تفسير الماوردي النكت والعيون

كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (180) فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَمَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (181) فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (182)

{كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيرا الوصية للوالدين والأقربين بالمعروف حقا على المتقين فمن بدله بعد ما سمعه فإنما إثمه على الذين يبدلونه إن الله سميع عليم فمن خاف من موص جنفا أو إثما فأصلح بينهم فلا إثم عليه إن الله غفور رحيم} قوله عز وجل: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ} أي فرض عليكم , وقوله: {إِذَا حَضَرَ} ليس يريد به ذكر الوصية عند حلول الموت , لأنه في شغل عنه , ولكن تكون العطية بما تقدم من الوصية عند حضور الموت , ثم قال تعالى: {إِن تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ} , والخير: المال في قول الجميع , قال مجاهد: الخير في القرآن كله المال. {إِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ}

(1/231)


[العاديات: 8] أي المال , {إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَن ذِكْرِ رَبَّي} [ص: 32] {فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهمِْ خَيْراً} [النور: 33] وقال شعيب: {إِنِّي أرَاكُم بِخَيْرٍ} [هود: 84] يعني الغنى والمال. واختلف أهل العلم في ثبوت حكم هذه الآية , فذهب الجمهور من التابعين والفقهاء إلى أن العمل بها كان واجباً قبل فرض المواريث لئلا يضع الرجل ماله في البُعَدَاء طلباً للسمعة والرياء , فلما نزلت آية المواريث في تعيين المستحقين , وتقدير ما يستحقون , نسخ بها وجوب الوصية ومنعت السنّة من جوازها للورثة , وقال آخرون: كان حكمها ثابتاً في الوصية للوالدين , والأقربين حق واجب , فلما نزلت آي المواريث وفرض ميراث الأبوين نسخ بها الوصية للوالدين وكل وارث , وبقي فرض الوصية للأقربين الذين لا يرثون على حالة , وهذا قول الحسن , وقتادة , وطاوس , وجابر بن زيد. فإن أوصى بثُلُثهِ لغير قرابته , فقد اختلف قائلو هذا القول في حكم وصيته على ثلاثة مذاهب: أحدها: أن يرد ثلث الثلث على قرابته ويكون ثلثا الثلث لمن أوصى له به , وهذا قول قتادة. والثاني: أن يرد ثلثا الثلث على قرابته ويكون ثلثا الثلث لمن أوصى له به , وهذا قول جابر بن زيد. والثالث: أنه يريد الثلث كله على قرابته , وهذا قول طاوس. واختلف في قدر المال الذي يجب عليه أن يوصي منه على ثلاثة أقاويل: أحدها: أنه ألف درهم , تأويلاً لقوله تعالى: {إِن تَرَكَ خَيْراً} أن الخير ألف درهم وهذا قول عليّ. والثاني: من ألف درهم إلى خمسمائة درهم , وهذا قول إبراهيم النخعي. والثالث: أنه غير مقدر وأن الوصية تجب في قليل المال وكثيره , وهذا قول الزهري. ثم قال تعالى: {بِالْمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى الْمُتَّقِينَ} يحتمل قوله بالمعروف وجهين:

(1/232)


أحدهما: بالعدل الوسط الذي لا بخس فيه ولا شطط. والثاني: يعني بالمعروف من ماله دون المجهول. وقوله تعالى: {حَقّاً عَلَى الْمُتَّقِينَ} يعني بالتقوى من الورثة أن لا يسرف , والأقربين أن لا يبخل , قال ابن مسعود: الأجل فالأجل , يعني الأحوج فالأحوج. وغاية ما لا سرف فيه: الثلث , لقول النبي صلى الله عليه وسلم (الثلث والثلث كثير). وروى الحسن أن أبا بكر وعمر رضي الله عنهما وصّياً بالخمس وقالا يوصي بما رضي الله لنفسه ,: بالخمس , وكان يقول: الخمس معروف , والربع جهد , والثلث غاية ما تجيزه القضاة. ثم قال تعالى: {فَمَن بَدَّلَهُ بَعْدَمَا سَمِعَهُ} يعني فَمَنْ غَيَّرَ الوَصِيَّةَ بعدما سمعها , وإنما جُعِلَ اللفظ مذكراً وإن كانت الوصية مؤنثة لأنه أراد قول المُوصِي , وقوله مذكر. {فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ} أي يسمعونه ويَعْدِلون به عن مستحقه , إما ميلاً أو خيانة , وللميت أجر قصده وثواب وصيته , وإن غُيّرت بعده. قوله تعالى: {إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلَيمٌ} أي سميع لقول الموصِي , عليم بفعل الوصي. قوله عز وجل: {فَمَنْ خَافَ مِن مُّوصٍ جَنَفاً أَوْ إِثْماً فَأَصْلَحَ بَينَهُم} اختلف المفسرون في تأويل ذلك , على خمسة أقاويل: أحدها: أن تأويله فمن حضر مريضاً , وهو يوصي عند إشرافه على الموت , فخاف أن يخطئ في وصيته , فيفعل ما ليس له أو أن يتعمد جَوْراً فيها , فيأمر بما ليس له , فلا حرج على من حضره فسمع ذلك منه , أن يصلح بينه وبين ورثته , بأن يأمره بالعدل في وصيته , وهذا قول مجاهد.

(1/233)


والثاني: أن تأويلها فمن خاف من أوصياء الميت جنفاً في وصيته , فأصلح بين ورثته وبين المُوصَى لهم فيما أُوصِيَ به لهم حتى رد الوصية إلى العدل , فلا إثم عليه , وهذا قول ابن عباس , وقتادة. والثالث: أن تأويلها فمن خاف من موص جنفاً أو إثماً في عطيته لورثته عند حضور أجله , فأعطى بعضاً دون بعض , فلا إثم عليه أن يصلح بين ورثته في ذلك , وهذا قول عطاء. والرابع: أن تأويلها فمن خاف من موصٍ جنفاً , أو إثماً في وصيته لغير ورثته , بما يرجع نفعه إلى ورثته فأصلح بين ورثته , فلا إثم عليه , وهذا قول طاووس. والخامس: أن تأويلها فمن خاف من موصٍ لآبائه وأقربائه جنفاً على بعضهم لبعض , فأصلح بين الآباء والأقرباء , فلا إثم عليه , وهذا قول السدي. وفي قوله تعالى: {جَنَفاً أَوْ إِثْماً} تأويلان: أحدهما: أن الجنف الخطأ , والإثم العمد , وهذا قول السدي. والثاني: أن الجنف الميل , والإثم أن يكون قد أثم في أَثَرةِ بعضهم على بعض , وهذا قول عطاء وابن زيد. والجنف في كلام العرب هو الجَوْرُ والعُدُولِ عن الحق , ومنه قول الشاعر:
(هم المولى وهمْ جنفوا علينا ... وإنا من لقائهمُ لَزُورُ)

(1/234)


يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (183) أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (184)

{يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون أياما معدودات فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر وعلى الذين يطيقونه فدية طعام

(1/234)


مسكين فمن تطوع خيرا فهو خير له وأن تصوموا خير لكم إن كنتم تعلمون} قوله عز وجل: {يَأَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ} بمعنى فرض عليكم الصيام , والصيام من كل شيء الإمساك عنه , ومن قوله تعالى: {إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْماً} أي صمتاً , لأنه إمساك عن الكلام , وذم أعرابي قوماً فقال: يصومون عن المعروف ويقصون على الفواحش , وأصله مأخوذ من صيام الخيل , وهو إمساكها عن السير والعلف , قال النابغة الذبياني:
(خيلٌ صيامٌ وخيلٌ غيرُ صائمةٍ ... تحت العجاج وأخرى تعلك اللُّجما)
ولذلك قيل لقائم الظهيرة: قد صام النهار , لإبطاء الشمس فيه عن السير , فصارت بالإبطاء كالممسكة عنه , قال الشاعر:
(فدعها وسَلِّ الهمَّ عنك بجَسْرةٍ ... ذمولٍ إذا صام النهار وهجّرا)
إلا أن الصيام في الشرع: إنما هو إمساك عن محظورات الصيام في زمانه , فجعل الصيام من أوكد عباداته وألزم فروضه , حتى روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (يَقُولُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: كُلُّ عَمَلِ ابنِ آدَمَ لَهُ إِلاَّ الصَّومَ فَإِنَّهُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ , وَلَخَلُوفُ فَمِ الصَّائِمِ أَطْيَبُ عِندَ اللهِ مَن رِيحِ المِسْكَ). وإنما اختص الصوم بأنه له , وإن كان كل العبادات له , لأمرين بَايَنَ الصومُ بِهِمَا سائِرَ الْعِبَادَاتِ: أحدهما: أن الصوم منع من مَلاَذِّ النفس وشهواتها , ما لا يمنع منه سائر العبادات. والثاني: أن الصوم سر بين العبد وربه لا يظهر إلا له , فلذلك صار مختصاً به , وما سواه من العبادات ظاهر , ربما فعله تصنّعاً ورياء , فلهذا صار أخص بالصوم من غيره.

(1/235)


ثم قال تعالى: {كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ} وفيه ثلاثة أقاويل: أحدها: أنهم النصارى , وهو قول الشعبي والربيع وأسباط. والثاني: أنهم أهل الكتاب , وهو قول مجاهد. والثالث: أنهم جميع الناس , وهو قول قتادة. واختلفوا في موضع التشبيه بين صومنا , وصوم الذين من قبلنا , على قولين: أحدهما: أن التشبيه في حكم الصوم وصفته , لا في عدده لأن اليهود يصومون من العتمة إلى العتمة , ولا يأكلون بعد النوم شيئاً , وكان المسلمون على ذلك في أول الإسلام , لا يأكلون بعد النوم شيئاً حتى كان من شأن عمر بن الخطاب وأبي قيس بن صرمة ما كان , فأجلّ الله تعالى لهم الأكل والشرب , وهذا قول الربيع بن أنس , وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (بَيْنَ صَومِنَا وَصَومِ أهلِ الْكِتَابِ أَكْلَةُ السَّحَرِ). والقول الثاني: أن التشبيه في عدد الصوم , وفيه قولان: أحدهما: أن النصارى كان الله فرض عليهم صيام ثلاثين يوماً كما فرض علينا , فكان ربما وقع في القيظ , فجعلوه في الفصل بين الشتاء والصيف , ثم كفّروه بصوم عشرين يوماً زائدة , ليكون تمحيصاً لذنوبهم وتكفيراً لتبديلهم , وهذا قول الشعبي. والثاني: أنهم اليهود كان عليهم صيام ثلاثة أيام من كل يوم عاشوراء , وثلاثة أيام من كل شهر , فكان على ذلك سبعة عشر شهراً إلى أن نسخ بصوم رمضان , قال ابن عباس: كان أول ما نسخ شأن القبلة والصيام الأول. وفي قوله تعالى: {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} قولان: أحدهما: لعلكم تتقون ما حرم عليكم في الصيام , من أكل الطعام , وشرب الشراب , ووطء النساء , وهو قول أبي جعفر الطبري.

(1/236)


والثاني: معناه أن الصوم سبب يؤول بصاحبه إلى تقوى الله , لما فيه من قه النفس , وكسر الشهوة , وإذهاب الأشر , وهو معنى قول الزجاج. قوله عز وجل: {أَيَّاماً مَعْدُودَاتٍ} فيها قولان: أحدهما: أنها أيام شهر رمضان التي أبانها من بعد , وهو قول ابن أبي ليلى وجمهور المفسرين. والثاني: أنها صيام ثلاثة أيام من كل شهر , كانت مفروضة قبل صيام شهر رمضان , ثم نسخت به , وهو قول ابن عباس , وقتادة وعطاء , وهي الأيام البيض من كل شهر , وفيها وجهان: أحدهما: أنه الثاني عشر وما يليه. الوجه الثاني: أنها الثالث عشر وما يليه , وهو أظهر الوجهين , لأن أيام الشهر مجزأة عند العرب عشرة أجزاء , كل جزء منها ثلاثة أيام , تختص باسم , فأولها ثلاث غرر , ثم ثلاث شهب , ثم ثلاث بهر , ثم ثلاث عشر , ثم ثلاث بيض , ثم ثلاث درع , والدرع هو سواد مقدم الشاة , وبياض مؤخرها , فقيل لهذه الثلاث درع , لأن القمر يغيب في أولها , فيصير ليلها درعاً , لسواد أوله , وبياض آخره , ثم ثلاث خنس , لأن القمر يخنس فيها , أي يتأخر , ثم ثلاث دهم , وقيل حنادس لإظلامها , ثم ثلاث فحم , لأن القمر يتفحم فيها , أي يطلع آخر الليل , ثم ثلاث رادي , وهي آخر الشهر , مأخوذة من الرادة , أن تسرع نقل أرجلها حتى تضعها في موضع أيديها. وقد حكى أبو زيد , وابن الأعرابي , أنهم جعلوا للقمر في كل ليلة من ليالي العشر اسماً , فقالوا ليلة عتمة سخيلة حل أهلها برميلة , وابن ليلتين حديث مين مكذب ومبين , ورواه ابن الأعرابي كذب ومين , وابن ثلاث قليل اللباث , وابن أربع عتمة ربع لا جائع ولا مرضع , وابن خمس حديث وأنس , وابن ست سِرْ وبِتْ , وابن سبع دلجة الضبع , وابن ثمان قمر إضحيان , وابن تسع انقطع الشسع. وفي رواية غير أبي زيد: يلتقط فيه الجزع , وابن عشر ثلث الشهر , عن أبي زيد وعن غيره , ولم يجعل له فيما زاد عن العشر اسماً مفرداً.

(1/237)


واختلفوا في الهلال متى يصير قمراً , فقال قوم يسمى هلالا لليلتين , ثم يُسَمَّى بعدها قمراً , وقال آخرون يسمى هلالاً إلى ثلاث , ثم يسمى بعدها قمراً , وقال آخرون يسمى هلالاً إلى ثلاث , ثم يسمى بعدها قمراً , وقال آخرون يسمى هلالاً حتى يحجر , وتحجيره أن يستدير بِخَطَّةٍ دقيقة , وهو قول الأصمعي , وقال آخرون يسمى هلالاً إلى أن يبهر ضوؤه سواد الليل , فإذا بهر ضوؤه يسمى قمراً , وهذا لا يكون إلا في الليلة السابعة. [ثم عدنا إلى تفسير ما بقي من الآية]. قوله تعالى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُم مَّرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ} يعني مريضاً لا يقدر مع مرضه على الصيام , أو على سفر يشق عليه في سفره الصيام. {فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} فيه قولان: أحدهما: أنه مع وجود السفر , يلزمه القضاء سواء صام في سفره أو أفطر , وهذا قول داود الظاهري. والثاني: أن في الكلام محذوفاً وتقديره: فأفطر فعدة من أيام أخر , ولو صام في مرضه وسفره لم يعد , لكون الفطر بهما رُخْصَة لا حتماً , وهذا قول الشافعي , ومالك , وأبي حنيفة , وجمهور الفقهاء. ثم قال تعالى: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهٌ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} هكذا قرأ أكثر القراء , وقرأ ابن عباس , ومجاهد: {وَعَلَى الَّذِينَ لاَ يَطِيقُونَهُ فدية} , وتأويلها: وعلى الذين يكلفونه , فلا يقدرون على صيامه لعجزهم عنه , كالشيخ والشيخة والحامل والمرضع , فدية طعام مسكين , ولا قضاء عليهم لعجزهم عنه. وعلى القراءة المشهورة فيها تأويلان: أحدهما: أنها وردت في أول الإسلام , خيّر الله تعالى بها المطيقين للصيام من الناس كلهم بين أن يصوموا ولا يكفروا , وبين أن يفطروا ويكفروا كل يوم بإطعام مسكين , ثم نسخ ذلك بقوله تعالى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} , وقيل بل نسخ بقوله: {وَأَنْ تَصُومُوا خَيرٌ لَّكُم} , وهذا قول ابن عمر , وعكرمة , والشعبي , والزهري , وعلقمة , والضحاك.

(1/238)


والثاني: أن حكمها ثابت , وأن معنى قوله تعالى: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ} أي كانوا يطيقونه في حال شبابهم , وإذا كبروا عجزوا عن الصوم لكبرهم أن يفطروا , وهذا سعيد بن المسيب , والسدي. ثم قال تعالى: {فَمَنْ تَطَوَّعَ خيراً فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ} فيه تأويلان: أحدهما: فمن تطوع بأن زاد على مسكين واحد فهو خير له وهذا قول ابن عباس ومجاهد وطاووس والسدي. والثاني: فمن تطوع بأن صام مع الفدية فهو خير له وهذا قول الزهري ورواية ابن جريج عن مجاهد. ثم قال تعالى: {وَاَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَّكُم} يحتمل تأويلين: أحدهما: أن الصوم في السفر خير من الفطر فيه والقضاء بعده. والثاني: أن الصوم لمطيقه خير وأفضل ثواباً من التكفير لمن أفطر بالعجز. {إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} يحتمل وجهين: أحدهما: إن كنتم تعلمون ما شَرَّعْتُه فيكم وَبَيَّنْتُه من دينكم. والثاني: إن كنتم تعلمون فضل أعمالكم وثواب أفعالكم.

(1/239)


شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (185)

{شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان فمن شهد منكم الشهر فليصمه ومن كان مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر ولتكملوا العدة ولتكبروا الله على ما هداكم ولعلكم تشكرون} قوله تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْءَانُ} أما الشهر فمأخوذ من الشهرة , ومنه قيل قد شهر فلان سيفه , إذا أخرجه , وأما رمضان فإن بعض أهل اللغة يزعم أنه سمي بذلك , لشدة ما كان يوجد فيه من الحر حتى ترمض فيه الفصال , كما قيل لشهر الحج ذو الحجة , وقد كان شهر رمضان يسمى في الجاهلية ناتقاً.

(1/239)


وأما مجاهد فإنه كان يكره أن يقال رمضان , ويقول لعله من أسماء الله عز وجل. وفي إنزاله قولان: أحدهما: أن الله تعالى أنزل القرآن جملة واحدة من اللوح المحفوظ إلى سماء الدنيا في شهر رمضان في ليلة القدر منه , ثم أنزله على نبيه صلى الله عليه وسلم , على ما أراد إِنْزَالَهُ عليه. روى أبو مسلم عن وائلة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: نزلت صحف إبراهيم أول ليلة من رمضان , وأُنْزِلتِ التوراةُ لست مضين من رمضان , وأُنْزِلَ الإنجيلُ لثلاث عشرة خلت من رمضان , وأُنْزِلَ القرآن لأربع وعشرين من رمضان. والثاني: أنه بمعنى أنزل القرآن في فرض صيامه , وهو قول مجاهد. قوله تعالى: {هُدًى لِلنَّاسِ} يعني رشاداً للناس. {وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ} أي بينات من الحلال والحرام , وفرقان بين الحق والباطل. {فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} الشهر لا يغيب عن أحد , وفي تأويله ثلاثة أقاويل: أحدها: فمن شهد أول الشهر , وهو مقيم فعليه صيامه إلى آخره , وليس له

(1/240)


أن يفطر في بقيته , وهذا قول عليّ , وابن عباس , والسدي. والثاني: فمن شهد منكم الشهر , فليصم ما شهد منه وهو مقيم دون ما لم يشهده في السفر , وهذا قول سعيد بن المسيب والحسن البصري. والثالث: فمن شهد بالغاً عاقلاً مُكَلَّفاً فليصمه , ولا يسقط صوم بقيته إذا جُن فيه , وهذا قول أبي حنيفة , وصاحبيه. {وَمَن كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرْ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} وإنما أعاد ذكر الفطر بالمرض والسفر مع قرب ذكره من قبل , لأنه في حكم تلك الآية منسوخاً , فأعاد ذكره , لِئَلاَّ يصير بالمنسوخ مقروناً , وتقديره فمن كان مريضاً أو على سفر في شهر رمضان فأفطر , فعليه عدة ما أفطر منه , أن يقضيه من بعده. واختلفوا في المرض الذي يجوز معه الفطر في شهر رمضان , على ثلاثة مذاهب: أحدها: أنه كل مرضٍ لم يطق الصلاة معه قائماً , وهذا قول الحسن البصري. والثاني: أنه المرض الذي الأغلب من أمر صاحبه بالصوم الزيادة في علته زيادة غير محتملة , وهو قول الشافعي. والثالث: أنه كل مرض انطلق عليه اسم المرض , وهو قول ابن سيرين. فأما السفر , فقد اختلفوا فيه على ثلاثة مذاهب: أحدها: أنه ما انطلق اسم السفر من طويل أو قصير , وهذا قول داود. والثاني: أنه مسيرة ثلاثة أيام , وهو قول أبي حنيفة. واختلفوا في وجوب الفطر فيه على قولين: أحدهما: أنه واجب وهو قول ابن عباس. والثاني: أنه مباح , وهو قول الجمهور. ثم قال تعالى: {يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} قال ابن

(1/241)


عباس: اليسر الإفطار , والعسر الصيام في السفر , ونحوه عن مجاهد وقتادة. {وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّة} يعني عدة ما أفطر ثم في صيام شهر رمضان بالقضاء في غيره. {ولِتُكّبِّرُوا اللهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ} قيل إنه تكبير الفطر من أول الشهر. وقوله: {عَلَى مَا هَدَاكُمْ} يعني من صيام شهر رمضان , ويحتمل أن يكون على عموم ما هدانا إليه من دينه. {وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} يحتمل وجهين: أحدهما: تشكرون على هدايته لكم. والثاني: على ما أنعم به من ثواب طاعته , والله أعلم.

(1/242)


وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ (186)

{وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون} قوله تعالى: {وَإذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ} اختلف أهل التأويل في سبب نزول هذه الآية , على أربعة أقاويل: أحدها: أنها نزلت في سائل سأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد أقريبٌ ربنا فنناجيه , أم بعيد فنناديه؟ فأُنْزِلَتْ هذه الآية , وهو قول الحسن البصري. والثاني: أنها نزلت في قوم سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أي ساعة يدعون الله فيها , وهذا قول عطاء والسدي. والثالث: أنها نزلت جواباً لقوم قالوا: كيف ندعو؟ , وهذا قول قتادة. والرابع: أنها نزلت في قوم حين نَزَلَ قولُه تعالى: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} قالوا: إلى أين ندعوه؟ , وهذا قول مجاهد.

(1/242)


وفي قوله تعالى: {قَرِيبٌ} تأويلان: أحدهما: قريب الإجابة. والثاني: قريب من سماع الدعاء. وفي قوله تعالى: {أجيب دعوة الداعِ إذا دعانِ} تأويلان: أحدهما: معناه أسمع دعوة الداعي إذا دعاني , فعبر عن السماع بالإجابة , لأن السماع مقدمة الإجابة. والثاني: أنه أراد إجابة الداعي إلى ما سأل , ولا يخلو سؤال الداعي أن يكون موافقاً للمصلحة أو مخالفاً لها , فإن كان مخالفاً للمصلحة لم تجز الإجابة إليه , وإن كان موافقاً للمصلحة , فلا يخلو حال الداعي من أحد أمرين: إما أن يكون مستكملاً شروط الطلب أو مقصوراً فيها: فإن استكملها جازت إجابته , وفي وجوبها قولان: أحدهما: أنها واجبة لأنها تجري مجرى ثواب الأعمال , لأن الدعاء عبادة ثوابها الإجابة. والثاني: أنها غير واجبة لأنها رغبة وطلب , فصارت الإجابة إليها تفضلاً. وإن كان مقصوراً في شروط الطلب لم تجب إجابته , وفي جوازها قولان: أحدهما: لا تجوز , وهوقول من أوجبها مع استكمال شروطها. والثاني: تجوز , وهو قول من لم يوجبها مع استكمال شروطها. وفي قوله تعالى: {فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي} أربعة تأويلات: أحدها: أن الإستجابة بمعنى الإجابة , يقال استجبت له بمعنى أجبته , وهذا قول أبي عبيدة , وأنشد قول كعب بن سعد الغنوي:
(وداعٍ دَعَا: يا من يجيب إلي الندا ... فلم يستجبه عند ذلك مجيب)
أي فلم يجبه. والثاني: أن الإستجابة طلب الموافقة للإجابة , وهذا قول ثعلب.

(1/243)


والثالث: أن معناه فليستجيبوا إليَّ بالطاعة. والرابع: فليستجيبوا لي , يعني فليدعوني.

(1/244)


أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (187)

{أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم هن لباس لكم وأنتم لباس لهن علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم فتاب عليكم وعفا عنكم فالآن باشروهن وابتغوا ما كتب الله لكم وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر ثم أتموا الصيام إلى الليل ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد تلك حدود الله فلا تقربوها كذلك يبين الله آياته للناس لعلهم يتقون} قوله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إلَى نِسَآئِكُمْ} كان ابن مسعود يقرأ الرفث والرفوث جميعاً , وهو الجماع في قوله , وأصله فاحش القول , كما قال العجاج:
( ... ... ... ... ... ... ... ... . . ... عن اللغا ورفث الكلام)
فيكنى به عن الجماع , لأنه إذا ذُكِرَ في غير موضعه كان فحشاً. وفي قوله تعالى: {هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ} ثلاث تأويلات: أحدها: بمنزلة اللباس , لإفضاء كل واحد منهما إلى صاحبه , يستتر به كالثوب الملبوس , كما قال النابغة الجعدي:
(إذا ما الضجيج ثنى عطفها ... تثنت عليه فصارت لباساً)
والثاني: أنهم لباس يعني السكن لقوله تعالى {وجعلنا الليل لباساً} [النبأ: 10] أي سكناً , وهذا قول مجاهد وقتادة والسدي.

(1/244)


قوله تعالى: {عَلِمَ اللهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتَانُونَ أَنفُسَكُمْ} سبب هذه الخيانة التي كان القوم يختانون أنفسهم , شيئان: أحدهما: إتيان النساء. الثاني: الأكل والشرب , وذلك أن الله تعالى أباح في أول الإسلام الأكل والشرب والجماع في ليل الصيام قبل نوم الإنسان , وحرّمه عليه بعد نومه , حتى جاء عمر بن الخطاب ذات ليلة من شهر رمضان , يريد امرأته , فقالت له: إني قد نمتُ , وظن أنها تعتل عليه , فوقع بها , وجاء أبو قيس ابن صرمة , وكان يعمل في أرض له , فأراد الأكل , فقالت له امرأته: نسخّر لك شيئاً , فغلبته عيناه , ثم أحضرت إليه الطعام , فلم يأكل منه فلما أصبح لاقى جهداً. وأخبر عمر وأبو قيس رسول الله صلى الله عليه وسلم بما كان منهما , فأنزل الله تعالى: {عَلِمَ اللهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتَانُونَ أَنفُسَكُمْ}. {فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنكُمْ} فيه تأويلان: أحدهما: العفو عن ذنوبهم. والثاني: العفو عن تحريم ذلك بعد النوم. ثم قال تعالى: {فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ} يريد به الجماع , لأن أصل المباشرة من إلصاق البشرة بالبشرة , وكان ذلك منه بياناً لما كان في جماع عمر. وفي قوله تعالى: {وَابْتَغُواْ مَا كَتَبَ اللهُ لَكُمْ} ثلاثة أقوال: أحدها: طلب الولد , وهو قول مجاهد , وعكرمة , والسدي. والثاني: ليلة القدْر , وهو قول ابن عباس , وكان يقرأ {وَابْتَغُواْ مَا كَتَبَ اللهُ لَكُمْ}. والثالث: ما أحل الله تعالى لكم ورخص فيه , وهذا قول قتادة. ثم قال تعالى فيما كان من شأن أبي قيس بن صرمة: {وَكُلُواْ واشْرَبُواْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ

(1/245)


لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} اختلف في المراد بالخيط الأبيض والخيط الأسود , على ثلاثة أقاويل: أحدها: ما رواه سهل بن سعد قال: لما نزلت {فَكُلُواْ واشْرَبُواْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ} , فكان رجال إذا أرادوا الصوم ربط أحدهم في رجليه الخيط الأبيض والخيط الأسود , فلا يزال يأكل حتى يتبين له رؤيتهما , فأنزل الله تعالى بعدُ {مِنَ الْفَجْرْ} , فعلموا أنه إنما يعني الليل والنهار. والقول الثاني: أنه يريد بالخيط الأبيض ضوء النهار , وهو الفجر الثاني , وبالخيط الأسود سواد الليل قبل الفجر الثاني. وروى الشعبي عن عدي بن حاتم: أنه عند إلى خيطين أبيض وأسود , وجعلهما تحت وسادته , فكان يراعيهما في صومه , ثم أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (إنَّكَ لَعَرِيضُ الْوِسَادِةِ , إِنَّمَا هُوَ بَيَاضُ النَّهَارِ وَسَوَادُ اللَّيلِ). وسُمِّيَ خيطاً , لأن أول ما يبدو من البياض ممتد كالخيط , قال الشاعر:
(الخيط الأبيض ضوء الصبح منفلق ... والخيط الأسْودُ لون الليل مكتومُ)
والخيط في كلامهم عبارة عن اللون. والثالث: ما حكي عن حذيفة بن اليمان أن الخيط الأبيض ضوء الشمس , ورويَ نحوُهُ عن عليّ وابن مسعود. وقد روى زَرٌ بن حبيش عن حذيفة قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يتسحر وأنا أرى مواقع النبل , قال: قلت بعد الصبح؟ قال: هو الصبح إلا أنه لم تطلع الشمس , وهذا قول قد انعقد الإجماع على خلافه , وقد روى سوادة بن حنظلة عن سَمُرة بن جندب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لاَ يَمْنَعَنَّكُم مِنْ سُحُورِكُم أذانُ بِلالٍ وَلاَ الفَجْرُ المُسْتَطِيلُ وَلَكِن الفَجْرُ المُسْتَطِيرُ فِي الأُفُقِ). وروى الحارث بن عبد الرحمن عن محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان

(1/246)


قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (الفَجْرُ فَجْرَانِ , فَالَّذِي كَأَنَّهُ ذَنَبُ السرحانِ لاَ يُحرِّمُ شَيْئاً , وَأَمَّا الْمُسْتَطِيرُ الّذِي يَأْخُذُ الأُفُقَ فَإِنَّهُ يُحِلُّ الصَّلاَةَ وَيُحَرِّمُ الطَّعَامَ). فأما الفجر , فإنه مصدر من قولهم فَجَرَ الماءُ يَفْجُرُ فَجْراً , إذا جرى وانبعث , فلذلك قيل للطالع من تباشير ضياء الشمس من مطلعها: (فجر) لانبعاث ضوئه , فيكون زمان الصوم المجمع على تحريم الطعام والشراب فيه وإباحته فيما سواه: ما بين طلوع الفجر الثاني وغروب الشمس. روى عطاء عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (أَعْظَمُ الصَّائِمينَ أَجْراً أَقْرَبُهُم منَ اللَّيلِ وَالنَّهَارِ إِفْطَاراً). {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيلِ} يعني به غروب الشمس. وفي قوله تعالى: {وَلاَ تُبَاشِرُوهُنََّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} تأويلان: أحدهما: عني بالمباشرة الجماع , وهو قول الأكثرين.

