زاد المسير في
علم التفسير قَالَ فِرْعَوْنُ
آمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ
مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْهَا
أَهْلَهَا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (123) لَأُقَطِّعَنَّ
أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ ثُمَّ
لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (124) قَالُوا إِنَّا إِلَى
رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ (125)
روي عن ابن عباس أيضاً. والرابع: اثنا عشر
ألفا، قاله كعب. والخامس: سبعون ألفاً، قاله عطاء، وكذلك قال
وهب في رواية، ألا أنه قال: فاختار منهم سبعة آلاف. والسادس:
سبعمائة. وروى عبد المنعم بن إدريس عن أبيه عن وهب أنه قال:
كان عدد السحرة الذين عارضوا موسى سبعين ألفاً متخيَّرين من
سبعمائة ألف، ثم إن فرعون اختار من السبعين الألف سبعمائة.
والسابع: خمسة وعشرون ألفاً، قاله الحسن. والثامن: تسعمائة،
قاله عكرمة. والتاسع: ثمانون ألفاً، قاله محمد بن المنكدر.
والعاشر: بضعة وثلاثون ألفاً، قاله السدي. والحادي عشر: خمسة
عشر ألفاً، قاله ابن اسحاق. والثاني عشر: تسعة عشر ألفاً، رواه
أبو سليمان الدمشقي. والثالث عشر: أربع مائة، حكاه الثعلبي.
فأما أسماء رؤسائهم، فقال ابن اسحاق: رؤوس السحرة ساتور،
وعاذور، وحُطحُط، ومُصَفَّى، وهم الذين آمنوا، كذا حكاه ابن
ماكولا. ورأيت عن غير ابن اسحاق: سابوراً، وعازوراً. وقال
مقاتل: اسم أكبرهم.
شمعون. قال ابن عباس: ألقوا حبالاً غلاظاً، وخشباً طُوالا،
فكانت ميلاً في ميل، فألقى موسى عصاه، فاذا هي أعظم من حبالهم
وعصيهم، قد سدت الأفق، ثم فتحت فاها ثمانين ذراعاً، فابتلعت ما
ألقوا من حبالهم وعصيِّهم، وجعلت تأكل جميع ما قدرت عليه من
صخرة أو شجرة، والناس ينظرون، وفرعون يضحك تجلُّداً، فأقبلت
الحيَّة نحو فرعون، فصاح: يا موسى، يا موسى فأخذها موسى، وعرفت
السحرة أن هذا من السماء، وليس هذا بسحر، فخرُّوا سُجَّداً،
وقالوا آمنا برب العالمين، فقال فرعون: إياي تعنون؟ فقالوا:
ربَّ موسى وهارون، فأصبحوا سحرة، وأمسوا شهداء. وقال وهب بن
منبه. لما صارت ثعباناً حملت على الناس فانهزموا منها، فقتل
بعضهم بعضاً، فمات منهم خمسة وعشرون ألفاً. وقال السدي: لقي
موسى أمير السحرة، فقال: أرأيت إن غلبتك غدا، أتؤمن بي؟ فقال
الساحر: لآتين غدا بسحر لا يغلبه السّحر، فو الله لئن غلبتني
لأومننَّ بك.
فان قيل: كيف جاز أن يأمرهم موسى بالإلقاء، وفعل السحر كفر؟
فعنه ثلاثة أجوبة: أحدها: أن مضمون أمره: إن كنتم محقين
فألقوا. والثاني: ألقوا على ما يصح، لا على ما يفسد ويستحيل،
ذكرهما الماوردي. والثالث: إنما أمرهم بالإلقاء لتكون معجزته
أظهر، لأنهم إذا ألقوا، ألقى عصاه فابتلعت ذلك، ذكره الواحدي.
فان قيل: كيف قال: وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ، وإنما
سجدوا باختيارهم؟ فالجواب: أنه لما زالت كل شبهة بما أظهر الله
تعالى من أمره، اضطرهم عظيم ما عاينوا إلى مبادرة السجود،
فصاروا مفعولين في الإلقاء تصحيحاً وتعظيماً لشأن ما رأوا من
الآيات، ذكره ابن الأنباري. قال ابن عباس: لما آمنت السحرة،
اتبع موسى ستّمائة ألف من بني إسرائيل.
[سورة الأعراف (7) : الآيات 123 الى 125]
قالَ فِرْعَوْنُ آمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ
إِنَّ هذا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ
لِتُخْرِجُوا مِنْها أَهْلَها فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (123)
لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ ثُمَّ
لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (124) قالُوا إِنَّا إِلى
رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ (125)
قوله تعالى: آمَنْتُمْ بِهِ قرأ نافع، وابن عامر، وأبو عمرو:
«أآمنتم به» بهمزة ومدة على الاستفهام. وقرأ حمزة، والكسائي،
وأبو بكر عن عاصم: «أآمنتم به» فاستفهموا بهمزتين، الثانية
ممدودة. وقرأ حفص عن عاصم: «آمنتم به» على الخبر. وروى ابن
الإخريط عن ابن كثير: «قال
(2/144)
وَمَا تَنْقِمُ مِنَّا
إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِآيَاتِ رَبِّنَا لَمَّا جَاءَتْنَا
رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ
(126) وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ
مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ
وَآلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي
نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ (127) قَالَ
مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ
الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ
وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (128)
فرعون وأمنتم به» فقلب همزة الاستفهام
واواً، وجعل الثانية مليَّنة بين بين. وروى قنبل عن القواس مثل
رواية ابن الإخريط، غير أنه كان يهمز بعد الواو. وقال أبو علي:
همز بعد الواو، لأن هذه الواو منقلبة عن همزة الاستفهام، وبعد
همزة الاستفهام همزة «أفَعَلْتُم» فحققها ولم يخففها.
قوله تعالى: إِنَّ هذا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ قال ابن السائب:
لصنيع صنعتموه فيما بينكم وبين موسى في مصر قبل خروجكم إلى هذا
الموضع لتستولوا على مصر فتخرجوا منها أهلها فَسَوْفَ
تَعْلَمُونَ عاقبة ما صنعتم، لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ
وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وهو قطع اليد اليمنى، والرجل
اليسرى. قال ابن عباس:
أول من فعل ذلك، وأوّل من صلب، فرعون.
[سورة الأعراف (7) : الآيات 126 الى 128]
وَما تَنْقِمُ مِنَّا إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بِآياتِ رَبِّنا
لَمَّا جاءَتْنا رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً
وَتَوَفَّنا مُسْلِمِينَ (126) وَقالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ
فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي
الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قالَ سَنُقَتِّلُ
أَبْناءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ
قاهِرُونَ (127) قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ
وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُها مَنْ يَشاءُ
مِنْ عِبادِهِ وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (128)
قوله تعالى: وَما تَنْقِمُ مِنَّا أي: وما تكره منّا شيئا، ولا
تطعن علينا إلا لأنا آمنا. رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً
قال مجاهد: على القطع والصلب حتى لا نرجع كفاراً وَتَوَفَّنا
مُسْلِمِينَ أي: مخلصين على دين موسى.
قوله تعالى: أَتَذَرُ مُوسى وَقَوْمَهُ هذا إِغراء من الملأِ
لفرعون. وفيما أرادوا بالفساد في الأرض قولان: أحدهما: قتل
أبناء القبط، واستحياء نسائهم، كما فعلوا ببني اسرائيل، قاله
مقاتل. والثاني:
دعاؤهم الناس إلى مخالفة فرعون وترك عبادته. قوله تعالى:
وَيَذَرَكَ جمهور القراء على نصب الراء وقرأ الحسن برفعها. قال
الزجاج: من نصب «ويذرَك» نصبه على جواب الاستفهام بالواو
والمعنى:
أيكون منك أن تذر موسى وأن يذرك؟ ومن رفعه جعله مستأنفاً،
فيكون المعنى: أتذر موسى وقومه، وهو يذرك وآلهتك، والأجود أن
يكون معطوفاً على «أتذر» فيكون المعنى: أتذر موسى، وأ يذرك
موسى؟ أي: أتطلق له هذا؟ قوله تعالى: وَآلِهَتَكَ قال ابن
عباس: كان فرعون قد صنع لقومه أصناماً صغاراً، وأمرهم
بعبادتها، وقال أنا ربكم ورب هذه الأصنام، فذلك قوله: أَنَا
رَبُّكُمُ الْأَعْلى.
وقال غيره: كان قومه يتعبّدون تلك الأصنام تقرباً إليه. وقال
الحسن: كان يعبد تيساً في السر. وقيل:
كان يعبد البقر سراً. وقيل: كان يجعل في عنقه شيئا يعبده. وقرأ
ابن مسعود، وابن عباس، والحسن، وسعيد بن جبير، ومجاهد، وأبو
العالية، وابن محيصن: «والإِهتك» بكسر الهمزة وقصرها وفتح
اللام وبألف بعدها. قال الزجاج: المعنى: ويذرك وربوبيتك وقال
ابن الأنباري: قال اللغويون: الإِلاهة:
العبادة فالمعنى: ويذرك وعبادة الناس إياك. قال ابن قتيبة: من
قرأ: «وإِلاهتك» أراد: ويذرك والشمس التي تعبد، وقد كان في
العرب قوم يعبدون الشمس ويسمونها آلهةً. قال الأعشى:
فَمَا أَذْكُرُ الرَّهْبَ حتَّى انْقَلَبْتُ ... قُبيْلَ
الإلهَةِ مِنْها قَرِيْبا
يعني الشمس، والرهب: ناقته. يقول: اشتغلت بهذه المرأة عن ناقتي
إلى هذا الوقت.
قوله تعالى: سَنُقَتِّلُ أَبْناءَهُمْ قرأ أبو عمرو، وعاصم،
وابن عامر، وحمزة، والكسائي: «سنقتّل»
(2/145)
قَالُوا أُوذِينَا
مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا
قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ
وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ
تَعْمَلُونَ (129) وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ
بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ
يَذَّكَّرُونَ (130)
و «يقتلون أبناءكم» بالتشديد، وخففهما
نافع. وقرأ ابن كثير: «سَنَقْتُلُ» خفيفة، و «يقتّلون» مشددة،
وإنما عدل عن قتل موسى إلى قتل الأبناء لعلمه أنه لا يقدر
عليه. وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قاهِرُونَ أي: عالون بالملك
والسلطان. فشكا بنو إسرائيل إعادة القتل على أبنائهم، فقال
موسى: اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا على ما يُفعل بكم
إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُها مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ.
وقرأ الحسن، وهبيرة عن حفص عن عاصم: «يورِّثها» بالتشديد.
فأطمعهم موسى أن يعطيهم الله أرض فرعون وقومه بعد إهلاكهم.
قوله تعالى: وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ فيها قولان: أحدهما:
الجنّة. والثاني: النّصر والظّفر.
