تفسير الماوردي
النكت والعيون سورة يونس
(2/420)
الر تِلْكَ آيَاتُ
الْكِتَابِ الْحَكِيمِ (1) أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ
أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ
وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ
عِنْدَ رَبِّهِمْ قَالَ الْكَافِرُونَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ
مُبِينٌ (2)
{الر تلك آيات الكتاب الحكيم أكان للناس
عجبا أن أوحينا إلى رجل منهم أن أنذر الناس وبشر الذين آمنوا
أن لهم قدم صدق عند ربهم قال الكافرون إن هذا لساحر مبين} قوله
عز وجل: {الر} فيه أربعة تأويلات: أحدها: معناه أنا الله أرى ,
قاله ابن عباس والضحاك. والثاني: هي حروف من اسم الله الذي هو
الرحمن , قاله سعيد بن جبير والشعبي. وقال سالم بن عبد الله:
{الر} و {حمٌ} و {ن} للرحمن مقاطع. الثالث: هو اسم من أسماء
القرآن , قاله قتادة. الرابع: أنها فواتح افتتح الله بها
القرآن , قاله ابن جريج. {تِلْكَءَايَاتُ الْكِتَابِ
الْحَكِيمِ} يعني بقوله {تِلْكَءَايَاتُ} أي هذه آيات , كما
قال الأعشى:
(تلك خَيْلِي مِنْهُ وتلكَ رِكَابِي ... هُنَّ صُفْرٌ
أَوْلاَدُها كالزَّبِيبِ)
(2/420)
أي هذه خيلي. وفي {الكِتَابِ الْحِكيمِ} ها
هنا ثلاثة أقاويل: أحدها: التوراة والإنجيل , قاله مجاهد.
الثاني: الزبور , قاله مطر. الثالث: القرآن , قاله قتادة. وفي
قوله {الحَكِيمِ} تأويلان: أحدهما: أنه بمعنى محكم , قاله أبو
عبيدة. الثاني: أنه كالناطق بالحكمة , ذكره علي بن عيسى. قوله
عز وجل: {أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنآ إِلَى
رَجُلٍ مِّنْهُمْ أَنْ أَنذِرِ النَّاسَ} قال ابن عباس: سبب
نزولها أن الله تعالى لما بعث محمداً صلى الله عليه وسلم
رسولاً أنكر العرب ذلك أو من أنكر منهم فقالوا: الله أعظم من
أن يكون رسوله بشراً مثل محمد , فنزلت هذه الآية. وهذا لفظه
لفظ الاستفهام ومعناه الإنكار والتعجب مَن كفر من كفر بالنبي
صلى الله عليه وسلم لأنه جاءهم رسول منهم , وقد أرسل الله إلى
سائر الأمم رسلاً منهم. ثم قال: {وَبَشِّرِ
الَّذِينَءَآمَنُواْ أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِندَ
رَبِهِّم} فيه خمسة تأويلات: أحدها: أن لهم ثواباً حسناً بما
قدموا من صالح الأعمال , قاله ابن عباس. الثاني: سابق صدق عند
ربهم أي سبقت لهم السعادة في الذكر الأول , قاله ابن أبي طلحة
عن ابن عباس أيضاً. الثالث: أن لهم شفيع صدق يعني محمداً صلى
الله عليه وسلم يشفع لهم , قاله مقاتل بن حيان. الرابع: أن لهم
سلف صدق تقدموهم بالإيمان , قاله مجاهد وقتادة.
(2/421)
والخامس: أن لهم السابقة بإخلاص الطاعة ,
قال حسان بن ثابت:
(لنا القدم العُلْيَا إليكَ خَلْفَنَا ... لأَوَّلنا في
طَاعَةِ اللَّهِ تابعُ)
ويحتمل سادساً: أن قدم الصدق أن يوافق الطاعة صدق الجزاء ,
ويكون القدم عبارة عن التقدم , والصدق عبارة عن الحق.
(2/422)
إِنَّ رَبَّكُمُ
اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ
أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ
مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذَلِكُمُ
اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (3)
إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا إِنَّهُ
يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ
آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ وَالَّذِينَ
كَفَرُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا
كَانُوا يَكْفُرُونَ (4) هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ
ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ
لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ
اللَّهُ ذَلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ
لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (5) إِنَّ فِي اخْتِلَافِ اللَّيْلِ
وَالنَّهَارِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ
وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ (6)
{إن ربكم الله الذي خلق السماوات والأرض في
ستة أيام ثم استوى على العرش يدبر الأمر ما من شفيع إلا من بعد
إذنه ذلكم الله ربكم فاعبدوه أفلا تذكرون إليه مرجعكم جميعا
وعد الله حقا إنه يبدأ الخلق ثم يعيده ليجزي الذين آمنوا
وعملوا الصالحات بالقسط والذين كفروا لهم شراب من حميم وعذاب
أليم بما كانوا يكفرون هو الذي جعل الشمس ضياء والقمر نورا
وقدره منازل لتعلموا عدد السنين والحساب ما خلق الله ذلك إلا
بالحق يفصل الآيات لقوم يعلمون إن في اختلاف الليل والنهار وما
خلق الله في السماوات والأرض لآيات لقوم يتقون} قوله عز وجل:
{يُدَبِّرُ الأمْرَ} فيه وجهان: أحدهما: يقضيه وحده , قاله
مجاهد. الثاني: يأمر به ويمضيه. {مَا مِن شَفِيعٍ إِلاَّ مِن
بَعْدِ إِذْنِهِ} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: ما من شفيع يشفع إلا
من بعد أن يأذن الله تعالى له في الشفاعة. الثاني: ما من أحد
يتكلم عنده إلا بإذنه , قاله سعيد بن جبير. الثالث: لا ثاني
معه , مأخوذ من الشفع الذي هو الزوج لأنه خلق السموات والأرض
وهو واحد فرد لا حي معه , ثم خلق الملائكة والبشر.
(2/422)
وقوله {إِلاَّ مِن بَعْدِ إِذْنِهِ} يعني
من بعد أمره أن يكون الخلق فكان , قاله ابن بحر. قوله عز وجل:
{ ... إِنَّهُ يَبْدَؤُأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يَعِيدُهُ} فيه
وجهان: أحدهما: أنه ينشئه ثم يفنيه. الثاني: ما قاله مجاهد:
يحييه ثم يميته ثم يبيده ثم يحييه.
(2/423)
إِنَّ الَّذِينَ لَا
يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا
وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا
غَافِلُونَ (7) أُولَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا
يَكْسِبُونَ (8)
{إن الذين لا يرجون لقاءنا ورضوا بالحياة
الدنيا واطمأنوا بها والذين هم عن آياتنا غافلون أولئك مأواهم
النار بما كانوا يكسبون} قوله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ لاَ
يَرْجُونَ لِقَآءَنَا} فيه تأويلان: أحدهما: لا يخافون عقابنا.
ومنه قول الشاعر:
(إِذَا لَسَعَتْهُ النّحْلُ لَمْ يَرْجُ لَسْعَهَا ...
وَخَالَفَهَا فِي بَيْتِ نَوْبٍ عَوَامِلُ)
الثاني: لا يطمعون في ثوابنا , ومنه قول الشاعر:
(أَيَرْجُوا بَنُوا مَرْوَانَ سَمْعِي وَطَاعَتِي ...
وَقَوْمِي تَمِيْمٌ وَالْفَلاَةُ وَرَائِيَا)
(2/423)
إِنَّ الَّذِينَ
آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ
بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ فِي
جَنَّاتِ النَّعِيمِ (9) دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ
اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ وَآخِرُ
دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (10)
{إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات يهديهم
ربهم بإيمانهم تجري من تحتهم الأنهار في جنات النعيم دعواهم
فيها سبحانك اللهم وتحيتهم فيها سلام وآخر دعواهم أن الحمد لله
رب العالمين} قوله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَءَامَنُواْ
وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُم
بإِيمَانِهِمْ} فيه أربعة أوجه: أحدها: يجعل لهم نوراً يمشون
به , قاله مجاهد. الثاني: يجعل عملهم هادياً لهم إلى الجنة ,
وهذا معنى قول ابن جريج. وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم
أنه قال: (يَتَلَقَّى الْمُؤْمِنَ عَمَلُهُ فِي أَحْسَنِ
صُوَرَةٍ
(2/423)
فَيُؤْنِسُهُ وَيَهْدَيهِ , وَيَتَلَقَّى
الْكَافِرَ عَمَلُهُ فِي أَقْبَحِ صُورَةٍ فَيُوحِشُهُ
وَيُضِلُّهُ). الثالث: أن الله يهديهم إلى طريق الجنة. الرابع:
أنه وصفهم بالهداية على طريق المدح لهم. {تَجْرِي مِنْ
تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ} فيه وجهان: أحدهما: من تحت منازلهم
قاله أبو مالك. الثاني: تجري بين أيديهم وهم يرونها من علو
لقوله تعالى {أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهذِهِ الأَنْهَارُ
تَجْرِي مِنْ تَحْتِي} [الزخرف: 51] يعني بين يدي. وحكى أبو
عبيدة عن مسروق أن أنهار الجنة تجري في غير أخدود. قوله عز
وجل: {دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ} فيه وجهان:
أحدهما: أن أهل الجنة إذا اشتهوا الشيء أو أرادوا أن يدعوا
بالشيء قالوا سبحانك اللهم فيأتيهم , ذلك الشيء , قاله الربيع
وسفيان. الثاني: أنهم إذا أرادوا الرغبة إلى الله في دعاء
يدعونه كان دعاؤهم له: سبحانك اللهم: قاله قتادة.
{وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلاَمٌ} فيه وجهان: أحدهما: معناه
وملكهم فيها سالم. والتحية الملك , ومنه قول زهير بن جنان
الكلبي:
(ولكلُّ ما نال الفتى ... قد نِلتُه إلا التحية)
الثاني: أن تحية بعضهم لبعض فيها سلام. أي: سلمت وأمنت مما بلي
به أهل النار , قاله ابن جرير الطبري. {وَءَاخِرُ دَعْوَاهُمْ
أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} فيه وجهان:
أحدهما: أن آخر دعائهم: الحمد لله رب العالمين , كما كان أول
دعائهم: سبحانك اللهم , ويشبه أن يكون هذا قول قتادة.
(2/424)
الثاني: أنهم إذا أجابهم فيما دعوه وآتاهم
ما اشتهوا حين طلبوه بالتسبيح قالوا بعده: شكراً لله والحمد
لله رب العالمين.
(2/425)
وَلَوْ يُعَجِّلُ
اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُمْ بِالْخَيْرِ
لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ فَنَذَرُ الَّذِينَ لَا
يَرْجُونَ لِقَاءَنَا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (11)
{ولو يعجل الله للناس الشر استعجالهم
بالخير لقضي إليهم أجلهم فنذر الذين لا يرجون لقاءنا في
طغيانهم يعمهون} قوله عز وجل: {وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ
لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ
إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ} فيه وجهان: أحدهما: ولو يعجل الله
للكافر العذاب على كفره كما عجل له خير الدنيا من المال والولد
لعجل له قضاء أجله ليتعجل عذاب الآخرة , قاله ابن إسحاق.
الثاني: معناه أن الرجل إذا غضب على نفسه أو ماله أو ولده
فيدعو بالشر فيقول: لا بارك الله فيه وأهلكه الله , فلو استجيب
ذلك منه كما يستجاب منه الخير لقضي إليهم أجلهم أي لهلكوا.
فيكون تأويلاً على الوجه الأول خاصاً في الكافر , وعلى الوجه
الثاني عاماً في المسلم والكافر. {فَنَذَرُ الَّذِينَ لاَ
يَرْجُونَ لِقَآءَنَا} قال قتادة: يعني مشركي أهل مكة. {فِي
طُغْيَانِهِمْ} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: في شركهم , قاله ابن
عباس. الثاني: في ضلالهم , قاله الربيع بن أنس. الثالث: في
ظلمهم , قاله عليّ بن عيسى. {يَعْمَهُونَ} فيه ثلاثة أوجه:
أحدها: يترددون , قاله ابن عباس وأبو مالك وأبو العالية.
الثاني: يتمادون , قاله السدي. الثالث: يلعبون , قاله الأعمش.
(2/425)
وَإِذَا مَسَّ
الْإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ
قَائِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ
يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ كَذَلِكَ زُيِّنَ
لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (12)
{وإذا مس الإنسان الضر دعانا لجنبه أو
قاعدا أو قائما فلما كشفنا عنه ضره مر كأن لم يدعنا إلى ضر مسه
كذلك زين للمسرفين ما كانوا يعملون} قوله عز وجل: {وَإِذَا
مَسَّ الإنسَانَ الضُّرُّ دََعَانَا لِجَنبِهِ أَوْ قَاعِداً
أَوْ قآئِماً} فيه وجهان: أحدهما: أنه إذا مسه الضر دعا ربه في
هذه الأحوال. الثاني: دعا ربه فيكون محمولاً على الدعاء في
جميع أحواله.
(2/426)
وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا
الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَاءَتْهُمْ
رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا
كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (13) ثُمَّ
جَعَلْنَاكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ
لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (14) وَإِذَا تُتْلَى
عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لَا
يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ
بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ
تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ
إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ
(15) قُلْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلَا
أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِنْ
قَبْلِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (16) فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ
افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ
إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ (17)
{ولقد أهلكنا القرون من قبلكم لما ظلموا
وجاءتهم رسلهم بالبينات وما كانوا ليؤمنوا كذلك نجزي القوم
المجرمين ثم جعلناكم خلائف في الأرض من بعدهم لننظر كيف تعملون
وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات قال الذين لا يرجون لقاءنا ائت
بقرآن غير هذا أو بدله قل ما يكون لي أن أبدله من تلقاء نفسي
إن أتبع إلا ما يوحى إلي إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم
قل لو شاء الله ما تلوته عليكم ولا أدراكم به فقد لبثت فيكم
عمرا من قبله أفلا تعقلون فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو
كذب بآياته إنه لا يفلح المجرمون} قوله عز وجل: {وَإِذَا
تُتْلَى عَلَيهِمْءَآيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ} يعني آيات القرآن
التي هي تبيان كل شيء. {قَالَ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ
لِقآءَنَا} يعني مشركي أهل مكة. {ائتِ بِقُرْءَانٍ غَيْرِ
هَذَآ أَوْ بَدِّلْهُ} والفرق بين تبديله والإتيان بغيره أن
تبديله لا
(2/426)
يجوز أن يكون معه , والإتيان بغيره قد يجوز
أن يكون معه. وفي قولهم ذلك ثلاثة أوجه: أحدها: أنهم سألوه
الوعد وعيداً , والوعيد وعداً , والحلال حراماً , والحرام
حلالاً , قاله ابن جرير الطبري. الثاني: أنهم سألوه أن يسقط ما
في القرآن من عيب آلهتهم وتسفيه أحلامهم , قاله ابن عيسى.
الثالث: أنه سألوه إسقاط ما فيه من ذكر البعث والنشور , قاله
الزجاج. {قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِن تِلْقَآءي
نَفْسِي} أي ليس لي أن أتلقاه بالتبديل والتغيير كما ليس لي
أَن أتلقاه بالرد والتكذيب. {إِنْ أَتَّبعُ إِلاَّ مَا يُوحَى
إِلَيَّ} فيما أتلوه عليكم من وعد ووعيد وتحليل وتحريم أو أمر
أو نهي. {إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي} في تبديله
وتغييره. {عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} يعني يوم القيامة. قوله عز
وجل: {قُل لَّوْ شَآءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ}
يعني القرآن: {وَلاَ أَدْرَاكُم بِهِ} فيه ثلاثة أوجه: أحدها:
ولا أعلمكم به , قاله ابن عباس. الثاني: ولا أنذركم به , قاله
شهر بن حوشب. الثالث: ولا أشعركم به , قاله قتادة. {فَقَدْ
لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِّن قَبْلِهِ} فيه وجهان: أحدهما:
أنه أراد ما تقدم من عمره قبل الوحي إليه لأن عمر الإنسان مدة
حياته طالت أو قصرت. الثاني: أنه أربعون سنة , لأن النبي صلى
الله عليه وسلم بعث بعد الأربعين وهو المطلق من عمر الإنسان ,
قاله قتادة. {أَفَلاَ تَعْقِلُونَ} أني لم أدَّع ذلك بعد أن
لبثت فيكم عمراً حتى أُوحِي إليّ , ولو كنت افتريته لقدمته.
(2/427)
وَيَعْبُدُونَ مِنْ
دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ
وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ
أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ
وَلَا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا
يُشْرِكُونَ (18) وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً
وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ
رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (19)
{ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا
ينفعهم ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله قل أتنبئون الله بما لا
يعلم في السماوات ولا في الأرض سبحانه وتعالى عما يشركون وما
كان الناس إلا أمة واحدة فاختلفوا ولولا كلمة سبقت من ربك لقضي
بينهم فيما فيه يختلفون} قوله عز وجل: { ... قُلْ
أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لاَ يَعْلمُ فِي السَّمَواتِ
وَلاَ فِي الأَرْضِ} فيه وجهان: أحدهما: أتخبرونه بعبادة من لا
يعلم ما في السموات ولا ما في الأرض. الثاني: أتخبرونه بعبادة
غيره وليس يعلم له شريكاً في السموات ولا في الأرض. قوله عز
وجل: {وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلاَّ أُمَّةً وَاحِدً} في الناس
ها هنا أربعة أقاويل: أحدها: أنه آدم عليه السلام , قاله مجاهد
والسدي. الثاني: أنهم أهل السفينة , قاله الضحاك. الثالث: أنهم
من كان على عهد إبراهيم عليه السلام , قاله الكلبي. الرابع:
أنه بنو آدم , قاله أُبي بن كعب. وفي قوله تعالى: {إِِلاَّ
أُمَّةً وَاحِدَةً} ثلاثة أوجه: أحدها: على الإسلام حتى
اختلفوا , قاله ابن عباس وأُبي بن كعب. الثاني: على الكفر حتى
بعث الله تعالى الرسل , وهذا قول قد روي عن ابن عباس أيضاً.
الثالث: على دين واحد , قاله الضحاك. {فاخْتَلَفُواْ} فيه
وجهان: أحدهما: فاختلفوا في الدين فمؤمن وكافر , قاله أبي بن
كعب.
(2/428)
الثاني: هو اختلاف بني بن آدم حين قَتل
قابيل أخاه هابيل , قاله مجاهد. {وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ
مِن رَّبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ}
فيه وجهان: أحدهما: ولولا كلمة سبقت من ربك في تأجيلهم إلى يوم
القيامة لقضي بينهم من تعجيل العذاب في الدنيا , قاله السدي.
الثاني: ولولا كلمة سبقت من ربك في أن لا يعاجل العصاة إنعاماً
منه يبتليهم به لقضى بينهم فيما فيه يختلفون بأن يضطرهم إلى
معرفة المحق من المبطل , قاله عليّ بن عيسى.