(1/247)


والثاني: ما دون الجماع من اللمس والقبلة , قاله ابن زيد ومالك. {تِلْكَ حُدُودُ اللهِ} أي ما حرم , وفي تسميتها حدود الله وجهان: أحدهما: لأن الله تعالى حدها بالذكر والبيان. والثاني: لما أوجبه في أكثر المحرمات من الحدود. وقوله تعالى: {كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُءَيَاتِهِ لِلنَّاسِ} فيه وجهان: أحدهما: يعني بآياته علامات متعبداته. والثاني: أنه يريد بالآيات هنا الفرائض والأحكام.

(1/248)


وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (188)

{ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل وتدلوا بها إلى الحكام لتأكلوا فريقا من أموال الناس بالإثم وأنتم تعلمون} {وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ} فيه تأويلان: أحدهما: بالغصب والظلم. والثاني: بالقمار والملاهي. {وَتُدْلُواْ بِهَآ إِلَى الْحُكَّامِ} مأخوذ من إدلاء الدلو إذا أرسلته. ويحتمل وجهاً ثانياً معناه: وتقيموا الحجة بها عند الحاكم , من قولهم: قد أدلى بحجته إذا قام بها. وفي هذا المال قولان: أحدهما: أنه الودائع وما لا تقوم به بينة من سائر الأموال التي إذا جحدها , حكم بجحوده فيها. والثاني: أنها أموال اليتامى التي هو مؤتمي عليها. {لِتَأْكُلُواْ فَرِيقاً مِّنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِاْلإِثْمِ} يحتمل وجهين: أحدهما: لتأكلوا بعض أموال الناس بالإثم , فعبر عن البعض بالفريق. والثاني: على التقديم والتأخير , وتقديره: لتأكلوا أموال فريق من الناس بالإثم.

(1/248)


وفي (أكله) ثلاثة أوجه: أحدها: بالجحود. والثاني: بشهادة الزور. والثالث: برشوة الحكام. {وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} يحتمل وجهين: أحدهما: وأنتم تعلمون أنها للناس. والثاني: وأنتم تعلمون أنها إثم. قال مقاتل: نزلت هذه الآية في امرئ القيس الكندي , وعبدان بن ربيعة الحضرمي , وقد اختصما في أرض كان عبدان فيها ظالماً وامرؤ القيس مظلوماً , فأراد أن يحلف , فنزلت هذه الآية , فكفّ عن اليمين.

(1/249)


يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (189)

{يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها ولكن البر من اتقى وأتوا البيوت من أبوابها واتقوا الله لعلكم تفلحون} قوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَيِ الأَهِلَّةِ} سبب نزولها , أن معاذ بن جبل وثعلبة بن غَنَمة , وهما من الأنصار , سألا النبي صلى الله عليه وسلم عن زيادة الأهلة ونشأتها , فنزلت هذه الآية , وأُخِذَ اسم الهلال من استهلال الناس برفع أصواتهم عند رؤيته , والمواقيت: مقادير الأوقات لديونهم وحجهم , ويريد بالأهلة وشهورها , وقد يعبّر عن الهلال بالشهر لحوله فيه , قال الشاعر:
(أخوان من نجدٍ على ثقةٍ ... والشهرُ مثلُ قلامةِ الظُّفرِ)
(حتى تكامل في استدارته ... في أربع زادت على عشر)
ثم قال تعالى: {وَلَيْسَ الْبِّرُّ بِأَن تَأْتُواْ الْبُيُوتَ مِن ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُواْ الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا} فيه ستة أقاويل: أحدها: أن سبب نزول ذلك , ما روى داود عن قيس بن جبير: أن

(1/249)


الناس كانوا إذا أحرموا لم يدخلوا حائطاً من بابه , فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم داراً , وكان رجل من الأنصار يقال له رفاعة بن أيوب , فجاء فتسور الحائط على رسول الله , فلما خرج من باب الدار خرج رفاعة , فقال رسول الله: (مَا حَمَلَكَ عَلَى ذلِكَ؟ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ رَأَيْتُكَ خَرَجْتَ مِنْهُ فَخَرَجْتُ مِنْهُ , فَقَالَ رَسُولُ اللهٍ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ: إنّي رَجُلٌ أَحْمَسُ فَقَالَ: إِنْ تَكُنْ أَحْمَسَ فَدِيْنُنَا وَاحِدٌ) فأنزل الله تعالى: {لَيْسَ البِرُّ} الآية , وهذا قول ابن عباس , وقتادة , وعطاء , وقوله: أحمس يعني من قريش , كانوا يُسَمَّونَ (الحُمْسَ) لأنهم تحمسوا في دينهم أي تشددوا , والحَمَاسَةُ الشدة , قال العجاج:
89 (وكمْ قَطَعْنا مِنْ قِفافٍ حُمْسِ} 9
أي شداد. والقول الثاني: عنى بالبيوت النساء , سُمِّيَتْ بيوتاً للإيواء إليهن , كالإيواء إلى البيوت , ومعناه: لا تأتوا النساء من حيث لا يحل من ظهورهن , وأتوهن من حيث يحل من قُبُلهن , قاله ابن زيد. والثالث: أنه في النسيء وتأخير الحج به , حين كانوا يجعلون الشهر الحلال حراماً بتأخير الحج , والشهر الحرام حلالاً بتأخير الحج عنه , ويكون ذكر البيوت وإتيانها من ظهورها مثلاً لمخالفة الواجب في الحج وشهوره , والمخالفة إتيان الأمر من خلفه , والخلف والظهر في كلام العرب واحد , حكاه ابن بحر. والرابع: أن الرجل كان إذا خرج لحاجته , فعاد ولم ينجح لم يدخل من بابه , ودخل من ورائه , تطيراً من الخيبة , فأمرهم الله أن يأتوا بيوتهم من أبوابها. والخامس: معناه ليس البر أن تطلبوا الخير من غير أهله , وتأتوه من غير بابه , وهذا قول أبي عبيدة.

(1/250)


والقول السادس: أنه مثلٌ ضَربه الله عز وجل لهم , بأن يأتوا البر من وجهه , ولا يأتوه من غير وجهه.

(1/251)


وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (190) وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ (191) فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (192) وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ (193)

{وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين واقتلوهم حيث ثقفتموهم وأخرجوهم من حيث أخرجوكم والفتنة أشد من القتل ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه فإن قاتلوكم فاقتلوهم كذلك جزاء الكافرين فإن انتهوا فإن الله غفور رحيم وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله فإن انتهوا فلا عدوان إلا على الظالمين} قوله تعالى: {وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ} فيها قولان: أحدهما: أنها أول آية نزلت بالمدينة في قتال المشركين , أُمِرَ المسلمون فيها بقتال مَنْ قاتلهم من المشركين , والكف عمن كف عنهم , ثم نُسِخَتْ بسورة براءة , وهذا قول الربيع , وابن زيد. والثاني: أنها ثابتة في الحكم , أُمِرَ فيها بقتال المشركين كافة , والاعتداء الذي نهوا عنه: قتل النساء والولدان , وهذا قول ابن عباس , وعمر بن عبد العزيز , ومجاهد. وفي قوله تعالى: {وَلاَ تَعْتَدُوا} ثلاثة أقاويل: أحدها: أن الاعتداء قتال من لم يقاتل. والثاني: أنه قتل النساء والولدان. والثالث: أنه القتال على غير الدِّين. قوله تعالى: {وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ} يعني حيث ظفرتم بهم , {وَأَخْرِجُوهُم مِّنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ} يعني من مكة. {وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ} يعني بالفتنة الكفر في قول الجميع , وإنما سمي الكفر فتنة , لأنه يؤدي إلى الهلاك كالفتنة.

(1/251)


{وَلاَ تُقَاتِلُوهُمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِن قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ} فيه قولان: أحدهما: أن ذلك منسوخ لأن الله تعالى قد نَهَى عن قتال أهل الحرم إلا أن يبدؤا بالقتال , ثم نُسِخَ ذلك بقوله: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ} , وهذا قول قتادة. والقول الثاني: أنها محكمة وأنه لا يجوز أن نبدأ بقتال أهل الحرم إلا أن يبدأوا بالقتال , وهذا قول مجاهد.

(1/252)


الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (194)

{الشهر الحرام بالشهر الحرام والحرمات قصاص فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم واتقوا الله واعلموا أن الله مع المتقين} قوله تعالى: {الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ} في سبب نزولها قولان: أحدهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم , كان قد أحرم بالعمرة في ذي القعدة سنة ست , فصدّه المشركون عن البيت , فصالحهم على أن يقضي في عامه الآخر , فحل ورجع , ثم اعتمر قاضياً في ذي القعدة سنة سبع , وأحلّت له قريش مكة حتى قضى عمرته. فنزل قوله تعالى: {الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ} يعني ذا القعدة الذي قضى فيه العمرة من عامه وهو من الأشهر الحرم بالشهر الحرام الذي صدوكم فيه , وهو ذو القعدة في العام الماضي , سمي ذو القعدة لقعود العرب فيه عن القتال لحرمته. ثم قال تعالى: {وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ} لأن قريشاً فخرت على رسول الله صلى الله عليه وسلم حين صدّته , فاقتص الله عز وجل له , وهذا قول قتادة والربيع بن زيد. والقول الثاني: أن سبب نزولها أن مشركي العرب , قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: أَنُهِيتَ يا محمد عن قتالنا في الشهر الحرام؟ فقال نعم , فأرادوا أن يقاتلوه في الشهر الحرام , فأنزل الله تعالى: {الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ} أي إن استحلوا قتالكم في الشهر الحرام , فاستحلوا منهم مثل ما استحلوا منكم , وهذا قول الحسن البصري.

(1/252)


وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (195)

{وأنفقوا في سبيل الله ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة وأحسنوا إن الله يحب المحسنين} قوله تعالى: {وَأَنفِقُواْ فِي سَبِيلِ اللهِ} يعني الجهاد. {وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُم إِلى التَّهْلُكَةِ} وفي الباء قولان: أحدهما: أنها زائدة , وتقديره ولا تلقوا أيديكم إلى التهلكة. والقول الثاني: أنها غير زائدة أي ولا تلقوا أنفسكم بأيديكم إلى التهلكة , والتهلكة والهلاك واحد. وفي: {وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُم إِلى التَّهْلُكَةِ} ستة تأويلات: أحدها: أن تتركوا النفقة في سبيل الله تعالى , فتهلكوا بالإثم , وهذا قول بن عباس , وحذيفة. والثاني: أي لا تخرجوا بغير زاد , فتهلكوا بالضعف , وهذا قول زيد ابن أسلم.

(1/253)


والثالث: أي تيأسوا من المغفرة عند ارتكاب المعاصي , فلا تتوبوا , وهذا قول البراء بن عازب. والرابع: أن تتركوا الجهاد في سبيل الله , فتهلكوا , وهذا قول أبي أيوب الأنصاري. والخامس: أنها التقحم في القتال من غير نكاية في العدو , وهذا قول أبي القاسم البلخي. والسادس: أنه عام محمول على جميع ذلك كله , وهو قول أبي جعفر الطبري. ثم قال تعالى: {وَأَحْسِنُواْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} فيه ثلاثة تأويلات: أحدها: أنه عنى به الإحسان في آداء الفرائض , وهو قول بعض الصحابة. والثاني: وأحسنوا الظن بالقَدَرِ , وهو قول عكرمة. والثالث: عُودُوا بالإحسان على مَنْ ليس بيده شيء , وهذا قول زيد بن أسلم.

(1/254)


وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (196)

{وأتموا الحج والعمرة لله فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي ولا تحلقوا رؤوسكم حتى يبلغ الهدي محله فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك فإذا أمنتم فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدي فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم تلك عشرة كاملة ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام واتقوا الله واعلموا أن الله شديد العقاب} قوله تعالى: {وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ للهِ} وقرأ ابن مسعود فيما رواه عنه علقمة: {وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ بِالْبَيتِ} واختلفوا في تأويل إتمامها على خمسة أقاويل: أحدها: يعني وأتموا الحج لمناسكه وسننه , وأتموا العمرة بحدودها وسنتها , وهذا قول مجاهد , وعلقمة بن قيس. والثاني: أن إتمامهما أَنْ تُحْرِمَ بهما من دُوَيْرَةِ أهلك , وهذا قول علي , وطاوس , وسعيد بن جبير. والثالث: أن إتمام العمرة , أن نخدم بها في غير الأشهر الحرم , وإتمام الحج أن تأتي بجميع مناسكه , حتى لا يلزم دم لجبران نقصان , وهذا قول قتادة. والرابع: أن تخرج من دُوَيْرَةِ أهلك , لأجلهما , لا تريد غيرهما من تجارة , ولا مكسب , وهذا قول سفيان الثوري. والخامس: أن إتمامهما واجب بالدخول فيهما , وهذا قول الشعبي , وأبي بردة , وابن زيد , ومسروق. ثم قال تعالى: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا استَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} في هذا الإحصار قولان: أحدهما: أنه كل حابس من عدوّ , أو مرض , أو عذر , وهو قول مجاهد , وقتادة , وعطاء , وأبي حنيفة.

(1/254)


والثاني: أنه الإحصار بالعدوّ , دون المرض , وهو قول ابن عباس , وابن عمر , وأنس بن مالك , والشافعي. وفي {فَمَا استَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} قولان: أحدهما: شاةُ , وهو قول ابن عباس , والحسن , والسدي , وعلقمة , وعطاء , وأكثر الفقهاء. والثاني: بدنة , وهو قول عمر , وعائشة , ومجاهد , وطاوس , وعروة , وجعلوه فيما استيسر من صغار البُدْن وكبارها. وفي اشتقاق الهدي قولان: أحدهما: أنه مأخوذ من الهدية. والثاني: مأخوذ من قولهم هديتُه هَدْياً , إذا سقته إلى طريق سبيل الرشاد. ثم قال تعالى: {وَلاَ تَحْلِقُواْ رُءُوسَكُم حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ}. وفي محل هدي المحصر , ثلاثة أقاويل: أحدها: حيث أُحْصِر من حِلٍ أو حَرَم , وهذا قول ابن عمر , والمِسْوَر بن مخرمة , وهارون بن الحكم , وبه قال الشافعي. والقول الثاني: أنه الحَرَم , وهو قول عليّ , وابن مسعود ومجاهد , وبه قال أبو حنيفة. والقول الثالث: أن مَحِلّهُ أن يتحلل من إحرامه بادئاً نسكه , والمقام على إحرامه إلى زوال إحصاره , وليس للمحرم أن يتحلل بالاحصار بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم , فإن كان إحرامُه بعمرة لم يَفُتْ وإن كان بحج قضاه بالفوات بعد الإحلال منه , وهذا مروي عن ابن عباس , وعائشة , وبه قال مالك. ثم قال تعالى: {فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِّن رَّأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِّن صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} معناه: فحلَقَ , فعليه ذلك.

(1/255)


أما الصيام ففيه قولان: أحدهما: صيام ثلاثة أيام , وهذا قول مجاهد , وعلقمة , وإبراهيم , والربيع , وبه قال الشافعي. والقول الثاني: صيام عشرة أيام كصيام المتمتع , وهو قول الحسن وعكرمة. وأما الصدقة ففيها قولان: أحدهما: ستة مساكين , وهو قول من أوجب صيام ثلاثة أيام. والقول الثاني: إطعام عشرة مساكين , وهو قول من أوجب صيام عشرة أيام. وأما النسك فشاة. ثم قال تعالى: {فَإِذَا أَمِنتُم} وفيه تأويلان: أحدهما: من خوفكم. والثاني: من مرضكم. {فَمَن تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلى الْحَجِّ فَمَا استَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} اختلفوا في هذا المتمتع على ثلاثة أقاويل: أحدها: أنه المُحْصَرُ بالحج , إذا حَلَّ منه بالإحصار , ثم عاد إلى بلده متمتعاً بعد إحلاله , فإذا قضى حجَّه في العام الثاني , صار متمتعاً بإحلالٍ بيْن الإحْرَامَين , وهذا قول الزبير. والثاني: فمن نسخ حَجَّهُ بعمرة , فاستمتع بعمرة بعد فسخ حَجِّهِ , وهذا قول السدي. والثالث: فمن قَدِمَ الحرم معتمراً في أشهر الحج , ثم أقام بمكة حتى أحرم منها بالحج في عامِهِ , وهذا قول ابن عباس , وابن عمر , ومجاهد , وعطاء , والشافعي. وفي {فَمَا استَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} ما ذكرناه من القولين. ثم قال تعالى: {فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّمٍ فِي الْحَجِّ} اختلفوا في زمانها من الحج على قولين:

(1/256)


أحدهما: بعد إحرامه وقبل يوم النحر , وهذا قول علي , وابن عباس , والحسن , ومجاهد , وقتادة , وطاوس , والسدي , وسعيد بن جبير , وعطاء , والشافعي في الجديد. والثاني: أنها أيام التشريق , وهذا قول عائشة , وعروة , وابن عُمر في رواية سالم عنه , والشافعي في القديم. واختلفوا في جواز تقديمها قبل الإحرام بالحج على قولين: أحدهما: لا يجوز , وهذا قول ابن عمر , وابن عباس. والثاني: يجوز. واختلف قائلو ذلك في زمان تقديمه قبل الحج على قولين: أحدهما: عشر ذي الحجة , ولا يجوز قبلها , وهو قول مجاهد , وعطاء. والثاني: في أشهر الحج , ولا يجوز قبلها , وهو قول طاوس. ثم قال تعالى: {وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ} وفي زمانها قولان: أحدهما: إذا رجعتم من حجكم في طريقكم , وهو قول مجاهد. والثاني: إذا رجعتم إلى أهليكم في أمصاركم , وهو قول عطاء , وقتادة , وسعيد بن جبير , والربيع. ثم قال تعالى: {تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ} فيه أربعة تأويلات: أحدها: أنها عشرة كاملة في الثواب كمن أهدى , وهو قول الحسن. والثاني: عشرة كَمَّلَت لكم أجر من أقام على إحرامه فلم يحل منه ولم يتمتع. والثالث: أنه خارج مخرج الخبر , ومعناه معنى الأمر , أي تلك عشرة , فأكملوا صيامها ولا تفطروا فيها. والرابع: تأكيد في الكلام , وهو قول ابن عباس.

(1/257)


ثم قال تعالى: {ذَلِكَ لِمَن لَّمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} وفي حاضريه أربعة أقاويل: أحدها: أنهم أهل الحرم , وهو قول ابن عباس , ومجاهد , وقتادة , وطاوس.

(1/258)


والثاني: أنهم مَن بيْن مكة والمواقيت , وهو قول مكحول , وعطاء. والثالث: أنهم أهل الحَرَمِ ومَنْ قرُب منزله منه , كأهل عرفة , والرجيع , وهو قول الزهري , ومالك. والرابع: أنهم مَن كان على مسافة لا يقصر في مثلها الصلاة , وهو قول الشافعي.

(1/259)


الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ (197)

{الحج أشهر معلومات فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج وما تفعلوا من خير يعلمه الله وتزودوا فإن خير الزاد التقوى واتقون يا أولي الألباب} قوله تعالى: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُوماتٌ} اختلفوا في تأويله على ثلاثة أقاويل: أحدها: أنه شوال , وذو القعدة , وذو الحجة بأسرها , وهذا قول قتادة , وطاوس , ومجاهد , عن ابن عمر وهو مذهب مالك. والثاني: هو شوال , وذو القعدة , وعشرة أيام من ذي الحجة , وهذا قول أبي حنيفة. والثالث: هن شوال وذو القعدة وعشر ليال من ذي الحجة , إلى طلوع الفجر من يوم النحر , وهو قول ابن عباس , ومجاهد , والشعبي , والسدي , ونافع , عن ابن عمر , وعطاء , والضحاك , والشافعي. ثم قال تعالى: {فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ} فيه تأويلان: أحدهما: أنه الإهلال بالتلبية , وهو قول عمر ومجاهد وطاوس. والثاني: أنه الإحرام , وهو قول ابن عباس والحسن وقتادة وعطاء , والشافعي. {فَلاَ رَفَثَ} فيه ثلاثة تأويلات: أحدها: أنه الجماع , وهو قول ابن عمر , والحسن , ومجاهد , وسعيد بن جبير , وعكرمة , وقتادة , والزهري. والثاني: أنه الجماع أو التعرض له بمُوَاعَدَةٍ أو مُدَاعَبَةٍ , وهو قول الحسن البصري. والثالث: أنه الإفْحَاشُ للمرأة في الكرم , كقولك إذا أحللنا فعلنا بك كذا من غير كناية , وهو قول ابن عباس , وطاوس. {وَلاَ فُسُوقَ} فيه خمسة تأويلات: أحدها: أنه فِعْلُ ما نُهِيَ عنه في الإحرام , من قتل صيد , وحلق شَعْر , وتقليم ظفر , وهو قول عبد الله بن عمر. والثاني: أنه السباب , وهو قول عطاء , والسدي. والثالث: أنه الذبح للأصنام , وهو قول عبد الرحمن بن زيد. والرابع: التنابز بالألقاب , وهو قول الضحاك. والخامس: أنه المعاصي كلها , وهو قول ابن عباس , والحسن , ومجاهد , وطاووس. {وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِ} فيه ستة تأويلات: أحدها: هو أن يجادل الرجل صاحبه , يعني يعصيه , وهذا قول ابن عباس ومجاهد. الثاني: هو السباب , وهو قول ابن عمر وقتادة. والثالث: أنه المِرَاءُ والاختلاف فِيمَنْ هو أَبَرُّهُم حَجّاً , وهذا قول محمد بن كعب. والرابع: أنه اختلاف كان يقع بينهم في اليوم الذي يكون فيه حجهم , وهذا قول القاسم بن محمد.

(1/259)


والخامس: أنه اختلافهم في مواقف الحج , أيهم المصيب موقف إبراهيم , وهذا قول ابن زيد. والسادس: أن معناه ألاّ جدال في وقته لاستقراره , وإبطال الشهر الذي كانوا ينسؤونه في كل عام , فربما حجوا في ذي القعدة , وربما حجوا في صفر , وهذا قول أبي جعفر الطبري. وفي قوله تعالى: {وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى} تأويلان: أحدهما: تزوّدوا بالأعمال الصالحة , فإن خير الزاد التقوى. والثاني: أنها نزلت في قوم من أهل اليمن , كانوا يحجون ولا يتزودون , ويقولون: نحن المتوكلون , فنزلت فيهم: {وَتَزَوَّدُوا} , يعني من الطعام.

(1/260)


لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ (198)

{ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم فإذا أفضتم من عرفات فاذكروا الله عند المشعر الحرام واذكروه كما هداكم وإن كنتم من قبله لمن الضالين} قوله تعالى: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِكُمْ} روى ابن عباس قال: كان ذو المجاز وعكاظ متجرين للناس في الجاهلية , فلما جاء الإسلام تركوا ذلك , حتى نزلت: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِكُمْ} وكان ابن الزبير يقرأ {فِي مَواقِيتِ الْحَجِّ}. {فَإِذَآ أَفَضْتُم مِّنْ عَرَفَاتٍ} فيه ثلاثة أقاويل: أحدها: معناه فإذا رجعتم من حيث بَدَأْتُم. والثاني: أن الإفاضة: الدفع عن اجتماع , كفيض الإناء عن امتلاء. والثالث: أن الإفاضة الإسراع من مكان إلى مكان. وفي {عَرَفَاتٍ} قولان: أحدهما: أنها (جمع) عرفة. والثاني: أنها اسم واحد وإن كان بلفظ الجمع. وهذا قول الزجاج.

(1/260)


واختلفوا في تسمية المكان عرفة على أربعة أقاويل: أحدها: أن آدم عرف فيه حواء بعد أن أُهْبِطَا من الجنة. والثاني: أن إبراهيم عرف المكان عند الرؤية , لما تقدم له في الصفة. والثالث: أن جبريل عرَّف فيه الأنبياء مناسكهم. والرابع: أنه سُمِّيَ بذلك لعلو الناس فيه , والعرب تسمي ما علا (عرفة) و (عرفات) , ومنه سُمِّيَ عُرف الديك لعلوه. {فَاذْكُرُواْ اللهَ عِندَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ} والمَشْعَرُ المَعْلَمُ , سُمِّيَ بذلك , لأن الدعاء عنده , والمقام فيه من معالم الحج , وحد المشعر ما بين منى ومزدلفة مِنْ حَد مفضي مَأزمَي عرفة إلى محسر , وليس مأزماً عرفة من المشعر.

(1/261)


ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (199)

{ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس واستغفروا الله إن الله غفور رحيم} قوله تعالى: {ثُمَّ أَفِيضُواْ مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ} فيه قولان: أحدهما: أنها نزلت في قريش , وكانوا يسمون الحمس , لا يخرجون من الحرم في حجهم , ويقفون مزدلفة , ويقولون نحن من أهل الله , فلا نخرج من حرم الله , وكان سائر العرب يقفون بعرفات , وهي موقف إبراهيم عليه السلام , فأنزل الله تعالى: {ثُمَّ أَفِيضُواْ مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ} يعني جميع العرب , وهذا قول عائشة , وعروة , ومجاهد , وقتادة. والقول الثاني: أنها أمر لجميع الخلق من قريش وغيرهم , أن يفيضوا من حيث أفاض الناس , يعني بالناس إبراهيم , وقد يعبر عن الواحد باسم الناس , قال الله تعالى: (الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ) [آل عمران: 173] وكان القائل واحداً , وهو نعيم بن مسعود الأشجعي , وهذا قول الضحاك. وفي قوله تعالى: {وَاسْتَغْفِرُواْ اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} تأويلان: أحدهما: استغفروه من ذنوبكم. والثاني: استغفروه مما كان من مخالفتكم في الوقت والإفاضة.

(1/261)


فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ (200) وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (201) أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ (202)

{فإذا قضيتم مناسككم فاذكروا الله كذكركم آباءكم أو أشد ذكرا فمن الناس من يقول ربنا آتنا في الدنيا وما له في الآخرة من خلاق ومنهم من يقول ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار أولئك لهم نصيب مما كسبوا والله سريع الحساب} قوله تعالى: {فَإذَا قَضَيتُم مَّنَاسِكَكُمْ} أما المناسك , فهي المتعبدات , وفيها ها هنا تأويلان: أحدهما: أنها الذبائح , وهذا قول مجاهد. والثاني: ما أمروا بفعله في الحج , وهذا قول الحسن البصري. وفي قوله تعالى: {فَاذْكُرُواْ اللهَ} تأويلان: أحدهما: أن هذا الذكر هو التكبير في أيام مِنى. والثاني: أنه جميع ما سُنَّ من الأدعية في مواطن الحج كلها. وفي قوله تعالى: {كَذِكْرِكُمْءَابآءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً} ثلاثة تأويلات:

(1/262)


أحدها: أنهم كانوا إذا فرغوا من حجهم في الجاهلية جلسوا في منى حَلَقاً وافتخروا بمناقب آبائهم , فأنزل الله تعالى ذكره {فَاذْكُرُواْ اللهَ كَذِكْرِكُمْءَابآءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً} , وهذا قول مجاهد , وقتادة. والثاني: أن معناه , فاذكروا الله كذكركم الأبناء الصغار للآباء , إذا قالوا: أبَهْ أُمَّه , وهذا قول عطاء , والضحاك. والثالث: أنهم كانوا يدعون , فيقول الواحد منهم: اللهم إن أبي كان عظيم الجفنة , عظيم القبّة , كثير المال , فاعطني مثل ما أعطيته , فلا يذكر غير أبيه , فأُمِرُوا بذكر الله , كذكرهم آباءهم , أو أشد ذكراً , وهو قول السدي. قوله تعالى: {وَمِنْهُم مَّن يَقُولُ رَبَّنَآءَاتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الأَخِرَةِ حَسَنَةً} فيها أربعة تأويلات: أحدها: أنه الحسنة العافية في الدنيا والآخرة , وهو قول قتادة. والثاني: أنها نِعَمُ الدنيا ونِعَمُ الآخرة , وهو قول أكثر أهل العلم. والثالث: أن الحسنة في الدنيا العلمُ , والعبادة , وفي الآخرة الجنة , وهو قول الحسن , والثوري. والرابع: أن الحسنة في الدنيا المال , وفي الآخرة الجنة , وهو قول ابن زيد , والسدي.

(1/263)


وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (203)

{واذكروا الله في أيام معدودات فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه ومن تأخر فلا إثم عليه لمن اتقى واتقوا الله واعلموا أنكم إليه تحشرون} قوله تعالى: {وَاذْكُرُواْ اللهَ فِي أيَّامٍ مَّعْدُودَاتٍ} هي أيام منى قول جميع المفسرين , وإن خالف بعض الفقهاء في أن أشرك بين بعضها وبين الأيام المعلومات. {فَمَن تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلآَ إِثْمَ عَلَيْهِ} يعني تعجل النفْر الأول في اليوم الثاني من أيام منى. {وَمَن تَأَخَّرَ} يعني إلى النفْر الثاني , وهو الثالث من أيام منى. {فَلآَ إِثْمَ عَلَيْهِ} وفي الإثم ها هنا , خمسة تأويلات: أحدها: أن من تعجل فلا إثم عليه في تعجله , ومن تأخر فلا إثم عليه في تأخره , وهذا قول عطاء.

