحْسَنُ مَا قِيلَ فِي مَعْنَاهَا
وَأَبْيَنُهُ مِمَّا لَا يُدْفَعُ أَنَّ سَيْرَ الْقَمَرِ
سَيْرٌ سَرِيعٌ وَالشَّمْسُ لَا تُدْرِكُهُ فِي السَّيْرِ
ذَكَرَهُ المهدوي أيضا. فأما قول سبحانه:" وَجُمِعَ
الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ" [القيامة: 9] فَذَلِكَ حِينَ
حَبَسَ الشَّمْسَ عَنِ الطُّلُوعِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ
بَيَانُهُ فِي آخِرِ" الْأَنْعَامِ" «1» وَيَأْتِي فِي
سُورَةِ" الْقِيَامَةِ" أَيْضًا. وَجَمْعُهُمَا عَلَامَةٌ
لِانْقِضَاءِ الدُّنْيَا وَقِيَامِ السَّاعَةِ." وَكُلٌّ"
يَعْنِي مِنَ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَالنُّجُومِ" فِي
فَلَكٍ يَسْبَحُونَ" أَيْ يَجْرُونَ. وَقِيلَ: يَدُورُونَ.
وَلَمْ يَقُلْ تَسْبَحُ، لِأَنَّهُ وَصَفَهَا بِفِعْلِ
مَنْ يَعْقِلُ. وَقَالَ الْحَسَنُ: الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ
وَالنُّجُومُ فِي فَلَكٍ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ
غَيْرُ مُلْصَقَةٍ، وَلَوْ كَانَتْ مُلْصَقَةً مَا جَرَتْ،
ذَكَرَهُ الثعلبي والماوردي. واستدل بعضهم بقول تَعَالَى:"
وَلَا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ" عَلَى أَنَّ النَّهَارَ
مَخْلُوقٌ قَبْلَ اللَّيْلِ، وَأَنَّ اللَّيْلَ لَمْ يسبقه
بخلق. وقيل: كل واحد منهما يجئ وَقْتُهُ وَلَا يَسْبِقُ
صَاحِبَهُ إِلَى أَنْ يُجْمَعَ بَيْنَ الشَّمْسِ
وَالْقَمَرِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، كَمَا قَالَ:" وَجُمِعَ
الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ" وَإِنَّمَا هَذَا التَّعَاقُبُ
الْآنَ لِتَتِمَّ مَصَالِحُ الْعِبَادِ" لِتَعْلَمُوا
عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ" [يونس: 5] وَيَكُونَ
اللَّيْلُ لِلْإِجْمَامِ وَالِاسْتِرَاحَةِ، وَالنَّهَارُ
لِلتَّصَرُّفِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:" وَمِنْ رَحْمَتِهِ
جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ
وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ" [القصص: 73] وَقَالَ:"
وَجَعَلْنا نَوْمَكُمْ سُباتاً" أَيْ رَاحَةً
لِأَبْدَانِكُمْ مِنْ عَمَلِ النَّهَارِ. فَقَوْلُهُ:"
وَلَا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ" أَيْ غَالِبُ
النَّهَارِ، يُقَالُ: سَبَقَ فُلَانٌ فُلَانًا أَيْ
غَلَبَهُ. وَذَكَرَ الْمُبَرِّدُ قَالَ: سَمِعْتُ
عُمَارَةَ يَقْرَأُ:" وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارَ"
فَقُلْتُ مَا هَذَا؟ قَالَ: أَرَدْتُ سَابِقٌ النَّهَارَ
فَحَذَفْتُ التَّنْوِينَ، لِأَنَّهُ أَخَفُّ. قَالَ
النَّحَّاسُ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ" النَّهَارُ"
مَنْصُوبًا بِغَيْرِ تَنْوِينٍ وَيَكُونُ التَّنْوِينُ حذف
لالتقاء الساكنين.
__________
(1). راجع ج 7 ص 146 طبعه أو ثانية.
(15/33)
وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا
حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (41)
وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ (42)
وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلَا صَرِيخَ لَهُمْ وَلَا
هُمْ يُنْقَذُونَ (43) إِلَّا رَحْمَةً مِنَّا وَمَتَاعًا
إِلَى حِينٍ (44)
[سورة يس (36): الآيات 41 الى 44]
وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي
الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (41) وَخَلَقْنا لَهُمْ مِنْ
مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ (42) وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ
فَلا صَرِيخَ لَهُمْ وَلا هُمْ يُنْقَذُونَ (43) إِلاَّ
رَحْمَةً مِنَّا وَمَتاعاً إِلى حِينٍ (44)
قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَآيَةٌ لَهُمْ" يَحْتَمِلُ ثَلَاثَةَ
مَعَانٍ: أَحَدُهَا عِبْرَةٌ لَهُمْ، لِأَنَّ فِي
الْآيَاتِ اعْتِبَارًا. الثَّانِي نِعْمَةٌ عَلَيْهِمْ،
لِأَنَّ فِي الْآيَاتِ إِنْعَامًا. الثَّالِثُ إِنْذَارٌ
لَهُمْ، لِأَنَّ فِي الْآيَاتِ إنذارا." أنا حملنا ذرياتهم
«1» فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ" مِنْ أَشْكَلِ مَا فِي
السُّورَةِ، لِأَنَّهُمْ هُمُ الْمَحْمُولُونَ. فَقِيلَ
الْمَعْنَى وَآيَةٌ لِأَهْلِ مَكَّةَ أَنَّا حَمَلْنَا
ذُرِّيَّةَ الْقُرُونِ الْمَاضِيَةِ" فِي الْفُلْكِ
الْمَشْحُونِ" فَالضَّمِيرَانِ مُخْتَلِفَانِ، ذَكَرَهُ
الْمَهْدَوِيُّ. وَحَكَاهُ النَّحَّاسُ عَنْ عَلِيِّ بْنِ
سُلَيْمَانَ أَنَّهُ سمعه يقوله. وَقِيلَ: الضَّمِيرَانِ
جَمِيعًا لِأَهْلِ مَكَّةَ عَلَى أَنْ يَكُونَ
ذُرِّيَّاتُهُمْ أَوْلَادَهُمْ وَضُعَفَاءَهُمْ،
فَالْفُلْكُ عَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ سَفِينَةُ نُوحٍ.
وَعَلَى الثَّانِي يَكُونُ اسْمًا لِلْجِنْسِ، خَبَّرَ
جَلَّ وَعَزَّ بِلُطْفِهِ وَامْتِنَانِهِ أَنَّهُ خلق
السفن يحمل فيها من يُحْمَلُ فِيهَا مَنْ يَصْعُبُ
عَلَيْهِ الْمَشْيُ وَالرُّكُوبُ من الذمة وَالضُّعَفَاءِ،
فَيَكُونُ الضَّمِيرَانِ عَلَى هَذَا مُتَّفِقَيْنِ.
وَقِيلَ: الذُّرِّيَّةُ الْآبَاءُ وَالْأَجْدَادُ،
حَمَلَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى فِي سَفِينَةِ نُوحٍ عَلَيْهِ
السَّلَامُ، فَالْآبَاءُ ذُرِّيَّةٌ وَالْأَبْنَاءُ
ذُرِّيَّةٌ، بِدَلِيلِ هَذِهِ الْآيَةِ، قَالَهُ أَبُو
عُثْمَانَ. وَسُمِّيَ الْآبَاءُ ذُرِّيَّةً، لِأَنَّ
مِنْهُمْ ذَرْأَ الْأَبْنَاءِ. وَقَوْلٌ رَابِعٌ: أَنَّ
الذُّرِّيَّةَ النُّطَفُ حَمَلَهَا اللَّهُ تَعَالَى فِي
بُطُونِ النِّسَاءِ تَشْبِيهًا بِالْفُلْكِ الْمَشْحُونِ،
قَالَهُ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ، ذَكَرَهُ الْمَاوَرْدِيُّ. وَقَدْ مَضَى فِي"
الْبَقَرَةِ" «2» اشْتِقَاقُ الذُّرِّيَّةِ وَالْكَلَامُ
فِيهَا مُسْتَوْفًى. وَ" الْمَشْحُونِ" الْمَمْلُوءُ
الْمُوَقَّرُ وَ" الْفُلْكِ" يَكُونُ وَاحِدًا وَجَمْعًا.
وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي" يُونُسَ" «3» الْقَوْلُ فِيهِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَخَلَقْنا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا
يَرْكَبُونَ" وَالْأَصْلُ يَرْكَبُونَهُ فَحُذِفَتِ
الْهَاءُ لِطُولِ الِاسْمِ «4» وَأَنَّهُ رَأْسُ آيَةٍ.
وَفِي مَعْنَاهُ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ: مَذْهَبُ مجاهد
وقتادة وجماعة من أهل التفسير،
__________
(1)." ذرياتهم" بالجمع قراءة نافع.
(2). راجع ج 2 ص 107 وما بعدها طبعه ثانية.
(3). راجع ج 8 ص 324 طبعه أو ثانية.
(4). كذا في كل نسخ الأصل وفى إعراب القرآن المنحاس:
(15/34)
وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ
مَعْنَى" مِنْ مِثْلِهِ" لِلْإِبِلِ، خَلَقَهَا لَهُمْ
لِلرُّكُوبِ فِي الْبَرِّ مِثْلَ السُّفُنِ الْمَرْكُوبَةِ
فِي الْبَحْرِ، وَالْعَرَبُ تُشَبِّهُ الْإِبِلَ
بِالسُّفُنِ. قَالَ طَرَفَةُ:
كَأَنَّ حُدُوجَ الْمَالِكِيَّةِ غدوة ... وخلايا سَفِينٍ
بِالنَّوَاصِفِ مِنْ دَدِ «1»
جَمْعُ خَلِيَّةٍ وَهِيَ السَّفِينَةُ الْعَظِيمَةُ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي أَنَّهُ لِلْإِبِلِ وَالدَّوَابِّ
وَكُلِّ مَا يُرْكَبُ. وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ أَنَّهُ
لِلسُّفُنِ، النَّحَّاسُ: وَهُوَ أَصَحُّهَا لِأَنَّهُ
مُتَّصِلُ الْإِسْنَادِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ." وَخَلَقْنا
لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ" قَالَ: خَلَقَ
لَهُمْ سُفُنًا أَمْثَالَهَا يَرْكَبُونَ فِيهَا. وَقَالَ
أَبُو مَالِكٍ: إِنَّهَا السُّفُنُ الصِّغَارُ خَلَقَهَا
مِثْلَ السُّفُنِ الْكِبَارِ، وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ
عَبَّاسٍ وَالْحَسَنِ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ وَغَيْرُهُ:
هِيَ السُّفُنُ الْمُتَّخَذَةُ بَعْدَ سَفِينَةِ نُوحٍ.
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَيَجِيءُ عَلَى مُقْتَضَى
تَأْوِيلِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي أَنَّ
الذُّرِّيَّةَ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ هِيَ النُّطَفُ
فِي بُطُونِ النِّسَاءِ قَوْلٌ خَامِسٌ فِي قَوْلِهِ:"
وَخَلَقْنا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ" أَنْ
يَكُونَ تَأْوِيلُهُ النِّسَاءُ خُلِقْنَ لِرُكُوبِ
الْأَزْوَاجِ لَكِنْ لَمْ أَرَهُ مَحْكِيًّا. قَوْلُهُ
تَعَالَى:" وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ" أَيْ فِي
الْبَحْرِ فَتَرْجِعُ الْكِنَايَةُ إِلَى أَصْحَابِ
الذُّرِّيَّةِ، أَوْ إِلَى الْجَمِيعِ، وَهَذَا يدل على
صحت قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمَنْ قَالَ إِنَّ الْمُرَادَ"
مِنْ مِثْلِهِ" السُّفُنُ لَا الْإِبِلُ." فَلا صَرِيخَ
لَهُمْ" أَيْ لَا مُغِيثَ لَهُمْ رَوَاهُ سَعِيدٌ عَنْ
قَتَادَةَ. وَرَوَى شَيْبَانُ عَنْهُ فَلَا مَنَعَةَ
لَهُمْ وَمَعْنَاهُمَا مُتَقَارِبَانِ. وَ" صَرِيخَ"
بِمَعْنَى مُصْرِخٍ فَعِيلٌ بِمَعْنَى فَاعِلٍ. وَيَجُوزُ"
فَلَا صَرِيخٌ لَهُمْ"، لِأَنَّ بَعْدَهُ مَا لَا يَجُوزُ
فِيهِ إِلَّا الرَّفْعُ، لِأَنَّهُ مَعْرِفَةٌ وَهُوَ"
وَلا هُمْ يُنْقَذُونَ" وَالنَّحْوِيُّونَ يَخْتَارُونَ
لَا رَجُلَ فِي الدَّارِ وَلَا زيد. وَمَعْنَى:"
يُنْقَذُونَ" يُخَلَّصُونَ مِنَ الْغَرَقِ. وَقِيلَ: مِنَ
العذاب." إِلَّا رَحْمَةً مِنَّا" قَالَ الْكِسَائِيُّ:
هُوَ نَصْبٌ عَلَى الِاسْتِثْنَاءِ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ:
نَصْبُ مَفْعُولٍ مِنْ أَجَلِهِ، أَيْ لِلرَّحْمَةِ"
وَمَتاعاً" مَعْطُوفٌ عَلَيْهِ." إِلى حِينٍ" إِلَى
الْمَوْتِ، قَالَهُ قَتَادَةُ. يَحْيَى بْنُ سَلَّامٍ:
إِلَى الْقِيَامَةِ أَيْ إِلَّا أَنْ نَرْحَمَهُمْ
وَنُمَتِّعَهُمْ إِلَى آجَالِهِمْ، وَأَنَّ اللَّهَ
عَجَّلَ عَذَابَ الْأُمَمِ السَّالِفَةِ، وَأَخَّرَ
عَذَابَ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ وان كذبوه إلى الموت والقيامة.
__________
(1). الحدوج حدج وهو مركب من مراكب النساء. والمالكية
منسوبة إلى مالك بن سعد بن ضبيعة. والتواصف جمع نا صفة وهى
الرحبة الواسعة تكون في الوادي. ودد موضع.
