زاد المسير في
علم التفسير خطبة الكتاب
(بسم الله الرحمن الرحيم) ربّ يسّر وأعن الحمد لله الذي شرّفنا
على الأمم بالقرآن المجيد، ودعانا بتوفيقه على الحكم إلى الأمر
الرشيد، وقوّم به نفوسنا بين الوعد والوعيد، وحفظه من تغيير
الجهول وتحريف العنيد، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من
خلفه تنزيل من حكيم حميد.
أحمده على التوفيق للتحميد، وأشكره على التحقيق في التوحيد،
وأشهد أن لا إِله إِلا الله وحده لا شريك له، شهادة يبقى ذخرها
على التأبيد، وأن محمّدا عبده ورسوله أرسله إلى القريب
والبعيد، بشيرا للخلائق ونذيرا، وسراجا في الأكوان منيرا، ووهب
له من فضله خيرا كثيرا، وجعله مقدّما على الكلّ كبيرا، ولم
يجعل له من أرباب جنسه نظيرا، ونهى أن يدعى باسمه تعظيما له
وتوقيرا، وأنزل عليه كلاما قرّر صدق قوله بالتحدي بمثله
تقريرا، فقال: قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ
عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ
بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً «1» .
فصلّى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه وأزواجه وأشياعه،
وسلّم تسليما كثيرا.
وبعد لمّا كان القرآن العزيز أشرف العلوم، كان الفهم لمعانيه
أو في الفهوم، لأن شرف العلم بشرف المعلوم، وإني نظرت في جملة
من كتب التفسير، فوجدتها بين كبير قد يئس الحافظ منه، وصغير لا
يستفاد كل المقصود منه، والمتوسّط منها قليل الفوائد، عديم
الترتيب، وربما أهمل فيه المشكل، وشرح غير الغريب، فأتيتك بهذا
المختصر اليسير، منطويا على العلم الغزير، ووسمته ب «زاد
المسير في علم التفسير» .
وقد بالغت في اختصار لفظه، فاجتهد- وفّقك الله- في حفظه، والله
المعين على تحقيقه، فما زال جائدا بتوفيقه.
فصل في فضل علم التفسير
(1) روى أبو عبد الرحمن السّلميّ، عن ابن مسعود قال: كنا
نتعلّم من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم العشر، فلا
__________
صحيح. أخرجه الطبري 82 من طريق عطاء عن أبي عبد الرحمن السلمي
قال: حدثنا الذين كانوا يقرئوننا ...
فذكره. والسلمي أحد تلامذة ابن مسعود، فهو المراد، وكأنه أراد
أنه سمع مثل ذلك عن غير ابن مسعود حيث لم يسمه. وأخرجه الطبري
81 من وجه آخر عن أبي وائل عن ابن مسعود وإسناده صحيح على شرط
مسلم.
__________
(1) الإسراء: 88.
(1/11)
نجاوزها إلى العشر الأخر حتى نعلم ما فيها
من العلم والعمل.
وروى قتادة عن الحسن أنّه قال: ما أنزل الله آية إلا أحبّ أن
أعلم فيم أنزلت، وماذا عنى بها.
وقال إياس بن معاوية: مثل من يقرأ القرآن ومن يعلم تفسيره أو
لا يعلم، مثل قوم جاءهم كتاب من صاحب لهم ليلا، وليس عندهم
مصباح، فتداخلهم لمجيء الكتاب روعة لا يدرون ما فيه، فإذا
جاءهم المصباح عرفوا ما فيه.
فصل: اختلف العلماء: هل التّفسير والتّأويل بمعنى، أم يختلفان؟
فذهب قوم يميلون إلى العربية إلى أنهما بمعنى، وهذا قول جمهور
المفسّرين المتقدّمين. وذهب قوم يميلون إلى الفقه إلى
اختلافهما، فقالوا: التفسير: إخراج الشيء من مقام الخفاء إلى
مقام التّجلّي. والتأويل: نقل الكلام عن وضعه فيما يحتاج في
إثباته إلى دليل لولاه ما ترك ظاهر اللفظ، فهو مأخوذ من قولك:
آل الشيء إلى كذا، أي:
صار إليه.
