تفسير القرطبي

إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ (1) وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ (2) وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ (3) وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ (4) وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ (5) وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ (6) وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ (7) وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ (8) بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ (9) وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ (10) وَإِذَا السَّمَاءُ كُشِطَتْ (11) وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ (12) وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ (13) عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ (14)

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

[سورة التكوير (81): الآيات 1 الى 14]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ (1) وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ (2) وَإِذَا الْجِبالُ سُيِّرَتْ (3) وَإِذَا الْعِشارُ عُطِّلَتْ (4)
وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ (5) وَإِذَا الْبِحارُ سُجِّرَتْ (6) وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ (7) وَإِذَا الْمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ (8) بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ (9)
وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ (10) وَإِذَا السَّماءُ كُشِطَتْ (11) وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ (12) وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ (13) عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ (14)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ) قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: تَكْوِيرُهَا: إِدْخَالُهَا فِي الْعَرْشِ. وَالْحَسَنُ: ذَهَابُ ضَوْئِهَا. وَقَالَهُ قَتَادَةُ وَمُجَاهِدٌ: وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا. سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: عُوِّرَتْ. أَبُو عُبَيْدَةَ: كُوِّرَتْ مِثْلَ تَكْوِيرِ الْعِمَامَةِ، تُلَفُّ فَتُمْحَى. وَقَالَ الرَّبِيعُ بن خيثم: كُوِّرَتْ رُمِيَ بِهَا، وَمِنْهُ: كَوَّرْتُهُ فَتَكَوَّرَ، أَيْ سَقَطَ. قُلْتُ: وَأَصْلُ التَّكْوِيرِ: الْجَمْعُ، مَأْخُوذٌ مِنْ كَارَ الْعِمَامَةَ عَلَى رَأْسِهِ يَكُورُهَا أَيْ لَاثَهَا وَجَمَعَهَا فَهِيَ تُكَوَّرُ وَيُمْحَى ضَوْءُهَا، ثُمَّ يُرْمَى بِهَا فِي الْبَحْرِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَعَنْ أَبِي صَالِحٍ: كُوِّرَتْ: نُكِّسَتْ. (وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ) أَيْ تَهَافَتَتْ وَتَنَاثَرَتْ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: انْصَبَّتْ كَمَا تَنْصَبُّ الْعُقَابُ إِذَا انْكَسَرَتْ. قَالَ الْعَجَّاجُ يَصِفُ صَقْرًا «1»:
أَبْصَرَ خِرْبَانَ فَضَاءَ فَانْكَدَرْ ... تَقَضِّي الْبَازِي إذا البازي كسر
__________
(1). هكذا البيت في نسخ الأصل التي بأيدينا والذي في ديوان العجاج رواية الأصمعي نسخة الشنقيطي: قال يمدح عمرو بن عبيد الله بن معمر: قد جبر الدين الاله فجبر. إلى أن قال:
دانى جناحيه من الطور فمر ... تقضى البازي إذا البازي كسر
أبصر خربان فضاء فانكدر ... اشكى الكلاليب إذا أهوى اطفر
الطور: الجبل وعنى هنا الشام يقول: انقض ابن معمر انقضاضة من الشام انقضاض البازي ضم جناحيه. وخربان: جمع خرب وهو ذكر الحبارى والكلاليب المخالب واطفر: أصله اظتفر فأبدلت التاء طاء فأدغمت في الظاء.

(19/227)


وَرَوَى أَبُو صَالِحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (لَا يَبْقَى فِي السَّمَاءِ يَوْمَئِذٍ نَجْمٌ إِلَّا سَقَطَ فِي الْأَرْضِ، حَتَّى يَفْزَعَ أَهْلُ الْأَرْضِ السَّابِعَةِ مِمَّا لَقِيَتْ وَأَصَابَ الْعُلْيَا)، يَعْنِي الْأَرْضَ. وَرَوَى الضَّحَّاكُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: تَسَاقَطَتْ، وَذَلِكَ أَنَّهَا قَنَادِيلُ مُعَلَّقَةٌ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ بِسَلَاسِلَ مِنْ نُورٍ، وَتِلْكَ السَّلَاسِلُ بِأَيْدِي مَلَائِكَةٍ مِنْ نُورٍ، فَإِذَا جَاءَتِ النَّفْخَةُ الْأُولَى مَاتَ من في الأرض ومن في السموات، فَتَنَاثَرَتْ تِلْكَ الْكَوَاكِبُ وَتَسَاقَطَتِ السَّلَاسِلُ مِنْ أَيْدِي الْمَلَائِكَةِ، لِأَنَّهُ مَاتَ مَنْ كَانَ يُمْسِكُهَا. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ انْكِدَارُهَا طَمْسَ آثَارِهَا. وَسُمِّيَتِ النُّجُومُ نُجُومًا لِظُهُورِهَا فِي السَّمَاءِ بِضَوْئِهَا. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا: انْكَدَرَتْ تَغَيَّرَتْ فَلَمْ يَبْقَ لَهَا ضَوْءٌ لِزَوَالِهَا «1» عَنْ أَمَاكِنِهَا. وَالْمَعْنَى مُتَقَارِبٌ. (وَإِذَا الْجِبالُ سُيِّرَتْ) يَعْنِي قُلِعَتْ مِنَ الْأَرْضِ، وَسُيِّرَتْ فِي الْهَوَاءِ، وَهُوَ مِثْلُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بارِزَةً [الكهف: 47]. وَقِيلَ: سَيْرُهَا تَحَوُّلُهَا عَنْ مَنْزِلَةِ الْحِجَارَةِ، فَتَكُونُ كَثِيبًا مَهِيلًا أَيْ رَمْلًا سَائِلًا وَتَكُونُ كَالْعِهْنِ، وَتَكُونُ هَبَاءً مَنْثُورًا، وَتَكُونُ سَرَابًا، مِثْلَ السَّرَابِ الَّذِي لَيْسَ بِشَيْءٍ. وَعَادَتِ الْأَرْضُ قَاعًا صَفْصَفًا لَا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلَا أمتا. وَقَدْ تَقَدَّمَ «2» فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ. (وَإِذَا الْعِشارُ عُطِّلَتْ) أَيِ النُّوقُ الْحَوَامِلُ الَّتِي فِي بُطُونِهَا أَوْلَادُهَا، الْوَاحِدَةُ عُشَرَاءُ أَوِ الَّتِي أَتَى عَلَيْهَا فِي الْحَمْلِ عَشَرَةُ أَشْهُرٍ، ثُمَّ لا يزال ذلك اسمها حتى تضع، وبعد ما تَضَعُ أَيْضًا. وَمِنْ عَادَةِ الْعَرَبِ أَنْ يُسَمُّوا الشَّيْءَ بِاسْمِهِ الْمُتَقَدِّمِ وَإِنْ كَانَ قَدْ جَاوَزَ ذَلِكَ، يَقُولُ الرَّجُلُ لِفَرَسِهِ وَقَدْ قَرِحَ: هَاتُوا مهري وقربوا مهري، يسميه بِمُتَقَدِّمِ اسْمِهِ، قَالَ عَنْتَرَةُ:
لَا تَذْكُرِي مُهْرِي وما أطمعته ... فَيَكُونُ جِلْدُكِ مِثْلَ جِلْدِ الْأَجْرَبِ
وَقَالَ أَيْضًا:
وَحَمَلْتُ مُهْرِيَ وَسْطَهَا فَمَضَاهَا «3»

وَإِنَّمَا خَصَّ الْعِشَارَ بِالذِّكْرِ، لِأَنَّهَا أَعَزُّ مَا تَكُونُ عَلَى الْعَرَبِ، وَلَيْسَ يُعَطِّلُهَا أَهْلُهَا إِلَّا حَالَ الْقِيَامَةِ. وَهَذَا عَلَى وَجْهِ الْمَثَلِ، لِأَنَّ فِي الْقِيَامَةِ لَا تَكُونُ نَاقَةً عُشَرَاءَ، وَلَكِنْ أَرَادَ بِهِ الْمَثَلَ، أن هول
__________
(1). في ا، ح، و: لزلزالها.
(2). راجع ج 11 ص 245.
(3). صدره:
وضرمت قرني كبشها فتجدلا

(19/228)


يَوْمِ الْقِيَامَةِ بِحَالٍ لَوْ كَانَ لِلرَّجُلِ نَاقَةٌ عُشَرَاءُ لَعَطَّلَهَا وَاشْتَغَلَ بِنَفْسِهِ. وَقِيلَ: إِنَّهُمْ إِذَا قَامُوا مِنْ قُبُورِهِمْ، وَشَاهَدَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَرَأَوُا الْوُحُوشَ وَالدَّوَابَّ مَحْشُورَةً، وَفِيهَا عِشَارُهُمُ الَّتِي كَانَتْ أَنْفَسَ أَمْوَالِهِمْ، لَمْ يَعْبَئُوا بِهَا، وَلَمْ يَهُمُّهُمْ أَمْرُهَا. وَخُوطِبَتِ الْعَرَبُ بِأَمْرِ الْعِشَارِ، لِأَنَّ مَالَهَا وَعَيْشَهَا أَكْثَرُهُ مِنَ الْإِبِلِ. وَرَوَى الضَّحَّاكُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: عُطِّلَتْ: عَطَّلَهَا أَهْلُهَا، لِاشْتِغَالِهِمْ بِأَنْفُسِهِمْ. وَقَالَ الْأَعْشَى:
هُوَ الْوَاهِبُ الْمِائَةَ الْمُصْطَفَا ... ةَ إِمَّا مَخَاضًا وَإِمَّا عِشَارَا
وَقَالَ آخَرُ:
تَرَى المرء مهجورا إذا قل ماله ... وبئت الْغَنِيِّ يُهْدَى لَهُ وَيُزَارُ
وَمَا يَنْفَعُ الزُّوَّارَ مَالُ مَزُورِهِمْ ... إِذَا سَرَحَتْ شَوْلٌ «1» لَهُ وَعِشَارُ
يُقَالُ: نَاقَةٌ عُشَرَاءُ، وَنَاقَتَانِ عُشَرَاوَانِ، وَنُوقٌ عِشَارٌ وَعُشَرَاوَاتٌ، يُبْدِلُونَ مِنْ هَمْزَةِ التَّأْنِيثِ وَاوًا. وَقَدْ عَشَّرَتِ النَّاقَةُ تَعْشِيرًا: أَيْ صَارَتْ عُشَرَاءَ. وَقِيلَ: الْعِشَارُ: السَّحَابُ يُعَطَّلُ مِمَّا يَكُونُ فِيهِ وَهُوَ الْمَاءُ فَلَا يُمْطِرُ، وَالْعَرَبُ تُشَبِّهُ السَّحَابَ بِالْحَامِلِ. وَقِيلَ: الدِّيَارُ تُعَطَّلُ فَلَا تُسْكَنُ. وَقِيلَ: الْأَرْضُ الَّتِي يُعَشَّرُ زَرْعُهَا تُعَطَّلُ فَلَا تُزْرَعُ. وَالْأَوَّلُ أَشْهَرُ، وَعَلَيْهِ مِنَ النَّاسِ الْأَكْثَرُ. (وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ) أَيْ جُمِعَتْ وَالْحَشْرُ: الْجَمْعُ. عَنِ الْحَسَنِ وَقَتَادَةَ وَغَيْرِهِمَا. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: حَشْرُهَا: مَوْتُهَا. رواه عنه عكرمة. وحشر كل شي: الْمَوْتُ غَيْرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ، فَإِنَّهُمَا يُوَافِيَانِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا قَالَ: يُحْشَرُ كل شي حَتَّى الذُّبَابُ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: تُحْشَرُ الْوُحُوشُ غَدًا: أَيْ تُجْمَعُ حَتَّى يُقْتَصَّ لِبَعْضِهَا مِنْ بَعْضٍ، فَيُقْتَصُّ لِلْجَمَّاءِ مِنَ الْقَرْنَاءِ، ثُمَّ يُقَالُ لَهَا كُونِي تُرَابًا فَتَمُوتُ. وَهَذَا أَصَحُّ مِمَّا رَوَاهُ عَنْهُ عِكْرِمَةُ، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي كِتَابِ" التَّذْكِرَةِ" مُسْتَوْفًى، وَمَضَى فِي سُورَةِ" الْأَنْعَامِ" «2» بَعْضُهُ. أَيْ إِنَّ الْوُحُوشَ إِذَا كَانَتْ هَذِهِ حَالَهَا فَكَيْفَ بِبَنِي آدَمَ. وَقِيلَ: عُنِيَ بِهَذَا أَنَّهَا مَعَ نَفْرَتِهَا الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَتَنَدُّدِهَا
__________
(1). فِي ط: بزل.
(2). راجع ج 6 ص 421. [ ..... ]

(19/229)


فِي الصَّحَارِي، تَنْضَمُّ غَدًا إِلَى النَّاسِ مِنْ أَهْوَالٍ ذَلِكَ الْيَوْمِ. قَالَ مَعْنَاهُ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ. (وَإِذَا الْبِحارُ سُجِّرَتْ) أَيْ مُلِئَتْ مِنَ الْمَاءِ، وَالْعَرَبُ تَقُولُ: سَجَرْتُ الْحَوْضَ أَسْجُرُهُ سَجْرًا: إِذَا مَلَأْتَهُ، وَهُوَ مَسْجُورٌ وَالْمَسْجُورُ وَالسَّاجِرُ فِي اللغة: الملآن. وروى الربيع بن خيثم: سُجِّرَتْ: فَاضَتْ وَمُلِئَتْ. وَقَالَهُ الْكَلْبِيُّ وَمُقَاتِلٌ وَالْحَسَنُ وَالضَّحَّاكُ. قَالَ ابْنُ أَبِي زَمَنِينَ: سُجِّرَتْ: حَقِيقَتُهُ مُلِئَتْ، فَيُفِيضُ بَعْضُهَا إِلَى بَعْضٍ فَتَصِيرُ شَيْئًا وَاحِدًا. وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِ الْحَسَنِ. وَقِيلَ: أَرْسَلَ عَذْبَهَا عَلَى مَالِحِهَا وَمَالِحَهَا عَلَى عَذْبِهَا، حَتَّى امْتَلَأَتْ. عَنِ الضَّحَّاكِ وَمُجَاهِدٍ: أَيْ فُجِّرَتْ فَصَارَتْ بَحْرًا وَاحِدًا. الْقُشَيْرِيُّ: وَذَلِكَ بِأَنْ يَرْفَعَ اللَّهُ الْحَاجِزَ الَّذِي ذَكَرَهُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: بَيْنَهُما بَرْزَخٌ لا يَبْغِيانِ [الرحمن: 20]، فَإِذَا رُفِعَ ذَلِكَ الْبَرْزَخُ تَفَجَّرَتْ مِيَاهُ الْبِحَارِ، فَعَمَّتِ الْأَرْضَ كُلَّهَا، وَصَارَتِ الْبِحَارُ بَحْرًا وَاحِدًا. وَقِيلَ: صَارَتْ بَحْرًا وَاحِدًا مِنَ الْحَمِيمِ لِأَهْلِ النَّارِ. وَعَنِ الْحَسَنِ أَيْضًا وَقَتَادَةَ وَابْنِ حَيَّانَ: تَيْبَسُ فَلَا يَبْقَى مِنْ مَائِهَا قَطْرَةٌ. الْقُشَيْرِيُّ: وَهُوَ مِنْ سَجَرْتُ التَّنُّورَ أَسْجُرُهُ سَجْرًا: إِذَا أَحْمَيْتَهُ وَإِذَا سُلِّطَ عَلَيْهِ الْإِيقَادُ نَشِفَ مَا فِيهِ مِنَ الرُّطُوبَةِ وَتُسَيَّرُ الْجِبَالُ حِينَئِذٍ وَتَصِيرُ الْبِحَارُ وَالْأَرْضُ كُلُّهَا بِسَاطًا وَاحِدًا، بِأَنْ يُمْلَأَ مَكَانُ الْبِحَارِ بِتُرَابِ الْجِبَالِ. وَقَالَ النَّحَّاسُ: وَقَدْ تَكُونُ الْأَقْوَالُ مُتَّفِقَةً، يَكُونُ تَيْبَسُ مِنَ الْمَاءِ بَعْدَ أَنْ يَفِيضَ، بَعْضُهَا إِلَى بَعْضٍ، فَتُقْلَبُ نَارًا. قُلْتُ: ثُمَّ تُسَيَّرُ الْجِبَالُ حِينَئِذٍ، كَمَا ذَكَرَ الْقُشَيْرِيُّ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ وَشِمْرٌ وَعَطِيَّةُ وَسُفْيَانُ وَوَهْبٌ وَأُبَيٌّ وَعَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ وَابْنُ عَبَّاسٍ فِي رِوَايَةِ الضَّحَّاكِ عَنْهُ: أُوقِدَتْ فَصَارَتْ نَارًا. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يُكَوِّرُ اللَّهُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ فِي الْبَحْرِ، ثُمَّ يَبْعَثُ اللَّهُ عَلَيْهَا رِيحًا دَبُورًا، فَتَنْفُخُهُ حَتَّى يَصِيرَ نَارًا. وَكَذَا فِي بَعْضِ الْحَدِيثِ: (يَأْمُرُ اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ فَيَنْتَثِرُونَ فِي الْبَحْرِ، ثُمَّ يَبْعَثُ اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ الدَّبُورَ فَيُسَجِّرُهَا نَارًا، فَتِلْكَ نَارُ اللَّهِ الْكُبْرَى، الَّتِي يُعَذِّبُ بِهَا الْكُفَّارَ (. قَالَ الْقُشَيْرِيُّ: قِيلَ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ سُجِّرَتْ أُوقِدَتْ، يَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ جَهَنَّمُ فِي قُعُورٍ مِنَ الْبِحَارِ، فَهِيَ الْآنَ غَيْرُ مَسْجُورَةٍ لِقِوَامِ الدُّنْيَا، فَإِذَا انْقَضَتِ الدُّنْيَا سُجِّرَتْ، فَصَارَتْ كُلُّهَا نَارًا يُدْخِلُهَا اللَّهُ أَهْلَهَا. وَيَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ تَحْتَ الْبَحْرِ نَارٌ، ثُمَّ يُوقِدُ اللَّهُ الْبَحْرَ كُلَّهُ فَيَصِيرُ نَارًا. وَفِي الْخَبَرِ: الْبَحْرُ نَارٌ في نار.

(19/230)


وَقَالَ مُعَاوِيَةُ بْنُ سَعِيدٍ: بَحْرُ الرُّومِ وَسَطَ الْأَرْضِ، أَسْفَلُهُ آبَارٌ مُطْبَقَةٌ بِنُحَاسٍ يُسَجَّرُ نَارًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ. وَقِيلَ: تَكُونُ الشَّمْسُ فِي الْبَحْرِ، فَيَكُونُ الْبَحْرُ نَارًا بِحَرِّ الشَّمْسِ. ثُمَّ جَمِيعُ مَا فِي هَذِهِ الْآيَاتِ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِي الدُّنْيَا قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَيَكُونَ مِنْ أَشْرَاطِهَا، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ يَوْمَ «1» الْقِيَامَةِ، وَمَا بَعْدَ هَذِهِ الْآيَاتِ فَيَكُونُ فِي يَوْمِ الْقِيَامَةِ. قُلْتُ: رُوِيَ عَنْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو: لَا يُتَوَضَّأُ بِمَاءِ الْبَحْرِ لِأَنَّهُ طَبَقُ جَهَنَّمَ. وَقَالَ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ: سِتُّ آيَاتٍ مِنْ قَبْلِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ: بَيْنَمَا النَّاسُ فِي أَسْوَاقِهِمْ ذَهَبَ ضَوْءُ الشَّمْسِ وَبَدَتِ النُّجُومُ فَتَحَيَّرُوا وَدُهِشُوا، فَبَيْنَمَا هُمْ كَذَلِكَ يَنْظُرُونَ إِذْ تَنَاثَرَتِ النُّجُومُ وَتَسَاقَطَتْ، فَبَيْنَمَا هُمْ كَذَلِكَ إِذْ وَقَعَتِ الْجِبَالُ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ، فَتَحَرَّكَتْ وَاضْطَرَبَتْ وَاحْتَرَقَتْ، فَصَارَتْ هَبَاءً مَنْثُورًا، فَفَزِعَتِ الْإِنْسُ إِلَى الْجِنِّ وَالْجِنُّ إِلَى الْإِنْسِ، وَاخْتَلَطَتِ الدَّوَابُّ وَالْوُحُوشُ وَالْهَوَامُّ وَالطَّيْرُ، وَمَاجَ بَعْضُهَا فِي بَعْضٍ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ ثُمَّ قَالَتِ الْجِنُّ لِلْإِنْسِ: نَحْنُ نَأْتِيكُمْ بِالْخَبَرِ، فَانْطَلَقُوا إِلَى الْبِحَارِ فَإِذَا هِيَ نَارٌ تَأَجَّجُ، فَبَيْنَمَا هُمْ كَذَلِكَ تَصَدَّعَتِ الْأَرْضُ صَدْعَةً وَاحِدَةً إِلَى الْأَرْضِ السَّابِعَةِ السُّفْلَى، وَإِلَى السَّمَاءِ السَّابِعَةِ الْعُلْيَا، فَبَيْنَمَا هُمْ كَذَلِكَ إِذْ جَاءَتْهُمْ رِيحٌ فَأَمَاتَتْهُمْ. وَقِيلَ: مَعْنَى سُجِّرَتْ: هُوَ حُمْرَةُ مَائِهَا، حَتَّى تَصِيرَ كَالدَّمِ، مَأْخُوذٌ مِنْ قَوْلِهِمْ: عَيْنٌ سَجْرَاءُ: أَيْ حَمْرَاءُ. وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ سُجِّرَتْ وَأَبُو عَمْرٍو أَيْضًا، إِخْبَارًا عَنْ حَالِهَا مَرَّةً وَاحِدَةً. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِالتَّشْدِيدِ إِخْبَارًا عَنْ حَالِهَا فِي تَكْرِيرِ ذَلِكَ مِنْهَا مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى. قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ) قَالَ النُّعْمَانُ بْنُ بَشِيرٍ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ قَالَ: (يُقْرَنُ كُلُّ رَجُلٍ مَعَ كُلِّ قَوْمٍ كَانُوا يَعْمَلُونَ كَعَمَلِهِ). وَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: يُقْرَنُ الْفَاجِرُ مَعَ الْفَاجِرِ، وَيُقْرَنُ الصَّالِحُ مَعَ الصَّالِحِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: ذَلِكَ حِينَ يَكُونُ النَّاسُ أَزْوَاجًا ثَلَاثَةً، السَّابِقُونَ زَوْجٌ- يَعْنِي صِنْفًا- وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ زَوْجٌ، وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ زَوْجٌ. وَعَنْهُ أَيْضًا قَالَ: زُوِّجَتْ نُفُوسُ الْمُؤْمِنِينَ بِالْحُورِ الْعِينِ، وقرن الكافر
__________
(1). يوم: ساقطة من ب، ز، ط.

(19/231)


بِالشَّيَاطِينِ، وَكَذَلِكَ الْمُنَافِقُونَ. وَعَنْهُ أَيْضًا: قُرِنَ كُلُّ شَكْلٍ بِشَكْلِهِ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَأَهْلِ النَّارِ، فَيُضَمُّ الْمُبَرِّزُ فِي الطَّاعَةِ إِلَى مِثْلِهِ، وَالْمُتَوَسِّطُ إِلَى مِثْلِهِ، وَأَهْلُ الْمَعْصِيَةِ إِلَى مِثْلِهِ، فَالتَّزْوِيجُ أَنْ يُقْرَنَ الشَّيْءُ بِمِثْلِهِ، وَالْمَعْنَى: وَإِذَا النُّفُوسُ قُرِنَتْ إِلَى أَشْكَالِهَا فِي الْجَنَّةِ وَالنَّارِ. وَقِيلَ: يُضَمُّ كُلُّ رَجُلٍ إِلَى مَنْ كَانَ يَلْزَمُهُ مِنْ مَلِكٍ وَسُلْطَانٍ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْواجَهُمْ [الصافات: 22]. وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدٍ: جُعِلُوا أَزْوَاجًا عَلَى أَشْبَاهِ أَعْمَالِهِمْ لَيْسَ بِتَزْوِيجٍ، أَصْحَابُ الْيَمِينِ زَوْجٌ، وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ زَوْجٌ، وَالسَّابِقُونَ زَوْجٌ، وَقَدْ قَالَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْواجَهُمْ [الصافات: 22] أَيْ أَشْكَالَهُمْ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ: وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ قُرِنَتِ الْأَرْوَاحُ بِالْأَجْسَادِ، أَيْ رُدَّتْ إِلَيْهَا. وَقَالَ الْحَسَنُ: أُلْحِقَ كُلُّ امْرِئٍ بِشِيعَتِهِ: الْيَهُودُ بِالْيَهُودِ، وَالنَّصَارَى بِالنَّصَارَى، وَالْمَجُوسُ بِالْمَجُوسِ، وَكُلُّ مَنْ كَانَ يَعْبُدُ شَيْئًا مِنْ دُونِ اللَّهِ يُلْحَقُ بَعْضُهُمْ بِبَعْضٍ، وَالْمُنَافِقُونَ بِالْمُنَافِقِينَ، وَالْمُؤْمِنُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ. وَقِيلَ: يُقْرَنُ الْغَاوِي بِمَنْ أَغْوَاهُ مِنْ شَيْطَانٍ أَوْ إِنْسَانٍ، عَلَى جِهَةِ الْبُغْضِ وَالْعَدَاوَةِ، وَيُقْرَنُ الْمُطِيعُ بِمَنْ دَعَاهُ إِلَى الطَّاعَةِ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُؤْمِنِينَ. وَقِيلَ: قُرِنَتِ النُّفُوسُ بِأَعْمَالِهَا، فَصَارَتْ لِاخْتِصَاصِهَا بِهِ كَالتَّزْوِيجِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَإِذَا الْمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ. بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ) الموءودة الْمَقْتُولَةُ، وَهِيَ الْجَارِيَةُ تُدْفَنُ وَهِيَ حَيَّةٌ، سُمِّيَتْ بذلك لما يطرح عليها من التراب، فيوءودها أَيْ يُثْقِلُهَا حَتَّى تَمُوتَ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلا يَؤُدُهُ حِفْظُهُما [البقرة: 255] أَيْ لَا يُثْقِلُهُ، وَقَالَ مُتَمِّمُ بْنُ نُوَيْرَةَ:
وموءودة مَقْبُورَةٌ فِي مَفَازَةٍ ... بِآمَتِهَا مَوْسُودَةٌ لَمْ تُمَهَّدِ «1»
وَكَانُوا يَدْفِنُونَ بَنَاتِهِمْ أَحْيَاءً لِخَصْلَتَيْنِ: إِحْدَاهُمَا كَانُوا يَقُولُونَ إِنَّ الْمَلَائِكَةَ بَنَاتُ اللَّهِ، فَأَلْحَقُوا الْبَنَاتِ بِهِ. الثَّانِيَةُ إِمَّا مَخَافَةَ الْحَاجَةِ وَالْإِمْلَاقِ، وَإِمَّا خوفا من السبي والاسترقاق. وقد مضى
__________
(1). كذا روى البيت ونسب إلى متمم بن نويرة في الأصول ونسبه اللسان وشرح القاموس مادة (عوز) إلى حسان رضى الله عنه وروى فيهما:
وموءودة مقرورة في معاوز ... بآمتها مرموسة لم توسد
والآمة: ما يعلق بسرة المولود إذا سقط من بطن أمه. والمعاوز: خرق يلف بها الصبي.

(19/232)


فِي سُورَةِ" النَّحْلِ" «1» هَذَا الْمَعْنَى، عِنْدَ قَوْلِهِ تعالى: أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرابِ [النحل: 59] مُسْتَوْفًى. وَقَدْ كَانَ ذَوُو الشَّرَفِ مِنْهُمْ يَمْتَنِعُونَ مِنْ هَذَا وَيَمْنَعُونَ مِنْهُ، حَتَّى افْتَخَرَ بِهِ الْفَرَزْدَقُ، فَقَالَ:
وَمِنَّا «2» الَّذِي مَنَعَ الْوَائِدَاتِ ... فَأَحْيَا الْوَئِيدَ فَلَمْ يُوأَدِ
يَعْنِي جَدَّهُ صَعْصَعَةَ كَانَ يَشْتَرِيهِنَّ مِنْ آبَائِهِنَّ. فَجَاءَ الْإِسْلَامُ وَقَدْ أَحْيَا سبعين موءودة. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كَانَتِ الْمَرْأَةُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ إِذَا حَمَلَتْ حَفَرَتْ حُفْرَةً، وَتَمَخَّضَتْ عَلَى رَأْسِهَا، فَإِنْ وَلَدَتْ جَارِيَةً رَمَتْ بِهَا فِي الْحُفْرَةِ، وَرَدَّتِ التُّرَابَ عَلَيْهَا، وَإِنْ وَلَدَتْ غُلَامًا حَبَسَتْهُ، وَمِنْهُ قَوْلُ الرَّاجِزِ:
سَمَّيْتُهَا إِذْ وُلِدَتْ تَمُوتُ ... وَالْقَبْرُ صِهْرٌ ضَامِنٌ زِمِّيتُ
الزَّمِّيتُ الْوَقُورُ، وَالزَّمِيتُ مِثَالُ الْفِسِّيقِ أَوْقَرُ مِنَ الزِّمِّيتِ، وَفُلَانٌ أَزْمَتُ النَّاسِ أَيْ أَوْقَرُهُمْ، وَمَا أَشَدَّ تَزَمُّتَهُ، عَنِ الْفَرَّاءِ. وَقَالَ قَتَادَةُ: كَانَتِ الْجَاهِلِيَّةُ يَقْتُلُ أَحَدُهُمُ ابْنَتَهُ، وَيَغْذُو كَلْبَهُ، فَعَاتَبَهُمُ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ، وَتَوَعَّدَهُمْ بِقَوْلِهِ: وَإِذَا الْمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ قَالَ عُمَرُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذَا الْمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ قَالَ: جَاءَ قَيْسُ بْنُ عَاصِمٍ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! إني وأدت ثمان بَنَاتٍ كُنَّ لِي فِي الْجَاهِلِيَّةِ، قَالَ: (فَأَعْتِقْ عَنْ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ رَقَبَةً) قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي صَاحِبُ إِبِلٍ، قَالَ: (فَأَهْدِ عَنْ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ بَدَنَةً إِنْ شِئْتَ). وقوله تعالى: سُئِلَتْ سؤال الموءودة سُؤَالُ تَوْبِيخٍ لِقَاتِلِهَا، كَمَا يُقَالُ لِلطِّفْلِ إِذَا ضُرِبَ: لِمَ ضُرِبْتَ؟ وَمَا ذَنْبُكَ؟ قَالَ الْحَسَنُ: أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يُوَبِّخَ قَاتِلَهَا، لِأَنَّهَا قُتِلَتْ بِغَيْرِ ذَنْبٍ. وَقَالَ ابْنُ أَسْلَمَ: بِأَيِّ ذَنْبٍ ضُرِبَتْ، وَكَانُوا يَضْرِبُونَهَا. وَذَكَرَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: سُئِلَتْ قَالَ: طُلِبَتْ، كَأَنَّهُ يُرِيدُ كَمَا يُطْلَبُ بِدَمِ الْقَتِيلِ. قَالَ: وَهُوَ كقوله: وَكانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْؤُلًا [الأحزاب: 15] أَيْ مَطْلُوبًا. فَكَأَنَّهَا طُلِبَتْ مِنْهُمْ، فَقِيلَ أَيْنَ أولادكم؟ وقرا الضحاك وأبو الضحا عَنْ جَابِرِ بْنِ زَيْدٍ وَأَبِي صَالِحٍ وَإِذَا الْمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ فَتَتَعَلَّقُ الْجَارِيَةُ بِأَبِيهَا، فَتَقُولُ: بِأَيِ ذنب
__________
(1). راجع ج 10 ص (117)
(2). ويروى: وجدي الذي منع الوائدات ... إلخ.