(15/35)
وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ
اتَّقُوا مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَمَا خَلْفَكُمْ
لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (45) وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ
آيَةٍ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كَانُوا عَنْهَا
مُعْرِضِينَ (46) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا
رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ
آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ
إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (47)
وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ
صَادِقِينَ (48) مَا يَنْظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً
وَاحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ (49) فَلَا
يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلَا إِلَى أَهْلِهِمْ
يَرْجِعُونَ (50)
[سورة يس (36): الآيات 45 الى 50]
وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَما
خَلْفَكُمْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (45) وَما تَأْتِيهِمْ
مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ إِلاَّ كانُوا عَنْها
مُعْرِضِينَ (46) وَإِذا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا
رَزَقَكُمُ اللَّهُ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ
آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ
إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (47)
وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ
(48) مَا يَنْظُرُونَ إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً
تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ (49)
فَلا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلا إِلى أَهْلِهِمْ
يَرْجِعُونَ (50)
قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا مَا
بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَما خَلْفَكُمْ" قَالَ قَتَادَةُ:
يَعْنِي" اتَّقُوا مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ" أَيْ مِنَ
الْوَقَائِعِ فِيمَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ مِنَ الْأُمَمِ"
وَما خَلْفَكُمْ" مِنَ الْآخِرَةِ. ابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ
جُبَيْرٍ وَمُجَاهِدٌ:" مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ" مَا مَضَى
مِنَ الذُّنُوبِ" وَما خَلْفَكُمْ" مَا يَأْتِي مِنَ
الذُّنُوبِ. الْحَسَنُ:" مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ" مَا
مَضَى مِنْ أَجَلِكُمْ" وَما خَلْفَكُمْ" مَا بَقِيَ
مِنْهُ. وَقِيلَ:" مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ" مِنَ
الدُّنْيَا،" وَما خَلْفَكُمْ" مِنْ عَذَابِ الْآخِرَةِ،
قال سُفْيَانُ. وَحَكَى عَكْسَ هَذَا الْقَوْلِ
الثَّعْلَبِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. قَالَ:" مَا بَيْنَ
أَيْدِيكُمْ" مِنْ أَمْرِ الْآخِرَةِ وَمَا عَمِلُوا
لَهَا،" وَما خَلْفَكُمْ" مِنْ أَمْرِ الدُّنْيَا
فَاحْذَرُوهَا وَلَا تَغْتَرُّوا بِهَا. وَقِيلَ:" مَا
بَيْنَ أَيْدِيكُمْ" مَا ظَهَرَ لَكُمْ" وَما خَلْفَكُمْ"
مَا خَفِيَ عَنْكُمْ. وَالْجَوَابُ مَحْذُوفٌ
وَالتَّقْدِيرُ إِذَا قِيلَ لَهُمْ ذَلِكَ أَعْرَضُوا،
دَلِيلُهُ قول بَعْدُ:" وَما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ
آياتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ"
فَاكْتَفَى بِهَذَا عَنْ ذَلِكَ. قَوْلُهُ تَعَالَى:"
وَإِذا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ
اللَّهُ" أَيْ تَصَدَّقُوا عَلَى الْفُقَرَاءِ. قَالَ
الْحَسَنُ: يَعْنِي الْيَهُودَ أُمِرُوا بِإِطْعَامِ
الْفُقَرَاءِ. وَقِيلَ: هُمُ الْمُشْرِكُونَ قَالَ لَهُمْ
فُقَرَاءَ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: أَعْطُونَا مَا زَعَمْتُمْ مِنْ أَمْوَالِكُمْ
أَنَّهَا لِلَّهِ، وَذَلِكَ قَوْلُهُ:" وَجَعَلُوا لِلَّهِ
مِمَّا
(15/36)
ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعامِ
نَصِيباً"
[الأنعام: 136] فَحَرَمُوهُمْ وَقَالُوا: لَوْ شَاءَ
اللَّهُ أَطْعَمَكُمْ- اسْتِهْزَاءً- فلا نطعمكم حتى
ترجعوا إلى ديننا. قالوا" أَنُطْعِمُ" أَيْ أَنَرْزُقُ"
مَنْ لَوْ يَشاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ" كَانَ بَلَغَهُمْ
مِنْ قَوْلِ الْمُسْلِمِينَ: أَنَّ الرَّازِقَ هُوَ
اللَّهُ. فَقَالُوا هُزْءًا أَنَرْزُقُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ
اللَّهُ أَغْنَاهُ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: كَانَ
بِمَكَّةَ زَنَادِقَةٌ، فَإِذَا أُمِرُوا بِالصَّدَقَةِ
عَلَى الْمَسَاكِينِ قَالُوا: لَا وَاللَّهِ أَيُفْقِرُهُ
اللَّهُ وَنُطْعِمُهُ نَحْنُ. وَكَانُوا يَسْمَعُونَ
الْمُؤْمِنِينَ يُعَلِّقُونَ أَفْعَالَ اللَّهِ تَعَالَى
بِمَشِيئَتِهِ فَيَقُولُونَ: لَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَغْنَى
فُلَانًا، وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَعَزَّ، وَلَوْ شَاءَ
اللَّهُ لَكَانَ كَذَا. فَأَخْرَجُوا هَذَا الْجَوَابَ
مَخْرَجَ الِاسْتِهْزَاءِ بِالْمُؤْمِنِينَ، وَبِمَا
كَانُوا يَقُولُونَهُ مِنْ تَعْلِيقِ الْأُمُورِ
بِمَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى. وَقِيلَ: قَالُوا هَذَا
تَعَلُّقًا بِقَوْلِ الْمُؤْمِنِينَ لَهُمْ:" أَنْفِقُوا
مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ" أَيْ فَإِذَا كَانَ اللَّهُ
رَزَقَنَا فَهُوَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَرْزُقَكُمْ فَلِمَ
تَلْتَمِسُونَ الرِّزْقَ مِنَّا؟. وَكَانَ هَذَا
الِاحْتِجَاجُ بَاطِلًا، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى إِذَا
مَلَّكَ عَبْدًا مَالًا ثُمَّ أَوْجَبَ عَلَيْهِ فِيهِ
حَقًّا فَكَأَنَّهُ انْتَزَعَ ذَلِكَ الْقَدْرَ مِنْهُ،
فَلَا مَعْنَى لِلِاعْتِرَاضِ. وَقَدْ صَدَقُوا فِي
قَوْلِهِمْ: لَوْ شَاءَ اللَّهُ أَطْعَمَهُمْ وَلَكِنْ
كَذَبُوا فِي الِاحْتِجَاجِ. وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ:"
سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللَّهُ ما
أَشْرَكْنا" [الأنعام: 148]، وَقَوْلُهُ:" قالُوا نَشْهَدُ
إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ
لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ
لَكاذِبُونَ" [المنافقون: 1]." إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي
ضَلالٍ مُبِينٍ" قِيلَ هُوَ مِنْ قَوْلِ الْكُفَّارِ
لِلْمُؤْمِنِينَ، أَيْ فِي سُؤَالِ الْمَالِ وَفِي
اتِّبَاعِكُمْ مُحَمَّدًا. قَالَ مَعْنَاهُ مُقَاتِلٌ
وَغَيْرُهُ. وَقِيلَ: هُوَ مِنْ قَوْلِ أَصْحَابِ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهُمْ.
وَقِيلَ: مِنْ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى لِلْكُفَّارِ حِينَ
رَدُّوا بهذا الجو أب. وَقِيلَ: أَنَّ أَبَا بَكْرٍ
الصِّدِّيقَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَانَ يُطْعِمُ
مَسَاكِينَ الْمُسْلِمِينَ فَلَقِيَهُ أَبُو جَهْلٍ
فَقَالَ: يَا أَبَا بَكْرٍ أَتَزْعُمُ أَنَّ اللَّهَ
قَادِرٌ عَلَى إِطْعَامِ هَؤُلَاءِ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ:
فَمَا بَالُهُ لَمْ يُطْعِمْهُمْ؟ قَالَ: ابْتَلَى قَوْمًا
بِالْفَقْرِ، وَقَوْمًا بِالْغِنَى، وَأَمَرَ الْفُقَرَاءَ
بِالصَّبْرِ، وا مر الْأَغْنِيَاءَ بِالْإِعْطَاءِ.
فَقَالَ: وَاللَّهِ يَا أَبَا بَكْرٍ مَا أَنْتَ إِلَّا
فِي ضَلَالٍ أَتَزْعُمُ أَنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى
إِطْعَامِ هَؤُلَاءِ وَهُوَ لَا يُطْعِمُهُمْ ثُمَّ
تُطْعِمُهُمْ أَنْتَ؟ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ،
وَنَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى:" فَأَمَّا مَنْ أَعْطى
وَاتَّقى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى " [الليل: 6 - 5]
الْآيَاتِ. وَقِيلَ: نَزَلَتِ الْآيَةُ فِي قَوْمٍ مِنَ
الزَّنَادِقَةِ، وَقَدْ كَانَ فِيهِمْ أَقْوَامٌ
يَتَزَنْدَقُونَ فَلَا يؤمنون بالصانع واستهزء وا
بالمسلمين بهذا القول، ذكره القشيري والماوردي.
(15/37)
قوله تعالى:" وَيَقُولُونَ مَتى هذَا
الْوَعْدُ" لَمَّا قِيلَ لَهُمُ:" اتَّقُوا مَا بَيْنَ
أَيْدِيكُمْ وَما خَلْفَكُمْ" قَالُوا:" مَتى هذَا
الْوَعْدُ" وَكَانَ هَذَا اسْتِهْزَاءً مِنْهُمْ أَيْضًا
أَيْ لَا تَحْقِيقَ لِهَذَا الْوَعِيدِ. قَالَ اللَّهُ
تَعَالَى:" مَا يَنْظُرُونَ" أَيْ مَا يَنْتَظِرُونَ"
إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً" وَهِيَ نَفْخَةُ إِسْرَافِيلَ"
تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ" أَيْ يَخْتَصِمُونَ فِي
أُمُورِ دُنْيَاهُمْ فَيَمُوتُونَ فِي مَكَانِهِمْ،
وَهَذِهِ نَفْخَةُ الصَّعْقِ. وَفِي" يَخِصِّمُونَ" خَمْسُ
قِرَاءَاتٍ: قَرَأَ أَبُو عَمْرٍو وَابْنُ كثير" وهم
يختصمون" بِفَتْحِ الْيَاءِ وَالْخَاءِ وَتَشْدِيدِ
الصَّادِ. وَكَذَا رَوَى وَرْشٌ عَنْ نَافِعٍ. فَأَمَّا
أَصْحَابُ الْقِرَاءَاتِ وَأَصْحَابُ نافع سوى ورش فرو وا
عنه" يختصمون" بِإِسْكَانِ الْخَاءِ وَتَشْدِيدِ الصَّادِ
عَلَى الْجَمْعِ بَيْنَ ساكنين. وقرا عاصم والكسائي" وهم
يختصمون" بإسكان الخاء
وتخفيف الصَّادِ مِنْ خَصَمَهُ. وَقَرَأَ عَاصِمٌ
وَالْكِسَائِيُّ" وَهُمْ يختصمون" بكسر الخاء وتشديد الصاد
ومعناه يختصم بَعْضُهُمْ بَعْضًا. وَقِيلَ: تَأْخُذُهُمْ
وَهُمْ عِنْدَ أَنْفُسِهِمْ يَخْتَصِمُونَ فِي الْحُجَّةِ
أَنَّهُمْ لَا يُبْعَثُونَ. وَقَدْ رَوَى ابْنُ جُبَيْرٍ
عَنْ أَبِي بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ وَحَمَّادٌ عَنْ عَاصِمٍ
كَسْرَ الْيَاءِ وَالْخَاءِ والتشديد. قال النحاس: القراءة
الولي أَبْيَنُهَا وَالْأَصْلُ فِيهَا يَخْتَصِمُونَ
فَأُدْغِمَتِ التَّاءُ فِي الصَّادِ فَنُقِلَتْ
حَرَكَتُهَا إِلَى الْخَاءِ- وَفِي حَرْفِ بى" وَهُمْ
يَخْتَصِمُونَ"- وَإِسْكَانُ الْخَاءِ لَا يَجُوزُ،
لِأَنَّهُ جمع بين ساكنين وليس أحد هما حَرْفَ مَدٍّ
وَلِينٍ. وَقِيلَ: أَسْكَنُوا الْخَاءَ عَلَى أَصْلِهَا،
وَالْمَعْنَى يَخْصِمُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا فَحُذِفَ
الْمُضَافُ، وَجَازَ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى يَخْصِمُونَ
مُجَادِلَهُمْ عِنْدَ أَنْفُسِهِمْ فَحُذِفَ الْمَفْعُولُ،
قَالَ الثَّعْلَبِيُّ: وَهِيَ قِرَاءَةُ أُبَيِّ بْنِ
كَعْبٍ. قَالَ النَّحَّاسُ: فَأَمَّا" يَخِصِّمُونَ"
فَالْأَصْلُ فِيهِ أَيْضًا يَخْتَصِمُونَ، فَأُدْغِمَتِ
التَّاءُ فِي الصَّادِ ثُمَّ كُسِرَتِ الْخَاءُ
لِالْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ. وَزَعَمَ الْفَرَّاءُ أَنَّ
هَذِهِ الْقِرَاءَةَ أَجْوَدُ وَأَكْثَرُ، فَتَرَكَ مَا
هُوَ أَوْلَى مِنْ إِلْقَاءِ حَرَكَةِ التَّاءِ عَلَى
الْخَاءِ وَاجْتَلَبَ لَهَا حَرَكَةً أُخْرَى وَجَمَعَ
بَيْنَ يَاءٍ وَكَسْرَةٍ، وَزَعَمَ أَنَّهُ أَجْوَدُ
وَأَكْثَرُ. وَكَيْفَ يَكُونُ أَكْثَرَ وَبِالْفَتْحِ
قِرَاءَةُ الْخَلْقِ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ وَأَهْلِ
الْبَصْرَةِ وَأَهْلِ الْمَدِينَةِ! وَمَا رُوِيَ عَنْ
عَاصِمٍ مِنْ كَسْرِ الْيَاءِ وَالْخَاءِ فَلِلْإِتْبَاعِ.
وَقَدْ مَضَى هَذَا فِي" الْبَقَرَةِ" «1» فِي" يَخْطَفُ
أَبْصارَهُمْ"
__________
(1). انظر ج 1 ص 291 طبعه ثانية أو ثالثة.
(15/38)
وَنُفِخَ فِي الصُّورِ
فَإِذَا هُمْ مِنَ الْأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ
يَنْسِلُونَ (51) قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا
مِنْ مَرْقَدِنَا هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ
الْمُرْسَلُونَ (52) إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً
وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ
(53) فَالْيَوْمَ لَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَلَا
تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (54)
وفى" يونس" «1» في" يَهْدِي". وَقَالَ
عِكْرِمَةُ فِي قَوْلِهِ جَلَّ وَعَزَّ" إِلَّا صَيْحَةً
واحِدَةً" قَالَ: هِيَ النَّفْخَةُ الْأُولَى فِي
الصُّورِ. وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: يُنْفَخُ فِي
الصُّوَرِ وَالنَّاسُ فِي أَسْوَاقِهِمْ، فَمِنْ حَالِبٍ
لِقْحَةً، وَمِنْ ذَارِعٍ ثَوْبًا، وَمِنْ مَارٍّ فِي
حَاجَةٍ. وَرَوَى نُعَيْمٌ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" تَقُومُ
السَّاعَةُ وَالرَّجُلَانِ قَدْ نَشَرَا ثَوْبَهُمَا
يَتَبَايَعَانِهِ فَلَا يَطْوِيَانِهِ حَتَّى تَقُومَ
السَّاعَةُ، وَالرَّجُلُ يَلِيطُ «2» حَوْضَهُ لِيَسْقِيَ
مَاشِيَتَهُ فَمَا يَسْقِيهَا حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ
وَالرَّجُلُ يَخْفِضُ مِيزَانَهُ فَمَا يَرْفَعُهُ حَتَّى
تَقُومَ السَّاعَةُ، وَالرَّجُلُ يَرْفَعُ أكلته إلى فيه
فما يتبلعها حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ (. وَفِي حَدِيثِ
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو:" وَأَوَّلُ مَنْ يَسْمَعُهُ
رَجُلٌ يَلُوطُ حَوْضَ إِبِلِهِ- قَالَ- فَيُصْعَقُ
وَيُصْعَقُ النَّاسُ" الْحَدِيثَ." فَلا يَسْتَطِيعُونَ
تَوْصِيَةً" أَيْ لَا يَسْتَطِيعُ بَعْضُهُمْ أن يوصى تعضا
لِمَا فِي يَدِهِ مِنْ حَقٍّ. وَقِيلَ: لَا يَسْتَطِيعُ
أَنْ يُوصِيَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا بِالتَّوْبَةِ
وَالْإِقْلَاعِ بَلْ يَمُوتُونَ فِي أَسْوَاقِهِمْ
وَمَوَاضِعِهِمْ." وَلا إِلى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ"
إِذَا مَاتُوا. وَقِيلَ: إِنَّ مَعْنَى" وَلا إِلى
أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ" لَا يَرْجِعُونَ إِلَيْهِمْ
قَوْلًا. وَقَالَ قَتَادَةُ:" وَلا إِلى أَهْلِهِمْ
يَرْجِعُونَ" أَيْ إِلَى مَنَازِلِهِمْ، لِأَنَّهُمْ قَدْ
أُعْجِلُوا عَنْ ذلك.
[سورة يس (36): الآيات 51 الى 54]
وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذا هُمْ مِنَ الْأَجْداثِ إِلى
رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ (51) قالُوا يَا وَيْلَنا مَنْ
بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمنُ
وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ (52) إِنْ كانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً
واحِدَةً فَإِذا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ (53)
فَالْيَوْمَ لَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَلا تُجْزَوْنَ
إِلاَّ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (54)
قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَنُفِخَ فِي الصُّورِ" هَذِهِ
النَّفْخَةُ الثَّانِيَةُ لِلنَّشْأَةِ. وَقَدْ بَيَّنَّا
فِي سُورَةِ" النَّمْلِ" «3» أَنَّهُمَا نَفْخَتَانِ لَا
ثَلَاثٌ. وَهَذِهِ الآية دالء على ذلك. وروى المبارك بن
__________
(1). راجع ج 8 ص 341 طبعه أولى أو ثانيه. [ ..... ]
(2). يليط حوضه وفى رواية بلوط حوضه أي يطينه.
(3). راجع ج 13 ص 239 طبعه أولى أو ثانيه.
(15/39)
فَضَالَةَ عَنِ الْحَسَنِ قَالَ قَالَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:"
بَيْنَ النَّفْخَتَيْنِ أَرْبَعُونَ سَنَةً الْأُولَى
يُمِيتُ اللَّهُ بِهَا كُلَّ حَيٍّ وَالْأُخْرَى يُحْيِي
اللَّهُ بِهَا كُلَّ مَيِّتٍ". وَقَالَ قَتَادَةُ:
الصُّورُ جَمْعُ صُورَةٍ، أَيْ نُفِخَ فِي الصور الأرواح.
وصورة وصور مثل سورة، قَالَ الْعَجَّاجُ:
وَرُبَّ ذِي سُرَادِقٍ مَحْجُورِ ... سِرْتُ إِلَيْهِ فِي
أَعَالِي السُّورِ
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ قَرَأَ"
وَنُفِخَ فِي الصُّورِ". النَّحَّاسُ: وَالصَّحِيحُ أَنَّ"
الصُّورَ" بِإِسْكَانِ الْوَاوِ. الْقَرْنُ، جَاءَ
بِذَلِكَ التَّوْقِيفُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَذَلِكَ مَعْرُوفٌ فِي
كَلَامِ الْعَرَبِ. أَنْشَدَ أَهْلُ اللُّغَةِ:
نَحْنُ نَطَحْنَاهُمْ غَدَاةَ الْغُورَيْنِ ...