فصل في مدّة نزول القرآن
روى عكرمة عن ابن عباس قال: أُنزلَ القرآنُ جملة واحدة من
اللّوح المحفوظ في ليلة القدر إلى بيت العزّة، ثم أنزل بعد ذلك
في عشرين سنة «1» . وقال الشعبي: فرّق الله تنزيل القرآن، فكان
بين أوله وآخره عشرون سنة. وقال الحسن: ذكر لنا أنه كان بين
أوّله وآخره ثماني عشرة سنة، أنزل عليه بمكة ثماني سنين،
وبالمدينة عشر سنين.
فصل: واختلفوا في أول ما نزل من القرآن:
(2) فأثبت المنقول أنّ أول ما نزل من القرآن: اقْرَأْ بِاسْمِ
رَبِّكَ «2» ، رواه عروة عن عائشة وبه قال
__________
صحيح. أخرجه البخاري 3 ومسلم 160 وأحمد 6/ 232- 233. والطيالسي
1467 وابن حبان 33 والبيهقي في «الدلائل» 2/ 135- 136 من حديث
عائشة أنها قالت: أول ما بدئ به رسول الله صلّى الله عليه
وسلّم من الوحي الرؤيا الصالحة في النوم، فكان لا يرى رؤيا
إلّا جاءت مثل فلق الصبح، ثم حبب إليه الخلاء، وكان يخلو بغار
حراء فيتحنث فيه- وهو التعبد- الليالي ذوات العدد قبل أن ينزع
إلى أهله، ويتزود لذلك، ثم يرجع إلى خديجة فيتزود لمثلها، حتى
جاءه الحق وهو في غار حراء، فجاءه الملك فقال: اقرأ. قال: «ما
أنا بقارئ» قال:
«فأخذني فغطني حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني فقال: اقرأ! قلت:
ما أنا بقارئ، فأخذني فغطني الثانية حتى بلغ مني الجهد، ثم
أرسلني فقال: اقرأ! قلت: ما أنا بقارئ، فأخذني فغطني الثالثة،
ثم أرسلني، فقال:
اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ، خَلَقَ الْإِنْسانَ
مِنْ عَلَقٍ، اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ» . فرجع بها رسول
الله صلّى الله عليه وسلّم يرجف فؤاده، فدخل على خديجة بنت
خويلد رضي الله عنها فقال: «زملوني زملوني» ، فزملوه حتى ذهب
عنه الروع، فقال لخديجة وأخبرها الخبر: «لقد خشيت على نفسي»
فقالت خديجة: كلا والله ما يخزيك الله أبدا، إنك لتصل الرحم،
وتحمل الكل، وتكسب المعدوم وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق.
فانطلقت به خديجة حتى أتت به ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد
العزى- ابن عم خديجة- وكان امرأ تنصّر في الجاهلية، وكان يكتب
العبراني، فيكتب من الإنجيل بالعبرانية ما شاء الله أن يكتب،
وكان شيخا كبيرا قد عمي، فقالت له خديجة: يا ابن عم اسمع من
ابن أخيك. فقال له ورقة: يا ابن أخي ماذا ترى؟ فأخبره رسول
الله صلّى الله عليه وسلّم خبر ما رأى، فقال له ورقة: هذا
الناموس الذي نزل الله على موسى، يا ليتني فيها جذعا، ليتني
أكون حيّا إذ يخرجك قومك. فقال رسول الله صلّى الله عليه
وسلّم: «أو مخرجي هم؟» قال: نعم، لم يأت رجل قط بمثل ما جئت به
إلّا عودي، وإن يدركني يومك أنصرك نصرا مؤزرا. ثم لم يلبث ورقة
أن توفي، وفتر الوحي. واللفظ للبخاري.
__________
(1) موقوف حسن، وسيأتي تخريجه إن شاء الله.
(2) العلق: 1.