(2/429)
وَيَقُولُونَ لَوْلَا
أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَقُلْ إِنَّمَا
الْغَيْبُ لِلَّهِ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ
الْمُنْتَظِرِينَ (20) وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً
مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ إِذَا لَهُمْ مَكْرٌ فِي
آيَاتِنَا قُلِ اللَّهُ أَسْرَعُ مَكْرًا إِنَّ رُسُلَنَا
يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ (21) هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ
فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ
وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا
جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ
مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ
مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ
لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (22) فَلَمَّا أَنْجَاهُمْ
إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ يَا
أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ
مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُكُمْ
فَنُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (23)
{ويقولون لولا أنزل عليه آية من ربه فقل
إنما الغيب لله فانتظروا إني معكم من المنتظرين وإذا أذقنا
الناس رحمة من بعد ضراء مستهم إذا لهم مكر في آياتنا قل الله
أسرع مكرا إن رسلنا يكتبون ما تمكرون هو الذي يسيركم في البر
والبحر حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم بريح طيبة وفرحوا بها
جاءتها ريح عاصف وجاءهم الموج من كل مكان وظنوا أنهم أحيط بهم
دعوا الله مخلصين له الدين لئن أنجيتنا من هذه لنكونن من
الشاكرين فلما أنجاهم إذا هم يبغون في الأرض بغير الحق يا أيها
الناس إنما بغيكم على أنفسكم متاع الحياة الدنيا ثم إلينا
مرجعكم فننبئكم بما كنتم تعملون} قوله عز وجل: {وَإِذَآ
أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِّنْ بَعْدِ ضَرَّآءَ
مَسَّتْهُمْ} فيه أربعة أوجه: أحدها: رخاء بعد شدة. الثاني:
عافية بعد سقم. الثالث: خصباً بعد جدب , وهذا قول الضحاك.
الرابع: إسلاماً بعد كفر وهو المنافق , قاله الحسن.
(2/429)
{إِذَا لَهُمْ مَّكْرٌ فِيءَايَاتِنَا} فيه
وجهان: أحدهما: أن المكر ها هنا الكفر والجحود , قاله ابن بحر.
الثاني: أنه الاستهزاء والتكذيب , قاله مجاهد. ويحتمل ثالثاً:
أن يكون المكر ها هنا النفاق لأنه يظهر الإيمان ويبطن الكفر.
{قُلِ اللَّهُ أَسْرَعُ مَكْراً} يعني أسرع جزاء على المكر.
وقيل إن سبب نزولها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما دعا
على أهل مكة بالجدب فقحطوا سبع سنين كسني يوسف إجابة لدعوته ,
أتاه أبو سفيان فقال يا محمد قد كنت دعوت بالجدب فأجدبنا فادع
الله لنا بالخصب فإن أجابك وأخصبنا صدقناك وآمنا بك , فدعا لهم
واستسقى فسقوا وأخصبوا , فنقضوا ما قالوه وأقاموا على كفرهم ,
وهو معنى قوله {إِذَا لَهُمْ مَّكْرٌ فِيءَايَاتِنَا}.
(2/430)
إِنَّمَا مَثَلُ
الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ
فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ
وَالْأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا
وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ
عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا
فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ
كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (24)
وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ وَيَهْدِي مَنْ
يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (25)
{إنما مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من
السماء فاختلط به نبات الأرض مما يأكل الناس والأنعام حتى إذا
أخذت الأرض زخرفها وازينت وظن أهلها أنهم قادرون عليها أتاها
أمرنا ليلا أو نهارا فجعلناها حصيدا كأن لم تغن بالأمس كذلك
نفصل الآيات لقوم يتفكرون والله يدعو إلى دار السلام ويهدي من
يشاء إلى صراط مستقيم} قوله عز وجل: { ... فَجَعَلْنَاهَا
حَصِيداً} فيه وجهان: أحدهما: ذاهباً. الثاني: يابساً. {كَأَن
لَّمْ تَغْنَ بِألأَمْسِ} فيه أربعه تأويلات: أحدها: كأن لم
تعمر بالأمس , قاله الكلبي. الثاني: كأنه لم تعش بالأمس , قاله
قتادة , ومنه قول لبيد:
(2/430)
(وغنيت سبتاً بعد مجرى داحس ... لو كان
للنفس اللجوج خلود)
الثالث: كأن لم تقم بالأمس , ومن قولهم غنى فلان بالمكان إذا
أقام فيه , قاله عليّ بن عيسى. الرابع كأن لم تنعم بالأمس ,
قاله قتادة أيضاً. قوله عز وجل: {وَاللَّهَ يَدُعُواْ إِلَى
دَارِ السَّلاَمِ} يعني الجنة. وفي تسميتها دار السلام وجهان:
أحدهما: لأن السلام هو الله , والجنة داره. الثاني: لأنها دار
السلامة من كل آفة , قاله الزجاج. {وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ
إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} في هدايته وجهان: أحدهما: بالتوفيق
والمعونة. الثاني: بإظهار الأدلة وإقامة البراهين. وفي الصراط
المستقيم أربعة تأويلات: أحدها: أنه كتاب الله تعالى , روى علي
بن أبي طالب قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
(الصِّرَاطُ المُسْتَقِيمُ كِتَابُ اللَّهِ تَعَالَى). الثاني:
أنه الإسلام , رواه النواس بن سمعان عن رسول الله صلى الله
عليه وسلم.
(2/431)
الثالث: أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم
وصاحباه من بعده أبو بكر وعمر , قاله الحسن وأبو العالية.
الرابع: أنه الحق , قاله مجاهد وقتادة. روى جابر بن عبد الله
قال: خرج علينا رسول الله يوماً فقال: (رَأيْتُ فِي الْمَنَامِ
كَأَنَّ جِبْرِيلَ عِندَ رَأْسِي وَمِيكآئِيلَ عِندَ رِجْلَيّ
, فَقَالَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبهِ: أضْرِبْ لَهُ مَثَلاً ,
فَقَالَ: اسْمَعْ سَمْعَتْ أُذُنُكَ , وَاعْقِلْ , عَقَلَ
قَلْبُكَ , إِنَّمَا مَثَلُكَ وَمَثَلُ أُمَّتِكَ كَمَثَلِ
مَلِكٍ أتَّخَذَ دَاراً ثُمَّ بَنَى فِيهَا بَيتاً ثُمَّ
جَعَلَ فِيهَا مَائِدَةً ثُمَّ بَعَثَ رَسُولاً يَدْعُو
النَّاسَ إِلَى طَعَامِهِ فَمِنهُم مَّنْ أَجَابَ الرَّسُولَ
وَمِنهُم مَّن تَرَكَهُ , فَاللَّهُ الْمَلِكُ , وَالدَّارُ
الإسْلاَمُ , وَالْبَيْتُ الْجَنَّةُ , وََأَنْتَ يَا
مُحَمَّدُ الرَّسُولُ فَمَنْ أَجَابَكَ دَخَلَ فِي الإِسْلاَمِ
, وَمَنْ دَخَلَ فِي الإِسْلاَمِ دَخَلَ الْجَنَّةَ , وَمَن
دَخَلَ الْجَنَّةَ أَكَلَ مِمَّا فيهَا) ثم تلا قتادة ومجاهد.
{وَاللَّهُ يَدْعُوا إِلَى دَارِ السَّلاَمِ}.
(2/432)
لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا
الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَلَا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ
وَلَا ذِلَّةٌ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا
خَالِدُونَ (26) وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئَاتِ جَزَاءُ
سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ مَا لَهُمْ مِنَ
اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ
قِطَعًا مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِمًا أُولَئِكَ أَصْحَابُ
النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (27)
{للذين أحسنوا الحسنى وزيادة ولا يرهق
وجوههم قتر ولا ذلة أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون والذين
كسبوا السيئات جزاء سيئة بمثلها وترهقهم ذلة ما لهم من الله من
عاصم كأنما أغشيت وجوههم قطعا من الليل مظلما أولئك أصحاب
النار هم فيها خالدون} قوله عز وجل: {لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ}
يعني عبادة ربهم. {الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} فيه خمسة تأويلات:
أحدها: أن الحسنى الجنة , والزيادة النظر إلى وجه الله تعالى.
وهذا قول
(2/432)
أبي بكر الصديق وحذيفة بن اليمان وأبي موسى
الأشعري. والثاني: أن الحسنى واحدة من الحسنات , والزيادة
مضاعفتها إلى عشر أمثالها , قاله ابن عباس. الثالث: أن الحسنى
حسنة مثل حسنة. والزيادة مغفرة ورضوان , قاله مجاهد. والرابع:
أن الحسنى الجزاء في الآخرة والزيادة ما أعطوا في الدنيا ,
قاله ابن زيد. والخامس: أن الحسنى الثواب , والزيادة الدوام ,
قاله ابن بحر. ويحتمل سادساً: أن الحسنى ما يتمنونه , والزيادة
ما يشتهونه. {وَلاَ يَْرهَقُ وَجُوهَهُمْ قَتَرٌ} في معنى يرهق
وجهان: أحدهما: يعلو. الثاني: يلحق , ومنه قيل غلام مراهق إذا
لحق بالرجال. وفي قوله تعالى: {قَتَرٌ} أربعة أوجه: أحدها: أنه
سواد الوجوه , قاله ابن عباس. الثاني: أنه الحزن , قاله مجاهد.
الثالث: أنه الدخان ومنه قتار اللحم وقتار العود وهو دخانه ,
قاله ابن بحر. الرابع: أنه الغبار في محشرهم إلى الله تعالى ,
ومنه قول الشاعر:
(متوجٌ برداء الملك يتبعه ... موجٌ ترى فوقه الرايات والقترا)
{وَلاَ ذِلَّةٌ} فيها ها هنا وجهان: أحدهما: الهوان. الثاني:
الخيبة.