(1/263)


والثاني: أن من تعجل في يومين , فمغفور له , لا إثم عليه , ومن تأخر فمغفور له , لا إثم عليه , وهذا قول ابن مسعود. والثالث: فلا إثم عليه , إن اتّقى فيما بقي من عمره , وهذا قول أبي العالية , والسدي. والرابع: فلا إثم عليه , إن اتقى في قتل الصيد في اليوم الثالث , حتى يحلّوا أيام التشريق , وهذا قول ابن عباس. والخامس: فلا إثم عليه , إن اتقى إصابة ما نُهِي عنه , فيغفر له ما سلف من ذنبه , وهذا قول قتادة. فأما المراد بذكر الله تعالى في الأيام المعدودات , فهو التكبير فيها عقب الصلوات المفروضات , وَاخْتُلِفَ فيه على أربعة مذاهب: أحدها: أنه تكبير من بعد صلاة الصبح , يوم عرفة , إلى بعد صلاة العصر , من آخر أيام التشريق , وهذا قول علي رضي الله عنه , وبه قال من الفقهاء أبو يوسف , ومحمد. والثاني: أنه تكبير من صلاة الفجر , من يوم عرفة , إلى صلاة العصر , من يوم النحر , وهذا قول ابن مسعود , وبه قال من الفقهاء أو حنيفة. والثالث: أنه يكبر من بعد صلاة الظهر , من يوم النحر , إلى بعد صلاة العصر , من آخر أيام التشريق , وهذا قول زيد بن ثابت. والرابع: أنه يكبر من بعد صلاة الظهر , من يوم النحر , إلى آخر صلاة الصبح , من آخر التشريق , وهذا قول عبد الله بن عباس , وعبد الله بن عمر , وبه قال من الفقهاء الشافعي.

(1/264)


وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ (204) وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ (205) وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ (206) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ (207)

{ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا ويشهد الله على ما في قلبه وهو ألد الخصام وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل والله لا يحب الفساد وإذا قيل له اتق الله أخذته العزة

(1/264)


بالإثم فحسبه جهنم ولبئس المهاد ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضات الله والله رؤوف بالعباد} قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةٍ الدُّنْيَا} فيه قولان: أحدهما: يعني من الجميل والخير. والثاني: من حب رسول الله صلى الله عليه وسلم , والرغبة في دينه. {وَيُشْهِدُ اللهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ} فيه ثلاثة تأويلات: أحدها: أن يقول: اللهم اشهد عليّ فيه , وضميره بخلافه. والثاني: معناه: وفي قلبه ما يشهد الله أنه بخلافه. والثالث: معناه: ويستشهد الله على صحة ما في قلبه , ويعلم أنه بخلافه. وهي في قراءة ابن مسعود {وَيَسْتَشْهِدُ اللهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ}. {وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ} والألد من الرجال الشديد الخصومة , وفي الخصام قولان: أحدهما: أنه مصدر , وهو قول الخليل. والثاني: أنه جمع خصيم , وهو قول الزجاج. وفي تأويل: {أَلَدُّ الْخِصَامِ} هنا أربعة أوجه: أحدها: أنه ذو جدال , وهو قول ابن عباس. والثاني: يعني أنه غير مستقيم الخصومة , لكنه معوجها , وهذا قول مجاهد , والسدي. والثالث: يعني أنه كاذب , في قول الحسن البصري. والرابع: أنه شديد القسوة في معصية الله , وهو قول قتادة. وقد روى ابن أبي مليكة , عن عائشة , أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أَبْغَضُ الرِّجَالِ إِلَى اللهِ تَعَالَى الأَلَدُّ الخَصَمُ).

(1/265)


وفيمن قصد بهذه الآية وما بعدها قولان: أحدهما: أنه صفة للمنافق , وهذا قول ابن عباس , والحسن. والثاني: أنها نزلت في الأخنس بن شريق , وهو قول السدي. قوله تعالى: {وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأرْضِ} في قوله تولى تأويلان: أحدهما: يعني غضب , حكاه النقاش. والثاني: انصرف , وهو ظاهر قول الحسن. وفي قوله تعالى: {لِيُفْسِدَ فِيهَا} تأويلان: أحدهما: يفسد فيها بالصد. والثاني: بالكفر. {وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ} فيه تأويلان: أحدهما: بالسبي والقتل. والثاني: بالضلال الذي يؤول إلى السبي والقتل. {وَاللهُ لاَ يُحِبُّ الْفَسَادَ} معناه لا يحب أهل الفساد. وقال بعضهم لا يمدح الفساد , ولا يثني عليه , وقيل أنه لا يحب كونه ديناً وشرعاً , ويحتمل: لا يحب العمل بالفساد. قوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإِثْمِ} فيه تأويلان: أحدهما: معناه دعته العزة إلى فعل الإثم. والثاني: معناه إذا قيل له اتق الله , عزت نفسه أن يقبلها , للإثم الذي منعه منها. قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَآءَ مَرْضَاتِ اللهِ} يشري نفسه أي يبيع , كما قال تعالى: {وَشَرَوهُ بثَمَنٍ بَخْسٍ} [يوسف: 20] أي باعوه , قال

(1/266)


الحسن البصري: العمل الذي باع به نفسه الجهاد في سبيل الله. واخْتُلِفَ فيمن نزلت فيه هذه الآية , على قولين: أحدهما: نزلت في رجل , أمر بمعروف ونهى عن منكر , وقتل , وهذا قول علي , وعمر , وابن عباس. والثاني: أنها نزلت في صُهيب بن سنان اشترى نفسه من المشركين بماله كله , ولحق بالمسلمين , وهذا قول عكرمة.

(1/267)


يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (208) فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (209)

{يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة ولا تتبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدو مبين فإن زللتم من بعد ما جاءتكم البينات فاعلموا أن الله عزيز حكيم} قوله تعالى: {يَأَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُواْ ادْخُلُواْ فِي السلْمِ كَآفَّةً} قرأ ابن كثير , ونافع , والكسائي بفتح السين , والباقون بكسرها , واختلف أهل اللغة في الفتح والكسر , على وجهين: أحدهما: أنهما لغتان تستعمل كل واحدة منهما في موضع الأخرى. والثاني: معناهما مختلف , والفرق بينهما أن السِّلم بالكسر الإسلام , والسَّلم بالفتح المسالمة , من قوله تعالى: {وَإِن جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا} [الأنفال: 61] وفي المراد بالدخول في السلم , تأويلان: أحدهما: الدخول في الإسلام , وهو قول ابن عباس , ومجاهد , والضحاك. والثاني: معناه ادخلوا في الطاعة , وهو قول الربيع , وقتادة. وفي قوله: {كَافَّةً} تأويلان: أحدهما: عائد إلى الذين آمنوا , أن يدخلوا جميعاً في السلم. والثاني: عائد إلى السلم أن يدخلوا في جميعه. {وَلاَ تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيطَانِ} يعني آثاره.

(1/267)


{إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ} فيه تأويلان: أحدهما: مبين لنفسه. والآخر: مبين بعدوانه. واختلفوا فيمن أبان به عدوانه على قولين: أحدهما: بامتناعه من السجود لآدم. والثاني: بقوله: {لأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلاَّ قَلِيلاً} [الإسراء: 62]. واختلفوا فيمن أمر بالدخول في السلم كافة , على ثلاثة أقاويل: أحدها: أن المأمور بها المسلمون , والدخول في السلم العمل بشرائع الإسلام كلها , وهو قول مجاهد , وقتادة. والثاني: أنها نزلت في أهل الكتاب , آمنوا بمن سلف من الأنبياء , فأُمِروا بالدخول في الإسلام , وهو قول ابن عباس , والضحاك. والثالث: أنها نزلت في ثعلبة , وعبد الله بن سلام , وابن يامين , وأسد , وأسيد ابني كعب , وسعيد بن عمرو , وقيس بن زيد , كلهم من يهود قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم: يوم السبت كنا نعظمه ونَسْبِتُ فيه , وإن التوراة كتاب الله تعالى , فدعنا فلنصم نهارنا بالليل , فنزلت هذه الآية , وهو قول عكرمة. قوله تعالى: {فَإِن زَلَلْتُم} فيه ثلاثة تأويلات: أحدها: معناه عصيتم. والثاني: معناه كفرتم. والثالث: إن ضللتم وهذا قول السدي. {مِّن بَعْدِ مَا جَآءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ} فيه أربعة تأويلات: أحدها: أنها حجج الله ودلائله.

(1/268)


والثاني: محمد , وهو قول السدي. والثالث: القرآن , وهو قول ابن جريج. والرابع: الإسلام. {فَاعْلَمُواْ أَنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} يعني عزيز في نفسه , حكيم في فعله.

(1/269)


هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (210)

{هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام والملائكة وقضي الأمر وإلى الله ترجع الأمور} قوله تعالى: {هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ اللهُ فِي ظُلَلٍ مِّنَ الْغَمَامِ وَالمَلاَئِكَةُ} , قرأ قتادة {فِي ظِلاَلٍ الغَمَامِ} وفيه تأويلان: أحدهما: أن معناه إلا أن يأتيهم الله بظلل من الغمام , وبالملائكة. والثاني: إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام.

(1/269)


سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمْ آتَيْنَاهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (211) زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (212)

{سل بني إسرائيل كم آتيناهم من آية بينة ومن يبدل نعمة الله من بعد ما جاءته فإن الله شديد العقاب زين للذين كفروا الحياة الدنيا ويسخرون من الذين آمنوا والذين اتقوا فوقهم يوم القيامة والله يرزق من يشاء بغير حساب} قوله تعالى: {سَلْ بَنِي إِسْرَآءِيل كَمْءَاتَيْنَاهُم منْءَايَةِ بَيِّنَةٍ} ليس السؤال على وجه الاستخبار , ولكنه على وجه التوبيخ. وفي المراد بسؤاله بني إسرائيل , ثلاثة أقاويل: أحدها: أنبياؤهم. والثاني: علماؤهم. والثالث: جميعهم. والآيات البينات: فَلْقُ البحر , والظلل من الغمام , وغير ذلك.

(1/269)


{وَمَن يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللهِ مِن بَعْدِ مَا جَآءَتْهُ} يعني بنعمة الله برسوله صلى الله عليه وسلم. قوله تعالى: {زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا} في الدنيا وتزيينها لهم , ثلاثة أقاويل: أحدها: زينها لهم الشيطان , وهو قول الحسن. والثاني: زينها لهم الذين أغووهم من الإنس والجن , وهو قول بعض المتكلمين. والثالث: أن الله تعالى زينها لهم بالشهوات التي خلقها لهم. {وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَءَامَنُواْ} لأنهم توهموا أنهم على حق , فهذه سخريتهم بضعفة المسلمين. وفي الذي يفعل ذلك قولان: أحدهما: أنهم علماء اليهود. والثاني: مشركو العرب. {وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} يعني أنهم فوق الكفار في الدنيا. {وَاللهُ يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ}. فإن قيل: كيف يرزق من يشاء بغير حساب وقد قال تعالى: {عَطَاءً حِسَاباً} [النبأ: 36] ففي هذا ستة أجوبة: أحدها: أن النقصان بغير حساب , والجزاء بالحساب. والثاني: بغير حساب لسعة ملكه الذي لا يفنى بالعطاء , لا يقدر بالحساب. والثالث: إن كفايتهم بغير حساب ولا تضييق. والرابع: دائم لا يتناهى فيصير محسوباً , وهذا قول الحسن. والخامس: أن الرزق في الدنيا بغير حساب , لأنه يعم به المؤمن والكافر فلا يرزق المؤمن على قدر إيمانه ولا الكافر على قدر كفره. والسادس: أنه يرزق المؤمنين في الآخرة وأنه لا يحاسبهم عليه ولا يَمُنُ عليهم به.

(1/270)


كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (213)

{كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه من بعد ما جاءتهم البينات بغيا بينهم فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم} قوله تعالى: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً} في قوله: {أُمَّةً وَاحِدَةً} خمسة أقاويل: أحدها: أنهم كانوا على الكفر , وهذا قول ابن عباس والحسن. والثاني: أنهم كانوا على الحق , وهو قول قتادة والضحاك. والثالث: أنه آدم كان على الحق إماماً لذريته فبعث الله النبيين في ولده , وهذا قول مجاهد. والرابع: أنهم عشر فرق كانوا بين آدم ونوح على شريعة من الحق فاختلفوا , وهذا قول عكرمة. والخامس: أنه أراد جميع الناس كانوا أمة واحدة على دين واحد يوم استخرج الله ذرية آدم من صلبه , فعرضهم على آدم , فأقروا بالعبودية والإسلام , ثم اختلفوا بعد ذلك. وكان أُبيّ بن كعب يقرأ: {كَانَ الْبَشَرُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللهُ النَّبِيِّيْنَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ}. وهذا قول الربيع وابن زيد. وفي قوله تعالى: {وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ} قولان: أحدهما: في الحق. والثاني: في الكتاب وهو التوراة. {إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ} يعني اليهود. {مِن بَعْدِ مَا جَآءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ} يعني الحجج والدلائل {بَغْيَا بَيْنَهُمْ} مصدر من قول القائل: بغى فلان على فلان , إذا اعتدى عليه. {فَهَدَى اللهُ الَّذِينَءَامَنُواْ لِمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ} فيه ثلاثة أقاويل:

(1/271)


أحدها: أراد الجمعة , لأن أهل الكتاب اختلفوا فيها فضلوا عنها , فجعلها اليهود السبت , وجعلها النصارى الأحد , فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا من الحق بإذنه , فهدى الله الذين آمنوا إليها , وهذا قول أبي هريرة. والثاني: أنهم اختلفوا في الصلاة , فمنهم من يصلي إلى الشرق ومنهم من يصلي إلى بيت المقدس , فهدانا الله للقبلة , وهذا قول ابن زيد. والثالث: أنهم اختلفوا في الكتب المنزلة , فكفر بعضهم بكتاب بعض فهدانا الله للتصديق بجميعها.

(1/272)


أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ (214) يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (215)

{أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله ألا إن نصر الله قريب يسألونك ماذا ينفقون قل ما أنفقتم من خير فللوالدين والأقربين واليتامى والمساكين وابن السبيل وما تفعلوا من خير فإن الله به عليم} قوله تعالى: {يَسْئَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ , قُلْ: مَآأَنفَقْتُم مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ وَاليَتَامَى وَالمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ} فيها قولان: أحدهما: أنها نزلت قبل آية الزكاة في إيجاب النفقة على الأهل والصدقة ثم نسختها آية الزكاة , وهذا قول السدي. والثاني: أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم سألوه عن أموالهم أين يضعونها , فأنزل الله هذه الآية , وهذا قول ابن زيد.

(1/272)


كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (216)

{كتب عليكم القتال وهو كره لكم وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم والله يعلم وأنتم لا تعلمون} قوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ} بمعنى فرض. وفي فرضه ثلاثة أقاويل:

(1/272)


أحدها: أنه على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. والثاني: أنه خطاب لكل أحد من الناس كلهم أبداً حتى يقوم به من فيه كفاية , وهذا قول الفقهاء والعلماء. والثالث: أنه فرض على كل مسلم في عينه أبداً , وهذا قول سعيد بن المسيب. ثم قال تعالى: {وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ} والكرْهُ بالضم إدخال المشقة على النفس من غير إكراه أحد. والكَره بالفتح إدخال المشقة على النفس بإكراه غيره له. ثم فيه قولان: أحدهما: أنه فيه حذفاً وتقديره: وهو ذو كره لكم وهذا قول الزجاج. والثاني: معناه وهو مكروه لكم , فأقام المقدّر مُقامه. ثم في كونه كرهاً تأويلان: أحدهما: وهو كره لكم قبل التعبد وأما بعده فلا. الثاني: وهو كره لكم في الطباع قبل الفرض وبعده. وإنما يحتمل بالتعبد. ثم قال تعالى: {وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ} وفي عسى ها هنا قولان: أحدهما: أنه طمع المشفق مع دخول الشك. والثاني: أنها بمعنى قد. وقال الأصم: {وَعَسَى أن تَكْرَهُوا شَيئاً} من القتال {وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ} يعني في الدنيا بالظفر والغنيمة , وفي الآخرة بالأجر والثواب , {وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئاً} يعني من المتاركة والكف {وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ} , يعني في الدنيا بالظهور عليكم وفي الآخرة بنقصان أجوركم. {وَاللهُ يَعْلَمُ} ما فيه مصلحتكم {وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ}.

(1/273)


يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (217) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (218)

{يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتال فيه كبير وصد عن سبيل الله وكفر به والمسجد الحرام وإخراج أهله منه أكبر عند الله والفتنة

(1/273)


أكبر من القتل ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر فأولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون إن الذين آمنوا والذين هاجروا وجاهدوا في سبيل الله أولئك يرجون رحمة الله والله غفور رحيم} قوله تعالى: {يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الحَرَامِ قَتَالٍ فِيهِ , قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ} والسبب في نزول هذه الآية أن عبد الله بن جحش خرج بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم في سبعة نفر من أصحابه وهم أبو حذيفة بن عتبة بن ربيعة , عكاشة بن محصن , وعتبة بن غزوان , وسهيل بن البيضاء , وخالد ابن البكير , وسعد بن أبي وقاص , وواقد بن عبد الله , وعبدُ الله بن جحش كان أميرهم , فتأخر عن القوم سعد وعتبة ليطلبا بعيراً لهما ضَلَّ , فلقوا عمرو بن الحضرمي فرماه واقد بن عبد الله التميمي بسهم فقتله واستأسر عثمان بن عبد الله والحكم بن كيسان , وغُنِمت العير , وكان ذلك في آخر ليلة من جمادى الآخِرة أو أول ليلة من رجب , فعيرت قريش رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك وقدم عبد الله بن جحش فلامه رسول الله صلى الله عليه وسلم ولامه المسلمون حتى أنزل الله فيه هذه الآية. واختلفوا فيمن سأل عن ذلك على قولين: أحدهما: أنهم المشركون ليعيّروا بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم , واستحلوا قتاله فيه , وهو قول الأكثر. والثاني: أنهم المسلمون سألوا عن القتال في الشهر الحرام ليعلموا حكم ذلك. فأخبرهم الله تعالى: أن الصد عن سبيل الله وإخراج أهل الحرم منه والفتنة أكبر من القتل في الشهر الحرام وفي الحرم , وهذا قول قتادة. واختلفوا في تحريم القتال في الأشهر الحرم هل نسخ أم لا؟ فقال الزهري: هو منسوخ بقوله تعالى: {وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَآفَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً}. وقال عطاء: هو ثابت الحكم , وتحريم القتال فيه باقٍ غير منسوخ , والأول أصح لما

(1/274)


تظاهرت به الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه غزا هوازن بحنين , وثقيفاً بالطائف , وأرسل أبا العاص إلى أوطاس لحرب مَنْ بها من المشركين في بعض الأشهر الحرم , وكانت بيعة الرضوان على قتال قريش في ذي القعدة. وقوله تعالى: {وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ} أي يرجع , كما قال تعالى: {فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصاً} [الكهف: 64] أي رجعا , ومن ذلك قيل: استرد فلان حقه. {فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ} أي بطلت , وأصل الحبوط الفساد , فقيل في الأعمال إذا بطلت حبطت لفسادها. قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَءَامَنُواْ وَالَّذِينَ هَاجَرُواْ} الآية. وسبب نزولها أن قوماً من المسلمين قالوا في عبد الله بن جحش ومن معه: إن لم يكونوا أصابوا في سفرهم وزْراً فليس فيه أجر , فأنزل الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَءَامَنُواْ} يعني بالله ورسوله , {وَالَّذِينَ هَاجَرُواْ} يعني عن مساكنة المشركين في أمصارهم , وبذلك سمي المهاجرون من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم مهاجرين لهجرهم دورهم ومنازلهم كراهة الذل من المشركين وسلطانهم , {وَجَاهَدُواْ} يعني قاتلوا , وأصل المجاهدة المفاعلة من قولهم جهد كذا إذا أكدّه وشق عليه , فإن كان الفعل من اثنين كل واحد منهما يكابد من صاحبه شدة ومشقة قيل فلان يجاهد فلاناً. وأما {فِي سَبِيلِ اللهِ} فطريق الله , وطريقه: دينه. فإن قيل: فكيف قال: {أُوْلَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللهِ} ورحمة الله للمؤمنين مستحقة؟ ففيه جوابان: أحدهما: أنهم لما لم يعلموا حالهم في المستقبل جاز أن يرجوا الرحمة خوفاً أن يحدث من مستقبل أمورهم مالا يستوجبونها معه. والجواب الثاني: أنهم إنما رجوا الرحمة لأنهم لم يتيقنوها بتأدية كل ما أوجبه الله تعالى عليهم.

(1/275)


يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (219) فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (220)

{يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما ويسألونك ماذا ينفقون قل العفو كذلك

(1/275)


يبين الله لكم الآيات لعلكم تتفكرون في الدنيا والآخرة ويسألونك عن اليتامى قل إصلاح لهم خير وإن تخالطوهم فإخوانكم والله يعلم المفسد من المصلح ولو شاء الله لأعنتكم إن الله عزيز حكيم} قوله تعالى: {يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ} الآية: يعني يسألك أصحابك يا محمد عن الخمر والميسر وشربها , وهذه أول آية نزلت فيها. والخمر كل ما خامر العقل فستره وغطى عليه , من قولهم خَمَّرتُ الإناء إذا غطيته , ويقال هو في خُمار الناس وغمارهم يراد به دخل في عُرضهم فاستتر بهم , ومن ذلك أُخذ خمار المرأة لأنه يسترها , ومنه قيل هو يمشي لك الخمر أي مستخفياً , قال العجاج:
(في لامع العِقْبان لا يأتي الخَمَرْ ... يُوجّهُ الأرضَ ويستاق الشّجَرْ)
يعني بقوله لا يأتي الخمر أي لا يأتي مستخفياً لكن ظاهراً برايات وجيوش. فأما الميسر فهو القمار من قول القائل يَسر لي هذا الشيء يَسْراً ومَيْسِراً , فالياسر اللاعب بالقداح ثم قيل للمقامر ياسر ويَسَر كما قال الشاعر:
(فبت كأنني يَسَرٌ غبينٌ ... يقلب بعدما اختلع القداحا)
{قُلْ فِيهِمَآ إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ} قرأ حمزة والكسائي { ... . . كَثِيرٌ} بالثاء. وفي إثمهما تأويلان: أحدهما: أن شارب الخمر يسكر فيؤذي الناس , وإثم الميسر: أن يقامر الرجل فيمنع الحق ويظلم , وهذا قول السدي. والثاني: أن إثم الخمر زوال عقل شاربها إذا سكر حتى يغْرُب عنه معرفة

(1/276)


خالقه. وإثم الميسر: ما فيه من الشغل عن ذكر الله وعن الصلاة , ووقوع العداوة والبغضاء كما وصف الله تعالى: {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيطَانُ أَن يُوقِعَ بَينَكُمً الْعَدَاوَةَ والْبَغْضَاءَ فِي الْخمر والْمَيسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللهِ وَعَنِ الصَّلاَةِ} [المائدة: 90] وهذا قول ابن عباس.

(1/277)


وأما قوله تعالى: {وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ} فمنافع الخمر أثمانها وربح تجارتها , وما ينالونه من اللذة بشربها , كما قال حسان بن ثابت:
(ونشربها فتتركنا ملوكاً ... وأُسْداً ما ينهنهنا اللقاءُ)
وكما قال آخر:
(فإذا شربت فإنني ... رَبُّ الخَورْنق والسدير)
(وإذا صحوتُ فإنني ... ربُّ الشويهة والبعير)
وأما منافع الميسر ففيه قولان: أحدهما: اكتساب المال من غير كدّ. والثاني: ما يصيبون من أنصباء الجزور , وذلك أنهم كانوا يتياسرون على الجزور فإذا أفلح الرجل منهم على أصحابه نحروه ثم اقتسموه أعشاراً على عدة القداح , وفي ذلك يقول أعشى بني ثعلبة:
(وجزور أيسار دعوت إلى الندى ... أوساط مقفرة أخف طلالها)
وهذا قول ابن عباس ومجاهد والسدي. ثم قال تعالى: {وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِن نَّفْعْهِمَا} فيه تأويلان: أحدهما: أن إثمهما بعد التحريم أكبر من نفعهما بعد التحريم , وهو قول ابن عباس. والثاني: أن كلاهما قبل التحريم يعني الإثم الذي يحدث من أسبابهما أكبر من نفعهما , وهو قول سعيد بن جبير. وفي قوله تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ} ستة تأويلات: أحدها: بما فضل عن الأهل , وهو قول أبن عباس. والثاني: أنه الوسط في النفقة ما لم يكن إسرافاً أو إقتاراً , وهو قول الحسن. والرابع: إن العفو أن يؤخذ منهم ما أتوا به من قليل أو كثير , وهو قول مروي عن ابن عباس أيضاً. والخامس: أنه الصدقة عن ظهر غِنى , وهو قول مجاهد. والسادس: أنه الصدقة المفروضة وهو مروي عن مجاهد أيضاً. واختلفوا في هذه النفقة التي هي العفو هل نسخت؟ فقال ابن عباس نسخت بالزكاة. وقال مجاهد هي ثابتة. واختلفوا في هذه الآية هل كان تحريم الخمر بها أو بغيرها؟ فقال قوم من أهل النظر: حرمت الخمر بهذه الآية. وقال قتادة وعليه أكثر العلماء: أنها حرمت بأية المائدة. وروى عبد الوهاب عن عوف عن أبي القُلوص زيد بن علي قال: أنزل الله عز وجل في الخمر ثلاث آيات فأول ما أنزل الله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخمْرِ

(1/278)


والْمِيِسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَاقِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا} , فشربها قوم من المسلمين أو من شاء الله منهم حتى شربها رجلان ودخلا في الصلاة وجعلا يقولان كلاماً لا يدري عوف ما هو , فأنزل الله تعالى: {يا أَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُوا لاَ تَقْرَبُوا الَّصلاة وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} فشربها من شربها منهم وجعلوا يتوقّونها عند الصلاة , حتى شربها فيما زعم أبو القلوص رجل فجعل ينوح على قتلى بدر , وجعل يقول:
(تحيي بالسلامة أم بكرٍ ... وهل لي بعد قومي من سلام)
(ذريني اصطبحْ بكراَ فإني ... رأيت الموت نبّث عن هشام)
(ووديني المغيرة لو فدوه ... بألف من رجال أو سوام)
(وكائن بالطَويَّ طويَّ بدرٍ ... من الشيزي تُكَلّلُ بالسنامَ)
(وكائن بالطَويَّ طويَّ بدر ... من الفتيان والحلل الكرامِ)
قال: فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاء فزعاً يجر رداءه من الفزع حتى انتهى إليه , فلما عاينه الرجل ورفع رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً كان بيده ليضربه , فقال: أعوذ بالله من غضب الله وغضب رسول الله , لا أطعمها أبداً , فأنزل الله في تحريمها {يَا أَيَّهَا الَّذِينَءَآمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيِسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأزْلاَمُ} إلى قوله: {فَهَلْ أَنْتُم مُّنْتَهُونَ} [المائدة: 90 91] فقالوا: انتهينا. وروى موسى عن عمرو عن أسباط عن السدي قال: نزلت هذه الآية: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخمْرِ والْمِيِسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ} فلم يزالوا يشربونها حتى صنع عبد الرحمن بن عوف طعاماً ودعا ناساً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم , منهم علي بن أبي طالب وعمر رضي الله عنهما , فشربوا حتى سكروا , فحضرت الصلاة فأمهم علي بن أبي طالب رضي الله عنه فقرأ: {قُلْ يَأَيُّها الْكَافِرُونَ} [الكافرون: 1] فلم يُقِمْها , فأنزل الله تعالى يشدد في الخمر {يا أيُّهَا الَّذِينَءَآمَنْوا لاَ تَقْرَبُوا الصَّلاَةَ} إلى قوله: {مَا تَقُولُونَ} فكانت لهم حلالاً يشربونها من صلاة الغداة حتى يرتفع النهار أو ينتصف فيقومون إلى صلاة الظهر وهم صاحون , ثم لا يشربونها حتى يصلوا العتمة , ثم يشربونها حتى ينتصف الليل , وينامون ويقومون إلى صلاة الفجر وقد أصبحوا , فلم يزالوا كذلك يشربونها حتى صنع سعد بن أبي وقاص طعاماً ودعا

(1/279)


ناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم رجل من الأنصار , فسوى لهم رأس بعير ثم دعاهم إليه , فلما أكلوا وشربوا من الخمر سكروا وأخذوا في الحديث فتكلم سعد بشيء فغضب الأنصاري فرفع لحى البعير وكسر أنف سعد , فأنزل الله تعالى نسخ الخمر وتحريمها , فقال تعالى: {يَا أَيَّهَا الَّذِينَءَآمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيِسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأزْلاَمُ} [المائدة: 90] إلى قوله: {فَهَلْ أَنْتُم مُّنْتَهُونَ}. قوله تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ: إِصْلاَحٌ لَهُم خَيرٌ} قال المفسرون: لمّا نزلت سورة بني إسرائيل , وقوله تعالى: {وَلاَ تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِاَّلتِي هيَ أَحْسَنُ} , وفي سورة النساء: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ اليَتَامَى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِم نَاراً} تحرج المسلمون أن يخلطوا طعامهم بطعام من يكون عندهم من الأيتام , وكانوا يعزلون طعامهم هم طعامهم , وشرابهم عن شرابهم , حتى ربما فسد طعامهم , فشق ذلك عليهم , فشكوا ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم , فأنزل الله تعالى: {وَإِنَّ تُخَالِطوهُم فَإِخْوَانَكُم} , يعني في الطعام , والشراب , والمساكنة , وركوب الدابة , واستخدام العبد قال الشعبي: فمن خالط يتيماً , فليوسع عليه , ومن خالط بأكل فلا يفعل. {وَاللَّهُ يَعْلَمُ المُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ} قال ابن زيد: الله يعلم حين تخلط مالك بماله , أتريد أن تصلح ماله أو تفسد ماله بغير حق. {وَلَو شَاءَ اللَّهُ لأَعْنَتَكُم} فيه تأويلان: أحدهما: لَشدّد عليكم , وهو قول السدي. والثاني: لجعل ما أصبتم من أموال اليتامى موبقاً , وهو قول ابن عباس. {إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} يعني عزيز في سلطانه وقدرته على الإعنات , حكيم فيما صنع من تدبيره وتركه الإعنات.