بِالضَّابِحَاتِ فِي غُبَارِ النَّقْعَيْنِ
نَطْحًا شَدِيدًا لَا كَنَطْحِ الصُّورَيْنِ
وَقَدْ مَضَى هَذَا فِي" الْأَنْعَامِ" «1» مُسْتَوْفًى."
فَإِذا هُمْ مِنَ الْأَجْداثِ" أَيِ القبور. وقرى
بِالْفَاءِ" مِنَ الْأَجْدَافِ" ذَكَرَهُ
الزَّمَخْشَرِيُّ. يُقَالُ جَدَثٌ وَجَدَفٌ. وَاللُّغَةُ
الْفَصِيحَةُ الْجَدَثُ بِالثَّاءِ وَالْجَمْعُ أَجْدُثٌ
وَأَجْدَاثٌ، قَالَ الْمُتَنَخِّلُ الْهُذَلِيُّ:
عَرَفْتُ بِأَجْدُثٍ فَنِعَافِ عِرْقٍ ... عَلَامَاتٍ
كَتَحْبِيرِ النِّمَاطِ
وَاجْتَدَثَ أَيِ اتَّخَذَ جَدَثًا." إِلى رَبِّهِمْ
يَنْسِلُونَ" أَيْ يَخْرُجُونَ، قَالَهُ ابن عباس وقتادة.
ومنه قول امرى الْقَيْسِ:
فَسُلِّي ثِيَابِي مِنْ ثِيَابِكِ تَنْسُلِي
وَمِنْهُ قِيلَ لِلْوَلَدِ نَسْلٌ، لِأَنَّهُ يَخْرُجُ
مِنْ بَطْنِ أُمِّهِ. وَقِيلَ: يُسْرِعُونَ.
وَالنَّسَلَانُ وَالْعَسَلَانُ الْإِسْرَاعُ فِي
السَّيْرِ، وَمِنْهُ مِشْيَةُ الذِّئْبِ، قَالَ «2»:
عَسَلَانَ الذِّئْبِ أمسى قاربا ... وبرد اللَّيْلُ
عَلَيْهِ فَنَسَلْ
يُقَالُ: عَسَلَ الذِّئْبُ وَنَسَلَ، يَعْسِلُ وَيَنْسِلُ،
مِنْ بَابِ ضَرَبَ يَضْرِبُ. وَيُقَالُ: يَنْسُلُ
بِالضَّمِّ أَيْضًا. وَهُوَ الْإِسْرَاعُ فِي الْمَشْيِ،
فالمعنى يخرجون مسرعين. وفى التنزيل:
__________
(1). راجع ج 7 ص 20 وما بعدها طبعه أولى أو ثانيه.
(2). البيت للبيد، وقيل هو للنابغة الجعدي.
(15/40)
" مَا خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلَّا
كَنَفْسٍ واحِدَةٍ" [لقمان: 28]، وَقَالَ:" يَخْرُجُونَ
مِنَ الْأَجْداثِ كَأَنَّهُمْ جَرادٌ مُنْتَشِرٌ" [القمر:
7]، وفي" سائل سائل": [المعارج: 1] " يَوْمَ يَخْرُجُونَ
مِنَ الْأَجْداثِ سِراعاً كَأَنَّهُمْ إِلى نُصُبٍ
يُوفِضُونَ" [المعارج: 43] أَيْ يُسْرِعُونَ. وَفِي
الْخَبَرِ: شَكَوْنَا إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الضَّعْفَ فَقَالَ:" عَلَيْكُمْ
بِالنَّسْلِ" أَيْ بِالْإِسْرَاعِ فِي الْمَشْيِ فَإِنَّهُ
يُنَشِّطُ. قَوْلُهُ تَعَالَى: (قالُوا يَا وَيْلَنا)
قَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ:" يَا وَيْلَنا" وَقْفٌ
حَسَنٌ ثُمَّ تَبْتَدِئُ" مَنْ بَعَثَنا" وروي عن بعض
القراء" يَا وَيْلنَا مِنْ بَعْثِنَا" بِكَسْرِ مِنْ
وَالثَّاءِ مِنَ الْبَعْثِ. رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَلِيٍّ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَعَلَى هَذَا الْمَذْهَبِ لَا
يَحْسُنُ الْوَقْفُ عَلَى قَوْلِهِ:" يَا وَيْلَنا" حَتَّى
يَقُولَ:" مِنْ مَرْقَدِنا". وَفِي قِرَاءَةِ أُبَيِّ بْنِ
كَعْبٍ" مَنْ هَبَّنَا" بِالْوَصْلِ" مِنْ مَرْقَدِنا"
فَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى صِحَّةِ مَذْهَبِ الْعَامَّةِ.
قَالَ الْمَهْدَوِيُّ: قَرَأَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى:"
قَالُوا يَا وَيْلَتَنَا" بِزِيَادَةِ تاء وهو تأنيث
الوصل، ومثله:" يا وَيْلَتى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ"
[هود: 72]. وَقَرَأَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ" يَا
وَيْلَتَا مِنْ بَعْثِنَا" فَ" مِنْ" مُتَعَلِّقَةٌ
بِالْوَيْلِ أَوْ حال من" وَيْلَتى " فَتَتَعَلَّقُ
بِمَحْذُوفٍ، كَأَنَّهُ قَالَ: يَا وَيْلَتَا كَائِنًا
مِنْ بَعْثِنَا، وَكَمَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ خَبَرًا
عَنْهُ كَذَلِكَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ حَالًا مِنْهُ. و"
الرَّحْمنِ" مِنْ قَوْلِهِ:" مِنْ مَرْقَدِنا"
مُتَعَلِّقَةٌ بِنَفْسِ الْبَعْثِ. ثُمَّ قِيلَ: كَيْفَ
قَالُوا هَذَا وَهُمْ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ فِي
قُبُورِهِمْ؟ فَالْجَوَابُ أَنَّ أُبَيَّ بْنَ كَعْبٍ
قَالَ: يَنَامُونَ نَوْمَةً. وَفِي رِوَايَةٍ
فَيَقُولُونَ: يا ويلنا مَنْ أَهَبَّنَا مِنْ مَرْقَدِنَا.
قَالَ أَبُو بَكْرٍ الْأَنْبَارِيُّ: لَا يُحْمَلُ هَذَا
الْحَدِيثُ عَلَى أَنَّ" أهبنا" من لفظ القرآن كما قال
مَنْ طَعَنَ فِي الْقُرْآنِ، وَلَكِنَّهُ تَفْسِيرُ"
بَعَثَنا" أَوْ مُعَبِّرٌ عَنْ بَعْضِ مَعَانِيهِ. قَالَ
أَبُو بَكْرٍ: وَكَذَا حَفِظْتُهُ" مَنْ هَبَّنَا"
بِغَيْرِ أَلِفٍ فِي أَهَبَّنَا مَعَ تَسْكِينِ نُونِ
مَنْ. وَالصَّوَابُ فِيهِ عَلَى طَرِيقِ اللُّغَةِ" مَنَ
اهَبَّنَا" بِفَتْحِ النُّونِ عَلَى أَنَّ فَتْحَةَ
هَمْزَةِ أَهَبَّ أُلْقِيَتْ عَلَى نُونِ" مَنْ"
وَأُسْقِطَتِ الْهَمْزَةُ، كَمَا قَالَتِ الْعَرَبُ: مَنَ
اخْبَرَكَ مَنَ اعْلَمَكَ؟ وَهُمْ يُرِيدُونَ مَنْ
أَخْبَرَكَ. وَيُقَالُ: أَهَبَبْتُ النَّائِمَ فَهَبَّ
النَّائِمُ. أَنْشَدَنَا أَحْمَدُ بْنُ يَحْيَى
النَّحْوِيُّ:
وَعَاذِلَةٍ هَبَّتْ بِلَيْلٍ تَلُومُنِي ... وَلَمْ
يَعْتَمِرْنِي قَبْلَ ذَاكَ عَذُولُ
وَقَالَ أَبُو صَالِحٍ: إِذَا نُفِخَ النَّفْخَةُ
الْأُولَى رُفِعَ الْعَذَابُ عَنْ أَهْلِ الْقُبُورِ
وَهَجَعُوا هَجْعَةً إِلَى النَّفْخَةِ الثَّانِيَةِ
وَبَيْنَهُمَا أَرْبَعُونَ سَنَةً، فَذَلِكَ قولهم:" من
بعثنا من مرقدنا" وقال ابن
(15/41)
عَبَّاسٍ وَقَتَادَةُ. وَقَالَ أَهْلُ
الْمَعَانِي: إِنَّ الْكُفَّارَ إِذَا عَايَنُوا جَهَنَّمَ
وَمَا فِيهَا مِنْ أَنْوَاعِ الْعَذَابِ صَارَ مَا
عُذِّبُوا بِهِ فِي قُبُورِهِمْ إِلَى جَنْبِ عَذَابِهَا
كَالنَّوْمِ. قَالَ مُجَاهِدٌ: فَقَالَ لَهُمُ
الْمُؤْمِنُونَ" هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ". قَالَ
قَتَادَةُ: فَقَالَ لَهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ:" هَذَا ما
وعد الرحمن". وقال الفراء: فقال لَهُمُ الْمَلَائِكَةُ:"
هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ". النَّحَّاسُ: وَهَذِهِ
الْأَقْوَالُ مُتَّفِقَةٌ، لِأَنَّ الْمَلَائِكَةَ مِنَ
الْمُؤْمِنِينَ وَمِمَّنْ هَدَى اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ.
وَعَلَى هَذَا يُتَأَوَّلُ قَوْلُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ:"
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ
هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ" [البينة: 7] وَكَذَا
الْحَدِيثُ: (الْمُؤْمِنُ عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنْ
كُلِّ مَا خَلَقَ). وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْمَلَائِكَةُ
وَغَيْرُهُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ قَالُوا لَهُمْ:" هَذَا
مَا وَعَدَ الرَّحْمنُ". وَقِيلَ: إِنَّ الْكُفَّارَ
لَمَّا قَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ:" مَنْ بَعَثَنا مِنْ
مَرْقَدِنا" صَدَّقُوا الرُّسُلَ لَمَّا عَايَنُوا مَا
أَخْبَرُوهُمْ بِهِ، ثُمَّ قَالُوا" هَذَا مَا وَعَدَ
الرَّحْمنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ" فَكَذَّبْنَا بِهِ،
أَقَرُّوا حِينَ لَمْ يَنْفَعْهُمُ الْإِقْرَارُ. وَكَانَ
حَفْصٌ يَقِفُ عَلَى" مِنْ مَرْقَدِنا" ثُمَّ يَبْتَدِئُ
فَيَقُولُ:" هَذَا". قَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ
الْأَنْبَارِيِّ:" مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا" وَقْفٌ
حَسَنٌ، ثُمَّ تَبْتَدِئُ:" هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ"
وَيَجُوزُ أَنْ تَقِفَ عَلَى مَرْقَدِنَا هَذَا"
فَتَخْفِضَ هَذَا عَلَى الْإِتْبَاعِ لِلْمَرْقَدِ،
وَتَبْتَدِئَ:" مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ" عَلَى مَعْنَى
بَعَثَكُمْ مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ، أَيْ بَعَثَكُمْ
وَعْدُ الرَّحْمَنِ. النَّحَّاسُ: التَّمَامُ عَلَى" مِنْ
مَرْقَدِنا" وَ" هَذَا" فِي مَوْضِعٍ رَفَعٍ
بِالِابْتِدَاءِ وَخَبَرُهُ" مَا وَعَدَ الرَّحْمنُ".
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِي مَوْضِعِ خَفْضٍ عَلَى
النَّعْتِ لِ" مَرْقَدِنا" فَيَكُونُ التَّمَامُ" مِنْ
مَرْقَدِنا هَذَا"." مَا وَعَدَ الرَّحْمنُ" فِي مَوْضِعِ
رَفْعٍ مِنْ ثَلَاثِ جِهَاتٍ. ذَكَرَ أَبُو إِسْحَاقَ
مِنْهَا اثْنَتَيْنِ قَالَ: يَكُونُ بِإِضْمَارِ هَذَا.
وَالْجِهَةُ الثَّانِيَةُ أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى حَقٌّ
مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ بَعْثَكُمْ. وَالْجِهَةُ
الثَّالِثَةُ أن يكون بمعنى مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ." إِنْ
كانَتْ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً" يَعْنِي إِنَّ
بَعْثَهُمْ وَإِحْيَاءَهُمْ كَانَ بِصَيْحَةٍ وَاحِدَةٍ
وَهِيَ قَوْلُ إِسْرَافِيلَ: أَيَّتُهَا الْعِظَامُ
الْبَالِيَةُ، والأوصال المقتطعة وَالشُّعُورُ
الْمُتَمَزِّقَةُ! إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُنَّ أَنْ
تَجْتَمِعْنَ لفصل القضاء. وهذا معنى قول الْحَقِّ:"
يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذلِكَ يَوْمُ
الْخُرُوجِ." [ق: 42]. وقال:" مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ"
[القمر: 8] عَلَى مَا يَأْتِي. وَفِي قِرَاءَةِ ابْنِ
مَسْعُودٍ إِنْ صَحَّ عَنْهُ" إِنْ كَانَتْ إِلَّا
زَقْيَةً
(15/42)
إِنَّ أَصْحَابَ
الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ (55) هُمْ
وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلَالٍ عَلَى الْأَرَائِكِ
مُتَّكِئُونَ (56) لَهُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ وَلَهُمْ مَا
يَدَّعُونَ (57) سَلَامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ (58)
وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ (59)
وَاحِدَةً" وَالزَّقْيَةُ
الصَّيْحَةُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ هَذَا." فَإِذا هُمْ
جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ" فَإِذَا هُمْ" مُبْتَدَأٌ
وَخَبَرُهُ" جَمِيعٌ" نَكِرَةٌ، وَ" مُحْضَرُونَ" مِنْ
صِفَتِهِ. وَمَعْنَى" مُحْضَرُونَ" مَجْمُوعُونَ
أُحْضِرُوا مَوْقِفَ الْحِسَابِ، وَهُوَ كَقَوْلِهِ:" وَما
أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ" [النحل:
77]. قَوْلُهُ تَعَالَى:" فَالْيَوْمَ لَا تُظْلَمُ نَفْسٌ
شَيْئاً" أَيْ لَا تُنْقَصُ مِنْ ثَوَابِ عَمَلٍ." وَلا
تُجْزَوْنَ إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ"" مِمَّا" فِي
مَحَلِّ نَصْبٍ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ أَنَّهُ
مَفْعُولٌ ثَانٍ لِمَا لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ.
وَالثَّانِي بِنَزْعِ حَرْفِ الصِّفَةِ تَقْدِيرُهُ:
إِلَّا بِمَا كُنْتُمْ تعملون، أي تعملونه فحذف.
[سورة يس (36): الآيات 55 الى 59]
إِنَّ أَصْحابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فاكِهُونَ
(55) هُمْ وَأَزْواجُهُمْ فِي ظِلالٍ عَلَى الْأَرائِكِ
مُتَّكِؤُنَ (56) لَهُمْ فِيها فاكِهَةٌ وَلَهُمْ مَا
يَدَّعُونَ (57) سَلامٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ (58)
وَامْتازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ (59)
قَوْلُهُ تَعَالَى:" إِنَّ أَصْحابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ
فِي شُغُلٍ فاكِهُونَ" قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ وَابْنُ
عَبَّاسٍ وَقَتَادَةُ وَمُجَاهِدٍ: شَغَلَهُمُ افْتِضَاضُ
الْعَذَارَى. وَذَكَرَ التِّرْمِذِيُّ الْحَكِيمُ فِي
كِتَابِ مُشْكِلِ الْقُرْآنِ لَهُ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ
بْنُ حُمَيْدٍ الرَّازِيُّ، حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ
الْقُمِّيُّ، عَنْ حَفْصِ بْنِ حُمَيْدٍ، عَنْ شِمْرِ بْنِ
عَطِيَّةَ، عَنْ شَقِيقِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ عَبْدِ
اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ فِي قَوْلِهِ" إِنَّ أَصْحابَ
الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فاكِهُونَ" قَالَ:
شُغُلُهُمُ افْتِضَاضُ الْعَذَارَى. حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ
بْنُ حُمَيْدٍ، حَدَّثَنَا هَارُونُ بْنُ الْمُغِيرَةِ،
عَنْ نَهْشَلٍ، عَنِ الضَّحَّاكِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ
بِمِثْلِهِ. وَقَالَ أَبُو قِلَابَةَ: بَيْنَمَا الرَّجُلُ
مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ مَعَ أَهْلِهِ إِذْ قِيلَ لَهُ
تَحَوَّلْ إِلَى أَهْلِكَ فَيَقُولُ أَنَا مَعَ أَهْلِي
مَشْغُولٌ، فَيُقَالُ تَحَوَّلْ أَيْضًا إِلَى أَهْلِكَ.