[سورة الأعراف (7) : الآيات 129 الى 130]
قالُوا أُوذِينا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنا وَمِنْ بَعْدِ ما
جِئْتَنا قالَ عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ
وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ
تَعْمَلُونَ (129) وَلَقَدْ أَخَذْنا آلَ فِرْعَوْنَ
بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ
يَذَّكَّرُونَ (130)
قوله تعالى: قالُوا أُوذِينا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنا
وَمِنْ بَعْدِ ما جِئْتَنا في هذا الأذى ستة أقوال:
أحدها: أن الأذى الأول والثاني أخذ الجزية، قاله الحسن.
والثاني: أن الأول ذبح الأبناء، والثاني إدراك فرعون يوم
طلبهم، قاله السدي. والثالث: أن الأول أنهم كانوا يسخَّرون في
الأعمال إلى نصف النهار، ويرسَلون في بقيته يكتسبون. والثاني
تسخيرهم جميع النهار بلا طعام ولا شراب، قاله جويبر. والرابع:
أن الأول تسخيرهم في ضرب اللَّبِن، وكانوا يعطونهم التّبن الذي
يخلط به الطين والثاني أنهم كلِّفوا ضرب اللَّبِن وجعلَ التبن
عليهم، قاله ابن السائب. والخامس: أن الأول قتل الأبناء،
واستحياء البنات، والثاني تكليف فرعون إيّاهم ما لا يطيقون،
قاله مقاتل. والسادس: أن الأول استخدامهم وقتل أبنائهم
واستحياء نسائهم، والثاني إعادة ذلك العذاب.
وفي قوله تعالى: مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنا قولان: أحدهما:
تأتينا بالرّسالة ومن بعد جئتنا بها قاله ابن عباس. والثاني:
تأتينا بعهد الله أنه سيخلِّصنا ومن بعد ما جئتنا به، ذكره
الماوردي.
قوله تعالى: عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ قال
الزجاج: عسى: طمع وإشفاق، إلا أن ما يُطمِع الله فيه فهو واجب.
قوله تعالى: وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ في هذا
الاستخلاف قولان: أحدهما: أنه استخلاف من فرعون وقومه.
والثاني: استخلاف عن الله تعالى، لأن المؤمنين خلفاء الله في
أرضه، وفي الأرض قولان: أحدهما: أرض مصر، قاله ابن عباس.
والثاني: أرض الشام، ذكره الماوردي.
قوله تعالى: فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ قال الزجاج: أي:
يراه بوقوعه منكم، لأنه إنما يجازيهم على ما وقع منهم، لا على
ما علم أنه سيقع منهم.
قوله تعالى: وَلَقَدْ أَخَذْنا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ
قال أبو عبيدة: مجازُه: ابتليناهم بالجدوب. وآل فرعون: أهل
دينه وقومه. وقال مقاتل: هم أهل مصر. قال الفراء: «بالسنين»
أي: بالقحط والجدوب عاماً بعد عام. وقال الزجاج: السنون في
كلام العرب: الجدوب، يقال: مستهم السَّنة، ومعناه: جدب
السَّنة، وشدة السَّنة. وإنما أخذهم بالضراء، لأن أحوال الشدة
تُرِقُ القلوب، وتُرغِّب فيما عند الله وفي الرجوع اليه. قال
قتادة: أما السنون، فكانت في بواديهم ومواشيهم، وأما نقص
الثمرات، فكان في
(2/146)
فَإِذَا جَاءَتْهُمُ
الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ
يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَلَا إِنَّمَا
طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا
يَعْلَمُونَ (131) وَقَالُوا مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِنْ
آيَةٍ لِتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ
(132) فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ
وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُفَصَّلَاتٍ
فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ (133)
أمصارهم وقراهم. وروى الضحاك عن ابن عباس
قال: يبس لهم كل شيء، وذهبت مواشيهم، حتى يبس نيل مصر،
فاجتمعوا إلى فرعون فقالوا له: إن كنت رباً كما تزعم، فاملأ
لنا نيل مصر، فقال غُدْوة يصبِّحكم الماء، فلما خرجوا من عنده،
قال: أيَّ شيء صنعت؟ أنا أقدر أن أجيء بالماء في نيل مصر؟
غدوة أصبح، فيكذِّبوني. فلما كان جوف الليل، اغتسل، ثم لبس
مِدرعة من صوف، ثم خرج حافياً حتى اتى بطن نيل مصر فقام في
بطنه، فقال: اللهم إنك تعلم أني أعلم أنك تقدر أن تملأ نيل مصر
ماء، فاملأه، فما علم إلا بخرير الماء لما أراد الله به من
الهلكة. قلت: وهذا الحديث بعيد الصحة لأن الرجل كان دهرياً لا
يثبت إِلهاً. ولو صح، كان إقراره بذلك كاقرار إبليس، وتبقى
مخالفته عنادا.
[سورة الأعراف (7) : آية 131]
فَإِذا جاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قالُوا لَنا هذِهِ وَإِنْ
تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسى وَمَنْ مَعَهُ أَلا
إِنَّما طائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا
يَعْلَمُونَ (131)
قوله تعالى: فَإِذا جاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ وهي الغيث والخصب
وسعة الرزق والسلامة قالُوا لَنا هذِهِ أي: نحن مستحقوها على
ما جرى لنا من العادة في سعة الرزق، ولم يعلموا أنه من الله
فيشكُروا عليه. وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ وهي القحط والجدب
والبلاء يَطَّيَّرُوا بِمُوسى وَمَنْ مَعَهُ أي: يتشاءموا بهم.
وكانت العرب تزجر الطير، فتتشاءم بالبارح، وهو الذي يأتي من
جهة الشمال، وتتبرك بالسانح، وهو الذي يأتي من جهة اليمين.
قوله تعالى: أَلا إِنَّما طائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ قال أبو
عبيدة: «ألا» تنبيه وتوكيد ومجاز. «طائرهم» حظهم ونصيبهم، وقال
ابن عباس «ألا إنما طائرهم عند الله» أي: إن الذي أصابهم من
الله. وقال الزجاج: المعنى: ألا إن الشؤم الذي يلحقهم هو الذي
وُعدوا به في الآخرة، لا ما ينالهم في الدّنيا.
[سورة الأعراف (7) : الآيات 132 الى 133]
وَقالُوا مَهْما تَأْتِنا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنا بِها
فَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (132) فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ
الطُّوفانَ وَالْجَرادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفادِعَ وَالدَّمَ
آياتٍ مُفَصَّلاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكانُوا قَوْماً
مُجْرِمِينَ (133)
قوله تعالى: وَقالُوا مَهْما قال الزجاج: زعم النحويون أن أصل
«مهما» ماما، ولكن أبدل من الألف الأولى الهاء ليختلف اللفظ ف
«ما» الأولى هي «ما» الجزاء، و «ما» الثانية هي التي تزاد
تأكيداً للجزاء، ودليل النحويين على ذلك أنه ليس شيء من حروف
الجزاء إلا و «ما» تزاد فيه، قال الله عزّ وجلّ فَإِمَّا
تَثْقَفَنَّهُمْ «1» كقولك: إن تثقفنهم، وقال: وَإِمَّا
تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ «2» ، وتكون «ما» الثانية للشرط والجزاء،
والتفسير الأول هو الكلام، وعليه استعمال الناس. قال ابن
الأنباري: فعلى قول من قال: إن معنى «مه» الكف، يحسن الوقف على
«مه» ، والاختيار عندي أن لا يوقف على «مه» دون «ما» لأنّهما
في المصحف حرف واحد. وفي الطوفان ثلاثة أقوال «3» :
__________
(1) سورة الأنفال: 57.
(2) سورة الإسراء: 28.
(3) قال الطبري في «تفسيره» 6/ 33: والصواب من القول في ذلك
عندي ما قاله ابن عباس على ما رواه عنه أبو ظبيان. أنه أمر من
الله طاف بهم، وأنه مصدر من قول القائل: «طاف بهم أمر الله
يطوف طوفانا» . كما يقال:
«نقص هذا الشيء ينقص نقصانا» . وإذا كان ذلك كذلك جاز أن يكون
الذي طاف بهم المطر الشديد، وجاز أن يكون الموت الذريع.
(2/147)
أحدها: أنه الماء. قال ابن عباس: أُرسل
عليهم مطر دائم الليلَ والنهارَ ثمانية أيام، وإلى هذا المعنى
ذهب سعيد بن جبير وقتادة والضحاك وأبو مالك ومقاتل واختاره
الفراء وابن قتيبة.
(588) والثاني: أنه الموت، روته عائشة عن النبيّ صلّى الله
عليه وسلم، وبه قال مجاهد، وعطاء، ووهب بن منبه، وابن كثير.
والثالث: أنه الطاعون، نقل عن مجاهد، ووهب أيضاً.
وفي القمَّل سبعة أقوال: أحدها: أنه السوس الذي يقع في الحنطة،
رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس، وقال به. والثاني: أنه
الدَّبى، رواه العوفي عن ابن عباس، وبه قال مجاهد، وعطاء. وقال
قتادة: القمَّل: أولاد الجراد. وقال ابن فارس: الدَّبى: الجراد
إذا تحرك قبل أن تنبت أجنحته. والثالث:
أنه دواب سود صغار، قاله الحسن، وسعيد بن جبير. وقيل: هذه
الدواب هي السوس. والرابع: أنه الجعلان، قاله حبيب بن ثابت.
والخامس: أنه القمل، ذكره عطاء الخراساني، وزيد بن أسلم.
والسادس: أنه البراغيث، حكاه ابن زيد. والسابع: أنه الحَمنان،
واحدتها: حَمنانة، وهي ضرب من القِردان، قاله أبو عبيدة. وقرأ
الحسن، وعكرمة، وابن يعمر: «القُمْل» برفع القاف وسكون الميم.
وفي الدم قولان: أحدهما: أن ماءهم صار دماً، قاله الجمهور.
والثاني: أنه رعاف أصابهم، قاله زيد بن اسلم.