(19/233)


قَتَلْتَنِي؟! فَلَا يَكُونُ لَهُ عُذْرٌ، قَالَهُ ابْنُ عباس وكان يقرأ وَإِذَا الْمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ وَكَذَلِكَ هُوَ فِي مُصْحَفٍ أُبَيٍّ. وَرَوَى عِكْرِمَةُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (إِنَّ الْمَرْأَةَ الَّتِي تَقْتُلُ وَلَدَهَا تَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ مُتَعَلِّقًا وَلَدُهَا بِثَدْيَيْهَا، مُلَطَّخًا بِدِمَائِهِ، فَيَقُولُ يَا رَبُّ، هَذِهِ أُمِّي، وَهَذِهِ قَتَلَتْنِي (. وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ، وَهُوَ مِثْلُ قَوْلِهِ تَعَالَى لِعِيسَى: أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ، عَلَى جِهَةِ التَّوْبِيخِ وَالتَّبْكِيتِ لَهُمْ، فَكَذَلِكَ سُؤَالُ الموءودة تَوْبِيخٌ لِوَائِدِهَا، وَهُوَ أَبْلَغُ مِنْ سُؤَالِهَا عَنْ قَتْلِهَا، لِأَنَّ هَذَا مِمَّا لَا يَصِحُّ إِلَّا بِذَنْبٍ، فَبِأَيِّ ذَنْبٍ كَانَ ذَلِكَ، فَإِذَا ظَهَرَ أَنَّهُ لَا ذَنْبَ لَهَا، كَانَ أَعْظَمَ فِي الْبَلِيَّةِ وَظُهُورِ الْحُجَّةِ عَلَى قَاتِلِهَا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وقرى" قُتِّلَتْ" بِالتَّشْدِيدِ، وَفِيهِ دَلِيلٌ بَيِّنٌ عَلَى أَنَّ أَطْفَالَ الْمُشْرِكِينَ لَا يُعَذَّبُونَ، وَعَلَى أَنَّ التَّعْذِيبَ لَا يُسْتَحَقُّ إِلَّا بِذَنْبٍ. قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ) أَيْ فُتِحَتْ بَعْدَ أَنْ كَانَتْ مَطْوِيَّةً، وَالْمُرَادُ صُحُفُ الْأَعْمَالِ الَّتِي كَتَبَتِ الْمَلَائِكَةُ فِيهَا مَا فَعَلَ أَهْلُهَا مِنْ خَيْرٍ وَشَرٍّ، تُطْوَى بِالْمَوْتِ، وَتُنْشَرُ فِي يَوْمِ الْقِيَامَةِ، فَيَقِفُ كُلُّ إِنْسَانٍ عَلَى صَحِيفَتِهِ، فَيَعْلَمُ مَا فِيهَا، فَيَقُولُ: مالِ هذَا الْكِتابِ لَا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصاها [الكهف: 49]. وَرَوَى مَرْثَدُ بْنُ وَدَاعَةَ قَالَ: إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ تَطَايَرَتِ الصُّحُفُ مِنْ تَحْتِ الْعَرْشِ، فَتَقَعُ صَحِيفَةُ الْمُؤْمِنِ فِي يَدِهِ فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ [الحاقة: 22] إلى قوله: الْأَيَّامِ الْخالِيَةِ [الحاقة: 24] وَتَقَعُ صَحِيفَةُ الْكَافِرِ فِي يَدِهِ فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ إلى قوله: وَلا كَرِيمٍ [الواقعة: 44 - 42]. وَرُوِيَ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (يُحْشَرُ النَّاسُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حُفَاةً عُرَاةً) فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ فَكَيْفَ بِالنِّسَاءِ؟ قَالَ: (شُغِلَ النَّاسُ يَا أُمَّ سَلَمَةَ). قُلْتُ: وَمَا شَغَلَهُمْ؟ قَالَ: (نَشْرُ الصُّحُفِ فِيهَا مَثَاقِيلُ الذَّرِّ وَمَثَاقِيلُ الْخَرْدَلِ). وَقَدْ مَضَى فِي سُورَةِ" سُبْحَانَ" «1» قَوْلُ أَبِي الثَّوَّارِ الْعَدَوِيِّ: هُمَا نَشْرَتَانِ وَطَيَّةٌ، أَمَّا مَا حَيِيتَ يَا ابْنَ آدَمَ فَصَحِيفَتُكَ الْمَنْشُورَةُ فَأَمِّلْ فِيهَا مَا شِئْتَ، فَإِذَا مُتَّ طُوِيَتْ، حَتَّى إِذَا بُعِثْتَ نُشِرَتِ اقْرَأْ كِتابَكَ كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً [الاسراء: 14]. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: إِذَا مَاتَ الْمَرْءُ طُوِيَتْ صَحِيفَةُ عَمَلِهِ، فَإِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ نُشِرَتْ. وَعَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ إِذَا قرأها قال: إليك يساق
__________
(1). راجع ج 10 ص 230.

(19/234)


الامر يا بن آدَمَ. وَقَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ عَامِرٍ وَعَاصِمٌ وَأَبُو عَمْرٍو نُشِرَتْ مُخَفَّفَةً، عَلَى نُشِرَتْ مَرَّةً وَاحِدَةً، لِقِيَامِ الْحُجَّةِ. الْبَاقُونَ بِالتَّشْدِيدِ، عَلَى تَكْرَارِ النَّشْرِ، لِلْمُبَالَغَةِ فِي تَقْرِيعِ الْعَاصِي، وَتَبْشِيرِ الْمُطِيعِ. وَقِيلَ: لِتَكْرَارِ ذَلِكَ مِنَ الْإِنْسَانِ وَالْمَلَائِكَةِ الشُّهَدَاءِ عَلَيْهِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَإِذَا السَّماءُ كُشِطَتْ): الْكَشْطُ: قَلْعٌ عَنْ شِدَّةِ الْتِزَاقٍ، فَالسَّمَاءُ تُكْشَطُ كَمَا يُكْشَطُ الْجِلْدُ عَنِ الْكَبْشِ وَغَيْرُهُ وَالْقَشْطُ: لُغَةٌ فِيهِ. وَفِي قِرَاءَةِ عَبْدِ اللَّهِ" وَإِذَا السَّمَاءُ قُشِطَتْ" وَكَشَطْتُ الْبَعِيرَ كَشْطًا: نَزَعْتُ جِلْدَهُ وَلَا يُقَالُ سَلَخْتُهُ، لِأَنَّ الْعَرَبَ لَا تَقُولُ فِي الْبَعِيرِ إِلَّا كَشَطْتُهُ أَوْ جَلَدْتُهُ، وَانْكَشَطَ: أَيْ ذَهَبَ، فَالسَّمَاءُ تُنْزَعُ مِنْ مَكَانِهَا كَمَا يُنْزَعُ الْغِطَاءُ عَنِ الشَّيْءِ. وَقِيلَ: تُطْوَى كَمَا قَالَ تَعَالَى: يَوْمَ نَطْوِي السَّماءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ [الأنبياء: 104] فَكَأَنَّ الْمَعْنَى: قُلِعَتْ فَطُوِيَتْ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ) أَيْ أُوقِدَتْ فَأُضْرِمَتْ لِلْكُفَّارِ وَزِيدَ فِي إِحْمَائِهَا. يُقَالُ: سَعَّرْتُ النَّارَ وَأَسْعَرْتُهَا. وَقِرَاءَةُ الْعَامَّةِ بِالتَّخْفِيفِ مِنَ السَّعِيرِ. وَقَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ ذَكْوَانَ وَرُوَيْسٌ بِالتَّشْدِيدِ لِأَنَّهَا أُوقِدَتْ مدة بَعْدَ مَرَّةٍ. قَالَ قَتَادَةُ: سَعَّرَهَا غَضَبُ اللَّهِ وَخَطَايَا بَنِي آدَمَ. وَفِي التِّرْمِذِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (أُوقِدَ عَلَى النَّارِ أَلْفَ سَنَةٍ حَتَّى احْمَرَّتْ، ثُمَّ أُوقِدَ عَلَيْهَا أَلْفَ سَنَةٍ حَتَّى ابْيَضَّتْ، ثُمَّ أُوقِدَ عَلَيْهَا أَلْفَ سَنَةٍ حَتَّى اسْوَدَّتْ، فَهِيَ سَوْدَاءُ مُظْلِمَةٌ" وَرُوِيَ مَوْقُوفًا. قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ) أَيْ دَنَتْ وَقَرُبَتْ مِنَ الْمُتَّقِينَ. قَالَ الْحَسَنُ: إِنَّهُمْ يُقَرَّبُونَ مِنْهَا، لَا أَنَّهَا تَزُولُ عَنْ مَوْضِعِهَا. وَكَانَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدٍ يَقُولُ: زُيِّنَتْ: «1» أُزْلِفَتْ؟ وَالزُّلْفَى فِي كَلَامِ الْعَرَبِ: الْقُرْبَةُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ [الشعراء: 90]، وَتَزَلَّفَ فُلَانٌ تَقَرَّبَ. قَوْلُهُ تَعَالَى: (عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ) يَعْنِي مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ وَشَرٍّ. وَهَذَا جَوَابُ إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ وَمَا بَعْدَهَا. قَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لِهَذَا أجرى الحديث. وروى
__________
(1). في ز: أدنيت.

(19/235)


فَلَا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ (15) الْجَوَارِ الْكُنَّسِ (16) وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ (17) وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ (18) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (19) ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ (20) مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ (21) وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ (22)

عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُمَا قَرَآهَا، فَلَمَّا بَلَغَا عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ قَالَا لِهَذَا أُجْرِيَتِ الْقِصَّةُ، فَالْمَعْنَى عَلَى هَذَا إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ وَكَانَتْ هَذِهِ الْأَشْيَاءُ، عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ مِنْ عَمَلِهَا. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (ما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا وَسَيُكَلِّمُهُ اللَّهُ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ تَرْجُمَانٌ، فَيَنْظُرُ أَيْمَنَ مِنْهُ فَلَا يَرَى إِلَّا مَا قَدَّمَهُ [وَيَنْظُرُ «1» أَشْأَمَ مِنْهُ فَلَا يَرَى إِلَّا مَا قَدَّمَ] بَيْنَ يَدَيْهِ، فَتَسْتَقْبِلُهُ النَّارُ، فَمَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَّقِيَ النَّارَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ فَلْيَفْعَلْ) وَقَالَ الْحَسَنُ: إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ قسم وَقَعَ عَلَى قَوْلِهِ: عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ كَمَا يُقَالُ: إِذَا نَفَرَ زَيْدٌ نَفَرَ عَمْرٌو. وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ أَصَحُّ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ إِلَى قَوْلِهِ: وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ اثْنَتَا عَشْرَةَ خَصْلَةً: سِتَّةٌ فِي الدُّنْيَا، وَسِتَّةٌ فِي الْآخِرَةِ، وَقَدْ بَيَّنَّا السِّتَّةَ الْأُولَى بِقَوْلِ أُبَيِّ بن كعب.

[سورة التكوير (81): الآيات 15 الى 22]
فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ (15) الْجَوارِ الْكُنَّسِ (16) وَاللَّيْلِ إِذا عَسْعَسَ (17) وَالصُّبْحِ إِذا تَنَفَّسَ (18) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (19)
ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ (20) مُطاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ (21) وَما صاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ (22)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (فَلا أُقْسِمُ) أَيْ أقسم، وفَلا زائدة، كما تقدم. (بِالْخُنَّسِ الْجَوارِ الْكُنَّسِ) هِيَ الْكَوَاكِبُ الْخَمْسَةُ الدَّرَارِيُّ: زُحَلُ وَالْمُشْتَرِي وَعُطَارِدُ وَالْمِرِّيخُ وَالزُّهَرَةُ، فِيمَا ذَكَرَ أَهْلُ التَّفْسِيرِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ عَلِيٍّ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ. وَفِي تَخْصِيصِهَا بِالذِّكْرِ مِنْ بَيْنِ سَائِرِ النُّجُومِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: لِأَنَّهَا تَسْتَقْبِلُ الشَّمْسَ، قَالَهُ بَكْرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْمُزَنِيُّ. الثَّانِي: لِأَنَّهَا تَقْطَعُ الْمَجَرَّةَ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ. وَقَالَ الحسن وقتادة: هي النجوم التي تخنس
__________
(1). الزيادة من صحيح مسلم.

(19/236)


بِالنَّهَارِ وَإِذَا غَرَبَتْ، وَقَالَهُ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: هِيَ النُّجُومُ تَخْنِسُ بِالنَّهَارِ، وَتَظْهَرُ بِاللَّيْلِ، وَتَكْنِسُ فِي وَقْتِ غُرُوبِهَا أَيْ تَتَأَخَّرُ عَنِ الْبَصَرِ لِخَفَائِهَا، فَلَا تُرَى. وَفِي الصِّحَاحِ: وبِالْخُنَّسِ: الْكَوَاكِبُ كُلُّهَا. لِأَنَّهَا تَخْنِسُ فِي الْمَغِيبِ، أَوْ لأنها تخنس نهارا. ويقال: الْكَوَاكِبُ السَّيَّارَةُ مِنْهَا دُونَ الثَّابِتَةِ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ في قوله تعالى: فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ. الْجَوارِ الْكُنَّسِ: إِنَّهَا النُّجُومُ الْخَمْسَةُ، زُحَلُ وَالْمُشْتَرِي وَالْمِرِّيخُ وَالزُّهَرَةُ وَعُطَارِدُ، لِأَنَّهَا تَخْنِسُ فِي مَجْرَاهَا، وَتَكْنِسُ، أَيْ تَسْتَتِرُ كَمَا تَكْنِسُ الظِّبَاءُ فِي الْمَغَارِ، وَهُوَ الْكَنَّاسُ. وَيُقَالُ: سُمِّيَتْ خُنَّسًا لِتَأَخُّرِهَا، لِأَنَّهَا الْكَوَاكِبُ الْمُتَحَيِّرَةُ الَّتِي تَرْجِعُ وَتَسْتَقِيمُ، يُقَالُ: خَنَسَ عَنْهُ يَخْنُسُ بِالضَّمِّ خُنُوسًا: تَأَخَّرَ، وَأَخْنَسَهُ غَيْرُهُ: إِذَا خَلَّفَهُ وَمَضَى عَنْهُ. وَالْخَنْسُ تَأَخُّرُ الْأَنْفِ عَنِ الْوَجْهِ مَعَ ارْتِفَاعٍ قَلِيلٍ فِي الْأَرْنَبَةِ، وَالرَّجُلُ أَخْنَسُ، وَالْمَرْأَةُ خَنْسَاءُ، وَالْبَقَرُ كُلُّهَا خُنْسٌ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ هِيَ بَقَرُ الْوَحْشِ. رَوَى هُشَيْمٌ عَنْ زَكَرِيَّا عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ أَبِي مَيْسَرَةَ عَمْرِو بْنِ شرحبيل قال: قال لي عبد الله ابن مَسْعُودٍ: إِنَّكُمْ قَوْمٌ عَرَبٌ فَمَا الْخُنَّسُ؟ قُلْتُ: هِيَ بَقَرُ الْوَحْشِ، قَالَ: وَأَنَا أَرَى ذَلِكَ. وقاله إِبْرَاهِيمُ وَجَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: إِنَّمَا أَقْسَمَ اللَّهُ بِبَقَرِ الْوَحْشِ. وروى عنه عكرمة قال: بِالْخُنَّسِ: البقر والْكُنَّسِ: هِيَ الظِّبَاءُ، فَهِيَ خُنَّسٌ إِذَا رَأَيْنَ الْإِنْسَانَ خَنَسْنَ وَانْقَبَضْنَ وَتَأَخَّرْنَ وَدَخَلْنَ كِنَاسَهُنَّ. الْقُشَيْرِيُّ: وَقِيلَ على هذا بِالْخُنَّسِ مِنَ الْخَنَسِ فِي الْأَنْفِ، وَهُوَ تَأَخُّرُ الْأَرْنَبَةِ وَقِصَرُ الْقَصَبَةِ، وَأُنُوفُ الْبَقَرِ وَالظِّبَاءِ خُنَّسٌ. وَالْأَصَحُّ الْحَمْلُ عَلَى النُّجُومِ، لِذِكْرِ اللَّيْلِ وَالصُّبْحِ بَعْدَ هَذَا، فَذِكْرُ النُّجُومِ أَلْيَقُ بِذَلِكَ. قُلْتُ: لِلَّهِ أَنْ يُقْسِمَ بِمَا شَاءَ مِنْ مَخْلُوقَاتِهِ مِنْ حَيَوَانٍ وَجَمَادٍ، وَإِنْ لَمْ يُعْلَمْ وَجْهُ الْحِكْمَةِ فِي ذَلِكَ. وَقَدْ جَاءَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَجَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ وَهُمَا صَحَابِيَّانِ وَالنَّخَعِيِّ أَنَّهَا بَقَرُ الْوَحْشِ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ أَنَّهَا الظِّبَاءُ. وَعَنِ الْحَجَّاجِ بْنِ مُنْذِرٍ قَالَ: سَأَلْتُ جَابِرَ بْنَ زَيْدٍ عَنِ الْجَوَارِي الْكُنَّسِ، فَقَالَ: الظِّبَاءُ وَالْبَقَرُ، فَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ

(19/237)


النُّجُومَ. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّهَا الْمَلَائِكَةُ، حَكَاهُ الْمَاوَرْدِيُّ. وَالْكُنَّسُ الْغُيَّبُ، مَأْخُوذَةٌ مِنَ الْكِنَاسِ، وَهُوَ كِنَاسُ الْوَحْشِ الَّذِي يَخْتَفِي فِيهِ. قَالَ أَوْسُ بْنُ حُجْرٍ:
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مُزْنَهُ ... وغفر الظِّبَاءِ فِي الْكِنَاسِ تَقَمَّعُ «1»
وَقَالَ طَرَفَةُ:
كَأَنَّ كِنَاسَيْ ضَالَّةٍ يَكْنُفَانِهَا ... وَأَطْرَ قِسِيٍّ تَحْتَ صُلْبٍ مُؤَيَّدِ «2»
وَقِيلَ: الْكُنُوسُ أَنْ تَأْوِيَ إِلَى مَكَانِسِهَا، وَهِيَ الْمَوَاضِعُ الَّتِي تَأْوِي إِلَيْهَا الْوُحُوشُ وَالظِّبَاءُ. قال الأعشى:
فَلَمَّا أَتَيْنَا الْحَيَّ أَتْلَعَ أنَسٌ ... كَمَا أَتْلَعَتْ تَحْتَ الْمَكَانِسِ رَبْرَبُ
يُقَالُ: تَلَعَ. النَّهَارُ ارْتَفَعَ وَأَتْلَعَتِ الظَّبْيَةُ مِنْ كِنَاسِهَا: أَيْ سَمَتْ بِجِيدِهَا. وَقَالَ امْرُؤُ الْقَيْسِ:
تَعَشَّى «3» قَلِيلًا ثُمَّ أَنْحَى ظلوفه ... يثير التُّرَابَ عَنْ مَبِيتٍ وَمَكْنَسِ
وَالْكُنَّسُ: جَمْعُ كَانِسٍ وَكَانِسَةٍ، وَكَذَا الْخُنَّسُ جَمْعُ خَانِسٍ وَخَانِسَةٍ. وَالْجَوَارِي: جَمْعُ جَارِيَةٍ مِنْ جَرَى يَجْرِي. (وَاللَّيْلِ إِذا عَسْعَسَ) قَالَ الْفَرَّاءُ: أَجْمَعَ الْمُفَسِّرُونَ عَلَى أَنَّ مَعْنَى عَسْعَسَ أَدْبَرَ، حَكَاهُ الْجَوْهَرِيُّ. وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا: إِنَّهُ دَنَا مِنْ أَوَّلِهِ وَأَظْلَمَ وَكَذَلِكَ السَّحَابُ إِذَا دَنَا مِنَ الْأَرْضِ. الْمَهْدَوِيُّ: وَاللَّيْلِ إِذا عَسْعَسَ أَدْبَرَ بِظَلَامِهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٍ وَغَيْرِهِمَا. وَرُوِيَ عَنْهُمَا أَيْضًا وَعَنِ الْحَسَنِ وَغَيْرِهِ: أَقْبَلَ بِظَلَامِهِ. زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ: عَسْعَسَ ذَهَبَ. الْفَرَّاءُ: الْعَرَبُ تَقُولُ عَسْعَسَ وَسَعْسَعَ إِذَا لَمْ يَبْقَ مِنْهُ إِلَّا الْيَسِيرُ. الْخَلِيلُ وَغَيْرُهُ: عَسْعَسَ اللَّيْلُ إِذَا أَقْبَلَ أَوْ أَدْبَرَ. الْمُبَرِّدُ: هو من الأضداد، والمعنيان يرجعان إلى شي وَاحِدٍ، وَهُوَ ابْتِدَاءُ الظَّلَامِ فِي أَوَّلِهِ، وَإِدْبَارُهُ فِي آخِرِهِ، وَقَالَ عَلْقَمَةُ بْنُ قُرْطٍ:
حَتَّى إِذَا الصُّبْحُ لَهَا تَنَفَّسَا ... وَانْجَابَ عَنْهَا لَيْلُهَا وعسعسا
__________
(1). تقمع: تحرك رءوسها من القمعة وهي ذباب أزرق يدخل في أنوف الدواب أو يقع عليها فيلسعها.
(2). قال: (كناسى) لان الحيوان يستكن بالغداة في ظلها وبالعشي في فيئها. والضال: السدر البري الواحدة ضالة. والاطر: العطف. والمؤيد: المقوي. يقول الشاعر:
كأن كناسى ضالة يكنفان هذه ... الناقة لسعة ما بين مرفقيها وزورها.
(3). تعشى: دخل في العشاء وهو أول الليل. ظلوفه: حوافره.

(19/238)


وقال روبة:
يَا هِنْدُ مَا أَسْرَعَ مَا تَسَعْسَعَا ... مِنْ بَعْدِ مَا كَانَ فَتًى سَرَعْرَعَا «1»
وَهَذِهِ حُجَّةُ الْفَرَّاءِ. وَقَالَ امْرُؤُ «2» الْقَيْسِ:
عَسْعَسَ حَتَّى لَوْ يَشَاءُ ادَّنَا ... كَانَ لَنَا مِنْ نَارِهِ مَقْبِسُ
فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى الدُّنُوِّ. وَقَالَ الْحَسَنُ وَمُجَاهِدٌ: عَسْعَسَ: أَظْلَمَ، قَالَ الشَّاعِرُ:
حَتَّى إِذَا مَا لَيْلُهُنَّ عَسْعَسَا ... رَكِبْنَ مِنْ حَدِّ الظَّلَامِ حِنْدِسَا
الْمَاوَرْدِيُّ: وَأَصْلُ الْعُسِّ الِامْتِلَاءُ، وَمِنْهُ قِيلَ لِلْقَدَحِ الْكَبِيرِ عُسٌّ لِامْتِلَائِهِ بِمَا فِيهِ، فَأُطْلِقَ عَلَى إِقْبَالِ اللَّيْلِ لِابْتِدَاءِ امْتِلَائِهِ، وَأُطْلِقَ عَلَى إِدْبَارِهِ لِانْتِهَاءِ امْتِلَائِهِ عَلَى ظَلَامِهِ، لِاسْتِكْمَالِ امْتِلَائِهِ بِهِ. وَأَمَّا قَوْلُ امْرِئِ الْقَيْسِ:
أَلَمَّا عَلَى الرَّبْعِ القديم بعسعسا «3»

فَمَوْضِعٌ بِالْبَادِيَةِ. وَعَسْعَسَ أَيْضًا اسْمُ رَجُلٍ، قَالَ الرَّاجِزُ:
وَعَسْعَسَ نِعْمَ الْفَتَى تَبَيَّاهُ

أَيْ تَعْتَمِدُهُ. وَيُقَالُ لِلذِّئْبِ الْعَسْعَسُ وَالْعَسْعَاسُ وَالْعَسَّاسُ، لِأَنَّهُ يَعُسُّ بِاللَّيْلِ وَيَطْلُبُ. وَيُقَالُ لِلْقَنَافِذِ الْعَسَاعِسُ لِكَثْرَةِ تَرَدُّدِهَا بِاللَّيْلِ. قَالَ أَبُو عَمْرٍو: وَالتَّعَسْعُسُ الشَّمُّ، وَأَنْشَدَ:
كَمَنْخِرِ الذَّنْبِ إِذَا تَعَسْعَسَا
وَالتَّعَسْعُسُ أَيْضًا: طَلَبُ الصيد [بالليل «4»].
__________
(1). تسعسعا: أدبر وفني والسرعرع: الشاب الناعم.
(2). كذا في الأصول كلها ولم نجده في ديوانه. وفي السان: كان له من ضوئه مقبس. ثم قال: أنشده أبو البلاد النحوي وقال: وكانوا يرون أن هذا البيت مصنوع. وأدنا أصله: إذ دنا فأدغم.
(3). تمامه،
كأني أنادى أو إكام أخرسا

(4). الزيادة من الصحاح. [ ..... ]

(19/239)


قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَالصُّبْحِ إِذا تَنَفَّسَ) أَيِ امْتَدَّ حَتَّى يَصِيرَ نَهَارًا وَاضِحًا، يُقَالُ لِلنَّهَارِ إِذَا زَادَ: تَنَفَّسَ. وَكَذَلِكَ الْمَوْجُ إِذَا نَضَحَ الْمَاءَ. وَمَعْنَى التَّنَفُّسِ: خُرُوجُ النَّسِيمِ مِنَ الْجَوْفِ. وَقِيلَ: إِذا تَنَفَّسَ أَيِ انْشَقَّ وَانْفَلَقَ، وَمِنْهُ تَنَفَّسَتِ الْقَوْسُ «1» أَيْ تَصَدَّعَتْ. (إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ) هَذَا جَوَابُ الْقَسَمِ. وَالرَّسُولُ الْكَرِيمُ جِبْرِيلُ، قَالَهُ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ وَالضَّحَّاكُ. وَالْمَعْنَى إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ عَنِ اللَّهِ كَرِيمٍ عَلَى اللَّهِ. وَأَضَافَ الْكَلَامَ إِلَى جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، ثُمَّ عَدَّاهُ عَنْهُ بقوله تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ [الواقعة: 80] لِيَعْلَمَ أَهْلُ التَّحْقِيقِ فِي التَّصْدِيقِ، أَنَّ الْكَلَامَ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. وَقِيلَ: هُوَ مُحَمَّدٌ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ (ذِي قُوَّةٍ) مَنْ جَعَلَهُ جِبْرِيلُ فَقُوَّتُهُ ظَاهِرَةٌ فَرَوَى الضَّحَّاكُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: مِنْ قُوَّتِهِ قَلْعُهُ مَدَائِنَ قَوْمِ لُوطٍ بِقَوَادِمِ جَنَاحِهِ. (عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ) أَيْ عِنْدَ اللَّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ (مَكِينٍ) أَيْ ذِي مَنْزِلَةٍ وَمَكَانَةٍ، فَرُوِيَ عَنْ أَبِي صَالِحٍ قَالَ: يَدْخُلُ سبعين سرادقا بغير إذن. (مُطاعٍ ثَمَّ): أي في السموات، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مِنْ طَاعَةِ الْمَلَائِكَةِ جِبْرِيلَ، أَنَّهُ لَمَّا أُسْرِيَ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِرِضْوَانٍ خَازِنِ الْجِنَانِ: افْتَحْ لَهُ، فَفَتَحَ، فَدَخَلَ وَرَأَى مَا فِيهَا، وَقَالَ لِمَالِكٍ خَازِنِ النَّارِ: افْتَحْ لَهُ جَهَنَّمَ حَتَّى يَنْظُرَ إِلَيْهَا، فَأَطَاعَهُ وَفَتَحَ لَهُ. (أَمِينٍ) أَيْ مُؤْتَمَنٍ عَلَى الْوَحْيِ الَّذِي يجئ بِهِ. وَمَنْ قَالَ: إِنَّ الْمُرَادَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَالْمَعْنَى ذِي قُوَّةٍ عَلَى تَبْلِيغِ الرِّسَالَةِ مُطاعٍ أَيْ يُطِيعُهُ مَنْ أَطَاعَ الله عز وجل. (وَما صاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ) يَعْنِي مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ليس بِمَجْنُونٍ حَتَّى يُتَّهَمَ فِي قَوْلِهِ. وَهُوَ مِنْ جَوَابِ الْقَسَمِ. وَقِيلَ: أَرَادَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَرَى جِبْرِيلَ فِي الصُّورَةِ الَّتِي يَكُونُ بِهَا عِنْدَ رَبِّهِ جَلَّ وَعَزَّ فَقَالَ: مَا ذَاكَ إِلَيَّ، فَأَذِنَ لَهُ الرَّبُّ جَلَّ ثَنَاؤُهُ، فَأَتَاهُ وَقَدْ سَدَّ الْأُفُقَ، فَلَمَّا نَظَرَ إِلَيْهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَّ مَغْشِيًّا عَلَيْهِ، فَقَالَ الْمُشْرِكُونَ: إِنَّهُ مَجْنُونٌ، فَنَزَلَتْ: إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ وَما صاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ وَإِنَّمَا رَأَى جِبْرِيلَ عَلَى صُورَتِهِ فَهَابَهُ، وَوَرَدَ عَلَيْهِ مَا لَمْ تَحْتَمِلْ بِنْيَتُهُ، فَخَرَّ مغشيا عليه.
__________
(1). في نسخ الأصل (تنفست القوس والنفوس: أي تصدعت. واللغة لا ذكر فيها لكلمة النفوس ولعلها زيادة من الناسخ.)