(1/12)
قتادة وأبو صالح. وروي عن جابر بن عبد
الله: أن أوّل ما نزل يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ.
والصحيح أنه لما نزل عليه اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ رجع فتدثّر
فنزل: يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ.
(3) يدل عليه ما أخرج في «الصحيحين» من حديث جابر قال: سمعت
النبيّ صلّى الله عليه وسلّم وهو يحدّث عن فترة الوحي، فقال في
حديثه: «فبينا أنا أمشي إذ سمعت صوتا من السماء، فرفعت رأسي،
فإذا الملك الذي جاءني بحراء جالس على كرسيّ بين السماء
والأرض، فجثثت منه رعبا، فرجعت فقلت:
زمّلوني، زمّلوني، فدثّروني، فأنزل الله تعالى: يا أَيُّهَا
الْمُدَّثِّرُ» ، ومعنى جثثت: فرقت. يقال: رجل مجؤوث ومجثوث.
وقد صحّفه بعض الرواة فقال: جبنت، من الجبن، والصحيح الأول.
وروي عن الحسن وعكرمة: أن أوّل ما نزل: بِسْمِ اللَّهِ
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ.
فصل: واختلفوا في آخر ما نزل:
(4) فروى البخاري في أفراده من حديث ابن عباس، قال: آخر آية
أنزلت على النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، آية الرّبا «1» .
(5) وفي أفراد مسلم عنه: آخر سورة نزلت جميعا: إِذا جاءَ
نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ «2» .
(6) وروى الضّحّاك عن ابن عباس قال: آخر آية أنزلت: وَاتَّقُوا
يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ «3» ، وهذا مذهب سعيد
بن جبير وأبي صالح.
(7) وروى أبو إسحاق عن البراء قال: آخر آية نزلت:
يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ «4»
، وآخر سورة نزلت «براءة» .
(8) وروي عن أبيّ بن كعب: أن آخر آية نزلت: لَقَدْ جاءَكُمْ
رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ «5» ، إلى آخر السورة.
__________
أخرجه البخاري 3238 و 4925 ومسلم 161 والترمذي 3325 وابن حبان
34، وسيأتي في سورة المدثر.
صحيح. أخرجه البخاري 4544 عن ابن عباس، ويأتي.
يأتي في سورة النصر.
يأتي ذكر الحديث عند الآية 281 من سورة البقرة.
صحيح. أخرجه البخاري 4654 عن البراء.
حسن. أخرجه أحمد 5/ 117 من طريق شعبة عن علي بن زيد عن يوسف
المكي عن ابن عباس عن أبي بن كعب به. وإسناده ضعيف لضعف علي بن
زيد، ويوسف هو ابن مهران لين الحديث، وثقه أبو زرعة، وقال أبو
حاتم: يكتب حديثه ويذاكر، وقال أحمد: لا يعرف. نقله الذهبي في
«الميزان» 4/ 474. وقال الحافظ في «التقريب» : يوسف بن مهران،
ليس هو يوسف بن ماهك، ذاك ثقة، وهذا لم يرو عنه إلّا ابن
جدعان، وهو لين الحديث. وأخرجه الحاكم 2/ 338 من وجه آخر عن
شعبة عن يونس بن عبيد وعلي بن زيد بن جدعان عن يوسف بن مهران
به. وقال: حديث شعبة عن يونس بن عبيد صحيح على شرط الشيخين!
ووافقه الذهبي!. وليس كما قالا، فقد ظن الحاكم أن الذي في
الإسناد هو يوسف بن ماهك، فذاك روى له الشيخان، وقد فرّق
بينهما ابن حجر كما تقدم، وكذا الذهبي في «الميزان» 4/ 474.
فالإسناد لين، لكن توبع، فقد أخرجه ابن أبي داود في «المصاحف»
ص 38 من وجه آخر وفيه أبو جعفر الرازي وهو ضعيف الحديث، لكن
يصلح للمتابعة. فالحديث حسن من جهة الإسناد.