(الإِشارة إلى شرح القصة) قال ابن عباس: جاءهم الطوفان، فكان
الرجل لا يقدر ان يخرج إلى ضيعته، حتى خافوا الغرق، فقالوا: يا
موسى ادع لنا ربك يكشفه عنا، ونؤمن بك، ونرسل معك بني إسرائيل
فدعا لهم، فكشفه الله عنهم، وأنبت لهم شيئاً لم ينبته قبل ذلك،
فقالوا: هذا ما كنا نتمنى، فأرسل الله عليهم الجراد فأكل ما
أنبتت الأرض، فقالوا: ادع لنا ربك، فدعا، فكشف الله عنهم،
فأحرزوا زروعهم في البيوت، فأرسل الله عليهم القُمَّل، فكان
الرجل يخرج بطحين عشرة أجربة إلى الرحى، فلا يرى منها ثلاثة
أقفزة، فسألوه، فدعا لهم، فلم يؤمنوا، فأرسل الله عليهم
الضفادع، ولم يكن شيء أشد منها، كانت تجيء إلى القدور وهي تغلي
وتفور، فتلقي أنفسها فيها، فتفسد طعامهم وتطفئ نيرانهم، وكانت
الضّفادع برّية، فأورثها الله عزّ وجلّ برد الماء والثرى إلى
يوم القيامة، فسألوه، فدعا لهم، فلم يؤمنوا، فأرسل الله عليهم
الدم، فجرت أنهارهم وقُلُبهم دماً، فلم يقدروا على الماء
العذب، وبنو إسرائيل في الماء العذب، فاذا دخل الرجل منهم
يستقي من أنهار بني اسرائيل صار ما دخل فيه دماً، والماء من
بين يديه ومن خلفه صافٍ عذبٌ لا يقدر عليه، فقال فرعون: أقسم
بالهي يا موسى لئن كشفتَ عنا الرّجز
__________
ضعيف جدا، أخرجه الطبري 15005، وابن مردويه كما في «تفسير ابن
كثير» . 2/ 303 من طريق يحيى بن يمان عن منهال بن خليفة عن
حجاج بن أرطأة عن الحكم بن ميناء عن عائشة مرفوعا به. وإسناده
ضعيف جدا، فهو مسلسل بالضعفاء، يحيى، ومنهال، وحجاج ثلاثتهم
ضعفاء. أخرجه الطبري 15009 من طريق ابن يمان عن المنهال عن
حجاج عن رجل عن عائشة وهو كسابقه بل فيه أيضا راو لم يسمّ.
والصحيح كونه من قول مجاهد، وكذا أخرجه الطبري عنه من طرق
15007 و 15008 واستغربه ابن كثير 2/ 303 وهو شبه موضوع.
(2/148)
وَلَمَّا وَقَعَ
عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قَالُوا يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ
بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ
لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ
(134) فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلَى أَجَلٍ
هُمْ بَالِغُوهُ إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ (135) فَانْتَقَمْنَا
مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ
كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ (136)
لنؤمننّ بك، ولنرسلن معك بني إسرائيل، فدعا
موسى، فذهب الدم وَعَذُبَ ماؤهم، فقالوا: والله لا نؤمن بك ولا
نرسل معك بني إسرائيل.
قوله تعالى: آياتٍ مُفَصَّلاتٍ قال ابن قتيبة: بين الآية
والآية فصل. قال المفسرون: كانت الآية تمكث من السبت إلى
السبت، ثم يبقون عقيب رفعها شهراً في عافية، ثم تأتي الآية
الأخرى. وقال وهب بن منبه: بين كل آيتين أربعون يوماً. وروى
عكرمة عن ابن عباس قال: مكث موسى في آل فرعون بعد ما غلب
السحرة عشرين سنة يريهم الآيات، الجراد والقمّل والضّفادع
والدّم.
وفي قوله تعالى: «فاستكبروا» قولان: أحدهما: عن الإيمان.
والثاني: عن الانزجار.
[سورة الأعراف (7) : الآيات 134 الى 136]
وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قالُوا يا مُوسَى ادْعُ
لَنا رَبَّكَ بِما عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا
الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي
إِسْرائِيلَ (134) فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلى
أَجَلٍ هُمْ بالِغُوهُ إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ (135)
فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْناهُمْ فِي الْيَمِّ
بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَكانُوا عَنْها غافِلِينَ
(136)
قوله تعالى: وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ أي: نزل بهم
العذاب. وفي هذا العذاب قولان «1» :
أحدهما: أنه طاعون أهلك منهم سبعين ألفاً، قاله ابن عباس،
وسعيد بن جبير.
والثاني: أنه العذاب الذي سلَّطه الله عليهم من الجراد
والقُمَّل وغير ذلك، قاله ابن زيد.
قال الزجاج: «الرجز» : العذاب، أو العمل الذي يؤدي إلى العذاب.
ومعنى الرجز في العذاب:
أنه المقلقل لشدته قلقلة شديدة متتابعة. وأصل الرجز في اللغة:
تتابع الحركات، فمن ذلك قولهم: ناقة رجزاء، إذا كانت ترتعد
قوائمها عند قيامها. ومنه رجز الشعر، لأنه أقصر أبيات الشعر،
والانتقالُ من بيت إلى بيت، سريعٌ، نحو قوله:
يَا لَيْتَنِي فِيْهَا جَذَعْ ... أَخُبُّ فيها وَأضَعْ
وزعم الخليل أن الرَّجَز ليس بشعر، وإنما هو أنصاف أبيات
وأثلاث.
قوله تعالى: بِما عَهِدَ عِنْدَكَ فيه أربعة أقوال: أحدها: أن
معناه: بما أوصاك أن تدعوه به.
والثاني: بما تقدم به إليك أن تدعوه فيجيبك. والثالث: بما عهد
عندك في كشف العذاب عمن آمن.
والرابع: أن ذلك منهم على معنى القسم، كأنهم أقسموا عليه بما
عهد عنده أن يدعو لهم.
قوله تعالى: إِلى أَجَلٍ هُمْ بالِغُوهُ أي: إلى وقت غرقهم.
إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ أي: ينقضون العهد. قوله تعالى:
فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ قال أبو سليمان الدمشقي: انتصرنا منهم
باحلال نقمتنا بهم، وتلك
__________
(1) قال الطبري في «تفسيره» 6/ 42: وأولى القولين بالصواب في
هذا الموضع أن يقال: إن الله تعالى ذكره أخبر عن فرعون وقومه
أنهم لما وقع عليهم الرجز، وهو العذاب والسخط من الله عليهم،
فزعوا إلى موسى بمسألته ربه كشف ذلك عنهم وجائز أن يكون ذلك
الرِّجْزُ كان الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم، لأن كل
ذلك كان عذابا عليهم وجائز أن يكون ذلك الرِّجْزُ كان طاعونا،
ولم يخبرنا الله أي ذلك كان، ولا صح عن رسول الله صلّى الله
عليه وسلم بأي ذلك كان خبر، فنسلم له. فالصواب أن نقول فيه كما
قال جل ثناؤه وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ، ولا
نتعداه إلا بالبيان الذي لا تمانع فيه بين أهل التأويل، وهو:
لما حل بهم عذاب الله وسخطه.
(2/149)
وَأَوْرَثْنَا
الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ
الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ
كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا
صَبَرُوا وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ
وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ (137) وَجَاوَزْنَا
بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ
يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ قَالُوا يَا مُوسَى
اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ
قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (138) إِنَّ هَؤُلَاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ
فِيهِ وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (139) قَالَ أَغَيْرَ
اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلَهًا وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى
الْعَالَمِينَ (140)
النقمة تغريقنا إياهم في اليم. قال ابن
قتيبة: اليم: البحر بالسريانية. قوله تعالى: وَكانُوا عَنْها
غافِلِينَ فيه قولان: أحدهما: عن الآيات، وغفلتهم: تركهم
الاعتبار بها. والثاني: عن النقمة.
[سورة الأعراف (7) : الآيات 137 الى 138]
وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ
مَشارِقَ الْأَرْضِ وَمَغارِبَهَا الَّتِي بارَكْنا فِيها
وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنى عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ
بِما صَبَرُوا وَدَمَّرْنا ما كانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ
وَقَوْمُهُ وَما كانُوا يَعْرِشُونَ (137) وَجاوَزْنا بِبَنِي
إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلى
أَصْنامٍ لَهُمْ قالُوا يا مُوسَى اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما
لَهُمْ آلِهَةٌ قالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (138)
قوله تعالى: وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ يعني بني إسرائيل.
الَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ أي: يُستَذلون بذبح الأبناء،
واستخدام النساء، وتسخير الرجال. مَشارِقَ الْأَرْضِ
وَمَغارِبَهَا فيه ثلاثة أقوال: أحدها:
مشارق الشام ومغاربها، قاله الحسن. والثاني: مشارق أرض الشام
ومصر. والثالث: أنه على إطلاق في شرق الأرض وغربها.
قوله تعالى: الَّتِي بارَكْنا فِيها قال ابن عباس: بالماء
والشجر.
قوله تعالى: وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنى وهي وعد
الله لبني إسرائيل باهلاك عدوهم واستخلافهم في الأرض، وذلك في
قوله: وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا
فِي الْأَرْضِ «1» ، وقد بَيَّنا علة تسمية ذلك كلِّه في (آل
عمران) . وقوله تعالى: بِما صَبَرُوا فيه قولان: أحدهما: على
طاعة الله تعالى. والثاني: على أذى فرعون.
قوله تعالى: وَدَمَّرْنا أي: أهلكنا ما كانَ يَصْنَعُ
فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ من العمارات والمزارع، والدمار: الهلاك.
وَما كانُوا يَعْرِشُونَ أي: يبنون. قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو
عمرو، وحمزة، والكسائي، وحفص عن عاصم: «يعرشون» بكسر الراء ها
هنا وفي (النحل) . وقرأ ابن عامر، وأبو بكر عن عاصم: بضم الراء
فيهما. وقرأ ابن أبي عبلة: «يُعرِّشون» بالتشديد، قال الزجاج:
يقال: عَرَشَ يَعْرِشُ ويَعْرُشُ: إذا بنى.
قوله تعالى: يَعْكُفُونَ قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو،
وعاصم، وابن عامر،: «يَعْكُفُون» بضم الكاف. وقرأ حمزة،
والكسائي، والمفضل: بكسر الكاف. وقرأ ابن أبي عبلة: بضم الياء
وتشديد الكاف. قال الزجاج: ومعنى يَعْكُفُونَ عَلى أَصْنامٍ
لَهُمْ: يواظبون عليها ويلازمونها، يقال لكل من لزم شيئاً
وواظب عليه: عَكَفَ يَعْكِفُ ويَعْكُفُ. قال قتادة: كان أولئك
القوم نزولاً بالرقة، وكانوا من لخم.
وقال غيره: كانت أصنامهم تماثيل البقر. وهذا إخبار عن عظيم
جهلهم حيث توهموا جواز عبادة غير الله بعد ما رأوا الآيات.
[سورة الأعراف (7) : الآيات 139 الى 140]
إِنَّ هؤُلاءِ مُتَبَّرٌ ما هُمْ فِيهِ وَباطِلٌ ما كانُوا
يَعْمَلُونَ (139) قالَ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلهاً
وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ (140)
قوله تعالى: إِنَّ هؤُلاءِ مُتَبَّرٌ ما هُمْ فِيهِ قال ابن
قتيبة: مُهلَك. والتبار: الهلاك.
__________
(1) سورة القصص: 5.
(2/150)
وَإِذْ
أَنْجَيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ
الْعَذَابِ يُقَتِّلُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ
نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ
(141) وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلَاثِينَ لَيْلَةً
وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ
أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَقَالَ مُوسَى لِأَخِيهِ هَارُونَ
اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ
الْمُفْسِدِينَ (142) وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا
وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ
قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ
اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى
رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا
فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا
أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ (143) قَالَ يَا مُوسَى إِنِّي
اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي
فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (144)
قوله تعالى: قالَ أَغَيْرَ اللَّهِ
أَبْغِيكُمْ إِلهاً أي: أطلب لكم، وهذا استفهام إنكار. قال
المفسّرون، منهم ابن عباس، ومجاهد: والعالمون ها هنا: عالمو
زمانهم.