(19/240)


وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ (23) وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ (24) وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ (25) فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ (26) إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (27) لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ (28) وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (29)

[سورة التكوير (81): الآيات 23 الى 29]
وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ (23) وَما هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ (24) وَما هُوَ بِقَوْلِ شَيْطانٍ رَجِيمٍ (25) فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ (26) إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ (27)
لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ (28) وَما تَشاؤُنَ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ (29)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ) أَيْ رَأَى جِبْرِيلُ فِي صُورَتِهِ، لَهُ سِتُّمِائَةِ جَنَاحٍ. بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ أَيْ بِمَطْلِعِ الشَّمْسِ مِنْ قِبَلِ الْمَشْرِقِ، لِأَنَّ هَذَا الْأُفُقَ إِذَا كَانَ مِنْهُ تَطْلُعُ الشَّمْسِ فَهُوَ مُبِينٌ. أَيْ مِنْ جِهَتِهِ تُرَى الْأَشْيَاءُ. وَقِيلَ: الْأُفُقُ الْمُبِينُ: أَقْطَارُ السَّمَاءِ وَنَوَاحِيهَا، قَالَ الشَّاعِرُ:
أَخَذْنَا بِآفَاقِ السَّمَاءِ عَلَيْكُمُ ... لَنَا قَمَرَاهَا وَالنُّجُومُ الطَّوَالِعُ
الْمَاوَرْدِيُّ: فَعَلَى هَذَا، فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقَاوِيلَ أَحَدُهَا: أَنَّهُ رَآهُ فِي أُفُقِ السَّمَاءِ الشَّرْقِيِّ، قَالَهُ سُفْيَانُ. الثَّانِي: فِي أُفُقِ السَّمَاءِ الْغَرْبِيِّ، حَكَاهُ ابْنُ شَجَرَةَ. الثَّالِثُ: أَنَّهُ رَآهُ نَحْوَ أَجْيَادٍ، وَهُوَ مَشْرِقُ مَكَّةَ، قَالَهُ مُجَاهِدٌ. وَحَكَى الثَّعْلَبِيُّ عَنِ ابْنُ عَبَّاسٍ، قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِجِبْرِيلَ:" إِنِّي أُحِبُّ أَنْ أَرَاكَ فِي صُورَتِكَ الَّتِي تَكُونُ فِيهَا فِي السَّمَاءِ" قَالَ: لَنْ تَقْدِرَ عَلَى ذَلِكَ. قَالَ:" بَلَى" قَالَ: فَأَيْنَ تَشَاءُ أَنْ أَتَخَيَّلَ لَكَ؟ قَالَ:" بِالْأَبْطَحِ" قَالَ: لَا يَسْعُنِي. قَالَ:" فَبِمِنًى" قَالَ: لَا يَسْعُنِي. قَالَ:" فَبِعَرَفَاتٍ" قال: ذلك بالحري أن يسعني. قواعده فخرج النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْوَقْتِ، فَإِذَا هُوَ قَدْ أَقْبَلَ بِخَشْخَشَةٍ وَكَلْكَلَةٍ مِنْ جِبَالِ عَرَفَاتٍ، قَدْ مَلَأَ مَا بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ، وَرَأْسُهُ فِي السَّمَاءِ وَرِجْلَاهُ فِي الْأَرْضِ، فَلَمَّا رَآهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَّ مَغْشِيًّا عَلَيْهِ، فَتَحَوَّلَ جِبْرِيلُ فِي صُورَتِهِ، وَضَمَّهُ إِلَى صَدْرِهِ. وَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ لَا تَخَفْ، فَكَيْفَ لَوْ رَأَيْتَ إِسْرَافِيلَ وَرَأْسُهُ مِنْ تَحْتِ الْعَرْشِ وَرِجْلَاهُ فِي تُخُومِ الْأَرْضِ السَّابِعَةِ، وَإِنَّ الْعَرْشَ عَلَى كَاهِلِهِ، وَإِنَّهُ لَيَتَضَاءَلُ أَحْيَانًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ، حَتَّى يَصِيرَ مِثْلَ الْوَصَعِ «1» - يَعْنِي الْعُصْفُورَ- حَتَّى مَا يَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ إِلَّا عَظَمَتُهُ. وقيل: إن محمدا
__________
(1). في (اللسان: وصع) الوصع: هو العصفور الصغير.

(19/241)


عَلَيْهِ السَّلَامُ رَأَى رَبَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ. وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِ ابْنِ مَسْعُودٍ. وَقَدْ مَضَى الْقَوْلُ فِي هَذَا فِي" وَالنَّجْمِ" «1» مُسْتَوْفًى، فَتَأَمَّلْهُ هُنَاكَ. وَفِي الْمُبِينِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا أَنَّهُ صِفَةُ الْأُفُقِ، قَالَهُ الرَّبِيعُ. الثَّانِي أَنَّهُ صِفَةٌ لِمَنْ رَآهُ، قَالَهُ مُجَاهِدٌ. (وَما هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ): بِالظَّاءِ، قِرَاءَةُ ابْنِ كَثِيرٍ وَأَبِي عَمْرٍو وَالْكِسَائِيِّ، أَيْ بِمُتَّهَمٍ، وَالظِّنَّةُ التُّهْمَةُ، قَالَ الشَّاعِرُ:
أَمَا وكتاب الله لا عن سناءه ... هُجِرْتُ وَلَكِنَّ الظَّنِينَ ظَنِينُ
وَاخْتَارَهُ أَبُو عُبَيْدٍ، لِأَنَّهُمْ لَمْ يُبَخِّلُوهُ وَلَكِنْ كَذَّبُوهُ، وَلِأَنَّ الْأَكْثَرَ مِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ: مَا هُوَ بِكَذَا، وَلَا يَقُولُونَ: مَا هُوَ عَلَى كَذَا، إِنَّمَا يَقُولُونَ: مَا أَنْتَ عَلَى هَذَا بِمُتَّهَمٍ. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِضَنِينٍ بِالضَّادِ: أَيْ بِبَخِيلٍ مِنْ ضَنِنْتُ بِالشَّيْءِ أَضَنُّ ضَنًّا [فَهُوَ] ضَنِينٌ. فَرَوَى ابْنُ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: لَا يَضَنُّ عَلَيْكُمْ بِمَا يَعْلَمُ، بَلْ يُعَلِّمُ الْخَلْقَ كَلَامَ اللَّهِ وَأَحْكَامَهُ. وَقَالَ الشَّاعِرُ:
أَجُودُ بِمَكْنُونِ الْحَدِيثِ وَإِنَّنِي ... بِسِرِّكَ عَمَّنْ سَالَنِي لَضَنِينُ
وَالْغَيْبُ: الْقُرْآنُ وَخَبَرُ السَّمَاءِ. ثُمَّ هَذَا صِفَةُ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَقِيلَ: صِفَةُ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَقِيلَ: بِظَنِينٍ: بِضَعِيفٍ. حَكَاهُ الْفَرَّاءُ وَالْمُبَرِّدُ، يُقَالُ: رَجُلٌ ظَنِينٌ: أَيْ ضَعِيفٌ. وَبِئْرٌ ظَنُونٌ: إِذَا كَانَتْ قَلِيلَةَ الْمَاءِ، قَالَ الْأَعْشَى:
مَا جُعِلَ الْجُدُّ «2» الظَّنُونُ الَّذِي ... جُنِّبَ صَوْبَ اللَّجِبِ الْمَاطِرِ
مِثْلَ الْفُرَاتِيِّ إِذَا مَا طَمَا ... يَقْذِفُ بِالْبُوصِيِّ وَالْمَاهِرِ
وَالظَّنُونُ: الدَّيْنُ الَّذِي لَا يُدْرَى أَيَقْضِيهِ آخِذُهُ أَمْ لَا؟ وَمِنْهُ حَدِيثُ عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي الرَّجُلِ يَكُونُ لَهُ الدَّيْنُ الظَّنُونُ، قَالَ: يُزَكِّيهِ لَمَّا مَضَى إِذَا قَبَضَهُ إِنْ كَانَ صَادِقًا. وَالظَّنُونُ: الرَّجُلُ السَّيِّئُ الْخُلُقِ، فَهُوَ لَفْظٌ مُشْتَرَكٌ. (وَما هُوَ) يَعْنِي الْقُرْآنَ (بِقَوْلِ شَيْطانٍ رَجِيمٍ) أَيْ مَرْجُومٍ مَلْعُونٍ، كَمَا قَالَتْ قُرَيْشٌ. قَالَ عطاء: يريد بالشيطان الأبيض الذي كان
__________
(1). راجع ج 17 ص 94 وقول ابن مسعود هناك هو: أَنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى جبريل والذي قال بأنه رأى ربه هو ابن عباس رضى الله عنهما.
(2). الجد: البئر تكون في موضع كثير الكلا. الفراتي: المنسوب إلى الفرات. والبوصى: ضرب من سفن البحر والملاح أيضا. والماهر: السابح.

(19/242)


يَأْتِي النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي صُورَةِ جِبْرِيلَ يُرِيدُ أَنْ يَفْتِنَهُ. (فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ) قَالَ قَتَادَةُ: فَإِلَى أَيْنَ تَعْدِلُونَ عَنْ هَذَا الْقَوْلِ وَعَنْ طَاعَتِهِ. كَذَا رَوَى مَعْمَرٌ عَنْ قَتَادَةَ، أَيْ أَيْنَ تَذْهَبُونَ عَنْ كِتَابِي وَطَاعَتِي. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: فَأَيُّ طَرِيقَةٍ تَسْلُكُونَ أَبَيْنُ مِنْ هَذِهِ الطَّرِيقَةِ الَّتِي بَيَّنْتُ لَكُمْ. وَيُقَالُ: أَيْنَ تَذْهَبُ؟ وَإِلَى أَيْنَ تَذْهَبُ؟ وَحَكَى الْفَرَّاءُ عَنِ الْعَرَبِ: ذَهَبْتُ الشَّامَ وَخَرَجْتُ الْعِرَاقَ وَانْطَلَقْتُ السُّوقَ: أَيْ إِلَيْهَا. قَالَ: سَمِعْنَاهُ فِي هَذِهِ الْأَحْرُفِ الثَّلَاثَةِ، وَأَنْشَدَنِي بَعْضُ بَنِي عُقَيْلٍ:
تَصِيحُ بِنَا حَنِيفَةُ إِذْ رَأَتْنَا ... وَأَيُّ الْأَرْضِ تَذْهَبُ بِالصِّيَاحِ
يُرِيدُ إِلَى أَيِّ أَرْضٍ تَذْهَبُ، فَحَذَفَ إِلَى. وَقَالَ الْجُنَيْدُ: مَعْنَى الْآيَةِ مَقْرُونٌ بِآيَةٍ أُخْرَى، وَهِيَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ [الحجر: 21] الْمَعْنَى: أَيُّ طَرِيقٍ تَسْلُكُونَ أَبَيْنُ مِنَ الطَّرِيقِ الَّذِي بَيَّنَهُ اللَّهُ لَكُمْ. وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ الزَّجَّاجِ. (إِنْ هُوَ) يَعْنِي الْقُرْآنَ (إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ) أي موعظة وزجر. وإِنْ بِمَعْنَى" مَا". وَقِيلَ: مَا مُحَمَّدٌ إِلَّا ذِكْرٌ. (لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ) أَيْ يَتَّبِعَ الْحَقَّ وَيُقِيمَ عَلَيْهِ. وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ وَسُلَيْمَانُ بْنُ مُوسَى: لَمَّا نَزَلَتْ لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ قَالَ أَبُو جَهْلٍ: الْأَمْرُ إِلَيْنَا، إِنْ شِئْنَا اسْتَقَمْنَا، وَإِنْ شِئْنَا لَمْ نَسْتَقِمْ- وَهَذَا هُوَ الْقَدَرُ، وَهُوَ رَأْسُ الْقَدَرِيَّةِ- فَنَزَلَتْ: وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ، فَبَيَّنَ بِهَذَا أَنَّهُ لَا يَعْمَلُ الْعَبْدُ خَيْرًا إِلَّا بِتَوْفِيقِ اللَّهِ، وَلَا شَرًّا إِلَّا بِخِذْلَانِهِ. وَقَالَ الْحَسَنُ: وَاللَّهِ مَا شَاءَتِ الْعَرَبُ الْإِسْلَامَ حَتَّى شَاءَهُ اللَّهُ لَهَا. وَقَالَ وَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ: قَرَأْتُ فِي سَبْعَةٍ «1» وَثَمَانِينَ كِتَابًا مِمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ: مَنْ جَعَلَ إِلَى نَفْسِهِ شَيْئًا مِنَ الْمَشِيئَةِ فَقَدْ كَفَرَ. وَفِي التَّنْزِيلِ: وَلَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتى وَحَشَرْنا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا مَا كانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ [الانعام: 111]. وَقَالَ تَعَالَى: وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ [يونس: 100]. وَقَالَ تَعَالَى: إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ [القصص: 56] وَالْآيُ فِي هَذَا كَثِيرٌ، وَكَذَلِكَ الْأَخْبَارُ، وَأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ هَدَى بِالْإِسْلَامِ، وَأَضَلَّ بِالْكُفْرِ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ. خُتِمَتِ السُّورَةُ وَالْحَمْدُ لله.
__________
(1). في تفسير الثعلبي: بضعة وثمانين.

(19/243)


إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ (1) وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انْتَثَرَتْ (2) وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ (3) وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ (4) عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ (5)

[تفسير سورة الانفطار]
سُورَةُ الِانْفِطَارِ مَكِّيَّةٌ عِنْدَ الْجَمِيعِ وَهِيَ تِسْعَ عشرة آية بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

[سورة الانفطار (82): الآيات 1 الى 5]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ (1) وَإِذَا الْكَواكِبُ انْتَثَرَتْ (2) وَإِذَا الْبِحارُ فُجِّرَتْ (3) وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ (4)
عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ (5)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ) أَيْ تَشَقَّقَتْ بِأَمْرِ اللَّهِ، لِنُزُولِ الْمَلَائِكَةِ، كَقَوْلِهِ: وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنْزِيلًا [الفرقان: 25]. وَقِيلَ: تَفَطَّرَتْ لِهَيْبَةِ اللَّهِ تَعَالَى. وَالْفَطْرُ: الشَّقُّ، يُقَالُ: فَطَرْتُهُ فَانْفَطَرَ، وَمِنْهُ فَطَرَ نَابُ الْبَعِيرِ: طَلَعَ، فَهُوَ بَعِيرٌ فَاطِرٌ، وَتَفَطَّرَ الشَّيْءُ: شُقِّقَ، وَسَيْفٌ فُطَارٌ أَيْ فِيهِ شُقُوقٌ، قَالَ عَنْتَرَةُ:
وَسَيْفِي كَالْعَقِيقَةِ وَهُوَ كِمْعِي ... سِلَاحِي لَا أَفَلَّ وَلَا فُطَارَا «1»
وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ «2». (وَإِذَا الْكَواكِبُ انْتَثَرَتْ) أَيْ تَسَاقَطَتْ، نَثَرْتُ الشَّيْءَ أَنْثُرُهُ نَثْرًا، فَانْتَثَرَ، وَالِاسْمُ النِّثَارُ. وَالنُّثَارُ بِالضَّمِّ: مَا تَنَاثَرَ مِنَ الشَّيْءِ، وَدُرٌّ مُنَثَّرٌ، شُدِّدَ لِلْكَثْرَةِ. (وَإِذَا الْبِحارُ فُجِّرَتْ) أَيْ فُجِّرَ بَعْضُهَا فِي بَعْضٍ، فَصَارَتْ بَحْرًا وَاحِدًا، عَلَى مَا تَقَدَّمَ. قَالَ الْحَسَنُ: فُجِّرَتْ: ذَهَبَ مَاؤُهَا وَيَبِسَتْ، وَذَلِكَ أَنَّهَا أَوَّلًا رَاكِدَةٌ مُجْتَمِعَةٌ، فَإِذَا فُجِّرَتْ تَفَرَّقَتْ، فَذَهَبَ مَاؤُهَا. وَهَذِهِ الْأَشْيَاءُ بَيْنَ يَدَيِ السَّاعَةِ، عَلَى مَا تَقَدَّمَ فِي إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ [التكوير: 1]. (إِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ) أَيْ قُلِّبَتْ وَأُخْرِجَ مَا فِيهَا مِنْ أَهْلِهَا أَحْيَاءً، يُقَالُ: بَعْثَرْتُ الْمَتَاعَ: قَلَّبْتُهُ ظَهْرًا لِبَطْنٍ، وَبَعْثَرْتُ الْحَوْضَ وَبَحْثَرْتُهُ: إِذَا هَدَمْتُهُ وَجَعَلْتُ أَسْفَلَهُ أَعْلَاهُ. وَقَالَ قَوْمٌ مِنْهُمِ الْفَرَّاءُ: بُعْثِرَتْ: أَخْرَجَتْ مَا فِي بَطْنِهَا مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ. وَذَلِكَ مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ: أَنْ تُخْرِجَ الأرض
__________
(1). العقيقة: شعاع البرق الذي يبد وكالسيف. والكمع: الضجيع.
(2). راجع ج 16 ص 4

(19/244)


يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ (6) الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ (7) فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ (8) كَلَّا بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ (9)

ذَهَبَهَا وَفِضَّتَهَا. عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ مثل: يُنَبَّؤُا الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ بِما قَدَّمَ وَأَخَّرَ
[القيامة: 13]. وَتَقَدَّمَ. وَهَذَا جَوَابُ إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ لِأَنَّهُ قَسَمٌ فِي قَوْلِ الْحَسَنِ وَقَعَ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: عَلِمَتْ نَفْسٌ يَقُولُ: إِذَا بَدَتْ هَذِهِ الْأُمُورُ مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ خُتِمَتِ الْأَعْمَالُ فَعَلِمَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ، فَإِنَّهَا لَا يَنْفَعُهَا عَمَلٌ بَعْدَ ذَلِكَ. وَقِيلَ: أَيْ إِذَا كَانَتْ هَذِهِ الْأَشْيَاءُ قَامَتِ الْقِيَامَةُ، فَحُوسِبَتْ كُلُّ نَفْسٍ بِمَا عَمِلَتْ، وَأُوتِيَتْ كِتَابَهَا بِيَمِينِهَا أَوْ بِشِمَالِهَا، فَتَذَكَّرَتْ عِنْدَ قِرَاءَتِهِ جَمِيعَ أَعْمَالِهَا. وَقِيلَ: هُوَ خَبَرٌ، وَلَيْسَ بِقَسَمٍ، وَهُوَ الصَّحِيحُ إِنْ شَاءَ الله تعالى.

[سورة الانفطار (82): الآيات 6 الى 9]
يَا أَيُّهَا الْإِنْسانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ (6) الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ (7) فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شاءَ رَكَّبَكَ (8) كَلاَّ بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ (9)
قوله تعالى: يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ) خَاطَبَ بِهَذَا مُنْكَرِي الْبَعْثَ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْإِنْسَانُ هُنَا: الْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ: أُبَيُّ بْنُ خَلَفٍ. وَقِيلَ: نَزَلَتْ فِي أَبِي الْأَشَدِّ بْنِ كَلَدَةَ الْجُمَحِيِّ. عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أيضا: (ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ) أَيْ مَا الَّذِي غَرَّكَ حَتَّى كَفَرْتَ؟ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ أَيِ الْمُتَجَاوِزِ عَنْكَ. قَالَ قَتَادَةُ: غَرَّهُ شَيْطَانُهُ الْمُسَلَّطُ عَلَيْهِ. الْحَسَنُ: غَرَّهُ شَيْطَانُهُ الْخَبِيثُ. وَقِيلَ: حُمْقُهُ وَجَهْلُهُ. رَوَاهُ الْحَسَنُ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. وَرَوَى غَالِبٌ الْحَنَفِيُّ قَالَ: لَمَّا قَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَا أَيُّهَا الْإِنْسانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ [الانفطار: 6] قَالَ:" غَرَّهُ الْجَهْلُ" وَقَالَ صَالِحُ بْنُ مِسْمَارٍ: بَلَغَنَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَرَأَ يَا أَيُّهَا الْإِنْسانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ؟ فَقَالَ:" غَرَّهُ جَهْلُهُ". وَقَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولًا [الأحزاب: 72]. وَقِيلَ: غَرَّهُ عَفْوُ اللَّهِ، إِذْ لَمْ يُعَاقِبْهُ فِي أَوَّلِ مَرَّةٍ. قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْأَشْعَثِ: قِيلَ: لِلْفُضَيْلِ بْنِ عِيَاضٍ: لَوْ أَقَامَكَ اللَّهُ تعالى

(19/245)


يَوْمَ الْقِيَامَةِ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَقَالَ لَكَ: مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ؟ [الانفطار: 6] مَاذَا كُنْتَ تَقُولُ؟ قَالَ: كُنْتُ أَقُولُ غَرَّنِي سُتُورُكَ الْمُرْخَاةِ، لِأَنَّ الْكَرِيمَ هُوَ السَّتَّارُ. نَظَمَهُ ابْنُ السَّمَّاكِ فَقَالَ:
يَا كَاتِمَ الذَّنْبِ أَمَا تَسْتَحِي ... وَاللَّهُ فِي الْخَلْوَةِ ثَانِيكَا
غَرَّكَ مِنْ رَبِّكِ إِمْهَالُهُ ... وَسَتْرُهُ طُولَ مَسَاوِيكَا
وَقَالَ ذُو النُّونِ الْمِصْرِيُّ: كَمْ مِنْ مَغْرُورٍ تَحْتَ السَّتْرِ وَهُوَ لَا يَشْعُرُ. وَأَنْشَدَ أَبُو بَكْرِ بْنُ طاهر الأبهري:
يأمن غَلَا فِي الْعُجْبِ وَالتِّيهِ ... وَغَرَّهُ طُولُ تَمَادِيهِ
أَمْلَى لَكَ اللَّهُ فَبَارَزْتَهُ ... وَلَمْ تَخَفْ غِبَّ مَعَاصِيهِ
وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ صَاحَ بِغُلَامٍ لَهُ مَرَّاتٍ فَلَمْ يُلَبِّهْ فنظر فإذا هو بالباب، فقال: مالك لَمْ تُجِبْنِي؟ فَقَالَ. لِثِقَتِي بِحِلْمِكَ، وَأَمْنِي مِنْ عُقُوبَتِكَ. فَاسْتَحْسَنَ جَوَابَهُ فَأَعْتَقَهُ. وَنَاسٌ يَقُولُونَ: مَا غَرَّكَ: مَا خَدَعَكَ وَسَوَّلَ لَكَ، حَتَّى أَضَعْتَ مَا وَجَبَ عَلَيْكَ؟ وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا وَسَيَخْلُو اللَّهُ بِهِ يوم القيامة، فيقول له: يا ابن آدم ماذا غرك بي؟ يا ابن آدم ماذا عملت فيما علمت؟ يا ابن آدَمَ مَاذَا أَجَبْتَ الْمُرْسَلِينَ؟ (الَّذِي خَلَقَكَ) أَيْ قَدَّرَ خَلْقَكَ مِنْ نُطْفَةٍ (فَسَوَّاكَ) فِي بَطْنِ أُمِّكَ، وَجَعَلَ لَكَ يَدَيْنِ وَرِجْلَيْنِ وَعَيْنَيْنِ وَسَائِرَ أَعْضَائِكَ (فَعَدَلَكَ) أَيْ جَعَلَكَ مُعْتَدِلًا سَوِيَّ الْخَلْقِ، كما يقال: هذا شي مُعَدَّلٌ. وَهَذِهِ قِرَاءَةُ الْعَامَّةِ وَهِيَ اخْتِيَارُ أَبِي عُبَيْدٍ وَأَبِي حَاتِمٍ، قَالَ الْفَرَّاءُ: وَأَبُو عُبَيْدٍ: يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ [التين: 4]. وَقَرَأَ الْكُوفِيُّونَ: عَاصِمٌ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ: فَعَدَلَكَ مُخَفَّفًا أَيْ: أَمَالَكَ وَصَرَفَكَ إِلَى أَيِّ صُورَةٍ شَاءَ، إِمَّا حَسَنًا وَإِمَّا قَبِيحًا، وَإِمَّا طَوِيلًا وَإِمَّا قصيرا. وقال [موسى بن علي ابن أَبِي رَبَاحٍ اللَّخْمِيُّ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ «1»] قَالَ: قَالَ لِيَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ" إن النطفة
__________
(1). الزيادة من تفسير الثعلبي والطبري والدر المنثور. والحديث كما رواه الثعلبي بعد السند: قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لجده (ما ولد لك)؟ قال: يا رسول الله وما عسى أن يولد لي إما غلاما أو جارية. قال (فمن يشبه) قال: فمن يشبه أمه أو أباه فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. (لَا تقل هكذا إن النطفة ... الحديث).

(19/246)


وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ (10) كِرَامًا كَاتِبِينَ (11) يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ (12)

إِذَا اسْتَقَرَّتْ فِي الرَّحِمِ أَحْضَرَهَا اللَّهُ كُلَّ نَسَبٍ بَيْنِهَا وَبَيْنَ آدَمَ". أَمَا قَرَأْتَ هَذِهِ الْآيَةَ (فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شاءَ رَكَّبَكَ): (فِيمَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ آدَمَ)، [وَقَالَ عِكْرِمَةُ وَأَبُو صَالِحٍ: فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شاءَ رَكَّبَكَ]: إِنْ شَاءَ فِي صُورَةِ إِنْسَانٍ، وَإِنْ شَاءَ فِي صُورَةِ حِمَارٍ، وَإِنْ شَاءَ فِي صُورَةِ قِرْدٍ، وَإِنْ شَاءَ فِي صُورَةِ خِنْزِيرٍ. وَقَالَ مَكْحُولٌ: إِنْ شَاءَ ذَكَرًا، وَإِنْ شَاءَ أُنْثَى. قَالَ مُجَاهِدٌ: فِي أَيِّ صُورَةٍ أَيْ فِي أَيِّ شَبَهٍ مِنْ أَبٍ أَوْ أُمٍّ أَوْ عم أو خال أو غيرهم. وفِي متعلقة ب"- كبك"، ولا تتعلق ب فَعَدَلَكَ، عَلَى قِرَاءَةِ مَنْ خَفَّفَ، لِأَنَّكَ تَقُولُ عَدَلْتُ إِلَى كَذَا، وَلَا تَقُولُ عَدَلْتُ فِي كَذَا، وَلِذَلِكَ مَنَعَ الْفَرَّاءُ التَّخْفِيفَ، لِأَنَّهُ قَدَّرَ فِي متعلقة ب- فَعَدَلَكَ، وما يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ صِلَةً مُؤَكِّدَةً، أَيْ فِي أَيِّ صُورَةٍ شَاءَ رَكَّبَكَ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ شَرْطِيَّةً أَيْ إِنْ شَاءَ رَكَّبَكَ فِي غَيْرِ صُورَةِ الْإِنْسَانِ مِنْ صُورَةِ قِرْدٍ أَوْ حِمَارٍ أَوْ خِنْزِيرٍ، فَ- مَا بِمَعْنَى الشَّرْطِ وَالْجَزَاءِ، أَيْ فِي صُورَةٍ مَا شَاءَ يُرَكِّبُكَ رَكَّبَكَ. قَوْلُهُ تَعَالَى: (كَلَّا بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ) يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ كَلَّا بِمَعْنَى حَقًّا وَ (أَلَا) فَيُبْتَدَأُ بِهَا. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ بِمَعْنَى (لَا)، عَلَى أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى لَيْسَ الْأَمْرُ كَمَا تَقُولُونَ مِنْ أَنَّكُمْ فِي عِبَادَتِكُمْ غَيْرَ اللَّهِ مُحِقُّونَ. يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ [الانفطار: 6] وَكَذَلِكَ يَقُولُ الْفَرَّاءُ: يَصِيرُ الْمَعْنَى: لَيْسَ كَمَا غَرَرْتَ بِهِ. وَقِيلَ: أَيْ لَيْسَ الْأَمْرُ كَمَا تقولون، مِنْ أَنَّهُ لَا بَعْثَ. وَقِيلَ: هُوَ بِمَعْنَى الرَّدْعِ وَالزَّجْرِ. أَيْ لَا تَغْتَرُّوا بِحِلْمِ اللَّهِ وَكَرَمِهِ، فَتَتْرُكُوا التَّفَكُّرَ فِي آيَاتِهِ. ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: الوقف الجيد على بِالدِّينِ، وَعَلَى رَكَّبَكَ، وَالْوَقْفُ عَلَى كَلَّا قَبِيحٌ. بَلْ تُكَذِّبُونَ يَا أَهْلَ مَكَّةَ بِالدِّينِ أَيْ بِالْحِسَابِ، وبَلْ لنفي شي تَقَدَّمَ وَتَحْقِيقِ غَيْرِهِ. وَإِنْكَارُهُمْ لِلْبَعْثِ كَانَ مَعْلُومًا، وَإِنْ لَمْ يَجْرِ لَهُ ذِكْرٌ فِي هَذِهِ السورة.

[سورة الانفطار (82): الآيات 10 الى 12]
وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ (10) كِراماً كاتِبِينَ (11) يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ (12)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ) أَيْ رقباء من الملائكة (كِراماً) أي علي، كقوله: كِرامٍ بَرَرَةٍ [عبس: 16]. وَهُنَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ:

(19/247)


الْأُولَى- رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (أَكْرِمُوا الْكِرَامَ الْكَاتِبِينَ الَّذِينَ لَا يفارقونكم إلا عند حدى حَالَتَيْنِ: الْخِرَاءَةِ»
أَوِ الْجِمَاعِ، فَإِذَا اغْتَسَلَ أَحَدُكُمْ فَلْيَسْتَتِرْ بِجِرْمِ [حَائِطٍ «2»] أَوْ بِغَيْرِهِ، أَوْ لِيَسْتُرْهُ أَخُوهُ). وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: (لَا يَزَالُ الْمَلَكُ مُولِيًا عَنِ الْعَبْدِ مَا دَامَ بَادِيَ الْعَوْرَةَ) وَرُوِيَ (إِنَّ الْعَبْدَ إِذَا دَخَلَ الْحَمَّامَ بِغَيْرِ مِئْزَرٍ لَعَنَهُ مَلَكَاهُ). الثَّانِيَةُ- وَاخْتَلَفَ النَّاسُ فِي الْكُفَّارِ هَلْ عَلَيْهِمْ حَفَظَةٌ أَمْ لَا؟ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا، لِأَنَّ أَمْرَهُمْ ظَاهِرٌ، وَعَمَلَهُمْ وَاحِدٌ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيماهُمْ [الرحمن: 41]. وَقِيلَ: بَلْ عَلَيْهِمْ حَفَظَةٌ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: كَلَّا بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ. وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ. كِراماً كاتِبِينَ. يَعْلَمُونَ ما تَفْعَلُونَ [الانفطار: 12 - 9]. وقال: وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِشِمالِهِ [الحاقة: 25] وَقَالَ: وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ وَراءَ ظَهْرِهِ [الانشقاق: 10]، فَأَخْبَرَ أَنَّ الْكُفَّارَ يَكُونُ لَهُمْ كِتَابٌ، وَيَكُونُ عَلَيْهِمْ حَفَظَةٌ. فَإِنْ قِيلَ: الَّذِي عَلَى يَمِينِهِ أي شي يَكْتُبُ وَلَا حَسَنَةَ لَهُ؟ قِيلَ لَهُ: الَّذِي يَكْتُبُ عَنْ شِمَالِهِ يَكُونُ بِإِذْنِ صَاحِبِهِ، وَيَكُونُ شَاهِدًا عَلَى ذَلِكَ وَإِنْ لَمْ يَكْتُبْ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الثَّالِثَةُ- سُئِلَ سُفْيَانُ: كَيْفَ تَعْلَمُ الْمَلَائِكَةُ أَنَّ الْعَبْدَ قَدْ هَمَّ بِحَسَنَةٍ أَوْ سَيِّئَةٍ؟ قَالَ: إِذَا هَمَّ الْعَبْدُ بِحَسَنَةٍ وَجَدُوا مِنْهُ رِيحَ الْمِسْكِ، وَإِذَا هَمَّ بِسَيِّئَةٍ وَجَدُوا مِنْهُ ريح النتن. وقد مضى في" ق" «3» عند قَوْلُهُ: مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ [ق: 18] زِيَادَةُ بَيَانٍ لِمَعْنَى هَذِهِ الْآيَةِ. وَقَدْ كَرِهَ العلماء الكلام عند الْغَائِطِ وَالْجِمَاعِ، لِمُفَارَقَةِ الْمَلَكِ الْعَبْدَ عِنْدَ ذَلِكَ. وَقَدْ مَضَى فِي آخِرِ" آلِ عِمْرَانَ" «4» الْقَوْلُ فِي هَذَا. وَعَنِ الْحَسَنِ: يَعْلَمُونَ لَا يَخْفَى عليهم شي مِنْ أَعْمَالِكُمْ. وَقِيلَ: يَعْلَمُونَ مَا ظَهَرَ مِنْكُمْ دُونَ مَا حَدَّثْتُمْ بِهِ أَنْفُسَكُمْ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
__________
(1). في ا، ب ح، ط، ل: الخزاية ورواية روح المعاني (ح 9 ص 317): لا يفارقونكم إلا عند إحدى الغائط والجنابة والغسل.
(2). الزيادة من الدر المنثور وفية. سبب ورود الحديث أنه عليه السلام رأى رجلا يغتسل بفلاة من الأرض ...... إلخ.
(3). راجع ج 17 ص (11)
(4). راجع 4 ص 310 فما بعدها.