وَقِيلَ: أَصْحَابُ الْجَنَّةِ فِي شُغُلٍ بِمَا هُمْ
فِيهِ مِنَ اللَّذَّاتِ وَالنَّعِيمِ عَنْ الِاهْتِمَامِ
بِأَهْلِ الْمَعَاصِي وَمَصِيرِهِمْ إِلَى النَّارِ، وَمَا
هُمْ فِيهِ مِنْ أَلِيمِ الْعَذَابِ، وَإِنْ كان فيهم
أقرباؤهم وأهلوهم، قال سعيد بن المسيب وغير هـ. وَقَالَ
وَكِيعٌ: يَعْنِي فِي السَّمَاعِ. وَقَالَ ابْنُ
كَيْسَانَ:" فِي شُغُلٍ" أَيْ فِي زِيَارَةِ بَعْضِهِمْ
بَعْضًا. وَقِيلَ: فِي ضِيَافَةِ اللَّهِ تَعَالَى.
وَرُوِيَ أَنَّهُ إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ نَادَى
مُنَادٍ: أَيْنَ عِبَادِيَ الَّذِينَ
(15/43)
أَطَاعُونِي وَحَفِظُوا عَهْدِي
بِالْغَيْبِ؟ فَيَقُومُونَ كَأَنَّمَا وُجُوهُهُمُ البدر
والكو كب الدُّرِّيُّ، رُكْبَانًا عَلَى نُجُبٍ مِنْ نُورٍ
أَزِمَّتُهَا مِنَ الْيَاقُوتِ، تَطِيرُ بِهِمْ عَلَى
رُءُوسِ الْخَلَائِقِ، حَتَّى يَقُومُوا بَيْنَ يَدَيِ
الْعَرْشِ، فَيَقُولُ اللَّهُ جَلَّ وَعَزَّ لَهُمُ:
السَّلَامُ عَلَى عِبَادِيَ الَّذِينَ أَطَاعُونِي
وَحَفِظُوا عَهْدِي بِالْغَيْبِ، أَنَا اصْطَفَيْتُكُمْ
وَأَنَا أَجْتَبَيْتُكُمْ وَأَنَا اخْتَرْتُكُمْ،
اذْهَبُوا فَادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِغَيْرِ حِسَابٍ فَ"
لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلا أَنْتُمْ
تَحْزَنُونَ" [الزخرف: 68] (فَيَمُرُّونَ عَلَى الصِّرَاطِ
كَالْبَرْقِ الْخَاطِفِ فَتُفْتَحُ لَهُمْ أَبْوَابُهَا.
ثُمَّ إِنَّ الْخَلْقَ فِي الْمَحْشَرِ مَوْقُوفُونَ
فَيَقُولُ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: يَا قَوْمِ أَيْنَ فُلَانٌ
وَفُلَانٌ، وَذَلِكَ حِينَ يَسْأَلُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا
فَيُنَادِي مُنَادٍ" إِنَّ أَصْحابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ
فِي شُغُلٍ فاكِهُونَ". وَ" شُغُلٍ" وَ" شُغْلٌ" لُغَتَانِ
قُرِئَ بِهِمَا، مِثْلَ الرُّعُبِ وَالرُّعْبِ،
وَالسُّحُتِ وَالسُّحْتِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ." «1»
فاكِهُونَ" قَالَ الْحَسَنُ: مَسْرُورُونَ. وَقَالَ ابْنُ
عَبَّاسٍ: فَرِحُونَ. مُجَاهِدٌ وَالضَّحَّاكُ:
مُعْجَبُونَ. السُّدِّيُّ: نَاعِمُونَ. وَالْمَعْنَى
مُتَقَارِبٌ. وَالْفُكَاهَةُ الْمِزَاحُ وَالْكَلَامُ
الطَّيِّبُ. وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ وَشَيْبَةُ
وَالْأَعْرَجُ: فَكِهُونَ" بِغَيْرِ أَلِفٍ وَهُمَا
لُغَتَانِ كَالْفَارِهِ وَالْفَرِهِ، وَالْحَاذِرِ
وَالْحَذِرِ، قَالَهُ الْفَرَّاءُ. وَقَالَ الْكِسَائِيُّ
وَأَبُو عُبَيْدَةَ: الْفَاكِهُ ذُو الْفَاكِهَةِ، مِثْلُ
شَاحِمٍ وَلَاحِمٍ وَتَامِرٍ وَلَابِنٍ، وَالْفَكِهُ
الْمُتَفَكِّهُ وَالْمُتَنَعِّمُ. وَ" فَكِهُونَ" بِغَيْرِ
أَلِفٍ فِي قَوْلِ قَتَادَةَ مُعْجَبُونَ. وَقَالَ أَبُو
زَيْدٍ: يُقَالُ رَجُلٌ فَكِهٌ إِذَا كَانَ طَيِّبَ
النَّفْسِ ضَحُوكًا. وَقَرَأَ طَلْحَةُ بْنُ مُصَرِّفٍ:"
فاكِهِينَ" نَصَبَهُ عَلَى الْحَالِ." هُمْ وَأَزْواجُهُمْ
فِي ظِلالٍ عَلَى الْأَرائِكِ مُتَّكِؤُنَ" مُبْتَدَأٌ
وَخَبَرُهُ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ" هُمْ" تَوْكِيدًا"
وَأَزْواجُهُمْ" عطف على المضمر، و" مُتَّكِؤُنَ" نَعْتٌ
لِقَوْلِهِ" فاكِهُونَ". وَقِرَاءَةُ الْعَامَّةِ:" فِي
ظِلالٍ" بِكَسْرِ الظَّاءِ وَالْأَلِفِ. وَقَرَأَ ابْنُ
مَسْعُودٍ وَعُبَيْدُ بْنُ عُمَيْرٍ وَالْأَعْمَشُ
وَيَحْيَى وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَخَلَفٌ:" فِي
ظُلَلٍ بِضَمِّ الظَّاءِ مِنْ غَيْرِ أَلِفٍ، فَالظِّلَالُ
جَمْعُ ظِلٍّ، وَظُلَلٌ جَمْعُ ظُلَّةٍ." عَلَى
الْأَرائِكِ" يَعْنِي السُّرُرَ فِي الْحِجَالِ وَاحِدُهَا
أَرِيكَةٌ، مِثْلَ سَفِينَةٍ وَسَفَائِنَ، قَالَ
الشَّاعِرُ:
كَأَنَّ احْمِرَارَ الْوَرْدِ فَوْقَ غُصُونِهِ ...
بِوَقْتِ الضُّحَى فِي رَوْضَةِ الْمُتَضَاحِكِ
خُدُودُ عَذَارَى قَدْ خَجِلْنَ مِنَ الْحَيَا ... تهادين
بالريحان فوق الأرائك
__________
(1). راجع ج 6 ص 184 طبعه أو ثانية.
(15/44)
وَفِي الْخَبَرِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ
الْخُدْرِيِّ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ:" إِنَّ أَهْلَ الْجَنَّةِ كُلَّمَا جَامَعُوا
نِسَاءَهُمْ عُدْنَ أَبْكَارًا." وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ:
إِنَّ الرَّجُلَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ لَيُعَانِقُ
الْحَوْرَاءَ سَبْعِينَ سَنَةً، لَا يَمَلُّهَا وَلَا
تَمَلُّهُ، كُلَّمَا أَتَاهَا وَجَدَهَا بِكْرًا،
وَكُلَّمَا رَجَعَ إِلَيْهَا عَادَتْ إِلَيْهِ شَهْوَتُهُ،
فَيُجَامِعُهَا بِقُوَّةِ سَبْعِينَ رَجُلًا، لَا يَكُونُ
بَيْنَهُمَا مَنِيٌّ، يَأْتِي مِنْ غَيْرِ مَنِيٍّ مِنْهُ
وَلَا مِنْهَا." لَهُمْ فِيها فاكِهَةٌ" ابْتِدَاءٌ
وَخَبَرٌ." وَلَهُمْ مَا يَدَّعُونَ" الدَّالُ
الثَّانِيَةُ مُبْدَلَةٌ مِنْ تَاءٍ، لِأَنَّهُ
يَفْتَعِلُونَ مِنْ دَعَا أَيْ مَنْ دَعَا بِشَيْءٍ
أُعْطِيهِ. قَالَهُ أَبُو عُبَيْدَةَ، فَمَعْنَى"
يَدَّعُونَ" يَتَمَنَّوْنَ مِنَ الدُّعَاءِ. وَقِيلَ:
الْمَعْنَى أَنَّ مَنِ ادَّعَى مِنْهُمْ شَيْئًا فَهُوَ
لَهُ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ طَبَعَهُمْ عَلَى
أَلَّا يَدَّعِيَ مِنْهُمْ أَحَدٌ إِلَّا مَا يَجْمُلُ
وَيَحْسُنُ أَنْ يَدَّعِيَهُ. وَقَالَ يَحْيَى بْنُ
سَلَّامٍ:" يَدَّعُونَ" يَشْتَهُونَ. ابْنُ عَبَّاسٍ.
يَسْأَلُونَ. وَالْمَعْنَى متقارب. قَالَ ابْنُ
الْأَنْبَارِيِّ:" وَلَهُمْ مَا يَدَّعُونَ" وَقْفٌ
حَسَنٌ، ثُمَّ تَبْتَدِئُ:" سَلامٌ" عَلَى مَعْنَى ذَلِكَ
لَهُمْ سَلَامٌ. وَيَجُوزُ أَنْ يُرْفَعَ السَّلَامُ عَلَى
مَعْنَى وَلَهُمْ مَا يَدَّعُونَ مُسَلَّمٌ خَالِصٌ.
فَعَلَى هَذَا الْمَذْهَبِ لَا يَحْسُنُ الْوَقْفُ عَلَى"
مَا يَدَّعُونَ". وَقَالَ الزَّجَّاجُ:" سَلامٌ" مَرْفُوعٌ
عَلَى الْبَدَلِ مِنْ" مَا" أَيْ وَلَهُمْ أَنْ يُسَلِّمَ
اللَّهُ عَلَيْهِمْ، وَهَذَا مُنَى أَهْلِ الْجَنَّةِ.
وَرُوِيَ مِنْ حَدِيثِ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ
الْبَجَلِيِّ أَنَّ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قال: (بَيْنَا أَهْلُ الْجَنَّةِ فِي
نَعِيمِهِمْ إِذْ سَطَعَ لهم نور فرفعوا رؤوسهم فَإِذَا
الرَّبُّ تَعَالَى قَدِ اطَّلَعَ عَلَيْهِمْ مِنْ
فَوْقِهِمْ فَقَالَ السَّلَامُ عَلَيْكُمْ يَا أَهْلَ
الْجَنَّةِ فَذَلِكَ قَوْلُهُ:" سَلامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ
رَحِيمٍ". فَيَنْظُرُ إِلَيْهِمْ وَيَنْظُرُونَ إِلَيْهِ
فَلَا يَلْتَفِتُونَ إِلَى شي مِنَ النَّعِيمِ مَا دَامُوا
يَنْظُرُونَ إِلَيْهِ حَتَّى يَحْتَجِبَ عَنْهُمْ
فَيَبْقَى نُورُهُ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْهِمْ فِي
دِيَارِهِمْ" ذَكَرَهُ الثَّعْلَبِيُّ وَالْقُشَيْرِيُّ.
وَمَعْنَاهُ ثَابِتٌ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ، وَقَدْ
بَيَّنَّاهُ فِي" يُونُسَ" «1» عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى:"
لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ" [يونس: 26].
وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ" مَا" نَكِرَةً، وَ" سَلَامٌ"
نَعْتًا لَهَا، أَيْ وَلَهُمْ مَا يَدَّعُونَ مُسَلَّمٌ.
وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ" مَا" رُفِعَ بِالِابْتِدَاءِ، وَ"
سَلامٌ" خَبَرٌ عَنْهَا. وَعَلَى هَذِهِ الْوُجُوهِ لَا
يُوقَفُ عَلَى" وَلَهُمْ مَا يَدَّعُونَ". وَفِي قِرَاءَةِ
ابْنِ مَسْعُودٍ" سَلَامًا" يَكُونُ مَصْدَرًا، وَإِنْ
شِئْتَ في موضع الحال، أي ولهم
__________
(1). راجع ج ص 230 طبعه أولى أو ثانيه.
(15/45)
أَلَمْ أَعْهَدْ
إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا
الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (60) وَأَنِ
اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (61) وَلَقَدْ
أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا كَثِيرًا أَفَلَمْ تَكُونُوا
تَعْقِلُونَ (62) هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ
تُوعَدُونَ (63) اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِمَا كُنْتُمْ
تَكْفُرُونَ (64)
مَا يَدَّعُونَ ذَا سَلَامٍ أَوْ سَلَامَةٍ
أَوْ مسلما، فعي هَذَا الْمَذْهَبِ لَا يَحْسُنُ الْوَقْفُ
عَلَى" يَدَّعُونَ" وَقَرَأَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ
الْقُرَظِيُّ" سِلْمٌ" عَلَى الِاسْتِئْنَافِ كَأَنَّهُ
قَالَ: ذَلِكَ سِلْمٌ لَهُمْ لَا يَتَنَازَعُونَ فِيهِ.
وَيَكُونُ" وَلَهُمْ مَا يَدَّعُونَ" تَامًّا. وَيَجُوزُ
أَنْ يَكُونَ" سَلامٌ" بَدَلًا مِنْ قَوْلِهِ:" وَلَهُمْ
مَا يَدَّعُونَ"، وَخَبَرُ" مَا يَدَّعُونَ"" لَهُمْ".
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ" سَلامٌ" خَبَرًا آخَرَ، وَيَكُونُ
مَعْنَى الْكَلَامِ أَنَّهُ لَهُمْ خَالِصٌ مِنْ غَيْرِ
مُنَازِعٍ فِيهِ." قَوْلًا" مَصْدَرٌ عَلَى مَعْنَى قَالَ
الله ذلك قولا. أو يقوله قَوْلًا، وَدَلَّ عَلَى الْفِعْلِ
الْمَحْذُوفِ لَفْظُ مَصْدَرِهِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ
الْمَعْنَى وَلَهُمْ مَا يَدَّعُونَ قَوْلًا، أَيْ عِدَةً
مِنَ اللَّهِ. فَعَلَى هَذَا الْمَذْهَبِ الثَّانِي لَا
يَحْسُنُ الْوَقْفُ عَلَى" يَدَّعُونَ". وَقَالَ
السِّجِسْتَانِيُّ: الْوَقْفُ عَلَى قَوْلِهِ:" سَلامٌ"
تَامٌّ، وَهَذَا خَطَأٌ لِأَنَّ الْقَوْلَ خَارِجٌ مِمَّا
قَبْلَهُ. قَوْلِهِ تَعَالَى:" وَامْتازُوا الْيَوْمَ
أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ" وَيُقَالُ تَمَيَّزُوا
وَأَمَازُوا وَامْتَازُوا بِمَعْنًى، وَمِزْتُهُ
فَانْمَازَ وَامْتَازَ، وَمَيَّزْتُهُ فَتَمَيَّزَ. أَيْ
يُقَالُ لَهُمْ هَذَا عِنْدَ الْوُقُوفِ لِلسُّؤَالِ حِينَ
يُؤْمَرُ بِأَهْلِ الْجَنَّةِ إِلَى الْجَنَّةِ، أَيِ
اخْرُجُوا مِنْ جُمْلَتِهِمْ. قَالَ قَتَادَةُ: عُزِلُوا
عَنْ كُلِّ خَيْرٍ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: يَمْتَازُ
الْمُجْرِمُونَ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ، فَيَمْتَازُ
الْيَهُودُ فِرْقَةً، وَالنَّصَارَى فِرْقَةً،
وَالْمَجُوسُ فِرْقَةً، وَالصَّابِئُونَ فِرْقَةً،
وَعَبَدَةُ الْأَوْثَانِ فِرْقَةً. وَعَنْهُ أَيْضًا:
إِنَّ لِكُلِّ فِرْقَةٍ فِي النَّارِ بَيْتًا تَدْخُلُ
فِيهِ وَيُرَدُّ بَابُهُ، فتكون فيه أبدالا تُرَى وَقَالَ
دَاوُدُ بْنُ الْجَرَّاحِ: فَيَمْتَازُ الْمُسْلِمُونَ
مِنَ الْمُجْرِمِينَ، إِلَّا أَصْحَابَ الْأَهْوَاءِ
فَيَكُونُونَ مَعَ المجرمين.