[سورة الأعراف (7) : آية 141]
وَإِذْ أَنْجَيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ
سُوءَ الْعَذابِ يُقَتِّلُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ
نِساءَكُمْ وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (141)
قوله تعالى: وَإِذْ أَنْجَيْناكُمْ قرأ ابن عامر: «وإذ أنجاكم»
على لفظ الغائب المفرد.
[سورة الأعراف (7) : آية 142]
وَواعَدْنا مُوسى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْناها بِعَشْرٍ
فَتَمَّ مِيقاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَقالَ مُوسى
لِأَخِيهِ هارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلا
تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ (142)
قوله تعالى: وَواعَدْنا مُوسى ثَلاثِينَ لَيْلَةً المعنى:
وعدناه انقضاء ثلاثين ليلة. قال ابن عباس:
قال موسى لقومه: إن ربي وعدني ثلاثين ليلة، فلما فصل إلى ربه
زاده عشراً، فكانت فتنتهم في ذلك العشر. فان قيل: لم زيد هذا
العشر؟ فالجواب: أن ابن عباس قال: صام تلك الثلاثين ليلهن
ونهارهن، فلما انسلخ الشهر، كره أن يكلم ربه وريح فمه ريح فم
الصائم، فتناول شيئاً من نبات الأرض فمضغه، فأوحى الله تعالى
إليه: لا كلمتك حتى يعود فوك على ما كان عليه، أما علمت أن
رائحة فم الصائم أحب إليَّ من ريح المسك؟ وأمره بصيام عشرة
أيام. وقال أبو العالية: مكث موسى على الطور أربعين ليلة،
فبلغَنا أنه لم يُحدث حتى هبط منه.
فان قيل: ما معنى فَتَمَّ مِيقاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ
لَيْلَةً وقد عُلم ذلك عند انضمام العشر إلى الثلاثين. فالجواب
من وجوه: أحدها: أنه للتأكيد. والثاني: ليدل أن العشر، ليالٍ
لا ساعات.
والثالث: لينفي تمام الثلاثين بالعشر أن تكون من جملة
الثلاثين، لأنه يجوز أن يسبق إلى الوهم أنها كانت عشرين ليلة
فأُتمت بعشر. وقد بينا في سورة (البقرة) لماذا كان هذا الوعد.
قوله تعالى: وَأَصْلِحْ قال ابن عباس: مرهم بالإصلاح. وقال
مقاتل: ارفق.
[سورة الأعراف (7) : الآيات 143 الى 144]
وَلَمَّا جاءَ مُوسى لِمِيقاتِنا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قالَ
رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قالَ لَنْ تَرانِي وَلكِنِ
انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ فَسَوْفَ
تَرانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا
وَخَرَّ مُوسى صَعِقاً فَلَمَّا أَفاقَ قالَ سُبْحانَكَ تُبْتُ
إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ (143) قالَ يا مُوسى
إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسالاتِي وَبِكَلامِي
فَخُذْ ما آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (144)
قوله تعالى: وَلَمَّا جاءَ مُوسى لِمِيقاتِنا قال الزجاج، أي:
للوقت الذي وقَّتنا له. وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ أسمعه كلامه، ولم
يكن بينه وبين الله عزّ وجلّ فيما سمع أحد. قالَ رَبِّ أَرِنِي
أَنْظُرْ إِلَيْكَ أي: أرني نفسك. قوله تعالى: قالَ لَنْ
تَرانِي تعلق بهذا نُفاة الرؤية وقالوا: «لن» لنفي الأبد «1» ،
وذلك غلط،
__________
(1) قال الحافظ ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» 2/ 308: وقد
أشكل حرف «لن» هاهنا على كثير من العلماء لأنها موضوعة لنفي
التأبيد، فاستدل المعتزلة على نفي الرؤية في الدنيا والآخرة.
وهذا أضعف الأقوال، لأنه قد تواترت الأحاديث عن رسول الله صلّى
الله عليه وسلم بأن المؤمنين يرون الله في الدار الآخرة. اه.
(2/151)
لأنها قد وردت وليس المراد بها الأبد في
قوله: وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ
أَيْدِيهِمْ «1» ثم أخبر عنهم بتمنِّيه في النار بقوله تعالى:
يا مالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ «2» ، ولأن ابن عباس قال
في تفسيرها: لن تراني في الدنيا. وقال غيره: هذا جواب لقول
موسى: «أرني» ، ولم يُرد: أرني في الآخرة، وإنما أراد في
الدنيا، فأُجيب عما سأل. وقال بعضهم: لن تراني بسؤالك. وفي هذه
الآية دلالة على جواز الرؤية، لأن موسى مع علمه بالله تعالى،
سألها، ولو كانت مما يستحيل لما جاز لموسى أن يسألها، ولا يجوز
أن يجهل موسى مثل ذلك، لأنّ معرفة الأنبياء لله ليس فيها نقص،
ولأن الله تعالى لم ينكر عليه المسألة وإنما منعه من الرؤية،
ولو استحالت عليه لقال: «لا أُرى» ألا ترى أن نوحا لما قال:
إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي أنكر عليه بقوله: إِنَّهُ لَيْسَ
مِنْ أَهْلِكَ «3» ، ومما يدل على جواز الرؤية أنه علَّقها
باستقرار الجبل، وذلك جائز غير مستحيل، فدل على أنها جائزة،
ألا ترى أن دخول الكفار الجنة لما استحال علَّقه بمستحيل فقال:
حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِياطِ «4» .
قوله تعالى: فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ أي: ثبت ولم يتضعضع.
قوله تعالى: فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ قال الزجاج: ظهر، وبان.
جَعَلَهُ دَكًّا قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وابن عامر:
«دكّا» منوّنة مقصورة ها هنا وفي (الكهف) . وقرأ عاصم: «دكّاً»
ها هنا منوَّنة مقصورة، وفي (الكهف) : «دكاء» ممدودة غير
منونة. وقرأ حمزة والكسائي: «دكاء» ممدودة غير منونة في
الموضعين. قال أبو عبيدة: «جعله دكّا» أي: مندكّا والمندكّ:
المستوي والمعنى: مستوياً مع وجه الأرض، يقال: ناقة دكَّاء،
أي: ذاهبة السنام مستوٍ ظهرها. قال ابن قتيبة: كأن سنامها
دُكَّ، أي:
التصق، قال: ويقال: إن أصل دككتُ: دققت، فأبدلت القاف كافاً
لتقارب المخرجين. وقال أنس بن مالك في قوله: «جعله دكاً» : ساخ
الجبل. قال ابن عباس: واسم الجبل: زبير، وهو أعظم جبل بمدين،
وإن الجبال تطاولت ليتجلَّى لها، وتواضع زبير فتجلى له. قوله
تعالى: وَخَرَّ مُوسى صَعِقاً فيه قولان: أحدهما: مغشياً عليه،
قاله ابن عباس والحسن وابن زيد. والثاني: ميتاً، قاله قتادة
ومقاتل.
والأول أصح، لقوله تعالى: فَلَمَّا أَفاقَ وذلك لا يقال للميت.
وقيل: بقي في غشيته يوماً وليلة.
قوله تعالى: سُبْحانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ فيما تاب منه ثلاثة
أقوال: أحدها: سؤال الرّؤية، قاله ابن عباس، ومجاهد. والثاني:
الإقدام على المسألة قبل الإذن فيها. والثالث: اعتقاد جواز
رؤيته في الدنيا.
وفي قوله تعالى: وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ قولان «5» :
أحدهما: أنك لن تُرى في الدنيا، رواه أبو صالح عن ابن عباس.
والثاني: أول المؤمنين من بني إسرائيل، رواه عكرمة عن ابن
عباس.
__________
(1) سورة البقرة: 95.
(2) سورة الزخرف: 77.
(3) سورة هود: 45 و 46.
(4) سورة الأعراف: 40.
(5) قال ابن كثير في «تفسيره» 2/ 310: قال ابن عباس ومجاهد: من
بني إسرائيل، واختاره ابن جرير. وفي رواية أخرى عن ابن عباس
وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ أنه لا يراك أحد. وكذا قال أبو
العالية: قد كان قبله، ولكن يقول:
أنا أول من آمن بك أنه لا يراك أحد من خلقك إلى يوم القيامة
وهذا قول حسن له اتجاه.
(2/152)
وَكَتَبْنَا لَهُ فِي
الْأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا
لِكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ
يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ
(145)
قوله تعالى: إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ فتح ياء
«إني» ابن كثير، وأبو عمرو. وقرأ ابن كثير، ونافع «برسالتي»
قال الزجاج: المعنى: اتخذتك صفوة على الناس برسالاتي وبكلامي،
ولو كان إنما سمع كلام غير الله لما قال: «برسالاتي وبكلامي»
لأن الملائكة تنزل إلى الأنبياء بكلام الله.
[سورة الأعراف (7) : آية 145]
وَكَتَبْنا لَهُ فِي الْأَلْواحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً
وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْها بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ
قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِها سَأُرِيكُمْ دارَ
الْفاسِقِينَ (145)
قوله تعالى: وَكَتَبْنا لَهُ فِي الْأَلْواحِ مِنْ كُلِّ
شَيْءٍ في ماهية الألواح سبعة أقوال:
أحدها: أنها زبرجد، قاله ابن عباس. والثاني: ياقوت، قاله سعيد
بن جبير. والثالث: زمرُّد أخضر، قاله مجاهد. والرابع: بَرَد،
قاله أبو العالية. والخامس: خشب، قاله الحسن. والسادس:
صخر، قاله وهب بن منبه. والسابع: زمرد وياقوت، قاله مقاتل. وفي
عددها أربعة أقوال: أحدها:
سبعة، رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس. والثاني: لوحان، رواه
أبو صالح عن ابن عباس، واختاره الفراء. قال: وإنما سماها الله
تعالى ألواحاً، على مذهب العرب في إيقاع الجمع على التثنية،
كقوله تعالى: وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شاهِدِينَ «1» يريد
داود؟؟؟؟، وسليمان، وقوله تعالى: فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما
«2» .
والثالث: عشرة، قاله وهب. والرابع: تسعة، قاله مقاتل.
وفي قوله تعالى: مِنْ كُلِّ شَيْءٍ قولان: أحدهما: من كل شيء
يحتاج إليه في دينه من الحلال والحرام والواجب وغيره. والثاني:
من الحِكَم والعِبَر.
قوله تعالى: مَوْعِظَةً أي: نهياً عن الجهل. وَتَفْصِيلًا أي:
تبييناً لكل شيء من الأمر والنهي والحدود والأحكام. قوله
تعالى: فَخُذْها بِقُوَّةٍ فيه ثلاثة أقوال: أحدها: بجدٍّ
وحزم، قاله ابن عباس. والثاني: بطاعة، قاله أبو العالية.