(19/248)


إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ (13) وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ (14) يَصْلَوْنَهَا يَوْمَ الدِّينِ (15) وَمَا هُمْ عَنْهَا بِغَائِبِينَ (16) وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ (17) ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ (18) يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ (19)

[سورة الانفطار (82): الآيات 13 الى 19]
إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ (13) وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ (14) يَصْلَوْنَها يَوْمَ الدِّينِ (15) وَما هُمْ عَنْها بِغائِبِينَ (16) وَما أَدْراكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ (17)
ثُمَّ مَا أَدْراكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ (18) يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ (19)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ. وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ) تَقْسِيمٌ مِثْلَ قَوْلِهِ: فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ [الشورى: 7] وقال: يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ [الروم: 43]. فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا الْآيَتَيْنِ. (يَصْلَوْنَها) أَيْ يُصِيبُهُمْ لَهَبُهَا وَحَرُّهَا (يَوْمَ الدِّينِ) أَيْ يَوْمَ الْجَزَاءِ وَالْحِسَابِ، وَكَرَّرَ ذِكْرَهُ تَعْظِيمًا لِشَأْنِهِ، نَحْوَ قَوْلِهِ تَعَالَى: الْقارِعَةُ مَا الْقارِعَةُ؟ وَما أَدْراكَ مَا الْقارِعَةُ
[الْقَارِعَةُ: 3 - 1] وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِيمَا رُوِيَ عَنْهُ: كل شي مِنَ الْقُرْآنِ مِنْ قَوْلِهِ: وَما أَدْراكَ؟ فَقَدْ أدراه. وكل شي مِنْ قَوْلِهِ" وَمَا يُدْرِيكَ" فَقَدْ طُوِيَ عَنْهُ. (يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ) قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو (يَوْمُ) بِالرَّفْعِ عَلَى الْبَدَلِ مِنْ يَوْمُ الدِّينِ أَوْ رَدًّا عَلَى الْيَوْمِ الْأَوَّلِ، فَيَكُونُ صِفَةً وَنَعْتًا لِ- يَوْمُ الدِّينِ. وَيَجُوزُ أَنْ يُرْفَعَ بِإِضْمَارِ هُوَ. الْبَاقُونَ بِالنَّصْبِ عَلَى أَنَّهُ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ إِلَّا أَنَّهُ، نُصِبَ، لِأَنَّهُ مُضَافٌ غَيْرُ مُتَمَكِنٍ، كَمَا تَقُولُ: أَعْجَبَنِي يَوْمَ يَقُومُ زَيْدٌ. وَأَنْشَدَ الْمُبَرِّدُ:
مِنْ أَيِ يَوْمَيَّ مِنَ الْمَوْتِ أَفِرُّ ... أَيَوْمَ لَمْ يُقْدَرْ أَمْ يَوْمَ قُدِرْ
فَالْيَوْمَانِ الثَّانِيَانِ مَخْفُوضَانِ بِالْإِضَافَةِ، عَنِ التَّرْجَمَةِ عَنِ الْيَوْمَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ، إِلَّا أَنَّهُمَا نُصِبَا فِي اللَّفْظِ، لِأَنَّهُمَا أُضِيفَا إِلَى غَيْرِ مَحْضٍ. وَهَذَا اخْتِيَارُ الْفَرَّاءِ وَالزَّجَّاجِ. وَقَالَ قَوْمٌ: الْيَوْمُ الثَّانِي مَنْصُوبٌ عَلَى الْمَحَلِّ، كَأَنَّهُ قَالَ فِي يَوْمٍ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا. وَقِيلَ: بِمَعْنَى: إِنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ تَكُونُ يَوْمَ، أَوْ عَلَى مَعْنَى يُدَانُونَ يَوْمَ، لِأَنَّ الدِّينَ يَدُلُّ عَلَيْهِ، أَوْ بِإِضْمَارِ اذْكُرْ. (وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ) لَا يُنَازِعُهُ فِيهِ أَحَدٌ، كَمَا قَالَ: لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ؟ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ. الْيَوْمَ تُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ [غافر: 17 - 16]. تمت السورة والحمد لله.

(19/249)


وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ (1) الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ (2) وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ (3)

[تفسير سورة المطففين]
سُورَةُ الْمُطَفِّفِينَ مَكِّيَّةٌ فِي قَوْلِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَالضِّحَاكِ وَمُقَاتِلٍ. وَمَدَنِيَّةٌ فِي قَوْلِ الْحَسَنِ وَعِكْرِمَةَ. وَهِيَ سِتٌّ وَثَلَاثُونَ آيَةً قَالَ مُقَاتِلٌ: وَهِيَ أَوَّلُ سُورَةٍ نَزَلَتْ بِالْمَدِينَةِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وقتادة: مدنية إلا ثمان آيَاتٍ مِنْ قَوْلِهِ: إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا إِلَى آخِرِهَا، مَكِّيٌّ. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ وَجَابِرُ بْنُ زَيْدٍ: نَزَلَتْ بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

[سورة المطففين (83): الآيات 1 الى 3]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ (1) الَّذِينَ إِذَا اكْتالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ (2) وَإِذا كالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ (3)
فِيهِ أَرْبَعُ مَسَائِلَ: الْأُولَى- رَوَى النَّسَائِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَمَّا قَدِمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ كَانُوا مِنْ أَخْبَثِ النَّاسِ كَيْلًا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ فَأَحْسَنُوا الْكَيْلَ بَعْدَ ذَلِكَ. قَالَ الْفَرَّاءُ: فَهُمْ مِنْ أَوْفَى النَّاسِ كَيْلًا إِلَى يَوْمِهِمْ هَذَا. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا قَالَ: هِيَ: أَوَّلُ سُورَةٍ نَزَلَتْ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَاعَةَ نَزَلَ الْمَدِينَةَ، وَكَانَ هَذَا فِيهِمْ، كَانُوا إِذَا اشْتَرَوُا اسْتَوْفَوْا بِكَيْلٍ رَاجِحٍ، فَإِذَا بَاعُوا بَخَسُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ، فَلَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ السُّورَةُ انْتَهَوْا، فَهُمْ أَوْفَى النَّاسِ كَيْلًا إِلَى يَوْمِهِمْ هَذَا. وَقَالَ قَوْمٌ: نَزَلَتْ فِي رَجُلٍ يُعْرَفُ بِأَبِي جُهَيْنَةَ، وَاسْمُهُ عَمْرٌو، كَانَ لَهُ صَاعَانِ يَأْخُذُ بِأَحَدِهِمَا، ويعطي بالآخر، قال أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. الثَّانِيَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: وَيْلٌ أَيْ شِدَّةُ عَذَابٍ فِي الْآخِرَةِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِنَّهُ وَادٍ فِي جَهَنَّمَ يَسِيلُ فِيهِ صَدِيدُ أَهْلِ النَّارِ، فَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ أَيِ الَّذِينَ يَنْقُصُونَ مَكَايِيلَهُمْ وَمَوَازِينَهُمْ. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: الْمُطَفِّفُ: الرَّجُلُ يَسْتَأْجِرُ الْمِكْيَالَ

(19/250)


وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُ يَحِيفُ فِي كَيْلِهِ فَوِزْرُهُ عَلَيْهِ. وَقَالَ آخَرُونَ: التَّطْفِيفُ فِي الْكَيْلِ وَالْوَزْنِ والوضوء والصلاة والحديث. وفي الموطأ قال مالك: ويقال لكل شي وفاء وتطفيف. وروى عن سالم ابن أَبِي الْجَعْدِ قَالَ: الصَّلَاةُ بِمِكْيَالٍ، فَمَنْ أَوْفَى لَهُ وَمَنْ طَفَّفَ فَقَدْ عَلِمْتُمْ مَا قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِي ذَلِكَ: وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ. الثَّالِثَةُ- قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ: الْمُطَفِّفُ مَأْخُوذٌ مِنَ الطَّفِيفِ، وَهُوَ الْقَلِيلُ، وَالْمُطَفِّفُ هُوَ الْمُقِلُّ حَقَّ صَاحِبِهِ بِنُقْصَانِهِ عَنِ الْحَقِّ، فِي كَيْلٍ أَوْ وَزْنٍ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: إِنَّمَا قِيلَ لِلْفَاعِلِ مِنْ هَذَا مُطَفِّفٌ، لِأَنَّهُ لَا يَكَادُ يَسْرِقُ مِنَ الْمِكْيَالِ وَالْمِيزَانِ إِلَّا الشَّيْءَ الطَّفِيفَ الْخَفِيفَ، وَإِنَّمَا أُخِذَ مِنْ طَفَّ الشَّيْءُ وَهُوَ جَانِبُهُ. وَطِفَافُ الْمَكُّوكِ وَطَفَافُهُ بِالْكَسْرِ وَالْفَتْحِ: مَا مَلَأَ أَصْبَارَهُ، وَكَذَلِكَ طَفُّ الْمَكُّوكِ وَطَفَفُهُ، وَفِي الْحَدِيثِ: (كُلُّكُمْ بنو آدم طف الصاع لم تملئوه). وَهُوَ أَنْ يَقْرُبَ أَنْ يَمْتَلِئَ فَلَا يَفْعَلَ، وَالْمَعْنَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ قَرِيبٌ، فَلَيْسَ لِأَحَدٍ عَلَى أَحَدٍ فَضْلٌ إِلَّا بِالتَّقْوَى. وَالطُّفَافُ وَالطُّفَافَةُ بِالضَّمِّ: مَا فَوْقَ الْمِكْيَالِ. وَإِنَاءٌ طُفَافٌ: إِذَا بَلَغَ الْمِلْءَ طُفَافُهُ، تَقُولُ مِنْهُ: أَطَفَفْتُ. وَالتَّطْفِيفُ: نَقْصُ الْمِكْيَالِ وَهُوَ أَلَّا تَمْلَأَهُ إِلَى أَصْبَارِهِ، أَيْ جَوَانِبِهِ، يُقَالُ: أَدْهَقْتُ الْكَأْسَ إِلَى أَصْبَارِهَا أَيْ إِلَى رَأْسِهَا. وَقَوْلُ ابْنِ عُمَرَ حِينَ ذَكَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَبْقَ الْخَيْلِ: كُنْتُ فَارِسًا يَوْمَئِذٍ فَسَبَقْتُ النَّاسَ حَتَّى طَفَّفَ بِيَ الْفَرَسُ مَسْجِدَ بَنِي زُرَيْقٍ، حَتَّى كَادَ يُسَاوِي الْمَسْجِدَ. يَعْنِي: وَثَبَ بِي. الرَّابِعَةُ- الْمُطَفِّفُ: هُوَ الَّذِي يُخْسِرُ فِي الْكَيْلِ وَالْوَزْنِ، وَلَا يُوفِي حَسْبَ مَا بَيَّنَّاهُ، وَرَوَى ابْنُ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ: أَنَّهُ قَرَأَ وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ فَقَالَ: لَا تُطَفِّفْ وَلَا تَخْلُبْ «1»، وَلَكِنْ أَرْسِلْ وَصُبَّ عَلَيْهِ صَبًّا، حَتَّى إِذَا اسْتَوْفَى «2» أَرْسِلْ يَدَكَ وَلَا تُمْسِكْ. وَقَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ الْمَاجِشُونَ: نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ مَسْحِ الطُّفَافِ، وَقَالَ: إِنَّ الْبَرَكَةَ فِي رَأْسِهِ. قَالَ: وَبَلَغَنِي أَنَّ كَيْلَ فِرْعَوْنَ كان مسحا بالحديد.
__________
(1). كذا في الأصول: أي لا تغش وفي ابن العربي (ولا تجلب).
(2). في ا، ح، ز، ط، ل، وابن العربي: (استوى). [ ..... ]

(19/251)


قَوْلُهُ تَعَالَى: (الَّذِينَ إِذَا اكْتالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ) قَالَ الْفَرَّاءُ: أَيْ مِنَ النَّاسِ يُقَالُ: اكْتَلْتُ مِنْكَ: أَيِ اسْتَوْفَيْتُ مِنْكَ وَيُقَالُ اكْتَلْتُ مَا عَلَيْكَ: أَيْ أَخَذْتُ مَا عَلَيْكَ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: أَيْ إِذَا اكْتَالُوا مِنَ النَّاسِ اسْتَوْفَوْا عَلَيْهِمُ الْكَيْلَ، وَالْمَعْنَى: الَّذِينَ إِذَا اسْتَوْفَوْا أَخَذُوا الزِّيَادَةَ، وَإِذَا أَوْفَوْا أَوْ وَزَنُوا لِغَيْرِهِمْ نَقَصُوا، فَلَا يَرْضَوْنَ لِلنَّاسِ مَا يَرْضَوْنَ لِأَنْفُسِهِمْ. الطَّبَرِيُّ: عَلَى بِمَعْنَى عِنْدَ. قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَإِذا كالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ) فِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِذا كالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ: أَيْ كَالُوا لَهُمْ أَوْ وَزَنُوا لَهُمْ فَحُذِفَتِ اللَّامُ، فَتَعَدَّى الْفِعْلُ فَنَصَبَ، وَمِثْلُهُ نَصَحْتُكَ وَنَصَحْتُ لَكَ، وَأَمَرْتُكَ بِهِ وَأَمَرْتُكَهُ، قَالَهُ الْأَخْفَشُ وَالْفَرَّاءُ. قَالَ الْفَرَّاءُ: وَسَمِعْتُ أَعْرَابِيَّةً تَقُولُ إِذَا صَدَرَ النَّاسُ أَتَيْنَا التَّاجِرَ فَيَكِيلُنَا الْمُدَّ وَالْمُدَّيْنِ إِلَى الْمَوْسِمِ الْمُقْبِلِ. وَهُوَ مِنْ كَلَامِ أَهْلِ الْحِجَازِ وَمَنْ جَاوَرَهُمْ مِنْ قَيْسٍ. قَالَ الزَّجَّاجُ: لَا يَجُوزُ الْوَقْفُ عَلَى" كَالُوا" وَ" وَزَنُوا"؟ حَتَّى تَصِلَ بِهِ" هُمْ" قَالَ: وَمِنِ النَّاسِ مَنْ يَجْعَلُهَا تَوْكِيدًا، وَيُجِيزُ الْوَقْفَ عَلَى" كَالُوا" وَ" وَزَنُوا" وَالْأَوَّلُ الاختيار، لأنها حرف واحد. هو قَوْلُ الْكِسَائِيِّ. قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: وَكَانَ عِيسَى بْنُ عُمَرَ يَجْعَلُهَا حَرْفَيْنِ، وَيَقِفُ عَلَى" كَالُوا" وَ" وَزَنُوا" وَيَبْتَدِئُ" هُمْ يُجْسِرُونَ" قَالَ: وَأَحْسِبُ قِرَاءَةَ حَمْزَةَ كَذَلِكَ أَيْضًا. قَالَ أَبُو عَبِيدٍ: وَالِاخْتِيَارُ أَنْ يَكُونَا كَلِمَةً وَاحِدَةً مِنْ جِهَتَيْنِ: إِحْدَاهُمَا: الْخَطُّ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ كَتَبُوهُمَا بِغَيْرِ أَلِفٍ، وَلَوْ كَانَتَا مَقْطُوعَتَيْنِ لَكَانَتَا" كَالُوا" وَ" وَزَنُوا" بِالْأَلِفِ، وَالْأُخْرَى: أَنَّهُ يُقَالُ: كِلْتُكَ وَوَزَنْتُكَ بِمَعْنَى كِلْتُ لَكَ، وَوَزَنْتُ لَكَ، وَهُوَ كَلَامٌ عَرَبِيٌّ، كَمَا يُقَالُ: صِدْتُكَ وَصِدْتُ لَكَ، وَكَسَبْتُكَ وَكَسَبْتُ لك، وكذلك شكرتك ونصحتك ونحو ذلك. قوله: يُخْسِرُونَ: أَيْ يَنْقُصُونَ، وَالْعَرَبُ تَقُولُ: أَخْسَرْتُ الْمِيزَانَ وَخَسِرْتُهُ. وَ (هُمْ) فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ، عَلَى قِرَاءَةِ الْعَامَّةِ، رَاجِعٌ إِلَى النَّاسِ، تَقْدِيرُهُ (وَإِذَا كَالُوا) النَّاسَ (أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ) وَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا أَنْ يُرَادَ كَالُوا لَهُمْ أَوْ وَزَنُوا لَهُمْ، فَحُذِفَ الْجَارُّ، وَأُوصِلَ الْفِعْلُ، كَمَا قَالَ:
وَلَقَدْ جَنَيْتُكَ أَكْمُؤًا وَعَسَاقِلًا ... وَلَقَدْ نَهَيْتُكَ عَنْ بنات الاوبر

(19/252)


أَرَادَ: جَنَيْتُ لَكَ، وَالْوَجْهُ الْآخَرُ: أَنْ يَكُونَ عَلَى حَذْفِ الْمُضَافِ، وَإِقَامَةِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ مَقَامَهُ، وَالْمُضَافُ هُوَ الْمَكِيلُ وَالْمَوْزُونُ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: إِنَّكُمْ مَعَاشِرَ الْأَعَاجِمِ وُلِّيتُمْ أَمْرَيْنِ بِهِمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلكُمْ: الْمِكْيَالُ وَالْمِيزَانُ. وَخَصَّ الْأَعَاجِمَ، لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَجْمَعُونَ الْكَيْلَ وَالْوَزْنَ جَمِيعًا، وَكَانَا مُفَرَّقَيْنِ فِي الْحَرَمَيْنِ، كَانَ أَهْلُ مَكَّةَ يَزِنُونَ، وَأَهْلُ الْمَدِينَةِ يَكِيلُونَ. وَعَلَى الْقِرَاءَةِ الثَّانِيَةِ" هُمْ" فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ بِالِابْتِدَاءِ، أَيْ وَإِذَا كَالُوا لِلنَّاسِ أَوْ وَزَنُوا لَهُمْ فَهُمْ يُخْسِرُونَ. وَلَا يَصِحُّ، لِأَنَّهُ تَكُونُ الْأُولَى مُلْغَاةً، لَيْسَ لَهَا خَبَرٌ، وَإِنَّمَا كَانَتْ تَسْتَقِيمُ لَوْ كَانَ بَعْدَهَا: وَإِذَا كَالُوا هُمْ يَنْقُصُونَ، أَوْ وَزَنُوا هُمْ يُخْسِرُونَ. الثَّانِيَةُ- قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (خَمْسٌ بِخَمْسٍ: مَا نَقَضَ قَوْمُ الْعَهْدَ إِلَّا سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ عَدُوَّهُمْ، وَلَا حَكَمُوا بِغَيْرِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَّا فَشَا فِيهِمُ الْفَقْرُ، وَمَا ظَهَرَتِ الْفَاحِشَةُ فِيهِمْ إِلَّا ظَهَرَ فِيهِمُ الطَّاعُونُ، وَمَا طَفَّفُوا الْكَيْلَ إِلَّا مُنِعُوا النَّبَاتَ، وَأُخِذُوا بِالسِّنِينَ، وَلَا مَنَعُوا الزَّكَاةَ إِلَّا حَبَسَ اللَّهُ عَنْهُمُ الْمَطَرَ) خَرَّجَهُ أَبُو بَكْرٍ الْبَزَّارُ بِمَعْنَاهُ، وَمَالِكُ بْنُ أَنَسٍ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ. وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ فِي كِتَابِ التَّذْكِرَةِ. وَقَالَ مَالِكُ بْنُ دِينَارٍ: دَخَلْتُ عَلَى جَارٍ لِي قَدْ نَزَلَ بِهِ الْمَوْتُ، فَجَعَلَ يَقُولُ: جَبَلَيْنِ مِنْ نَارٍ! جَبَلَيْنِ مِنْ نَارٍ! فَقُلْتُ: مَا تَقُولُ؟ أَتَهْجُرُ؟ «1» قَالَ: يَا أَبَا يَحْيَى، كَانَ لِي مِكْيَالَانِ، أَكِيلُ بِأَحَدِهِمَا، وَأَكْتَالُ بِالْآخَرِ فقمت فجعلت أضرب أحدهما بالآخر حتى كسرتها فَقَالَ: يَا أَبَا يَحْيَى، كُلَّمَا ضَرَبْتُ أَحَدَهُمَا بِالْآخَرِ ازْدَادَ عِظَمًا، فَمَاتَ مِنْ وَجَعِهِ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ: أَشْهَدُ عَلَى كُلِّ كَيَّالٍ أَوْ وَزَّانٍ أَنَّهُ فِي النَّارِ. قِيلَ لَهُ: فَإِنَّ ابْنَكَ كَيَّالٌ أَوْ وَزَّانٌ. فَقَالَ: أَشْهَدُ أَنَّهُ فِي النَّارِ. قَالَ الْأَصْمَعِيُّ: وَسَمِعْتُ أَعْرَابِيَّةً تَقُولُ: لَا تلتمس المروءة ممن مروءته في رءوس الْمَكَايِيلِ، وَلَا أَلْسِنَةِ الْمَوَازِينَ. وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَقَالَ عَبْدُ خَيْرٍ: مَرَّ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَلَى رَجُلٍ وَهُوَ يَزِنُ الزَّعْفَرَانَ وَقَدْ أَرَجَحَ، فَأَكْفَأَ الْمِيزَانَ، ثُمَّ قَالَ: أَقِمِ الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ، ثُمَّ أَرْجِحْ بَعْدَ ذَلِكَ مَا شِئْتَ. كَأَنَّهُ أَمَرَهُ بِالتَّسْوِيَةِ أَوَّلًا لِيَعْتَادَهَا، وَيُفْضَلُ الْوَاجِبُ مِنَ النَّفْلِ. وَقَالَ نَافِعٌ: كَانَ ابْنُ عُمَرَ يَمُرُّ بِالْبَائِعِ فَيَقُولُ: أتق الله وأوف الكيل
__________
(1). هجر في نومه ومرضه يهجر هجرا: هذى.

(19/253)


أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ (4) لِيَوْمٍ عَظِيمٍ (5) يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (6)

وَالْوَزْنَ بِالْقِسْطِ، فَإِنَّ الْمُطَفِّفِينَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُوقَفُونَ حَتَّى إِنَّ الْعَرَقَ لَيُلْجِمُهُمْ إِلَى أَنْصَافِ آذَانِهِمْ. وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ قَدِمَ الْمَدِينَةَ وَقَدْ خَرَجَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى خَيْبَرَ وَاسْتَخْلَفَ عَلَى الْمَدِينَةِ سِبَاعَ بْنَ عُرْفُطَةَ، فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: فَوَجَدْنَاهُ فِي صَلَاةِ الصُّبْحِ فَقَرَأَ فِي الرَّكْعَةِ الْأُولَى كهيعص وَقَرَأَ فِي الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: فَأَقُولُ فِي صَلَاتِي: وَيْلٌ لِأَبِي فُلَانٍ، كَانَ لَهُ مِكْيَالَانِ إِذَا اكْتَالَ اكْتَالَ بِالْوَافِي، وإذا كال كال بالناقص.

[سورة المطففين (83): الآيات 4 الى 6]
أَلا يَظُنُّ أُولئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ (4) لِيَوْمٍ عَظِيمٍ (5) يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ (6)
إنكار وتعجيب عَظِيمٌ مِنْ حَالِهِمْ، فِي الِاجْتِرَاءِ عَلَى التَّطْفِيفِ، كَأَنَّهُمْ لَا يُخْطِرُونَ التَّطْفِيفَ بِبَالِهِمْ، وَلَا يُخَمِّنُونَ تَخْمِينًا (أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ) فَمَسْئُولُونَ عَمَّا يَفْعَلُونَ. وَالظَّنُّ هُنَا بِمَعْنَى الْيَقِينِ، أَيْ أَلَا يُوقِنُ أُولَئِكَ، وَلَوْ أَيْقَنُوا مَا نَقَصُوا فِي الْكَيْلِ وَالْوَزْنِ. وَقِيلَ: الظَّنُّ بِمَعْنَى التَّرَدُّدِ، أَيْ إِنْ كَانُوا لَا يَسْتَيْقِنُونَ بِالْبَعْثِ، فَهَلَّا ظَنُّوهُ، حَتَّى يَتَدَبَّرُوا وَيَبْحَثُوا عَنْهُ، وَيَأْخُذُوا بِالْأَحْوَطِ (لِيَوْمٍ عَظِيمٍ) شَأْنَهُ وَهُوَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: (يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ) فِيهِ أَرْبَعُ مَسَائِلَ: الْأُولَى: الْعَامِلُ فِي يَوْمَ فِعْلٌ مُضْمَرٌ، دَلَّ عَلَيْهِ مَبْعُوثُونَ. وَالْمَعْنَى يُبْعَثُونَ يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بَدَلًا مِنْ يَوْمٍ فِي لِيَوْمٍ عَظِيمٍ، وَهُوَ مَبْنِيٌّ. وَقِيلَ: هُوَ فِي مَوْضِعِ خَفْضٍ، لِأَنَّهُ أُضِيفَ إِلَى غَيْرِ مُتَمَكِّنٍ. وَقِيلَ: هُوَ مَنْصُوبٌ عَلَى الظَّرْفِ أَيْ فِي يَوْمٍ، وَيُقَالُ: أَقِمْ إِلَى يَوْمِ يَخْرُجُ فُلَانٌ، فَتَنْصِبُ يَوْمَ، فَإِنْ أَضَافُوا إِلَى الِاسْمِ فَحِينَئِذٍ يَخْفِضُونَ وَيَقُولُونَ: أَقِمْ إِلَى يَوْمِ خُرُوجِ فُلَانٍ. وَقِيلَ: فِي الْكَلَامِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ، التَّقْدِيرُ: إِنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ ليوم عظيم.

(19/254)


الثَّانِيَةُ- وَعَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ: أَنَّ أَعْرَابِيًّا قَالَ لَهُ: قَدْ سَمِعْتُ مَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْمُطَفِّفِينَ، أَرَادَ بِذَلِكَ أَنَّ الْمُطَفِّفِينَ قَدْ تَوَجَّهَ عَلَيْهِمْ هَذَا الْوَعِيدُ الْعَظِيمُ الَّذِي سَمِعْتُ بِهِ، فَمَا ظَنُّكَ بِنَفْسِكَ وَأَنْتَ تَأْخُذُ أَمْوَالَ الْمُسْلِمِينَ بِلَا كَيْلٍ وَلَا وَزْنٍ. وَفِي هَذَا الْإِنْكَارِ وَالتَّعْجِيبِ وَكَلِمَةِ الظَّنِّ، وَوَصْفِ الْيَوْمِ بِالْعَظِيمِ، وَقِيَامِ النَّاسِ فِيهِ لِلَّهِ خَاضِعِينَ، وَوَصْفِ ذَاتِهِ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ، بَيَانٌ بَلِيغٌ لِعِظَمِ الذَّنْبِ، وَتَفَاقُمِ الْإِثْمِ فِي التَّطْفِيفِ، وَفِيمَا كَانَ فِي مِثْلِ حَالِهِ مِنَ الْحَيْفِ، وَتَرْكِ الْقِيَامِ بِالْقِسْطِ، وَالْعَمَلِ عَلَى التَّسْوِيَةِ وَالْعَدْلِ، فِي كُلِّ أَخْذٍ وَإِعْطَاءٍ، بَلْ فِي كُلِّ قَوْلٍ وَعَمَلٍ. الثَّالِثَةُ- قَرَأَ ابْنُ عُمَرَ: وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ حَتَّى بَلَغَ يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ فَبَكَى حَتَّى سَقَطَ، وَامْتَنَعَ مِنْ قِرَاءَةِ مَا بَعْدَهُ، ثُمَّ قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ (يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِ الْعَالَمِينَ، فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ، فَمِنْهُمْ مَنْ يَبْلُغُ الْعَرَقُ كَعْبَيْهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَبْلُغُ رُكْبَتَيْهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَبْلُغُ حِقْوَيْهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَبْلُغُ صَدْرَهُ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَبْلُغُ أُذُنَيْهِ، حَتَّى إِنَّ أَحَدَهُمْ لَيَغِيبُ فِي رَشْحِهِ كَمَا يَغِيبُ الضُّفْدَعُ («1». وَرَوَى نَاسٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: يَقُومُونَ مِقْدَارَ ثَلَاثِمِائَةِ سَنَةٍ. قَالَ: وَيُهَوَّنُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ قَدْرَ صَلَاتِهِمُ الْفَرِيضَةَ. وَرُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (يَقُومُونَ أَلْفَ عَامٍ فِي الظُّلَّةِ). وَرَوَى مَالِكٍ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ حَتَّى إِنَّ أَحَدَهُمْ لَيَقُومُ فِي رَشْحِهِ إِلَى أَنْصَافِ أُذُنَيْهِ). وَعَنْهُ أَيْضًا عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (يَقُومُ مِائَةَ سَنَةٍ). وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِبَشِيرٍ الْغِفَارِيِّ: (كَيْفَ أَنْتَ صَانِعٌ فِي يَوْمٍ يَقُومُ النَّاسُ فِيهِ مِقْدَارَ ثَلَاثِمِائَةِ سَنَةٍ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ، لَا يَأْتِيهِمْ فِيهِ خَبَرٌ، وَلَا يُؤْمَرُ فِيهِ بِأَمْرٍ) قَالَ بَشِيرٌ: الْمُسْتَعَانُ اللَّهُ. قُلْتُ: قَدْ ذَكَرْنَاهُ مَرْفُوعًا مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إِنَّهُ لَيُخَفَّفُ عَنِ الْمُؤْمِنِ، حَتَّى يَكُونَ أَخَفَّ عَلَيْهِ مِنْ صَلَاةِ الْمَكْتُوبَةِ يُصَلِّيهَا فِي الدُّنْيَا) في سَأَلَ سائِلٌ «2» [المعارج: 1]. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: يَهُونُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ قَدْرَ صلاتهم الفريضة. وقيل:
__________
(1). أي في الماء.
(2). راجع ج 18 ص 282.