- ويأتي الكلام على الجمع بين هذه الأحاديث إن شاء الله، والله
أعلم.
__________
(1) وهي يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ
وَذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ.
(2) سورة النصر: 1.
(3) البقرة: 281.
(4) النساء: 176.
(5) التوبة: 138.
(1/13)
فصل: لما رأيت جمهور كتب المفسّرين لا يكاد
الكتاب منها يفي بالمقصود كشفه حتى ينظر للآية الواحدة في كتب،
فربّ تفسير أخلّ فيه بعلم النّاسخ والمنسوخ، أو ببعضه، فإن وجد
فيه لم يوجد أسباب النزول، أو أكثرها، فإن وجد لم يوجد بيان
المكيّ من المدنيّ، وإن وجد ذلك لم توجد الإشارة إلى حكم
الآية، فإن وجد لم يوجد جواب إشكال يقع في الآية، إلى غير ذلك
من الفنون المطلوبة.
وقد أدرجت في هذا الكتاب من هذه الفنون المذكورة مع ما لم
أذكره مما لا يستغني التفسير عنه ما أرجو به وقوع الغناء بهذا
الكتاب عن أكثر ما يجانسه.
وقد حذرت من إعادة تفسير كلمة متقدمة إلا على وجه الإشارة، ولم
أغادر من الأقوال التي أحطت بها إلا ما تبعد صحته مع الاختصار
البالغ، فإذا رأيت في فرش الآيات ما لم يذكر تفسيره، فهو لا
يخلو من أمرين: إِما أن يكون قد سبق، وإِما أن يكون ظاهرا لا
يحتاج إلى تفسير. وقد انتقى كتابنا هذا أنقى التفاسير، فأخذ
منها الأصحّ والأحسن والأصون، فنظمه في عبارة الاختصار. وهذا
حين شروعنا فيما ابتدأنا له، والله الموفّق.
فصل في الاستعاذة
قد أمر الله عزّ وجلّ بالاستعاذة عند القراءة بقوله تعالى:
فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ
الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ (98) «1» ، ومعناه: إذا أردت القراءة.
ومعنى أعوذ: ألجأ وألوذ.
فصل في بسْم اللهِ الرحمنِ الرحيم
قال ابن عمر: نزلت في كل سورة.
وقد اختلف العلماء: هل هي آية كاملة، أم لا؟ وفيه عن أحمد
روايتان، واختلفوا: هل هي من الفاتحة، أم لا؟ فيه عن أحمد
روايتان أيضاً. فأما من قال: إِنها من الفاتحة، فإنه يوجب
قراءتها في الصلاة إِذا قال بوجوب الفاتحة، وأما من لم يرها من
الفاتحة، فانه يقول: قراءتها في الصلاة سنة، ما
__________
(1) النحل: 98.
(1/14)
عدا مالكاً فانه لا يستحب قراءتها في
الصلاة «1» .
واختلفوا في الجهر بها في الصلاة فيما يجهر به «2» ، فنقل
جماعة عن أحمد: أنه لا يسن الجهر بها، وهو قول أبي بكر، وعمر،
وعثمان، وعلي، وابن مسعود، وعمار بن ياسر، وابن مغفَّل، وابن
الزبير، وابن عباس، وقال به من كبراء التابعين ومن بعدهم:
الحسن، والشعبي، وسعيد بن جبير، وابراهيم، وقتادة، وعمر بن عبد
العزيز، والأعمش، وسفيان الثوري، ومالك، وأبو حنيفة، وأبو عبيد
في آخرين. وذهب الشافعي إِلى أن الجهر بها مسنون، وهو مروي عن
معاوية بن أبي سفيان، وعطاء، وطاوس، ومجاهد.
فأما تفسيرها: فقوله: بِسْمِ اللَّهِ اختصار، كأنه قال: أبدأ
باسم الله، أو: بدأت باسم الله. وفي الاسم خمس لغات: إِسم بكسر
الألف، وأُسم بضم الألف إذا ابتدأت بها، وسم بكسر السين، وسم
__________
(1) قال القرطبي رحمه الله في «الجامع لأحكام القرآن» 1/ 132:
وجملة مذهب مالك وأصحابه: أنها ليست عندهم آية من فاتحة الكتاب
ولا غيرها، ولا يقرأ بها المصلي في المكتوبة، ولا في غيرها سرا
ولا جهرا.