(1/280)


وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُولَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (221)

{ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن ولأمة مؤمنة خير من مشركة ولو أعجبتكم ولا تنكحوا المشركين حتى يؤمنوا ولعبد مؤمن خير من مشرك ولو أعجبكم أولئك يدعون إلى النار والله يدعو إلى الجنة والمغفرة بإذنه

(1/280)


ويبين آياته للناس لعلهم يتذكرون} قوله تعالى: {وَلاَ تَنكِحُوا الْمُشرِكاتِ حَتَّى يُؤمِنَّ} اختلفوا فيها على ثلاثة أقاويل: أحدها: أنها في جميع المشركات الكتابيات وغير الكتابيات , وأن حكمها غير منسوخ , فلا يجوز لمسلم أن ينكح مشركة أبداً , وذكر أن طلحة بن عبيد الله نكح يهودية , ونكح حذيفة نصرانية , فغضب عمر بن الخطاب غضباً شديداً , حتى كاد يبطش بهما , فقالا نحن نطلق يا أمير المؤمنين ولا تغضب , فقال: لئن حل طلاقهن لقد حل نكاحهن , ولكن ينزعن منكم صغرَةً قمأةً. والثاني: أنها نزلت مراداً بها مشركات العرب , ومن دان دين أهل الكتاب , وأنها ثابتة لم نسخ شيء منها , وهذا قول قتادة , وسعيد بن جبير. والثالث: أنها عامة في جميع المشركات , وقد نسخ منهن الكتابيات , بقوله تعالى في المائدة: {وَالْمُحْصَنَاتِ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُم} وقد روى الصلت بن بهرام , عن سفيان قال: تزوج حذيفة بن اليمان يهودية , فكتب إليه عمر ابن الخطاب , خلِّ سبيلها , فكتب إليه أتزعم أنها حرام فأخلى سبيلها؟ فقال: لا أزعم أنها حرام , ولكني أخاف أن تقاطعوا المؤمنات منهن , والمراد بالنكاح التزويج , وهو حقيقة في اللغة , وإن كان مجازاً في الوطء , قال الأعشى:
(ولا تقربن جارةً إنّ سِرّها ... عليك حرام فانكحن أو تأبّدا)
أي فتزوج أو تعفف. قوله تعالى: {وَلأَمَةٌ مُؤمِنَةُ خَيرٌ مِنَ مُشرِكَةٍ} يعني ولنكاح أمة مؤمنة , خير من نكاح حرة مشركة من غير أهل الكتاب وإنْ شَرُف نسبها وكَرُم أصلها , قال السدي: نزلت هذه الآية في عبد الله بن رواحة , كانت له أمة سوداء , فلطمها في غضب , ثم ندم , فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره فقال: (ما هي يا عبد الله) قال: تصوم , وتصلي , وتحسن الوضوء , وتشهد الشهادتين , فقال رسول الله: (هَذِه

(1/281)


مُؤمِنَةٌ). فقال ابن رواحة: لأعتقنها ولأتزوجها , ففعل فطعن عليه ناس من المسلمين , فأنزل الله تعالى هذا. {وَلَو أَعجَبَتكُم} يعني جمال المشركة وحسبها ومالها. {وَلاَ تُنكِحُوا المُشرِكِينَ حَتَّى يُؤمِنُوا} هذا على عمومه إجماعاً , لا يجوز لمسلمة أن تنكح مشرك أبداً. روى الحسن عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (نَتَزَوَّجُ نِسَاءَ أهْلِ الكِتَابِ وَلاَ يَتَزَوَّجُونَ نِسَاءَنَا) وفي هذا دليل على أن أولياء المرأة أحق بتزويجها من المرأة.

(1/282)


وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ (222) نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلَاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (223)

{ويسألونك عن المحيض قل هو أذى فاعتزلوا النساء في المحيض ولا تقربوهن حتى يطهرن فإذا تطهرن فأتوهن من حيث أمركم الله إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم وقدموا لأنفسكم واتقوا الله واعلموا أنكم ملاقوه وبشر المؤمنين} قوله تعالى: {وَيَسئَلُونَكَ عَنِ المَحِيضِ قُل هُوَ أَذَىً} قال السدي: السائل كان ثابت بن الدحداح الأنصاري , وكانت العرب ومن في صدر الإسلام من المسلمين يجتنبون مُساكنة الحُيَّض ومؤاكلتهن ومشاربتهن , فسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم , فنزلت هذه الآية , وهذا قول قتادة. وقال مجاهد: كان يعتزلون الحُيَّض في الفرج , ويأتونهن في أدبارهن مدة حيضهن , فأنزلت هذه الآية , والأذى هو ما يؤذي من نتن ريحه ووزره ونجاسته.

(1/282)


{فَاعتَزِلُوا النِسَآءَ فىِ المَحِيضِ} اختلفوا في المراد بالإعتزال على ثلاثة أقاويل: أحدها: اعتزل جميع بدنها أن يباشره بشيء من بدنه , وهذا قول عبيدة السلماني. والثاني: ما بين السرة والركبة , وهذا قول شريح. والثالث: الَفرِج وهذا قول عائشة وميمونه وحفصة وجمهور المفسرين. ثم قال تعالى: {وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطهُرنَ} فيه قراءتان: إحداهما: التخفيف وضم الهاء , وهي قراءة الجمهور , ومعناه بانقطاع الدم وهو قول مجاهد وعكرمة. والثانية: بالتشديد وفتح الهاء , قرأ بها حمزة , والكسائي وعاصم , وفي رواية أبي بكر عنه , ومعناها حتى تغتسل. ثم قال تعالى: {فَإِذَا تَطَهَّرْنَ} يعني بالماء , فيه ثلاثة أقاويل: أحدها: معناه إذا اغتسلن وهو قول ابن عباس وعكرمة والحسن. والثاني: الوضوء , وهو قول مجاهد , وطاوس. والثالث: غسل الفرج. وفي قوله تعالى: {فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللهُ} أربعة تأويلات: أحدها: القُبُل الذي نهى عنه في حال الحيض , وهو قول ابن عباس. الثاني: فأتوهن من قِبَل طهرهن , لا من قِبَل حيضهن , وهذا قول عكرمة , وقتادة. والثالث: فأتوا النساء من قِبَل النكاح لا من قِبَل الفجور , وهذا قول محمد ابن الحنفية. والرابع: من حيث أحل لكم , فلا تقربوهن محرمات , ولا صائمات ولا معتكفات , وهذا قول الأصم. {إِنَّ اللهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ المُطَهَرِينَ} فيه ثلاثة تأويلات:

(1/283)


أحدها: المتطهرين بالماء , وهذا قول عطاء. والثاني: يحب المتطهرين من أدبار النساء أن يأتوها , وهذا قول مجاهد. والثالث: يحب المتطهرين من الذنوب , أن لا يعودوا فيها بعد التوبة منها , وهو محكي عن مجاهد أيضاً. قوله تعالى: {نِسَاؤُكُم حَرثٌ لَكُمْ} أي مزدرع أولادكم ومحترث نسلكم , وفي الحرث كناية عن النكاح , {فَأتُوا حَرثَكُمْ} فانكحوا مزدرع أولادكم. {أَنَّى شِئتُمْ} فيه خمسة تأويلات: أحدها: يعني كيف شئتم في الأحوال , روى عبد الله بن علي أن أناساً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم , جلسوا يوماً ويهودي قريب منهم , فجعل بعضهم يقول: إني لآتي امرأتي وهي مضطجعة , ويقول الآخر إني لآتيها وهي قائمة , ويقول الآخر: إني لآتيها وهي على جنبها , ويقول الآخر إني لآتيها وهي باركة , فقال اليهودي: ما أنتم إلا أمثال البهائم ولكنا إنما نأتيها على هيئة واحدة , فأنزل الله تعالى هذه الآية وهذا قول عكرمة. والثاني: يعني من أي وجه أحببتم في قُبِلها , أو من دُبْرِها في قُبلها. روى جابر أن اليهود قالوا: إن العرب يأتون النساء من أعجازهن , فإذا فعلوا ذلك جاء الولد أحول , فَأَكْذَبَ الله حديثهم وقال: {نِسَاؤُكُم حَرثٌ لَكُمْ فَأتُوا حَرثَكُمْ أَنَّى شِئتُمْ} , وهذا قول ابن عباس , والربيع. والثالث: يعني من أين شئتم وهو قول سعيد بن المسيب وغيره. والرابع: كيف شئتم أن تعزلوا أو لا تعزلوا , وهذا قول سعيد بن المسيب. والخامس: حيث شئتم من قُبُلٍ , أو من دُبُرٍ , رواه نافع , عن ابن عمر وروى عن غيره.

(1/284)


وروى حبيش بن عبد الله الصنعاني , عن ابن عباس أن ناساً من حِمْير أتوا النبي صلى الله عليه وسلم يسألونه عن أشياء , فقال رجل منهم: يا رسول الله: إني رجل أحب النساء , فكيف ترى في ذلك؟ فأنزل الله تعالى في سورة البقرة بيان ما سألوا عنه , فأنزل فيما سأل عنه الرجل: {نِسَاؤُكُم حَرثٌ لَكُمْ فَأتُوا حَرثَكُمْ أَنَّى شِئتُمْ} , فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (مُقْبِلةً وَمُدْبِرةً إِذا كان في الفرج). {وَقَدمِوُاْ لأَنفُسِكم} الخير , وهو قول السدي. والثاني: وقدموا لأنفسكم ذكر الله عز وجل عند الجماع , وهو قول ابن عباس.

(1/285)


وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (224) لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (225)

{ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم أن تبروا وتتقوا وتصلحوا بين الناس والله سميع عليم لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم والله غفور حليم} قوله تعالى: {وَلاَ تَجْعَلُواْ اللَّهَ عُرْضَةً لأَيْمَانِكُمْ} أما العرضة في كلام العرب , فهي القوة والشدة , وفيها ها هنا تأويلان: أحدهما: أن تحلف بالله تعالى في كل حق وباطل , فتتبذل اسمه , وتجعله عُرضة. والثاني: أن معنى عُرضة , أي علة يتعلل بها في بِرّه , وفيها وجهان: أحدهما: أن يمتنع من فعل الخير والإصلاح بين الناس إذا سئل , فيقول عليّ يمين أن لا أفعل ذلك , أو يحلف بالله في الحال فيعتلّ في ترك الخير باليمين , وهذا قول طاووس , وقتادة , والضحاك , وسعيد بن جبير. والثاني: أن يحلف بالله ليفعلن الخير والبر , فيقصد في فعله البر في يمينه , لا الرغبة في فعله.

(1/285)


وفي قوله: {أَن تَبَرُّواْ} قولان: أحدهما: أن تبروا في أيمانكم. والثاني: أن تبروا في أرحامكم. {وَتَتَقُواْ وَتُصْلِحُواْ بَيْنَ النَّاسِ} هو الإصلاح المعروف {وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} سميع لأيمانكم , عليم باعتقادكم. قوله تعالى: {لاَّ يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِالَّلغوِ فيِ أَيْمانِكُم} أما اللغو في كلام العرب , فهو كل كلام كان مذموماً , وفضلا لا معنى له , فهو مأخوذ من قولهم لغا فلان في كلامه إذا قال قبحاً , ومنه قوله تعالى: {وَإِذَا سَمِعُواْ اللَّغْوَ أَعْرَضُواْ عَنْهُ} [القصص: 55]. فأما لغو اليمين التي لا يؤاخذ الله تعالى بها , ففيها سبعة تأويلات: أحدها: ما يسبق به اللسان من غير قصد كقوله: لا والله , وبلى والله , وهو قول عائشة , وابن عباس , وإليه ذهب الشافعي , روى عبد الله بن ميمون , عن عوف الأعرابي , عن الحسن بن أبي الحسن قال: مر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوم ينضلون يعني يرمون , ومع النبي صلى الله عليه وسلم رجل من أصحابه , فرمى رجل من القوم , فقال أصاب والله , أخطأت والله , فقال الذي مع النبي صلى الله عليه وسلم: حنث الرجل يا رسول الله , فقال: (كَلاَّ أَيْمَانُ الرَُمَاةِ لَغُّوٌ وَلاَ كَفَّارَةَ وَلاَ عُقٌوبَةَ). والثاني: أن لغو اليمين , أن يحلف على الشيء يظن أنه كما حلف عليه , ثم يتبين أنه بخلافه , وهو قول أبي هريرة. والثالث: أن لغو اليمين أن يحلف بها صاحبها في حال الغضب على غير عقد قلب ولا عزم , ولكن صلة للكلام , وهو قول طاوس.

(1/286)


وقد روى يحيى بن أبي كثير عن طاووس عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لاَ يَمِينَ فِي غَضَبٍ). والرابع: أن لغو اليمين أن يحلف بها في المعصية , فلا يكفر عنها , وهو قول سعيد بن جبير , ومسروق , والشعبي , وقد روى عمرو بن شعيب , عن أبيه , عن عبد الله بن عمرو , أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (مَنْ نَذَرَ فِيمَا لاَ يَمْلِكُ فَلاَ نَذْرَ لَهُ , وَمَنْ حَلَفَ عَلَى مَعْصِيَةٍ فَلاَ يَمِينَ لَهُ , وَمَنْ حَلَفَ عَلَى قَطِيعَةِ رَحِمٍ فَلاَ يَمِينَ لَهُ). والخامس: أن اللغو في اليمين , إذا دعا الحالف على نفسه , كأن يقول: إن لم أفعل كذا فأعمى الله بصري , أو قلل من مالي , أو أنا كافر بالله , وهو قول زيد بن أسلم. والسادس: أن لغو اليمين هو ما حنث فيه الحالف ناسياً , وهذا قول النخعي. ثم قوله تعالى: {وَلَكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ} فيه ثلاثة تأويلات: أحدها: أن يحلف كاذباً أو على باطل , وهذا قول إبراهيم النخعي. والثاني: أن يحلف عمداً , وهذا قول مجاهد. والثالث: أنه اعتقاد الشرك بالله والكفر , وهذا قول ابن زيد. {وَاللهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ} غفور لعباده , فيما لغوا من أيمانهم , حليم في تركه مقابلة أهل حسنته بالعقوبة على معاصيهم.

(1/287)


لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (226) وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (227)

{للذين يؤلون من نسائهم تربص أربعة أشهر فإن فاؤوا فإن الله غفور رحيم وإن عزموا الطلاق فإن الله سميع عليم} قوله تعالى: {لِّلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِن نِّسَآئِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ} معنى قوله تعالى: {يُؤْلُونَ} أي يقسمون , والألية: اليمين , قال الشاعر:
(كُفِينا مَنْ تعنّت من نِزَار ... وأحلَلْنا إليه مُقسِمينا)
وفي الكلام حذف , تقديره: للذين يؤلون أن يعتزلوا من نسائهم لكنه إنما دل عليه ظاهر الكلام. واختلفوا في اليمن التي يصير بها مولياً على قولين: أحدهما: هي اليمين بالله وحده. والثاني: هل كل عين لزم الحلف في الحنث بها ما لم يكن لازماً له وكلا القولين عن الشافعي. واختلفوا في الذي إذا حلف عليه صار مُولياً على ثلاثة أقاويل: أحدها: هو أن يحلف على امرأته في حال الغضب على وجه الإضرار بها , أن لا يجامعها في فرجها , وأما إن حلف على غير وجه الإضرار , وعلى غير الغضب فليس بمولٍ , وهو قول عليّ , وابن عباس وعطاء. والثاني: هو أن يحلف أن لا يجامعها في فرجها , سواء كان في غضب أو غير غضب , وهو قول الحسن , وابن سيرين , والنخعي , والشافعي. والثالث: هو كل يمين حلف بها في مساءة امرأته على جماع أو غيره , كقوله والله لأسوءنك أو لأغيظنك , وهو قول ابن المسيب , والشعبي , والحكم. ثم قال تعالى: {فَإِن فَاؤُوا} يعني رجعوا , والفيء والرجوع من حال إلى حال , لقوله تعالى: {حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ الله} [الحجرات: 9] أي ترجع , ومنه قول الشاعر:
(ففاءَتْ ولم تَقْضِ الذي أقبلت له ... ومِنْ حَاجَةِ الإنسانِ ما ليْسَ قاضيا)

(1/288)


وفي الفيء ثلاثة تأويلات: أحدها: الجماع لا غير , وهو قول ابن عباس , ومن قال إن المُوِلَي هو الحالف على الجماع دون غيره. والثاني: الجماع لغير المعذور , والنية بالقلب وهو قول الحسن وعكرمة. والثالث: هو المراجعة باللسان بكل غالب أنه الرضا , قاله ابن مسعود , ومن قال إن المُولي هو الحالف على مساءة زوجته. ثم قال تعالى: {فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} وفيه ثلاثة تأويلات: أحدها: أراد غفران الإثم وعليه الكفارة , قاله عليّ وابن عباس وسعيد بن المسيب. والثاني: غفور بتخفيف الكفارة إسقاطها , وهذا قول من زعم أن الكفارة لا تلزم فيما كان الحنث براً , قاله الحسن , وإبراهيم. والثالث: غفور لمأثم اليمين , رحيم في ترخيص المخرج منها بالتفكير , قاله ابن زيد. ثم قال تعالى: {وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاَقَ} الآية. قرأ ابن عباس وإن عزموا السّراح , وفيه ثلاثة تأويلات: أحدها: أن عزيمة الذي لا يفيء حتى تمضي أربعة أشهر فتطلق بذلك. واختلف من قال بهذا في الطلاق الذي يلحقها على قولين: أحدهما: طلقة بائنة , وهو قول عثمان , وعليّ , وابن زيد , وزيد بن ثابت , وابن مسعود , وابن عمر , وابن عباس. والثاني: طلقة رجعية , وهو قول ابن المسيب , وأبي بكر بن عبد الرحمن , وابن شبرمة. الثاني: أن تمضي الأربعة الأشهر , يستحق عليها أن يفيء , أو يطلق , وهو قول عمر , وعلي في رواية عمرو بن سلمة , وابن أبي ليلى عنه , وعثمان في رواية طاووس عنه , وأبي الدرداء وعائشة وابن عمر في رواية نافع عنه. روى سُهَيْلُ بن أبي صالح عن أبيه قال: (سألت اثني عشر رجلاً من

(1/289)


أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم عن الرجل يُولي من امرأته فكلهم يقول: ليس عليه شيء حتى تمضي أربعة أشهر فيوقف , فإن فاء وإلاّ طلق) وهو قول الشافعي , وأهل المدينة. والثالث: ليس الإيلاء بشيء , وهو قول سعيد بن المسيب , في رواية عمرو ابن دينار عنه. وفي قوله تعالى: {فَإِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} تأويلان: أحدهما: يسمع إيلاءه. والثاني: يسمع طلاقه. وفي {عَلِيمٌ} تأويلان: أحدهما: يعلم نيته. والثاني: يعلم صبره.

(1/290)


وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلَاحًا وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (228)

{والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن إن كن يؤمن بالله واليوم الآخر وبعولتهن أحق بردهن في ذلك إن أرادوا إصلاحا ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف وللرجال عليهن درجة والله عزيز حكيم} قوله عز وجل: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قُرُوءٍ} يعني المخليات , والطلاق: التخلية كما يقال للنعجة المهملة بغير راع: طالق , فسميت المرأة المَخْلي سبيلها بما سميت به النعجة المهمل أمرها , وقيل إنه مأخوذ من طلق الفرس , وهو ذهابه شوطاً لا يمنع , فسميت المرأة المُخْلاَةُ طالقاً لأنها لا تمنع من نفسها بعد أن كانت ممنوعة , ولذلك قيل لذات الزوج إنها في حباله لأنها كالمعقولة بشيء , وأما قولهم طَلَقَتْ المرأة فمعناه غير هذا , إنما يقال طَلَقَتْ المرأة إذا نَفَسَتْ , هذا من الطلْق وهو وجع الولادة , والأول من الطَّلاَقِ. ثم قال تعالى: {يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قُرُوءٍ} أي مدة ثلاثة قروء , واختلفوا في الأقراء على قولين: أحدهما: هي الحِيَضُ , وهو قول عمر , وعليّ , وابن مسعود , وأبي

(1/290)


موسى , ومجاهد , وقتادة , والضحاك , وعكرمة , والسدي , ومالك , وأبي حنيفة , وأهل العراق , استشهاداً بقول الشاعر:
(يا رُبَّ ذي صغن عليّ فارض ... له قروءٌ كقروءِ الحائض)
والثاني: هي الأطهار , وهو قول عائشة , وابن عمر , وزيد بن ثابت , والزهري , وأبان بن عثمان , والشافعي , وأهل الحجاز , استشهاداً بقول الأعشى:
(أفي كلِّ عامٍ أنتَ جَاشِمُ غزوةً ... تَشُدُّ لأقصاها عزِيمَ عزائِكَا)
(مُوَرّثَةً مالاً وفي الحيِّ رِفعَةٌ ... لِمَا ضاعَ فيها من قروءِ نِسائكا)
واختلفوا في اشتقاق القرء على قولين: أحدهما: أن القرء الاجتماع , ومنه أخذ اسم القرآن لاجتماع حروفه , وقيل: قد قرأ الطعام في شدقه وقرأ الماء في حوضه إذا جمعه , وقيل: ما قرأتِ الناقة سَلَى قط , أي لم يجتمع رحمها على ولد قط , قال عمرو بن كلثوم:
(تُرِيكَ إذا دَخَلْتَ على خَلاءٍ ... وقد أمنَتْ عُيونُ الكَاشِحِينا)
(ذِرَاعَيْ عَيْطَلٍ أدْمَاءَ بكرِ ... هَجَانَ اللون لم تقرَأْ جَنِينَا)
وهذا قول الأصمعي , والأخفش , والكسائي , والشافعي , فمن جعل القروء اسماً للحيض سماه بذلك , لاجتماع الدم في الرحم , ومن جعله اسماً للطهر فلاجتماعه في البدن. والقول الثاني: أن القرء الوقت , لمجيء الشيء المعتاد مجِيؤه لوقت معلوم , ولإدبار الشيء المعتاد إدباره لوقت معلوم , وكذلك قالت العرب: أَقْرأَتْ حاجة فلان عندي , أي دنا وقتها وحان قضاؤها. وأَقْرَأَ النجم إذا جاء وقت أُفوله , وقرأ إذا جاء وقت طلوعه , قال الشاعر:
(إذا ما الثُّرَيَّا وقد أقَرْأَتْ ... ... ... ... ... ... ... ... )

(1/291)


وقيل: أقرأت الريح , إذا هبت لوقتها , قال الهذلي:
(كَرِهتُ العقْرَ عَقْرَ بني شليل ... إذا لِقَارئِهَا الرِّياح)
يعني هبت لوقتها , وهذا قول أبي عمرو بن العلاء. فمن جعل القرْء اسماً للحيض , فلأنه وقت خروج الدم المعتاد , ومن جعله اسماً للطهر , فلأنه وقت احتباس الدم المعتاد. ثم قال تعالى: {وَلاَ يَحِلُّ لَهُنَّ أَن يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللهُ في أَرْحَامِهِنَّ} فيه ثلاثة تأويلات: أحدها: أنه الحيض , وهو قول عكرمة , والزهري , والنخعي. والثاني: أنه الحمل , قاله عمر وابن عباس. والثالث: أنه الحمل والحيض قاله عمر ومجاهد. {إِن كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} وعيد من الله لهن , واختلف في سبب الوعيد على قولين: أحدهما: لما يستحقه الزوج من الرجعة , وهو قول ابن عباس. والثاني: لإلحاق نسب الوليد بغيره كفعل الجاهلية , وهو قول قتادة. ثم قال تعالى: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ في ذَلِكَ} البعل: الزوج , سُمِّيَ بذلك , لعلوه على الزوجة بما قد ملكه عن زوجيتها ومنه قوله تعالى: {أَتَدْعُونَ بَعْلاً} [الصافات: 125] أي رَبّاً لعلوه بالربوبية , {أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذلِكَ} أي برجعتهن , وهذا مخصوص في الطلاق الرجعي دون البائن. {إِنْ أَرَادُوا إِصْلاَحاً} يعني إصلاح ما بينهما من الطلاق. ثم قال تعالى: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} وفيه ثلاثة تأويلات: أحدها: ولهن من حسن الصحبة والعشرة بالمعروف على أزواجهن , مثل الذي عليهن من الطاعة , فيما أوجبه الله تعالى عليهن لأزواجهن , وهو قول الضحاك.

(1/292)


والثاني: ولهن على أزواجهن من التصنع والتزين , مثل ما لأزواجهن , وهو قول ابن عباس. والثالث: أن الذي لهن على أزواجهن , ترك مضارتهن , كما كان ذلك لأزواجهن , وهو قول أبي جعفر. ثم قال تعالى: {وَلِلرِّجَالِ عَلَيهِنَّ دَرَجَةٌ} وفيه خمسة تأويلات: أحدها: فضل الميراث والجهاد , وهو قول مجاهد. والثاني: أنه الإمْرَةُ والطاعة , وهو قول زيد بن أسلم , وابنه عبد الرحمن. والثالث: أنه إعطاء الصداق , وأنه إذا قذفها لاعنها , وإن قذفته حُدَّتْ , وهو قول الشعبي. والرابع: أفضاله عليها , وأداء حقها إليها , والصفح عما يجب له من الحقوق عليها , وهو قول ابن عباس وقتادة. والخامس: أن جعل له لحْية , وهو قول حميد.

(1/293)


الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (229) فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (230)

{الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئا إلا أن يخافا ألا يقيما حدود الله فإن خفتم ألا يقيما حدود الله فلا جناح عليهما فيما افتدت به تلك حدود الله فلا تعتدوها ومن يتعد حدود الله فأولئك هم الظالمون فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره فإن طلقها فلا جناح عليهما أن يتراجعا إن ظنا أن يقيما حدود الله وتلك حدود الله يبينها لقوم يعلمون} قوله تعالى: {الطَّلاَقُ مَرَّتَانِ} فيه تأويلان: أحدهما: أنه بيان لعدد الطلاق وتقديره بالثلاث , وأنه يملك في الاثنين الرجعة ولا يملكها في الثالثة , وهو قول عروة وقتادة , وروى هشام بن عروة عن أبيه قال: كان الرجل يطلق ناسياً , إنْ راجع امرأته قبيل أن تنقضي عدتها كانت

(1/293)


امرأته , فغضب رجل من الأنصار على امرأته , فقال لها: لا أقربك ولا تختلين مني , قالت له كيف؟ أطلقك فإذا دنا أجلك راجعتك , فشكت زوجها إلى النبي صلى الله عليه وسلم , فأنزل الله تعالى: {الطَّلاَقُ مَرَّتَانِ} الآية. والتأويل الثاني: أنه بيان لسنة الطلاق أن يوقع في كل قول طلقة واحدة , وهو قول عبد الله بن مسعود , وعبد الله بن عباس , ومجاهد. قوله تعالى: {فَإِمْسَاكُ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحُ بِإِحْسَانٍ} فيه تأويلان: الأول: هذا في الطلقة الثالثة , روى سفيان , عن إسماعيل بن سميع , عن أبي رزين قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: الطلاق مرتان فأين الثالثة؟ قال: {فَإِمْسَاكُ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحُ بِإِحْسَانٍ} , وهذا قول عطاء , ومجاهد. والثاني: {فَإِمْسَاكُ بِمَعْرُوفٍ} الرجعة بعد الثانية {أَوْ تَسْرِيحُ بِإِحْسَانٍ} والإمساك عن رجعتها حتى تنقضي العدة , وهو قول السدي , والضحاك. الإحسان هو تأدية حقها , والكف عن أذاها. ثم قال تعالى: {وَلاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَأْخُذُوا مِمَّآءَاتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً} يعني من الصداق {إِلاَّ أَن يَخَافَا أَلاَّ يُقِيَما حُدُودَ اللهِ} قرأ حمزة بضم الياء من يخافا , وقرأ الباقون بفتحها , والخوف ها هنا بمعنى الظن , ومنه قول الشاعر:
(أتاني كلامٌ عن نصيبٍ يقوله ... وما خِفْتُ بالإسلامِ أنك عائبي)
يعني وما ظننت. وفي {أَن يَخَافَا أَلاَّ يُقِيَما حُدُودَ اللهِ} أربعة تأويلات: أحدها: أن يظهر من المرأة النُّشُوز وسوء الخُلُق , وهو قول ابن عباس.

(1/294)


والثاني: أن لا تطيع له أمراً , ولا تبرّ له قَسَماً , وهو قول الحسن , والشعبي. والثالث: هو أن يبدي لسانها أنها له كارهة , وهو قول عطاء. والرابع: أن يكره كل واحد منهما صاحبه , فلا يقيم كل واحد منهما ما أوجب الله عليه من حق صاحبه , وهو قول طاووس , وسعيد بن المسيب , والقاسم بن محمد , روى ثابت بن يزيد , عن عقبة بن عامر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (المُخْتِلعَاتُ والمُنْتَزِعَاتُ هُنَّ المُنَافِقَاتُ). يعني التي تخالع زوجها لميلها إلى غيره. ثم قال تعالى: {فإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللهِ فَلاَ جُنَاحَ عَليهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} فيه قولان: أحدهما: افتدت به نفسها من الصداق وحده من غير زيادة , وهو قول عليّ , وعطاء , والزهري , وابن المسيب , والشعبي , والحكم , والحسن. والقول الثاني: يجوز أن تُخَالِعَ زوجها بالصداق وبأكثر منه , وهذا قول عمر , وابن عباس , ومجاهد , وعكرمة , والنخعي , والشافعي. رَوَى عبد الله بن محمد بن عقيل: أن الرُّبَيِّعَ بنت مُعَوّذ بن عفراء حدثته قالت: كان لي زوج يُقِلُّ عليَ الخبز إذا حضر , ويحرمني إذا غاب , قالت: وكانت مني زَلَّةٌ يوماً فقلت: أنْخَلِعُ منك بكل شيء أملكه , قال: نعم , قالت ففعلت , قالت: فخاصم عمي معاذ بن عفراء إلى عثمان بن عفان , فأجاز الخلع , وأمره أن يأخذ ما دون عقاص الرأس. واختلفوا في نسخها , فَحُكِيَ عن بكر بن عبد الله أن الخلع منسوخ بقوله تعالى: {وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوجٍ وَءَاتَيتُم إِحْدَاهُنَّ قِنْطَاراً فَلاَ تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيئاً} [النساء: 20] وذهب الجمهور إلى أن حكمها ثابت في جواز الخلع.

(1/295)


وقد روى أيوب , عن كثير مولى سَمُرة أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أُتِيَ بامرأة ناشزة , فأمر بها إلى بيت كثير , فحبسها ثلاثاً , ثم دعاها فقال: كيف وجدت مكانك؟ قالت: ما وجدتُ راحة منذ كنت إلا هذه الليالي التي حبستني , فقال لزوجها: اخلعها ولو من قرطها. وقوله تعالى: {فَإِن طَلَّقَهَا} فيه قولان: أحدهما: أنها الطلقة الثالثة وهو قول السدي. والثاني: أن ذلك تخيير لقوله تعالى: {أَو تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} , وهو قول مجاهد. {فَلاَ تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ حَتَّى تَنكِحَ زَوجاً غَيرَهُ} يعني أنها لا تحل للزوج المطلق ثلاثاً حتى تنكح زوجاً آخر , وفيه قولان: أحدهما: أن نكاح الثاني إذا طلقها منه أحلها للأول سواء دخل بها أو لم يدخل , وهو قول سعيد بن المسيب. والثاني: أنها لا تحل للأول بنكاح الثاني , حتى يدخل بها فتذوق عسيلته ويذوق عسيلتها , للسنّة المروية فيه , وهو قول الجمهور.