(19/255)


كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ (7) وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ (8) كِتَابٌ مَرْقُومٌ (9) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (10) الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (11) وَمَا يُكَذِّبُ بِهِ إِلَّا كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (12) إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (13)

إِنَّ ذَلِكَ الْمَقَامَ عَلَى الْمُؤْمِنِ كَزَوَالِ الشَّمْسِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى هَذَا مِنَ الْكِتَابِ قَوْلُهُ الْحَقُّ: أَلا إِنَّ أَوْلِياءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [يونس: 62] ثُمَّ وَصَفَهُمْ فَقَالَ: الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ [يونس: 63] جَعَلَنَا اللَّهُ مِنْهُمْ بِفَضْلِهِ وَكَرَمِهِ وَجُودِهِ. وَمَنِّهِ آمِينَ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالنَّاسِ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ يَقُومُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ، قَالَهُ ابْنُ جُبَيْرٍ وَفِيهِ بُعْدٌ، لِمَا ذَكَرْنَا مِنَ الْأَخْبَارِ فِي ذَلِكَ، وَهِيَ صَحِيحَةٌ ثَابِتَةٌ، وَحَسْبُكَ بِمَا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ وَالْبُخَارِيِّ وَالتِّرْمِذِيِّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ قَالَ: (يَقُومُ أَحَدُهُمْ فِي رَشْحِهِ إِلَى نِصْفِ أُذُنَيْهِ). ثُمَّ قِيلَ: هَذَا الْقِيَامُ يَوْمَ يَقُومُونَ مِنْ قُبُورِهِمْ. وَقِيلَ: فِي الْآخِرَةِ بِحُقُوقِ عِبَادِهِ فِي الدُّنْيَا. وَقَالَ يَزِيدُ الرَّشْكُ: يَقُومُونَ بَيْنَ يَدَيْهِ لِلْقَضَاءِ. الرَّابِعَةُ- الْقِيَامُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ سُبْحَانَهُ حَقِيرٌ بِالْإِضَافَةِ إِلَى عَظَمَتِهِ وَحَقِّهِ، فَأَمَّا قِيَامُ النَّاسِ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ فَاخْتَلَفَ فِيهِ النَّاسُ، فَمِنْهُمْ مَنْ أَجَازَهُ، وَمِنْهُمْ مَنْ مَنَعَهُ. وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَامَ إِلَى جَعْفَرِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَاعْتَنَقَهُ، وَقَامَ طَلْحَةُ لِكَعْبِ بْنِ مَالِكٍ يَوْمَ تِيبَ عَلَيْهِ. وَقَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْأَنْصَارِ حِينَ طَلَعَ عَلَيْهِ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ: (قُومُوا إِلَى سَيِّدِكُمْ). وَقَالَ أَيْضًا: (مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَتَمَثَّلَ لَهُ النَّاسُ قِيَامًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ). وَذَلِكَ يَرْجِعُ إِلَى حَالِ الرَّجُلِ وَنِيَّتِهِ، فَإِنِ انْتَظَرَ ذَلِكَ وَاعْتَقَدَهُ لِنَفْسِهِ، فَهُوَ مَمْنُوعٌ، وَإِنْ كَانَ عَلَى طَرِيقِ الْبَشَاشَةِ وَالْوُصْلَةِ فَإِنَّهُ جَائِزٌ، وَخَاصَّةً عِنْدَ الْأَسْبَابِ، كَالْقُدُومِ مِنَ السَّفَرِ وَنَحْوِهِ. وَقَدْ مضى في آخر سورة" يوسف" «1» شي من هذا.

[سورة المطففين (83): الآيات 7 الى 13]
كَلاَّ إِنَّ كِتابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ (7) وَما أَدْراكَ مَا سِجِّينٌ (8) كِتابٌ مَرْقُومٌ (9) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (10) الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (11)
وَما يُكَذِّبُ بِهِ إِلاَّ كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (12) إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا قالَ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (13)
__________
(1). راجع ج 9 ص 265 فما بعدها.

(19/256)


قَوْلُهُ تَعَالَى: (كَلَّا إِنَّ كِتابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ) قَالَ قَوْمٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالْعَرَبِيَّةِ: كَلَّا رَدْعٌ وَتَنْبِيهٌ، أَيْ لَيْسَ الْأَمْرُ عَلَى مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنْ تَطْفِيفِ الْكَيْلِ وَالْمِيزَانِ، أَوْ تَكْذِيبٍ بِالْآخِرَةِ، فَلْيَرْتَدِعُوا عَنْ ذَلِكَ. فَهِيَ كَلِمَةُ رَدْعٍ وَزَجْرٍ، ثُمَّ اسْتَأْنَفَ فَقَالَ: إِنَّ كِتابَ الفُجَّارِ. وَقَالَ الْحَسَنُ: كَلَّا بِمَعْنَى حَقًّا. وَرَوَى نَاسٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ كَلَّا قَالَ: أَلَا تُصَدِّقُونَ، فَعَلَى هَذَا: الْوَقْفُ" لِرَبِّ الْعَالَمِينَ. وَفِي تَفْسِيرِ مُقَاتِلٍ: إِنَّ أَعْمَالَ الْفُجَّارِ. وَرَوَى نَاسٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: إِنَّ أَرْوَاحَ الْفُجَّارِ وَأَعْمَالَهُمْ لَفِي سِجِّينٍ. وَرَوَى ابْنُ أَبِي نجيج عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: سِجِّينٌ صَخْرَةٌ تَحْتَ الْأَرْضِ السَّابِعَةِ، تُقْلَبُ فَيُجْعَلُ كِتَابُ الْفُجَّارِ تَحْتَهَا. وَنَحْوَهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةَ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَمُقَاتِلٍ وَكَعْبٍ، قَالَ كَعْبٌ: تَحْتَهَا أَرْوَاحُ الْكُفَّارِ تَحْتَ خَدِّ إِبْلِيسَ. وَعَنْ كَعْبٍ أَيْضًا قَالَ: سِجِّينٌ صَخْرَةٌ سَوْدَاءُ تَحْتَ الْأَرْضِ السَّابِعَةِ، مَكْتُوبٌ فِيهَا اسْمُ كُلِّ شَيْطَانٍ، تُلْقَى أَنْفُسُ الْكُفَّارِ عِنْدَهَا. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: سِجِّينٌ تَحْتَ خَدِّ إِبْلِيسَ. يَحْيَى بْنُ سَلَّامٍ: حَجَرٌ أَسْوَدُ تَحْتَ الْأَرْضِ، يُكْتَبُ فِيهِ أَرْوَاحُ الْكُفَّارِ. وَقَالَ عَطَاءٌ الْخُرَاسَانِيِّ: هِيَ الْأَرْضُ السَّابِعَةُ السُّفْلَى، وَفِيهَا إِبْلِيسُ وَذُرِّيَّتُهُ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: إِنَّ الْكَافِرَ يَحْضُرُهُ الْمَوْتُ، وَتَحْضُرُهُ رُسُلُ اللَّهِ، فَلَا يَسْتَطِيعُونَ لِبُغْضِ اللَّهِ لَهُ وَبُغْضِهِمْ إِيَّاهُ، أَنْ يؤخروه ولا يعجلوه حتى تجئ سَاعَتُهُ، فَإِذَا جَاءَتْ سَاعَتُهُ قَبَضُوا نَفْسَهُ، وَرَفَعُوهُ إِلَى مَلَائِكَةِ الْعَذَابِ، فَأَرَوْهُ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يُرُوهُ مِنَ الشَّرِّ، ثُمَّ هَبَطُوا بِهِ إِلَى الْأَرْضِ السَّابِعَةِ، وَهِيَ سِجِّينٌ، وَهِيَ آخِرُ سُلْطَانِ إِبْلِيسَ، فَأَثْبَتُوا فِيهَا كِتَابَهُ. وَعَنْ كَعْبِ الْأَحْبَارِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ قَالَ: إِنَّ رُوحَ الْفَاجِرِ إِذَا قُبِضَتْ يُصْعَدُ بِهَا إِلَى السَّمَاءِ، فَتَأْبَى السَّمَاءُ أَنْ تَقْبَلَهَا، ثُمَّ يُهْبَطُ بِهَا إِلَى الْأَرْضِ، فَتَأْبَى الْأَرْضُ أَنْ تَقْبَلَهَا، فَتَدْخُلُ فِي سَبْعِ أَرَضِينَ، حَتَّى يُنْتَهَى بِهَا إِلَى سِجِّينٍ، وَهُوَ خَدُّ إِبْلِيسَ. فَيُخْرَجُ لَهَا مِنْ سِجِّينٍ مِنْ تَحْتِ خَدِّ إِبْلِيسَ رَقٌّ، فَيُرْقَمُ فَيُوضَعُ تَحْتَ خَدِّ إِبْلِيسَ. وَقَالَ الْحَسَنُ: سِجِّينٌ فِي الْأَرْضِ السَّابِعَةِ. وَقِيلَ: هُوَ ضَرْبُ مَثَلٍ وَإِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَرُدُّ أَعْمَالَهُمُ الَّتِي ظَنُّوا أَنَّهَا تَنْفَعُهُمْ. قَالَ مُجَاهِدٌ: الْمَعْنَى عَمَلُهُمْ تَحْتَ الْأَرْضِ السَّابِعَةِ لَا يَصْعَدُ مِنْهَا شي. وقال:

(19/257)


سِجِّينٌ صَخْرَةٌ فِي الْأَرْضِ السَّابِعَةِ. وَرَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (سِجِّينٌ جُبٌّ فِي جَهَنَّمَ وَهُوَ مَفْتُوحٌ) وَقَالَ فِي الْفَلَقِ: (إِنَّهُ جُبٌّ مُغَطًّى). وَقَالَ أَنَسٌ: هِيَ دَرَكَةٌ فِي الْأَرْضِ السُّفْلَى. وَقَالَ أَنَسٌ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: سِجِّينٌ أَسْفَلَ الْأَرْضِ السَّابِعَةِ (. وَقَالَ عِكْرِمَةُ:) سِجِّينٌ: خَسَارٌ وَضَلَالٌ، كَقَوْلِهِمْ لِمَنْ سَقَطَ قَدْرُهُ: قَدْ زَلِقَ بِالْحَضِيضِ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ وَالْأَخْفَشُ وَالزَّجَّاجُ: لَفِي سِجِّينٍ لَفِي حَبْسٍ وَضِيقٍ شَدِيدٍ، فِعِّيلٌ مِنَ السَّجْنِ، كَمَا يَقُولُ: فِسِّيقٌ وَشِرِّيبٌ، قَالَ ابْنُ مُقْبِلٍ:
وَرُفْقَةٌ يَضْرِبُونَ الْبَيْضَ ضَاحِيَةً ... ضَرْبًا تَوَاصَتْ بِهِ الْأَبْطَالُ سِجِّينًا «1»
وَالْمَعْنَى: كِتَابُهُمْ فِي حَبْسٍ، جُعِلَ ذَلِكَ دَلِيلًا عَلَى خَسَاسَةِ مَنْزِلَتِهِمْ، أَوْ لِأَنَّهُ يَحِلُّ مِنَ الْإِعْرَاضِ عَنْهُ وَالْإِبْعَادِ لَهُ مَحَلَّ الزَّجْرِ وَالْهَوَانِ. وَقِيلَ: أَصْلُهُ سِجِّيلٌ، فَأُبْدِلَتِ اللَّامُ نُونًا. وَقَدْ تَقَدَّمَ ذَلِكَ «2». وَقَالَ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ: سِجِّينٌ فِي الْأَرْضِ السَّافِلَةِ، وَسِجِّيلٌ فِي السَّمَاءِ الدُّنْيَا. الْقُشَيْرِيُّ: سِجِّينٌ: مَوْضِعٌ فِي السَّافِلِينَ، يُدْفَنُ فِيهِ كِتَابُ هَؤُلَاءِ، فَلَا يَظْهَرُ بَلْ يَكُونُ فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ كَالْمَسْجُونِ. وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى خُبْثِ أَعْمَالِهِمْ، وَتَحْقِيرِ اللَّهِ إِيَّاهَا، وَلِهَذَا قَالَ فِي كِتَابِ الْأَبْرَارِ: يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ. وَما أَدْراكَ مَا سِجِّينٌ أَيْ لَيْسَ ذَلِكَ مِمَّا كُنْتَ تَعْلَمُهُ يَا مُحَمَّدُ أَنْتَ ولا قومك. ثم فسره له فقال: (كِتابٌ مَرْقُومٌ) أَيْ مَكْتُوبٌ كَالرَّقْمِ فِي الثَّوْبِ، لَا يُنْسَى وَلَا يُمْحَى. وَقَالَ قَتَادَةُ: مَرْقُومٌ أَيْ مَكْتُوبٌ، رُقِمَ لَهُمْ بِشَرٍّ: لَا يُزَادُ فِيهِمْ أَحَدٌ وَلَا يَنْقُصُ مِنْهُمْ أَحَدٌ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: مَرْقُومٌ: مَخْتُومٌ، بِلُغَةِ حِمْيَرٍ، وَأَصْلُ الرَّقْمِ: الْكِتَابَةُ، قَالَ:
سَأَرْقُمُ فِي الْمَاءِ الْقَرَاحِ «3» إِلَيْكُمُ ... عَلَى بُعْدِكُمْ إِنْ كَانَ لِلْمَاءِ رَاقِمُ
وَلَيْسَ فِي قَوْلِهِ: (وَما أَدْراكَ مَا سِجِّينٌ) مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ لَفْظَ سِجِّينٍ لَيْسَ عَرَبِيًّا كَمَا لَا يَدُلُّ فِي قَوْلِهِ: (الْقارِعَةُ مَا الْقارِعَةُ. وَما أَدْراكَ مَا الْقارِعَةُ) بَلْ هُوَ تَعْظِيمٌ لِأَمْرِ سِجِّينٍ. وَقَدْ مَضَى فِي مُقَدِّمَةِ الْكِتَابِ- وَالْحَمْدُ لِلَّهِ- أَنَّهُ لَيْسَ فِي الْقُرْآنِ غير عربي. (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ)
__________
(1). الذي في التاج نقلا عن الجوهري:
ورجلة يضربون الهام عن عرض

(2). راجع ج 1 ص 68.
(3). القراح بوزن سحاب: الماء الذي لا ثقل به.

(19/258)


كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (14) كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ (15) ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُو الْجَحِيمِ (16) ثُمَّ يُقَالُ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (17)

أَيْ شِدَّةٌ وَعَذَابٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لِلْمُكَذِّبِينَ. ثُمَّ بَيَّنَ تَعَالَى أَمْرَهُمْ فَقَالَ: الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ أَيْ بِيَوْمِ الْحِسَابِ وَالْجَزَاءِ وَالْفَصْلِ بَيْنَ الْعِبَادِ. (وَما يُكَذِّبُ بِهِ إِلَّا كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ) أَيْ فَاجِرٍ جَائِزٍ عَنِ الْحَقِّ، مُعْتَدٍ عَلَى الْخَلْقِ فِي مُعَامَلَتِهِ إِيَّاهُمْ وَعَلَى نَفْسِهِ، وَهُوَ أَثِيمٌ فِي تَرْكِ أَمْرِ اللَّهِ. وَقِيلَ هَذَا فِي الْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ وَأَبِي جَهْلٍ وَنُظَرَائِهِمَا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: (إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا قالَ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) وَقِرَاءَةُ الْعَامَّةِ تُتْلى بِتَاءَيْنِ، وَقِرَاءَةُ أَبِي حَيْوَةَ وَأَبِي سِمَاكٍ وَأَشْهَبَ الْعُقَيْلِيِّ والسلمى:" إذا يتلى" بالياء. وأساطير الْأَوَّلِينَ: أَحَادِيثُهُمْ وَأَبَاطِيلُهُمُ الَّتِي كَتَبُوهَا وَزَخْرَفُوهَا. وَاحِدُهَا أسطورة وإسطارة، وقد تقدم.

[سورة المطففين (83): الآيات 14 الى 17]
كَلاَّ بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ مَا كانُوا يَكْسِبُونَ (14) كَلاَّ إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ (15) ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصالُوا الْجَحِيمِ (16) ثُمَّ يُقالُ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (17)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (كَلَّا بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ مَا كانُوا يَكْسِبُونَ): كَلَّا: رَدْعٌ وَزَجْرٌ، أَيْ لَيْسَ هُوَ أَسَاطِيرَ الْأَوَّلِينَ. وَقَالَ الْحَسَنُ: مَعْنَاهَا حَقًّا رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ. وَقِيلَ: فِي التِّرْمِذِيِّ: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (إِنَّ الْعَبْدَ إِذَا أَخْطَأَ خَطِيئَةً نُكِتَتْ فِي قَلْبِهِ نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ، فَإِذَا هُوَ نَزَعَ وَاسْتَغْفَرَ اللَّهَ وَتَابَ، صُقِلَ قَلْبُهُ، فَإِنْ عَادَ زِيدَ فِيهَا، حَتَّى تَعْلُوَ عَلَى قَلْبِهِ (، وَهُوَ (الرَّانُّ) الَّذِي ذَكَرَ اللَّهَ فِي كِتَابِهِ: كَلَّا بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ مَا كانُوا يَكْسِبُونَ (. قَالَ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ. وَكَذَا قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: هُوَ الذَّنْبُ عَلَى الذَّنْبِ حَتَّى يَسْوَدَّ الْقَلْبُ. قَالَ مُجَاهِدٌ: هُوَ الرَّجُلُ يُذْنِبُ الذَّنْبَ، فَيُحِيطُ الذَّنْبُ بِقَلْبِهِ، ثُمَّ يُذْنِبُ الذَّنْبَ فَيُحِيطُ الذَّنْبُ بِقَلْبِهِ، حَتَّى تُغْشِيَ الذُّنُوبُ قَلْبَهُ. قَالَ مُجَاهِدٌ: هِيَ مِثْلُ الْآيَةِ الَّتِي فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ: بَلى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً [البقرة «1»: 81] الْآيَةَ. وَنَحْوَهُ عَنِ الْفَرَّاءِ، قَالَ: يَقُولُ كَثُرَتِ الْمَعَاصِي مِنْهُمْ وَالذُّنُوبُ، فَأَحَاطَتْ بِقُلُوبِهِمْ، فَذَلِكَ الرَّيْنُ عَلَيْهَا. وَرُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ أَيْضًا قَالَ: الْقَلْبُ مِثْلُ الْكَهْفِ وَرَفَعَ كَفَّهُ، فَإِذَا أَذْنَبَ الْعَبْدُ الذَّنْبَ انْقَبَضَ، وَضَمَّ إِصْبَعَهُ، فَإِذَا أَذْنَبَ الذَّنْبَ انقبض، وضم
__________
(1). راجع ج 2 ص 11

(19/259)


أُخْرَى، حَتَّى ضَمَّ أَصَابِعَهُ كُلَّهَا، حَتَّى يُطْبَعَ عَلَى قَلْبِهِ. قَالَ: وَكَانُوا يَرَوْنَ أَنَّ ذَلِكَ هُوَ الرَّيْنُ، ثُمَّ قَرَأَ: كَلَّا بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ مَا كانُوا يَكْسِبُونَ. وَمِثْلُهُ عَنْ حُذَيْفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ سَوَاءٌ. وَقَالَ بَكْرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ: إِنَّ الْعَبْدَ إِذَا أَذْنَبَ صَارَ فِي قَلْبِهِ كَوَخْزَةِ الْإِبْرَةِ، ثُمَّ صَارَ إِذَا أَذْنَبَ ثَانِيًا صَارَ كَذَلِكَ، ثُمَّ إِذَا كَثُرَتِ الذُّنُوبُ صَارَ الْقَلْبُ كَالْمُنْخُلِ، أَوْ كَالْغِرْبَالِ، لَا يَعِي خَيْرًا، وَلَا يَثْبُتُ فِيهِ صَلَاحٌ. وَقَدْ بَيَّنَّا فِي" الْبَقَرَةِ" «1» الْقَوْلَ فِي هَذَا الْمَعْنَى بِالْأَخْبَارِ الثَّابِتَةِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَا مَعْنَى لِإِعَادَتِهَا. وَقَدْ رَوَى عَبْدُ الْغَنِيِّ بْنُ سَعِيدٍ عَنْ مُوسَى ابن عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنِ ابْنُ جُرَيْجٍ عَنْ عَطَاءٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَعَنْ مُوسَى عَنْ مُقَاتِلٍ عَنِ الضَّحَّاكِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ شَيْئًا اللَّهُ أَعْلَمُ بِصِحَّتِهِ، قَالَ: هُوَ الرَّانُّ الَّذِي يَكُونُ عَلَى الْفَخِذَيْنِ وَالسَّاقِ وَالْقَدَمِ، وَهُوَ الَّذِي يُلْبَسُ فِي الْحَرْبِ. قَالَ: وَقَالَ آخَرُونَ: الرَّانُّ: الْخَاطِرُ الَّذِي يَخْطِرُ بِقَلْبِ الرَّجُلِ. وَهَذَا مِمَّا لَا يَضْمَنُ عُهْدَةَ صِحْتِهِ. فَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَأَمَّا عَامَّةُ أَهْلِ التَّفْسِيرِ فَعَلَى مَا قَدْ مَضَى ذِكْرُهُ قَبْلَ هَذَا. وَكَذَلِكَ أَهْلُ اللُّغَةِ عَلَيْهِ، يُقَالُ: رَانَ عَلَى قَلْبِهِ ذَنْبُهُ يَرِينَ رَيْنًا وَرُيُونًا أَيْ غَلَبَ. قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ فِي قَوْلُهُ: كَلَّا بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ مَا كانُوا يَكْسِبُونَ أَيْ غَلَبَ، وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: كُلُّ مَا غَلَبَكَ [وَعَلَاكَ «2»] فَقَدْ رَانَ بِكَ، وَرَانَكَ، وَرَانَ عَلَيْكَ، وَقَالَ الشَّاعِرُ:
وَكَمْ رَانَ مِنْ ذَنْبٍ عَلَى قَلْبِ فَاجِرٍ ... فَتَابَ مِنَ الذَّنْبِ الَّذِي رَانَ وَانْجَلَى
وَرَانَتِ الْخَمْرُ عَلَى عَقْلِهِ: أَيْ غَلَبَتْهُ، وَرَانَ عَلَيْهِ النُّعَاسُ: إِذَا غَطَّاهُ، وَمِنْهُ قَوْلُ عُمَرَ فِي الْأُسَيْفِعِ- أُسَيْفِعِ جُهَيْنَةَ-: فَأَصْبَحَ قَدْ رِينَ بِهِ «3». أَيْ غَلَبَتْهُ الدُّيُونُ، وَكَانَ يُدَانُ، وَمِنْهُ قَوْلُ أَبِي زُبَيْدٍ يَصِفُ رَجُلًا شَرِبَ حَتَّى غَلَبَهُ الشَّرَابُ سُكْرًا، فَقَالَ:
ثُمَّ لَمَّا رَآهُ رَانَتْ بِهِ الْخَمْ ... - رُ وأن لا ترينه باتقاء «4»
فقول: رَانَتْ بِهِ الْخَمْرُ، أَيْ غَلَبَتْ عَلَى عَقْلِهِ وَقَلْبِهِ. وَقَالَ الْأُمَوِيُّ: قَدْ أَرَانَ الْقَوْمُ فَهُمْ مُرِينُونَ: إِذَا هَلَكَتْ مَوَاشِيهِمْ وَهَزَلَتْ. وَهَذَا مِنَ الْأَمْرِ الَّذِي أَتَاهُمْ مِمَّا يَغْلِبُهُمْ، فَلَا يَسْتَطِيعُونَ احْتِمَالَهُ. قَالَ أَبُو زَيْدٍ يُقَالُ: قَدْ رِينَ بِالرَّجُلِ رَيْنًا: إِذَا وَقَعَ فِيمَا لَا يَسْتَطِيعُ الخروج منه، ولا قبل له
__________
(1). راجع ج 1 ص 188 فما بعدها.
(2). [وعلاك [: زيادة من (اللسان: ران) تتميما لكلام أبي عبيد.
(3). في النهاية لابن الأثير: أي أحاط الدين بماله.
(4). البيت في (اللسان: ران) منسوبا لابي زبيد يصف سكرانا غلبت عليه الخمر.

(19/260)


وَقَالَ. أَبُو مُعَاذٍ النَّحْوِيُّ: الرَّيْنُ: أَنْ يَسْوَدَّ الْقَلْبُ مِنَ الذُّنُوبِ، وَالطَّبْعُ أَنْ يُطْبَعَ عَلَى الْقَلْبِ، وَهَذَا أَشَدُّ مِنَ الرَّيْنِ «1»، وَالْإِقْفَالُ أَشَدُّ مِنَ الطَّبْعِ. الزَّجَّاجُ: الرَّيْنُ: هُوَ كَالصَّدَأِ يُغَشِّي الْقَلْبَ كَالْغَيْمِ الرَّقِيقِ، وَمِثْلُهُ الْغَيْنُ، يُقَالُ: غِينَ عَلَى قَلْبِهِ: غُطِّيَ. وَالْغَيْنُ: شَجَرٌ مُلْتَفٌّ، الْوَاحِدَةُ غَيْنَاءُ، أَيْ خَضْرَاءُ، كَثِيرَةُ الْوَرَقِ، مُلْتَفَّةُ الْأَغْصَانِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ قَوْلُ الْفَرَّاءِ إِنَّهُ إِحَاطَةُ الذَّنْبِ بِالْقُلُوبِ. وَذَكَرَ الثَّعْلَبِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ: أَيْ غَطَّى عَلَيْهَا. وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ عَنْهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ. وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَالْأَعْمَشُ وَأَبُو بَكْرٍ وَالْمُفَضَّلُ رانَ بِالْإِمَالَةِ، لِأَنَّ فَاءَ الْفِعْلِ الرَّاءُ، وَعَيْنَهُ الْأَلِفُ مُنْقَلِبَةٌ مِنْ يَاءٍ، فَحَسُنَتِ الْإِمَالَةُ لِذَلِكَ. وَمَنْ فَتَحَ فَعَلَى الْأَصْلِ، لِأَنَّ بَابَ فَاءِ الْفِعْلِ فِي (فَعَلَ) الْفَتْحُ، مِثْلُ كَالَ وَبَاعَ وَنَحْوُهُ. وَاخْتَارَهُ أَبُو عُبَيْدٍ وَأَبُو حَاتِمٍ وَوَقَفَ حَفْصٌ بَلْ ثُمَّ يَبْتَدِئُ رانَ وَقْفًا يُبَيِّنُ اللَّامَ، لَا للسكت. قوله تعالى: (كَلَّا إِنَّهُمْ) أَيْ حَقًّا إِنَّهُمْ يَعْنِي الْكُفَّارَ (عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ) أَيْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ (لَمَحْجُوبُونَ). وَقِيلَ: كَلَّا رَدْعٌ وَزَجْرٌ، أَيْ لَيْسَ كَمَا يَقُولُونَ، بَلْ إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ. قَالَ الزَّجَّاجُ: فِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يُرَى فِي الْقِيَامَةِ، وَلَوْلَا ذَلِكَ مَا كَانَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ فَائِدَةٌ، وَلَا خَسَّتْ مَنْزِلَةُ الْكُفَّارِ بِأَنَّهُمْ يُحْجَبُونَ. وَقَالَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ، إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ [القيامة: 23 - 22] فَأَعْلَمَ اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ يَنْظُرُونَ إِلَيْهِ، وَأَعْلَمَ أَنَّ الْكُفَّارَ مَحْجُوبُونَ عَنْهُ، وَقَالَ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: لَمَّا حَجَبَ أَعْدَاءَهُ فَلَمْ يَرَوْهُ تَجَلَّى لِأَوْلِيَائِهِ حَتَّى رَأَوْهُ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَمَّا حَجَبَ قَوْمًا بِالسُّخْطِ، دَلَّ عَلَى أَنَّ قَوْمًا يَرَوْنَهُ بِالرِّضَا. ثُمَّ قَالَ: أَمَا وَاللَّهِ لَوْ لَمْ يُوقِنْ مُحَمَّدُ بْنُ إِدْرِيسَ أَنَّهُ يَرَى رَبَّهُ فِي الْمَعَادِ لَمَا عَبَدَهُ فِي الدُّنْيَا. وَقَالَ الْحُسَيْنُ بْنُ الْفَضْلِ: لَمَّا حَجَبَهُمْ فِي الدُّنْيَا عَنْ نُورِ تَوْحِيدِهِ حَجَبَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَنْ رُؤْيَتِهِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: لَمَحْجُوبُونَ: أَيْ عَنْ كَرَامَتِهِ وَرَحْمَتِهِ مَمْنُوعُونَ. وَقَالَ قَتَادَةُ: هُوَ أَنَّ اللَّهَ لَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ بِرَحْمَتِهِ، وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ. وَعَلَى الْأَوَّلِ الْجُمْهُورُ، وَأَنَّهُمْ مَحْجُوبُونَ عَنْ رُؤْيَتِهِ فَلَا يَرَوْنَهُ. (ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصالُوا الْجَحِيمِ) أي
__________
(1). الرين: هو الختم أي الطبع على القلب كما في (اللسان) مادة (رين).

(19/261)


كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ (18) وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ (19) كِتَابٌ مَرْقُومٌ (20) يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ (21)

ملازموها، ومحترفون فِيهَا غَيْرُ خَارِجِينَ مِنْهَا، كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها [النساء: 56] وكُلَّما خَبَتْ زِدْناهُمْ سَعِيراً [الاسراء: 97]. وَيُقَالُ: الْجَحِيمُ الْبَابُ الرَّابِعُ مِنَ النَّارِ. (ثُمَّ يُقَالُ) لَهُمْ أَيْ تَقُولُ لَهُمْ خَزَنَةُ جَهَنَّمَ (هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ) رُسُلَ اللَّهِ في الدنيا.