ويجوز أن يقرأها في النوافل. هذا هو المشهور في مذهبه عند
أصحابه. وعنه رواية أخرى أنها تقرأ أول السورة في النوافل، ولا
تقرأ أول أم القرآن. وروي عن ابن نافع ابتداء القراءة بها في
الصّلاة الفرض والنفل ولا تترك بحال. ومن أهل المدينة من يقول:
إنه لا بد فيها من بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ منهم
ابن عمر وابن شهاب.
وبه قال الشافعي وأحمد وإسحاق وأبو ثور وأبو عبيد. وهذا يدل
على أن المسألة مسألة اجتهادية لا قطعية كما ظن بعض الجهّال من
المتفقهة الذي يلزم على قوله تكفير المسلمين، وليس كما ظن
لوجود الاختلاف المذكور، والحمد لله. وقد ذهب جمع من العلماء
إلى الإسرار بها مع الفاتحة، منهم: أبو حنيفة، والثوري وروي
ذلك عن عمر وعلي وابن مسعود وعمّار وابن الزبير، وهو قول الحكم
وحمّاد وبه قال أحمد بن حنبل وأبو عبيد، وروي عن الأوزاعي مثل
ذلك. وانظر المغني 2/ 147- 149.
(2) قال الإمام الموفّق رحمه الله في «المغني» 2/ 149- 151:
ولا تختلف الرّواية عن أحمد أن الجهر بها غير مسنون. قال
الترمذي: وعليه العمل عند أكثر أهل العلم من أصحاب النبي صلّى
الله عليه وسلّم، ومن بعدهم التابعين منهم أبو بكر وعمر
وعثمان، وعليّ. وذكره ابن المنذر، عن ابن مسعود، وابن الزبير
وعمار. وبه يقول الحكم وحمّاد، والأوزاعي، والثّوري، وابن
المبارك، وأصحاب الرأي. ويروى عن عطاء، وطاوس، ومجاهد وسعيد بن
جبير، الجهر بها. وهو مذهب الشافعي لحديث أبي هريرة، أنّه
قرأها في الصّلاة. وقد صح عنه أنه قال: ما أسمعنا رسول الله
صلّى الله عليه وسلّم أسمعناكم، وما أخفى أخفيناه عليكم. متفق
عليه. وعن أنس، أنه صلّى وجهر ببسم الله الرّحمن الرّحيم.
وقال: أقتدي بصلاة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. ولما تقدّم
من حديث أم سلمة وغيره، ولأنّها آية من الفاتحة فيجهر بها
الإمام في صلاة الجهر، كسائر آياتها. ولنا حديث أنس وعبد الله
بن المغفّل، وعن عائشة، رضي الله عنها، أن النبي صلّى الله
عليه وسلّم كان يفتتح الصلاة بالتكبير والقراءة بالحمد لله رب
العالمين. متفق عليه. وروى أبو هريرة، قال: سمعت رسول الله
صلّى الله عليه وسلّم، يقول: «قال الله تعالى: قسمت الصلاة
بيني وبين عبدي نصفين، ولعبدي ما سأل، فإذا قال العبد
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ. قال الله: حمدني عبدي»
وذكر الخبر. أخرجه مسلم. وهذا يدل على أنّه لم يذكر بِسْمِ
اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ، ولم يجهر بها. وحديث أبي هريرة
الذي احتجوا به ليس فيه أنّه جهر بها، ولا يمتنع أن يسمع منه
حال الإسرار، كما سمع الاستفتاح والاستعاذة من النبي صلّى الله
عليه وسلّم، مع إسراره بهما، وقد روى أبو قتادة، أن النبي صلّى
الله عليه وسلّم كان يسمعهم الآية أحيانا في صلاة الظهر. متفق
عليه. وحديث أم سلمة ليس فيه أنه جهر بها، وسائر أخبار الجهر
ضعيفة، فإن رواتها هم رواة الإخفاء، وإسناد الإخفاء صحيح ثابت
بغير خلاف فيه، فدل على ضعف رواية الجهر، وقد بلغنا أن
الدارقطني قال: لم يصح في الجهر حديث.