(2/433)
وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ
جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكَانَكُمْ
أَنْتُمْ وَشُرَكَاؤُكُمْ فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ وَقَالَ
شُرَكَاؤُهُمْ مَا كُنْتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ (28)
فَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ إِنْ
كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ لَغَافِلِينَ (29) هُنَالِكَ
تَبْلُو كُلُّ نَفْسٍ مَا أَسْلَفَتْ وَرُدُّوا إِلَى اللَّهِ
مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا
يَفْتَرُونَ (30) قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ
وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ
يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ
الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ
فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ (31) فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ
الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ فَأَنَّى
تُصْرَفُونَ (32) كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى
الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (33)
{ويوم نحشرهم جميعا ثم نقول للذين أشركوا
مكانكم أنتم وشركاؤكم فزيلنا بينهم وقال شركاؤهم ما كنتم إيانا
تعبدون فكفى بالله شهيدا بيننا وبينكم
(2/433)
إن كنا عن عبادتكم لغافلين هنالك تبلو كل
نفس ما أسلفت وردوا إلى الله مولاهم الحق وضل عنهم ما كانوا
يفترون قل من يرزقكم من السماء والأرض أم من يملك السمع
والأبصار ومن يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي ومن يدبر
الأمر فسيقولون الله فقل أفلا تتقون فذلكم الله ربكم الحق
فماذا بعد الحق إلا الضلال فأنى تصرفون كذلك حقت كلمة ربك على
الذين فسقوا أنهم لا يؤمنون} قوله عز وجل: {هُنَالِكَ
تَبْلُواْ كُلُّ نَفْسٍ مَّآ أَسْلَفَتْ} فيه قراءتان:
إحداهما: بتاءين قرأ بها حمزة والكسائي , وفي تأويلها ثلاثة
أوجه: أحدها: تتبع كل نفس ما قدمت في الدنيا , قاله السدي ,
ومنه قول الشاعر:
(إن المريب يتبع المريبا ... كما رأيت الذيب يتلو الذيبا)
الثاني: تتلو كتاب حسناتها وكتاب سيئاتها , ومن التلاوة.
والثالث: تعاين كل نفس جزاء ما عملت. والقراءة الثانية: وهي
قراءة الباقين تتلو بالباء وفي تأويلها وجهان: أحدهما: تسلم كل
نفس. الثاني: تختبر كل نفس , قاله مجاهد. {وَرُدُّوا إِلَى
اللَّهِ مَوْلاَهُمُ الْحَقِ} أي مالكهم , ووصف تعالى نفسه
بالحق , لأن الحق منه , كما وصف نفسه بالعدل , لأن العدل منه.
فإن قيل فقد قال تعالى {وَأَنَّ الْكَافرِينَ لاَ مَوْلَى
لَهُمْ} [محمد: 11] فكيف صار ها هنا مولى لهم؟ قيل ليس بمولى
في النصرة والمعونة , وهو مولى لهم في الملكية. {وَضلَّ
عَنْهُم مَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ} أي بطل عنهم ما كانوا
يكذبون.
(2/434)
قُلْ هَلْ مِنْ
شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ قُلِ
اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّى
تُؤْفَكُونَ (34) قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَهْدِي
إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَنْ
يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لَا
يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ
(35) وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا إِنَّ
الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ
عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ (36)
{قل هل من شركائكم من يبدأ الخلق ثم يعيده
قل الله يبدأ الخلق ثم يعيده فأنى
(2/434)
تؤفكون قل هل من شركائكم من يهدي إلى الحق
قل الله يهدي للحق أفمن يهدي إلى الحق أحق أن يتبع أم من لا
يهدي إلا أن يهدى فما لكم كيف تحكمون وما يتبع أكثرهم إلا ظنا
إن الظن لا يغني من الحق شيئا إن الله عليم بما يفعلون} قوله
عز وجل: {وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلاَّ ظَنّاً} هم
رؤساؤهم. {إِنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنَ الْحَقِ شَيْئاً}
في الظن وجهان: أحدهما: أنه منزلة بين اليقين والشك , وليست
يقيناً وليست شكاً. الثاني: إن الظن ما تردد بين الشك واليقين
وكان مرة يقيناً ومرة شكاً.
(2/435)
وَمَا كَانَ هَذَا
الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ
تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لَا
رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (37) أَمْ يَقُولُونَ
افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ
اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ
(38) بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا
يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ
قَبْلِهِمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ
(39) وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ لَا
يُؤْمِنُ بِهِ وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ (40)
{وما كان هذا القرآن أن يفترى من دون الله
ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل الكتاب لا ريب فيه من رب
العالمين أم يقولون افتراه قل فأتوا بسورة مثله وادعوا من
استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين بل كذبوا بما لم يحيطوا
بعلمه ولما يأتهم تأويله كذلك كذب الذين من قبلهم فانظر كيف
كان عاقبة الظالمين ومنهم من يؤمن به ومنهم من لا يؤمن به وربك
أعلم بالمفسدين} قوله عز وجل: {وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْءَانُ
أَن يُفْتَرَى مِن دُونِ اللَّهِ} يعني أنه يختلق ويكذب.
{وَلَكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ} فيه وجهان:
أحدهما: شاهد بصدق ما تقدم من التوراة والإنجيل والزبور.
الثاني: لما بين يديه من البعث والنشور والجزاء والحساب.
ويحتمل ثالثاً: أن يكون معناه ولكن يصدقه الذي بين يديه من
الكتب السالفة بما فيها من ذكره فيزول عنه الافتراء. قوله عز
وجل: {بَلْ كَذَّبُواْ بِمَا لَمْ يُحِيطُواْ بِعِلْمِهِ} فيه
وجهان:
(2/435)
أحدهما: لم يعلموا ما عليهم بتكذيبهم لشكهم
فيه. الثاني: لم يحيطوا بعلم ما فيه من وعد ووعيد لإعراضهم
عنه. {وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ} فيه وجهان: أحدهما:
علم ما فيه من البرهان. الثاني: ما يؤول إليه أمرهم من العقاب.
(2/436)
وَإِنْ كَذَّبُوكَ
فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ
مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ (41)
وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ
الصُّمَّ وَلَوْ كَانُوا لَا يَعْقِلُونَ (42) وَمِنْهُمْ مَنْ
يَنْظُرُ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ
كَانُوا لَا يُبْصِرُونَ (43) إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ
النَّاسَ شَيْئًا وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ
(44)
{وإن كذبوك فقل لي عملي ولكم عملكم أنتم
بريئون مما أعمل وأنا بريء مما تعملون ومنهم من يستمعون إليك
أفأنت تسمع الصم ولو كانوا لا يعقلون ومنهم من ينظر إليك أفأنت
تهدي العمي ولو كانوا لا يبصرون إن الله لا يظلم الناس شيئا
ولكن الناس أنفسهم يظلمون} قوله عز وجل: {وَمِنْهُمْ مَّن
يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ} فيه وجهان: أحدهما: يستمعون الكذب
عليك فلا ينكرونه. الثاني: يستمعون الحق منك فلا يَعُونَه.
{أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كَانُواْ لاَ
يَعْقِلُونَ} يحتمل وجهين: أحدهما: أن من لا يعي ما يسمع فهو
كمن لا يعقل. الثاني: معناه أنه كما لا يعي من لا يسمع كذلك لا
يفهم من لا يعقل. والألف التي في قوله تعالى {أَفَأَنتَ} لفظها
الاستفهام ومعناها معنى النفي.
(2/436)
وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ
كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنَ النَّهَارِ
يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا
بِلِقَاءِ اللَّهِ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ (45)
{ويوم يحشرهم كأن لم يلبثوا إلا ساعة من
النهار يتعارفون بينهم قد خسر الذين كذبوا بلقاء الله وما
كانوا مهتدين}
(2/436)
قوله تعالى {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنَ
لَّمْ يَلْبَثُواْ إِلاَّ سَاعَةً مِّنَ النَّهَارِ} فيه
وجهان: أحدهما: كأن لم يلبثوا في الدنيا إلا ساعة من النهار.
الثاني: كأن لم يلبثوا في قبورهم إلا ساعة من النهار لقربه.
{يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ} فيه وجهان: أحدهما: يعرف بعضهم
بعضاً. قال الكلبي: يتعارفون إذا خرجوا من قبورهم ثم تنقطع
المعرفة. الثاني: يعرفون أن ما كانوا عليه باطل.
(2/437)
وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ
بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا
مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ
(46) وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ فَإِذَا جَاءَ رَسُولُهُمْ
قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (47)
وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ
(48) قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلَا نَفْعًا إِلَّا
مَا شَاءَ اللَّهُ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذَا جَاءَ
أَجَلُهُمْ فَلَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا
يَسْتَقْدِمُونَ (49)
{وإما نرينك بعض الذي نعدهم أو نتوفينك
فإلينا مرجعهم ثم الله شهيد على ما يفعلون ولكل أمة رسول فإذا
جاء رسولهم قضي بينهم بالقسط وهم لا يظلمون ويقولون متى هذا
الوعد إن كنتم صادقين قل لا أملك لنفسي ضرا ولا نفعا إلا ما
شاء الله لكل أمة أجل إذا جاء أجلهم فلا يستأخرون ساعة ولا
يستقدمون} قوله عز وجل: {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولٌ} يعني
نبياً يدعوهم إلى الهدى ويأمرهم بالإيمان. {فَإِذَا جَآءَ
رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لاَ
يُظْلَمُونَ} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: فإذا جاء رسولهم يوم
القيامة قضي بينهم ليكون رسولهم شاهداً عليهم , قاله مجاهد.