[سورة يس (36): الآيات 60 الى 64]
أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لَا
تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ
(60) وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (61)
وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلاًّ كَثِيراً أَفَلَمْ
تَكُونُوا تَعْقِلُونَ (62) هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي
كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (63) اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِما
كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (64)
(15/46)
قَوْلُهُ تَعَالَى:" أَلَمْ أَعْهَدْ
إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ" الْعَهْدُ هُنَا بِمَعْنَى
الْوَصِيَّةِ، أَيْ أَلَمْ أُوصِكُمْ وَأُبَلِّغْكُمْ
عَلَى أَلْسِنَةِ الرُّسُلِ." أَنْ لَا تَعْبُدُوا
الشَّيْطانَ" أَيْ لَا تُطِيعُوهُ فِي مَعْصِيَتِي. قال
الكسائي: لا للنهي." وَأَنِ اعْبُدُونِي" وَأَنِ
اعْبُدُونِي" بِكَسْرِ النُّونِ عَلَى الْأَصْلِ، وَمَنْ
ضَمَّ كَرِهَ كَسْرَةً بَعْدَهَا ضَمَّةٌ." هَذَا صِراطٌ
مُسْتَقِيمٌ" أَيْ عِبَادَتِي دِينٌ قَوِيمٌ. قَوْلُهُ
تَعَالَى:" وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ" أَيْ أَغْوَى"
جِبِلًّا كَثِيراً" أَيْ خَلْقًا كَثِيرًا، قَالَهُ
مُجَاهِدٌ. قَتَادَةُ: جُمُوعًا كَثِيرَةً. الْكَلْبِيُّ:
أُمَمًا كَثِيرَةً، وَالْمَعْنَى وَاحِدٌ. وَقَرَأَ أَهْلُ
الْمَدِينَةِ وَعَاصِمٌ" جِبِلًّا" بِكَسْرِ الْجِيمِ
وَالْبَاءِ. وَأَبُو عَمْرٍو وَابْنُ عَامِرٍ" جُبْلًا"
بِضَمِّ الْجِيمِ وإسكان الباء. الباقون" جبلا" ضم
الْجِيمِ وَالْبَاءِ وَتَخْفِيفِ اللَّامِ، وَشَدَّدَهَا
الْحَسَنُ وَابْنُ أَبِي إِسْحَاقَ وَعِيسَى بْنُ عُمَرَ
وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُبَيْدٍ وَالنَّضْرُ بْنُ أَنَسٍ.
وَقَرَأَ أَبُو يَحْيَى وَالْأَشْهَبُ الْعُقَيْلِيُّ"
جِبْلًا" بِكَسْرِ الْجِيمِ وَإِسْكَانِ الْبَاءِ
وَتَخْفِيفِ اللَّامِ. فَهَذِهِ خَمْسُ قِرَاءَاتٍ. قَالَ
الْمَهْدَوِيُّ وَالثَّعْلَبِيُّ: وَكُلُّهَا لُغَاتٌ
بِمَعْنَى الْخَلْقِ. النَّحَّاسُ: أَبْيَنُهَا
الْقِرَاءَةُ الْأُولَى، وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ
أَنَّهُمْ قَدْ أَجْمَعُوا عَلَى أَنْ قَرَءُوا"
وَالْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ" [الشعراء: 184] فَيَكُونُ"
جِبِلًّا" جَمْعَ جِبِلَّةٍ وَالِاشْتِقَاقُ فِيهِ كُلُّهُ
وَاحِدٌ. وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ جَبَلَ اللَّهُ عَزَّ
وَجَلَّ الْخَلْقَ أَيْ خَلَقَهُمْ. وَقَدْ ذُكِرَتْ
قِرَاءَةٌ سَادِسَةٌ وَهِيَ:" وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ
جِيلًا كَثِيرًا" بِالْيَاءِ. وَحُكِيَ عَنِ الضَّحَّاكِ
أَنَّ الْجِيلَ الْوَاحِدَ عَشَرَةُ آلَافٍ، وَالْكَثِيرَ
مَا لَا يُحْصِيهِ إِلَّا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ، ذَكَرَهُ
الْمَاوَرْدِيُّ." أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ"
عَدَاوَتَهُ وَتَعْلَمُوا أَنَّ الْوَاجِبَ طَاعَةُ
اللَّهِ." هَذِهِ جَهَنَّمُ" أَيْ تَقُولُ لَهُمْ خَزَنَةُ
جَهَنَّمَ هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي وُعِدْتُمْ
فَكَذَّبْتُمْ بِهَا. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ
أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
قَالَ: (إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ جَمَعَ اللَّهُ
الْإِنْسَ وَالْجِنَّ وَالْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ فِي
صَعِيدٍ وَاحِدٍ ثُمَّ أَشْرَفَ عُنُقٌ مِنَ النَّارِ
عَلَى الْخَلَائِقِ فَأَحَاطَ بِهِمْ ثُمَّ يُنَادِي
مُنَادٍ" هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ
اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ"
فَحِينَئِذٍ تَجْثُو الْأُمَمُ على ركبها تَذْهَلُ كُلُّ
مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ، وَتَضَعُ كُلُّ ذاتِ حَمْلٍ
حَمْلَها وَتَرَى النَّاسَ سُكارى وَما هُمْ بِسُكارى
وَلكِنَّ عَذابَ اللَّهِ شَدِيدٌ".
(15/47)
الْيَوْمَ نَخْتِمُ
عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ
وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (65)
وَلَوْ نَشَاءُ لَطَمَسْنَا عَلَى أَعْيُنِهِمْ
فَاسْتَبَقُوا الصِّرَاطَ فَأَنَّى يُبْصِرُونَ (66)
وَلَوْ نَشَاءُ لَمَسَخْنَاهُمْ عَلَى مَكَانَتِهِمْ فَمَا
اسْتَطَاعُوا مُضِيًّا وَلَا يَرْجِعُونَ (67) وَمَنْ
نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ أَفَلَا
يَعْقِلُونَ (68)
[سورة يس (36): الآيات 65 الى 68]
الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلى أَفْواهِهِمْ وَتُكَلِّمُنا
أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا
يَكْسِبُونَ (65) وَلَوْ نَشاءُ لَطَمَسْنا عَلى
أَعْيُنِهِمْ فَاسْتَبَقُوا الصِّراطَ فَأَنَّى
يُبْصِرُونَ (66) وَلَوْ نَشاءُ لَمَسَخْناهُمْ عَلى
مَكانَتِهِمْ فَمَا اسْتَطاعُوا مُضِيًّا وَلا يَرْجِعُونَ
(67) وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ أَفَلا
يَعْقِلُونَ (68)
قَوْلُهُ تَعَالَى:" الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلى أَفْواهِهِمْ
وَتُكَلِّمُنا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِما
كانُوا يَكْسِبُونَ" فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ أَنَسِ
بْنِ مَالِكٍ قَالَ: كُنَّا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَضَحِكَ فَقَالَ: (هَلْ
تَدْرُونَ مِمَّ أَضْحَكُ؟ - قُلْنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ
أَعْلَمُ قَالَ- مِنْ مُخَاطَبَةِ الْعَبْدِ رَبَّهُ،
يَقُولُ يَا رَبِّ أَلَمْ تُجِرْنِي مِنَ الظُّلْمِ قَالَ:
يَقُولُ بَلَى فَيَقُولُ فَإِنِّي لَا أُجِيزُ عَلَى
نَفْسِي إِلَّا شَاهِدًا مِنِّي قَالَ فَيَقُولُ كَفَى
بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ شَهِيدًا وَبِالْكِرَامِ
الْكَاتِبِينَ شُهُودًا قَالَ فَيَخْتِمُ عَلَى فِيهِ
فَيُقَالُ لِأَرْكَانِهِ انْطِقِي قَالَ فَتَنْطِقُ
بِأَعْمَالِهِ قَالَ: ثُمَّ يُخَلَّى بَيْنَهُ وَبَيْنَ
الْكَلَامِ فَيَقُولُ بُعْدًا لَكُنَّ وَسُحْقًا
فَعَنْكُنَّ كُنْتُ أُنَاضِلُ" خَرَّجَهُ أَيْضًا مِنْ
حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ. وَفِيهِ:" ثُمَّ يُقَالُ لَهُ
الْآنَ نَبْعَثُ شَاهِدَنَا عَلَيْكَ وَيَتَفَكَّرُ فِي
نَفْسِهِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْهَدُ عَلَيَّ فَيُخْتَمُ
عَلَى فِيهِ وَيُقَالُ لِفَخِذِهِ (وَلَحْمِهِ
وَعِظَامِهِ) «1» انْطِقِي فَتَنْطِقُ فَخِذُهُ وَلَحْمُهُ
وَعِظَامُهُ بِعَمَلِهِ وَذَلِكَ لِيُعْذَرَ مِنْ نَفْسِهِ
وَذَلِكَ الْمُنَافِقُ وَذَلِكَ الَّذِي يَسْخَطُ اللَّهُ
عَلَيْهِ". وَخَرَّجَ التِّرْمِذِيُّ عَنْ مُعَاوِيَةَ
بْنِ حَيْدَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فِي حَدِيثٍ ذَكَرَهُ قال: وأشاره بِيَدِهِ
إِلَى الشَّامِ فَقَالَ" مِنْ هَاهُنَا إِلَى ها هنا
تُحْشَرُونَ رُكْبَانًا وَمُشَاةً وَتُجَرُّونَ عَلَى
وُجُوهِكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى أَفْوَاهِكُمُ
الْفِدَامُ تُوفُونَ سَبْعِينَ أُمَّةً أَنْتُمْ
خَيْرُهُمْ وَأَكْرَمُهُمْ عَلَى اللَّهِ وَإِنَّ أَوَّلَ
مَا يُعْرِبُ عَنْ أَحَدِكُمْ فَخِذُهُ" فِي رِوَايَةٍ
أُخْرَى:" فَخِذُهُ وَكَفُّهُ" الْفِدَامُ مِصْفَاةُ
الْكُوزِ وَالْإِبْرِيقِ، قال اللَّيْثُ. قَالَ أَبُو
عُبَيْدٍ: يَعْنِي أَنَّهُمْ مُنِعُوا الْكَلَامَ حَتَّى
تَكَلَّمَ أَفْخَاذُهُمْ فَشَبَّهَ ذَلِكَ بِالْفِدَامِ
الَّذِي يُجْعَلُ عَلَى الْإِبْرِيقِ. ثُمَّ قِيلَ فِي
سَبَبِ الْخَتْمِ أَرْبَعَةُ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا:
لِأَنَّهُمْ قَالُوا
__________
(1). الزيادة من صحيح مسلم
(15/48)
" وَاللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا
مُشْرِكِينَ" [الأنعام: 23] فَخَتَمَ اللَّهُ عَلَى
أَفْوَاهِهِمْ حَتَّى نَطَقَتْ جَوَارِحُهُمْ، قَالَهُ
أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ. الثَّانِي: لِيَعْرِفَهُمْ
أَهْلُ الْمَوْقِفِ فَيَتَمَيَّزُونَ مِنْهُمْ، قَالَهُ
ابْنُ زِيَادٍ. الثَّالِثُ: لِأَنَّ إِقْرَارَ غَيْرِ
النَّاطِقِ أَبْلَغُ فِي الْحُجَّةِ مِنْ إِقْرَارِ
النَّاطِقِ لِخُرُوجِهِ مَخْرَجَ الْإِعْجَازِ، إِنْ كَانَ
يَوْمًا لَا يَحْتَاجُ إِلَى إِعْجَازٍ. الرَّابِعُ:
لِيَعْلَمَ أَنَّ أَعْضَاءَهُ الَّتِي كَانَتْ أَعْوَانًا
فِي حَقِّ نَفْسِهِ صَارَتْ عَلَيْهِ شُهُودًا فِي حَقِّ
رَبِّهِ. فَإِنْ قِيلَ: لِمَ قَالَ" وَتُكَلِّمُنا
أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ" فَجَعَلَ مَا كَانَ
مِنَ الْيَدِ كَلَامًا، وَمَا كَانَ مِنَ الرِّجْلِ
شَهَادَةً؟ قِيلَ: إِنَّ الْيَدَ مُبَاشِرَةٌ لِعَمَلِهِ
وَالرِّجْلِ حَاضِرَةٌ، وَقَوْلُ الْحَاضِرِ عَلَى
غَيْرِهِ شَهَادَةٌ، وَقَوْلُ الْفَاعِلِ عَلَى نَفْسِهِ
إِقْرَارٌ بِمَا قَالَ أَوْ فَعَلَ، فَلِذَلِكَ عَبَّرَ
عَمَّا صَدَرَ مِنَ الْأَيْدِي بِالْقَوْلِ وَعَمَّا
صَدَرَ مِنَ الْأَرْجُلِ بِالشَّهَادَةِ. وَقَدْ رُوِيَ
عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ:"
أَوَّلُ عَظْمٍ مِنَ الْإِنْسَانِ يَتَكَلَّمُ يَوْمَ
يُخْتَمُ عَلَى الْأَفْوَاهِ فَخِذُهُ مِنَ الرِّجْلِ
الْيُسْرَى" ذَكَرَهُ الْمَاوَرْدِيُّ وَالْمَهْدَوِيُّ.
وَقَالَ أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ: إِنَى لَأَحْسَبُ
أَنَّ أَوَّلَ مَا يَنْطِقُ مِنْهُ فَخِذُهُ الْيُمْنَى،
ذَكَرَهُ الْمَهْدَوِيُّ أَيْضًا. قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ:
فَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ تَقَدُّمَ الْفَخِذِ
بِالْكَلَامِ عَلَى سَائِرِ الْأَعْضَاءِ، لِأَنَّ لَذَّةَ
مَعَاصِيهِ يُدْرِكُهَا بِحَوَاسِّهِ الَّتِي هِيَ فِي
الشَّطْرِ الْأَسْفَلِ مِنْهَا الْفَخِذُ، فَجَازَ
لِقُرْبِهِ مِنْهَا أَنْ يَتَقَدَّمَ فِي الشَّهَادَةِ
عَلَيْهَا. قَالَ: وَتَقَدَّمَتِ الْيُسْرَى، لِأَنَّ
الشَّهْوَةَ فِي مَيَامِنِ الْأَعْضَاءِ أَقْوَى مِنْهَا
فِي مَيَاسِرهَا، فَلِذَلِكَ تَقَدَّمَتِ الْيُسْرَى عَلَى
الْيُمْنَى لِقِلَّةِ شَهْوَتِهَا. قُلْتُ: أَوْ
بِالْعَكْسِ لِغَلَبَةِ الشَّهْوَةِ، أَوْ كِلَاهُمَا
مَعًا وَالْكَفُّ، فَإِنَّ بِمَجْمُوعِ ذَلِكَ يَكُونُ
تَمَامُ الشَّهْوَةِ وَاللَّذَّةِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَلَوْ نَشَاءُ لَطَمَسْنَا عَلَى
أَعْيُنِهِمْ فَاسْتَبَقُوا الصِّرَاطَ فَأَنَّى
يُبْصِرُونَ" حَكَى الْكِسَائِيُّ: طَمَسَ يَطْمِسُ
وَيَطْمُسُ. وَالْمَطْمُوسُ وَالطَّمِيسُ عِنْدَ أَهْلِ
اللُّغَةِ الْأَعْمَى الَّذِي لَيْسَ فِي عَيْنَيْهِ
شَقٌّ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْمَعْنَى
لَأَعْمَيْنَاهُمْ عَنِ الْهُدَى، فَلَا يهتدون أبدا إلى
طريق الحق. وقا ل الْحَسَنُ وَالسُّدِّيُّ: الْمَعْنَى
لَتَرَكْنَاهُمْ عُمْيًا يَتَرَدَّدُونَ. فَالْمَعْنَى
لَأَعْمَيْنَاهُمْ فَلَا يُبْصِرُونَ طَرِيقًا إِلَى
تَصَرُّفِهِمْ فِي مَنَازِلِهِمْ وَلَا غَيْرِهَا. وَهَذَا
اخْتِيَارُ الطَّبَرِيِّ. وَقَوْلُهُ:" فَاسْتَبَقُوا
الصِّراطَ" أَيِ اسْتَبَقُوا الطَّرِيقَ لِيَجُوزُوا"
فَأَنَّى يُبْصِرُونَ" أَيْ فَمِنْ أَيْنَ يُبْصِرُونَ.