والثالث: بشكر، قاله جويبر.
قوله تعالى: وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِها إن
قيل: كأن فيها ما ليس بحسن؟ فعنه جوابان:
أحدهما: أن المعنى: يأخذوا بحسنها، وكلها حَسَن، قاله قطرب،
وقال ابن الأنباري: ناب «أحسن» عن «حسن» كما قال الفرزدق:
إِنَّ الَّذِي سَمَكَ السَّمَاءَ بَنى لَنَا ... بَيْتاً
دَعَائِمُهُ أَعَزُّ وأَطْوَلُ «3»
أي: عزيزة طويلة. وقال غيره: «الأحسن» ها هنا صلة، والمعنى أن
يأخذوا بها.
والثاني: أن بعض ما فيها أحسن من بعض. ثم في ذلك خمسة أقوال:
أحدها: أنهم أُمروا فيها بالخير ونُهوا عن الشر، فَفِعْلُ
الخير هو الأحسن. والثاني: أنها اشتملت على أشياء حسنة بعضها
أحسن من بعض، كالقصاص والعفو والانتصار والصبر، فأُمِروا أن
يأخذوا بالأحسن، ذكر القولين الزجاج.
فعلى هذا القول، يكون المعنى: انهم يتبعون العزائم والفضائل،
وعلى الذي قبله، يكون المعنى: أنهم يتبعون الموصوف بالحسن وهو
الطاعة، ويجتنبون الموصوف بالقبح وهو المعصية. والثالث:
أحسنها:
__________
(1) سورة الأنبياء: 78.
(2) سورة التحريم: 4. [.....]
(3) البيت منسوب إلى الفرزدق، ديوانه 2/ 155.
(2/153)
سَأَصْرِفُ عَنْ
آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ
الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا
وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا
وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا ذَلِكَ
بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا
غَافِلِينَ (146) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَلِقَاءِ
الْآخِرَةِ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا
كَانُوا يَعْمَلُونَ (147)
الفرائض والنوافل، وأدونها في الحسن:
المباح. والرابع: أن يكون للكلمة معنيان أو ثلاثة، فتصرف إلى
الاشبه بالحق. والخامس: أن أحسنها: الجمع بين الفرائض
والنوافل.
قوله تعالى: سَأُرِيكُمْ دارَ الْفاسِقِينَ فيها أربعة أقوال
«1» : أحدها: أنها جهنم، قاله الحسن، ومجاهد. والثاني: انها
دار فرعون وقومه، وهي مصر، قاله عطية العوفي. والثالث: أنها
منازل من هلك من الجبابرة والعمالقة، يريهم إياها عند دخولهم
الشام، قاله قتادة. والرابع: أنها مصارع الفاسقين، قاله السدي.
ومعنى الكلام: سأُرِيكم عاقبة من خالف أمري، وهذا تهديد
للمخالف، وتحذير للموافق.
[سورة الأعراف (7) : الآيات 146 الى 147]
سَأَصْرِفُ عَنْ آياتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي
الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا
يُؤْمِنُوا بِها وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا
يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الغَيِّ
يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا
وَكانُوا عَنْها غافِلِينَ (146) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا
بِآياتِنا وَلِقاءِ الْآخِرَةِ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ هَلْ
يُجْزَوْنَ إِلاَّ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (147)
قوله تعالى: سَأَصْرِفُ عَنْ آياتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ
فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ في هذه الآية قولان:
أحدهما: أنها خاصة لأهل مصر فيما رأوا من الآيات. والثاني:
أنها عامة، وهو أصح. وفي الآيات قولان: أحدهما: أنها آيات
الكتاب المتلوَّة. ثم في معنى الكلام ثلاثة أقوال «2» : أحدها:
أمنعُهم فهمها.
والثاني: أمنعهم من الإيمان بها. والثالث: أصرفهم عن الاعتراض
عليها بالإبطال. والثاني: أنها آيات المخلوقات كالسماء والأرض
والشمس والقمر وغيرها، فيكون المعنى: أصرفهم عن التفكر
والاعتبار بما خلقتُ. وفي معنى يتكبَّرون قولان: أحدهما:
يتكبَّرون عن الإيمان واتباع الرسول. والثاني:
يحقِّرون الناس ويرون لهم الفضل عليهم.
قوله تعالى: وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ قرأ ابن كثير،
ونافع، وأبو عمرو، وابن عامر، وعاصم:
«سبيل الرشد» بضم الراء خفيفة. وقرأ حمزة، والكسائي: «سبيل
الرَّشد» بفتح الراء والشين مثقلة.
قوله تعالى: ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قال الزجاج: فعل الله بهم ذلك
بأنهم كَذَّبُوا بِآياتِنا وَكانُوا عَنْها غافِلِينَ،
__________
(1) قال الحافظ ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» 2/ 311: قوله
سَأُرِيكُمْ دارَ الْفاسِقِينَ أي سترون عاقبة من خالف أمري،
وخرج عن طاعتي، كيف يصير إلى الهلاك والدمار والشتات. قال ابن
جرير: وإنما قال سَأُرِيكُمْ دارَ الْفاسِقِينَ كما يقول
القائل لمن يخاطبه. سأريك غدا إلام، يصير إليه حال من خالف
أمري؟
على وجه التهديد والوعيد لمن عصاه وخالف أمره ثم نقل معنى ذلك
عن مجاهد، والحسن البصري. وقيل سَأُرِيكُمْ دارَ الْفاسِقِينَ
أي من أهل الشام وأعطيكم إياها، وقيل منازل قوم «فرعون» والأول
أولى، لأن هذا كان بعد انفصال موسى وقومه عن بلاد مصر. وهو
خطاب لبني إسرائيل قبل دخولهم التيه والله أعلم.
(2) قال الحافظ ابن كثير في «تفسيره» 2/ 312 قوله تعالى:
سَأَصْرِفُ عَنْ آياتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ وقال بعض
السلف: لا ينال العلم حيي ولا مستكبر، وقال آخر: من لم يصبر
على ذل التعلم ساعة بقي في ذل الجهل أبدا. وقال سفيان بن
عيينة: أنزع عنهم فهم القرآن وأصرفهم عن آياتي. قال ابن جرير
وهذا يدل على أن هذا خطاب لهذه الأمة. قلت: ليس هذا بلازم لأن
ابن عيينة إنما أراد أن هذا مطرد في حق كل أمة، ولا فرق بين
أحد وأحد في هذا والله أعلم. ا. هـ.
(2/154)
وَاتَّخَذَ قَوْمُ
مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ
خُوَارٌ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لَا يُكَلِّمُهُمْ وَلَا
يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا اتَّخَذُوهُ وَكَانُوا ظَالِمِينَ (148)
وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ
ضَلُّوا قَالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ
لَنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (149) وَلَمَّا رَجَعَ
مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ بِئْسَمَا
خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ
وَأَلْقَى الْأَلْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ
إِلَيْهِ قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي
وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلَا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْدَاءَ
وَلَا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (150) قَالَ
رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ
وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (151) إِنَّ الَّذِينَ
اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ
وَذِلَّةٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَكَذَلِكَ نَجْزِي
الْمُفْتَرِينَ (152)
أي: كانوا في تركهم الإيمان بها والتدبر
لها بمنزلة الغافلين. ويجوز أن يكون المعنى: وكانوا عن جزائها
غافلين.
[سورة الأعراف (7) : آية 148]
وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ
عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوارٌ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لا
يُكَلِّمُهُمْ وَلا يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً اتَّخَذُوهُ وَكانُوا
ظالِمِينَ (148)
قوله تعالى: وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسى مِنْ بَعْدِهِ أي: من بعد
انطلاقه إلى الجبل للميقات. مِنْ حُلِيِّهِمْ قرأ ابن كثير،
ونافع، وأبو عمرو، وعاصم، وابن عامر: «من حُليّهم» بضم الحاء.
وقرأ حمزة، والكسائي: «حِليّهم» بكسر الحاء. وقرأ يعقوب:
بفتحها وسكون اللام وتخفيف الياء. والحُليّ: جمع حَلْيٍ، مثل
ثَدْي وثُدِيٍّ، وهو اسم لما يُتحسَّن به من الذهب والفضة. قال
الزجاج: ومن كسر الحاء من «حليهم» أتبع الحاء كسر اللام.
والجسد: هو الذي لا يعقل ولا يميز، إنما هو بمعنى الجثة فقط.
قال ابن الانباري: ذِكر الجسد دلالة على عدم الروح منه، وأن
شخصه شخص مثال وصورة، غير منضم إليهما روح ولا نفس. فأما
الخُوار، فهو صوت البقرة، يقال: خَارَتْ البقرة تَخُورُ،
وَجَأرَتَ تَجْأَرُ وقد نُقِلَ عن العرب انهم يقولون في مثل
صوت الإنسان من البهائم: رَغَا البعير، وجَرْجَرَ وهَدَرَ
وقَبْقَبَ، وصَهَل الفرس وحَمْحَمَ، وشَهَقَ الحمار ونَهَقَ،
وشَحَجَ البغل، وثَغَتْ الشاة ويَعَرَتْ، وثَأجَتَ النّعجة،
وبغم الظّبي ونزب، وزأر الأسد ونَأَتَ، ووَعْوَعَ الذئب،
ونَهَم الفِيْلُ، وزَقَحَ القِرْدُ، وَضَبَحَ الثَّعْلَبُ،
وعَوَى الكَلْبُ وَنَبَحَ، ومَاءتِ السِّنّور، وَصَأت الفأرة،
ونَغَقَ الغُرَابُ معجمةَ الغين، وزقأ الدِّيك وسَقَعَ،
وصَفَرَ النسْرُ، وَهَدَرَ الحمام وَهَدَلَ، ونَقَضَتِ
الضَّفَادِع ونقَّت، وعَزَفَتِ الجِنَّ. قال ابن عباس كان
العجل إذا خار سجدوا وإذا سكت رفعوا رؤوسهم. وفي رواية أبي
صالح عنه: أنه خار خورة واحدة ولم يُتبعها مثلها، وبهذا قال
وهب، ومقاتل. وكان مجاهد يقول: خواره حفيف الريح فيه وهذا يدل
على أنه لم يكن فيه روح. وقرأ أبو رزين العقيلي، وابو مجلز:
«له جُوار» بجيم مرفوعة.
قوله تعالى: أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ أي: لا
يستطيع كلامهم. وَلا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا أي: لا يبيِّن لهم
طريقاً إلى حجة. اتَّخَذُوهُ يعني اتخذوه إلهاً. وَكانُوا
ظالِمِينَ قال ابن عباس:
مشركين.