الثاني: فإذا جاء رسولهم يوم القيامة وقد كذبوه في الدنيا قضى
الله تعالى بينهم وبين رسولهم في الآخرة , قاله الكلبي.
الثالث: فإذا جاء رسولهم في الدنيا واعياً بعد الإذن له في
الدعاء عليهم قضى الله بينهم بتعجيل الانتقام منهم , قاله
الحسن.
(2/437)
قُلْ أَرَأَيْتُمْ
إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُهُ بَيَاتًا أَوْ نَهَارًا مَاذَا
يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ (50) أَثُمَّ إِذَا مَا
وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ آلْآنَ وَقَدْ كُنْتُمْ بِهِ
تَسْتَعْجِلُونَ (51) ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا
عَذَابَ الْخُلْدِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا بِمَا كُنْتُمْ
تَكْسِبُونَ (52) وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي
وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (53)
وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ مَا فِي الْأَرْضِ
لَافْتَدَتْ بِهِ وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا
الْعَذَابَ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لَا
يُظْلَمُونَ (54) أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ
وَالْأَرْضِ أَلَا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ
أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (55) هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ
وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (56)
{قل أرأيتم إن أتاكم عذابه بياتا أو نهارا
ماذا يستعجل منه المجرمون أثم
(2/437)
إذا ما وقع آمنتم به آلآن وقد كنتم به
تستعجلون ثم قيل للذين ظلموا ذوقوا عذاب الخلد هل تجزون إلا
بما كنتم تكسبون ويستنبئونك أحق هو قل إي وربي إنه لحق وما
أنتم بمعجزين ولو أن لكل نفس ظلمت ما في الأرض لافتدت به
وأسروا الندامة لما رأوا العذاب وقضي بينهم بالقسط وهم لا
يظلمون ألا إن لله ما في السماوات والأرض ألا إن وعد الله حق
ولكن أكثرهم لا يعلمون هو يحيي ويميت وإليه ترجعون} قوله عز
وجل: {وَيَسْتَنْبئُونَكَ} أي يستخبرونك , وهو طلب النبأ.
{أََحَقٌّ هُوَ} فيه وجهان: أحدهما: البعث , قاله الكلبي.
الثاني: العذاب في الآخرة. {قُلْ وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ}
فأقسم مع إخباره أنه حق تأكيداً. {وَمَآ أَنتُم بِمُعْجِزِينَ}
فيه وجهان: أحدهما: بممتنعين. الثاني: بسابقين , قاله ابن
عباس. قوله عز وجل: {وَأَسَرُّواْ النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُْ
الْعَذَابَ} فيه وجهان: أحدهما: أخفوا الندامة وكتموها عن
رؤسائهم , وقيل بل كتمها الرؤساء عن أتباعهم. الثاني: أظهروها
وكشفوها لهم. وذكر المبرد فيه وجهاً ثالثاً: أنه بدت بالندامة
أَسِرّةُ وجوههم وهي تكاسير الجبهة. {وَقُضِيَ بَيْنَهُم} فيه
وجهان: أحدهما: قضي بينهم وبين رؤسائهم , قاله الكلبي. الثاني:
قضى عليهم بما يستحقونه من عذابهم.
(2/438)
يَا أَيُّهَا النَّاسُ
قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا
فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (57) قُلْ
بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا
هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (58) قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا
أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ
حَرَامًا وَحَلَالًا قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى
اللَّهِ تَفْتَرُونَ (59) وَمَا ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ
عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ
لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا
يَشْكُرُونَ (60) وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو
مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا
كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا
يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ
وَلَا فِي السَّمَاءِ وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا
أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (61)
{يا أيها الناس قد جاءتكم موعظة من ربكم
وشفاء لما في الصدور وهدى ورحمة للمؤمنين قل بفضل
(2/439)
الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما
يجمعون قل أرأيتم ما أنزل الله لكم من رزق فجعلتم منه حراما
وحلالا قل آلله أذن لكم أم على الله تفترون وما ظن الذين
يفترون على الله الكذب يوم القيامة إن الله لذو فضل على الناس
ولكن أكثرهم لا يشكرون وما تكون في شأن وما تتلو منه من قرآن
ولا تعملون من عمل إلا كنا عليكم شهودا إذ تفيضون فيه وما يعزب
عن ربك من مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء ولا أصغر من ذلك
ولا أكبر إلا في كتاب مبين} قوله عز وجل: {قُلْ بِفَضْلِ
اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: أن فضل الله
معرفته , ورحمته توفيقه. الثاني: أن فضل الله القرآن , ورحمته
الإسلام , قاله ابن عباس وزيد بن أسلم والضحاك. الثالث: أن فضل
الله الإسلام , ورحمته القرآن , قاله الحسن ومجاهد وقتادة.
{فَبَذلِكَ فَلْيَفُرَحُواْ} يعين بالمغفرة والتوفيق على الوجه
الأول , وبالإٍسلام والقرآن على الوجهين الآخرين. وفيه ثالث:
فلتفرح قريش بأن محمداً منهم , قاله ابن عباس. {هُوَ خَيْرٌ
مِمَّا يَجْمَعُونَ} يعني في الدنيا. روى أبان عن أنس أن رسول
الله صلى الله عليه وسلم قال: (مَنْ هَدَاهُ اللهُ
لِلإِسْلاَمِ وَعَلَّمَهُ القُرآنَ ثُمَّ شَكَا الفَاقَةَ
كَتبَ اللَّهُ الْفَقْرَ بَيْنَ عَيْنَيْهِ إِلَى يَوْمِ
يَلْقَاهُ) ثم تلا {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ
فبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ}.
(2/440)
أَلَا إِنَّ
أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ
يَحْزَنُونَ (62) الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (63)
لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ
لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ
الْعَظِيمُ (64) وَلَا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّةَ
لِلَّهِ جَمِيعًا هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (65) أَلَا إِنَّ
لِلَّهِ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَمَا
يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ شُرَكَاءَ
إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا
يَخْرُصُونَ (66) هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ
لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ فِي ذَلِكَ
لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (67) قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ
وَلَدًا سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ مَا فِي
السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ
سُلْطَانٍ بِهَذَا أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا
تَعْلَمُونَ (68) قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى
اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ (69) مَتَاعٌ فِي
الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ
الْعَذَابَ الشَّدِيدَ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ (70)
{ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم
يحزنون الذين آمنوا وكانوا يتقون لهم البشرى في الحياة الدنيا
وفي الآخرة لا تبديل لكلمات الله ذلك هو الفوز العظيم ولا
يحزنك قولهم إن العزة لله جميعا هو السميع العليم ألا إن لله
من في السماوات ومن في الأرض وما يتبع الذين يدعون من دون الله
شركاء إن يتبعون إلا الظن وإن هم إلا يخرصون هو الذي جعل لكم
الليل لتسكنوا فيه والنهار مبصرا إن في ذلك لآيات لقوم يسمعون
قالوا اتخذ الله ولدا سبحانه هو الغني له ما في السماوات وما
في الأرض إن عندكم من سلطان بهذا أتقولون على الله ما لا
تعلمون قل إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون متاع في
الدنيا ثم إلينا مرجعهم ثم نذيقهم العذاب الشديد بما كانوا
يكفرون} قوله عز وجل: {أَلاَّ إِنَّ أَوْلِيَآءَ اللَّهِ لاَ
خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} في {أَوْلِيَاءَ
اللَّهِ} ها هنا خمسة أقاويل: أحدها: أنهم أهل ولايته
والمستحقون لكرامته , قاله ابن عباس وسعيد بن جبير. الثاني: هم
{الَّذِينَءَامَنُوا وَكَانُواْ يَتَّقُونَ}. الثالث: هم
الراضون بالقضاء , والصابرون على البلاء , والشاكرون على
النعماء.
(2/440)
الرابع: هم من توالت أفعالهم على موافقة
الحق. الخامس: هم المتحابون في الله تعالى. روى جرير عن عمارة
بن غزية عن أبي زرعة عن عمر بن الخطاب قال: قال رسول الله صلى
الله عليه وسلم (إِنَّ مِن عِبَادِ اللَّهِ أُنَاسَاً مَّا هُم
بِأَنْبِيْآءٍ وَلاَ شُهَدَآءٍ يَغْبِطُهُم الأنبِياءُ
وَالشُّهَدَاءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بَمَكَانِهِم مِّن
اللَّهِ) قالوا: يا رسول الله خبّرنا من هم وما أعمالهم فإنا
نحبهم لذلك , قال: (هُمْ قَوْمٌ تَحآبُّوا بِرُوحِ اللَّهِ
عَلَى غَيْرِ أَرْحَامٍ بَيْنَهُم وَلاَ أَمْوَالٍ
يَتَعَاطَونَهَا. فَوَاللَّهِ إِنَّ وُجُوهَهُمْ لَنُورٌ
وَإِنَّهُم لَعَلَى مَنَابَرَ مِن نُّورٍ لاَ يَخَافُونَ إِذَا
خَافَ النَّاسُ وَلاَ يَحْزَنُونَ إِذَا حِزَنَ النَّاسُ) وقرأ
{أَلاَ إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيهمِ وَلاَ
هُمْ يَحْزَنُونَ}. وفيه وجهان: أحدهما: لا يخافون على ذريتهم
فإن الله تعالى يتولاهم ولا هم يحزنون على دنياهم لأن الله
تعالى يعوضهم عنها , وهو محتمل. الثاني: لا خوف عليهم في
الآخرة ولا هم يحزنون عند الموت. قوله عز وجل: {لَهُمْ
الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ} فيه
تأويلان: أحدهما: أن البشرى في الحياة الدنيا هي البشارة عند
الموت بأن يعلم أين هو من قبل أن يموت , وفي الآخرة الجنة ,
قاله قتادة والضحاك , وروى علي بن أبي طالب عن النبي صلى الله
عليه وسلم أنه قال (إِنّ لِخَدِيجَةَ بِنتِ خُوَيِلدِ بَيْتاً
مِنْ قَصَبٍ لاَ صَخَبَ فِيهِ وَلاَ نَصَب). الثاني: أن البشرى
في الحياة الدنيا الرؤيا الصالحة يراها الرجل الصالح أو تُرى
(2/441)
له، وفي الآخرة الجنة , روى ذلك عن رسول
الله صلى الله عليه وسلم أبو الدرداء وأبو هريرة وعبادة بن
الصامت. ويحتمل تأويلاً ثالثاً: أن البشرى في الحياة الدنيا
الثناء الصالح , وفي الآخرة إعطاؤه كتابه بيمينه. {لاَ
تَبْديلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ} فيه وجهان: أحدهما: لا خلف
لوعده. الثاني: لا نسخ لخيره.