[سورة المطففين (83): الآيات 18 الى 21]
كَلاَّ إِنَّ كِتابَ الْأَبْرارِ لَفِي عِلِّيِّينَ (18) وَما أَدْراكَ مَا عِلِّيُّونَ (19) كِتابٌ مَرْقُومٌ (20) يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ (21)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (كَلَّا إِنَّ كِتابَ الْأَبْرارِ لَفِي عِلِّيِّينَ) كَلَّا بِمَعْنَى حَقًّا، وَالْوَقْفُ عَلَى تُكَذِّبُونَ. وَقِيلَ أَيْ لَيْسَ الْأَمْرُ كَمَا يَقُولُونَ وَلَا كَمَا ظَنُّوا بَلْ كِتَابُهُمْ فِي سِجِّينٍ، وَكِتَابُ الْمُؤْمِنِينَ فِي عِلِّيِّينَ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: كَلَّا، أَيْ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْعَذَابِ الَّذِي يَصْلَوْنَهُ. ثُمَّ اسْتَأْنَفَ فَقَالَ: إِنَّ كِتابَ الْأَبْرارِ مَرْفُوعٌ فِي عِلِّيِّينَ عَلَى قَدْرِ مَرْتَبَتِهِمْ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَيْ فِي الْجَنَّةِ. وَعَنْهُ أَيْضًا قَالَ: أَعْمَالُهُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ فِي السَّمَاءِ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ وَمُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ: يَعْنِي السَّمَاءَ السَّابِعَةَ فِيهَا أَرْوَاحُ الْمُؤْمِنِينَ. وَرَوَى ابْنُ الْأَجْلَحِ عَنِ الضَّحَّاكِ قَالَ: هِيَ سدرة المنتهى، ينتهي إليها كل شي مِنْ أَمْرِ اللَّهِ لَا يَعْدُوهَا، فَيَقُولُونَ: رَبِّ! عَبْدُكَ فُلَانٌ، وَهُوَ أَعْلَمُ بِهِ مِنْهُمْ، فَيَأْتِيهِ كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ مَخْتُومٌ بِأَمَانِهِ مِنَ الْعَذَابِ. فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: كَلَّا إِنَّ كِتابَ الْأَبْرارِ. وَعَنْ كَعْبِ الْأَحْبَارِ قَالَ: إِنَّ رُوحَ الْمُؤْمِنِ إِذَا قُبِضَتْ صُعِدَ بِهَا إِلَى السَّمَاءِ، وَفُتِحَتْ لَهَا أَبْوَابُ السَّمَاءِ، وَتَلَقَّتْهَا الْمَلَائِكَةُ بِالْبُشْرَى، ثُمَّ يَخْرُجُونَ مَعَهَا حَتَّى يَنْتَهُوا إِلَى الْعَرْشِ، فَيَخْرُجُ لَهُمْ مِنْ تَحْتِ الْعَرْشِ، رَقٌّ فَيُرْقَمُ وَيُخْتَمُ فِيهِ النَّجَاةُ مِنَ الْحِسَابِ يَوْمَ القيامة ويشهده المقربون. وقال قتادة أيضا: لَفِي عِلِّيِّينَ هِيَ فَوْقَ السَّمَاءِ السَّابِعَةِ عِنْدَ قَائِمَةِ الْعَرْشِ الْيُمْنَى. وَقَالَ الْبَرَاءُ بْنُ عَازِبٍ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: عِلِّيُّونَ فِي السَّمَاءِ السَّابِعَةِ تَحْتَ الْعَرْشِ (. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا: هُوَ لَوْحٌ مِنْ زَبَرْجَدَةٍ خَضْرَاءَ مُعَلَّقٌ بِالْعَرْشِ، أَعْمَالُهُمْ مَكْتُوبَةٌ فِيهِ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: عِلِّيُّونَ ارْتِفَاعٌ بَعْدَ ارْتِفَاعٍ. وَقِيلَ: عِلِّيُّونَ أَعْلَى الْأَمْكِنَةِ. وَقِيلَ: مَعْنَاهُ عُلُوٌّ فِي عُلُوٍّ مُضَاعَفٍ، كَأَنَّهُ لَا غَايَةَ لَهُ، وَلَذَلِكَ جُمِعَ بِالْوَاوِ وَالنُّونِ. وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِ الطَّبَرِيِّ. قَالَ الْفَرَّاءُ: هُوَ اسْمٌ مَوْضُوعٌ عَلَى صِفَةِ الْجَمْعِ، وَلَا وَاحِدَ له من

(19/262)


لَفْظِهِ، كَقَوْلِكَ: عِشْرُونَ وَثَلَاثُونَ، وَالْعَرَبُ إِذَا جَمَعَتْ جَمْعًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ بِنَاءٌ مِنْ وَاحِدِهِ وَلَا تَثْنِيَةٌ، قَالُوا فِي الْمُذَكَّرِ وَالْمُؤَنَّثِ بِالنُّونِ. وَهِيَ مَعْنَى قَوْلِ الطَّبَرِيِّ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: إِعْرَابُ هَذَا الِاسْمِ كَإِعْرَابِ الْجَمْعِ، كَمَا تَقُولُ: هَذِهِ قِنَّسْرُونَ، وَرَأَيْتُ قِنَّسْرِينَ. وَقَالَ يُونُسُ النَّحْوِيُّ وَاحِدُهَا: عِلِيٌّ وَعِلِيَّةٌ. وَقَالَ أَبُو الْفَتْحِ: عِلِّيِّينَ: جَمْعُ عِلِّيٍّ، وَهُوَ فِعِّيلٌ مِنَ الْعُلُوِّ. وَكَانَ سَبِيلُهُ أَنْ يَقُولَ عِلِّيَّةٌ كَمَا قَالُوا لِلْغُرْفَةِ عِلِّيَّةٌ، لِأَنَّهَا مِنَ الْعُلُوِّ، فَلَمَّا حُذِفَ التَّاءُ مِنْ عِلِّيَّةٍ عَوَّضُوا مِنْهَا الْجَمْعَ بِالْوَاوِ وَالنُّونِ، كَمَا قَالُوا فِي أَرْضِينَ. وَقِيلَ: إِنَّ عِلِّيِّينَ صِفَةٌ لِلْمَلَائِكَةِ، فَإِنَّهُمُ الْمَلَأُ الْأَعْلَى، كَمَا يُقَالُ: فُلَانٌ فِي بَنِي فُلَانٍ، أَيْ هُوَ فِي جُمْلَتِهِمْ وَعِنْدَهُمْ. وَالَّذِي فِي الْخَبَرِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (إِنَّ أَهْلَ عِلِّيِّينَ لَيَنْظُرُونَ إِلَى الْجَنَّةِ مِنْ كَذَا، فَإِذَا أَشْرَفَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ عِلِّيِّينَ أَشْرَقَتِ الْجَنَّةُ لِضِيَاءِ وَجْهِهِ، فَيَقُولُونَ: مَا هَذَا النُّورُ؟ فَيُقَالُ أَشْرَفَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ عِلِّيِّينَ الْأَبْرَارِ أَهْلِ الطَّاعَةِ وَالصِّدْقِ (. وَفِي خَبَرٍ آخَرَ:) إِنَّ أَهْلَ الْجَنَّةِ لَيَرَوْنَ أَهْلَ عِلِّيِّينَ كَمَا يُرَى الْكَوْكَبُ الدُّرِّيُّ فِي أُفُقِ السَّمَاءِ) يَدُلُّ عَلَى أَنَّ عِلِّيِّينَ اسْمُ الْمَوْضِعِ الْمُرْتَفِعِ. وَرَوَى نَاسٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ عِلِّيِّينَ قَالَ: أَخْبَرَ أَنَّ أَعْمَالَهُمْ وَأَرْوَاحَهُمْ فِي السَّمَاءِ الرَّابِعَةِ. ثُمَّ قَالَ: (وَما أَدْراكَ مَا عِلِّيُّونَ) أَيْ مَا الَّذِي أَعْلَمَكَ يَا محمد أي شي عِلِّيُّونَ؟ عَلَى جِهَةِ التَّفْخِيمِ وَالتَّعْظِيمِ لَهُ فِي الْمَنْزِلَةِ الرَّفِيعَةِ. ثُمَّ فَسَّرَهُ لَهُ فَقَالَ: كِتابٌ مَرْقُومٌ يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ. وَقِيلَ: إِنَّ (كِتابٌ مَرْقُومٌ) لَيْسَ تَفْسِيرًا لِعِلِّيِّينَ، بَلْ تَمَّ الْكَلَامُ عِنْدَ قَوْلِهِ عِلِّيُّونَ ثُمَّ ابْتَدَأَ وَقَالَ: كِتابٌ مَرْقُومٌ أَيْ كِتَابُ الْأَبْرَارِ كِتَابٌ مَرْقُومٌ وَلِهَذَا عُكِسَ الرَّقْمُ فِي كِتَابِ الْفُجَّارِ، قَالَهُ الْقُشَيْرِيُّ. وَرُوِيَ: أَنَّ الْمَلَائِكَةَ تَصْعَدُ بِعَمَلِ الْعَبْدِ، فَيَسْتَقْبِلُونَهُ «1» فَإِذَا انْتَهَوْا بِهِ إِلَى مَا شَاءَ اللَّهُ مِنْ سُلْطَانِهِ أَوْحَى إِلَيْهِمْ: إِنَّكُمُ الْحَفَظَةُ عَلَى عَبْدِي، وَأَنَا الرَّقِيبُ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ، وَإِنَّهُ أَخْلَصَ لِي عَمَلَهُ، فَاجْعَلُوهُ فِي عِلِّيِّينَ، فَقَدْ غَفَرْتُ لَهُ، وَإِنَّهَا لَتَصْعَدُ بِعَمَلِ الْعَبْدِ، فَيَتْرُكُونَهُ فَإِذَا انْتَهَوْا بِهِ إِلَى مَا شَاءَ اللَّهُ أَوْحَى إِلَيْهِمْ: أَنْتُمُ الْحَفَظَةُ عَلَى عَبْدِي وَأَنَا الرَّقِيبُ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ، وَإِنَّهُ لَمْ يخلص لي عمله، فاجعلوه في سجين.
__________
(1). فيستقبلونه: كذا في ا، ب، ح، ط، ل. [ ..... ]

(19/263)


إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ (22) عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ (23) تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ (24) يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ (25) خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ (26) وَمِزَاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ (27) عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ (28)

قَوْلُهُ تَعَالَى: (يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ) أَيْ يَشْهَدُ عَمَلَ الْأَبْرَارِ مُقَرَّبُو كُلِّ سَمَاءٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ. وَقَالَ وَهْبٌ وَابْنُ إِسْحَاقَ: الْمُقَرَّبُونَ هُنَا إِسْرَافِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَإِذَا عَمِلَ الْمُؤْمِنُ عَمَلَ الْبِرِّ، صَعِدَتِ الملائكة بالصحيفة وله نور يتلألأ في السموات كَنُورِ الشَّمْسِ فِي الْأَرْضِ، حَتَّى يُنْتَهَى بِهَا إِلَى إِسْرَافِيلَ، فَيَخْتِمُ عَلَيْهَا وَيَكْتُبُ فَهُوَ قَوْلُهُ: يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ أي يشهد كتابتهم.

[سورة المطففين (83): الآيات 22 الى 28]
إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ (22) عَلَى الْأَرائِكِ يَنْظُرُونَ (23) تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ (24) يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ (25) خِتامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذلِكَ فَلْيَتَنافَسِ الْمُتَنافِسُونَ (26)
وَمِزاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ (27) عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ (28)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (إِنَّ الْأَبْرارَ) أَيْ أَهْلَ الصِّدْقِ وَالطَّاعَةِ. (لَفِي نَعِيمٍ) أَيْ نِعْمَةٍ، وَالنَّعْمَةُ بِالْفَتْحِ: التَّنْعِيمُ، يُقَالُ: نَعَّمَهُ اللَّهُ وَنَاعَمَهُ فَتَنَعَّمَ وَامْرَأَةٌ مُنَعَّمَةٌ وَمُنَاعَمَةٌ بِمَعْنًى. أَيْ إِنَّ الْأَبْرَارَ فِي الْجَنَّاتِ يَتَنَعَّمُونَ. (عَلَى الْأَرائِكِ) وَهِيَ الْأَسِرَّةُ فِي الْحِجَالِ (يَنْظُرُونَ) أَيْ إِلَى مَا أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مِنَ الْكَرَامَاتِ، قَالَهُ عِكْرِمَةُ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: يَنْظُرُونَ إِلَى أَهْلِ النَّارِ. وَعَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (يَنْظُرُونَ إِلَى أَعْدَائِهِمْ فِي النَّارِ) ذَكَرَهُ الْمَهْدَوِيُّ. وَقِيلَ: عَلَى أَرَائِكِ أَفْضَالِهِ يَنْظُرُونَ إِلَى وَجْهِهِ وجلاله. وله تَعَالَى: (تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ) أَيْ بهجته غضارته ونوره، قال: نَضَرَ النَّبَاتُ: إِذَا أَزْهَرَ وَنَوَّرَ. وَقِرَاءَةُ الْعَامَّةِ تَعْرِفُ بِفَتْحِ التَّاءِ وَكَسْرِ الرَّاءِ نَضْرَةَ نَصْبًا، أَيْ تَعْرِفُ يَا مُحَمَّدُ. وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَرِ بن القعقاع ويعقوب وشيبة وأبا أَبِي إِسْحَاقَ: (تُعْرَفُ) بِضَمِّ التَّاءِ وَفَتْحِ الرَّاءِ على الفعل المجهول نَضْرَةَ ريعا. (يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ) أي من شراب لاش فِيهِ. قَالَهُ الْأَخْفَشُ وَالزَّجَّاجُ. وَقِيلَ الرَّحِيقُ الْخَمْرُ الصافية. وفي الصحاح: لرحيق صَفْوَةُ الْخَمْرِ. وَالْمَعْنَى وَاحِدٌ. الْخَلِيلُ: أَقْصَى «1» الْخَمْرِ وَأَجْوَدُهَا وَقَالَ مُقَاتِلٌ وَغَيْرُهُ: هِيَ الْخَمْرُ الْعَتِيقَةُ الْبَيْضَاءُ الصَّافِيَةُ مِنَ الْغِشِّ النَّيِّرَةُ، قَالَ حَسَّانُ:
__________
(1). كذا في الأصول فلها ولعل الصواع: أصفى الحمر.

(19/264)


يسقون من، ورد البريص عليهم ... بردى يصفق بِالرَّحِيقِ السَّلْسَلِ «1»
وَقَالَ آخَرُ «2»:
أَمْ لَا سَبِيلَ إِلَى الشَّبَابِ وَذِكْرِهِ ... أَشْهَى إِلَيَّ مِنَ الرَّحِيقِ السَّلْسَلِ
(مَخْتُومٍ خِتامُهُ مِسْكٌ) قَالَ مُجَاهِدٌ: يُخْتَمُ بِهِ آخِرُ جَرْعَةٍ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى إِذَا شَرِبُوا هَذَا الرَّحِيقَ فَفَنِيَ مَا فِي الْكَأْسِ، انْخَتَمَ ذَلِكَ بِخَاتَمِ الْمِسْكِ. وَكَانَ ابْنُ مَسْعُودٍ يَقُولُ: يَجِدُونَ عَاقِبَتَهَا طَعْمَ الْمِسْكِ. وَنَحْوَهُ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَإِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ قَالَا: خِتَامُهُ آخِرُ طَعْمِهِ. وَهُوَ حَسَنٌ، لِأَنَّ سَبِيلَ الْأَشْرِبَةِ أَنْ يَكُونَ الْكَدِرُ فِي آخِرِهَا، فَوُصِفَ شَرَابُ أَهْلِ الْجَنَّةِ بِأَنَّ رَائِحَةَ آخِرِهِ رَائِحَةُ الْمِسْكِ. وَعَنْ مَسْرُوقٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: الْمَخْتُومُ الْمَمْزُوجُ. وَقِيلَ: مَخْتُومٌ أَيْ خُتِمَتْ وَمُنِعَتْ عَنْ أَنْ يَمَسَّهَا مَاسٌ إِلَى أَنْ يَفُكَّ خِتَامَهَا الْأَبْرَارُ. وَقَرَأَ عَلِيٌّ وَعَلْقَمَةُ وَشَقِيقٌ وَالضَّحَّاكُ وَطَاوُسٌ وَالْكِسَائِيُّ" خَاتَمُهُ" بِفَتْحِ الْخَاءِ وَالتَّاءِ وَأَلِفٌ بَيْنَهُمَا. قَالَهُ عَلْقَمَةُ: أَمَا رَأَيْتَ الْمَرْأَةَ تَقُولُ لِلْعَطَّارِ: اجْعَلْ خَاتَمَهُ مِسْكًا، تُرِيدُ آخِرَهُ. وَالْخَاتَمُ وَالْخِتَامُ مُتَقَارِبَانِ فِي الْمَعْنَى، إِلَّا أَنَّ الْخَاتَمَ الِاسْمُ، وَالْخِتَامُ الْمَصْدَرُ، قَالَهُ الْفَرَّاءُ. وَفِي الصِّحَاحِ: وَالْخِتَامُ: الطِّينُ الَّذِي يُخْتَمُ بِهِ. وَكَذَا قَالَ مُجَاهِدٌ وَابْنُ زَيْدٍ: خُتِمَ إِنَاؤُهُ بِالْمِسْكِ بَدَلًا مِنَ الطِّينِ. حَكَاهُ الْمَهْدَوِيُّ. وَقَالَ الْفَرَزْدَقُ:
وَبِتُّ أَفُضَّ أَغْلَاقَ الْخِتَامِ «3»

وَقَالَ الْأَعْشَى:
وَأَبْرَزَهَا وَعَلَيْهَا خَتَمْ «4»

أَيْ عَلَيْهَا طِينَةٌ مَخْتُومَةٌ، مِثْلَ نَفْضٍ بِمَعْنَى مَنْفُوضٍ، وَقَبْضٍ بِمَعْنَى مَقْبُوضٍ. وَذَكَرَ ابْنُ الْمُبَارَكِ وَابْنُ وَهْبٍ، وَاللَّفْظُ لِابْنِ وَهْبٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: خِتامُهُ مِسْكٌ: خَلْطُهُ، لَيْسَ بِخَاتَمٍ يَخْتِمُ، أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِ الْمَرْأَةِ مِنْ نِسَائِكُمْ: إِنَّ خِلْطَهُ مِنَ الطيب كذا وكذا.
__________
(1). تقدم شرح البيت بهامش ص 141 من هذا الجزء.
(2). هو أبو كبير الهذلي.
(3). صدر البيت:
فبتن جنابتي مصرعات

(4). صدره:
وصهباء طاف يهوديها

(19/265)


إِنَّمَا خِلْطُهُ مِسْكٌ، قَالَ: شَرَابٌ أَبْيَضُ مِثْلُ الْفِضَّةِ يَخْتِمُونَ بِهِ آخِرَ أَشْرِبَتِهِمْ، لَوْ أَنَّ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ الدُّنْيَا أَدْخَلَ فِيهِ يَدَهُ ثُمَّ أَخْرَجَهَا، لَمْ يَبْقَ ذُو رُوحٍ إِلَّا وَجَدَ رِيحَ طِيبِهَا. وَرَوَى أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ قَالَ: قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا الرَّحِيقُ الْمَخْتُومُ؟ قَالَ: (غُدْرَانُ الْخَمْرِ). وَقِيلَ: مَخْتُومٌ فِي الْآنِيَةِ، وَهُوَ غَيْرُ الَّذِي يَجْرِي فِي الْأَنْهَارِ. فَاللَّهُ أَعْلَمُ. (وَفِي ذلِكَ) أَيْ وَفِي الَّذِي وَصَفْنَاهُ مِنْ أَمْرِ الْجَنَّةِ (فَلْيَتَنافَسِ الْمُتَنافِسُونَ) أَيْ فَلْيَرْغَبِ الرَّاغِبُونَ يُقَالُ: نَفَسْتُ عَلَيْهِ الشَّيْءَ أَنْفِسُهُ نَفَاسَةً: أَيْ ضَنِنْتُ بِهِ، وَلَمْ أُحِبَّ أَنْ يَصِيرَ إِلَيْهِ. وَقِيلَ: الْفَاءُ بِمَعْنَى إِلَى، أَيْ وَإِلَى ذَلِكَ فَلْيَتَبَادَرِ الْمُتَبَادِرُونَ فِي الْعَمَلِ، نَظِيرُهُ: لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعامِلُونَ. (وَمِزاجُهُ) أَيْ وَمِزَاجُ ذَلِكَ الرَّحِيقِ (مِنْ تَسْنِيمٍ) وَهُوَ شَرَابٌ يَنْصَبُّ عَلَيْهِمْ مِنْ عُلُوٍّ، وَهُوَ أَشْرَفُ شَرَابٍ فِي الْجَنَّةِ. وَأَصْلُ التَّسْنِيمِ فِي اللُّغَةِ: الِارْتِفَاعُ فَهِيَ عَيْنُ مَاءٍ تَجْرِي مِنْ عُلُوٍّ إِلَى أَسْفَلَ، وَمِنْهُ سَنَامُ الْبَعِيرِ لِعُلُوِّهِ مِنْ بَدَنِهِ، وَكَذَلِكَ تَسْنِيمُ الْقُبُورِ. وَرُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: تَسْنِيمٌ عَيْنٌ فِي الْجَنَّةِ يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ صِرْفًا، وَيُمْزَجُ مِنْهَا كَأْسُ أَصْحَابِ الْيَمِينِ فَتَطِيبُ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: وَمِزاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ قَالَ: هَذَا مِمَّا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ [السجدة: 17]. وَقِيلَ: التَّسْنِيمُ عَيْنٌ تَجْرِي فِي الْهَوَاءِ بِقُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى، فَتَنْصَبُّ فِي أَوَانِي أَهْلِ الْجَنَّةِ عَلَى قَدْرِ مَائِهَا، فَإِذَا امْتَلَأَتْ أُمْسِكَ الْمَاءُ، فَلَا تَقَعُ مِنْهُ قَطْرَةٌ عَلَى الْأَرْضِ، وَلَا يَحْتَاجُونَ إِلَى الِاسْتِقَاءِ، قَالَهُ قَتَادَةُ، ابْنُ زَيْدٍ: بَلَغَنَا أَنَّهَا عَيْنٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِ الْعَرْشِ. وَكَذَا فِي مَرَاسِيلِ الْحَسَنِ. وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ فِي سُورَةِ" الْإِنْسَانِ" «1». (عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ) أَيْ يَشْرَبُ مِنْهَا أَهْلُ جَنَّةِ عَدْنٍ، وَهُمْ أَفَاضِلُ أهل الجنة، صرفا، وهي لغيرهم مزاج. وعَيْناً نَصْبٌ عَلَى الْمَدْحِ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: نَصْبٌ عَلَى الْحَالِ مِنْ تَسْنِيمٍ، وَتَسْنِيمُ مَعْرِفَةٌ، لَيْسَ يُعْرَفُ لَهُ اشْتِقَاقٌ، وَإِنْ جَعَلْتَهُ مَصْدَرًا مُشْتَقًّا مِنَ السَّنَامِ فَ عَيْناً نُصِبَ، لِأَنَّهُ مَفْعُولٌ بِهِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَوْ إِطْعامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ. يَتِيماً [البلد: 15 - 14] وَهَذَا قَوْلُ الْفَرَّاءِ إِنَّهُ مَنْصُوبٌ بِتَسْنِيمٍ. وَعِنْدَ الْأَخْفَشِ بِ يُسْقَوْنَ أَيْ يُسْقَوْنَ عَيْنًا أَوْ مِنْ عَيْنٍ. وَعِنْدَ الْمُبَرِّدِ بِإِضْمَارٍ أَعْنِي عَلَى المدح.
__________
(1). راجع ص 120 من هذا الجزء.

(19/266)


إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ (29) وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ (30) وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ (31) وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلَاءِ لَضَالُّونَ (32) وَمَا أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ (33) فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ (34) عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ (35) هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (36)

[سورة المطففين (83): الآيات 29 الى 36]
إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ (29) وَإِذا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغامَزُونَ (30) وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ (31) وَإِذا رَأَوْهُمْ قالُوا إِنَّ هؤُلاءِ لَضالُّونَ (32) وَما أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حافِظِينَ (33)
فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ (34) عَلَى الْأَرائِكِ يَنْظُرُونَ (35) هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كانُوا يَفْعَلُونَ (36)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا) وَصَفَ أَرْوَاحَ الْكُفَّارِ فِي الدُّنْيَا مَعَ الْمُؤْمِنِينَ بِاسْتِهْزَائِهِمْ بِهِمْ وَالْمُرَادُ رُؤَسَاءُ قُرَيْشٍ مِنْ أَهْلِ الشِّرْكِ. رَوَى نَاسٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: هُوَ الْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ، وَعُقْبَةُ بْنُ أَبِي مُعَيْطٍ، وَالْعَاصُ بْنُ وَائِلٍ، وَالْأَسْوَدُ بْنُ عَبْدِ يَغُوثَ، والعاص ابن هِشَامٍ، وَأَبُو جَهْلٍ، وَالنَّضْرُ بْنُ الْحَارِثِ، وَأُولَئِكَ (كانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا) مِنْ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِثْلَ عَمَّارٍ، وَخَبَّابٍ وَصُهَيْبٍ وَبِلَالٍ (يَضْحَكُونَ) عَلَى وَجْهِ السُّخْرِيَةِ. (وَإِذا مَرُّوا بِهِمْ)
عِنْدَ إِتْيَانِهِمْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (يَتَغامَزُونَ)
: يَغْمِزُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَيُشِيرُونَ بِأَعْيُنِهِمْ. وَقِيلَ: أَيْ يُعَيِّرُونَهُمْ بِالْإِسْلَامِ وَيَعِيبُونَهُمْ بِهِ يُقَالُ: غَمَزْتُ الشَّيْءَ بِيَدِي، قَالَ:
وَكُنْتُ إِذَا غَمَزْتُ قَنَاةَ قَوْمٍ ... كَسَرْتُ كُعُوبَهَا أَوْ تَسْتَقِيمَا
وَقَالَتْ عَائِشَةُ: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا سَجَدَ غَمَزَنِي، فَقَبَضْتُ رِجْلِي. الْحَدِيثَ، وَقَدْ مَضَى فِي" النِّسَاءِ" «1». وَغَمَزْتُهُ بِعَيْنِيِّ. وَقِيلَ: الْغَمْزُ: بِمَعْنَى الْعَيْبِ، يُقَالُ غَمَزَهُ: أَيْ عَابَهُ، وَمَا فِي فُلَانٍ غَمْزَةٌ أَيْ عَيْبٌ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: نَزَلَتْ فِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ جَاءَ فِي نَفَرٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمَزَهُمُ الْمُنَافِقُونَ، وَضَحِكُوا عَلَيْهِمْ وَتَغَامَزُوا. (وَإِذَا انْقَلَبُوا) أَيِ انْصَرَفُوا إِلَى أَهْلِهِمْ وَأَصْحَابِهِمْ وَذَوِيِهِمْ (انْقَلَبُوا فَكِهِينَ) أَيْ مُعْجَبِينَ مِنْهُمْ. وَقِيلَ: مُعْجَبُونَ بِمَا هُمْ عَلَيْهِ مِنَ الْكُفْرِ، مُتَفَكِّهُونَ بِذِكْرِ الْمُؤْمِنِينَ. وَقَرَأَ ابْنُ الْقَعْقَاعِ وَحَفْصٌ وَالْأَعْرَجُ وَالسُّلَمِيُّ: فَكِهِينَ بِغَيْرِ أَلِفٍ. الْبَاقُونَ بِأَلِفٍ. قَالَ الْفَرَّاءُ: هُمَا لُغَتَانِ مِثْلَ
__________
(1). راجع ج 5 ص 226.

(19/267)


طَمِعٌ وَطَامِعٌ وَحَذِرٌ وَحَاذِرٌ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ" الدُّخَانِ" «1» وَالْحَمْدُ لِلَّهِ. وَقِيلَ: الْفَكِهُ: الْأَشِرُ الْبَطِرُ وَالْفَاكِهُ: النَّاعِمُ الْمُتَنَعِّمُ. (وَإِذا رَأَوْهُمْ) أَيْ إِذَا رَأَى هَؤُلَاءِ الْكُفَّارُ أَصْحَابَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (قالُوا إِنَّ هؤُلاءِ لَضالُّونَ) فِي اتِّبَاعِهِمْ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (وَما أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حافِظِينَ) لِأَعْمَالِهِمْ، مُوَكَّلِينَ بِأَحْوَالِهِمْ، رُقَبَاءَ عَلَيْهِمْ (.) (فَالْيَوْمَ) يَعْنِي هَذَا الْيَوْمَ الَّذِي هُوَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ (الَّذِينَ آمَنُوا) بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ) كَمَا ضَحِكَ الْكُفَّارُ مِنْهُمْ فِي الدُّنْيَا. نَظِيرُهُ فِي آخِرِ سُورَةِ" الْمُؤْمِنِينَ" «2» وَقَدْ تَقَدَّمَ. وَذَكَرَ ابْنُ الْمُبَارَكِ: أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلُهُ تَعَالَى: فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ قَالَ: ذُكِرَ لَنَا أَنَّ كَعْبًا كَانَ يَقُولُ إِنَّ بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ كُوًى، فَإِذَا أَرَادَ الْمُؤْمِنُ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى عَدُوٍّ كَانَ لَهُ فِي الدُّنْيَا اطَّلَعَ مِنْ بَعْضِ الْكُوَى، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي آيَةٍ أُخْرَى: فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَواءِ الْجَحِيمِ [الصافات: 55] قَالَ: ذُكِرَ لَنَا أَنَّهُ اطَّلَعَ فَرَأَى جَمَاجِمَ الْقَوْمِ تَغْلِي. وَذَكَرَ ابْنُ الْمُبَارَكِ أَيْضًا: أَخْبَرَنَا الْكَلْبِيُّ عَنْ أَبِي صَالِحٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ [البقرة: 15] قَالَ: يُقَالُ لِأَهْلِ النَّارِ وَهُمْ فِي النَّارِ: اخْرُجُوا، فَتُفْتَحُ لَهُمْ أَبْوَابُ النَّارِ، فَإِذَا رَأَوْهَا قَدْ فُتِحَتْ أَقْبَلُوا إِلَيْهَا يُرِيدُونَ الْخُرُوجَ، وَالْمُؤْمِنُونَ يَنْظُرُونَ إِلَيْهِمْ عَلَى الْأَرَائِكِ، فَإِذَا انْتَهَوْا إِلَى أَبْوَابِهَا غُلِّقَتْ دُونَهُمْ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ [البقرة: 15] وَيَضْحَكُ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ حِينَ غُلِّقَتْ دُونَهُمْ فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ. (عَلَى الْأَرائِكِ يَنْظُرُونَ. هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كانُوا يَفْعَلُونَ) وَقَدْ مَضَى هَذَا فِي أَوَّلِ سُورَةِ" الْبَقَرَةِ" «3». وَمَعْنَى هَلْ ثُوِّبَ أَيْ هَلْ جُوزِيَ بِسُخْرِيَتِهِمْ فِي الدُّنْيَا بِالْمُؤْمِنِينَ إِذَا فَعَلَ بِهِمْ ذَلِكَ. وَقِيلَ: إِنَّهُ مُتَعَلِّقٌ بِ يَنْظُرُونَ أَيْ يَنْظُرُونَ: هَلْ جُوزِيَ الْكُفَّارُ؟ فَيَكُونُ مَعْنًى هَلِ [التَّقْرِيرَ] وَمَوْضِعُهَا نَصْبًا بِ يَنْظُرُونَ. وَقِيلَ: اسْتِئْنَافٌ لَا مَوْضِعَ لَهُ مِنَ الْإِعْرَابِ. وَقِيلَ: هُوَ إِضْمَارٌ عَلَى الْقَوْلِ، وَالْمَعْنَى، يَقُولُ بَعْضُ الْمُؤْمِنِينَ لِبَعْضٍ: هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ أَيْ أُثِيبَ وَجُوزِيَ. وَهُوَ مِنْ ثَابَ يَثُوبُ أَيْ رَجَعَ، فَالثَّوَابُ مَا يَرْجِعُ عَلَى الْعَبْدِ فِي مُقَابَلَةِ عَمَلِهِ، وَيُسْتَعْمَلُ فِي الْخَيْرِ وَالشَّرِّ. خُتِمَتِ السورة والله أعلم.
__________
(1). راجع ج 16 ص (139)
(2). راجع ج 12 ص 155.
(3). راجع ج 1 ص 208

(19/268)


إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ (1) وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ (2) وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ (3) وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ (4) وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ (5)

[تفسير سورة الانشقاق]
سُورَةُ الِانْشِقَاقِ مَكِّيَّةٌ فِي قَوْلِ الْجَمِيعِ وَهِيَ خَمْسٌ وَعِشْرُونَ آيَةً بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