وَقَالَ عَطَاءٌ وَمُقَاتِلٌ وَقَتَادَةُ وَرُوِيَ عَنِ
ابْنِ عَبَّاسٍ: وَلَوْ نَشَاءُ لَفَقَأْنَا أَعْيُنَ
ضَلَالَتِهِمْ،
(15/49)
وَأَعْمَيْنَاهُمْ عَنْ غَيِّهِمْ،
وَحَوَّلْنَا أَبْصَارَهُمْ مِنَ الضَّلَالَةِ إِلَى
الْهُدَى، فَاهْتَدَوْا وَأَبْصَرُوا رُشْدَهُمْ،
وَتَبَادَرُوا إِلَى طَرِيقِ الْآخِرَةِ. ثُمَّ قَالَ:"
فَأَنَّى يُبْصِرُونَ" وَلَمْ نَفْعَلْ ذَلِكَ بِهِمْ،
أَيْ فَكَيْفَ يَهْتَدُونَ وَعَيْنُ الْهُدَى مَطْمُوسَةٌ،
عَلَى الضَّلَالِ بَاقِيَةٌ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عَبْدِ
اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ فِي تَأْوِيلِ هَذِهِ الْآيَةِ
غَيْرُ مَا تَقَدَّمَ، وَتَأَوَّلَهَا عَلَى أَنَّهَا فِي
يَوْمِ الْقِيَامَةِ. وَقَالَ: إِذَا كَانَ يَوْمُ
الْقِيَامَةِ وَمُدَّ الصِّرَاطُ.، نَادَى مُنَادٍ
لِيَقُمْ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَأُمَّتُهُ، فَيَقُومُونَ بَرُّهُمْ وَفَاجِرُهُمْ
يَتْبَعُونَهُ لِيَجُوزُوا الصِّرَاطَ، فَإِذَا صَارُوا
عَلَيْهِ طَمَسَ اللَّهُ أَعْيُنَ فُجَّارِهِمْ،
فَاسْتَبَقُوا الصِّرَاطَ فَمِنْ أَيْنَ يُبْصِرُونَهُ
حَتَّى يُجَاوِزُوهُ. ثُمَّ يُنَادِي مُنَادٍ لِيَقُمْ
عِيسَى وَأُمَّتُهُ، فَيَقُومُ فَيَتْبَعُونَهُ بَرُّهُمْ
وَفَاجِرُهُمْ فَيَكُونُ سَبِيلُهُمْ تِلْكَ السَّبِيلَ،
وَكَذَا سَائِرُ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ.
ذَكَرَهُ النَّحَّاسُ وَقَدْ كَتَبْنَاهُ فِي
التَّذْكِرَةِ بِمَعْنَاهُ حَسَبَ مَا ذَكَرَهُ ابْنُ
الْمُبَارَكِ فِي رَقَائِقِهِ. وَذَكَرَهُ الْقُشَيْرِيُّ.
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَخَذَ
الْأَسْوَدُ بْنُ الْأَسْوَدِ حَجَرًا وَمَعَهُ جَمَاعَةٌ
مِنْ بَنِي مَخْزُومٍ لِيَطْرَحَهُ عَلَى النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَطَمَسَ اللَّهُ
عَلَى بَصَرِهِ، وَأَلْصَقَ الْحَجَرَ بِيَدِهِ، فَمَا
أَبْصَرَهُ وَلَا اهْتَدَى، وَنَزَلَتِ الْآيَةُ فِيهِ.
وَالْمَطْمُوسُ هُوَ الَّذِي لَا يَكُونُ بَيْنَ
جَفْنَيْهِ شَقٌّ، مَأْخُوذٌ مِنْ طَمَسَ الرِّيحُ
الْأَثَرَ، قَالَهُ الْأَخْفَشُ وَالْقُتَبِيُّ. قَوْلُهُ
تَعَالَى:" وَلَوْ نَشاءُ لَمَسَخْناهُمْ عَلى
مَكانَتِهِمْ فَمَا اسْتَطاعُوا مُضِيًّا وَلا
يَرْجِعُونَ" الْمَسْخُ: تَبْدِيلُ الْخِلْقَةِ
وَقَلْبُهَا حَجَرًا أَوْ جَمَادًا أَوْ بَهِيمَةً. قَالَ
الْحَسَنُ: أَيْ لَأَقْعَدْنَاهُمْ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ
أَنْ يَمْضُوا أَمَامَهُمْ وَلَا يَرْجِعُوا وَرَاءَهُمْ.
وَكَذَلِكَ الْجَمَادُ لَا يَتَقَدَّمُ وَلَا يَتَأَخَّرُ.
وَقَدْ يَكُونُ الْمَسْخُ تَبْدِيلَ صُورَةِ الْإِنْسَانِ
بَهِيمَةً، ثُمَّ تِلْكَ الْبَهِيمَةُ لَا تَعْقِلُ
مَوْضِعًا تَقْصِدُهُ فَتَتَحَيَّرُ، فَلَا تُقْبِلُ وَلَا
تُدْبِرُ. ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ:
الْمَعْنَى لَوْ نَشَاءُ لَأَهْلَكْنَاهُمْ فِي
مَسَاكِنِهِمْ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى لَوْ نَشَاءُ
لَمَسَخْنَاهُمْ فِي الْمَكَانِ الَّذِي اجْتَرَءُوا فِيهِ
عَلَى الْمَعْصِيَةِ. ابْنُ سَلَامٍ: هَذَا كُلُّهُ يَوْمَ
الْقِيَامَةِ يَطْمِسُ اللَّهُ تَعَالَى أَعْيُنَهُمْ
عَلَى الصِّرَاطِ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَالسُّلَمِيُّ
وَزِرُّ بْنُ حُبَيْشٍ وَعَاصِمٌ فِي رِوَايَةِ أَبِي
بَكْرٍ" مَكَانَاتِهِمْ" عَلَى الْجَمْعِ، الْبَاقُونَ
بِالتَّوْحِيدِ: وَقَرَأَ أَبُو حَيْوَةَ:" فَمَا
اسْتَطَاعُوا مُضِيًّا" بِفَتْحِ الْمِيمِ. وَالْمُضِيُّ
بِضَمِّ الْمِيمِ مَصْدَرُ يَمْضِي مُضِيًّا إِذَا ذهب.
(15/50)
وَمَا عَلَّمْنَاهُ
الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ
وَقُرْآنٌ مُبِينٌ (69) لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا
وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ (70)
قوله تعالى:" وَمَنْ نُعَمِّرْهُ
نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ" قَرَأَ عَاصِمٌ وَحَمْزَةُ"
نُنَكِّسْهُ" بِضَمِّ النُّونِ الْأُولَى
وَتَشْدِيدِ الْكَافِ مِنَ التَّنْكِيسِ. الْبَاقُونَ"
نَنْكُسْهُ" بِفَتْحِ النُّونِ الْأُولَى وَضَمِّ الْكَافِ
مِنْ نَكَسْتُ الشَّيْءَ أَنْكُسُهُ نَكْسًا قَلَبْتُهُ
عَلَى رَأْسِهِ فَانْتَكَسَ. قَالَ قَتَادَةُ: الْمَعْنَى
أَنَّهُ يَصِيرُ إِلَى حَالِ الْهَرَمِ الَّذِي يُشْبِهُ
حَالَ الصِّبَا. وَقَالَ سُفْيَانُ فِي قول تَعَالَى:"
وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ" إِذَا
بَلَغَ ثَمَانِينَ سَنَةً تَغَيَّرَ جِسْمُهُ وَضَعُفَتْ
قُوَّتُهُ. قَالَ الشَّاعِرُ:
مَنْ عَاشَ أَخَلَقَتِ الْأَيَّامَ جِدَّتَهُ ...
وَخَانَهُ ثِقَتَاهُ السَّمْعُ وَالْبَصَرُ
فَطُولَ الْعُمُرِ يُصَيِّرُ الشَّبَابَ هَرَمًا،
وَالْقُوَّةَ ضَعْفًا، وَالزِّيَادَةَ نَقْصًا، وَهَذَا
هُوَ الْغَالِبُ. وَقَدْ تَعَوَّذَ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَنْ يُرَدَّ إِلَى أَرْذَلِ
الْعُمُرِ. وقد فِي النَّحْلِ بَيَانُهُ." «1» أَفَلا
يَعْقِلُونَ" أَنَّ مَنْ فَعَلَ هَذَا بِكُمْ قَادِرٌ
عَلَى بَعْثِكُمْ. وَقَرَأَ نافع وابن ذكوان أَنَّ مَنْ
فَعَلَ هَذَا بِكُمْ قَادِرٌ عَلَى بَعْثِكُمْ. وَقَرَأَ
نَافِعٌ وَابْنُ ذَكْوَانَ:" تَعْقِلُونَ" بِالتَّاءِ.
الباقون بالياء".
[سورة يس (36): الآيات 69 الى 70]
وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ وَما يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ
إِلاَّ ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ (69) لِيُنْذِرَ مَنْ
كانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكافِرِينَ (70)
قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ وَما
يَنْبَغِي لَهُ" فيه أربع مسائل: لا أولى- أَخْبَرَ
تَعَالَى عَنْ حَالِ نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ، وَرَدَّ قَوْلَ مَنْ قَالَ مِنَ الْكُفَّارِ
إِنَّهُ شَاعِرٌ، وَإِنَّ الْقُرْآنَ شِعْرٌ، بِقَوْلِهِ:"
وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ وَما يَنْبَغِي لَهُ"
وَكَذَلِكَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ لَا يَقُولُ الشِّعْرَ وَلَا يَزِنُهُ، وَكَانَ
إِذَا حَاوَلَ إِنْشَادَ بَيْتٍ قَدِيمٍ مُتَمَثِّلًا
كَسَرَ وَزْنَهُ، وَإِنَّمَا كَانَ يُحْرِزُ الْمَعَانِيَ
فَقَطْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. مِنْ ذَلِكَ
أَنَّهُ أَنْشَدَ يَوْمًا قَوْلَ طَرَفَةَ:
سَتُبْدِي لَكَ الْأَيَّامُ مَا كُنْتَ جَاهِلًا ...
وويأتيك مَنْ لَمْ تُزَوِّدْهُ بِالْأَخْبَارِ
وَأَنْشَدَ يَوْمًا وَقَدْ قِيلَ لَهُ مَنْ أَشْعَرُ
النَّاسِ فَقَالَ الَّذِي يَقُولُ:
أَلَمْ تَرَيَانِي كُلَّمَا جِئْتُ طَارِقًا ... وَجَدْتُ
بِهَا وإن لم تطب طيبا
__________
(1). راجع ج 10 ص 140 وما بعدها طبعه أولى أو ثانيه.
(15/51)
وأنشد يوما:
أتجعل نهبي ونهب العب ... وئد بَيْنَ الْأَقْرَعِ
وَعُيَيْنَةَ
وَقَدْ كَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ ربما أنشد بيت
الْمُسْتَقِيمَ فِي النَّادِرِ. رُوِيَ أَنَّهُ أَنْشَدَ
بَيْتَ عبد الله بن رواحة:
ببيت يجافي جنبة عن فراشه ... وإذا اسْتَثْقَلَتْ
بِالْمُشْرِكِينَ الْمَضَاجِعُ
وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ أَبِي الْحَسَنِ: أَنْشَدَ
النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ:
كَفَى بِالْإِسْلَامِ وَالشَّيْبِ لِلْمَرْءِ نَاهِيًا
فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: يَا رَسُولَ
اللَّهِ إِنَّمَا قَالَ الشاعر:
هريرة ودع إن تجهزت غاديا ... وكفى الشَّيْبُ
وَالْإِسْلَامُ لِلْمَرْءِ نَاهِيَا
فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ أَوْ عُمَرَ: أَشْهَدُ أَنَّكَ
رَسُولُ اللَّهِ، يَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ:" وَمَا
عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ". وَعَنِ
الْخَلِيلِ بْنِ أَحْمَدَ: كَانَ الشِّعْرُ أَحَبَّ إِلَى
رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ
كَثِيرٍ مِنَ الْكَلَامِ، وَلَكِنْ لَا يَتَأَتَّى لَهُ.
الثَّانِيَةُ- إِصَابَتُهُ الْوَزْنَ أَحْيَانًا لَا
يُوجِبُ أَنَّهُ يَعْلَمُ الشِّعْرَ، وَكَذَلِكَ مَا
يَأْتِي أَحْيَانًا مِنْ نَثْرِ كَلَامِهِ مَا يَدْخُلُ في
ورن، كقول يَوْمَ حُنَيْنٍ وَغَيْرِهِ:
(هَلْ أَنْتِ إِلَّا إِصْبَعٌ دَمِيَتِ ... وَفِي سَبِيلِ
اللَّهِ مَا لَقِيَتِ)
وَقَوْلُهُ:
(أنا النبي لا كذب ... وأنا ابْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبْ)
فَقَدْ يَأْتِي مِثْلَ ذَلِكَ فِي آيَاتِ الْقُرْآنِ،
وَفِي كُلِّ كَلَامٍ، وَلَيْسَ ذَلِكَ شِعْرًا وَلَا فِي
مَعْنَاهُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى:" لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ
حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ" [آل عمران: 92]،
وقوله:" نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ" [الصف:
13]، وقوله:" وَجِفانٍ كَالْجَوابِ وَقُدُورٍ راسِياتٍ"
[سبأ: 13] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. وَقَدْ
ذَكَرَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ مِنْهَا آيَاتٍ وَتَكَلَّمَ
عَلَيْهَا وَأَخْرَجَهَا عَنِ الْوَزْنِ، عَلَى أَنَّ
أَبَا الْحَسَنِ الْأَخْفَشَ قَالَ فِي قَوْلِ: (أَنَا
النَّبِيُّ لَا كَذِبْ) لَيْسَ بِشِعْرٍ. وَقَالَ
الْخَلِيلُ فِي كِتَابِ الْعَيْنِ: إِنَّ مَا جَاءَ مِنَ
السَّجْعِ عَلَى جُزْأَيْنِ لَا يَكُونُ شِعْرًا. وَرُوِيَ
عَنْهُ أَنَّهُ مِنْ مَنْهُوكِ الرَّجَزِ. وَقَدْ قِيلَ:
(15/52)
لَا يَكُونُ مِنْ مَنْهُوكِ الرَّجَزِ
إِلَّا بِالْوَقْفِ عَلَى الْبَاءِ مِنْ قَوْلِهِ:" لَا
كَذِبْ"، وَمِنْ قَوْلِهِ:" عَبْدِ الْمُطَّلِبْ". وَلَمْ
يَعْلَمْ كَيْفَ قَالَهُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَالَ ابْنُ العربي: والأظهر من حال
أَنَّهُ قَالَ:" لَا كَذِبُ" الْبَاءُ مَرْفُوعَةٌ،
وَيَخْفِضُ الْبَاءَ مِنْ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ عَلَى
الْإِضَافَةِ. وَقَالَ النَّحَّاسُ قَالَ بَعْضُهُمْ:
إِنَّمَا الرِّوَايَةُ بِالْإِعْرَابِ، وَإِذَا كَانَتْ
بِالْإِعْرَابِ لَمْ يَكُنْ شِعْرًا، لِأَنَّهُ إِذَا
فَتَحَ الْبَاءَ مِنَ الْبَيْتِ الْأَوَّلِ أَوْ ضَمَّهَا
أَوْ نَوَّنَهَا، وَكَسَرَ الْبَاءَ مِنَ الْبَيْتِ
الثَّانِي خَرَجَ عَنْ وَزْنِ الشِّعْرِ. وَقَالَ
بَعْضُهُمْ: لَيْسَ هَذَا الْوَزْنُ مِنَ الشِّعْرِ.