(2/442)
وَاتْلُ عَلَيْهِمْ
نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنْ كَانَ
كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللَّهِ
فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ
وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ
غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلَا تُنْظِرُونِ (71) فَإِنْ
تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ
إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ
الْمُسْلِمِينَ (72) فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَمَنْ
مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَجَعَلْنَاهُمْ خَلَائِفَ وَأَغْرَقْنَا
الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ
عَاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ (73)
{واتل عليهم نبأ نوح إذ قال لقومه يا قوم
إن كان كبر عليكم مقامي وتذكيري بآيات الله فعلى الله توكلت
فأجمعوا أمركم وشركاءكم ثم لا يكن أمركم عليكم غمة ثم اقضوا
إلي ولا تنظرون فإن توليتم فما سألتكم من أجر إن أجري إلا على
الله وأمرت أن أكون من المسلمين فكذبوه فنجيناه ومن معه في
الفلك وجعلناهم خلائف وأغرقنا الذين كذبوا بآياتنا فانظر كيف
كان عاقبة المنذرين} قوله عز وجل: { ... فَأَجْمِعُواْ
أَمْرَكُمْ وَشُرَكآءَكُمْ} فيه وجهان: أحدهما: فاجمعوا أمركم
وادعوا شركاءكم لنصرتكم , قاله الفراء. الثاني: فاجمعوا أمركم
مع شركائكم على تناصركم , قاله الزجاج. وفي هذا الإجماع وجهان:
أحدهما: أنه الإعداد.
(2/442)
الثاني: أنه العزم. {ثُمَّ لاَ يَكُنْ
أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً} فيه تأويلان: أحدهما: أن الغمة
ضيق الأمر الذي يوجب الغم. الثاني: أنه المغطى , من قولهم: قد
غم الهلال إذا استتر. وفي المراد بالأمر ها هنا وجهان: أحدهما:
من يدعونه من دون الله تعالى. الثاني: ما هم عليه من عزم.
{ثُمَّ اقْضُواْ إِلَيَّ} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: ثم انهضوا ,
قاله ابن عباس. الثاني: ثم اقضوا إليّ ما أنتم قاضون , قاله
قتادة. الثالث: اقضوا إليّ ما في أنفسكم , قاله مجاهد. {وَلاَ
تُنظِرُونَ} قال ابن عباس: ولا تؤخروني. قوله عز وجل: {فَإِن
تَوَلَّيْتُمْ} يعني عن الإيمان. {فَمَا سَأَلْتُكُم مِنْ
أَجْرٍ} يحتمل وجهين: أحدهما: فما سألتكم من أجر تستثقلونه
فتمتنعون من الإجابة لأجله , {إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى
اللَّهِ}. والثاني: فما سألتكم من أجر إن انقطع عني ثقُل علي.
{إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ} وقد حصل بالدعاء لكم إن
أجبتم أو أبيتم. {أمِرتُ أن أكونَ مِنَ المُسْلِمينَ} أي من
المستسلمين لأمر الله بطاعته. قوله عز وجل: {فَنَجَّيْنَاهُ
وَمَن مَّعَهُ في الْفُلْكِ} قال ابن عباس: كان في سفينة نوح
عليه السلام ثمانون رجلاً أحدهم جرهم وكان لسانه عربياً , وحمل
فيها من كل زوجين اثنين , قال ابن عباس فكان أول ما حمل الذرة
وآخر ما حمل الحمال ودخل معه إبليس يتعلق بذنبه.
{وَجَعَلْنَاهُمْ خَلائِفَ} أي خلفاً لمن هلك بالغرق.
{وَأَغْرَقُنَا الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآياتِنَا} حكى أبو زهير
أن قوم نوح عاشوا في الطوفان
(2/443)
أربعين يوماً. وذكر محمد بن إسحاق أن الماء
بقي بعد الغرق مائة وخمسين يوماً , فكان بين أن أرسل الله
الطوفان إلى أن غاض الماء ستة أشهر وعشرة أيام وذلك مائة
وتسعون يوماً. قال محمد بن إسحاق لما مضت على نوح أربعون ليلة
فتح كوة السفينة ثم أرسل منها الغراب لينظر ما فعل الماء فلم
يعد , فأرسل الحمامة فرجعت إليه ولم تجد لرجلها موضعاً , ثم
أرسلها بعد سبعة أيام فرجعت حيث أمست وفي فيها ورقة زيتونة
فعلم أن الماء قد قل على الأرض , ثم أرسلها بعد سبعة أيام فلم
تعد فعلم أن الأرض قد برزت , وكان استواء السفينة على الجودي
لسبع عشرة ليلة من الشهر السابع فيما ذكر , والله أعلم.
(2/444)
ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ
بَعْدِهِ رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ
بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا
بِهِ مِنْ قَبْلُ كَذَلِكَ نَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِ
الْمُعْتَدِينَ (74) ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى
وَهَارُونَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ بِآيَاتِنَا
فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ (75) فَلَمَّا
جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا إِنَّ هَذَا
لَسِحْرٌ مُبِينٌ (76) قَالَ مُوسَى أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ
لَمَّا جَاءَكُمْ أَسِحْرٌ هَذَا وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ
(77) قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا
عَلَيْهِ آبَاءَنَا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي
الْأَرْضِ وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ (78)
{ثم بعثنا من بعده رسلا إلى قومهم فجاؤوهم
بالبينات فما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا به من قبل كذلك نطبع على
قلوب المعتدين ثم بعثنا من بعدهم موسى وهارون إلى فرعون وملئه
بآياتنا فاستكبروا وكانوا قوما مجرمين فلما جاءهم الحق من
عندنا قالوا إن هذا لسحر مبين قال موسى أتقولون للحق لما جاءكم
أسحر هذا ولا يفلح الساحرون قالوا أجئتنا لتلفتنا عما وجدنا
عليه آباءنا وتكون لكما الكبرياء في الأرض وما نحن لكما
بمؤمنين} قوله عز وجل: {قَالُواْ أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا
عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِءَابَاءَنَا} وفيه ثلاثة أوجه:
أحدها: لتلوينا , قاله قتادة. الثاني: لتصدنا , قاله السدي.
الثالث: لتصرفنا , من قولهم لفته لفتاً إذا صرفه ومنه لفت عنقه
أي لواها , قاله عليّ بن عيسى. {وَتَكُونَ لَكُمَا
الْكِبْرِيَآءُ فِي الأَرْضِ} فيه أربعة أوجه:
(2/444)
أحدها: الملك , قاله مجاهد. الثاني: العظمة
, حكاه الأعمش. الثالث: العلو , قاله عبد الرحمن بن زيد بن
أسلم. الرابع: الطاعة , قاله الضحاك.
(2/445)
وَقَالَ فِرْعَوْنُ
ائْتُونِي بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ (79) فَلَمَّا جَاءَ
السَّحَرَةُ قَالَ لَهُمْ مُوسَى أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ
مُلْقُونَ (80) فَلَمَّا أَلْقَوْا قَالَ مُوسَى مَا جِئْتُمْ
بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللَّهَ لَا
يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ (81) وَيُحِقُّ اللَّهُ
الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ (82)
فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلَى
خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ
وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ
الْمُسْرِفِينَ (83)
{وقال فرعون ائتوني بكل ساحر عليم فلما جاء
السحرة قال لهم موسى ألقوا ما أنتم ملقون فلما ألقوا قال موسى
ما جئتم به السحر إن الله سيبطله إن الله لا يصلح عمل المفسدين
ويحق الله الحق بكلماته ولو كره المجرمون فما آمن لموسى إلا
ذرية من قومه على خوف من فرعون وملئهم أن يفتنهم وإن فرعون
لعال في الأرض وإنه لمن المسرفين} قوله عز وجل: {فَمَاءَآمَنَ
لِمُوسَى إِلاَّ ذِرِّيَّةٌ مِّن قَوْمِهِ} فيه أربعة أوجه:
أحدها: أن الذرية القليل , قاله ابن عباس. الثاني: أنهم
الغلمان من بني إسرائيل لأن فرعون كان يذبحهم فأسرعوا إلى
الإيمان بموسى , قاله زيد بن أسلم. الثالث: أنهم أولاد الزمن
قاله مجاهد. الرابع: أنهم قوم أمهاتهم من بني إسٍرائيل وآباؤهم
من القبط. ويحتمل خامساً: أن ذرية قوم موسى نساؤهم وولدانهم.