[سورة الأعراف (7) : الآيات 149 الى 152]
وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ
ضَلُّوا قالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنا رَبُّنا وَيَغْفِرْ
لَنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ (149) وَلَمَّا رَجَعَ
مُوسى إِلى قَوْمِهِ غَضْبانَ أَسِفاً قالَ بِئْسَما
خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ
وَأَلْقَى الْأَلْواحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ
إِلَيْهِ قالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي
وَكادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْداءَ وَلا
تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (150) قالَ رَبِّ
اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي وَأَدْخِلْنا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ
أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (151) إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا
الْعِجْلَ سَيَنالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي
الْحَياةِ الدُّنْيا وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ (152)
قوله تعالى: وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ أي: ندموا. قال
الزجاج: يقال للرجل النادم على ما فعل، المتحسر على ما فرّط:
قد سُقط في يده وأُسقط في يده. وقرأ ابن السميفع، وأبو عمران
الجوني:
(2/155)
«سَقَطَ» بفتح السين. قال الزجاج: والمعنى:
ولما سقط النّدم في أيديهم، يشبّه ما في القلب وفي النفس بما
يُرى بالعين. قال المفسرون: هذا الندم منهم إنما كان بعد رجوع
موسى.
قوله تعالى: لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنا رَبُّنا قرأ ابن كثير،
ونافع، وأبو عمرو، وابن عامر، وعاصم:
«يرحْمنا ربُّنا» «ويغفرْ لنا» بالياء والرفع. وقرأ حمزة،
والكسائي: «ترحمنا» «وتغفر لنا» بالتاء، «ربنا» بالنصب.
قوله تعالى: غَضْبانَ أَسِفاً في الأسِفِ ثلاثة أقوال: أحدها:
أنه الحزين، قاله ابن عباس، والحسن، والسدي. والثاني: الجزِع،
قاله مجاهد. والثالث: أنه الشديد الغضب، قاله ابن قتيبة،
والزجاج. وقال أبو الدرداء: الأسف: منزلة وراء الغضب أشدّ منه.
قوله تعالى: قالَ أي: لقومه بِئْسَما خَلَفْتُمُونِي مِنْ
بَعْدِي فتح ياء «بعديَ» أهل الحجاز، وأبو عمرو والمعنى: بئس
ما عملتم بعد فراقي من عبادة العجل. أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ
رَبِّكُمْ قال الفراء: يقال:
عَجِلْتُ الأمر والشيء: سبقتُه، ومنه هذه الآية. وأعجلته:
استحثثته. قال ابن عباس: أعجلتم ميعاد ربكم فلم تصبروا له؟!
قال الحسن: يعنيَ وَعْدَ الأربعين ليلة.
قوله تعالى: وَأَلْقَى الْأَلْواحَ التي فيها التوراة. وفي سبب
إلقائه إياها قولان:
أحدهما: أنه الغضب حين رآهم قد عبدوا العجل، قاله ابن عباس.
(589) والثاني: أنه لما رأى فضائل غير أمّته من أمّة محمّد
صلّى الله عليه وسلم اشتد عليه، فألقاها، قاله قتادة «1» ،
وفيه بُعد.
قال ابن عباس: لما رمى بالألواح فتحطمت، رُفع منها ستة أسباع،
وبقي سُبع.
قوله تعالى: وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ في ما أخذ به من رأسه
ثلاثة أقوال: أحدها: لحيته وذؤابته.
والثاني: شعر رأسه. والثالث: أُذنه. وقيل: إنما فعل به ذلك،
لأنه توهم أنه عصى الله بمُقامه بينهم وتركِ اللحوق به،
وتعريفِه ما أحدثوا بعده ليرجع إليهم فيتلافاهم ويردّهم إلى
الحقّ، وذلك قوله تعالى:
ما مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا (92) أَلَّا
تَتَّبِعَنِ «2» .
قوله تعالى: ابْنَ أُمَّ قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وحفص
عن عاصم: «قال ابن أُمَّ» نصباً. وقرأ أبن عامر، وحمزة،
والكسائي، وأبو بكر عن عاصم: بكسر الميم، وكذلك في (طه) «3»
قال
__________
باطل لا أصل له. أخرجه الطبري 15142 و 15143 عن قتادة قوله:
وهذا رأي لقتادة. وهو ليس بشيء، بل هو من بدع التأويل، ورده
ابن كثير وغيره كما في الهامش.
__________
(1) وقال الحافظ ابن كثير في «التفسير» 2/ 313 الآية وَأَلْقَى
الْأَلْواحَ: ظاهر السياق أنه إنما ألقى الألواح غضبا على قومه
وهذا قول جمهور العلماء سلفا وخلفا وروى ابن جرير عن قتادة في
هذا قولا غريبا لا يصح إسناده إلى حكاية قتادة، وقد رده ابن
عطية وغير واحد من العلماء، وهو جدير بالرد، وكأنه تلقاه عن
بعض أهل الكتاب وفيهم كذابون ووضاعون وأفاكون وزنادقة ا. هـ.
(2) سورة طه: 92- 93.
(3) سورة طه: 94.
(2/156)
وَالَّذِينَ عَمِلُوا
السَّيِّئَاتِ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِهَا وَآمَنُوا إِنَّ
رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (153)
الزجاج: من فتح الميم فلكثرة استعمال هذا
الاسم، ومن كسر أضافه إلى نفسه بعد أن جعله اسماً واحداً، ومن
العرب من يقول: «يا ابن أمي» باثبات الياء. قال الشاعر:
يَا ابْنَ أُمِّي ويَا شُقَيِّقَ نَفْسِي ... أنتَ
خَلَّفْتَنِي لدهرٍ شديدِ «1»
وقال أبو علي: يحتمل أن يريد من فتح: «يا ابن أم» أُمَّا،
ويحذف الألف، ومن كسر: «ابن أمي» فيحذف الياء. فان قيل: لم
قال: «يا ابن أمَّ» ولم يقل: «يا ابن أب» ؟ فالجواب أن ابن
عباس قال: كان أخاه لأبيه وأُمه، وإنما قال له ذلك ليرقّقه
عليه. قال أبو سليمان الدمشقي: والإِنسان عند ذكر الوالدة
أرقُّ منه عند ذكر الوالد. وقيل: كان لأمه دون أبيه، حكاه
الثعلبي.
قوله تعالى: إِنَّ الْقَوْمَ يعني عبدة العجل. اسْتَضْعَفُونِي
أي: استذلُّوني فَلا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْداءَ قرأ ابن عباس،
وابن محيصن وحميد: «فلا تَشْمَت» بتاء مفتوحة مع فتح الميم،
«الاعداءُ» بالرفع، وقرأ مجاهد، وأبو العالية، والضحاك، وأبو
رجاء: «فلا تَشْمِتْ» بفتح التاء وكسر الميم، «الأعداءَ»
بالنصب. وقرأ أبو الجوزاء، وابن أبي عبلة مثل ذلك، إلا أنهما
رفعا «الأعداء» . ويعني بالأعداء: عبدة العجل. وَلا
تَجْعَلْنِي في موجدتك وعقوبتك لي مَعَ الْقَوْمِ
الظَّالِمِينَ وهم عبدة العجل.
فلما تبين له عُذْرُ أخيه قالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي.
قوله تعالى: وَذِلَّةٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا فيها قولان:
أحدهما: أنها الجزية، قاله ابن عباس. والثاني:
ما أمروا به من قتل أنفسهم، قاله الزجاج. فعلى الأول يكون ما
أُضيف إليهم من الجزية في حق أولادهم، لأن أولئك قُتلوا ولم
يؤدّوا جزية. قال عطية: وهذه الآية فيما أصاب بني قريظة
والنضير من القتل والجلاء لتولِّيهم متخذي العجل ورضاهم به.
قوله تعالى: وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ قال ابن عباس:
كذلك أُعاقب من اتخذ إلهاً دوني، وقال مالك بن انس: ما من
مبتدع الا وهو يجد فوق رأسه ذلَّة، وقرأ هذه الاية. وقال سفيان
بن عيينة: ليس في الأرض صاحب بدعة إلا وهو يجد ذلَّة تغشاه،
قال: وهي في كتاب الله تعالى: قالوا: وأين هي؟
قال: أو ما سمعتم قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا
الْعِجْلَ سَيَنالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي
الْحَياةِ الدُّنْيا قالوا: يا أبا محمد، هذه لأصحاب العجل
خاصة، قال: كلا، أتلو ما بعدها. وَكَذلِكَ نَجْزِي
الْمُفْتَرِينَ فهي لكل مفتر ومبتدع إلى يوم القيامة.
[سورة الأعراف (7) : آية 153]
وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ ثُمَّ تابُوا مِنْ بَعْدِها
وَآمَنُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ
(153)
قوله تعالى: وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ فيها قولان:
أحدهما: أنها الشرك. والثاني: الشرك وغيره من الذنوب. ثُمَّ
تابُوا مِنْ بَعْدِها يعني السيئات. وفي قوله تعالى: وَآمَنُوا
قولان: أحدهما: آمنوا بالله وهو يُخرَّج على قول من قال: هي
الشرك. والثاني: آمنوا بأن الله تعالى يقبل التوبة. إِنَّ
رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها يعني السّيئات.
__________
(1) البيت منسوب إلى أبي زبيد حرملة بن المنذر الطائي «اللسان»
شقق.
(2/157)
وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ
مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الْأَلْوَاحَ وَفِي نُسْخَتِهَا هُدًى
وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ (154)
وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا لِمِيقَاتِنَا
فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ
أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا
فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ
تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ أَنْتَ
وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ
الْغَافِرِينَ (155)
[سورة الأعراف (7) : آية 154]
وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الْأَلْواحَ
وَفِي نُسْخَتِها هُدىً وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ
لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ (154)
قوله تعالى: وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ وقرأ ابن
عباس، وأبو عمران «سَكّت» بفتح السين وتشديد الكاف وبتاء
بعدها، «الغضبَ» بالنصب. وقرأ سعيد بن جبير، وابن يعمر،
والجحدري «سُكِّت» بضم السين وتشديد الكاف مع كسرها. وقرأ ابن
مسعود، وعكرمة، وطلحة «سَكَنَ» بنون. قال الزجاج «سكت» بمعنى
سكن، يقال: سكت يسكت سَكْتاً: إذا سكن، وسكت يسكت سكْتاً
وسكوتاً:
إذا قطع الكلام. قال: وقال بعضهم: المعنى: ولما سكت موسى عن
الغضب، على القلب، كما قالوا: أدخلت القلنسوة في رأسي.
والمعنى: أدخلت رأسي في القلنسوة، والأول هو قول أهل العربية.
قوله تعالى: أَخَذَ الْأَلْواحَ يعني التي كان ألقاها. وفي
قوله تعالى: وَفِي نُسْخَتِها قولان:
أحدهما: وفيما بقي منها قاله ابن عباس. والثاني: وفيما نُسخ
فيها قاله ابن قتيبة.
قوله تعالى: لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ فيهم
قولان: أحدهما: أنه عام في الذين يخافون الله، وهو معنى قول
قتادة. والثاني: أنّهم أمّة محمّد صلّى الله عليه وسلم خاصّة،
وهو معنى قول قتادة.