وَهَذَا مُكَابَرَةُ الْعِيَانِ، لِأَنَّ أَشْعَارَ
الْعَرَبِ عَلَى هَذَا قَدْ رَوَاهَا الْخَلِيلُ
وَغَيْرُهُ. وَأَمَّا قَوْلُهُ:" هَلْ أَنْتِ إِلَّا
إِصْبَعٌ دَمِيَتِ" فَقِيلَ إِنَّهُ مِنْ بَحْرِ
السَّرِيعِ، وَذَلِكَ لَا يَكُونُ إِلَّا إِذَا كُسِرَتِ
التَّاءُ مِنْ دَمِيَتِ، فَإِنْ سُكِّنَ لَا يَكُونُ
شِعْرًا بِحَالٍ، لِأَنَّ هَاتَيْنِ الْكَلِمَتَيْنِ عَلَى
هَذِهِ الصِّفَةِ تَكُونُ فَعُولٌ، وَلَا مَدْخَلَ
لِفَعُولٍ فِي بَحْرِ السَّرِيعِ. وَلَعَلَّ النَّبِيَّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَهَا سَاكِنَةَ
التَّاءِ أَوْ مُتَحَرِّكَةَ التَّاءِ مِنْ غَيْرِ
إِشْبَاعٍ. وَالْمُعَوَّلُ عَلَيْهِ فِي الِانْفِصَالِ
عَلَى تَسْلِيمِ أَنَّ هَذَا شِعْرٌ، وَيَسْقُطُ
الِاعْتِرَاضُ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْهُ أَنْ يَكُونَ
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عالما
بالشعر ولا شاعر أَنَّ التَّمَثُّلَ بِالْبَيْتِ النَّزْرِ
وَإِصَابَةَ الْقَافِيَتَيْنِ مِنَ الرَّجَزِ وَغَيْرِهِ،
لَا يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ قَائِلُهَا عَالِمًا
بِالشِّعْرِ، وَلَا يُسَمَّى شَاعِرًا بِاتِّفَاقِ
الْعُلَمَاءِ، كَمَا أَنَّ مَنْ خَاطَ خَيْطًا لَا يَكُونُ
خَيَّاطًا. قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ الزَّجَّاجُ: مَعْنَى:"
وَمَا علمناه الشعر" وما علمنا هـ أَنْ يُشْعِرَ أَيْ مَا
جَعَلْنَاهُ شَاعِرًا، وَهَذَا لَا يَمْنَعُ أَنْ يُنْشِدَ
شَيْئًا مِنَ الشِّعْرِ. قَالَ النَّحَّاسُ: وَهَذَا مِنْ
أَحْسَنِ مَا قِيلَ فِي هَذَا. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّمَا
خَبَّرَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَنَّهُ مَا عَلَّمَهُ
اللَّهُ الشِّعْرَ وَلَمْ يُخْبِرْ أَنَّهُ لَا يُنْشِدُ
شِعْرًا، وَهَذَا ظَاهِرُ الْكَلَامِ. وَقِيلَ فِيهِ
قَوْلٌ بَيِّنٌ، زَعَمَ صَاحِبُهُ أَنَّهُ إِجْمَاعٌ مِنْ
أَهْلِ اللُّغَةِ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ قَالُوا: كُلُّ مَنْ
قَالَ قَوْلًا مَوْزُونًا لَا يَقْصِدُ بِهِ إِلَى شِعْرٍ
فَلَيْسَ بِشِعْرٍ وَإِنَّمَا وَافَقَ الشِّعْرَ. وَهَذَا
قَوْلٌ بَيِّنٌ. قَالُوا: وَإِنَّمَا الَّذِي نَفَاهُ
اللَّهُ عَنْ نَبِيِّهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَهُوَ
الْعِلْمُ بِالشِّعْرِ وَأَصْنَافِهِ، وَأَعَارِيضِهِ
وَقَوَافِيهِ وَالِاتِّصَافِ بِقَوْلِهِ، وَلَمْ يَكُنْ
مَوْصُوفًا بِذَلِكَ بِالِاتِّفَاقِ. أَلَا تَرَى أَنَّ
قُرَيْشًا تَرَاوَضَتْ فِيمَا يَقُولُونَ لِلْعَرَبِ فِيهِ
إِذَا قَدِمُوا عَلَيْهِمُ الْمَوْسِمَ، فَقَالَ
بَعْضُهُمْ: نَقُولُ إِنَّهُ شَاعِرٌ. فَقَالَ أَهْلُ
الْفِطْنَةِ مِنْهُمْ: وَاللَّهِ لَتُكَذِّبَنَّكُمُ
الْعَرَبُ، فَإِنَّهُمْ يَعْرِفُونَ
(15/53)
أَصْنَافَ الشِّعْرِ، فَوَاللَّهِ مَا
يُشْبِهُ شَيْئًا مِنْهَا، وَمَا قَوْلُهُ بِشِعْرٍ.
وَقَالَ أُنَيْسٌ أَخُو أَبِي ذَرٍّ: لَقَدْ وَضَعْتُ
قَوْلَهُ عَلَى أَقْرَاءِ الشِّعْرِ»
فَلَمْ يَلْتَئِمْ أَنَّهُ شِعْرٌ. أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ،
وَكَانَ أُنَيْسٌ مِنْ أَشْعَرِ الْعَرَبِ. وَكَذَلِكَ
عُتْبَةُ
بْنُ أَبِي رَبِيعَةَ لَمَّا كَلَّمَهُ: وَاللَّهِ مَا
هُوَ بِشِعْرٍ وَلَا كِهَانَةٍ وَلَا سِحْرٍ، عَلَى مَا
يَأْتِي بَيَانُهُ مِنْ خَبَرِهِ فِي سُورَةِ" فُصِّلَتْ"
إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَكَذَلِكَ قَالَ
غَيْرُهُمَا مِنْ فُصَحَاءِ الْعَرَبِ الْعُرَبَاءِ،
وَاللُّسُنِ الْبُلَغَاءِ. ثُمَّ إِنَّ مَا يَجْرِي عَلَى
اللِّسَانِ مِنْ مَوْزُونِ الكلام لا يعد شعرا، وإنما بعد
مِنْهُ مَا يَجْرِي عَلَى وَزْنِ الشِّعْرِ مَعَ الْقَصْدِ
إِلَيْهِ، فَقَدْ يَقُولُ الْقَائِلُ: حَدَّثَنَا شَيْخٌ
لَنَا وَيُنَادِي يَا صَاحِبَ الْكِسَائِيِّ، وَلَا
يُعَدُّ هَذَا شِعْرًا. وَقَدْ كَانَ رَجُلٌ يُنَادِي فِي
مَرَضِهِ وَهُوَ مِنْ عُرْضِ الْعَامَّةِ الْعُقَلَاءِ:
اذْهَبُوا بِي إِلَى الطَّبِيبِ وَقُولُوا قَدِ اكْتَوَى.
الثَّالِثَةُ- رَوَى ابْنُ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ
أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ إِنْشَادِ الشِّعْرِ فَقَالَ: لَا
تُكْثِرَنَّ مِنْهُ، فَمِنْ عَيْبِهِ أَنَّ اللَّهَ
يَقُولُ:" وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ وَما يَنْبَغِي
لَهُ" قَالَ: وَلَقَدْ بَلَغَنِي أَنَّ عُمَرَ بْنَ
الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَتَبَ إِلَى أَبِي
مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ: أَنِ اجْمَعِ الشُّعَرَاءَ
قِبَلَكَ، وَسَلْهُمْ عَنِ الشِّعْرِ، وَهَلْ بَقِيَ
مَعَهُمْ مَعْرِفَةٌ، وَأَحْضِرْ لَبِيدًا ذَلِكَ، قَالَ:
فَجَمَعَهُمْ فَسَأَلَهُمْ فَقَالُوا إِنَّا لَنَعْرِفُهُ
وَنَقُولُهُ. وَسَأَلَ لَبِيدًا فَقَالَ: مَا قُلْتُ
شِعْرًا مُنْذُ سَمِعْتُ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ:"
الم ذلِكَ الْكِتابُ لَا رَيْبَ فِيهِ" [البقرة: 2 - 1]
قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: هَذِهِ الْآيَةُ لَيْسَتْ مِنْ
عَيْبِ الشِّعْرِ، كَمَا لَمْ يَكُنْ قَوْلُهُ:" وَما
كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَلا تَخُطُّهُ
بِيَمِينِكَ" [العنكبوت: 48] مِنْ عَيْبِ الْكِتَابَةِ،
فَلَمَّا لَمْ تَكُنِ الْأُمِّيَّةُ مِنْ عَيْبِ الْخَطِّ،
كَذَلِكَ لَا يَكُونُ نَفْيُ النَّظْمِ عَنِ النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ عَيْبِ الشِّعْرِ.
رُوِيَ أَنَّ الْمَأْمُونَ قَالَ لِأَبِي عَلِيٍّ
الْمِنْقَرِيِّ: بَلَغَنِي أَنَّكَ أُمِّيٌّ، وَأَنَّكَ
لَا تُقِيمُ الشِّعْرَ، وَأَنَّكَ تَلْحَنُ. فَقَالَ: يَا
أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، أَمَّا اللَّحْنُ فَرُبَّمَا
سَبَقَ لِسَانِي مِنْهُ بِشَيْءٍ، وَأَمَّا الْأُمِّيَّةُ
وَكَسْرُ الشَّعْرِ فَقَدْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَكْتُبُ وَلَا يُقِيمُ
الشِّعْرَ. فَقَالَ لَهُ: سَأَلْتُكَ عَنْ ثَلَاثَةِ
عُيُوبٍ فِيكَ فَزِدْتَنِي رَابِعًا وَهُوَ الْجَهْلُ، يَا
جَاهِلُ! إِنَّ ذَلِكَ كَانَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَضِيلَةً، وَهُوَ فِيكَ وَفِي
أَمْثَالِكَ نَقِيصَةٌ، وَإِنَّمَا مُنِعَ النَّبِيُّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَلِكَ لِنَفْيِ
الظِّنَّةِ عنه، لا لعيب في الشعر والكتابة.
__________
(1). أقراء الشعر: أنواعه وطرقه وبحوره ومقاصده.
(15/54)
أَوَلَمْ يَرَوْا
أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا
أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ (71) وَذَلَّلْنَاهَا
لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ (72)
وَلَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَمَشَارِبُ أَفَلَا
يَشْكُرُونَ (73)
الرَّابِعَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَما
يَنْبَغِي لَهُ" أَيْ وما ينبغي له أن يقول. وَجَعَلَ
اللَّهُ جَلَّ وَعَزَّ ذَلِكَ عَلَمًا مِنْ أَعْلَامِ
نَبِيِّهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِئَلَّا تَدْخُلُ
الشُّبْهَةُ عَلَى مَنْ أُرْسِلَ إِلَيْهِ، فَيَظُنُّ
أَنَّهُ قَوِيَ عَلَى الْقُرْآنِ بِمَا فِي طَبْعِهِ مِنَ
الْقُوَّةِ عَلَى الشِّعْرِ. وَلَا اعْتِرَاضَ لِمُلْحِدٍ
عَلَى هَذَا بِمَا يَتَّفِقُ الْوَزْنُ فِيهِ مِنَ
الْقُرْآنِ وَكَلَامِ الرَّسُولِ، لِأَنَّ مَا وَافَقَ
وَزْنُهُ وَزْنَ الشِّعْرِ، وَلَمْ يَقْصِدْ بِهِ إِلَى
الشِّعْرِ لَيْسَ بِشِعْرٍ، وَلَوْ كَانَ شِعْرًا لَكَانَ
كُلُّ مَنْ نَطَقَ بِمَوْزُونٍ مِنَ الْعَامَّةِ الَّذِينَ
لَا يَعْرِفُونَ الْوَزْنَ شَاعِرًا، عَلَى مَا تَقَدَّمَ
بَيَانُهُ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: مَعْنَى" وَما يَنْبَغِي
لَهُ" أَيْ مَا يَتَسَهَّلَ قول الشعر إلا الإنشاء." إِنْ
هُوَ" أي هذا الذي يتلوه عليكم" ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ"
قَوْلُهُ تَعَالَى:" لِيُنْذِرَ مَنْ كانَ حَيًّا" أَيْ
حَيُّ الْقَلْبِ، قَالَ قَتَادَةُ. الضَّحَّاكُ: عَاقِلًا.
وَقِيلَ: الْمَعْنَى لِتُنْذِرَ مَنْ كَانَ مُؤْمِنًا فِي
عِلْمِ اللَّهِ. هَذَا عَلَى قِرَاءَةِ التَّاءِ خِطَابًا
لِلنَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَهِيَ قِرَاءَةُ
نَافِعٍ وَابْنِ عَامِرٍ. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِالْيَاءِ
عَلَى مَعْنَى لِيُنْذِرَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ، أَوْ
لِيُنْذِرَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
أَوْ لِيُنْذِرَ الْقُرْآنُ. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ
السَّمَيْقَعِ" لِيُنْذَرَ" بِفَتْحِ الْيَاءِ
وَالذَّالِ." وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكافِرِينَ"
أَيْ وتجب الحجة بالقرآن على الكفرة.
[سورة يس (36): الآيات 71 الى 73]
أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ
أَيْدِينا أَنْعاماً فَهُمْ لَها مالِكُونَ (71)
وَذَلَّلْناها لَهُمْ فَمِنْها رَكُوبُهُمْ وَمِنْها
يَأْكُلُونَ (72) وَلَهُمْ فِيها مَنافِعُ وَمَشارِبُ
أَفَلا يَشْكُرُونَ (73)
قَوْلُهُ تَعَالَى:" أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنا
لَهُمْ" هَذِهِ رُؤْيَةُ الْقَلْبِ، أَيْ أَوَلَمْ
يَنْظُرُوا وَيَعْتَبِرُوا وَيَتَفَكَّرُوا." مِمَّا
عَمِلَتْ أَيْدِينا" أَيْ مِمَّا أَبْدَعْنَاهُ
وَعَمِلْنَاهُ مِنْ غَيْرِ وَاسِطَةٍ وَلَا وَكَالَةٍ
وَلَا شَرِكَةٍ. وَ" مَا" بِمَعْنَى الذي وحذفت إلها
لِطُولِ الِاسْمِ. وَإِنْ جَعَلْتَ" مَا" مَصْدَرِيَّةً
لَمْ تَحْتَجْ إِلَى إِضْمَارِ الْهَاءِ." أَنْعَامًا"
جَمْعُ نَعَمٍ وَالنَّعَمُ مُذَكَّرٌ." فَهُمْ لَها
مالِكُونَ" ضَابِطُونَ قَاهِرُونَ." وَذَلَّلْناها لَهُمْ
أَيْ سَخَّرْنَاهَا لَهُمْ حَتَّى يَقُودَ الصَّبِيُّ
الْجَمَلَ الْعَظِيمَ وَيَضْرِبَهُ وَيَصْرِفَهُ كَيْفَ
شَاءَ لَا يَخْرُجُ مِنْ طَاعَتِهِ." فَمِنْها
رَكُوبُهُمْ" قِرَاءَةُ الْعَامَّةِ بِفَتْحِ الرَّاءِ،
أَيْ مَرْكُوبُهُمْ، كَمَا يُقَالُ: ناقة
(15/55)
وَاتَّخَذُوا مِنْ
دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ (74) لَا
يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ
مُحْضَرُونَ (75) فَلَا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّا
نَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ (76)
حَلُوبٌ أَيْ مَحْلُوبٌ. وَقَرَأَ
الْأَعْمَشُ وَالْحَسَنُ وَابْنُ السَّمَيْقَعِ:"
فَمِنْهَا رُكُوبُهُمْ" بِضَمِّ الرَّاءِ عَلَى
الْمَصْدَرِ. وَرُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَرَأَتْ"
فَمِنْهَا رَكُوبَتُهُمْ" وَكَذَا فِي مُصْحَفِهَا
وَالرَّكُوبُ وَالرَّكُوبَةُ وَاحِدٌ، مِثْلَ الْحَلُوبُ
وَالْحَلُوبَةُ وَالْحَمُولُ وَالْحَمُولَةُ. وَحَكَى
النَّحْوِيُّونَ الْكُوفِيُّونَ: أَنَّ الْعَرَبَ تَقُولُ:
امْرَأَةٌ صَبُورٌ وَشَكُورٌ بِغَيْرِ هَاءٍ.
وَيَقُولُونَ: شَاةٌ حَلُوبَةٌ وَنَاقَةٌ رَكُوبَةٌ،
لِأَنَّهُمْ أَرَادُوا أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ مَا كَانَ
لَهُ الْفِعْلُ وَبَيْنَ مَا كَانَ الْفِعْلُ وَاقِعًا
عَلَيْهِ، فحذفوا الهاء مما كان فاعلا وأثبتوا فِيمَا
كَانَ مَفْعُولًا، كَمَا قَالَ «1»:
فِيهَا اثْنَتَانِ وأربعون حلوبة ... وسودا كَخَافِيَةِ
الْغُرَابِ الْأَسْحَمِ
فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ عَلَى هَذَا رَكُوبَتَهُمْ.
فَأَمَّا الْبَصْرِيُّونَ فَيَقُولُونَ: حُذِفَتِ الْهَاءُ
عَلَى النَّسَبِ. وَالْحُجَّةُ لِلْقَوْلِ الْأَوَّلِ مَا
رَوَاهُ الْجَرْمِيُّ عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ قَالَ:
الرَّكُوبَةُ تَكُونُ لِلْوَاحِدِ وَالْجَمَاعَةِ،
وَالرَّكُوبُ لَا يَكُونُ إِلَّا لِلْجَمَاعَةِ. فَعَلَى
هَذَا يَكُونُ لِتَذْكِيرِ الْجَمْعِ. وَزَعَمَ أَبُو
حَاتِمٍ: أَنَّهُ لَا يَجُوزُ" فَمِنْهَا رُكُوبُهُمْ"
بِضَمِّ الرَّاءِ لِأَنَّهُ مَصْدَرٌ، وَالرَّكُوبُ مَا
يُرْكَبُ. وَأَجَازَ الْفَرَّاءُ" فَمِنْهَا رُكُوبُهُمْ"
بِضَمِّ الرَّاءِ، كَمَا تَقُولُ فَمِنْهَا أُكُلُهُمْ
وَمِنْهَا شُرْبُهُمْ." وَمِنْها يَأْكُلُونَ" مِنْ
لُحْمَانِهَا" وَلَهُمْ فِيها مَنافِعُ" مِنْ أَصْوَافِهَا
وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا وَشُحُومِهَا وَلُحُومِهَا
وَغَيْرِ ذَلِكَ." وَمَشارِبُ" يَعْنِي أَلْبَانَهَا،
وَلَمْ يَنْصَرِفَا لِأَنَّهُمَا مِنَ الْجُمُوعِ الَّتِي
لَا نَظِيرَ لَهَا فِي الْوَاحِدِ." أَفَلا يَشْكُرُونَ"
الله على نعمه.