(1/296)


وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلَا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (231)

{وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو سرحوهن بمعروف ولا تمسكوهن ضرارا لتعتدوا ومن يفعل ذلك فقد ظلم نفسه ولا تتخذوا آيات الله هزوا واذكروا نعمة الله عليكم وما أنزل عليكم من الكتاب والحكمة يعظكم به واتقوا الله واعلموا أن الله بكل شيء عليم} قوله تعالى: {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ} أي قاربْن انقضاء

(1/296)


عِدَدهن , كما يقول المسافر: بلغت بلد كذا إذا قاربه. {فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} هو المراجعة قبل انقضاء العدة {أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} وهو تركها حتى تنقضي العدة. {وَلاَ تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَاراً لّتَعْتَدُواْ} هو أن يراجع كلما طلّق حتى تطول عدتها إضراراً بها. {وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ} يعني في قصد الإضرار , وإن صحت الرجعة , والطلاق. رَوَى حميد بن عبد الرحمن , عن أبي موسى الأشعري: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم غضب على الأشعريين , قالوا: يقول أحدهم قد طلقت , قد راجعت , ليس هذا بطلاق المسلمين , طلقوا المرأة في قبل عدتها ولا تتخذوا آيات الله هزواً. وروى سليمان بن أرقم: أن الحسن حدثهم: أن الناس كانوا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يُطَلّق أو يعتق , فيقال: ما صنعت؟ فيقول: كنت لاعباً , قال رسول الله صلى اله عليه وسلم: (مَنْ طَلَّقَ لاَعِباً أَو أعْتَقَ لاَعِباً جَازَ عَليهِ). قال الحسن: وفيه نزلت: {وَلاَ تَتَّخِذُواءَايَاتِ اللهِ هُزُواً}.

(1/297)


وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (232)

{وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن إذا تراضوا

(1/297)


بينهم بالمعروف ذلك يوعظ به من كان منكم يؤمن بالله واليوم الآخر ذلكم أزكى لكم وأطهر والله يعلم وأنتم لا تعلمون} قوله تعالى: {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَآءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ} بلوغ الأجل ها هنا [تناهيه] , بخلاف بلوغ الأجل في الآية التي قبلها , لأنه لا يجوز لها أن تنكح غيره قبل انقضاء عدتها , قال الشافعي: فدخل اختلاف المعنيين على افتراق البلوغين. ثم قال تعالى: {فَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ} وفي العضل قولان: أحدهما: أنه المنع , ومنه قولهم: داء عضال إذا امتنع من أن يُداوَى , وفلان عُضَلَةٌ أي داهية , لأنه امتنع بدهائه. والقول الثاني: أن العضل الضيق , ومنه قولهم: قد أعضل بالجيش الفضاء , إذا ضاق بهم. وقال عمر بن الخطاب: قد أعضل بي أهل العراق , لا يرضون عن والٍ , ولا يرضى عنهم والٍ , وقال أوس بن حجر.
(وليس أخُوكَ الدَّائِمُ العَهْدِ بالَّذِي ... يذُمُّك إن ولَّى وَيُرْضِيك مُقبِلاً)
(ولكنه النَّائي إذا كُنتَ آمِناً ... وصاحِبُكَ الأدْنَى إذا الأمْرُ أعْضَلاَ)
فنهى الله عز وجل أولياء المرأة عن عضلها ومنعها من نكاح مَنْ رضيته من الأزواج. وفي قوله عز وجل: {إِذَا تَرَاضَوا بَينَهُم بِالْمَعْرُوفِ} تأويلان: أحدهما: إذا تراضى الزوجان. والثاني: إذا رضيت المرأة بالزوج الكافي. قال الشافعي: وهذا بيّن في كتاب الله تعالى يدل على أن ليس للمرأة أن تنكح بغير وليّ. واختلف أهل التأويل فيمن نزلت فيه هذه الآية على ثلاثة أقاويل:

(1/298)


أحدها: أنها نزلت في معقل بن يسار زوّج أخته , ثم طلقها زوجها وتراضيا بعد العدة أن يتزوجها , فَعَضَلَهَا معقل , وهذا قول الحسن , وقتادة , ومجاهد. والثاني: أنها نزلت في جابر بن عبد الله مع بنت عم له , وقد طلقها زوجها , ثم خطبها فأبى أن يزوجه بها , وهذا قول السدي. والثالث: أنها نزلت عموماً في نهي كل ولي عن مضارة وليّته من النساء أن يعضلها عن النكاح , وهذا قول ابن عباس , والضحاك , والزهري.

(1/299)


وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلَا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلَادَكُمْ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُمْ مَا آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (233)

{والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف لا تكلف نفس إلا وسعها لا تضار والدة بولدها ولا مولود له بولده وعلى الوارث مثل ذلك فإن أرادا فصالا عن تراض منهما وتشاور فلا جناح عليهما وإن أردتم أن تسترضعوا أولادكم فلا جناح عليكم إذا سلمتم ما آتيتم بالمعروف واتقوا الله واعلموا أن الله بما تعملون بصير} قوله تعالى: {وَالْوَلِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَدَهُنَّ حَوْلَينِ كَامِلَيْنِ} والحول السنة , وفي أصله قولان: أحدهما: أنه مأخوذ من قولهم: حال الشيء إذا انقلب عن الوقت الأول , ومنه استحالة الكلام لانقلابه عن الصواب. والثاني: أنه مأخوذ من التحول عن المكان , وهو الانتقال منه إلى المكان الأول. وإنما قال حولين كاملين , لأن العرب تقول: أقام فلان بمكان كذا حولين وإنما أقام حولاً وبعض آخر , وأقام يومين وإنما أقام يوماً وبعض آخر , قال الله تعالى: {وَاذْكُرُوا اللهَ في أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ فَمَن تَعَجَّلَ فِي يَومَينِ فَلاَ إِثْمَ عَلَيهِ} [البقرة: 203] ومعلوم أن التعجل في يوم وبعض يوم. واختلف أهل التفسير فيما دلت عليه هذه الآية من رضاع حولين كاملين , على تأويلين:

(1/299)


أحدهما: أن ذلك في التي تضع لستة أشهر فإن وضعت لتسعة أشهر أرضعت واحداً وعشرين شهراً , استكمالاً لثلاثين شهراً , لقوله تعالى: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاَثُونَ شَهْراً} [الأحقاف: 15] وهذا قول ابن عباس. والثاني: أن ذلك أمر برضاع كل مولود اختلف والداه في رضاعه أن يرضع حولين كاملين , وهذا قول عطاء والثوري. ثم قال تعالى: {وَعَلَى الْمَولُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} يريد بالمولود له الأب عليه في ولده للمرضعة له رزقهن وكسوتهن بالمعروف وفيه قولان: أحدهما: أن ذلك في الأم المطلقة إذا أرضعت ولدها فلها رزقها من الغذاء , وكسوتها من اللباس. ومعنى بالمعروف أجرة المثل , وهذا قول الضحاك. والثاني: أنه يعني به الأم ذات النكاح , لها نفقتها وكسوتها بالمعروف في مثلها , على مثله من يسار , وإعسار. ثم قال تعالى: {لاَ تُضَار وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا} أي لا تمتنع الأم من إرضاعه إضراراً بالأب , وهو قول جمهور المفسرين. وقال عكرمة: هي الظئر المرضعة دون الأم. ثم قال تعالى: {وَلاَ مَولُودٌ لَّهُ بِوَلَدِهِ} وهو الأب في قول جميعهم , لا ينزع الولد من أمه إضراراً بها. ثم قال تعالى: {وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذلِكَ} فيه أربعة أقاويل: أحدها: أن الوارث هو المولود نفسه , وهذا قول قبيصة بن ذؤيب. والثاني: أنه الباقي من والدي بعد وفاة الآخر منهما , وهو قول سفيان. والثالث: أنه وارث الولد , وهذا قول الحسن , والسدي. والرابع: أنه وارث الولد , وفيه أربعة أقاويل: أحدها: وارثه من عصبته إذا كان أبوه ميتاً سواء كان عماً أو أخاً أو ابن أخ أو

(1/300)


ابن عم دون النساء من الورثة , وهذا قول عمر بن الخطاب , ومجاهد. والثاني: ورثته من الرجال والنساء , وهو قول قتادة. والثالث: هم مِنْ ورثته من كان منهم ذا رحم محرم , وهذا قول أبي حنيفة. والرابع: أنهم الأجداد ثم الأمهات , وهذا قول الشافعي. وفي قوله تعالى: {مثل ذلك} تأويلان: أحدهما: أن على الوارث مثل ما كان على والده من أجرة رضاعته ونفقته , وهو قول الحسن , وقتادة , وإبراهيم. والثاني: أن على الوارث مثل ذلك في ألاَّ تضار والدة بولدها , وهذا قول الضحاك , والزهري. ثم قال تعالى: {فَإِنْ أَرَادَا فِصَالاً عَن تَرَاضٍ مِّنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيهِمَا} والفصال: الفصام , سمي فصالاً لانفصال المولود عن ثدي أمه , من قولهم قد فاصل فلان فلاناً إذا فارقه من خلطة كانت بينهما. والتشاور: استخراج الرأي بالمشاورة. وفي زمان هذا الفِصال عن تراض قولان: أحدهما: أنه قبل الحولين إذا تراضى الوالدان بفطام المولود فيه جاز , وإن رضي أحدهما وأبى الآخر لم يجز , وهذا قول مجاهد , وقتادة , والزهري , والسدي. والقول الثاني: أنه قبل الحولين وبعده , وهذا قول ابن عباس. ثم قال تعالى: {وَإِنْ أَرَدتُّمْ أَن تَسْتَرْضِعُوا أَوْلاَدَكُم} يعني لأولادكم , فحذف اللام اكتفاء بأن الاسترضاع لا يكون للأولاد , وهذا عند امتناع الأم من إرضاعه , فلا جناح عليه أن يسترضع له غيرها ظِئْراً. {إذا سَلَّمْتُم مَّاءَاتَيتُم بِالْمَعْرُوفِ} فيه ثلاثة تأويلات: أحدها: إذا سلمتم أيها الآباء إلى الأمهات أجور ما أرضعن قبل امتناعهن , وهذا قول مجاهد , والسدي. والثاني: إذا سلّمتم الأولاد عن مشورة أمهاتهم إلى من يتراضى به الوالدان في إرضاعه , وهذا قول قتادة , والزهري.

(1/301)


والثالث: إذا سلّمتم إلى المرضعة التي تستأجر أجرها بالمعروف , وهذا قول سفيان.

(1/302)


وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (234)

{والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا فإذا بلغن أجلهن فلا جناح عليكم فيما فعلن في أنفسهن بالمعروف والله بما تعملون خبير} قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّونَ مِنكُم وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهُنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً} يعني بالتربص زمان العِدّة في المتوَّفى زوجُها , وقيل في زيادة العشرة على الأشهر الأربعة ما قاله سعيد بن المسيب وأبو العالية أن الله تعالى ينفخ الروح في العشرة , ثم ذكر العشر بالتأنيث تغليباً لليالي على الأيام إذا اجتمعت لأن ابتداء الشهور طلوع الهلال ودخول الليل , فكان تغليب الأوائل على الثواني أوْلى. واختلفوا في وجوب الإِحْدَادِ فيها على قولين: أحدهما: أن الإِحْدَاد فيها واجب , وهو قول ابن عباس , والزهري. والثاني: ليس بواجب , وهو قول الحسن. روى عبد الله ابن شداد بن الهاد , عن أسماء بنت عُمَيس قالت: لمّا أصيب جعفر بن أبي طالب , قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: (تَسَلَّبي ثَلاَثاً ثُمَّ اصْنَعِي مَا شِئْتِ). والإِحْدَادُ: الامتناع من الزينة , والطيب , والترجل , والنُّقْلة.

(1/302)


ثم قال تعالى: {فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيكُم فِيمَا فَعَلنَّ فِي أَنْفُسِهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} فإن قيل: فما المعنى في رفع الجناح عن الرجال في بلوغ النساء أجلهن؟ ففيه جوابان: أحدهما: أن الخطاب تَوَجّه إلى الرجال فيما يلزم النساء من أحكام العِدّة , فإذا بلغن أجلهن ارتفع الجناح عن الرجال في الإنكار عليهن وأخذهن بأحكام عددهن. والثاني: أنه لا جناح على الرجال في نكاحهن بعد انقضاء عِدَدِهن. ثم قوله تعالى: {فيما فعلن في أنفسهن بالمعروف} تأويلان: أحدهما: من طيب , وتزْين , ونقلة من مسكن , وهو قول أبي جعفر الطبري. والثاني: النكاح الحلال , وهو قول مجاهد. وهذه الآية ناسخة لقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً وَصِيَّةً لأزْوَاجِهِم مَتَاعاً إِلَى الْحَولِ غَيرَ إِخْرَاج} [البقرة: 240] فإن قيل: فهي متقدمة والناسخ يجب أن يكون متأخراً , قيل هو في التنزيل متأخر , وفي التلاوة متقدم. فإن قيل: فَلِمَ قُدِّم في التلاوة مع تأخره في التنزيل؟ قيل: ليسبق القارىء إلى تلاوته ومعرفة حكمه حتى إن لم يقرأ ما بعده من المنسوخ أجزأه.

(1/303)


وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلَكِنْ لَا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلًا مَعْرُوفًا وَلَا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (235)

{ولا جناح عليكم فيما عرضتم به من خطبة النساء أو أكننتم في أنفسكم علم الله أنكم ستذكرونهن ولكن لا تواعدوهن سرا إلا أن تقولوا قولا معروفا ولا تعزموا عقدة النكاح حتى يبلغ الكتاب أجله واعلموا أن الله يعلم ما في أنفسكم فاحذروه واعلموا أن الله غفور حليم}

(1/303)


قوله تعالى: {وَلاَ جُنَاحَ عَلَيكُم فِيمَا عَرَّضْتُم بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ} أما التعريض , فهو الإشارة بالكلام إلى ما ليس فيه ذكر النكاح , وأما الخِطبة بالكسر فهي طلب النكاح , وأما الخُطبة بالضَّمِ فهي كلام يتضمن وعْظاً أو بلاغاً. والتعريض المباح في العدة أن يقول لها: ما عليك أَيْمة ولعل الله أن يسوق إليك خيراً , أو يقول: رُبَّ رجلٍ يَرْغب فيك , غلى ما جرى مجرى هذه الألفاظ. ثم قال تعالى: {أو أكننتم في أنفسكم} يعني ما أسررتموه من عقدة النكاح. ثم قال تعالى: {عَلِمَ اللهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلَكِن لاَّ تُوَاعِدُوهُنَّ سِرّاً} في السر خمسة تأويلات: أحدها: أنه الزنى , وهو قول الحسن , وأبي مجلز , والسدي , والضحاك وقتادة. والثاني: ألا تأخذوا ميثاقهن وعهودهن في عِددهن ألا ينكحن غيركم , وهذا قول ابن عباس , وسعيد بن جبير , والشعبي. والثالث: ألا تنكحوهن في عِددهن سراً , وهو قول عبد الرحمن بن زيد. والرابع: أن يقول لها: لا تفوتني نفسك , وهو قول مجاهد. والخامس: الجماع , وهو قول الشافعي. ثم قال تعالى: {إلا أن تقولوا قولاً معروفاً} معناه: قولوا قولاً معروفاً , وهو التعريض. ثم قال تعالى: {وَلاَ تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحَ حَتَى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ}. وفي الكلام حذف وتقديره: ولا تعزموا على عقدة النكاح , يعني التصريح بالخطبة. وفي {حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ} قولان: أحدهما: معناه فرض الكتاب أجله , يريد انقضاء العدّة , فحذف الفرض اكتفاء بما دل عليه الكلام. والثاني: أنه أراد بالكتاب الفرض تشبيهاً بكتاب.

(1/304)


لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ (236)

{لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن أو تفرضوا لهن فريضة ومتعوهن على الموسع قدره وعلى المقتر قدره متاعا بالمعروف حقا على المحسنين} قوله تعالى: {لاَ جُنَاحَ عَلَيكُم إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ} وقرأ حمزة والكسائي: {تُمَاسُّوهُنَّ}. {أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً}. وفيه قولان: أحدهما: معناه ولم تفرضوا لهن فريضة. والثاني: أن في الكلام حذفاً وتقديره: فرضتم أو لم تفرضوا لهن فريضة. والفريضة: الصدق وسمي فريضة لأنه قد أوجبه لها , وأصل الفرض: الواجب , كما قال الشاعر:
(كانت فريضة ما أتيت كما ... كان الزِّناءُ فَريضةَ الرجْمِ)
وكما يقال: فرض السلطان لفلان في الفيء , يعني أوجب له ذلك. ثم قال تعالى: {وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الموسر قَدَرُهُ وَعَلَى المُقْتِر قَدَرُهُ} أي أعطوهن ما يتمتعن به من أموالكم على حسب أحوالكم في الغنى والإقتار. واختلف في قدر المتعة على ثلاثة أقاويل: أحدها: أن المتعة الخادم , ودون ذلك الوَرِق , ودون ذلك الكسوة , وهو قول ابن عباس. والثاني: أنه قدر نصف صداق مثلها , وهو قول أبي حنيفة. والثالث: أنه مُقَدَّر باجتهاد الحاكم , وهو قول الشافعي. ثم قال تعالى: {مَتَاعاً بِالْمَعْرُوفِ حَقَّاً عَلَى الْمُحْسِنِينَ} واختلفوا في وجوبها على أربعة أقاويل: أحدها: أنها واجبة لكل مطلقة , وهو قول الحسن , وأبي العالية.

(1/305)


والثاني: أنها واجبة لكل مطلقة إلا غير المدخول بها , فلا متعة لها , وهو قول ابن عمر , وسعيد بن المسيب. والثالث: أنها واجبة لغير المدخول بها إذا لم يُسمّ لها صداق , وهو قول الشافعي. والرابع: أنها غير واجبة , وإنما الأمر بها ندب وإرشاد , وهو قول شريح , والحكم.

(1/306)


وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (237)

{وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن وقد فرضتم لهن فريضة فنصف ما فرضتم إلا أن يعفون أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح وأن تعفوا أقرب للتقوى ولا تنسوا الفضل بينكم إن الله بما تعملون بصير} قوله تعالى: {وَإِن طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ} وهو أول الطلاقين لمن كان قبل الدخول كارهاً , لرواية سعيد , عن قتادة , عن شهر بن حوشب , عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ لاَ يُحِبُّ الذوَّاقِينَ وَلا الذَّوَّاقَاتِ). يعني الفراق بعد الذوق. ثم قال تعالى: {وَقَدْ فَرَضْتُم لَهُنَّ فَرِيضَةً} يعني صداقاً {فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُم} فيه قولان: أحدهما: معناه فنصف ما فرضتم لهن ليس عليكم غيره لهن , {إلاَّ أَن يَعْفُونَ} يعني به عفو الزوجة , ليكون عفوها أدعى إلى خِطْبَتِها , ويرغّب الأزواج فيها.

(1/306)


ثم قال تعالى: {أَو يَعفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} وفيه ثلاثة أقاويل: أحدها: أن الذي بيده عقدة النكاح هو الولي , وهو قول ابن عباس , ومجاهد , وطاووس , والحسن , وعكرمة , والسدي. الثاني: هو الزوج , وبه قال علي , وشريح , وسعيد بن المسيب وجبير بن مطعم , ومجاهد , وأبو حذيفة. والثالث: هو أبو بكر , والسيد في أمته , وهو قول مالك. ثم قال تعالى: {وَأَن تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} وفي المقصود بهذا الخطاب قولان: أحدهما: أنه خطاب للزوج وحده , وهو قول الشعبي. والثاني: أنه خطاب للزوج والزوجة , وهو قول ابن عباس. وفي قوله: {أَقْرَبُ لِلتَّقوَى} تأويلان: أحدهما: أقرب لاتقاء كل واحد منهما ظُلْمَ صاحبه. والثاني: أقرب إلى اتقاء معاصي الله.

(1/307)


حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ (238) فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (239)

{حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وقوموا لله قانتين فإن خفتم فرجالا أو ركبانا فإذا أمنتم فاذكروا الله كما علمكم ما لم تكونوا تعلمون} قوله عز وجل: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ} وفي المحافظة عليها قولان: أحدهما: ذكرها. والثاني: تعجيلها. ثم قال تعالى: {وَالصَّلاَةِ الْوُسْطَى} وإنما خص الوسطى بالذكر وإن دخلت في جملة الصلوات لاختصاصها بالفضل , وفيها خمسة أقاويل: أحدها: أنها صلاة العصر , وهو قول عليّ , وأبي هريرة , وأبي سعيد

(1/307)


الخدري , وأبي أيوب , وعائشة , وأم سلمة , وحفصة , وأم حبيبة. روى عمرو بن رافع , عن نافع , عن ابن عمر , عن حفصة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أنها قالت لكاتب مصحفها: إذا بلغتَ مواقيت الصلاة فأخبرني , حتى أخبرك بما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم , فلما أخبرها قالت: أكتب , فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاَةِ الْوُسْطَى وَهِيَ صَلاَةُ الْعَصْرِ). وروى محمد بن سيرين , عن عبيدة السلماني , عن عليّ رضي الله عنه قال: لم يُصَلِّ رسول الله صلى الله عليه وسلم العصر يوم الخندق إلا بعدما غربت الشمس فقال: (مَا لَهُم مَلأَ اللهُ قُلُوبَهُم وَقُبُورَهُم نَاراً شَغَلُونَا عَنِ الصَّلاَةِ الْوُسْطَى حَتَّى غَابَتِ الشَّمْسُ). وروى التيمي , عن أبي صالح , عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الصَّلاَةُ الوُسْطَى صَلاَةُ الْعَصْرِ). والقول الثاني: أنها صلاة الظهر , وهو قول زيد بن ثابت , وابن عمر. قال ابن عمر: هي التي توجه فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى القبلة.

(1/308)


وروى ابن الزبير عن زيد بن ثابت قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي الظهر بالهاجرة , ولم يكن يصلي صلاة أشد على أصحابه منها , قال فنزلت: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاَةِ الوُسْطَى} وقال إن قبلها صلاتين وبعدها صلاتين. والقول الثالث: أنها صلاة المغرب , وهو قول قبيصة بن ذؤيب لأنها ليست بأقلها ولا بأكثرها ولا تقصر في السفر , وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يؤخرها عن وقتها ولم يعجلها. والقول الرابع: أنها صلاة الصبح , وهو قول ابن عباس , وأبي موسى الأشعري , وجابر بن عبد الله , قال ابن عباس يصليها بين سواد الليل وبياض النهار , تعلقاً بقوله تعالى: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} ولا صلاة مفروضة يقنت فيها إلا الصبح , ولأنها بين صلاتي ليل وصلاتي نهار. والقول الخامس: أنها إحدى الصلوات الخمس ولا تعرف بعينها , ليكون أبعث لهم على المحافظة على جميعها , وهذا قول نافع , وابن المسيب , والربيع ابن خثيم. وفيها قول سادس: أن الصلاة الوسطى صلاة الجمعة خاصة. وفيها قول سابع: أن الصلاة الوسطى صلاة الجماعة من جميع الصلوات. وفي تسميتها بالوسطى ثلاثة أوجه: أحدها: لأنها أوسط الصلوات الخمس محلاً , لأنها بين صلاتي ليل وصلاتي نهار. والثاني: لأنها أوسط الصلاة عدداً , لأن أكثرهن أربع وأقلهن ركعتان. والثالث: لأنها أفضل الصلوات ووسط الشيء ووسطاه أفضله , وتكون الوُسْطَى بمعنى الفُضْلَى. ثم قال تعالى: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} وفيه ستة تأويلات:

(1/309)


أحدها: يعني طائعين , قاله ابن عباس , والضحاك , والشعبي , وسعيد بن جبير , والحسن , وعطاء. والثاني: ساكتين عما نهاكم الله أن تتكلموا به في صلاتكم , وهو قول ابن مسعود , وزيد بن أرقم , والسدي , وابن زيد. والثالث: خاشعين , نهيأ عن العبث والتفلت , وهو قول مجاهد , والربيع بن أنس. والرابع: داعين , وهو مروي عن ابن عباس. والخامس: طول القيام في الصلاة , وهو قول ابن عمر. والسادس: ... . وهو مروي عن ابن عمر أيضا. واختلف في أصل القنوت , على ثلاثة أوجه: أحدها: أن أصله الدوام على أمر واحد. والثاني: أصله الطاعة. والثالث: أصله الدعاء. قوله عز وجل: {فَإِنْ خِفْتُم فَرِجَالاً أَو رُكْبَاناً} الرجال جمع راجل , والركبان جمع راكب , مثل قائم وقيام. يعني فإن خفتم من عدوّكم , فصلوا على أرجلكم أو ركائبكم , وقوفاً ومشاة , إلى القبلة وغير القبلة , مومئاً أو غير مومىء , على حسب قدرته. واختلف في قدر صلاته , فذهب الجمهور إلى أنها على عددها تُصَلَّى ركعتين , وقال الحسن: تُصَلَّى ركعة واحدة إذا كان خائفاً. واختلفوا في وجوب الإِعادة عليه بعد أمنه , فذهب أهل الحجاز إلى سقوط الإِعادة عنه لعذره. وذهب أهل العراق إلى وجوب الإِعادة عليه لأن مشيه فيها عمل ليس منها. ثم قال تعالى: {فَإِذَا أَمِنتُم فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُم مَّا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ} وفيه تأويلان: أحدهما: معناه فإذا أمنتم فصلّوا كما علّمكم , وهو قول ابن زيد.

(1/310)


والثاني: يريد فاذكروه بالثناء عليه والحمد له , كما علمكم من أمر دينكم ما لم تكونوا تعلمون.

(1/311)


وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (240) وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (241) كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (242)

{والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا وصية لأزواجهم متاعا إلى الحول غير إخراج فإن خرجن فلا جناح عليكم في ما فعلن في أنفسهن من معروف والله عزيز حكيم وللمطلقات متاع بالمعروف حقا على المتقين كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تعقلون} قوله عز وجل: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّونَ مِنكُم} الآية. أما الوصية فقد كانت بدل الميراث , ثم نسخت بآية المواريث , وأما الحَوْل فقد كانت عِدّة المتوفى عنها زوجها , ونسخت بأربعة أشهر وعشر. قوله عز وجل: {وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ} فيه ثلاثة أقاويل: أحدها: ... . . والثاني: أنها لكل مطلقة , وهذا قول سعيد بن جبير وأحد قولي الشافعي. وقيل إن هذه الآية نزلت على سبب وهو أن الله عز وجل لمّا قال: {وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِر قَدَرُهُ مَتَاعاً بِالْمَعْرُوفِ حَقاً عَلَى الْمُحْسِنِينَ} فقال رجل: إنْ أحسنتُ فعلت , وإن لم أرد ذلك لم أفعل , فقال الله عز وجل: {وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى الْمُتَّقِين} , وهذا قول ابن زيد , وإنما خص المتقين بالذكر - وإن كان عاماً - تشريفاً لهم.

(1/311)


أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ (243) وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (244) مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (245)

{ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت فقال لهم الله موتوا ثم أحياهم إن الله لذو فضل على الناس ولكن أكثر

(1/311)


الناس لا يشكرون وقاتلوا في سبيل الله واعلموا أن الله سميع عليم من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له أضعافا كثيرة والله يقبض ويبسط وإليه ترجعون} قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِن دِيَارِهِمْ} يعني ألم تعلم. {وَهُمْ أُلُوفٌ} فيه قولان: أحدهما: يعني مُؤْتَلِفِي القلوب وهو قول ابن زياد. والثاني: يعني ألوفاً في العدد. واختلف قائلو هذا في عددهم على أربعة أقاويل: أحدها: كانوا أربعة آلاف , رواه سعيد بن جبير , عن ابن عباس. والثاني: كانوا ثمانية آلاف. والثالث: كانوا بضعة وثلاثين ألفاً , وهو قول السدي. والرابع: كانوا أربعين ألفاً , وهو مروي عن ابن عباس أيضاً , والألوف تستعمل فيما زاد على عشرة آلاف. ثم قال تعالى: {حَذَرَ الْمَوتِ} وفيه قولان: أحدهما: أنهم فرّوا من الطاعون , وهذا قول الحسن , ورَوَى سعيد بن جبير قال: كانوا أربعة آلاف , خرجوا فراراً من الطاعون , وقالوا نأتي أرضاً ليس بها موت , فخرجوا , حتَّى إذا كانوا بأرض كذا , قال الله لهم: موتوا فماتوا , فمر عليهم نبي , فدعا ربه أن يحييهم , فأحياهم الله. القول الثاني: أنهم فروا من الجهاد , وهذا قول عكرمة والضحاك. {فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا} فيه قولان: أحدهما: يعني فأماتهم الله , كما يقال: قالت السماء فمطرت , لأن القول مقدمة الأفعال , فعبر به عنها. والثاني: أنه تعالى قال قولاً سمعته الملائكة.

(1/312)


{ثُمَّ أَحْيَاهُمُ} إنما فعل ذلك معجزة لنبي من أنبيائه كان اسمه شمعون من أنبياء بني إسرائيل , وأن مدة موتهم إلى أن أحياهم الله سبعة أيام. قال ابن عباس , وابن جريج: رائحة الموت توجد في ولد ذلك السبط من اليهود إلى يوم القيامة. قوله عز وجل: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهُ قَرْضاً حَسَناً} فيه تأويلان: أحدهما: أنه الجهاد , وهو قول ابن زيد. والثاني: أبواب البر , وهو قول الحسن , ومنه قول الشاعر:
(وإذا جُوزِيتَ قَرضاً فاجْزِه ... إنما يجزي الفتى ليس الجمل)
قال الحسن: وقد جهلت اليهود لما نزلت هذه الآية فقالوا: إن الله يستقرض منا , فنحن أغنياء , وهو فقير , فأنزل الله تعالى: {لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَولَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنحَنْ أَغْنِيَاءُ} [آل عمران: 181]. قوله تعالى: {فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافاً كَثِيرَةً} فيه قولان: أحدهما: سبعمائة ضعف , وهو قول ابن زيد. والثاني: لا يعلمه أحد إلا الله , وهو قول السدي. {وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ} فيه تأويلان: أحدهما: يعني في الرزق , وهو قول الحسن وابن زيد. والثاني: يقبض الصدقات ويبسط الجزاء , وهو قول الزجاج.