[سورة الأعراف (7) : آية 155]
وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِمِيقاتِنا
فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ
أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنا بِما
فَعَلَ السُّفَهاءُ مِنَّا إِنْ هِيَ إِلاَّ فِتْنَتُكَ
تُضِلُّ بِها مَنْ تَشاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشاءُ أَنْتَ
وَلِيُّنا فَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا وَأَنْتَ خَيْرُ
الْغافِرِينَ (155)
قوله تعالى: وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ المعنى: اختار من قومه،
فحُذف «من» ، تقول العرب: اخترتك القوم، أي: اخترتك من القوم،
وأنشدوا:
مِنَّا الذي اخِتيرَ الرِّجَالَ سََمَاحةً ... وجُوداً إذا
هبَّ الرِّياح الزَّعازعُ «1»
هذا قول ابن قتيبة، والفراء، والزجاج.
وفي هذا الميقات أربعة أقوال: أحدها: أنه الميقات الذي
وَقَّتَهُ الله لموسى ليأخذ التوراة، أُمر أن يأتيَ معه
بسبعين، رواه أبو صالح عن ابن عباس، وبه قال نوف البِكَاليُّ.
والثاني: أنه ميقات وَقَّتَهُ الله تعالى لموسى، وأمره أن
يختار من قومه سبعين رجلا ليدعوا ربّهم، فدعوا فقالوا: اللهمّ
أعطنا ما لم تعط أحداً قبلنا، ولا تعطيه أحداً بعدنا، فكره
الله ذلك، وأخذتهم الرجفة، رواه علي بن أبي طلحة عن ابن عباس.
والثالث: أنه ميقات وَقَّتَهُ الله لموسى، لأن بني إسرائيل
قالوا له: إن طائفة تزعم أن الله لا يكلمك، فخذ معك طائفة منا
ليسمعوا كلامه فيؤمنوا فتذهب التهمة، فأوحى الله اليه ان أختر
من خيارهم سبعين، ثم ارتقِ بهم على الجبل انت وهارون، واستخلف
يوشع بن نون، ففعل ذلك قاله وهب بن منبه. والرابع: أنه ميقات
وَقَّتَهُ الله لموسى ليلقاه في ناس من بني إسرائيل، فيعتذر
إليه من فِعْل عبدة العجل، قاله السدي. وقال ابن السائب: كان
موسى لا يأتي ربّه إلا بإذن منه.
فأما الرجفة فهي الحركة الشديدة. وفي سبب أخذها إياهم أربعة
أقوال: أحدها: أنه ادعاؤهم على موسى قتل هارون، قاله علي بن
أبي طالب. والثاني: اعتداؤهم في الدعاء، وقد ذكرناه في رواية
ابن
__________
(1) البيت منسوب إلى الفرزدق: ديوانه: 516 «اللسان» خير.
(2/158)
وَاكْتُبْ لَنَا فِي
هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ إِنَّا هُدْنَا
إِلَيْكَ قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ
وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ
يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ
بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ (156) الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ
الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ
مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ
يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ
وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ
الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ
الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ
وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي
أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (157) قُلْ يَا
أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا
الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ
إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ
وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ
بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ
تَهْتَدُونَ (158)
أبي طلحة عن ابن عباس. والثالث: أنهم لم
ينهَوْا عبدة العجل ولم يرضَوْا نُقل عن ابن عباس أيضا، وقال
قتادة، وابن جريج: لم يأمروهم بالمعروف، ولم ينهَوْهم عن
المنكر، ولم يزايلوهم. والرابع:
أنّهم طلبوا سماع الكلام من الله تعالى، فلما سمعوه قالوا:
لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً «1» قاله
السدي وابن إسحاق.
قوله تعالى: قالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ
قَبْلُ وَإِيَّايَ قال السدي: قام موسى يبكي ويقول: رب ماذا
أقول لبني إسرائيل إذا أتيتُهم وقد أهلكتَ خيارهم لَوْ شِئْتَ
أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ. وقال الزجاج: لو شئت
أمتَّهم قبل أن تبتليهم بما أوجب عليهم الرجفة. وقيل: لو شئت
أهلكتهم من قبل خروجنا وإياي، فكان بنو إسرائيل يعاينون ذلك
ولا يتهمونني.
قوله تعالى: أَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ السُّفَهاءُ مِنَّا قال
المبرِّد: هذا استفهام استعطاف، أي: لا تُهلكْنا.
وقال ابن الانباري: هذا استفهام على تأويل الجحد، إذ أراد لست
تفعل ذلك. و «السّفهاء» ها هنا:
عبدة العجل. وقال الفراء: ظن موسى أنهم أُهلكوا باتخاذ أصحابهم
العجل. وإنما أُهلكوا بقولهم:
أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً.
قوله تعالى: إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ فيها قولان: أحدهما:
أنها الابتلاء، رواه أبو صالح عن ابن عباس، وبه قال سعيد بن
جبير، وأبو العالية. والثاني: العذاب، رواه ابن أبي طلحة عن
ابن عباس، وبه قال قتادة. قوله تعالى: أَنْتَ وَلِيُّنا أي:
ناصرنا وحافظنا.
[سورة الأعراف (7) : الآيات 156 الى 158]
وَاكْتُبْ لَنا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ
إِنَّا هُدْنا إِلَيْكَ قالَ عَذابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشاءُ
وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ
يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِنا
يُؤْمِنُونَ (156) الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ
النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً
عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ
بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ
لَهُمُ الطَّيِّباتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ
وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ
عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ
وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولئِكَ هُمُ
الْمُفْلِحُونَ (157) قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي
رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً الَّذِي لَهُ مُلْكُ
السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ يُحيِي
وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ
الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِماتِهِ
وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (158)
قوله تعالى: وَاكْتُبْ لَنا أي: حقق لنا وأوجب فِي هذِهِ
الدُّنْيا حَسَنَةً وهي الأعمال الصالحة وَفِي الْآخِرَةِ
المغفرة والجنة إِنَّا هُدْنا إِلَيْكَ أي: تبنا، قاله ابن
عباس، وسعيد بن جبير، ومجاهد، وأبو العالية، وقتادة، والضحاك،
والسدي. وقال ابن قتيبة: ومنه الَّذِينَ هادُوا «2» كأنهم
رجعوا من شيء إلى شيء. وقرأ أبو وجزة السعدي: «إنا هِدنا» بكسر
الهاء. قال ابن الأنباري: المعنى: لا نتغيَّر يقال: هاد يهود
ويهيد.
__________
(1) سورة البقرة: 55.
(2) سورة البقرة: 62.
(2/159)
قوله تعالى: قالَ عَذابِي أُصِيبُ بِهِ
مَنْ أَشاءُ. وقرأ الحسن البصري، والأعمش، وأبو العالية:
«من أساء» بسين غير معجمة مع النصب.
قوله تعالى: وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ في هذا الكلام
أربعة اقوال: أحدها: أن مخرجه عام ومعناه خاص، وتأويله: ورحمتي
وسعت المؤمنين من أمّة محمّد صلّى الله عليه وسلم، لقوله
تعالى: فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ، قاله ابن عباس.
والثاني: أن هذه الرحمة على العموم في الدنيا، والخصوص في
الآخرة وتأويلها: ورحمتي وسعت كل شيء في الدنيا، البرَّ
والفاجر، وفي الآخرة هي للمتقين خاصة، قاله الحسن، وقتادة.
فعلى هذا، معنى الرحمة في الدنيا للكافر أنه يُرزق ويُدفع عنه،
كقوله في حقّ قارون:
وَأَحْسِنْ كَما أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ «1» . والثالث: أن
الرحمة: التوبة، فهي على العموم، قاله ابن زيد.
والرابع: أن الرحمة تَسَع كل الخلق إلا أن أهل الكفر خارجون
منها، فلو قدِّر دخولهم فيها لوسعتهم، قاله ابن الانباري. قال
الزجاج: وسعت كل شيء في الدنيا. فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ
يَتَّقُونَ في الآخرة. قال المفسرون: معنى «فسأكتبها» :
فسأوجبها. وفي الذين يتقون قولان: أحدهما: أنهم المتقون للشرك،
قاله ابن عباس. والثاني: للمعاصي، قاله قتادة. وفي قوله تعالى.
وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ قولان:
أحدهما: أنها زكاة الأموال، قاله الجمهور. والثاني: أن المراد
بها طاعة الله ورسوله، قاله ابن عباس والحسن، ذهبا إلى أنها
العمل بما يزكِّي النفس ويطهِّرها.
وقال ابن عباس، وقتادة: لما نزلت وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ
شَيْءٍ قال إبليس: أنا من ذلك الشيء، فنزعها الله من إبليس،
فقال: فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ
الزَّكاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِنا يُؤْمِنُونَ، فقالت
اليهود والنّصارى: نحن نتَّقي، ونؤتي الزكاة، ونؤمن بآيات
ربنا، فنزعها الله منهم، وجعلها لهذه الأمة، فقال: الَّذِينَ
يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ. وقال نَوفٌ:
قال الله تعالى لموسى:
أجعل لكم الأرض طهوراً ومسجداً، وأجعل السكينة معكم في بيوتكم،
وأجعلكم تقرؤون التوراة عن ظهور قلوبكم، يقرؤها الرجل منكم
والمرأة والحر والعبد والصغير والكبير. فأخبر موسى قومه بذلك،
فقالوا: لا نريد أن نصلّي إلّا في الكنائس ولا أن تكون السكينة
إلا في التابوت، ولا أن نقرأ التوراة إلا نظراً، فقال الله
تعالى: فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ إلى قوله:
الْمُفْلِحُونَ. وفي هؤلاء المذكورين في قوله: لِلَّذِينَ
يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ إلى قوله: الْمُفْلِحُونَ
قولان: أحدهما: أنهم كلّ من آمن بمحمّد صلّى الله عليه وسلم،
وتبعه، قاله ابن عباس. والثاني: أنه محمد صلّى الله عليه وسلم،
قاله السدي، وقتادة. وفي تسميته بالأمي قولان: أحدهما: لأنه لا
يكتب. والثاني: لأنه من أُمَّ القرى.
قوله تعالى: الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ أي:
يجدون نعته ونبوَّته.
قوله تعالى: يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ قال الزجاج: يجوز أن
يكون مستأنَفاً، ويجوز أن يكون «يجدونه مكتوباً عندهم» أنه
يأمرهم بالمعروف. قال ابن عباس: المعروف: مكارم الأخلاق، وصلة
الارحام. والمنكر: عبادة الأوثان، وقطع الأرحام. وقال مقاتل:
المعروف: الإيمان، والمنكر:
الشّرك. وقال غيره: المعروف: الحق، لأن العقول تعرف صحته،
والمنكر: الباطل، لأن العقول تنكر صحته. وفي الطيبات أربعة
أقوال: أحدها: أنها الحلال، والمعنى: يُحل لهم الحلال.