[سورة الانشقاق (84): الآيات 1 الى 5]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ (1) وَأَذِنَتْ لِرَبِّها وَحُقَّتْ (2) وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ (3) وَأَلْقَتْ مَا فِيها وَتَخَلَّتْ (4)
وَأَذِنَتْ لِرَبِّها وَحُقَّتْ (5)
قَوْلُهُ تعالى: (وإِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ) أَيِ انْصَدَعَتْ، وَتَفَطَّرَتْ بِالْغَمَامِ، وَالْغَمَامُ مِثْلُ السَّحَابِ الْأَبْيَضِ. وَكَذَا رَوَى أَبُو صَالِحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ: تُشَقُّ مِنَ الْمَجَرَّةِ. وَقَالَ: الْمُجَرَّةُ بَابُ السَّمَاءِ. وَهَذَا مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ وَعَلَامَاتِهَا. (وَأَذِنَتْ لِرَبِّها وَحُقَّتْ) أَيْ سَمِعَتْ، وَحُقَّ لَهَا أَنْ تَسْمَعَ. رُوِيَ مَعْنَاهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٍ وَغَيْرِهِمَا، وَمِنْهُ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" مَا أَذِنَ اللَّهُ لِشَيْءٍ كَإِذْنِهِ لِنَبِيٍّ يَتَغَنَّى بِالْقُرْآنِ" أَيْ مَا اسْتَمَعَ اللَّهُ لِشَيْءٍ قَالَ الشَّاعِرُ:
صُمٌّ إِذَا سَمِعُوا خَيْرًا ذُكِرْتُ بِهِ ... وَإِنْ ذُكِرْتُ بِسُوءٍ عِنْدَهُمْ أَذِنُوا
أَيْ سمعوا. وقال قعنب ابن أُمِّ صَاحِبٍ:
إِنْ يَأْذَنُوا رِيبَةً طَارُوا بِهَا فَرَحًا ... وَمَا هُمْ أَذِنُوا مِنْ صَالِحٍ دَفَنُوا
وَقِيلَ: الْمَعْنَى وَحَقَّقَ اللَّهُ عَلَيْهَا الِاسْتِمَاعَ لِأَمْرِهِ بِالِانْشِقَاقِ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: حُقَّتْ: أَطَاعَتْ، وَحُقَّ لَهَا أَنْ تُطِيعَ رَبَّهَا، لِأَنَّهُ خَلَقَهَا، يُقَالُ: فُلَانٌ مَحْقُوقٌ بِكَذَا. وَطَاعَةُ السَّمَاءِ: بِمَعْنَى أَنَّهَا لَا تَمْتَنِعُ مِمَّا أَرَادَ اللَّهُ بِهَا، وَلَا يَبْعُدُ خَلْقُ الْحَيَاةِ فِيهَا حَتَّى تُطِيعَ وَتُجِيبَ. وَقَالَ قَتَادَةُ: حُقَّ لَهَا أَنْ تَفْعَلَ ذَلِكَ، وَمِنْهُ قَوْلُ كُثَيِّرٍ:
فَإِنْ تَكُنِ الْعُتْبَى فَأَهْلًا وَمَرْحَبًا ... وحقت لها العتبى لدينا وقلت

(19/269)


قوله تَعَالَى: (وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ) أَيْ بُسِطَتْ وَدُكَّتْ جِبَالُهَا. قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (تُمَدُّ مَدَّ الْأَدِيمِ) لِأَنَّ الْأَدِيمَ إِذَا مُدَّ زَالَ كُلُّ انْثِنَاءِ فِيهِ وَامْتَدَّ وَاسْتَوَى. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ مَسْعُودٍ: وَيُزَادُ وَسِعَتُهَا كَذَا وَكَذَا، لِوُقُوفِ الْخَلَائِقِ عَلَيْهَا لِلْحِسَابِ حَتَّى لَا يَكُونُ لِأَحَدٍ مِنَ الْبَشَرِ إِلَّا مَوْضِعُ قَدَمِهِ، لِكَثْرَةِ الْخَلَائِقِ فِيهَا. وَقَدْ مَضَى فِي سُورَةِ" إِبْرَاهِيمَ" «1» أَنَّ الْأَرْضَ تُبَدَّلُ بِأَرْضٍ أُخْرَى وَهِيَ السَّاهِرَةُ فِي قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَلَى مَا تَقَدَّمَ عَنْهُ «2». (وَأَلْقَتْ مَا فِيها وَتَخَلَّتْ) أَيْ أَخْرَجَتْ أَمْوَاتَهَا، وَتَخَلَّتْ عَنْهُمْ. وَقَالَ ابْنُ جُبَيْرٍ: أَلْقَتْ مَا فِي بَطْنِهَا مِنَ الْمَوْتَى، وَتَخَلَّتْ مِمَّنْ عَلَى ظَهْرِهَا مِنَ الْأَحْيَاءِ. وَقِيلَ: أَلْقَتْ مَا فِي بَطْنِهَا مِنْ كُنُوزِهَا وَمَعَادِنَهَا، وَتَخَلَّتْ مِنْهَا. أَيْ خَلَا جَوْفُهَا، فَلَيْسَ فِي بَطْنِهَا شي، وَذَلِكَ يُؤْذِنُ بِعَظَمِ الْأَمْرِ، كَمَا تُلْقِي الْحَامِلَ مَا فِي بَطْنِهَا عِنْدَ الشِّدَّةِ. وَقِيلَ: تَخَلَّتْ مِمَّا عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ جِبَالِهَا وَبِحَارِهَا. وَقِيلَ: أَلْقَتْ مَا اسْتُودِعَتْ، وَتَخَلَّتْ مِمَّا اسْتُحْفِظَتْ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى اسْتَوْدَعَهَا عِبَادَهُ أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا، وَاسْتَحْفَظَهَا بِلَادَهُ مُزَارَعَةً وَأَقْوَاتًا. (وَأَذِنَتْ لِرَبِّها) أَيْ فِي إِلْقَاءِ مَوْتَاهَا (وَحُقَّتْ) أَيْ وَحُقَّ لَهَا أَنْ تَسْمَعَ أَمْرَهُ. وَاخْتُلِفَ فِي جَوَابٍ إِذَا فَقَالَ الْفَرَّاءُ: أَذِنَتْ. وَالْوَاوُ زَائِدَةٌ، وَكَذَلِكَ وَأَلْقَتْ. ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: قَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ: جَوَابُ إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ أَذِنَتْ، وَزَعَمَ أَنَّ الْوَاوَ مُقْحَمَةٌ وَهَذَا غَلَطٌ، لِأَنَّ الْعَرَبَ لَا تُقْحِمُ الْوَاوَ إِلَّا مَعَ (حَتَّى- إِذَا) كَقَوْلِهِ تَعَالَى: حَتَّى إِذا جاؤُها فُتِحَتْ أَبْوابُها [الزمر: 71] وَمَعَ (لَمَّا) كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَلَمَّا أَسْلَما وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ. وَنادَيْناهُ [الصافات: 104 - 103] مَعْنَاهُ نادَيْناهُ وَالْوَاوُ لَا تُقْحَمُ مَعَ غَيْرِ هَذَيْنَ. وَقِيلَ: الْجَوَابُ فَاءٌ مُضْمَرَةٌ كَأَنَّهُ قَالَ: إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ ف يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ. وَقِيلَ: جَوَابُهَا مَا دَلَّ عَلَيْهِ فَمُلاقِيهِ أَيْ إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ لَاقَى الْإِنْسَانُ كَدْحَهُ. وَقِيلَ: فِيهِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ، أَيْ يَا أَيُّهَا الْإِنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ إِلى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ. قَالَهُ الْمُبَرِّدُ. وَعَنْهُ أَيْضًا: الْجَوَابُ فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ وَهُوَ قَوْلُ الْكِسَائِيِّ، أَيْ إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَحُكْمُهُ كَذَا. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ النَّحَّاسُ: وَهَذَا أَصَحُّ
__________
(1). راجع ج 9 ص 383.
(2). راجع ص 196 من هذا الجزء.

(19/270)


يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ (6) فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ (7) فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا (8) وَيَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا (9)

مَا قِيلَ فِيهِ وَأَحْسَنُهُ. قِيلَ: هُوَ بِمَعْنَى اذْكُرْ إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ. وَقِيلَ: الْجَوَابُ مَحْذُوفٌ لِعِلْمِ الْمُخَاطَبِينَ بِهِ، أَيْ إِذَا كَانَتْ هَذِهِ الْأَشْيَاءُ عَلِمَ الْمُكَذِّبُونَ بِالْبَعْثِ ضَلَالَتَهُمْ وَخُسْرَانَهُمْ. وَقِيلَ: تَقَدَّمَ مِنْهُمْ سُؤَالٌ عَنْ وَقْتِ الْقِيَامَةِ، فَقِيلَ لَهُمْ: إِذَا ظَهَرَتْ أَشْرَاطُهَا كَانَتِ الْقِيَامَةُ، فَرَأَيْتُمْ عَاقِبَةَ تَكْذِيبِكُمْ بِهَا. وَالْقُرْآنُ كَالْآيَةِ الْوَاحِدَةِ فِي دَلَالَةِ الْبَعْضِ عَلَى الْبَعْضِ. وَعَنِ الْحَسَنِ: إِنَّ قَوْلَهُ إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ قَسَمٌ. وَالْجُمْهُورُ عَلَى خِلَافِ قَوْلِهِ مِنْ أَنَّهُ خَبَرٌ وَلَيْسَ بِقَسَمٍ.

[سورة الانشقاق (84): الآيات 6 الى 9]
يَا أَيُّهَا الْإِنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ إِلى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ (6) فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ (7) فَسَوْفَ يُحاسَبُ حِساباً يَسِيراً (8) وَيَنْقَلِبُ إِلى أَهْلِهِ مَسْرُوراً (9)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (يَا أَيُّهَا الْإِنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ إِلى رَبِّكَ كَدْحاً) المراد بالإنسان الجنس أي يا ابن آدَمَ. وَكَذَا رَوَى سَعِيدٌ عَنْ قَتَادَةَ: يَا ابن آدَمَ، إِنَّ كَدْحَكَ لَضَعِيفٌ، فَمَنِ اسْتَطَاعَ أَنْ يَكُونَ كَدْحُهُ فِي طَاعَةِ اللَّهِ فَلْيَفْعَلْ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ. وَقِيلَ: هُوَ مُعَيَّنٌ، قَالَ مُقَاتِلٌ: يَعْنِي الْأَسْوَدَ بْنَ عَبْدِ الْأَسَدِ. وَيُقَالُ: يَعْنِي أُبَيَّ بْنَ خَلَفٍ. وَيُقَالُ: يَعْنِي جَمِيعَ الْكُفَّارِ، أَيُّهَا الْكَافِرُ إِنَّكَ كَادِحٌ. وَالْكَدْحُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ: الْعَمَلُ وَالْكَسْبُ، قَالَ ابْنُ مُقْبِلٍ:
وَمَا الدَّهْرُ إِلَّا تَارَتَانِ فَمِنْهُمَا ... أَمُوتُ وَأُخْرَى أَبْتَغِي الْعَيْشَ أَكْدَحُ
وَقَالَ آخَرُ:
وَمَضَتْ بَشَاشَةُ كُلِّ عَيْشٍ صَالِحٍ ... وَبَقِيتُ أَكْدَحُ لِلْحَيَاةِ وَأَنْصِبُ
أَيْ أَعْمَلُ. وَرَوَى الضَّحَّاكُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: إِنَّكَ كادِحٌ أَيْ رَاجِعٌ إِلى رَبِّكَ كَدْحاً أَيْ رُجُوعًا لَا مَحَالَةَ (فَمُلاقِيهِ) أَيْ مُلَاقٍ رَبَّكَ. وَقِيلَ: مُلَاقٍ عَمَلَكَ. الْقُتَبِيُّ إِنَّكَ كادِحٌ أَيْ عَامِلٌ نَاصِبٌ فِي مَعِيشَتِكَ إِلَى لِقَاءِ رَبِّكَ. وَالْمُلَاقَاةُ بِمَعْنَى اللِّقَاءِ أَنْ تَلْقَى رَبَّكَ بِعَمَلِكَ. وَقِيلَ أَيْ تُلَاقِي كِتَابَ عَمَلِكَ، لِأَنَّ الْعَمَلَ قَدِ انْقَضَى وَلِهَذَا قَالَ: (فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ).

(19/271)


وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ (10) فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا (11) وَيَصْلَى سَعِيرًا (12) إِنَّهُ كَانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُورًا (13) إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ (14) بَلَى إِنَّ رَبَّهُ كَانَ بِهِ بَصِيرًا (15)

قَوْلُهُ تَعَالَى: فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ وَهُوَ الْمُؤْمِنُ (فَسَوْفَ يُحاسَبُ حِساباً يَسِيراً) لَا مُنَاقَشَةَ فِيهِ. كَذَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (مَنْ حُوسِبَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عُذِّبَ) قَالَتْ: فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلَيْسَ قَدْ قَالَ اللَّهُ فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَسَوْفَ يُحاسَبُ حِساباً يَسِيراً
فَقَالَ:" لَيْسَ ذَاكَ الْحِسَابَ، إِنَّمَا ذَلِكَ الْعَرْضُ، مَنْ نُوقِشَ الْحِسَابَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عُذِّبَ) أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ. وَقَالَ حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ. (وَيَنْقَلِبُ إِلى أَهْلِهِ مَسْرُوراً) أَزْوَاجِهِ فِي الْجَنَّةِ مِنَ الْحُورِ الْعِينِ مَسْرُوراً أَيْ مُغْتَبِطًا قَرِيرَ الْعَيْنِ. وَيُقَالُ إِنَّهَا نَزَلَتْ في أبي سلمة ابن عَبْدِ الْأَسَدِ، هُوَ أَوَّلُ مَنْ هَاجَرَ مِنْ مَكَّةَ إِلَى الْمَدِينَةِ. وَقِيلَ: إِلَى أَهْلِهِ الَّذِينَ كَانُوا لَهُ فِي الدُّنْيَا، لِيُخْبِرَهُمْ بِخَلَاصِهِ وَسَلَامَتِهِ. وَالْأَوَّلُ قَوْلُ قَتَادَةَ. أَيْ إِلَى أَهْلِهِ الَّذِينَ قد أعدهم الله له في الجنة.

[سورة الانشقاق (84): الآيات 10 الى 15]
وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ وَراءَ ظَهْرِهِ (10) فَسَوْفَ يَدْعُوا ثُبُوراً (11) وَيَصْلى سَعِيراً (12) إِنَّهُ كانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُوراً (13) إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ (14)
بَلى إِنَّ رَبَّهُ كانَ بِهِ بَصِيراً (15)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ وَراءَ ظَهْرِهِ) نَزَلَتْ فِي الْأَسْوَدِ بْنِ عَبْدِ الْأَسَدِ أَخِي أَبِي سلمة قاله ابْنُ عَبَّاسٍ. ثُمَّ هِيَ عَامَّةٌ فِي كُلِّ مُؤْمِنٍ وَكَافِرٍ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يَمُدُّ يَدَهُ الْيُمْنَى لِيَأْخُذَ كِتَابَهُ فَيَجْذِبُهُ مَلَكٌ، فَيَخْلَعُ يَمِينَهُ، فَيَأْخُذُ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ مِنْ وَرَاءِ ظَهْرِهِ. وَقَالَ قَتَادَةُ وَمُقَاتِلٌ: يُفَكُّ أَلْوَاحَ صَدْرِهِ وَعِظَامِهِ ثُمَّ تُدْخَلُ يَدُهُ وَتُخْرَجُ مِنْ ظَهْرِهِ، فَيَأْخُذُ كِتَابَهُ كذلك. (فَسَوْفَ يَدْعُوا ثُبُوراً) أَيْ بِالْهَلَاكِ فَيَقُولُ: يَا وَيْلَاهُ، يَا ثُبُورَاهُ. (وَيَصْلى سَعِيراً) أَيْ وَيَدْخُلُ النَّارَ حَتَّى يَصْلَى بَحَرِّهَا. وَقَرَأَ الْحِرْمِيَانُ وَابْنُ عَامِرٍ وَالْكِسَائِيُّ (وَيُصْلَى) بِضَمِّ الْيَاءِ وَفَتْحِ الصَّادِ، وَتَشْدِيدِ اللَّامِ، كقوله تعالى: ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ [الحاقة: 31] وقوله: وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ [الواقعة: 94]. الْبَاقُونَ وَيَصْلى بِفَتْحِ الْيَاءِ مُخَفَّفًا، فِعْلٌ لَازِمٌ غَيْرُ مُتَعَدٍّ، لِقَوْلِهِ: إِلَّا مَنْ هُوَ صالِ الْجَحِيمِ [الصافات: 163] وقوله: يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرى [الأعلى: 12] وقوله: ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصالُوا الْجَحِيمِ [المطففين: 16]. وَقِرَاءَةٌ ثَالِثَةٌ رَوَاهَا أَبَانٌ

(19/272)


عَنْ عَاصِمٍ وَخَارِجَةَ عَنْ نَافِعٍ وَإِسْمَاعِيلَ الْمَكِّيِّ عَنِ ابْنِ كَثِيرٍ (وَيُصْلَى) بِضَمِّ الْيَاءِ وَإِسْكَانِ الصَّادِ وَفَتْحِ اللَّامِ مُخَفَّفًا، كَمَا قُرِئَ (وَسَيُصْلَوْنَ) بِضَمِّ الْيَاءِ، وَكَذَلِكَ فِي" الْغَاشِيَةِ" قَدْ قُرِئَ أَيْضًا: تَصْلى نَارًا وَهُمَا لُغَتَانِ صَلَى وَأَصْلَى، كَقَوْلِهِ:" نَزَلَ. وَأَنْزَلَ". (إِنَّهُ كانَ فِي أَهْلِهِ) أَيْ فِي الدُّنْيَا (مَسْرُوراً) قَالَ ابْنُ زَيْدٍ: وَصَفَ اللَّهُ أَهْلَ الْجَنَّةِ بِالْمَخَافَةِ وَالْحُزْنِ وَالْبُكَاءِ وَالشَّفَقَةِ فِي الدُّنْيَا فَأَعْقَبَهُمْ بِهِ النَّعِيمَ وَالسُّرُورَ فِي الْآخِرَةِ، وَقَرَأَ قَوْلَ اللَّهِ تَعَالَى: إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنا مُشْفِقِينَ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا وَوَقانا عَذابَ السَّمُومِ. قَالَ: وَوَصَفَ أَهْلَ النَّارِ بِالسُّرُورِ فِي الدُّنْيَا وَالضَّحِكِ فِيهَا وَالتَّفَكُّهِ. فَقَالَ: إِنَّهُ كانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُوراً (إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ) أَيْ لَنْ يَرْجِعَ حَيًّا مَبْعُوثًا فَيُحَاسَبُ، ثُمَّ يُثَابُ أَوْ يُعَاقَبُ. يُقَالُ: حَارَ يَحُورُ إِذَا رَجَعَ، قَالَ لَبِيدٌ:
وَمَا الْمَرْءُ إِلَّا كَالشِّهَابِ وُضُوئِهِ ... يَحُورُ رَمَادًا بعد إذا هُوَ سَاطِعُ
وَقَالَ عِكْرِمَةُ وَدَاوُدُ بْنُ أَبِي هِنْدٍ، يَحُورُ كَلِمَةٌ بِالْحَبَشِيَّةِ، وَمَعْنَاهَا يَرْجِعُ. وَيَجُوزُ أَنْ تَتَّفِقَ الْكَلِمَتَانِ فَإِنَّهُمَا كَلِمَةُ اشْتِقَاقٍ، وَمِنْهُ الْخُبْزُ الْحُوَارَى، لِأَنَّهُ يَرْجِعُ إِلَى الْبَيَاضِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَا كُنْتُ أَدْرِي: مَا يَحُورُ؟ حَتَّى سَمِعْتُ أَعْرَابِيَّةً تَدْعُو بُنَيَّةً لَهَا: حُورِيُّ، أَيِ ارْجِعِي إِلَيَّ، فَالْحَوْرُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ الرُّجُوعُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ:" اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوَذُ بِكَ مِنَ الْحَوْرِ بَعْدَ الْكَوْرِ" يَعْنِي: مِنَ الرُّجُوعِ إِلَى النُّقْصَانِ بَعْدَ الزِّيَادَةِ، وَكَذَلِكَ الْحُورُ بِالضَّمِّ. وَفِي الْمَثَلِ" حُورٌ فِي مَحَارَةٍ"»
أَيْ نُقْصَانٌ فِي نُقْصَانٍ. يُضْرَبُ لِلرَّجُلِ إِذَا كَانَ أَمْرُهُ يُدْبِرُ، قَالَ الشَّاعِرُ «2»:
وَاسْتَعْجَلُوا عَنْ خَفِيفِ الْمَضْغِ فَازْدَرَدُوا ... وَالذَّمُّ يَبْقَى وَزَادُ الْقَوْمِ فِي حُورِ
وَالْحُورُ أَيْضًا: الِاسْمُ مِنْ قَوْلِكَ: طَحَنَتِ الطَّاحِنَةُ فَمَا أَحَارَتْ شَيْئًا، أَيْ مَا رَدَّتْ شَيْئًا مِنَ الدَّقِيقِ. وَالْحُورُ أَيْضًا الْهَلَكَةُ، قَالَ الرَّاجِزُ: «3»
فِي بِئْرٍ لَا حُورٍ سَرَى ولا شعر
__________
(1). أي حور في حور فمحاورة: مصدر ميمي بمعنى الحور.
(2). قائله سبيع بن الخطيم يريد الأكل يذهب والذم يبقى. [ ..... ]
(3). هو العجاج.

(19/273)


فَلَا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ (16) وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ (17) وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ (18) لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ (19) فَمَا لَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (20) وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لَا يَسْجُدُونَ (21)

قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: أَيْ بِئْرِ حُورٍ، وَ" لَا" زَائِدَةٌ. وَرُوِيَ" بَعْدَ الْكَوْنِ" «1» وَمَعْنَاهُ مِنَ انتشار الامر بعد تمامه. وسيل مَعْمَرٌ عَنِ الْحَوْرِ بَعْدَ الْكَوْنِ، فَقَالَ: هُوَ الْكُنْتِيُّ. فَقَالَ لَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ: وَمَا الْكُنْتِيُّ؟ فَقَالَ: الرَّجُلُ يَكُونُ صَالِحًا ثُمَّ يَتَحَوَّلُ رَجُلَ سُوءٍ. قَالَ أَبُو عَمْرٍو: يُقَالُ لِلرَّجُلِ إِذَا شَاخَ: كُنْتِيُّ، كَأَنَّهُ نُسِبَ إِلَى قَوْلِهِ: كُنْتُ فِي شَبَابِي كَذَا. قَالَ:
فَأَصْبَحْتُ كُنْتِيًّا وَأَصْبَحْتُ عَاجِنًا ... وَشَرُّ خِصَالِ الْمَرْءِ كُنْتُ وَعَاجِنُ
عَجَنَ الرَّجُلُ: إِذَا نَهَضَ مُعْتَمِدًا عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكِبَرِ. وَقَالَ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ: الْكُنْتِيُّ: هُوَ الَّذِي يَقُولُ: كُنْتُ شَابًّا، وَكُنْتُ شُجَاعًا، وَالْكَانِيُّ هُوَ الَّذِي يَقُولُ: كَانَ لِي مَالٌ وَكُنْتُ أَهَبُ، وَكَانَ لِي خَيْلٌ وَكُنْتُ أَرْكَبُ. قَوْلُهُ تَعَالَى: (بَلى) أَيْ لَيْسَ الْأَمْرُ كَمَا ظَنَّ، بَلْ يَحُورُ إِلَيْنَا وَيَرْجِعُ. (إِنَّ رَبَّهُ كانَ بِهِ بَصِيراً) قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَهُ، عَالِمًا بِأَنَّ مَرْجِعَهُ إِلَيْهِ. وَقِيلَ: بَلَى لَيَحُورَنَّ وَلَيَرْجِعَنَّ. ثُمَّ اسْتَأْنَفَ فَقَالَ: إِنَّ رَبَّهُ كانَ بِهِ بَصِيراً مِنْ يَوْمِ خَلَقَهُ إِلَى أَنْ بَعَثَهُ. وَقِيلَ: عَالِمًا بما سبق له من الشقاء والسعادة.

[سورة الانشقاق (84): الآيات 16 الى 21]
فَلا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ (16) وَاللَّيْلِ وَما وَسَقَ (17) وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ (18) لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ (19) فَما لَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (20)
وَإِذا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لَا يَسْجُدُونَ (21)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (فَلا أُقْسِمُ) أَيْ فأقسم وفَلا صِلَةٌ. (بِالشَّفَقِ) أَيْ بِالْحُمْرَةِ الَّتِي تَكُونُ عِنْدَ مَغِيبِ الشَّمْسِ حَتَّى تَأْتِيَ صَلَاةُ الْعِشَاءِ الْآخِرَةَ. قَالَ أَشْهَبُ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْحَكَمِ وَيَحْيَى بْنُ يَحْيَى وَغَيْرُهُمْ، كَثِيرٌ عَدَدُهُمْ عَنْ مَالِكٍ: الشَّفَقُ الْحُمْرَةُ الَّتِي فِي الْمَغْرِبِ، فَإِذَا ذَهَبَتِ الْحُمْرَةُ فَقَدْ خَرَجَتْ مِنْ وَقْتِ الْمَغْرِبِ وَوَجَبَتْ صَلَاةُ الْعِشَاءِ. وَرَوَى ابْنُ وَهْبٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي غَيْرُ وَاحِدٍ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَمُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ وَعُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ وَشَدَّادِ بن أوس
__________
(1). الكون هنا: مصدر كان التامة بقال: كان يكون كونا: أي وجد واستقر. (النهاية).

(19/274)


وَأَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ الشَّفَقَ الْحُمْرَةُ، وَبِهِ قَالَ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ. وَذَكَرَ غَيْرَ ابْنِ وَهْبٍ مِنَ الصَّحَابَةِ: عُمَرَ وَابْنَ عُمَرَ وَابْنَ مَسْعُودٍ وَابْنَ عَبَّاسٍ وَأَنَسًا وَأَبَا قَتَادَةَ وَجَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ وَابْنَ الزُّبَيْرِ، وَمِنَ التَّابِعِينَ: سَعِيدَ بن جبير، وابن المسيب وطاوس، وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ دِينَارٍ، وَالزُّهْرِيَّ، وَقَالَ بِهِ مِنَ الْفُقَهَاءِ الْأَوْزَاعِيُّ وَمَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَبُو يُوسُفَ وَأَبُو ثَوْرٍ وَأَبُو عُبَيْدَةَ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ وَقِيلَ: هُوَ الْبَيَاضُ، رُوِيَ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ أَيْضًا وَعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَالْأَوْزَاعِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ فِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ. وَرَوَى أَسَدُ بْنُ عَمْرٍو أَنَّهُ رَجَعَ عَنْهُ. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَيْضًا أَنَّهُ الْبَيَاضُ وَالِاخْتِيَارُ الْأَوَّلُ، لِأَنَّ أَكْثَرَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَالْفُقَهَاءِ عَلَيْهِ، وَلِأَنَّ شَوَاهِدَ كَلَامِ الْعَرَبِ وَالِاشْتِقَاقَ وَالسُّنَّةَ تَشْهَدُ لَهُ. قَالَ الْفَرَّاءُ: سَمِعْتُ بَعْضَ الْعَرَبِ يَقُولُ لِثَوْبٍ عَلَيْهِ مَصْبُوغٍ: كَأَنَّهُ الشَّفَقُ وَكَانَ أَحْمَرَ، فَهَذَا شَاهِدٌ لِلْحُمْرَةِ، وَقَالَ الشَّاعِرُ:
وَأَحْمَرُ اللَّوْنِ كَمُحْمَرِّ الشَّفَقِ

وَقَالَ آخَرُ:
قُمْ يَا غُلَامٌ أَعْنِي غَيْرَ مُرْتَبِكٍ ... عَلَى الزَّمَانِ بِكَأْسٍ حَشْوُهَا شَفَقُ
وَيُقَالُ لِلْمَغْرَةِ الشَّفَقُ. وَفِي الصِّحَاحِ: الشَّفَقُ بَقِيَّةُ ضَوْءِ الشَّمْسِ وَحُمْرَتُهَا فِي أَوَّلِ اللَّيْلِ إِلَى قَرِيبٍ مِنَ الْعَتَمَةِ. قَالَ الْخَلِيلُ: الشَّفَقُ: الْحُمْرَةُ، مِنْ غُرُوبِ الشَّمْسِ إِلَى وَقْتِ الْعِشَاءِ الْآخِرَةِ، إِذَا ذَهَبَ قِيلَ: غَابَ الشَّفَقُ. ثُمَّ قِيلَ: أَصْلُ الْكَلِمَةِ مِنْ رِقَّةِ الشَّيْءِ، يقال: شي شَفَقٌ أَيْ لَا تَمَاسُكَ لَهُ لِرِقَّتِهِ. وَأَشْفَقَ عَلَيْهِ. أَيْ رَقَّ قَلْبُهُ عَلَيْهِ، وَالشَّفَقَةُ: الِاسْمُ مِنَ الْإِشْفَاقِ، وَهُوَ رِقَّةُ الْقَلْبِ، وَكَذَلِكَ الشَّفَقُ، قَالَ الشَّاعِرُ «1»:
تَهْوَى حَيَاتِي وَأَهْوَى مَوْتَهَا شَفَقًا ... وَالْمَوْتُ أَكْرَمُ نَزَّالٍ عَلَى الْحُرَمِ
فَالشَّفَقُ: بَقِيَّةُ ضَوْءِ الشَّمْسِ وَحُمْرَتِهَا فَكَأَنَّ تِلْكَ الرِّقَّةَ عَنْ ضَوْءِ الشَّمْسِ. وَزَعَمَ الْحُكَمَاءُ أَنَّ الْبَيَاضَ لَا يَغِيبُ أَصْلًا. وَقَالَ الْخَلِيلُ: صَعِدْتُ مَنَارَةَ الْإِسْكَنْدَرِيَّةِ فَرَمَقْتُ الْبَيَاضَ، فَرَأَيْتُهُ يَتَرَدَّدُ مِنْ أُفُقٍ إِلَى أُفُقٍ وَلَمْ أَرَهُ يَغِيبُ. وَقَالَ ابْنُ أَبِي اويس: رأيته يتمادى إلى طلوع الفجر
__________
(1). هو لإسحاق بن خلف. وقيل هو لابن المعلى. اللسان.