[سورة يس (36): الآيات 74 الى 76]
وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ
يُنْصَرُونَ (74) لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ وَهُمْ
لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ (75) فَلا يَحْزُنْكَ
قَوْلُهُمْ إِنَّا نَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَما
يُعْلِنُونَ (76)
مَا يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ قَوْلُهُ تَعَالَى:"
وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً" أَيْ قَدْ
رَأَوْا هذه الآيات من قدوتنا، ثُمَّ اتَّخَذُوا مِنْ
دُونِنَا آلِهَةً لَا قُدْرَةَ لَهَا عَلَى فِعْلٍ."
لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ" أَيْ لِمَا يرجون من نصرتها
__________
(1). هو عنترة بن شداد.
(15/56)
أَوَلَمْ يَرَ
الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا
هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (77)
لَهُمْ إِنْ نَزَلَ بِهِمْ عَذَابٌ. وَمِنَ
الْعَرَبِ مَنْ يَقُولُ: لَعَلَّهُ أَنْ يَفْعَلَ." لَا
يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ" يَعْنِي الْآلِهَةَ.
وَجَمَعُوا بِالْوَاوِ وَالنُّونِ، لِأَنَّهُ أَخْبَرَ
عَنْهُمْ بِخَبَرِ الْآدَمِيِّينَ." وَهُمْ" يَعْنِي
الْكُفَّارَ" لَهُمْ" أَيْ لِلْآلِهَةِ" جُنْدٌ
مُحْضَرُونَ" قَالَ الْحَسَنُ: يَمْنَعُونَ مِنْهُمْ
وَيَدْفَعُونَ عَنْهُمْ. وَقَالَ قَتَادَةُ: أَيْ
يَغْضَبُونَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا. وَقِيلَ: الْمَعْنَى
أَنَّهُمْ يَعْبُدُونَ الْآلِهَةَ وَيَقُومُونَ بِهَا،
فَهُمْ لَهَا بِمَنْزِلَةِ الْجُنْدِ وَهِيَ لَا
تَسْتَطِيعُ أَنْ تَنْصُرَهُمْ. وَهَذِهِ الْأَقْوَالُ
الثَّلَاثَةُ مُتَقَارِبَةُ الْمَعْنَى. وَقِيلَ: إِنَّ
الْآلِهَةَ جُنْدٌ لِلْعَابِدِينَ مُحْضَرُونَ مَعَهُمْ
فِي النَّارِ. فَلَا يَدْفَعُ بَعْضُهُمْ عَنْ بَعْضٍ.
وَقِيلَ: مَعْنَاهُ وَهَذِهِ الْأَصْنَامُ لِهَؤُلَاءِ
الْكُفَّارِ جُنْدُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ فِي جَهَنَّمَ،
لِأَنَّهُمْ يَلْعَنُونَهُمْ وَيَتَبَرَّءُونَ مِنْ
عِبَادَتِهِمْ. وَقِيلَ: الْآلِهَةُ جُنْدٌ لَهُمْ
مُحْضَرُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لِإِعَانَتِهِمْ فِي
ظُنُونِهِمْ. وَفِي الْخَبَرِ: إِنَّهُ يُمَثَّلُ لِكُلِّ
قَوْمٍ مَا كَانُوا يَعْبُدُونَهُ فِي الدُّنْيَا مِنْ
دُونِ اللَّهِ فَيَتْبَعُونَهُ إِلَى النَّارِ، فَهُمْ
لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ قُلْتُ: وَمَعْنَى هَذَا
الْخَبَرِ مَا ثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ
أَبِي هُرَيْرَةَ، وَفِي التِّرْمِذِيِّ عَنْهُ أَنَّ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:"
يَجْمَعُ اللَّهُ النَّاسَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِي
صَعِيدٍ وَاحِدٍ ثُمَّ يَطَّلِعُ عَلَيْهِمْ رَبُّ
الْعَالَمِينَ فَيَقُولُ أَلَا لِيَتْبَعْ كُلُّ إِنْسَانٍ
مَا كَانَ يَعْبُدُ فَيُمَثَّلُ لِصَاحِبِ الصَّلِيبِ
صَلِيبُهُ وَلِصَاحِبِ التَّصَاوِيرِ تَصَاوِيرُهُ
وَلِصَاحِبِ النَّارِ نَارُهُ فَيَتَّبِعُونَ مَا كَانُوا
يَعْبُدُونَ وَيَبْقَى الْمُسْلِمُونَ" وَذَكَرَ
الْحَدِيثَ بِطُولِهِ." فَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ"
هَذِهِ اللُّغَةُ الْفَصِيحَةُ. وَمِنَ الْعَرَبِ مَنْ
يَقُولُ يُحْزِنُكَ. وَالْمُرَادُ تَسْلِيَةُ نَبِيِّهِ
عَلَيْهِ السَّلَامُ، أَيْ لَا يَحْزُنْكَ قولهم شاعر
ساحر. وتم الكلام تم استأنف فقال:" إِنَّا نَعْلَمُ مَا
يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ" مِنَ القول والعمل وما
يظهرون فنجازيهم بذلك.
[سورة يس (36): آية 77]
أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ
نُطْفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (77)
مُبِينٌ قَوْلُهُ تَعَالَى:" أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسانُ"
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْإِنْسَانُ هُوَ عَبْدُ اللَّهِ
بْنُ أُبَيٍّ. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: هُوَ
الْعَاصُ بن وا السَّهْمِيُّ. وَقَالَ الْحَسَنُ: هُوَ
أُبَيُّ بْنُ خَلَفٍ الجمحي.
(15/57)
وَضَرَبَ لَنَا
مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ
وَهِيَ رَمِيمٌ (78) قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا
أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ (79)
وقاله ابن إسحاق، ورواه ابن وهب عمالك."
أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ نُطْفَةٍ" وَهُوَ الْيَسِيرُ مِنَ
الْمَاءِ، نَطِفَ إِذَا قَطَرَ." فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ
مُبِينٌ" أَيْ مُجَادِلٌ فِي الْخُصُومَةِ مُبِينٌ
لِلْحُجَّةِ. يُرِيدُ بِذَلِكَ أَنَّهُ صَارَ بِهِ بَعْدَ
أَنْ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا خَصِيمًا مُبِينًا.
وَذَلِكَ أَنَّهُ أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِعَظْمٍ حَائِلٍ فَقَالَ: يَا
مُحَمَّدُ أَتَرَى أَنَّ اللَّهَ يُحْيِي هَذَا بَعْدَ مَا
رَمَّ! فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ" نَعَمْ وَيَبْعَثُكَ الله ويدخلك النار" فنزلت
هذه الآية.
[سورة يس (36): الآيات 78 الى 79]
وَضَرَبَ لَنا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قالَ مَنْ يُحْيِ
الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (78) قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي
أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ
(79)
قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَضَرَبَ لَنا مَثَلًا وَنَسِيَ
خَلْقَهُ قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ"
فِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى:"
وَضَرَبَ لَنا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ" أَيْ وَنَسِيَ
أَنَّا أَنْشَأْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ مَيِّتَةٍ
فَرَكَّبْنَا فيه الحياة. أي جوا به مِنْ نَفْسِهِ
حَاضِرٌ، وَلِهَذَا قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ:" نَعَمْ
وَيَبْعَثُكَ اللَّهُ وَيُدْخِلُكَ النَّارَ" فَفِي هَذَا
دَلِيلٌ عَلَى صِحَّةِ الْقِيَاسِ، لِأَنَّ اللَّهَ جَلَّ
وَعَزَّ احْتَجَّ عَلَى مُنْكِرِي الْبَعْثِ بِالنَّشْأَةِ
الْأُولَى." قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ"
أَيْ بَالِيَةٌ. رَمَّ الْعَظْمُ فَهُوَ رَمِيمٌ
وَرِمَامٌ. وَإِنَّمَا قَالَ رَمِيمٌ وَلَمْ يَقُلْ
رَمِيمَةٌ، لِأَنَّهَا مَعْدُولَةٌ عَنْ فَاعِلَةٍ، وَمَا
كَانَ مَعْدُولًا عَنْ وَجْهِهِ وَوَزْنِهِ كَانَ
مَصْرُوفًا عَنْ إِعْرَابِهِ، كَقَوْلِهِ:" وَما كانَتْ
أُمُّكِ بَغِيًّا" [مريم: 28] أَسْقَطَ الْهَاءَ،
لِأَنَّهَا مَصْرُوفَةٌ عَنْ بَاغِيَةٍ. وَقِيلَ: إِنَّ
هَذَا الْكَافِرَ قَالَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَرَأَيْتَ إِنْ سَحَقْتُهَا
وَأَذْرَيْتُهَا فِي الرِّيحِ أَيُعِيدُهَا اللَّهُ!
فَنَزَلَتْ" قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ
مَرَّةٍ" أي من غير شي فهو قادر عي إعادتها في النشأة
الثانية من شي وهو عجم الذنب. ويقال عجب الذنب بالياء."
وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ" أي كيف بيدي ويعيد.
(15/58)
الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ
مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنْتُمْ
مِنْهُ تُوقِدُونَ (80) أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ
السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ
مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ (81)
إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ
لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (82) فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ
مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (83)
الثَّانِيَةُ- فِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلِيلٌ
عَلَى أَنَّ فِي الْعِظَامِ حَيَاةً وَأَنَّهَا تَنْجُسُ
بِالْمَوْتِ. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ «1» وَبَعْضُ
أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ. وَقَالَ الشافعي رضي الله عنه:
حَيَاةَ فِيهَا. وَقَدْ تَقَدَّمَ هَذَا فِي" النَّحْلِ".
فإن قيل: أراد بقوله" مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ" أَصْحَابَ
الْعِظَامِ وَإِقَامَةُ الْمُضَافِ مَقَامَ الْمُضَافِ
إِلَيْهِ كَثِيرٌ فِي اللُّغَةِ، مَوْجُودٌ فِي
الشَّرِيعَةِ. قُلْنَا: إِنَّمَا يَكُونُ إِذِ احْتِيجَ
لِضَرُورَةٍ وَلَيْسَ ها هنا ضَرُورَةٌ تَدْعُو إِلَى
هَذَا الْإِضْمَارِ، وَلَا يَفْتَقِرُ إلى هذا التقدير،
إذا الْبَارِي سُبْحَانَهُ قَدْ أَخْبَرَ بِهِ وَهُوَ
قَادِرٌ عَلَيْهِ وَالْحَقِيقَةُ تَشْهَدُ لَهُ، فَإِنَّ
الْإِحْسَاسَ الَّذِي هُوَ عَلَامَةُ الْحَيَاةِ مَوْجُودٌ
فِيهِ، قَالَهُ ابْنُ العربي.
[سورة يس (36): الآيات 80 الى 83]
الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا
فَإِذا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ (80) أَوَلَيْسَ
الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِقادِرٍ عَلى
أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلى وَهُوَ الْخَلاَّقُ
الْعَلِيمُ (81) إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً
أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (82) فَسُبْحانَ الَّذِي
بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ
(83)
قَوْلُهُ تَعَالَى:" الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ
الْأَخْضَرِ نَارًا" نَبَّهَ تَعَالَى عَلَى
وَحْدَانِيِّتِهِ، وَدَلَّ عَلَى كَمَالِ قُدْرَتِهِ فِي
إِحْيَاءِ الْمَوْتَى بِمَا يُشَاهِدُونَهُ مِنْ إِخْرَاجِ
الْمُحْرَقِ الْيَابِسِ مِنَ العود الندي الر طب. وَذَلِكَ
أَنَّ الْكَافِرَ قَالَ: النُّطْفَةُ حَارَّةٌ رَطْبَةٌ
بِطَبْعِ حَيَاةٍ فَخَرَجَ مِنْهَا الْحَيَاةُ،
وَالْعَظْمُ بَارِدٌ يَابِسٌ بِطَبْعِ الْمَوْتِ فَكَيْفَ
تَخْرُجُ مِنْهُ الْحَيَاةُ! فَأَنْزَلَ اللَّهُ
تَعَالَى:" الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ
الْأَخْضَرِ نَارًا" أَيْ إِنَّ الشَّجَرَ الْأَخْضَرَ
مِنَ الْمَاءِ وَالْمَاءُ بَارِدٌ رَطْبٌ ضِدُّ النَّارِ
وَهُمَا لَا يَجْتَمِعَانِ، فَأَخْرَجَ اللَّهُ مِنْهُ
النَّارَ، فَهُوَ الْقَادِرُ عَلَى إِخْرَاجِ الضِّدِّ
مِنَ الضِّدِّ، وهو على كل شي قدير. معني بالآية
__________
(1). هذا يخالف مذهب الحنفية وما تقدم للمؤلف في ج 10 ص
155 من أن أبا حنيفة يقول بطهارة عظم الميتة.
(15/59)
مَا فِي الْمَرْخِ وَالْعَفَارِ، وَهِيَ
زُنَادَةُ الْعَرَبِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ: فِي كُلِّ
شَجَرٍ نَارٌ وَاسْتَمْجَدَ المر وَالْعَفَارُ «1»،
فَالْعَفَارُ الزَّنْدُ وَهُوَ الْأَعْلَى، وَالْمَرْخُ
الزَّنْدَةُ وَهِيَ الْأَسْفَلُ، يُؤْخَذُ مِنْهُمَا
غُصْنَانِ مِثْلَ الْمِسْوَاكَيْنِ يَقْطُرَانِ مَاءً
فَيَحُكُّ بَعْضُهُمَا إِلَى بَعْضٍ فَتَخْرُجُ مِنْهُمَا
النَّارُ. وَقَالَ:" مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ" وَلَمْ
يَقُلِ الْخَضْرَاءَ وَهُوَ جَمْعٌ، لِأَنَّ رَدَّهُ إِلَى
اللَّفْظِ. وَمِنَ الْعَرَبِ مَنْ يَقُولُ: الشَّجَرُ
الْخَضْرَاءُ، كَمَا قَالَ عَزَّ وَجَلَّ:" مِنْ شَجَرٍ
مِنْ زَقُّومٍ فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ" [الواقعة:
53 - 52]. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى مُحْتَجًّا:" أَوَلَيْسَ
الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِقادِرٍ عَلى
أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ" أَيْ أَمْثَالَ الْمُنْكِرِينَ
لِلْبَعْثِ. وَقَرَأَ سَلَامٌ أَبُو الْمُنْذِرِ
وَيَعْقُوبُ الْحَضْرَمِيُّ:" يَقْدِرُ عَلَى أَنْ
يَخْلُقَ مثلهم" على أنه فعل." بلى" أي إن خلق السموات
والأرض أعظم من خلقهم، فالذي خلق السموات وَالْأَرْضَ
يَقْدِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَهُمْ." وَهُوَ الْخَلَّاقُ
الْعَلِيمُ" وَقَرَأَ الْحَسَنُ بِاخْتِلَافٍ عَنْهُ"
الْخَالِقُ". قَوْلُهُ تَعَالَى:" إِنَّما أَمْرُهُ إِذا
أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ" قَرَأَ
الْكِسَائِيُّ" فَيَكُونَ" بِالنَّصْبِ عَطْفًا عَلَى"
يَقُولَ" أَيْ إِذَا أَرَادَ خلق شي لَا يَحْتَاجُ إِلَى
تَعَبٍ وَمُعَالَجَةٍ. وَقَدْ مَضَى هَذَا فِي غَيْرِ
مَوْضِعٍ." فَسُبْحانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ
شَيْءٍ" نَزَّهَ نَفْسَهُ تَعَالَى عَنِ الْعَجْزِ
وَالشِّرْكِ وَمَلَكُوتُ وَمَلَكُوتِي فِي كَلَامِ
الْعَرَبِ بِمَعْنَى مُلْكٍ. وَالْعَرَبُ تَقُولُ:
جَبَرُوتِي خَيْرٌ مِنْ رَحَمُوتِي. وَقَالَ سَعِيدٌ عَنْ
قَتَادَةَ:" مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ" مفاتح كل شي.
وَقَرَأَ طَلْحَةُ بْنُ مُصَرِّفٍ وَإِبْرَاهِيمُ
التَّيْمِيُّ وَالْأَعْمَشُ" مَلَكَةُ"، وَهُوَ بِمَعْنَى
مَلَكُوتٍ إِلَّا أَنَّهُ خِلَافُ الْمُصْحَفِ."
وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ" أَيْ تُرَدُّونَ وَتَصِيرُونَ
بَعْدَ مَمَاتِكُمْ. وَقِرَاءَةُ الْعَامَّةِ بِالتَّاءِ
عَلَى الْخِطَابِ. وَقَرَأَ السُّلَمِيُّ وَزِرُّ بْنُ
حُبَيْشٍ وَأَصْحَابُ عَبْدِ اللَّهِ" يرجعون" بالياء على
الخبر.
__________
(1). استمجد المرخ والعفار: أي استكثرا وأخذا من النار ما
هو حسبهما. وهو مثل يضرب في تفضيل بعض الشيء على بعض.
(15/60)
|