(1/313)


أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (246)

{ألم تر إلى الملإ من بني إسرائيل من بعد موسى إذ قالوا لنبي لهم ابعث لنا ملكا نقاتل في سبيل الله قال هل عسيتم إن كتب عليكم القتال ألا تقاتلوا قالوا وما لنا ألا نقاتل في سبيل الله وقد أخرجنا

(1/313)


من ديارنا وأبنائنا فلما كتب عليهم القتال تولوا إلا قليلا منهم والله عليم بالظالمين} قوله عز وجل: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلإِ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ} الملأ: الجماعة. {مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِّيٍ لَهُم} اختلف أهل التأويل فيه على ثلاثة أقاويل: أحدها: أنه سمويل , وهو قول وهب بن منبه. والثاني: يوشع بن نون , وهو قول قتادة. والثالث: شمعون , سمّتْه أُمّه بذلك لأن الله سمع دعاءها فيه , وهو قول السدي. {ابْعَثْ لَنَا مَلَكاً نُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} في سبب سؤالهم لذلك قولان: أحدهما: أنهم سألوا ذلك لقتال العمالقة , وهو قول السدي. والثاني: أن الجبابرة الذين كانوا في زمانهم استزلوهم , فسألوا قتالهم , وهو قول وهب والربيع.

(1/314)


وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (247)

{وقال لهم نبيهم إن الله قد بعث لكم طالوت ملكا قالوا أنى يكون له الملك علينا ونحن أحق بالملك منه ولم يؤت سعة من المال قال إن الله اصطفاه عليكم وزاده بسطة في العلم والجسم والله يؤتي ملكه من يشاء والله واسع عليم} قوله تعالى: {وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُم إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُم طَالُوتَ مَلِكاً} إلى قوله: {وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ} قال وهب , والسدي: إنما أنكروا أن يكون ملكاً عليهم , لأنه لم يكن من سبط النبوة , ولا من سبط المملكة , بل كان من أخمل سبط في بني إسرائيل.

(1/314)


{قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيكُم وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ} يعني زيادة في العلم وعظماً في الجسم. واختلفوا هل كان ذلك فيه قبل الملك؟ فقال وهب بن منبه , والسدي: كان له ذلك قبل الملك , وقال ابن زيد: زيادة ذلك بعد الملك. {واللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَن يَشَآءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} وفي واسع ثلاثة أقاويل: أحدها: واسع الفضل , فحذف ذكر الفضل اكتفاء بدليل اللفظ , كما يقال فلان كبير , بمعنى كبير القَدْر. الثاني: أنه بمعنى مُوسِع النعمة على مَنْ يشاء من خلقه. والثالث: أنه بمعنى ذو سعة.

(1/315)


وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلَائِكَةُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (248)

{وقال لهم نبيهم إن آية ملكه أن يأتيكم التابوت فيه سكينة من ربكم وبقية مما ترك آل موسى وآل هارون تحمله الملائكة إن في ذلك لآية لكم إن كنتم مؤمنين} قوله عز وجل: {وَقَالَ لَهُم نَبِيُّهُم: إِنَّءَايَةَ مُلْكِهِ} أي علامة ملكه {أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ} قال وهب ابن منبه: كان قدر التابوت ثلاثة أذرع في ذراعين. {فِيهِ سَكِينَةٌ مِن رَّبِّكُم} وفي السكينة ستة تأويلات: أحدها: ريح هفَافة لها وجه كوجه الإِنسان , وهذا قول عليّ عليه السلام.

(1/315)


والثاني: أنها طست من ذهبٍ من الجنة كان يغسل فيه قلوب الأنبياء , وهذا قول ابن عباس والسدي. والثالث: أنها روح من الله تعالى يتكلم , وهذا قول وهب بن منبه. والرابع: أنها ما يعرف من الآيات فيسكنون إليها , وهذا قول عطاء بن أبي رباح. والخامس: أنها الرحمة , وهو قول الربيع ابن أنس. والسادس: أنها الوقار , وهو قول قتادة. ثم قال تعالى: {وَبَقِيِّةٌ مِمَّا تَرَكَءَالُ مُوسَى وءَالُ هَارُونَ} وفيها أربعة تأويلات: أحدها: أن البقية عصا موسى ورُضاض الألواح , وهذا قول ابن عباس. والثاني: أنها العلم والتوراة , وهو قول عطاء. والثالث: أنها الجهاد في سبيل الله , وهو قول الضحاك. والرابع: أنها التوراة وشيء من ثياب موسى , وهو قول الحسن. {تَحْمِلُهُ الْمْلاَئِكَةُ} قال الحسن: تحمله الملائكة بين السماء والأرض , ترونه عياناً , ويقولون: إن آدم نزل بالتابوت , وبالركن. واختلفوا أين كان قبل أن يرد إليهم , فقال ابن عباس , ووهب كان في أيدي العمالقة , غلبوا عليه بني إسرائيل , وقال قتادة كان في بريّة التيه , خَلَّفَه هناك يوشع بن نون , قال أبو جعفر الطبري: وبلغني أن التابوت وعصا موسى وبحيرة الطبرية , وأنهما يخرجان قبل يوم القيامة.

(1/316)


فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (249)

{فلما فصل طالوت بالجنود قال إن الله مبتليكم بنهر فمن شرب منه فليس مني ومن لم يطعمه فإنه مني إلا من اغترف غرفة بيده فشربوا منه إلا قليلا منهم فلما جاوزه هو والذين آمنوا معه

(1/316)


قالوا لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده قال الذين يظنون أنهم ملاقوا الله كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين} قوله تعالى: {فَلمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ} وهو جمع جند , والأجناد للقليل , وقيل: إنهم كانوا ثمانين ألف مقاتل. {قَالَ إِنَّ الله مُبْتَلِيكُم بِنَهْرٍ} اختلفوا في النهر , فَحُكِيَ عن ابن عباس والربيع أنه نهر بين الأردن وفلسطين , وقيل إنه نهر فلسطين , قال وهب بن منبه: السبب الذي ابتلوا لأجله بالنهر , شِكَايَتُهم قِلةَ الماء وخوف العطش. {فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيسَ مِنِّي} أي ليس من أهل ولايتي. {ومَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلاَّ مَن اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ} قرأ نافع , وابن كثير , وأبو عمرو بالفتح , وقرأ الباقون (غرفة) بالضم , والفرق بينهما أن الغرفة بالضم اسم للماء المشروب , والغرفة بالفتح اسم للفعل. {فَشَرِبُوا مِنهُ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنهُم} قال عكرمة: جاز معه النهر أربعة آلاف , ونافق ستة وسبعون ألفاً , فكان داود ممن خلص لله تعالى. قال ابن عباس: إن من استكثر منه عَطِش , ومن اغترف غرفة منه رُوِيَ. {فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَءَامَنُوا مَعَهُ} قيل: كان المؤمنون ثلاثمائة وبضعة عشر رجلاً عدة أهل بدر. واختلفوا , هل تجاوزه معهم كافر أم لا؟ فَحُكِيَ عن البراء , والحسن , وقتادة: أنه ما تجاوزه إلا مؤمن , وقال ابن عباس , والسدي: تجاوزه الكافرون , إلا أنهم انخذلوا عن المؤمنين. {قَالُوا: لاَ طَاقَةَ لَنَا اليَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ} اختلفوا في تأويل ذلك على قولين: أحدهما: أنه قال ذلك مَنْ قلّت بصيرته من المؤمنين , وهو قول الحسن , وقتادة , وابن زيد. والثاني: أنهم أهل الكفر الذين انخذلوا , وهو قول ابن عباس , والسدي ,

(1/317)


قال عكرمة: فنافق الأربعة الآلاف إلا ثلاثمائة وبضعة عشر رجلاً كعدة أهل بدر , وداود فيهم. {قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلاَقُواْ اللهِ} وهم المؤمنون الباقون من الأربعة الآلاف. وفي الظن ها هنا قولان: أحدهما: أنه بمعنى اليقين , ومعناه الذين يستيقنون أنهم ملاقوا الله كما قال دريد بن الصُّمّة:
(فقلت لهم ظُنّوا بِأَلْفَيْ مُدَجج ... سَراتُهُمُ في الفارسيّ المسَرّدِ)
أي تيقنوا. والثاني: بمعنى الذين يظنون أنهم ملاقوا الله بالقتل في الوقعة. {كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً} والفئة: الفرقة {بِإِذْنِ اللهِ} قال الحسن: بنصر الله , وذلك لأن الله إذا أذن في القتال نصر فيه على الوجه الذي وقع الإِذن فيه. {وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} يعني بالنصرة والمعونة , وهذا تفسير الآية عند جمهور المفسرين. وذكر بعض من يتعاطى غوامض المعاني , أن هذه الآية مَثَلٌ ضَرَبَهُ الله للدنيا يشبهها بالنهر , والشارب منه بالمائل إليها والمستكثر منها , والتارك لشربه بالمنحرف عنها والزاهد فيها , والمغترف منه بيده بالآخذ منها قدر حاجته , وأحوال الثلاثة عند الله مختلفة.

(1/318)


وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (250) فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ (251) تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (252)

{ولما برزوا لجالوت وجنوده قالوا ربنا أفرغ علينا صبرا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين فهزموهم بإذن الله وقتل داود جالوت وآتاه الله الملك والحكمة وعلمه

(1/318)


مما يشاء ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض ولكن الله ذو فضل على العالمين تلك آيات الله نتلوها عليك بالحق وإنك لمن المرسلين} قوله تعالى: {فَهَزَمُوهُم بِإِذْنِ اللَّهِ} في الهزيمة قولان: أحدهما: أنها ليست من فعلهم وإنما أضيفت إليهم مجازاً. والثاني: أنهم لما ألجئوا إليها صارواْ سبباً لها , فأضيفت إليهم لمكان الإلجاء. ويحتمل قوله: {بِإِذْنِ اللَّهِ} وجهين: أحدهما: بأمر الله لهم بقتالهم. الثاني: بمعونة الله لهم على قتالهم. {وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ} حكي أن جالوت خرج من صفوف عسكره يطلب البِراز؟ فلم يخرج إليه أحد , فنادى طالوت في عسكره: مَنْ قتل جالوت فلهُ شطر مُلكي وأزوّجه ابنتي , فجاء داود وقد أخذ ثلاثة أحجار , وكان قصيراً يرعى الغنم , وقد ألقى الله في نفسه أنه سيقتل جالوت , فقال لطالوت: أنا أقتل جالوت , فازدراه طالوت حين رآه , وقال له: هل جربت نفسك بشيء؟ قال نعم , قال: بماذا؟ قال: وقع ذئب في غنمي فضربته , ثم أخذت رأسه فقطعته في جسمه , فقال طالوت: الذئب ضعيف , فهل جربت نفسك في غيره؟ قال: نعم , دخل الأسد في غنمي , فضربته ثم أخذت بِلَحْيَيْه فشققتها , أفترى هذا أشد من الأسد , قال: لا , وكان عند طالوت درع سابغة لا تستوي إلا على من يقتل جالوت , فأخبره بها وألقاها عليه فاستوت , وسار إلى جالوت فرماه بحجر فوقع بين عينيه وخرج من قفاه , فأصاب جماعة من عسكره فقتلهم وانهزم القوم عن آخرهم , وكانوا على ما حكاه عكرمة تسعين ألفاً. واختلفواْ , هل كان داود عند قتله جالوت نبياً؟ ذهب بعضهم أنه كان نبياً , لأن هذا الفعل الخارج عن العادة , لا يكون إلا من نبي , وقال الحسن: لم يكن نبياً , لأنه لا يجوز أن يُوَلي مَنْ ليس بنبي على نبي. قال ابن السائب وإنما كان

(1/319)


راعياً فعلى هذا يكون ذلك من توطئة لنبوته من بعد. ثم إن طالوت ندم على ما بذله لداود من مشاطرته ملكه وتزويجه ابنته , واختلفوا هل كان ندمه قبل تزويجه ومشاطرته , أم بعد , على قولين: أحدهما: أن طالوت وَفَّى بشرطه , وزوج داود بإبنته , وخلطه في ملكه بنفسه ثم حسده , فندم , وأراد قتله , فعلمت بنته بأنه يريد قتل زوجها , وكانت من أعقل النساء , فنصبت له زِق خمر بالمسك , وألقت عليه ليلاً ثياب داود , فأقبل طالوت , وقال لها: أين زوجك؟ فأشارت إلى الزق , فضربه بالسيف , فانفجر منه الخمر وسطع ريح المسك , فقال يرحمك الله يا داود طبت حياً وميتاً , ثم أدركته الندامة , فجعل ينوح عليه ويبكي , فلما نظرت الجارية إلى جَزَعِ أبيها , أخبرته الخبر , ففرح , وقاسم داود على شطر ملكه , وهذا قول الضحاك , فعلى هذا يكون طالوت على طاعته حين موته , لتوبته من معصيته. والقول الثاني: أنه ندم قبل تزويجه على شرطه وبذله , وعرّض داود للقتل , وقال له إن بنات الملوك لا بد لهن من صداق أمثالهن , وأنت رجل جريء , فاجعل صداقها قتل ثلاثمائة من أعدائنا , وكان يرجو بذلك أن يقتل , فغزا داود وأسر ثلاثمائة , فلم يجد طالوت بداً من تزويجه , فزوجه بها , وزاد ندامة فأراد قتله , وكان يدس عليه حتى مات , وهذا قول وهب بن منبه , فعلى هذا مات طالوت على معصيته لأنه لم يتب من ذنبه. وروى مكحول , عن معاذ بن جبل قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إِنَّ المُلُوكَ قَدْ قَطَعَ اللهُ أَرْحَامَهُم فَلاَ يَتَوَاصَلُونَ حُبَّاً لِلْمُلْك حَتَّى إِنَّ الرَّجُلَ مِنْهُم لَيَقْتُلَ الأَبَ وَالإِبْنَ وَالأَخَ وَالعَمَّ , إِلاَّ أَهْلُ التَّقْوَى وَقَلِيلٌ مَّا هُم , وَلَزوَالُ جَبَلٍ عَن مَّوضِعِهِ أَهْوَنُ مِنْ زَوَالِ مُلْكِ لَمْ يَنْقَضِ). {وَءَاتَاهُ اللهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ} يعني داود , يريد بالملك السلطان وبالحكمة النبوة وكان ذلك عند موت طالوت بعد سبع سنين من قتل جالوت على ما حكاه ابن السائب.

(1/320)


ويحتمل وجهاً ثانياً: أن الملك الانقياد إلى طاعته , والحكمة: العدل في سيرته ويكون ذلك بعد موت طالوت عند تفرده بأمور بني إسرائيل. {وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَآءُ} فيه وجهان: أحدهما: صنعة الدروع والتقدير في السرد. والثاني: كلام الطير وحكمة الزبور. ويحتمل ثالثاً: أنه فعل الطاعات والأمر بها , واجتناب المعاصي والنهي عنها , فيكون على الوجه الأول {مِمَّا يَشَاءُ} داود , وعلى الثاني: {مِمَّا يَشَاءُ} الله , وعلى الثالث {مِمَّا يَشَاءُ} الله ويشاء داود. {وَلَوْلاَ دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأرضُ}. في الدفع قولان: أحدهما: أن الله يدفع الهلاك عن البر بالفاجر , قاله عليّ كرم الله وجهه. والثاني: يدفع بالمجاهدين عن القاعدين قاله ابن عباس. وقوله تعالى: {لَّفَسَدَتِ الأرْضُ} فيه وجهان: أحدهما: لفسد أهل الأرض. والثاني: لعم الفساد في الأرض. وفي هذا الفساد وجهان: أحدهما: الكفر. والثاني: القتل.

(1/321)


تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ (253) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ (254)

{تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض منهم من كلم الله ورفع بعضهم درجات وآتينا عيسى ابن مريم البينات وأيدناه بروح القدس ولو شاء الله ما اقتتل الذين من بعدهم من بعد ما جاءتهم البينات ولكن اختلفوا

(1/321)


فمنهم من آمن ومنهم من كفر ولو شاء الله ما اقتتلوا ولكن الله يفعل ما يريد يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من ما رزقناكم من قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه ولا خلة ولا شفاعة والكافرون هم الظالمون} {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ} فيه وجهان: أحدهما: في الآخرة , لتفاضلهم في الأعمال , وتحمل الأثقال. والثاني: في الدنيا بأن جعل بعضهم خليلاً , وبعضهم كليماً , وبعضهم مَلِكاً , وسَخَّر لبعضهم الريح والشياطين , وأحيا ببعضهم الموتى , وأبرأ الأكمه , والأبرص. ويحتمل وجهاً ثالثاً: بالشرائع , فمنهم من شرع , ومنهم من لم يشرع. {وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ} فيه وجهان: أحدهما: أن أوحى إلى بعضهم في منامه , وأرسل إلى بعضهم الملائكة في يقظته. والثاني: أن بعث بعضهم إلى قومه , وبعث بعضهم إلى كافة الناس. {وَءَاتَينَا عيسَى ابْنَ مَرْيَم الْبَيِّنَاتِ} فيه وجهان: أحدهما: الحُجَجُ الواضحة , والبراهين القاهرة. والثاني: أن خلقه من ذكر. {وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ} فيه وجهان: أحدهما: بجبريل. والثاني: بأن نفخ فيه من رُوحه. {وَلَو شَآءَ اللهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِن بَعْدِهِم مِن بَعْدِ مَا جَآءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ} فيه وجهان: أحدهما: ولو شاء الله ما أمر بالقتال بعد وضوح الحجة. والثاني: ولو شاء الله لاضطرهم إلى الإيمان , ولما حصل فهيم خيار.

(1/322)


اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (255)

{الله لا إله إلا هو الحي القيوم لا تأخذه سنة ولا نوم له ما في السماوات وما في الأرض من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء وسع كرسيه السماوات والأرض ولا يؤوده حفظهما وهو العلي العظيم} قوله تعالى: {اللهُ لآَ إِلهَ إِلاَّ هُوَ} الآية. مُخْرَجة مخرج النفي أن يصح إله سوى الله , وحقيقته إثبات إله واحد وهو الله , وتقديره: الله الإله دون غيره. {الْحَيُّ} فيه أربعة تأويلات: أحدها: أنه سمى نفسه حياً لصَرْفِه الأمور مصارِفها , وتقدير الأشياء مقاديرها , فهو حي بالتقدير لا بحياة. والثاني: أنه حي بحياة هي له صفة. والثالث: أنه اسم من أسماء الله تَسَمَّى به , فقلناه تسليماً لأمره. والرابع: أن المراد بالحي الباقي , قاله السدي , ومنه قول لبيد:
(إذا ما تَرَيَنِّي اليومَ أصْبَحْتُ سَالِماً ... فَلَسْتُ بِأحْيَا مِن كِلابٍ وَجَعْفَرِ)
{الْقَيُّومُ} قرأ عمر بن الخطاب القيام. وفيه ستة تأويلات: أحدها: القائم بتدبير خلقه , قاله قتادة. والثاني: يعني القائم على كل نفس بما كسبت , حتى يجازيها بعملها من حيث هو عالم به , لا يخفى عليه شيء منه , قاله الحسن. والثالث: معنى القائم الوجود , وهو قول سعيد بن جبير. والرابع: أنه الذي لا يزول ولا يحول , قاله ابن عباس. والخامس: أنه العالم بالأمور , من قولهم: فلان يقوم بهذا الكتاب , أي هو عالم به.

(1/323)


والسادس: أنه اسم من أسماء الله , مأخوذ من الاستقامة , قال أمية بن أبي الصلت:
(لم تُخلَق السماءُ والنجوم ... والشمسُ معها قمر يقوم)
(قدّرهَا المهيمن القيوم ... والحشر والجنة والحميم)
89 (إلاّ لأمرٍ شأنه عظيم} 9
{لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ} السِّنةُ: النعاس في قول الجميع , والنعاس ما كان في الرأس , فإذا صار في القلب صار نوماً , وفرَّق المفضل بينهما , فقال: السِّنة في الرأس , والنعاس في العين , والنوم في القلب. وما عليه الجمهور من التسوية بين السِّنة والنعاس أشبه , قال عدي بن الرقاع:
(وسْنَانُ أقصده النعاس فرنقت ... في عينه سنة وليس بنائم)
{يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ} فيه وجهان: أحدهما: ما بين أيديهم: هو ما قبل خلقهم , وما خلفهم: هو ما بعد موتهم. والثاني: ما بين أيديهم: ما أظهروه , وما خلفهم: ما كتموه. {وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَآءَ} أي من معلومه إلا أن يطلعهم عليه ويعلمهم إياه. {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ} في الكرسي قولان: أحدهما: أنه من صفات الله تعالى. والثاني: أنه من أوصاف ملكوته. فإذا قيل إنه من صفات ففيه أربعة أقاويل:

(1/324)


أحدها: أنه علم الله , قاله ابن عباس. والثاني: أنه قدرة الله. والثالث: ملك الله. والرابع: تدبير الله. وإذا قيل إنه من أوصاف ملكوته ففيه ثلاثة أقاويل: أحدها: أنه العرش , قاله الحسن. والثاني: أنه سرير دون العرش. والثالث: هو كرسي تحت العرش , والعرش فوق الماء. وأصل الكرسي العلم , ومنه قيل للصحيفة فيها علم مكتوب: كراسة , قال أبو ذؤيب:
(مالي بأمرك كرسيّ أكاتمه ... ولا بكرسيّ عليم الغيب مخلوق)
وقيل للعلماء: الكراسي , لأنهم المعتمد عليهم كما يقال لهم: أوتاد الأرض , لأنهم الذين بهم تصلح الأرض , قال الشاعر:
(يحف بهم بيضُ الوجوه وعُلية ... كراسيُّ بالأحداث حين تنوبُ)
أي علماء بحوادث الأمور , فدلت هذه الشواهد , على أن أصح

(1/325)


تأويلاته , ما قاله ابن عباس , أنه علم الله تعالى. وقرأ يعقوب الحضرمي: وُسْعُ كرسيِّه السمواتُ والأرضُ بتسكين السين من وسع وضم العين ورفع السموات والأرض على الابتداء والخبر , وفي تأويله وجهان: أحدهما: لا يثقله حفظهما في قول الجمهور. والثاني: لا يتعاظمه حفظهما , حكاه أبان بن تغلب. وأنشد:
(ألا بكِّ سلمى اليوم بت جديدها ... وضَنّت وما كان النوال يؤودها)
واختلفوا في الكناية بالهاء إلى ماذا تعود؟ على قولين: أحدهما: إلى اسم الله , وتقديره ولا يُثقل الله حفظ السموات والأرض. والثاني: تعود إلى الكرسي , وتقديره ولا يثقل الكرسيَّ حفظهما. {وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} في العلي تأويلان: أحدهما: العلي بالاقتدار ونفوذ السلطان. والثاني: العلي عن الأشباه والأمثال. وفي الفرق بين العلي والعالي , وجهان محتملان: أحدهما: أن العالي هو الموجود في محل العلو , والعلي هو مستحق العلو. والثاني: أن العالي هو الذي يجوز أن يُشَارَكَ في علوه , والعلي هو الذي لا يجوز أن يُشَارَكَ في علوه , فعلى هذا الوجه , يجوز أن نصف الله بالعليّ , ولا يجوز أن نصفه بالعالي , وعلى الوجه الأول يجوز أن نصفه بهما جميعاً.

(1/326)


لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (256)

{لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن

(1/326)


بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها والله سميع عليم} قوله تعالى: {لآَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} فيه ثلاثة أقاويل: أحدها: أن ذلك في أهل الكتاب , لا يُكْرَهُون على الدين إذا بذلوا الجزية , قاله قتادة. والثاني: أنها نزلت في الأنصار خاصة , كانت المرأة منهم تكون مِقْلاَةً لا يعيش لها ولد , فتجعل على نفسها , إن عاش لها ولد أن تهوّده , ترجو به طول العمر , وهذا قبل الإسلام , فلما أجلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بني النضير , كان فيهم من أبناء الأنصار , فقالت الأنصار: كيف نصنع بأبنائنا؟ فنزلت هذه الآية , قاله ابن عباس. والثالث: أنها منسوخة بفرض القتال , قاله ابن زيد. {فَمَن يَكْفُرُ بِالطَّاغُوتِ} فيه سبعة أقوال: أحدها: أنه الشيطان وهو قول عمر بن الخطاب. والثاني: أنه الساحر , وهو قول أبي العالية. والثالث: الكاهن , وهو قول سعيد بن جبير. والرابع: الأصنام. والخامس: مَرَدَة الإنس والجن. والسادس: أنه كل ذي طغيان طغى على الله , فيعبد من دونه , إما بقهر منه لمن عبده , أو بطاعة له , سواء كان المعبود إنساناً أو صنماً , وهذا قول أبي جعفر الطبري. والسابع: أنها النفس لطغيانها فيما تأمر به من السوء , كما قال تعالى: {إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ} [يوسف: 53].

(1/327)


واختلفوا في {الطَّاغُوتِ} على وجهين: أحدهما: أنه اسم أعجمي معرّب , يقع على الواحد والجماعة. والثاني: أنه اسم عربي مشتق من الطاغية , قاله ابن بحر. {وَيُؤْمِن بِاللهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى} فيها أربعة أوجه: أحدها: هي الإيمان الله , وهو قول مجاهد. والثاني: سنة الرسول. والثالث: التوفيق. والرابع: القرآن , قاله السدي. {لاَ انفِصَامَ لَهَا} فيه قولان: أحدهما: لا انقطاع لها , قاله السدي. والثاني: لا انكسار لها , وأصل الفصم: الصدع.

(1/328)


اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (257)

{الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون} قوله عز وجل: {اللهُ وَلِيُّ الَّذِينَءَامَنُوا} يحتمل وجهين: أحدهما: يتولاهم بالنصرة. والثاني: بالإرشاد. {يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} فيه وجهان: أحدهما: من ظلمات الضلالة إلى نور الهدى , قاله قتادة. والثاني: يخرجهم من ظلمات العذاب في النار , إلى نور الثواب في الجنة. {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَآؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُم مِّنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ} يكون على وجهين: أحدهما: يخرجونهم من نور الهدى إلى ظلمات الضلالة.

(1/328)


والثاني: يخرجونهم من نور الثواب إلى ظلمة العذاب في النار. وعلى وجه ثالث لأصحاب الخواطر: أنهم يخرجونهم من نور الحق إلى ظلمات الهوى. فإن قيل: فكيف يخرجونهم من النور , وهم لم يدخلوا فيه؟ فعن ذلك جوابان: أحدهما: أنها نزلت في قوم مُرْتَدِّين , قاله مجاهد. والثاني: أنها نزلت فيمن لم يزل كافراً , وإنما قال ذلك لأنهم لو لم يفعلوا ذلك بهم لدخلوا فيه , فصاروا بما فعلوه بمنزلة من قد أخرجهم منه. وفيه وجه ثالث: أنهم كانوا على الفطرة عند أخذ الميثاق عليهم , فلما حَمَلُوهم على الكفر أخرجوهم من نور فطرتهم.

(1/329)


أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (258)

{ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه أن آتاه الله الملك إذ قال إبراهيم ربي الذي يحيي ويميت قال أنا أحيي وأميت قال إبراهيم فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب فبهت الذي كفر والله لا يهدي القوم الظالمين} قوله عز وجل: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَآجَّ إِبْرَاهِيمَ في رَبِّهِ} هو النمرود بن كنعان , وهو أول من تجبّر في الأرض وادّعى الربوبية. {أَنْءَاتَاهُ اللهُ الْمُلْكَ} فيه قولان: أحدهما: هو النمرود لما أوتي الملك حاجَّ في الله تعالى , وهو قول الحسن. والثاني: هو إبراهيم لما آتاه الله الملك حاجّه النمرود , قاله أبو حذيفة. وفي المحاجّة وجهان محتملان: أحدهما: أنه معارضة الحجة بمثلها. والثاني: أنه الاعتراض على الحجة بما يبطلها.

(1/329)


{إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ: رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ: أَنَا أُحْي وَأُمِيتُ} يريد أنه يحيي من وجب عليه القتل بالتخلية والاستبقاء , ويميت بأن يقتل من غير سبب يوجب القتل , فعارض اللفظ بمثله , وعدل عن اختلاف الفعلين في علتهما. {قَالَ إِبْرَاهِيمُ: فإنَّ اللهَ يَأْتي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغرِبِ} فإن قيل: فَلِمَ عَدَل إبراهيم عن نصرة حجته الأولى إلى غيرها , وهذا يضعف الحجة ولا يليق بالأنبياء؟ ففيه جوابان: أحدهما: أنه قد ظهر من فساد معارضته ما لم يحتج معه إلى نصرة حجته ثم أتبع ذلك بغيره تأكيداً عليه في الحجة. والجواب الثاني: أنه لمّا كان في تلك الحجة إشغاب منه بما عارضها به من الشبهة أحب أنه يحتج عليه بما لا إشغاب فيه , قطعاً له واستظهاراً عليه قال: {فإنَّ اللهَ يَأْتي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغرِبِ} فإن قيل فَهَلاَّ عارضه النمرود بأن قال: فليأت بها ربك من المغرب؟ ففيه جوابان: أحدهما: أن الله خذله بالصرف عن هذه الشبهة. والجواب الثاني: أنه علم بما رأى معه من الآيات أنه يفعل فخاف أن يزداد فضيحة. {فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ} فيه قولان: أحدهما: يعني تحيّر. والثاني: معناه انقطع , وهو قول أبي عبيدة. وقرئ: فَبَهَت الذي كفر بفتح الباء والهاء بمعنى أن الملك قد بهت إبراهيم بشبهته أي سارع بالبهتان. {واللهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} يحتمل وجهين: أحدهما: لا يعينهم على نصرة الظلم. والثاني: لا يُخلِّصُهم من عقاب الظلم. ويحتمل الظلم هنا وجهين: أحدهما: أنه الكفر خاصة. والثاني: أنه التعدي من الحق إلى الباطل.