{عَلَى خَوْفٍ مِّن فِرْعَوْنَ وَمَلإِيْهِمْ} يعني وعظمائهم
وأشرافهم. {أَنَ يَفْتِنَهُمْ} فيه وجهان:
(2/445)
أحدهما: أن يعذبهم , قاله ابن عباس.
الثاني: أن يكرههم على استدامة ما هم عليه. {وَإِنَّ
فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الأَرْضِ} فيه وجهان: أحدهما: أي متجبر
, قاله السدي. الثاني: باغ طاغ , قاله ابن إسحاق. {وِإِنَّهُ
لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ} يعني في بغيه وطغيانه.
(2/446)
وَقَالَ مُوسَى يَا
قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ
تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ (84) فَقَالُوا عَلَى
اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً
لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (85) وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ
الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (86)
{وقال موسى يا قوم إن كنتم آمنتم بالله
فعليه توكلوا إن كنتم مسلمين فقالوا على الله توكلنا ربنا لا
تجعلنا فتنة للقوم الظالمين ونجنا برحمتك من القوم الكافرين}
قوله عز وجل: { ... فَقَالُواْ عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلَنْا}
يحتمل وجهين: أحدهما: في الإسلام إليه. الثاني: في الثقة به.
{رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَومِ الظَّالِمِينَ}
فيه وجهان: أحدهما: لا تسلطهم علينا فيفتنوننا , قاله مجاهد.
الثاني: لا تسلطهم علينا فيفتتنون بنا لظنهم أنهم على حق ,
قاله أبو الضحى وأبو مجلز. قوله عز وجل: {وَأوْحَيْنَآ إِلَى
مَوسَى وَأخِيهِ أَن تَبَوَّءَاْ لِقَوْمِكُمَا بِمصْرَ
بُيُوتاً}. يعني تخيّرا واتخذا لهم بيوتاً يسكنونها , ومنه قول
الراجز:
(نحن بنو عدنان ليس شك ... تبوَأ المجد بنا والملك)
وفي قوله {بِمِصْرَ} قولان: أحدهما: أنها الإسكندرية , وهو قول
مجاهد. الثاني: أنه البلد المسمى مصر , قاله الضحاك. وفي قوله
{بُيُوتاً} وجهان:
(2/446)
أحدهما: قصوراً , قاله مجاهد.
(2/447)
الثاني: مساجد , قاله الضحاك.
{وَاجْعَلُواْ بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً} فيه أربعة أقاويل: أحدها:
واجعلوها مساجد تصلون فيها , لأنهم كانوا يخافون فرعون أن
يصلّوا في كنائسهم ومساجدهم , قاله الضحاك وابن زيد والنخعي.
الثاني: واجعلوا مساجدكم قِبل الكعبة , قاله ابن عباس ومجاهد
وقتادة. الثالث: واجعلوا بيوتكم التي بالشام قبلة لكم في
الصلاة فهي قبلة اليهود إلى اليوم قاله ابن بحر. الرابع:
واجعلوا بيوتكم يقابل بعضها بعضاً , قاله سعيد بن جبير.
{وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ} فيه وجهان: أحدهما: في بيوتكم
لتأمنوا فرعون. الثاني: إلى قبلة مكة لتصح صلاتكم. {وَبَشِّرِ
الْمُؤْمِنِينَ} قال سعيد بن جبير: بشرهم بالنصر في الدنيا ,
وبالجنة في الآخرة.
(2/448)
وَأَوْحَيْنَا إِلَى
مُوسَى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّآ لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ
بُيُوتًا وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا
الصَّلَاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (87) وَقَالَ مُوسَى
رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً
وَأَمْوَالًا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا
عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ
وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا
الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (88) قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ
دَعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا وَلَا تَتَّبِعَانِّ سَبِيلَ
الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (89)
{وأوحينا إلى موسى وأخيه أن تبوآ لقومكما
بمصر بيوتا واجعلوا بيوتكم قبلة وأقيموا الصلاة وبشر المؤمنين
وقال موسى ربنا إنك آتيت فرعون وملأه زينة وأموالا في الحياة
الدنيا ربنا ليضلوا عن سبيلك ربنا اطمس على أموالهم واشدد على
قلوبهم فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم قال قد أجيبت
دعوتكما فاستقيما ولا تتبعان سبيل الذين لا يعلمون} قوله عز
وجل: { ... رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ} أي أهلكها ,
قاله قتادة. فذكر لنا أن زروعهم وأموالهم صارت حجارة منقوشة ,
قاله الضحاك. {وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ} فيه أربعة أوجه:
أحدها: بالضلالة ليهلكوا كفاراً فينالهم عذاب الآخرة , قاله
مجاهد. الثاني: بإعمائها عن الرشد. الثالث: بالموت , قاله ابن
بحر. الرابع: اجعلها قاسية. {فَلاَ يُؤْمنُوا حَتَّى يَرَُواْ
الْعَذَابَ الأَلِيمَ} قال ابن عباس هو الغرق. قوله عز وجل:
{قَالَ قَدْ أُجِيبت دَّعْوَتُكُمَا} قال أبو العالية والربيع:
دعا موسى وأمَّن هارون فسمي هارون وقد أمّن على الدعاء داعياً
, والتأمين على الدعاء أن يقول آمين. واختلف في معنى آمين بعد
الدعاء وبعد فاتحة الكتاب في الصلاة على ثلاثة أقاويل: أحدها:
معناه اللهم استجب , قاله الحسن. الثاني: أن آمين اسم من أسماء
الله تعالى , قاله مجاهد , قال ابن قتيبة وفيه حرف النداء مضمر
وتقديره يا آمين استجب دعاءنا. الثالث: ما رواه سعيد عن أبي
هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (آمين خَاتَمُ
رَبِّ الْعَالَمِينَ عَلَى عِبَادِهِ المُؤْمِنِينَ) يعني أنها
تمنع من وصول الأذى والضرر كما يمنع الختم من الوصول إلى
المختوم عليه. وفرق ابن عباس في معنى آمين بين وروده بعد
الدعاء وبين وروده بعد فاتحة الكتاب فقال: معناه بعد الدعاء:
اللهم استجب , ومعناه بعد الفاتحة: كذلك فليكن. قال محمد بن
علي وابن جريج: وأخّر فرعون بعد إجابته دعوتهما أربعين سنة.
{فَاسْتَقِيمَا} فيه وجهان: أحدهما: فامضيا لأمري فخرجا في
قومهم , قاله السدي. الثاني: فاستقيما في دعوتكما على فرعون
وقومه , وحكاه علي بن عيسى. وقيل: إنه لا يجوز أن يدعو نبي على
قومه إلا بإذن لأن دعاءه موجب لحلول الانتقام وقد يجوز أن يكون
فيهم من يتوب.
(2/448)
وَجَاوَزْنَا بِبَنِي
إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ
بَغْيًا وَعَدْوًا حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ
آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو
إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ (90) آلْآنَ وَقَدْ
عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (91)
فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ
آيَةً وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا
لَغَافِلُونَ (92)
{وجاوزنا ببني إسرائيل البحر فأتبعهم فرعون
وجنوده بغيا وعدوا حتى إذا أدركه الغرق قال آمنت أنه لا إله
إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل وأنا من المسلمين آلآن وقد عصيت
قبل وكنت من المفسدين فاليوم ننجيك ببدنك لتكون لمن خلفك آية
وإن كثيرا من الناس عن آياتنا لغافلون} قوله عز وجل:
{فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ} معنى ننجيك نلقيك على
نجوة من الأرض , والنجوة المكان المرتفع وقوله تعالى
{بِبَدَنِكَ} فيه وجهان: أحدهما: يعني بجسدك من غير روح , قاله
مجاهد. الثاني: بدرعك , وكان له درع من حديد يعرف بها , قاله
أبو صخر , وكان من تخلف من قوم فرعون ينكر غرقه. وقرأ يزيد
اليزيدي {نُنَجِّيكَ} بالحاء غير معجمة وحكاها علقمة عن ابن
مسعود. أن يكون على ناحية من البحر حتى يراه بنو إسرائيل ,
وكان قصير أحمر كأنه ثور. {لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَءَايَةً}
يعني لمن بعدك عبرة وموعظة.
(2/449)
وَلَقَدْ بَوَّأْنَا
بَنِي إِسْرَائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ
الطَّيِّبَاتِ فَمَا اخْتَلَفُوا حَتَّى جَاءَهُمُ الْعِلْمُ
إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا
كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (93)
{ولقد بوأنا بني إسرائيل مبوأ صدق ورزقناهم
من الطيبات فما اختلفوا حتى جاءهم العلم إن ربك يقضي بينهم يوم
القيامة فيما كانوا فيه يختلفون} قوله عز وجل: {وَلَقَدْ
بَوَّأْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ} فيه قولان:
أحدهما: أنه الشام وبيت المقدس , قاله قتادة. الثاني: أنه مصر
والشام: قاله الضحاك. وفي قوله: {مُبَوَّأَ صِدْقٍ} تأويلان:
أحدهما: أنه كالصدق في الفضل. والثاني: أنه تصدق به عليهم.
(2/449)
ويحتمل تأويلاً ثالثاً: أنه وعدهم إياه
فكان وَعْدُه وعْد صدق. {وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ}
يعني وأحللنا لهم من الخيرات الطيبة. {فَمَا اخْتَلَفُوا
حَتَّى جَآءَهُمُ العِلْمُ} يعني أن بني إسرائيل ما اختلفوا أن
محمداً نبي. {حَتَّى جَآءَهُمُ الْعِلْمُ} وفيه وجهان: أحدهما:
حتى جاءهم محمد صلى الله عليه وسلم الذي كانوا يعلمون أنه نبي
, وتقديره حتى جاءهم المعلوم , قاله ابن بحر وابن جرير الطبري.