(1/15)
بضمّها، وسما. قال الشاعر «1» :
والله أسماك سمى مباركا ... آثرك الله به إيثاركا
وأَنشدوا «2» :
باسم الذي في كل سورةٍ سمه
قال الفراء: بعض قيس يقولون: سمه، يريدون: اسمه، وبعض قضاعة
يقولون: سُمُه. أَنشدني بعضهم:
وعامنا أَعجبنا مقدّمه ... يدعى أبا السمح وقرضاب سُمُه «3»
والقرضاب: القطاع، يقال: سيف قرضاب.
واختلف العلماء في اسم الله الذي هو «الله» فقال قوم: إِنه
مشتق، وقال آخرون: إنه علم ليس بمشتق. وفيه عن الخليل روايتان:
إِحداهما: أنه ليس بمشتق، ولا يجوز حذف الألف واللام منه كما
يجوز من الرحمن. والثانية: رواها عنه سيبويه: أنه مشتق. وذكر
أبو سليمان الخطابي عن بعض العلماء أن أصله في الكلام مشتق من:
أله الرجل يأله: إِذا فزع اليه من أمر نزل به. فألهه، أي:
أجاره وأمَّنه، فسمي إِلهاً كما يسمّى الرجل إِماماً. وقال
غيره: أصله ولاه. فأبدلت الواو همزة فقيل: إله كما قالوا:
وسادة وإسادة، ووشاح وإِشاح. واشتق من الوله، لأن قلوب العباد
توله نحوه، كقوله تعالى: ثُمَّ إِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ
فَإِلَيْهِ تَجْئَرُونَ «4» . وكان القياس أن يقال: مألوه، كما
قيل: معبود، إلا أنهم خالفوا به البناء ليكون علماً، كما قالوا
للمكتوب: كتاب، وللمحسوب: حساب. وقال بعضهم: أصله من: أله
الرجل يأله إِذا تحير، لأن القلوب تتحير عند التفكر في عظمته.
وحكي عن بعض اللغويين: أله الرجل يأله إِلاهة، بمعنى: عبد يعبد
عبادة. وروي عن ابن عباس أنه قال: «ويذرك وإلاهتك» أي: عبادتك.
قال:
والتأله: التعبد. قال رؤبة:
لله در الغانيات المدَّه ... سبَّحن واسترجعن من تألهي
فمعنى الإِله: المعبود.
فأما «الرَّحمن» : فذهب الجمهور إِلى أنه مشتق من الرحمة، مبني
على المبالغة، ومعناه: ذو الرحمة التي لا نظير له فيها. وبناء
فعلان في كلامهم للمبالغة، فإنهم يقولون للشديد الامتلاء:
ملآن، وللشديد الشبع: شبعان. قال الخطابي: ف «الرحمن» : ذو
الرحمة الشاملة التي وسعت الخلق في أرزاقهم ومصالحهم، وعمت
المؤمن والكافر. و «الرحيم» : خاصّ للمؤمنين. قال عزّ وجلّ:
وَكانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً «5» . والرحيم: بمعنى
الرّاحم.
__________
(1) هو أبو خالد القناني كما في «اللسان» 14/ 401، 402 مادة
(سما) . [.....]
(2) هو لرؤبة بن العجّاج وتمامه: قد وردت على طريق تعلمه.
(3) قال القرطبي رحمه الله في «تفسيره» 1/ 137: قرضب الرّجل:
إذا أكل شيئا يابسا فهو قرضاب. وفي «القاموس» القرضاب: الذي لا
يدع شيئا إلا أكله.
(4) النحل: 53.
(5) الأحزاب: 43.
(1/16)
|