(1/330)


أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (259)

{أو كالذي مر على قرية وهي خاوية على عروشها قال أنى يحيي هذه الله بعد موتها فأماته الله مائة عام ثم بعثه قال كم لبثت قال لبثت يوما أو بعض يوم قال بل لبثت مائة عام فانظر إلى طعامك وشرابك لم يتسنه وانظر إلى حمارك ولنجعلك آية للناس وانظر إلى العظام كيف ننشزها ثم نكسوها لحما فلما تبين له قال أعلم أن الله على كل شيء قدير} {أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ} اختلفوا في الذي مر على قرية على ثلاثة أقاويل: أحدها: أنه عزيز , قاله قتادة. والثاني: أنه إرْمياء , وهو قول وهب. والثالث: أنه الخَضِر , وهو قول ابن إسحاق , واختلفوا في القرية على قولين: أحدهما: هي بيت المقدس لما خرّبه بُخْتنصَّر , وهذا قول وهب وقتادة. والربيع بن أنس. والثاني: أنها التي خرج منها الألوف حذر الموت , قاله ابن زيد. {وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا} في الخاوية قولان: أحدهما: الخراب , وهو قول ابن عباس , والربيع , والضحاك. والثاني: الخالية. وأصل الخواء الخلو , يقال خوت الدار إذا خلت من أهلها , والخواء الجوع لخلو البطن من الغذاء {عَلَى عُرُوشِهَا}: على أبنيتها , والعرش: البناء. {قَالَ أَنَّى يَحْيِي هَذِهِ اللهُ بَعْدَ مَوْتِهَا} فيه وجهان: أحدهما: يعمرها بعد خرابها. والثاني: يعيد أهلها بعد هلاكهم.

(1/331)


{فَأَمَاتَهُ اللهُ مِاْئَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ: كَمْ لَبِثْتَ} أي مكث. {قَالَ: لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ} لأن الله تعالى أماته في أول النهار , وأحياه بعد مائة عام آخر النهار , فقال: يوماً , ثم التفت فرأى بقية الشمس فقال: {أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ}. {قَالَ: بَل لَّبِثْتَ مِاْئَةَ عَامٍ فَانظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ} فيه تأويلان: أحدهما: معناه لم يتغير , من الماء الآسن وهو غير المتغير , قال ابن زيد: والفرق بين الآسن والآجن أن الآجن المتغير الذي يمكن شربه والآسن المتغير الذي لا يمكن شربه. والثاني: معناه لم تأتِ عليه السنون فيصير متغيراً , قاله أبو عبيد. قيل: إن طعامه كان عصيراً وتيناً وعنباً , فوجد العصير حلواً , ووجد التين والعنب طرياً جنيّاً. فإن قيل: فكيف علم أنه مات مائة عام ولم يتغير فيها طعامه؟ قيل: إنه رجع إلى حاله فعلم بالآثار والأخبار , وأنه شاهد أولاد أولاده شيوخاً , وكان قد خلف آباءهم مُرْداً أنه مات مائة عام. وروي عن علي بن أبي طالب كرم الله وجهه: أن عزيراً خرج من أهله وخلف امرأته حاملاً وله خمسون سنة , فأماته الله مائة عام , ثم بعثه فرجع إلى أهله , وهو ابن خمسين سنة , وله ولد هو ابن مائة سنة , فكان ابنه أكبر منه بخمسين سنة , وهو الذي جعله الله آية للناس. وفي قوله تعالى: {وَانظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنشِزُهَا} قراءتان: إحداهما: ننشرُها بالراء المهملة , قرأ بذلك ابن كثير ونافع وأبو عمرو , ومعناه نحييها. والنشور: الحياة بعد الموت , مأخوذ من نشر الثوب , لأن الميت

(1/332)


كالمطوي , لأنه مقبوض عن التصرف بالموت , فإذا حَيِيَ وانبسط بالتصرف قيل: نُشِرَ وأُنشِر. والقراءة الثانية: قرأ بها الباقون ننشِزُها بالزاي المعجمة , يعني نرفع بعضها إلى بعض , وأصل النشوز الارتفاع , ومنه النشز اسم للموضع المرتفع من الأرض , ومنه نشوز المرأة لارتفاعها عن طاعة الزوج. وقيل إِنَّ الله أحيا عينيه وأعاد بصره قبل إحياء جسده , فكان يرى اجتماع عظامه واكتساءها لحماً , ورأى كيف أحيا الله حماره وجمع عظامه. واختلفوا في القائل له: كم لبثت على ثلاثة أقاويل: أحدها: أنه ملك. والثاني: نبي. والثالث: أنه بعض المؤمنين المعمرين ممن شاهده عند موته وإحيائه.

(1/333)


وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (260)

{وإذ قال إبراهيم رب أرني كيف تحيي الموتى قال أو لم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي قال فخذ أربعة من الطير فصرهن إليك ثم اجعل على كل جبل منهن جزءا ثم ادعهن يأتينك سعيا واعلم أن الله عزيز حكيم} قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْي الْمَوْتَى} اختلفوا لِمَ سأله عن ذلك؟ على قولين: أحدهما: أنه رأى جيفة تمزقها السباع فقال ذلك , وهذا قول الحسن , وقتادة , والضحاك. والثاني: لمنازعة النمرود له في الإحياء , قاله ابن إسحاق. ولأي الأمرين كان , فإنه أحب أن يعلم ذلك علم عيان بعد علم الاستدلال. ولذلك قال الله تعالى له: {أَوَلَمْ تُؤْمِن؟ قَالَ: بَلَى وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} فيه ثلاثة أوجه:

(1/333)


أحدها: يعني ليزداد يقيناً إلى يقينه , هكذا قال الحسن , وقتادة , وسعيد بن جبير , والربيع , ولا يجوز ليطمئن قلبي بالعلم بعد الشك , لأن الشك في ذلك كفر لا يجوز على نبي. والثاني: أراد ليطمئن قلبي أنك أجبت مسألتي , واتخذتني خليلاً كما وعدتني , وهذا قول ابن السائب. والثالث: أنه لم يرد رؤية القلب , وإنما أراد رؤية العين , قاله الأخفش. ونفر بعض من قال بغوامض المعاني من هذا الالتزام وقال: إنما أراد إبراهيم من ربه أن يريه كيف يحيي القلوب بالإيمان , وهذا التأويل فاسد بما يعقبه من البيان. وليست الألف في قوله: {أَوَ لَمْ تُؤْمِن} ألف استفهام وإنما هي ألف إيجاب كقول جرير:
(ألستم خير من ركب المطايا ... وأندى العالمين بطون راح)
{قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِّنَ الطَّيْرِ} فيها قولان: أحدهما: هن: الديك , والطاووس , والغراب , والحمام , قاله مجاهد. والثاني: أربعة من الشقانين , قاله ابن عباس. {فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ} قرأت الجماعة بضم الصاد , وقرأ حمزة وحده بكسرها , واختلف في الضم والكسر على قولين: أحدهما: أن معناه متفق ولفظهما مختلف , فعلى هذا في تأويل ذلك أربعة أقاويل: أحدها: معناه انْتُفْهُنَّ بريشهن ولحومهن , قاله مجاهد. والثاني: قَطِّعْهُن , قاله ابن عباس , وسعيد بن جبير , والحسن. قال الضحاك: هي بالنبطية صرتا , وهي التشقق.

(1/334)


والثالث: اضْمُمْهُن إليك , قاله عطاء , وابن زيد. والرابع: أَمِلْهُن إليك , والصور: الميل , ومنه قول الشاعر في وصف إبل:
(تظَلُّ مُعقّلات السوق خرساً ... تصور أنوفها ريح الجنوب)
والقول الثاني: أن معنى الضم والكسر مختلف , وفي اختلافهما قولان: أحدهما: قاله أبو عبيدة أن معناه بالضم: اجْمَعْهن , وبالكسر: قَطِّعْهُنّ. والثاني: قاله الكسائي ومعناه بالضم أَمِلْهُنّ , وبالكسر: أقْبِلْ بهن. {ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِّنْهُنَّ جُزْءاً} فيه أربعة أقاويل: أحدها: أنها كانت أربعة جبال , قاله ابن عباس , والحسن , وقتادة. والثاني: أنها كانت سبعة , قاله ابن جريج , والسدي. والثالث: كل جبل , قاله مجاهد. والرابع: أنه أراد جهات الدنيا الأربع , وهي المشرق والمغرب والشمال والجنوب , فمثّلها بالجبال , قاله ابن بحر. واختلفوا هل قطّع إبراهيم الطير أعضاء صرن به أمواتاً , أم لا؟ على قولين: أحدهما: أنه قطَّعَهُن أعضاء صرن به أمواتاً , ثم دعاهن فعدْن أحياء ليرى كيف يحيي الله الموتى كما سأل ربه , وهو قول الأكثرين. والثاني: أنه فَرَّقَهُن أحياء , ثم دعاهن فأجبنه وعدن إليه , يستدل بعودهن إليه بالدعاء , على عَوْد الأموات بدعاء الله أحياءً , ولا يصح من إبراهيم أن يدعو أمواتاً له , قاله ابن بحر. والجزء من كل شيء هو بعضه سواءً كان منقسماً على صحة أو غير منقسم , والسهم هو المنقسم عليه جميعه على صحة. فإنْ قيل: فكيف أجيب إبراهيم إلى آيات الآخرة دون موسى في قوله: {رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ} [الأعراف: 143] فعنه جوابان: أحدهما: أن ما سأله موسى لا يصح مع بقاء التكليف , وما سأله إبراهيم خاص يصح.

(1/335)


والثاني: أن الأحوال تختلف , فيكون الأصلح في بعض الأوقات الإجابة , وفي بعض وقت آخر المنع فيما لم يتقدم فيه إذن. قال ابن عباس: أمر الله إبراهيم بهذا قبل أن يولد له , وقبل أن يُنَزِّلَ عليه الصُّحُف. وحُكِيَ: أن إبراهيم ذبح الأربعة من الطير , ودق أجسامهن في الهاون لا روحهن , وجعل المختلط من لحومهن عشرة أجزاء على عشرة جبال , ثم جعل مناقيرها بين أصابعه , ثم دعاهن فأتين سعياً , تطاير اللحم إلى اللحم , والجلد إلى الجلد , والريش إلى الريش , فذهب بعض من يتفقه من المفسرين إلى من وصّى بجزء من ماله لرجل أنها وصية بالعُشْر , لأن إبراهيم وضع أجزاء الطير على عشرة جبال.

(1/336)


مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (261)

{مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة والله يضاعف لمن يشاء والله واسع عليم} قوله تعالى: {مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَلَهُمْ في سَبِيلِ اللهِ} فيه تأويلان: أحدهما: يعني في الجهاد , قاله ابن زيد. والثاني: في أبواب البر كلها. {كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ في كُلِّ سُنبُلَةٍ مِاْئَةُ حَبَّةٍ} ضرب الله ذلك مثلاً في أن النفقة في سبيل الله بسبعمائة ضعف , وفي مضاعفة ذلك في غير ذلك من الطاعات قولان: أحدهما: أن الحسنة في غير ذلك بعشرة أمثالها , قاله ابن زيد. والثاني: يجوز مضاعفتها بسبعمائة ضعف , قاله الضحاك. {وَاللهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَآءُ} يحتمل أمرين: أحدهما: يضاعف هذه المضاعفة لمن يشاء. والثاني: يضاعف الزيادة على ذلك لمن يشاء.

(1/336)


{وَاللهُ وَسِعٌ عَلِيمٌ} فيه قولان: أحدهما: واسع لا يَضِيق عن الزيادة , عليم بمن يستحقها , قاله ابن زيد. والثاني: واسع الرحمة لا يَضِيق عن المضاعفة , عليم بما كان من النفقة. ويحتمل تأويلاً ثالثاً: واسع القدرة , عليم بالمصلحة.

(1/337)


الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنًّا وَلَا أَذًى لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (262) قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ (263) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لَا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (264)

{الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله ثم لا يتبعون ما أنفقوا منا ولا أذى لهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون قول معروف ومغفرة خير من صدقة يتبعها أذى والله غني حليم يا أيها الذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى كالذي ينفق ماله رئاء الناس ولا يؤمن بالله واليوم الآخر فمثله كمثل صفوان عليه تراب فأصابه وابل فتركه صلدا لا يقدرون على شيء مما كسبوا والله لا يهدي القوم الكافرين} قوله تعالى: {الَّذِينَ يُنِفقُونَ أَمْوَلَهُمْ في سَبِيلِ اللهِ ثُمَّ لاَ يُتْبِعُونَ مَآ أَنفَقُواْ مَنّاً وَلآَ أَذىً} المَنّ في ذلك أن يقول: أحسنت إليك ونعّشتك , والأذى أن يقول: أنت أباداً فقير , ومن أبلاني بك , مما يؤذي قلب المُعْطَى. {لَّهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ} يعني ما استحقوه فيما وعدهم به على نفقتهم. {وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ} فيه تأويلان: أحدهما: لا خوف عليهم في فوات الأجر. والثاني: لا خوف عليهم في أهوال الآخرة. {وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} يحتمل وجهين: أحدهما: لا يحزنون على ما أنفقوه. والثاني: لا يحزنون على ما خلفوه. وقيل إن هذه الآية نزلت في عثمان بن عفان رضي الله عنه فيما أنفقه على جيش العسرة في غزاة تبوك.

(1/337)


قوله تعالى: {قَوْلٌ مَّعْرُوفٌ} يعني قولاً حسناً بدلاً من المن والأذى ويحتمل وجهين: أحدهما: أن يدني إن أعطى. والثاني: يدعو إن منع. {وَمَغْفِرَةٌ} فيها أربعة تأويلات: أحدها: يعني العفو عن أذى السائل. والثاني: يعني بالمغفرة السلامة من المعصية. والثالث: أنه ترك الصدقة والمنع منها , قاله ابن بحر. والرابع: هو يستر عليه فقره ولا يفضحه به. {خَيْرٌ مِّن صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَآ أَذىً} يحتمل الأذى هنا وجهين: أحدهما: أنه المنّ. والثاني: أنه التعيير بالفقر. ويحتمل قوله: {خَيْرٌ مِّن صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَآ أَذىً} وجهين: أحدهما: خير منها على العطاء. والثاني: خير منها عند الله. رُوي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (المنّانُ بِمَا يُعْطِي لاَ يُكَلِّمُهُ اللهُ يَوْمَ القَيَامَةِ وَلاَ يَنظُرُ إِلَيهِ وَلاَ يُزَكِّيهِ وَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ). قوله تعالى: {يَأَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُواْ لاَ تُبْطِلُواْ صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ وَالأَذَى} يريد إبطال الفضل دون الثواب. ويحتمل وجهاً ثانياً: إبطال موقعها في نفس المُعْطَى. {كَالَّذِي يُنفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلاَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَاليَوْمِ الأَخِرِ} القاصد بنفقته

(1/338)


الرياء غير مُثَابٍ , لأنه لم يقصد وجه الله , فيستحق ثوابه , وخالف صاحب المَنِّ والأذى القاصِدَ وجه الله المستحق ثوابه , وإن كرر عطاءَه وأبطل فضله. ثم قال تعالى: {فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ} الصفوان: جمع صفوانة , وفيه وجهان: أحدهما: أنه الحجر الأملس سُمِّيَ بذلك لصفائه. والثاني: أنه أَلْيَنُ مِنَ الحجارة , حكاه أبان بن تغلب. {فَأَصَابَهُ وَابِلٌ} وهو المطر العظيم القَطْرِ , العظيم الوَقْع. {فَتَرَكَهُ صَلْداً} الصلد من الحجارة ما صَلُبَ , ومن الأرض مَا لَمْ ينبت , تشبيهاً بالحجر الذي لا ينبت. {لاَّ يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِّمَّا كَسَبُواْ} يعني مما أنفقوا , فعبَّر عن النفقة بالكسب , لأنهم قصدوا بها الكسب , فضرب هذا مثلاً للمُرَائِي في إبطال ثوابه , ولصاحب المَنِّ والأَذَى في إبطال فضله.

(1/339)


وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (265)

{ومثل الذين ينفقون أموالهم ابتغاء مرضات الله وتثبيتا من أنفسهم كمثل جنة بربوة أصابها وابل فآتت أكلها ضعفين فإن لم يصبها وابل فطل والله بما تعملون بصير} قوله تعالى: {وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَلَهُمُ ابْتِغَآءَ مَرْضَاتِ اللهِ} يحتمل وجهين: أحدهما: في نُصرة أهل دينه من المجاهدين. والثاني: في معونة أهل طاعته من المسلمين. {وَتَثْبِيتاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ} فيه أربعة تأويلات: أحدها: تثبيتاً من أنفسهم بقوة اليقين , والنصرة في الدين , وهو معنى قول الشعبي , وابن زيد , والسدي.

(1/339)


والثاني: يتثبتون أين يضعون صدقاتهم , قاله الحسن , ومجاهد. والثالث: يعني احتساباً لأنفسهم عند الله , قاله ابن عباس , وقتادة. والرابع: توطيناً لأنفسهم على الثبوت على طاعة الله , قاله بعض المتكلمين. {كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ} في الربوة قولان: أحدهما: هي الموضع المرتفع من الأرض , وقيل المُسْتَوِي في ارتفاعه. والثاني: كل ما ارتفع عن مسيل الماء , قاله اليزيدي. {أَصَابَهَا وَابِلٌ} في الوابل وجهان: أحدهما: المطر الشديد. والثاني: الكثير , قال عدي بن زيد:
(قليل لها مني وإن سخطت بأن ... أقول سقيت سقيت الوابل الغدقا)
{فآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ} وإنما خص الربوة لأن نبتها أحسن , وريعها أكثر , قال الأعشى:
(ما روضة من رياض الحزن معيشة ... خضراء جاد عليها مسبل هطل)
والأُكُل , بالضم: الطعام لأن من شأنه أن يؤكل. ومعنى ضعفين: مثلين , لأن ضعف الشيء مثله زائداً عليه , وضعفاه: مثلاه زائداً عليه , وقيل ضعف الشيء مثلاه , والأول قول الجمهور. {فَإِن لَّمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ} الطل: الندى , وهو دون المطر , والعرب تقول: الطل أحد المطرين , وزرع الطل أضعف من زرع المطر وأقل ريعاً , وفيه وإن قل تماسكٌ ونَفْعٌ , فأراد بهذا ضرب المثل أن كثير البِر مثل زرع المطر كثير النفع , وقليل البِر مثل زرع الطل قليل النفع , ولا تدع قليل البر إذا لم تفعل كثيره , كما لا تدع زرع الطل إذا لم تقدر على زرع المطر.

(1/340)


أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (266)

{أيود أحدكم أن تكون له جنة من نخيل وأعناب تجري من تحتها

(1/340)


الأنهار له فيها من كل الثمرات وأصابه الكبر وله ذرية ضعفاء فأصابها إعصار فيه نار فاحترقت كذلك يبين الله لكم الآيات لعلكم تتفكرون} قوله تعالى: {أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَن تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ} وهي البستان. {مِّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ} لأنه من أنفس ما يكون فيها. {تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأْنْهَارُ} لأن أنفسها ما كان ماؤها جارياً. {وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ} لأن الكِبَر قد يُنسِي من سعى الشباب في كسبه , فكان أضعف أملاً وأعظم حسرة. {وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَآءُ} لأنه على الضعفاء أحَنّ , وإشفاقه عليهم أكثر. {فَأَصَابَهَآ إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ} وفي الإعصار قولان: أحدهما: أنه السَّمُوم الذي يقتل , حكاه السدي. والثاني: الإعصار ريح تهب من الأرض إلى السماء كالعمود تسميها العامة الزوبعة , قال الشاعر:
( ... ... ... ... ... ... ... ... إن كنت ريحاً فقد لاقيت إعصاراً)
وإنما قيل لها إعصار لأنها تَلْتَفُّ كالتفاف الثوب المعصور. {كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الآْيَاتِ} يحتمل وجهين: أحدهما: يوضح لكم الدلائل. والثاني: يضرب لكم الأمثال. {لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ} يحتمل وجهين: أحدهما: تعتبرون , لأن المفكر معتبر. والثاني: تهتدون , لأن الهداية التَّفَكُّر. واختلفوا في هذا المثل الذي ضربه الله في الحسرة لسلب النعمة , من المقصود به؟ على ثلاثة أقاويل:

(1/341)


أحدها: أنه مثل للمرائي في النفقة ينقطع عنه نفعها أحوج ما يكون إليها , قاله السدي. والثاني: هو مثل للمفرِّط في طاعة الله لملاذّ الدنيا يحصل في الآخرة على الحسرة العظمى , قاله مجاهد. والثالث: هو مثل للذي يختم عمله بفساد , وهو قول ابن عباس.

(1/342)


يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (267) الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (268) يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ (269)

{يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم ومما أخرجنا لكم من الأرض ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون ولستم بآخذيه إلا أن تغمضوا فيه واعلموا أن الله غني حميد الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء والله يعدكم مغفرة منه وفضلا والله واسع عليم يؤتي الحكمة من يشاء ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا وما يذكر إلا أولوا الألباب} قوله تعالى: {يَأَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُواْ أَنفِقُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ} فيه أربعة أقاويل: أحدها: يعني به الذهب والفضة , وهو قول عليّ عليه السلام. والثاني: يعني التجارة , قاله مجاهد. والثالث: الحلال. والرابع: الجيد. {وَمِمَّآ أَخْرَجْنَا لَكُم مِّنَ الأَرْضِ} من الزرع والثمار. وفي الكسب وجهان محتملان: أحدهما: ما حدث من المال المستفاد. والثاني: ما استقر عليه المِلك من قديم وحادث. واختلفوا في هذه النفقة على قولين: أحدهما: هي الزكاة المفروضة قاله عبيدة السلماني.

(1/342)


والثاني: هي في التطوع , قاله بعض المتكلمين. {وَلاَ تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ} التيمم: التعمد , قال الخليل: تقول أَمَمْتُه إذا قصدت أَمَامَه , ويَمَّمْتُه إذا تعمدته من أي جهة كان , وقال غيره: هما سواء , والخبيث: الرديء من كل شيء , وفيه هنا قولان: أحدهما: أنهم كانوا يأتون بالحشف فيدخلونه في تمر الصدقة , فنزلت هذه الآية , وهو قول عليٍّ , والبراء بن عازب. والثاني: أن الخبيث هو الحرام , قاله ابن زيد. {وَلَسْتُم بِآخِذِيهِ إِلاَّ أَن تُغْمِضُواْ فِيهِ} فيه أربعة تأويلات: أحدها: إلا أن تتساهلوا , وهو قول البراء بن عازب. والثاني: إلا أن تحطوا في الثمن , قاله ابن عباس. والثالث: إلا بوكس فكيف تعطونه في الصدقة قاله الزجاج. والرابع: إلا أن ترخصوا لأنفسكم فيه , قاله السدي , وقال الطِّرِمّاح:
(لم يفتنا بالوِتر قوم وللضيْ ... م رجال يرضون بالإغماضِ)
قوله عز وجل: {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ} وهو ما خوّف من الفقر إن أنفق أو تصدق. {وَيَأْمُرُكُم بِالْفَحْشَاءِ} يحتمل وجهين: أحدهما: بالشح. والثاني: بالمعاصي. {وَاللهُ يَعِدُكُم مَّغْفِرَةً مِّنْهُ} يحتمل وجهين: أحدهما: ... . لكم. والثاني: عفواً لكم. {وَفَضْلاً} يحتمل وجهين: أحدهما: سعة الرزق.

(1/343)


والثاني: مضاعفة العذاب. {وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} رُوِيَ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إِنَّ لِلشَّيطَانِ لَمَّةً مِن ابن آدَم , وَلِلْمَلَكِ لَمَّةً , فَأَمَّا لَمَّةُ الشَّيطَانِ فَإِيعَادٌ بِالشَّرِّ وَتَكْذِيبٌ بِالْحَقِّ , وَأَمَّا لَمَّةُ الْمَلَكِ فَإِيعَادٌ بِالْخَيرِ وَتَصْدِيقٌ بِالحَقِّ , فَمَنْ وَجَدَ ذَلِكَ فَلْيَعْلَمْ أَنَّهُ مِنَ اللهِ وَلْيَحْمِدِ اللهَ , وَمَنْ وَجَدَ الأخَرَ فَلْيَتَعَوَّذ بِاللهِ). ثم تلا هذه الآية. قوله تعالى: {يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَاءُ} في الحكمة سبعة تأويلات: أحدها: الفقه في القرآن , قاله ابن عباس. والثاني: العلم بالدين , قاله ابن زيد. والثالث: النبوّة. والرابع: الخشية , قاله الربيع. والخامس: الإصابة , قاله ابن أبي نجيح عن مجاهد. والسادس: الكتابة , قاله مجاهد.

(1/344)


والسابع: العقل , قاله زيد بن أسلم. ويحتمل ثامناً: أن تكون الحكمة هنا صلاح الدين وإصلاح الدنيا.

(1/345)


وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (270) إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (271)

{وما أنفقتم من نفقة أو نذرتم من نذر فإن الله يعلمه وما للظالمين من أنصار إن تبدوا الصدقات فنعما هي وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم ويكفر عنكم من سيئاتكم والله بما تعملون خبير} قوله عز وجل: {إِن تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ} يعني أنه ليس في إبدائها كراهية. {وَإِن تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَآءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ} فيه قولان: أحدهما: أنه يعود إلى صدقة التطوع , يكون إخفاؤها أفضل , لأنه من الرياء أبعد , فأما الزكاة فإبداؤها أفضل , لأنه من التهمة أبعد , وهو قول ابن عباس , وسفيان. والثاني: أن إخفاء الصدقتين فرضاً ونفلاً أفضل , قاله يزيد بن أبي حبيب , والحسن , وقتادة. {وَيُكَفِّرُ عَنكُم مِّن سَيِّئَاتِكُمْ} فيه قولان: أحدهما: أن (مِنْ) زائدة تقديرها: ويكفر عنكم سيئاتكم. والثاني: أنها ليست زائدة وإنما دخلت للتبعيض , لأنه إنما يكفر بالطاعة من غير التوبة الصغائر , وفي تكفيرها وجهان: أحدهما: يسترها عليهم. والثاني: يغفرها لهم.

(1/345)


لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ (272) لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (273) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (274)

{ليس عليك هداهم ولكن الله يهدي من يشاء وما تنفقوا من خير فلأنفسكم وما تنفقون إلا ابتغاء وجه الله وما تنفقوا

(1/345)


من خير يوف إليكم وأنتم لا تظلمون للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله لا يستطيعون ضربا في الأرض يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف تعرفهم بسيماهم لا يسألون الناس إلحافا وما تنفقوا من خير فإن الله به عليم الذين ينفقون أموالهم بالليل والنهار سرا وعلانية فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون} قوله عز وجل: {لِلْفُقَرَآءِ الَّذِينَ أُحْصِرُواْ فِي سَبِيلِ اللهِ} قيل هم فقراء المهاجرين , وفي أحصروا أربعة أقاويل: أحدها: أنهم منعوا أنفسهم من التصرف للمعاش خوف العدو من الكفار , قاله قتادة , وابن زيد. والثاني: منعهم الكفار بالخوف منهم , قاله السدي. والثالث: منعهم الفقر من الجهاد. والرابع: منعهم التشاغل بالجهاد عن طلب المعاش. {لاَ يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الأَرْضِ} فيه قولان: أحدهما: يعني تصرفاً , قاله ابن زيد. والثاني: يعني تجارة , قاله قتادة , والسدي. {يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ} يعني من قلة خبرته بهم , ومن التعفف: يعني من التقنع والعفة والقناعة. {تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ} السمة: العلامة , وفي المارد بِهَا هُنَا قولان: أحدهما: الخشوع , قاله مجاهد. والثاني: الفقر , قاله السدي. {لاَ يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافاً} فيه وجهان: أحدهما: أن يسأل وله كفاية.

(1/346)


والثاني: أنه الاشتمال بالمسألة , ومنه اشتق اسم اللحاف. فإن قيل: فهل كانوا يسألون غير إلحاف؟ قيل: لا؛ لأنهم كانوا أغنياء من التعفف , وإنما تقدير الكلام لا يسألون فيكون سؤالهم إلحافاً. قال ابن عباس في أهل الصُفَّة من المهاجرين: لم يكن لهم بالمدينة منازل ولا عشائر وكانوا نحو أربعمائة. قوله عز وجل: {الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُم بِاللَّيلِ وَالنَّهَارِ سِرّاً وَعَلاَنِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} اختلفوا في سبب نزولها على ثلاثة أقاويل: أحدها: أنها نزلت في عليٍّ كرم الله وجهه , كانت معه أربعة دراهم فأنفقها على أهل الصفّة , أنفق في سواد الليل درهماً , وفي وضح النهار درهماً , وسراً درهماً , وعلانية درهماً , قاله ابن عباس. والثاني: أنها نزلت في النفقة على الخيل في سبيل الله لأنهم ينفقون بالليل والنهار سِرّاً وعلانية , قاله أبو ذر , والأوزاعي. والثالث: أنها نزلت في كل مَنْ أنفق ماله في طاعة الله. ويحتمل رابعاً: أنها خاصة في إباحة الارتفاق بالزروع والثمار , لأنه يرتفق بها كل مار في ليل أو نهار , في سر وعلانية , فكانت أعم لأنها تؤخذ عن الإرادة وتوافق قدر الحاجة.

(1/347)


الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (275)

{الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس ذلك بأنهم قالوا إنما البيع مثل الربا وأحل الله البيع وحرم الربا فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف وأمره إلى الله ومن عاد فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون} قوله عز وجل: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا} يعني يأخذون الربا فعبر عن الأخذ بالأكل لأن الأخذ إنما يراد للأكل , والربا: هو الزيادة من قولهم: ربا السويق يربو إذا زاد , وهو الزيادة على مقدار الدَّيْنِ لمكان الأجل.