والثاني: حتى جاءهم القرآن , قاله ابن زيد.
(2/450)
فَإِنْ كُنْتَ فِي
شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ
يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ لَقَدْ جَاءَكَ الْحَقُّ
مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (94) وَلَا
تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ
فَتَكُونَ مِنَ الْخَاسِرِينَ (95) إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ
عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ (96) وَلَوْ
جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ
(97)
{فإن كنت في شك مما أنزلنا إليك فاسأل
الذين يقرؤون الكتاب من قبلك لقد جاءك الحق من ربك فلا تكونن
من الممترين ولا تكونن من الذين كذبوا بآيات الله فتكون من
الخاسرين إن الذين حقت عليهم كلمة ربك لا يؤمنون ولو جاءتهم كل
آية حتى يروا العذاب الأليم} قوله عز وجل: {فَإن كُنتَ في
شَكٍّ مِّمَّآ أَنْزَلْنَآ إِلَيْكَ} هذا خطاب من الله لنبيه
يقول: إن كنت يا محمد في شك مما أنزلنا إليك , وفيه وجهان:
أحدهما: في شك أنك رسول. الثاني: في شك أنك مكتوب عندهم في
التوراة والإنجيل. {فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ
الْكَتَابَ مِن قَبْلِكَ} فيه وجهان: أحدهما: أنه أراد مَنْ
منهم مثل عبد الله بن سلام وكعب الأحبار , قاله ابن زيد.
الثاني: أنه عنى أهل الصدق والتقوى منهم , قاله الضحاك. فإن
قيل: فهل كان النبي صلى الله عليه وسلم شاكاً؟ قيل قد روي عن
النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لاَ أَشُكُ وَلاَ
أَسْأَلُ)
(2/450)
وفي معنى الكلام وجهان: أحدهما: أنه خطاب
للنبي صلى الله عليه وسلم والمراد به غيره من أمته , كما قال
تعالى: {يَآ أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ
النِّسَآءَ} الآية [الطلاق: 1]. والثاني: أنه خطاب ورد على
عادة العرب في توليد القبول والتنبيه على أسباب الطاعة. كقول
الرجل لابنه: إن كنت ابني فبرّني , ولعبده إن كنت مملوكي
فامتثل أمري , ولا يدل ذلك على شك الولد في أنه ابن أبيه ولا
أن العبد شاك في أنه ملك لسيده. {فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ
الْمُمْتَرِينَ} أي من الشاكّين. قوله عز وجل: {إنَّ الَّذِينَ
حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ} يحتمل
وجهين: أحدهما: إن الذين وجبت عليهم كلمة ربك بالوعيد والغضب
لا يؤمنون أبداً. الثاني: إن الذين وقعت كلمته عليهم بنزول
العذاب بهم لا يؤمنون أبداً.
(2/451)
فَلَوْلَا كَانَتْ
قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ
يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ
فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ (98)
{فلولا كانت قرية آمنت فنفعها إيمانها إلا
قوم يونس لما آمنوا كشفنا عنهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا
ومتعناهم إلى حين} قوله عز وجل: {فَلَوْلاَ كَانَتْ
قَرْيَةٌءَامَنَتُ فَنَفَعَهآ إيمَانُهَا} والمراد بالقرية أهل
القرية. {إلاَّ قَوْمَ يُونُسَ} وهم أهل نينوى من بلاد الموصل
فإن يونس عليه السلام وعدهم بالعذاب بعد ثلاثة أيام , فقالوا:
انظروا يونس فإن خرج عنا فوعيده حق , فلما خرج عنهم تحققوه
ففزعوا إلى شيخ منهم فقال: توبوا وادعوا وقولوا يا حي حين لاحي
, ويا حي يا محيي الموتى , ويا حي لا إله إلا أنت , فلبسوا
المسوح وفرقوا بين كل والدة وولدها , وخرجوا من قريتهم تائبين
داعين فكشف الله عنهم العذاب كما قال تعالى: { ... كَشَفْنَا
عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} وفيه
وجهان: أحدهما: أنهم تابوا قبل أن يروا العذاب فلذلك قبل
توبتهم , ولو رأوه لم يقبلها كما لم يقبل من فرعون إيمانه لما
أدركه الغرق. الثاني: أنه تعالى خصهم بقبول التوبة بعد رؤية
العذاب , قال قتادة: كشف
(2/451)
عنهم العذاب بعد أن تدلى عليهم ولم يكن
بينهم وبين العذاب إلا ميل. {وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حينٍ} فيه
تأويلان: أحدهما: إلى أجلهم , قاله السدي. الثاني: إلى أن
يصيرهم إلى الجنة أو النار , قاله ابن عباس. وروي عن علي بن
أبي طالب رضي الله عنه أنه قال: إن الحذر لا يرد القدر , وإن
الدعاء يرد القدر , وذلك أن الله تعالى يقول: {إِلاَّ قَوْمَ
يُونُسَ لَمَّاءَامَنُواْ كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ
الْخِزْيِ} قال عليّ رضي الله عنه ذلك يوم عاشوراء.
(2/452)
وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ
لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ
تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (99) وَمَا
كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ
وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ (100)
قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا
تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ
(101) فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلَّا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ
خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ قُلْ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ
مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (102) ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا
وَالَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ حَقًّا عَلَيْنَا نُنْجِ
الْمُؤْمِنِينَ (103)
{ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعا
أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين وما كان لنفس أن تؤمن إلا
بإذن الله ويجعل الرجس على الذين لا يعقلون قل انظروا ماذا في
السماوات والأرض وما تغني الآيات والنذر عن قوم لا يؤمنون فهل
ينتظرون إلا مثل أيام الذين خلوا من قبلهم قل فانتظروا إني
معكم من المنتظرين ثم ننجي رسلنا والذين آمنوا كذلك حقا علينا
ننج المؤمنين} قوله عز وجل: {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَن
تُؤْمِنَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ} فيه ثلاثة أوجه: أحدها:
معناه إلا بأمر الله تعالى , قاله الحسن. الثاني: إلا بمعونة
الله. الثالث: إلا بإعلام الله سبل الهدى والضلالات.
{وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ} فيه
خمسة تأويلات: أحدها: أن الرجس السخط , قاله ابن عباس. الثاني:
أنه العذاب , قاله الفراء. الثالث: أنه الإثم , قاله سعيد بن
جبيرٍ. الرابع: أنه ما لا خير فيه , قاله مجاهد. الخامس: أنه
الشيطان , قاله قتادة.
(2/452)
وقوله: {عَلَى الَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ}
يعني لا يعقلون عن الله تعالى أمره ونهيه ويحتمل أنهم الذين لا
يعتبرون بحججه ودلائله.
(2/453)
قُلْ يَا أَيُّهَا
النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي فَلَا أَعْبُدُ
الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ أَعْبُدُ
اللَّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ
الْمُؤْمِنِينَ (104) وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ
حَنِيفًا وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (105) وَلَا
تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ
فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ (106)
وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا
هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ
يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ
الرَّحِيمُ (107)
{قل يا أيها الناس إن كنتم في شك من ديني
فلا أعبد الذين تعبدون من دون الله ولكن أعبد الله الذي
يتوفاكم وأمرت أن أكون من المؤمنين وأن أقم وجهك للدين حنيفا
ولا تكونن من المشركين ولا تدع من دون الله ما لا ينفعك ولا
يضرك فإن فعلت فإنك إذا من الظالمين وإن يمسسك الله بضر فلا
كاشف له إلا هو وإن يردك بخير فلا راد لفضله يصيب به من يشاء
من عباده وهو الغفور الرحيم} قوله عز وجل: {وَأَنْ أَقِمْ
وَجْهَكَ لِلِّدِينِ حَنِيفاً} أي استقم بإقبال وجهك على ما
أمرت به من الدين حنيفاً , وقيل أنه أراد بالوجه النفس. و
{حَنِيفاً} فيه ستة تأويلات: أحدها: أي حاجاً , قاله ابن عباس
والحسن والضحاك وعطية والسدي. الثاني: متبعاً , قاله مجاهد.
الثالث: مستقيماً , قاله محمد بن كعب. الرابع: مخلصاً , قاله
عطاء. الخامس: مؤمناً بالرسل كلهم , قاله أبو قلابة قال حمزة
بن عبد المطلب:
(حمدت الله حين هدى فؤادي ... من الإشراك للدين الحنيف)
السادس: سابقاً إلى الطاعة , مأخوذ من الحنف في الرجلين وهو أن
تسبق إحداهما الأخرى.
(2/453)
قُلْ يَا أَيُّهَا
النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنِ
اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ
فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ
بِوَكِيلٍ (108) وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ
حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ (109)
{قل يا أيها الناس قد جاءكم الحق من ربكم
فمن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها وما أنا
عليكم بوكيل واتبع ما يوحى
(2/453)
إليك واصبر حتى يحكم الله وهو خير
الحاكمين} قوله عز وجل: {قُلْ يَآ أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ
جَآءَكُمُ الْحَقُّ مِنَّ ربِّكُمْ} فيه وجهان: أحدهما:
القرآن. الثاني: الرسول صلى الله عليه وسلم. {فَمِنِ اهْتَدَى
فإنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ} فيه وجهان محتملان: أحدهما:
فمن اهتدى لقبول الحق فإنما يهتدي بخلاص نفسه. الثاني: فمن
اهتدى إلى معرفة الحق فإنما يهتدي بعقله.
(2/454)
|