(19/275)


قَالَ عُلَمَاؤُنَا: فَلَمَّا لَمْ يَتَحَدَّدْ وَقْتُهُ سَقَطَ اعْتِبَارُهُ. وَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ قَالَ: أَنَا أَعْلَمُكُمْ بِوَقْتِ صَلَاةِ الْعِشَاءِ الْآخِرَةِ، كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يصليها لسقوط القمر الثالثة. وَهَذَا تَحْدِيدٌ، ثُمَّ الْحُكْمُ مُعَلَّقٌ بِأَوَّلِ الِاسْمِ. لَا يُقَالُ: فَيُنْقَضُ عَلَيْكُمْ بِالْفَجْرِ الْأَوَّلِ، فَإِنَّا نَقُولُ الْفَجْرُ الْأَوَّلُ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ حُكْمٌ مِنْ صَلَاةٍ وَلَا إِمْسَاكٍ، لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيَّنَ الْفَجْرَ بِقَوْلِهِ وَفِعْلِهِ فَقَالَ:" وَلَيْسَ الْفَجْرُ أَنْ تَقُولَ هَكَذَا- فَرَفَعَ يَدَهُ إِلَى فَوْقِ- وَلَكِنَّ الْفَجْرَ أَنْ تَقُولَ هَكَذَا وَبَسَطَهَا" وَقَدْ مَضَى بَيَانُهُ فِي آيَةِ الصِّيَامِ مِنْ سُورَةِ" الْبَقَرَةِ" «1»، فَلَا مَعْنَى لِلْإِعَادَةِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: الشَّفَقُ: النَّهَارُ كُلُّهُ أَلَا تَرَاهُ قَالَ وَاللَّيْلِ وَما وَسَقَ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ: مَا بَقِيَ مِنَ النَّهَارِ. وَالشَّفَقُ أَيْضًا: الرَّدِيءُ مِنَ الْأَشْيَاءِ، يُقَالُ: عَطَاءٌ مُشَفَّقٍ أَيْ مُقَلَّلٍ قَالَ الْكُمَيْتُ:
مَلِكٌ أَغَرُّ مِنَ الْمُلُوكِ تَحَلَّبَتْ ... لِلسَّائِلِينَ يَدَاهُ غَيْرَ مُشَفِّقِ
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَاللَّيْلِ وَما وَسَقَ) أَيْ جَمَعَ وَضَمَّ وَلَفَّ، وَأَصْلُهُ مِنْ سَوْرَةِ السُّلْطَانِ وَغَضَبِهِ فَلَوْلَا أَنَّهُ خَرَجَ إِلَى الْعِبَادِ مِنْ بَابِ الرَّحْمَةِ مَا تَمَالَكَ الْعِبَادُ لِمَجِيئِهِ وَلَكِنْ خَرَجَ مِنْ بَابِ الرَّحْمَةِ فَمَزَحَ بها، فسكن الخلق إليه ثم اذعروا؟ وَالْتَفُّوا وَانْقَبَضُوا، وَرَجَعَ كُلٌّ إِلَى مَأْوَاهُ فَسَكَنَ فِيهِ مِنْ هَوْلِهِ وَحِشًا، وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ [القصص: 73] أي بالليل وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ [القصص: 73] أَيْ بِالنَّهَارِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ. فَاللَّيْلُ يَجْمَعُ وَيَضُمُّ مَا كَانَ مُنْتَشِرًا بِالنَّهَارِ فِي تَصَرُّفِهِ. هَذَا مَعْنَى قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٍ وَمُقَاتِلٍ وغيرهم، قال ضابئ ابن الْحَارِثِ الْبَرْجُمِيُّ:
فَإِنِّي وَإِيَّاكُمْ وَشَوْقًا إِلَيْكُمْ ... كَقَابِضِ مَاءٍ لَمْ تَسْقِهِ أَنَامِلُهُ
يَقُولُ: لَيْسَ فِي يده من ذلك شي كَمَا أَنَّهُ لَيْسَ فِي يَدِ الْقَابِضِ عَلَى الماء شي، فَإِذَا جَلَّلَ اللَّيْلُ الْجِبَالَ وَالْأَشْجَارَ وَالْبِحَارَ وَالْأَرْضَ فَاجْتَمَعَتْ لَهُ، فَقَدْ وَسَقَهَا. وَالْوَسْقُ: ضَمُّكَ الشَّيْءَ
__________
(1). راجع ج 2 ص 318 فما بعدها.

(19/276)


بَعْضَهُ إِلَى بَعْضٍ، تَقُولُ: وَسَقْتُهُ أَسِقُهُ وَسْقًا. وَمِنْهُ قِيلَ لِلطَّعَامِ الْكَثِيرِ الْمُجْتَمِعِ: وَسْقٌ، وَهُوَ سِتُّونَ صَاعًا. وَطَعَامٌ مُوسَقٌ: أَيْ مَجْمُوعٌ، وَإِبِلٌ مستوسقة أي مجتمعة، قال الراجز «1»:
إن لنا قلائصا حقائقا ... مستوسقات لَوْ يَجِدْنَ سَائِقَا
وَقَالَ عِكْرِمَةُ: وَما وَسَقَ أي وما ساق من شي إِلَى حَيْثُ يَأْوِي، فَالْوَسْقُ بِمَعْنَى الطَّرْدِ، وَمِنْهُ قِيلَ لِلطَّرِيدَةِ مِنَ الْإِبِلِ وَالْغَنَمِ وَالْحُمْرِ: وَسِيقَةٌ، قال الشاعر «2»:
كَمَا قَافَ آثَارَ الْوَسِيقَةِ قَائِفُ

وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: وَما وَسَقَ أَيْ وَمَا جَنَّ وَسَتَرَ. وعنه أيضا: وما حمل، وكل شي حَمَلْتَهُ فَقَدْ وَسَقْتَهُ، وَالْعَرَبُ تَقُولُ: لَا أَفْعَلُهُ مَا وَسَقَتْ عَيْنِي الْمَاءَ، أَيْ حَمَلَتْهُ. وَوَسَقَتِ النَّاقَةُ تَسِقُ وَسْقًا: أَيْ حَمَلَتْ وَأَغْلَقَتْ رَحِمَهَا عَلَى الْمَاءِ، فَهِيَ نَاقَةٌ وَاسِقٌ، وَنُوقٌ وِسَاقٌ مِثْلَ نَائِمٍ وَنِيَامٍ، وَصَاحِبٍ وَصِحَابٍ، قَالَ بِشْرُ بْنُ أَبِي خَازِمٍ:
أَلَظَّ بِهِنَّ يَحْدُوهُنَّ حَتَّى ... تَبَيَّنَتِ الْحِيَالُ مِنَ الْوِسَاقِ
وَمَوَاسِيقُ أَيْضًا. وَأَوْسَقْتُ الْبَعِيرَ: حَمَّلْتُهُ حِمْلَهُ، وَأَوْسَقَتِ النَّخْلَةُ: كَثُرَ حَمْلُهَا. وَقَالَ يَمَانٌ وَالضَّحَّاكُ وَمُقَاتِلُ بْنُ سُلَيْمَانَ: حَمَلَ مِنَ الظُّلْمَةِ. قَالَ مُقَاتِلٌ: أَوْ حَمَلَ مِنَ الْكَوَاكِبِ. الْقُشَيْرِيُّ: وَمَعْنَى حَمَلَ: ضَمَّ وَجَمَعَ، وَاللَّيْلُ يجلل بظلمته كل شي فَإِذَا جَلَّلَهَا فَقَدْ وَسَقَهَا. وَيَكُونُ هَذَا الْقَسَمُ قَسَمًا بِجَمِيعِ الْمَخْلُوقَاتِ، لِاشْتِمَالِ اللَّيْلِ عَلَيْهَا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَلا أُقْسِمُ بِما تُبْصِرُونَ وَما لَا تُبْصِرُونَ [الحاقة: 39 - 38]. وَقَالَ ابْنُ جُبَيْرٍ: وَما وَسَقَ أَيْ وَمَا عُمِلَ فِيهِ، يَعْنِي التَّهَجُّدَ وَالِاسْتِغْفَارَ بِالْأَسْحَارِ، قَالَ الشَّاعِرُ:
وَيَوْمًا تَرَانَا صَالِحِينَ وَتَارَةً ... تَقُومُ بِنَا كالواسق المتلبب
أي كالعامل.
__________
(1). هو العجاج كما في اللسان مادة (وسق).
(2). قائلة الأسود بن يعفر وصدره:
كذبت عليك لا تزال تقوفني

(19/277)


قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ) أَيْ تَمَّ وَاجْتَمَعَ وَاسْتَوَى. قَالَ الْحَسَنُ: اتَّسَقَ: أَيِ امْتَلَأَ وَاجْتَمَعَ. ابْنُ عَبَّاسٍ: اسْتَوَى. قَتَادَةُ: اسْتَدَارَ. الْفَرَّاءُ: اتِّسَاقُهُ: امْتِلَاؤُهُ وَاسْتِوَاؤُهُ لَيَالِيَ الْبَدْرِ، وَهُوَ افْتِعَالٌ مِنَ الْوَسْقِ الَّذِي هُوَ الْجَمْعُ، يُقَالُ: وَسَقْتُهُ فَاتَّسَقَ، كَمَا يُقَالُ: وَصَلْتُهُ فَاتَّصَلَ، وَيُقَالُ: أَمْرُ فُلَانٍ مُتَّسِقٌ: أَيْ مُجْتَمِعٌ عَلَى الصَّلَاحِ مُنْتَظِمٌ. وَيُقَالُ: اتَّسَقَ الشَّيْءُ: إِذَا تَتَابَعَ: (لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ) قَرَأَ أَبُو عُمَرَ وَابْنُ مَسْعُودٍ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَأَبُو الْعَالِيَةِ وَمَسْرُوقٌ وَأَبُو وَائِلٍ ومجاهد والنخعي والشعبي وَابْنُ كَثِيرٍ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ (لَتَرْكَبَنَّ) بِفَتْحِ الْبَاءِ خِطَابًا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَيْ لَتَرْكَبَنَّ يَا مُحَمَّدُ حَالًا بَعْدَ حَالٍ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ. الشَّعْبِيُّ: لَتَرْكَبَنَّ يَا مُحَمَّدُ سَمَاءً بَعْدَ سَمَاءٍ، وَدَرَجَةً بَعْدَ دَرَجَةٍ، وَرُتْبَةً بَعْدَ رُتْبَةٍ، فِي الْقُرْبَةِ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى. ابْنُ مَسْعُودٍ: لَتَرْكَبَنَّ السَّمَاءَ حَالًا بَعْدَ حَالٍ، يَعْنِي حَالَاتِهَا الَّتِي وَصَفَهَا اللَّهُ تَعَالَى بِهَا مِنَ الِانْشِقَاقِ وَالطَّيِّ وَكَوْنِهَا مَرَّةً كَالْمُهْلِ وَمَرَّةً كَالدِّهَانِ. وَعَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنْ عَبْدِ الْأَعْلَى: طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ قَالَ: السَّمَاءُ تُقَلَّبُ حَالًا بَعْدَ حَالٍ. قَالَ: تَكُونُ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ، وَتَكُونُ كَالْمُهْلِ، وَقِيلَ: أَيْ لَتَرْكَبَنَّ أَيُّهَا الْإِنْسَانُ حَالًا بَعْدَ حَالٍ، مِنْ كَوْنِكَ نُطْفَةً ثُمَّ عَلَقَةً ثُمَّ مُضْغَةً ثُمَّ حَيًّا وَمَيِّتًا وَغَنِيًّا وَفَقِيرًا. فَالْخِطَابُ لِلْإِنْسَانِ الْمَذْكُورِ فِي قَوْلِهِ: يَا أَيُّهَا الْإِنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ هُوَ اسْمٌ لِلْجِنْسِ، وَمَعْنَاهُ النَّاسُ. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ لَتَرْكَبُنَّ بِضَمِّ الْبَاءِ، خِطَابًا لِلنَّاسِ، وَاخْتَارَهُ أَبُو عُبَيْدٍ وَأَبُو حَاتِمٍ، قَالَ: لِأَنَّ الْمَعْنَى بِالنَّاسِ أَشْبَهُ مِنْهُ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لِمَا ذُكِرَ قَبْلَ هَذِهِ الْآيَةِ فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ وَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ. أَيْ لَتَرْكَبُنَّ حَالًا بَعْدَ حَالٍ مِنْ شَدَائِدَ الْقِيَامَةِ، أَوْ لَتَرْكَبُنَّ سُنَّةَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ فِي التَّكْذِيبِ وَاخْتِلَاقٍ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ. قُلْتُ: وَكُلُّهُ مُرَادٌ، وَقَدْ جَاءَتْ بِذَلِكَ أَحَادِيثُ «1»، فَرَوَى أَبُو نُعَيْمٍ الْحَافِظُ عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ عَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: (إِنَّ ابْنَ آدَمَ لَفِي غَفْلَةٍ عَمَّا خَلَقَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ، إِنَّ اللَّهَ لَا إِلَهَ غَيْرُهُ إِذَا أَرَادَ خَلْقَهُ قَالَ لِلْمَلَكِ اكْتُبْ رِزْقَهُ وَأَثَرَهُ وَأَجَلَهُ، وَاكْتُبْ شَقِيًّا أَوْ سَعِيدًا، ثُمَّ يَرْتَفِعُ ذَلِكَ الْمَلَكُ، وَيَبْعَثُ اللَّهُ مَلَكًا
__________
(1). راجع ج 17 ص 14.

(19/278)


آخَرَ فَيَحْفَظُهُ حَتَّى يُدْرِكَ، ثُمَّ يَبْعَثُ اللَّهُ مَلَكَيْنِ يَكْتُبَانِ حَسَنَاتِهِ وَسَيِّئَاتِهِ، فَإِذَا جَاءَهُ الْمَوْتُ ارْتَفَعَ ذَانِكَ الْمَلَكَانِ، ثُمَّ جَاءَهُ مَلَكُ الْمَوْتِ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَيَقْبِضُ رُوحَهُ، فَإِذَا أُدْخِلَ حُفْرَتَهُ رَدَّ الرُّوحَ فِي جَسَدِهِ، ثُمَّ يَرْتَفِعُ مَلَكُ الْمَوْتِ، ثُمَّ جَاءَهُ مَلَكَا، الْقَبْرِ فامتحناه، تم يَرْتَفِعَانِ، فَإِذَا قَامَتِ السَّاعَةُ انْحَطَّ عَلَيْهِ مَلَكُ الْحَسَنَاتِ وَمَلَكُ السَّيِّئَاتِ، فَأَنْشَطَا كِتَابًا مَعْقُودًا فِي عُنُقِهِ، ثُمَّ حَضَرَا مَعَهُ، وَاحِدٌ سَائِقٌ وَالْآخَرُ شَهِيدٌ) ثُمَّ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ، فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ [ق: 22] قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ قَالَ: (حَالًا بَعْدَ حَالٍ) ثُمَّ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إِنَّ قُدَّامَكُمْ أَمْرًا عَظِيمًا فَاسْتَعِينُوا بِاللَّهِ الْعَظِيمِ) فَقَدِ اشْتَمَلَ هَذَا الْحَدِيثُ عَلَى أَحْوَالٍ تَعْتَرِي الْإِنْسَانَ، مِنْ حِينِ يُخْلَقُ إِلَى حِينِ يُبْعَثُ، وَكُلُّهُ شِدَّةٌ بَعْدَ شِدَّةٍ، حَيَاةٌ ثُمَّ مَوْتٌ، ثُمَّ بَعْثٌ ثُمَّ جَزَاءٌ، وَفِي كُلِّ حَالٍ مِنْ هَذِهِ شَدَائِدٌ. وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (لَتَرْكَبُنَّ «1» سُنَنَ مَنْ قَبْلَكُمْ شِبْرًا بشبرا، وذراعا بذراع، حتى لو دخلوا حجر ضَبٍّ لَدَخَلْتُمُوهُ) قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى؟ قَالَ: فَمَنْ؟ خَرَّجَهُ الْبُخَارِيُّ: وَأَمَّا أَقْوَالُ الْمُفَسِّرِينَ، فَقَالَ عِكْرِمَةُ: حَالًا بَعْدَ حَالٍ، فَطِيمًا بَعْدَ رَضِيعٍ، وَشَيْخًا بَعْدَ شَبَابٍ، قَالَ الشَّاعِرُ:
كَذَلِكَ الْمَرْءُ إِنْ يُنْسَأْ لَهُ أَجَلٌ ... يَرْكَبْ عَلَى طَبَقٍ مِنْ بَعْدِهِ طَبَقُ
وَعَنْ مَكْحُولٍ: كُلُّ عِشْرِينَ عَامًا تَجِدُونَ أَمْرًا لَمْ تَكُونُوا عَلَيْهِ: وَقَالَ الْحَسَنُ: أَمْرًا بَعْدَ أَمْرٍ، رَخَاءً بَعْدَ شِدَّةٍ، وَشِدَّةً بَعْدَ رَخَاءٍ، وَغِنًى بَعْدَ فَقْرٍ، وَفَقْرًا بَعْدَ غِنًى، وَصِحَّةً بَعْدَ سُقْمٍ، وَسُقْمًا بَعْدَ صِحَّةٍ: سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: مَنْزِلَةً بَعْدَ مَنْزِلَةٍ، قَوْمٌ كَانُوا فِي الدُّنْيَا مُتَّضِعِينَ فَارْتَفَعُوا فِي الْآخِرَةِ، وَقَوْمٌ كَانُوا فِي الدُّنْيَا مُرْتَفِعِينَ فَاتَّضَعُوا فِي الْآخِرَةِ: وَقِيلَ: مَنْزِلَةً عَنْ مَنْزِلَةٍ، وَطَبَقًا عَنْ طَبَقٍ «2»، وَذَلِكَ، أَنَّ مَنْ كَانَ عَلَى صَلَاحٍ دَعَاهُ إِلَى صَلَاحِ فَوْقِهِ، وَمَنْ كَانَ عَلَى فَسَادٍ دَعَاهُ إِلَى فَسَادٍ فوقه، لان كل شي يَجْرِي إِلَى شَكْلِهِ: ابْنُ زَيْدٍ: وَلَتَصِيرُنَّ مِنْ طَبَقِ الدُّنْيَا إِلَى طَبَقِ الْآخِرَةِ: وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الشَّدَائِدُ وَالْأَهْوَالُ: الْمَوْتُ، ثُمَّ الْبَعْثُ، ثُمَّ العرض،
__________
(1). رواية البخاري (لتتبعن) بدل (لتركبن).
(2). في ا، ح، ط، ل: طبقة.

(19/279)


وَالْعَرَبُ تَقُولُ لِمَنْ وَقَعَ فِي أَمْرٍ شَدِيدٍ: وَقَعَ فِي بَنَاتِ طَبَقٍ، وَإِحْدَى بَنَاتِ طَبَقٍ، وَمِنْهُ قِيلَ لِلدَّاهِيَةِ الشَّدِيدَةِ: أُمُّ طَبَقٍ، وَإِحْدَى بَنَاتِ طَبَقٍ: وَأَصْلُهَا مِنَ الْحَيَّاتِ، إِذْ يُقَالُ لِلْحَيَّةِ أُمُّ طَبَقٍ لِتَحْوِيَهَا: وَالطَّبَقُ فِي اللُّغَةِ: الْحَالُ كَمَا وَصَفْنَا، قَالَ الْأَقْرَعُ بْنُ حَابِسٍ التَّمِيمِيُّ:
إِنِّي امْرُؤٌ قَدْ حَلَبْتُ الدَّهْرَ أَشْطُرَهُ ... وَسَاقَنِي طَبَقٌ مِنْهُ إِلَى طَبَقِ
وَهَذَا أَدَلُّ دَلِيلٍ عَلَى حُدُوثِ الْعَالَمِ، وَإِثْبَاتِ الصَّانِعِ، قَالَتِ الْحُكَمَاءُ: مَنْ كَانَ الْيَوْمَ عَلَى حَالَةٍ، وَغَدًا عَلَى حَالَةٍ أُخْرَى فَلْيَعْلَمْ أَنَّ تَدْبِيرَهُ إِلَى سِوَاهُ: وَقِيلَ لِأَبِي بَكْرٍ الْوَرَّاقِ: مَا الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ لِهَذَا الْعَالَمِ صَانِعًا؟ فَقَالَ: تَحْوِيلُ الْحَالَاتِ، وَعَجْزُ الْقُوَّةِ، وَضَعْفُ الْأَرْكَانِ، وَقَهْرُ النِّيَّةِ: وَنَسْخُ الْعَزِيمَةِ: وَيُقَالُ: أَتَانَا طَبَقٌ مِنَ النَّاسِ وَطَبَقٌ مِنَ الْجَرَادِ: أَيْ جَمَاعَةٌ: وَقَوْلُ الْعَبَّاسِ فِي مَدْحِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
تُنْقَلُ مِنْ صَالِبٍ إِلَى رَحِمٍ ... إِذَا مَضَى عَالَمٌ بَدَا طَبَقُ
أَيْ قَرْنٌ مِنَ النَّاسِ. يَكُونُ طِبَاقَ الْأَرْضِ أَيْ مِلْأَهَا. وَالطَّبَقُ أَيْضًا: عَظْمٌ رَقِيقٌ يَفْصِلُ بَيْنَ الْفَقَارَيْنِ. وَيُقَالُ: مَضَى طَبَقٌ مِنَ اللَّيْلِ، وَطَبَقٌ مِنَ النَّهَارِ: أَيْ مُعْظَمٌ مِنْهُ. وَالطَّبَقُ: وَاحِدُ الْأَطْبَاقِ، فَهُوَ مُشْتَرَكٌ. وقرى (لَتَرْكَبِنَّ) بِكَسْرِ الْبَاءِ، عَلَى خِطَابِ النَّفْسِ وَ" ليركبن" بالياء على ليركبن الإنسان. وعَنْ طَبَقٍ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى أَنَّهُ صِفَةٌ لِ طَبَقاً أَيْ طَبَقًا مُجَاوِزًا لِطَبَقٍ. أَوْ حَالٌ مِنَ الضَّمِيرِ فِي لَتَرْكَبُنَّ أَيْ لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا مُجَاوِزِينَ لِطَبَقٍ، أَوْ مُجَاوِزًا أَوْ مُجَاوَزَةً عَلَى حَسَبِ الْقِرَاءَةِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: (فَما لَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) يعني أي شي يمنعهم من الايمان بعد ما وَضَحَتْ لَهُمُ الْآيَاتُ وَقَامَتِ الدَّلَالَاتُ. وَهَذَا اسْتِفْهَامُ إِنْكَارٍ. وَقِيلَ: تَعَجُّبٌ أَيِ اعْجَبُوا مِنْهُمْ فِي تَرْكِ الْإِيمَانِ مَعَ هَذِهِ الْآيَاتِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَإِذا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لَا يَسْجُدُونَ) أَيْ لَا يُصَلُّونَ. وَفِي الصَّحِيحِ: أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ قَرَأَ إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ فَسَجَدَ فِيهَا، فَلَمَّا انْصَرَفَ أَخْبَرَهُمْ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَجَدَ فِيهَا. وَقَدْ قَالَ مَالِكٌ: إِنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ عَزَائِمَ السُّجُودِ، لِأَنَّ [الْمَعْنَى «1»]
__________
(1). [المعنى]: ساقطة من ا، ح، و.

(19/280)


بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ (22) وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُوعُونَ (23) فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (24) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (25)

لَا يُذْعِنُونَ وَلَا يُطِيعُونَ فِي الْعَمَلِ بِوَاجِبَاتِهِ. ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَالصَّحِيحُ أَنَّهَا مِنْهُ، وَهِيَ رِوَايَةُ الْمَدَنِيِّينَ عَنْهُ، وَقَدِ اعْتَضَدَ فِيهَا الْقُرْآنُ وَالسُّنَّةُ. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: لَمَّا أَمَمْتُ بِالنَّاسِ تَرَكْتُ قِرَاءَتَهَا، لِأَنِّي إِنْ سَجَدْتُ أَنْكَرُوهُ، وَإِنْ تَرَكْتُهَا كَانَ تَقْصِيرًا مِنِّي، فَاجْتَنَبْتُهَا إِلَّا إِذَا صَلَّيْتُ وَحْدِي. وَهَذَا تَحْقِيقُ وَعْدِ الصَّادِقِ بِأَنْ يَكُونَ الْمَعْرُوفُ مُنْكَرًا، وَالْمُنْكَرُ مَعْرُوفًا، وَقَدْ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَائِشَةَ: (لَوْلَا حِدْثَانُ قَوْمِكِ بِالْكُفْرِ لَهَدَمْتُ الْبَيْتَ، وَلَرَدَدْتُهُ عَلَى قَوَاعِدِ إِبْرَاهِيمَ). وَلَقَدْ كَانَ شَيْخُنَا أَبُو بَكْرِ الْفِهْرِيُّ يَرْفَعُ يَدَيْهِ عِنْدَ الرُّكُوعِ، وَعِنْدَ الرَّفْعِ مِنْهُ، وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَيَفْعَلُهُ الشِّيعَةُ، فَحَضَرَ عِنْدِي يَوْمًا فِي مَحْرَسِ ابْنِ الشَّوَّاءِ بِالثَّغْرِ- مَوْضِعِ تَدْرِيسِي- عِنْدَ صَلَاةِ الظُّهْرِ، وَدَخَلَ الْمَسْجِدَ مِنْ الْمَحْرَسِ الْمَذْكُورِ، فَتَقَدَّمَ إِلَى الصَّفِّ وَأَنَا فِي مُؤَخَّرِهِ قَاعِدًا عَلَى طَاقَاتِ الْبَحْرِ، أَتَنَسَّمُ الرِّيحَ مِنْ شِدَّةِ الْحَرِّ، وَمَعِي فِي صَفٍّ وَاحِدٍ أَبُو ثِمْنَةُ رَئِيسُ الْبَحْرِ وَقَائِدُهُ، مَعَ نَفَرٍ مِنْ أَصْحَابِهِ يَنْتَظِرُ الصَّلَاةَ، وَيَتَطَلَّعُ عَلَى مَرَاكِبَ تَخْتِ الْمِينَاءِ، فَلَمَّا رَفَعَ الشَّيْخُ يَدَيْهِ فِي الرُّكُوعِ وَفِي رَفْعِ الرَّأْسِ مِنْهُ قَالَ أَبُو ثِمْنَةَ وَأَصْحَابُهُ: أَلَا تَرَوْنَ إِلَى هَذَا الْمَشْرِقِيِّ كَيْفَ دَخَلَ مَسْجِدَنَا؟ فَقُومُوا إِلَيْهِ فَاقْتُلُوهُ وَارْمُوا بِهِ إِلَى الْبَحْرِ، فَلَا يَرَاكُمْ أَحَدٌ. فَطَارَ قَلْبِي مِنْ بَيْنِ جَوَانِحِي وَقُلْتُ: سُبْحَانَ اللَّهِ هَذَا الطُّرْطُوشِيُّ فَقِيهُ الْوَقْتِ. فَقَالُوا لِي: وَلِمَ يَرْفَعُ يَدَيْهِ؟ فَقُلْتُ: كَذَلِكَ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَفْعَلُ، وَهَذَا مَذْهَبُ مَالِكٍ، فِي رِوَايَةِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ عَنْهُ. وَجَعَلْتُ أُسْكِنُهُمْ وَأُسْكِتُهُمْ حَتَّى فَرَغَ مِنْ صَلَاتِهِ، وَقُمْتُ مَعَهُ إِلَى الْمَسْكَنِ مِنَ الْمَحْرَسِ، وَرَأَى تَغَيُّرَ وَجْهِي، فَأَنْكَرَهُ، وَسَأَلَنِي فَأَعْلَمْتُهُ، فَضَحِكَ وَقَالَ: وَمِنْ أَيْنَ لِي أَنْ أُقْتَلَ عَلَى سُنَّةٍ؟ فَقُلْتُ لَهُ: وَلَا يَحِلُّ لَكَ هَذَا، فَإِنَّكَ بَيْنَ قَوْمٍ إِنْ قُمْتَ بِهَا قَامُوا عَلَيْكَ وَرُبَّمَا ذَهَبَ دَمُكَ. فَقَالَ: دَعْ هَذَا الْكَلَامَ، وَخُذْ فِي غيره.

[سورة الانشقاق (84): الآيات 22 الى 25]
بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ (22) وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يُوعُونَ (23) فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (24) إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (25)

(19/281)


قَوْلُهُ تَعَالَى: (بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ) مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَا جَاءَ بِهِ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: نَزَلَتْ فِي بَنِي عَمْرِو بْنِ عُمَيْرٍ وَكَانُوا أَرْبَعَةً، فَأَسْلَمَ اثْنَانِ مِنْهُمْ. وَقِيلَ: هِيَ فِي جَمِيعِ الْكُفَّارِ. (وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يُوعُونَ) أَيْ بِمَا يُضْمِرُونَهُ فِي أَنْفُسِهِمْ مِنَ التَّكْذِيبِ. كَذَا رَوَى الضَّحَّاكُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: يَكْتُمُونَ مِنْ أَفْعَالِهِمْ. ابْنُ زَيْدٍ: يَجْمَعُونَ مِنَ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ وَالسَّيِّئَةِ، مَأْخُوذٌ مِنَ الْوِعَاءِ الَّذِي يُجْمَعُ مَا فِيهِ، يُقَالُ: أَوْعَيْتُ الزَّادَ وَالْمَتَاعَ: إِذَا جَعَلْتُهُ فِي الْوِعَاءِ، قَالَ الشَّاعِرُ:
الْخَيْرُ أَبْقَى وَإِنْ طَالَ الزَّمَانُ بِهِ ... وَالشَّرُّ أَخْبَثُ مَا أَوْعَيْتُ مِنْ زَادِ
وَوَعَاهُ أَيْ حَفِظَهُ، تَقُولُ: وَعَيْتُ الْحَدِيثَ أَعِيهِ وَعْيًا، وَأُذُنٌ وَاعِيَةٌ. وَقَدْ تَقَدَّمَ «1». (فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ) أَيْ مُوجِعٍ فِي جَهَنَّمَ عَلَى تَكْذِيبِهِمْ. أَيِ اجعل ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ الْبِشَارَةِ. (إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ، كَأَنَّهُ قَالَ: لَكِنَّ الَّذِينَ صَدَّقُوا بِشَهَادَةٍ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ، أَيْ أَدَّوُا الْفَرَائِضَ الْمَفْرُوضَةَ عَلَيْهِمْ لَهُمْ أَجْرٌ أَيْ ثَوَابٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ أَيْ غَيْرُ مَنْقُوصٍ وَلَا مَقْطُوعٍ، يُقَالُ: مَنَنْتُ الْحَبْلَ: إِذَا قَطَعْتُهُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ «2». وَسَأَلَ نَافِعُ بْنُ الْأَزْرَقِ ابْنَ عَبَّاسٍ عَنْ قَوْلِهِ: (لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ) فَقَالَ: غَيْرُ مَقْطُوعٍ. فَقَالَ: هَلْ تَعْرِفُ ذَلِكَ الْعَرَبُ؟ قَالَ: نَعَمْ قَدْ عَرَفَهُ أَخُو يَشْكُرَ حَيْثُ يَقُولُ «3»:
فَتَرَى خَلْفَهُنَّ مِنْ سُرْعَةِ الرَّجْ ... - عِ مَنِينًا كَأَنَّهُ أَهْبَاءُ
قَالَ الْمُبَرِّدُ: الْمَنِينُ: الْغُبَارُ، لِأَنَّهَا تَقْطَعُهُ وَرَاءَهَا. وَكُلُّ ضَعِيفٍ مَنِينٌ وَمَمْنُونٌ. وَقِيلَ: غَيْرُ مَمْنُونٍ لَا يُمَنُّ عَلَيْهِمْ بِهِ. وَذَكَرَ نَاسٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّ قَوْلَهُ: إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ ليس استثناء، وَإِنَّمَا هُوَ بِمَعْنَى الْوَاوِ، كَأَنَّهُ قَالَ: وَالَّذِينَ آمَنُوا. وَقَدْ مَضَى فِي" الْبَقَرَةِ" «4» الْقَوْلُ فِيهِ والحمد لله. تمت سورة الانشقاق.
__________
(1). راجع ج 18 ص (263)
(2). راجع ج 15 ص 341.
(3). تقدم هذا البيت بلفظ:
فترى حتفها من الرجع وال- ع منينا ...

إلخ.
(4). راجع ج 2 ص 169. [ ..... ]

(19/282)