(1/347)


{لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ} يعني من قبورهم يوم القيامة , وفيه قولان: أحدهما: كالسكران من الخمر يقطع ظهراً لبطن , ونسب إلى الشيطان لأنه مطيع له في سكره. والثاني: قاله ابن عباس , وابن جبير , ومجاهد , والحسن: لا يقومون يوم القيامة من قبورهم إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المسّ , يعني الذي يخنقه الشيطان في الدنيا من المس , يعني الجنون , فيكون ذلك في القيامة علامة لأكل الربا في الدنيا. واختلفوا في مس الجنون , هل هو بفعل الشيطان؟ فقال بعضهم: هذا من فعل الله بما يحدثه من غلبة السوداء فيصرعه , ينسب إلى الشيطان مجازاً تشبيهاً بما يفعله من إغوائه الذي يصرعه. وقال آخرون: بل هو من فعل الشيطان بتمكين الله له من ذلك في بعض الناس دون بعض , لأنه ظاهر القرآن وليس في العقل ما يمنعه. {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا} قيل إنه يعني ثقيفاً لأنهم كانوا أكثر العرب رباً , فلمّا نهوا عنه قالوا: كيف ننهى عن الربا وهو مثل البيع فحكى الله تعالى ذلك عنهم , ثم أبطل ما ذكروه من التشبيه بالبيع فقال تعالى: {وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} وللشافعي في قوله: {وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} ثلاثة أقاويل: أحدها: أنها من العامِّ الذي يجري على عمومه في إباحة كل بيع وتحريم كل ربا إلا ما خصهما دليل من تحريم بعض البيع وإحلال بعض الربا , فعلى هذا اختلف في قوله , هل هو من العموم الذي أريد به العموم , أو من العموم الذي أريد به الخصوص على قولين: أحدهما: أنه عموم أريد به العموم وإن دخله دليل التخصيص. والثاني: أنه عموم أريد به الخصوص.

(1/348)


وفي الفرق بينهما وجهان: أحدهما: أن العموم الذي أريد به العموم: أن يكون الباقي من العموم من بعد التخصيص أكثر من المخصوص , والعموم الذي أريد به الخصوص أن يكون الباقي منه بعد التخصيص أقل من المخصوص. والفرق الثاني: أن البيان فيما أريد به الخصوص متقدِّم على اللفظ , وأن ما أريد به العموم متأخِر عن اللفظ ومقترن به , [هذا] أحد أقاويله: والقول الثاني: أنه المجمل الذي لا يمكن [أن] يستعمل في إحلال بيع أو تحريمه إلا أن يقترن به بيان من سنّة الرسول , وإن دل على إباحة البيوع في الجملة دون التفصيل. وهذا فرق ما بين العموم والمجمل , أن العموم يدل على إباحة البيوع في الجملة ولا يدل على إباحتها في التفصيل حتى يقترن به بيان. فعلى هذا القول أنها مجملة اختلف في إجمالها , هل هو لتعارض فيها أو لمعارضة غيرها لها على وجهين: أحدهما: أنه لمَّا تعارض ما في الآية من إحلال البيع وتحريم الربا وهو بيع صارت بهذا التعارض مجملة وكان إجمالها منها. والثاني: أن إجمالها بغيرها لأن السنّة منعت من بيوع وأجازت بيوعاً فصارت بالسنة مجملة. وإذا صح إجمالها فقد اختلف فيه: هل هو إجمال في المعنى دون اللفظ , لأن لفظ البيع معلوم في اللغة وإنما الشرع أجمل المعنى والحكم حين أحل بيعاً وحرّم بيعاً. والوجه الثاني: أن الإجمال في لفظها ومعناها , لأنه لما عدل بالبيع عن إطلاقه على ما استقر عليه في الشرع فاللفظ والمعنى محتملان معاً , فهذا شرح القول الثاني. والقول الثالث: أنها داخلة في العموم والمجمل , فيكون عموماً دخله التخصيص , ومجملاً لحقه التفسير , لاحتمال عمومها في اللفظ وإجمالها في

(1/349)


المعنى , فيكون اللفظ عموماً دخله التخصيص , والمعنى مجملاً لحقه التفسير. والوجه الثاني: أن عمومها في أول الآية من قوله: {وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} , وإجمالها في آخرها من قوله: {وَحَرَّمَ الرِّبَا} , فيكون أولها عاماً دخله التخصيص , وآخرها مجملاً لحقه التفسير. والوجه الثالث: أن اللفظ كان مجملاً , فلما بَيَّنَهُ الرسول صار عاماً , فيكون داخلاً في المجمل قبل البيان , في العموم بعد البيان. ثم قال تعالى: {فَمَن جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّه فَانتَهَى} في الموعظة وجهان: أحدهما: التحريم. والثاني: الوعيد. {فَلَهُ مَا سَلَفَ} قاله السدي: يعني ما أكل من الربا لا يلزمه رَدُّه. {وَأَمْرُهُ إِلَى اللهِ} يحتمل وجهين: أحدهما: في المحاسبة والجزاء. والثاني: في العفو والعقوبة. وقيل فيه وجه ثالث: في العصمة والتوفيق. وقيل فيه وجه رابع: فأمره إلى الله والمستقل في تثبيته على التحريم أو انتقاله إلى الاستباحة.

(1/350)


يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ (276) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (277)

{يمحق الله الربا ويربي الصدقات والله لا يحب كل كفار أثيم إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة لهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون} قوله تعالى: {يَمْحَقُ اللهُ الرِّبَا} أي ينقصه شيئاً بعد شيء , مأخوذ من محاق الشهر لنقصان الهلال فيه , وفيه وجهان: أحدهما: يبطله يوم القيامة إذا تصدق به في الدنيا. والثاني: يرفع البركة منه في الدنيا مع تعذيبه عليه في الآخرة.

(1/350)


{وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ} فيه تأويلان: أحدهما: يثمر المال الذي خرجت منه الصدقة. والثاني: يضاعف أجر الصدقة ويزيدها , وتكون هذه الزيادة واجبة بالوعد لا بالعمل. {وَاللهُ لاَ يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ} في الكَفَّار وجهان: أحدهما: الذي يستر نعم الله ويجحدها. والثاني: هو الذي يكثر فعل ما يكفر به. وفي الأثيم وجهان: أحدهما: أنه من بَّيت الإِثم. والثاني: الذي يكثر فعل ما يأثم به.

(1/351)


يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (278) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ (279) وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (280) وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (281)

{يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله وإن تبتم فلكم رؤوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة وأن تصدقوا خير لكم إن كنتم تعلمون واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون} قوله عز وجل: {يَأَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُواْ اتَّقُواْ اللهَ} يحتمل وجهين: أحدهما: يأ أيها الذين أمنوا بألسنتهم اتقوا الله بقلوبكم. والثاني: يأيها الذين أمنوا بقلوبهم اتقوا الله في أفعالكم. {وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا} فيمن نزلت هذه الآية قولان: أحدهما: أنها نزلت في ثقيف وكان بينهم وبين عامر وبني مخزوم , فتحاكموا فيه إلى عتاب بن أسيد بمكة وكان قاضياً عليها من قِبَل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: دخلنا في الإسلام على أن ما كان لنا من الربا فهو باق , وما كان علينا فهو موضوع , فنزل ذلك فيهم وكتب به رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم.

(1/351)


والثاني أنها نزلت في بقية من الربا كانت للعباس ومسعود وعبد ياليل وحبيب بن ربيعة عند بني المغيرة. قوله عز وجل: {وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا} محمول على أن مَنْ أربى قبل إسلامه , وقبض بعضه في كُفْرِه وأسلم وقد بقي بعضه , فما قبضه قبل إسلامه معفو عنه لا يجب عليه رد , وما بقي منه بعد إسلامه , حرام عليه لا يجوز له أخذه , فأما المراباة بعد الإسلام فيجب رَدُّه فيما قبض وبقي , فيرد ما قبض ويسقط ما بقي , بخلاف المقبوض في الكفر , لأن الإسلام يجبُّ ما قبله. وفي قوله تعالى: {إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} قولان: أحدهما: يعني أن من كان مؤمنا فهذا حكمه. والثاني: معناه إذا كنتم مؤمنين. قوله عز وجل: {فَإِن لَّمْ تَفْعَلُوا} يعني ترك ما بقي من الربا. {فَأَذَنُوا بِحَرْبٍ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} قرأ حمزة وعاصم في رواية أبي بكر فآذنوا بالمد , بمعنى: فأعلِموا غيركم , وقرأ الباقون بالقَصْر بمعنى فاعلموا أنتم , وفيه وجهان: أحدهما: إن لم تنتهوا عن الربا أموت النبي بحربكم. والثاني: إن لم تنتهوا عنه فأنتم حرب الله ورسوله , يعني أعداءه. {وَإِن تُبْتُم فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ} يعني التي دفعتم {لاَ تَظْلِمُونَ} بأن تأخذوا الزيادة على رؤوس أموالكم , {وَلاَ تُظْلَمُونَ} بأن تمنعوا رؤوس أموالكم. قوله عز وجل: {وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} قيل إن في قراءة أُبَيٍّ {ذَا عُسْرَةٍ} وهو جائز في العربية. وفيه قولان: أحدهما: أن الإِنظار بالعسرة واجب في دَيْن الربا خاصّة , قاله ابن عباس , وشريح. والثاني: أنه عام يجب إنظاره بالعسرة في كل دَيْن , لظاهر الآية , وهو قول

(1/352)


عطاء , والضحاك , وقيل إن الإِنظار بالعسرة في دَيْن الربا بالنص , وفي غيره من الديون بالقياس. وفي قوله: {إِلَى مَيْسَرَةٍ} قولان: أحدهما: مفعلة من اليسر , وهو أن يوسر , وهو قول الأكثرين. والثاني: إلى الموت , قاله إبراهيم النخعي. {وَأَن تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَّكُمْ} يعني وأن تصدقوا على المعسر بما عليه من الدّيْن خير لكم من أن تُنظروه , روى سعيد بن المسيب عن عمر بن الخطاب قال: كان آخر ما نزل من القرآن آية الربا , فدعوا الربا والرُّبْية , وإن نبي الله صلى الله عليه وسلم قبض قبل أن يفسرها. قوله عز وجل: {وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ} أي اتقوا بالطاعة فيما أمرتم به من ترك الربا وما بقي منه. و {يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ} فيه قولان: أحدهما: يعني إلى جزاء الله. والثاني: إلى ملك الله. {ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ} فيه تأويلان: أحدهما: جزاء ما كسبت من الأعمال. والثاني: ما كسبت من الثواب والعقاب. {وهم لا يظلمون} يعني بنقصان ما يستحقونه من الثواب , ولا بالزيادة على ما يستحقونه من العقاب.

(1/353)


روى ابن عباس أن آخر آية نزلت على النبي صلى الله عليه وسلم هذه الآية. قال ابن عباس: مكث بعدها سبع ليال.

(1/354)


يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا وَلَا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (282)

{يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه وليكتب بينكم كاتب بالعدل ولا يأب كاتب أن يكتب كما علمه الله فليكتب وليملل الذي عليه الحق وليتق الله ربه ولا يبخس منه شيئا فإن كان الذي عليه الحق سفيها أو ضعيفا أو لا يستطيع أن يمل هو فليملل وليه بالعدل واستشهدوا شهيدين من رجالكم فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا ولا تسأموا أن تكتبوه صغيرا أو كبيرا إلى أجله ذلكم أقسط عند الله وأقوم للشهادة وأدنى ألا ترتابوا إلا أن تكون تجارة حاضرة تديرونها بينكم فليس عليكم جناح ألا تكتبوها وأشهدوا إذا تبايعتم ولا يضار كاتب ولا شهيد وإن تفعلوا فإنه فسوق بكم واتقوا الله ويعلمكم الله والله بكل شيء عليم} قوله عز وجل: {يَأَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُواْ إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ} إلى آخر الآية. في {تداينتم} تأويلان: أحدهما: تجازيتم. والثاني: تعاملتم. وفي {فَاكْتُبُوهُ} قولان: أحدهما: أنه ندب , وهو قول أبي سعيد الخدري , والحسن , والشعبي.

(1/354)


والثاني: أنه فرض , قاله الربيع , وكعب. {وَلْيَكْتُب بَّيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ} وعَدْل الكاتب ألاّ يزيد [فيه] إضراراً بمن هو عليه , ولا ينقص منه , إضراراً بمن هو له. {وَلاَ يَأْبَ كَاتِبٌ أَن يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ} وفيه أربعة أقاويل: أحدهما: أنه فرض على الكفاية كالجهاد , قاله عامر. والثاني: أنه واجب عليه في حال فراغه , قاله الشعبي أيضاً. والثالث: أنه ندب , قاله مجاهد. والرابع: أن ذلك منسوخ بقوله تعالى: {وَلاَ يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلاَ شَهِيدٌ} , قاله الضحاك. {وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ} يعني على الكاتب , ويقرُّ به عند الشاهد. {وَلاَ يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً} أي لا ينقص منه شيئاً. {فَإِن كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً} فيه أربعة تأويلات: أحدها: أنه الجاهل بالصواب فيما عليه أن يملّه على الكاتب , وهو قول مجاهد. والثاني: أنه الصبي والمرأة , قاله الحسن. والثالث: أنه المبذر لماله , المُفْسِد في دينه , وهو معنى قول الشافعي. والرابع: الذي يجهل قدر المال , ولا يمتنع من تبذيره ولا يرغب في تثميره. {أَوْ ضَعِيفاً} فيه تأويلان: أحدهما: أنه الأحمق , قاله مجاهد , والشعبي. والثاني: أنه العاجز عن الإِملاء إما بِعيٍّ أو خُرْسٍ , قاله الطبري. {أَوْ لاَ يَسْتَطِيعُ أَن يُمِلَّ هُوَ} فيه ثلاثة تأويلات: أحدها: أنه العييّ الأخرس , قاله ابن عباس. والثاني: أنه الممنوع عن الإِملاء إما بحبس أو عيبة.

(1/355)


والثالث: أنه المجنون. {فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ} فيه تأويلان: أحدهما: وليّ مَنْ عليه الحق , وهو قول الضحاك , وابن زيد. والثاني: وليّ الحق , وهو صاحبه , قاله ابن عباس , والربيع. {وَاسْتَشْهِدُواْ شَهِيدَينِ مِن رِّجَالِكُمْ} فيه قولان: أحدهما: من أهل دينكم. والثاني: من أحراركم , قاله مجاهد. {فَإِن لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ} يعني فإن لم تكن البينة برجلين , فبرجل وامرأتين {مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَآءِ} فيه قولان: أحدهما: أنهم الأحرار المسلمون العدول , وهو قول الجمهور. والثاني: أنهم عدول المسلمين وإن كانوا عبيدا , وهو قول شريح , وعثمان البتّي , وأبي ثور. {تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا} فيه وجهان: أحدهما: لئلا تضل , قاله أهل الكوفة. والثاني: كراهة أن تضل , قاله أهل البصرة. وفي المراد به وجهان: أحدهما: أن تخطىء. والثاني: أن تَنْسَى , قاله سيبويه. {فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى} فيه تأويلان: أحدهما: أنها تجعلها كَذَكَرٍ من الرجال , قاله سفيان بن عيينة. والثاني: أنها تذكرها إن نسيت , قاله قتادة , والسدي , والضحاك , وابن زيد. {وَلاَ يَأْبَ الشُّهَدَآءُ إِذَا مَا دُعُواْ} فيه ثلاثة تأويلات:

(1/356)


أحدها: لتحَمُّلها وإثباتها في الكتاب , قاله ابن عباس , وقتادة , والربيع. والثاني: لإِقامتها وأدائها عند الحاكم , قاله مجاهد , والشعبي , وعطاء. والثالث: أنها للتحمل والأداء جميعاً , قاله الحسن. واختلفوا فيه على ثلاثة أقاويل: أحدها: أنه ندب وليس بفرض , قاله عطاء , وعطية العوفي. والثاني: أنه فرض على الكفاية , قاله الشعبي. والثالث: أنه فرض على الأعيان , قاله قتادة , والربيع. {وَلاَ تَسْأَمُوا أَن تَكْتُبُوهُ صَغِيراً أَوْ كَبِيراً إِلَى أَجَلِهِ} وليس يريد بالصغير ما كان تافهاً حقيراً كالقيراط والدانق لخروج ذلك عن العرف المعهود. {ذلكم أقسط عند الله} أي أعدل , يقال: أَقْسَطَ إِذا عَدَلَ فهو مُقْسِط , قال تعالى: {وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [الحجرات: 9] وقَسَطَ إذا جار , قال تعالى: {وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً} [الجن: 14]. {وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ} فيه وجهان: أحدهما: أصحُّ لها , مأخوذ من الاستقامة. والثاني: أحفظ لها , مأخوذ من القيام , بمعنى الحفظ. {وَأَدْنَى أَلاَّ تَرْتَابُواْ} يحتمل وجهين: أحدهما: ألا ترتابوا بِمَنْ عليه حق أن ينكره. والثاني: ألاّ ترتابوا بالشاهد أن يضل. {إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ} يحتمل وجهين: أحدهما: أن الحاضرة ما تعجّل ولم يداخله أجل في مبيع ولا ثمن. والثاني: أنها ما يحوزه المشتري من العروض المنقولة. {تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ} يحتمل وجهين: أحدهما: تتناقلونها من يد إلى يد.

(1/357)


والثاني: تكثرون تبايعها في كل وقت. {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلاَّ تَكْتُبُوهَا} يعني أنه غير مأمور بكتْبِه وإن كان مباحاً. {وَأَشَهِدُوآ إِذَا تَبَايَعْتُمْ} فيه قولان: أحدهما: أنه فرض , وهو قول الضحاك , وداود بن علي. والثاني: أنه ندب , وهو قول الحسن , والشعبي , ومالك , والشافعي. {وَلاَ يُضَآرَّ كَاتِبٌ وَلاَ شَهِيدٌ} فيه ثلاثة تأويلات: أحدها: أن المضارة هو أن يكتب الكاتب ما لم يُمْل عليه , ويشهد الشاهد بما لم يُستشهد , قاله طاووس , والحسن , وقتادة. والثاني: أن المضارّة أن يمنع الكاتب أن يكتب , ويمنع الشاهد أن يشهد , قاله ابن عباس , ومجاهد , وعطاء. والثالث: أن المضارّة أن يدعى الكاتب والشاهد وهما مشغولان معذوران , قاله عكرمة , والضحاك , والسدي , والربيع. ويحتمل تأويلاً رابعاً: أن تكون المضارّة في الكتابة والشهادة. {وَإِن تَفْعَلُواْ فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ} فيه تأويلان: أحدهما: أن الفسوق المعصية , قاله ابن عباس , ومجاهد , والضحاك. والثاني: أنه الكذب , قاله ابن زيد. ويحتمل ثالثاً: أن الفسوق المأثم.

(1/358)


وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (283)

{وإن كنتم على سفر ولم تجدوا كاتبا فرهان مقبوضة فإن أمن بعضكم بعضا فليؤد الذي اؤتمن أمانته وليتق الله ربه ولا تكتموا الشهادة ومن يكتمها فإنه آثم قلبه والله بما تعملون عليم} قوله عز وجل: {وَإِن كُنتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِباً فَرِهَانٌ مَّقْبُوضَةٌ} قرأ ابن كثير , وأبو عمرو: فرُهُن , وقرأ الباقون فرِهَانٌ ,

(1/358)


وفيها قولان: أحدهما: أن الرُّهُن في الأموال , والرِّهَان في الخيل. والثاني: أن الرِّهَان جمع , والرُهُن جمع الجمع مثل ثمار وثمر , قاله الكسائي , والفراء. وفي قوله: {مَّقْبُوضَةٌ} وجهان: أحدهما: أن القبض من تمام الرهن , وهو قبل القبض غير تام , قاله الشافعي , وأبو حنيفة. والثاني: لأنه من لوازم الرهن , وهو قبل القبض التام , قاله مالك. وليس السفر شرطاً في جواز الرهن , لأن النبي صلى الله عليه وسلم رَهَنَ دِرْعَه عند أبي الشحم اليهودي بالمدينة وهي حَضَرٌ , ولا عَدَمُ الكاتب والشاهد شرطاً فيه لأنه زيادة وثيقة. {فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضاً} يعني بغير كاتب ولا شاهد ولا رهن. {فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ} يعني في أداء الحق وترك المُطْل به. {وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ} في ألا يكتم من الحق شيئاً. {وَلاَ تَكْتُمُوا الشِّهَادَةَ وَمَن يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُءَاثِمٌ قَلْبُهُ} فيه تأويلان: أحدهما: معناه فاجر قلبه , قاله السدي. والثاني: مكتسب لإِثم الشهادة.

(1/359)


لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (284) آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (285) لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (286)

{لله ما في السماوات وما في الأرض وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله فيغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء والله على كل شيء

(1/359)


قدير آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير لا يكلف الله نفسا إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به واعف عنا واغفر لنا وارحمنا أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين} قوله عز وجل: {للهِ مَا فِي السَّمَواتِ وما في الأرض} في إضافة ذلك إلى الله تعالى قولان: أحدهما: أنه إضافة تمليك تقديره: الله يملك ما في السماوات وما في الأرض. والثاني: معناه تدبير ما في السماوات وما في الأرض. {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ اللهُ} إبداءُ ما في النفس هو العمل بما أضمروه , وهو مُؤَاخَذ به ومُحَاسَب عليه , وأما إخفاؤه فهو ما أضمره وحدّث به نفسه ولم يعمل به. وفيما أراد به قولان: أحدهما: أن المراد به كتمان الشهادة خاصة , قاله ابن عباس , وعكرمة , والشعبي. والثاني: أنه عام في جميع ما حدَّث به نفسه من سوء , أو أضمر من معصية , وهو قول الجمهور. واختلف في هذه الآية , هل حكمها ثابت في المؤاخذة بما أضمره وحدَّث به نفسه؟ أو منسوخ؟ على قولين: أحدهما: أن حكمها ثابت في المؤاخذة بما أضمره , واختلف فيه من قال بثبوته على ثلاثة أقاويل: أحدها: أن حكمها ثابت على العموم فيما أضمره الإِنسان فيؤاخِذ به من يشاء , ويغفر لمن يشاء , قاله ابن عمر , والحسن. والثاني: حكمها ثابت في مؤاخذة الإِنسان بما أضمره وإن لم يفعله , إلا أنَّ الله يغفره للمسلمين ويؤاخذ به الكافرين والمنافقين , قاله الضحاك , والربيع ,

(1/360)


ويكون {فَيَغْفِرُ لِمَن يَشَآءُ} محمولاً على المسلمين , {وَيُعَذِّبُ مَن يَشَآءُ} محمولاً على الكافرين والمنافقين. والثالث: أنها ثابتة الحكم على العموم في مؤاخذته المسلمين بما حدث لهم في الدنيا من المصائب والأمور التي يحزنون لها , ومؤاخذة الكافرين والمنافقين بعذاب الآخرة , وهذا قول عائشة رضي الله عنها. والقول الثاني: أن حكم الآية في المؤاخذة بما أضمره الإنسان وحدث به نفسه وإن لم يفعله منسوخ. واختلف من قال بنسخها فيما نسخت به على قولين: أحدهما: بما رواه العلاء بن عبد الرحمن بن يعقوب عن أبيه عن أبي هريرة قال: انزل الله {وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكُم أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ اللَّهُ} فاشتد ذلك على القوم فقالوا: يا رسول الله إنا لمؤاخذون بما نُحَدِّثُ به أنفسنا , هلكنا , فأنزل الله تعالى: {لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا} وهو أيضاً قول ابن مسعود. والثاني: أنها نسخت بما رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: لما نزلت هذه الآية {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنفُسِكُمْ} دخل قلوبهم منها شيء لم يدخلها من شيء , فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (قُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَسَلَّمْنَا). قال: فألقى الله الإيِمان في قلوبهم , قال: فأنزل الله: {ءَامَنَ الرَّسُولُ} الآية. فقرأ: {رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأَنَا}. فقال تعالى: قد فعلت. {رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَينَا إِصْراً كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا}. قال: قد فعلت {ربنا ولا تحملنا ما لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ}. قال: قد فعلت. {وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنتَ مَوْلاَنَا فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ}. قال: قد فعلت.

(1/361)


والذي أقوله فيما أضمره وحدّث به نفسه ولم يفعله إنه مُؤَاخَذ بمأثم الإعتقاد دون الفعل , إلا أن يكون كَفُّه عن الفعل ندماً , فالندم توبة تمحص عنه مأثم الإعتقاد. قوله عز وجل: {ءَامَنَ الرَّسُولُ} إلى قوله: {وَمَلآئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ} أما إيمان الرسول فيكون بأمرين: تحمُّل الرسالة , وإِبْلاَغ الأمة , وأما إيمان المؤمنين فيكون بالتصديق والعمل. {كُلٌّءَامَنَ باللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ}. والإِيمان بالله يكون بأمرين: بتوحيده , وقبول ما أنزل على رسوله. وفي الإِيمان بالملائكة وجهان: أحدهما: الإِيمان بأنهم رسل الله إلى أنبيائه. والثاني: الإِيمان بأن كل نفس منهم رقيب وشهيد. {وَكُتُبِهِ} قراءة الجمهور وقرأ حمزة: {وكِتَابِهِ} فمن قرأ {وَكُتُبِهِ} فالمراد به جميع ما أنزل الله منها على أنبيائه. ومن قرأ: {وَكِتَابِهِ} ففيه وجهان: أحدهما: أنه عنى القرآن خاصة. والثاني: أنه أراد الجنس , فيكون معناه بمعنى الأول وأنه أراد جميع الكتب والإِيمان بها والاعتراف بنزولها من الله على أنبيائه. وفي لزوم العمل بما فيها ما لم يرد نسخ قولان: ثم فيما تقدم ذكره من إيمان الرسول والمؤمنين - وإن خرج مخرج الخبر - قولان: أحدهما: أن المراد به مدحهم بما أخبر من إيمانهم. والثاني: أن المراد به أنه يقتدي بهم مَنْ سواهم. ثم قال تعالى: {لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ} يعني في أن يؤمن ببعضهم

(1/362)


دون بعض , كما فعل أهل الكتاب , فيلزم التسوية بينهم في التصديق , وفي لزوم التسوية في التزام شرائعهم ما قدمناه من القولين , وجعل هذا حكاية عن قولهم وما تقدمه خبراً عن حالهم ليجمع لهم بين قول وعمل وماض ومستقبل. {وَقَالُوا: سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} أي سمعنا قوله وأطعنا أمره. ويحتمل وجهاً ثانياً: أن يراد بالسماع القبول , وبالطاعة العمل. {غُفْرَانَكَ رَبَّنَا} معناه نسألك غفرانك , فلذلك جاء به منصوباً. {وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} يعني إلى جزائك. ويحتمل وجهاً ثانياً: يريد به إلى لقائك لتقدم اللقاء على الجزاء. {لا يكلف الله نفسا إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا ربنا ولا تحمل علينا إصراً كما حملته على الذين من قبلنا ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به واعف عنا واغفر لنا وارحمنا أنت مولانا فأنصرنا على القوم الكافرين}. قوله عز وجل: {لا يكلف الله نفسا إلا وسعها} يعني طاقتها، وفيه وجهان: أحدهما: وعدٌ من الله ورسوله وللمؤمنين بالتفصل على عباده ألا يكلف نفساً إلا وسعها. والثاني: أنه إخبار من النبي صلى الله عليه وسلم ومن المؤمنين عن الله، على وجه الثناء عليه، بأنه لا يكلف نفساً إلا وسعها. ثم قال: {لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت} يعني لها ما كسبت من الحسنات، وعليها ما اكتسبت يعني من المعاصي. وفي كسبت واكتسبت وجهان: أحدهما: أن لفظهما مختلف ومعناهما واحد. والثاني: أن كسبت مستعمل في الخير خاصة، واكتسبت مستعمل في الشر خاصّة.

(1/363)


{ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا} قال الحسن: معناه: قولوا ربنا لا تؤاخذنا. {إن نسينا} فيه تأويلان: أحدهما: يعني إن تناسينا أمرك. والثاني: تركنا، والنسيان: بمعنى الترك كقوله تعالى: {نسوا الله فنسيهم} [التوبة: 67]، قاله قطرب. {أو أخظأنا} فيه تأويلان: أحدهما: ما تأولوه من المعاصي بالشبهات. والثاني: ما عمدوه من المعاصي التي هي خطأ تخالف الصواب. وقد فرَّقَ أهل اللسان بين " أخطأ " وخطيء، فقالوا: " أخطأ " يكون على جهة الإثم وغير الإثم، وخطىء: لا يكون إلا على جهة الإثم، ومنه قول الشاعر:
(والناس يلحون الأمير إذا هم ... خطئوا الصواب ولا يُلام المرشد)
{ربنا ولا تحمل علينا إصراً} فيه أربعة تأويلات: أحدها: إصراً أي عهداً نعجز عن القيام به، قاله ابن عباس، ومجاهد، وقتادة. الثاني: أي لا تمسخنا قردة وخنازير، وهذا قول عطاء. الثالث: أنه الذنب الذي ليس فيه توبة ولا كفارة، قاله ابن زيد. الرابع: الإصر: الثقل العظيم، قاله مالك، والربيع، قال النابغة:
(يا مانع الضيم أن يغشى سراتهم ... والحامل الإصر عنهم بعدما عرضوا)
{كما حملته على الذين من قبلنا} يعني بني إسرائيل فيما حملوه من قتل أنفسهم.

(1/364)


{. . ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به} فيه قولان: أحدهما: ما لا طاقة لنا به مما كلفه بنو إسرائيل. الثاني: ما لا طاقة لنا به من العذاب. {واعف عنا واغفر لنا وارحمنا أنت مولانا} فيه وجهان: أحدهما: مالكنا. الثاني: ولينا وناصرنا. {فانصرنا على القوم الكافرين} روى عطاء بن السائب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: لما نزلت هذه الآية: {آمن الرسول بما أنزلنا إليه من ربه} فلما انتهى إلى قوله تعالى: {غفرانك ربنا} قال الله تعالى: قد غفرت لكم، فلما قرأ: {ربنا لا تؤخذنا إن نسينا أو أخطأنا} قال الله تعالى: لا أؤخذكم. فلما قرأ: {ربنا ولا تحمل علينا إصراً كما حملته على الذين من قبلنا} قال الله تعالى: لا أحمل عليكم. فلما قرأ: {ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به} قال الله تعالى: لا أحملكم. فلما قرأ: {واعف عنا} قال الله تعالى: قد عفوت عنكم. فلما قرأ: (واغفر لنا} قال الله تعالى: قد غفرت لكم. فلما قرأ: {وارحمنا} قال الله تعالى: قد رحمتكم. فلما قرأ: {فانصرنا على القوم الكافرين} قال الله تعالى: قد نصرتكم. وروى مرثد بن عبد الله عن عقبة بن عامر الجهني قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " اقرؤوا هاتين الآيتين من خاتمة البقرة فإن الله تعالى أعطانيها من تحت العرش ". وروى أبو سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: السورة التي

(1/365)


تذكر فيها البقرة فسطاطا القرآن، فتعلموها فإن تعليمها بركة وتركها حسرة، ولا يستطيعها البطلة قيل: ومن البطلة؟ قال: السحرة ".

(1/366)