والثاني: أنها ما
__________
(1) سورة القصص: 77.
(2/160)
وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى
أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ (159)
كانت العرب تستطيبه. والثالث: أنها الشحوم
المحرَّمة على بني إسرائيل. والرابع: ما كانت العرب تحرِّمه من
البحيرة، والسائبة، والوصيلة، والحام. وفي الخبائث ثلاثة
أقوال: أحدها: أنها الحرام، فالمعنى: ويحرِّم عليهم الحرام.
والثاني: أنها ما كانت العرب تستخبثه ولا تأكله، كالحيات،
والحشرات. والثالث: ما كانوا يستحلُّونه من الميتة، والدم،
ولحم الخنزير.
قوله تعالى: وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ قرأ ابن كثير ونافع،
وأبو عمرو، وعاصم، وحمزة، والكسائي «إِصرهم» . وقرأ ابن عامر
«آصارهم» ممدودة الألف على الجمع. وفي هذا الإِصر قولان «1» :
أحدهما: أنه العهد الذي أخذ الله على بني إسرائيل أن يعملوا
بما في التوراة، قاله ابن عباس. والثاني:
التشديد الذي كان عليهم من تحريم السّبت، والشّحوم والعروق،
وغير ذلك من الأمور الشاقة، قاله قتادة. وقال مسروق: لقد كان
الرجل من بني إسرائيل يذنب الذنب، فيصبح وقد كُتب على باب
بيته:
إن كفارته أن تنْزِع عينيك، فيْنزِعهُما.
قوله تعالى: وَالْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ قال
الزجاج: ذِكر الأغلال تمثيل، ألا ترى أنك تقول:
جعلت هذا طوقاً في عنقك، وليس هناك طوق، إنما جعلت لزومه
كالطوق. والأغلال: أنه كان عليهم أن لا يُقبَل منهم في القتل
دية، وأن لا يعملوا في السبت، وأن يَقْرِضُوا ما أصاب جلودهم
من البول.
قوله تعالى: فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ يعني بمحمّد صلّى الله
عليه وسلم وَعَزَّرُوهُ وروى أبان «وعَزَروه» بتخفيف الزاي.
وفي المعنى قولان: أحدهما: نصروه وأعانوه، قاله مقاتل.
والثاني: عظَّموه، قاله ابن قتيبة.
والنور الذي أنزل معه: القرآن، سماه نورا، لأن بيانه في القلوب
كبيان النور في العيون. وفي قوله «معه» قولان: أحدهما: أنها
بمعنى «عليه» . والثاني: بمعنى أُنزل في زمانه. قال قتادة: أما
نصره، فقد سُبقتم إليه، ولكن خيركم من آمن به واتبع النور الذي
أُنزل معه.
قوله تعالى: الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِماتِهِ في
الكلمات قولان «2» :
أحدهما: أنها القرآن، قاله ابن عباس. وقال قتادة: كلماته:
آياته.
والثاني: أنها عيسى ابن مريم، قاله مجاهد، والسّدّيّ.
[سورة الأعراف (7) : آية 159]
وَمِنْ قَوْمِ مُوسى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ
يَعْدِلُونَ (159)
قوله تعالى: وَمِنْ قَوْمِ مُوسى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ
فيه قولان: أحدهما: يدعون إلى الحق.
والثاني: يعملون به.
__________
(1) قال الطبري في «تفسيره» 6/ 86: وأولى الأقوال في ذلك
بالصواب أن يقال: إن «الإصر» هو العهد- وقد بينا ذلك بشواهده
في موضع غير هذا بما فيه الكفاية- وأن معنى الكلام: ويضع النبي
الأمي العهد الذي كان الله أخذ على بني إسرائيل، من إقامة
التوراة والعمل بما فيها من الأعمال الشديدة، كقطع الجلد من
البول، وتحريم الغنائم. ونحو ذلك من الأعمال التي كانت عليهم
مفروضة فنسخها حكم القرآن. اه.
(2) وقال الطبري في تفسيره 6/ 88: والصواب من القول في ذلك
عندنا أن الله تعالى ذكره أمر عباده أن يصدقوا بنبوة النبي
الأمي الذي يؤمن بالله وكلماته ولم يخصص الخبر جل ثناؤه عن
إيمانه من «كلمات الله» ببعض، بل أخبرهم عن جميع الكلمات فالحق
في ذلك أن يعم القول فإن رسول الله صلّى الله عليه وسلم كان
يؤمن بكلمات الله كلها. على ما جاء به ظاهر كتاب الله اه.
(2/161)
وَقَطَّعْنَاهُمُ
اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطًا أُمَمًا وَأَوْحَيْنَا إِلَى
مُوسَى إِذِ اسْتَسْقَاهُ قَوْمُهُ أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ
الْحَجَرَ فَانْبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا
قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ وَظَلَّلْنَا
عَلَيْهِمُ الْغَمَامَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْهِمُ الْمَنَّ
وَالسَّلْوَى كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا
ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (160)
وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ وَكُلُوا
مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ وَقُولُوا حِطَّةٌ وَادْخُلُوا
الْبَابَ سُجَّدًا نَغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئَاتِكُمْ سَنَزِيدُ
الْمُحْسِنِينَ (161) فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ
قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ
رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَظْلِمُونَ (162)
وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ
الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ
حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لَا
يَسْبِتُونَ لَا تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا
كَانُوا يَفْسُقُونَ (163)
قوله تعالى: وَبِهِ يَعْدِلُونَ قال
الزجاج: وبالحق يحكمون. وفي المشار إليهم بهذا ثلاثة أقوال:
أحدها: أنهم قوم وراء الصين لم تبلغهم دعوة الإِسلام، قاله ابن
عباس، والسُّدي. والثاني: أنهم من آمن بالنبيّ صلّى الله عليه
وسلم مثل ابن سلام وأصحابه، قاله ابن السائب. والثالث: أنهم
الذين تمسكوا بالحق في زمن أنبيائهم، ذكره الماوردي.
[سورة الأعراف (7) : الآيات 160 الى 162]
وَقَطَّعْناهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْباطاً أُمَماً
وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى إِذِ اسْتَسْقاهُ قَوْمُهُ أَنِ
اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ فَانْبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتا
عَشْرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ مَشْرَبَهُمْ
وَظَلَّلْنا عَلَيْهِمُ الْغَمامَ وَأَنْزَلْنا عَلَيْهِمُ
الْمَنَّ وَالسَّلْوى كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ
وَما ظَلَمُونا وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (160)
وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ وَكُلُوا
مِنْها حَيْثُ شِئْتُمْ وَقُولُوا حِطَّةٌ وَادْخُلُوا الْبابَ
سُجَّداً نَغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئاتِكُمْ سَنَزِيدُ
الْمُحْسِنِينَ (161) فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ
قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ
رِجْزاً مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَظْلِمُونَ (162)
قوله تعالى: وَقَطَّعْناهُمُ يعني قوم موسى، يقول: فرَّقناهم
اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْباطاً يعني أولاد يعقوب، وكانوا اثنى
عشر ولداً، فولد كل واحد منهم سبطاً. قال الفراء: وإنما قال
«اثنتي عشرة» والسبط ذكَر، لأن بعده «أُمما» فذهب بالتأنيث إلى
الأمم، ولو كان «اثني عشر» لتذكير السبط، كان جائزاً. وقال
الزجاج: المعنى: وقطَّعناهم اثنتي عشرة فرقة، «أسباطاً» نعت
«فرقة» كأنه يقول: جعلناهم أسباطاً، وفرَّقناهم أسباطاً، فيكون
«أسباطاً» بدلاً من «اثنتي عشرة» و «أُمماً» من نعت أسباط.
والأسباط في ولد إسحاق بمنزلة القبائل ليُفصل بين ولد إسماعيل
وبين ولد إسحاق. وقال أبو عبيدة: الأسباط:
قبائل بني إسرائيل، أحدهم: سبط. ويقال: من أي سبط أنت؟ أي: من
أي قبيلة وجنس؟
قوله تعالى: فَانْبَجَسَتْ مِنْهُ قال ابن قتيبة: انفجرت يقال:
تبجَّس الماء، كما يقال: تفجَّر والقصة مذكورة في سورة
(البقرة) .
قوله تعالى: نَغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئاتِكُمْ قرأ ابن كثير،
وعاصم، وحمزة، والكسائي: «نغفر لكم خطيئاتكم» بالتاء مهموزة
على الجمع. وقرأ أبو عمرو «نغفر لكم خطاياكم» مثل: قضاياكم،
ولا تاء فيها. وقرأ نافع «تُغفَر» بالتاء مضمومة «خطيئاتُكم»
بالهمز وضم التاء، على الجمع، وافقه ابن عامر في «تُغفَر»
بالتاء المضمومة، لكنه قرأ «خطيئتكم» على التّوحيد.
[سورة الأعراف (7) : آية 163]
وَسْئَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ حاضِرَةَ
الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ
حِيتانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً وَيَوْمَ لا
يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ كَذلِكَ نَبْلُوهُمْ بِما كانُوا
يَفْسُقُونَ (163)
قوله تعالى: وَسْئَلْهُمْ يعني أسباط اليهود، وهذا سؤال تقرير
وتوبيخ يقرِّرهم على قديم كفرهم، ومخالفة أسلافهم الأنبياء،
ويخبرهم بما لا يُعلم إلا بوحي. وفي القرية خمسة أقوال «1» :
__________
(1) قال الطبري في «تفسيره» 6/ 92: والصواب من القول في ذلك أن
يقال: هي قرية حاضرة البحر، وجائز أن تكون أيلة، وجائز أن تكون
مدين، وجائز أن تكون مقنا. لأن كل ذلك حاضرة البحر. ولا خبر عن
رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقطع العذر بأي ذلك من أي،
والاختلاف فيه على ما وصفت. ولا يوصل إلى علم ما قد كان فمضى
مما لم نعاينه، إلا بخبر يوجب العلم ولا خبر كذلك في ذلك. اه.
[.....]
(2/162)
وَإِذْ قَالَتْ
أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ
أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُوا مَعْذِرَةً
إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (164) فَلَمَّا
نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ
عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ
بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (165) فَلَمَّا عَتَوْا
عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً
خَاسِئِينَ (166) وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ
عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ
الْعَذَابِ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ
لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (167)
أحدها: أنها أيلة «1» ، رواه مُرّة عن ابن
مسعود، وأبو صالح عن ابن عباس، وبه قال الحسن، وسعيد بن جبير،
وقتادة، والسدي. والثاني: أنها مَدْيَن، رواه عكرمة عن ابن
عباس. والثالث: أنها ساحل مدين، روي عن قتادة. والرابع: أنها
طبرية، قاله الزهري. والخامس: أنها قرية يقال لها: مقنا «2» ،
بين مدين وعينونا، قاله ابن زيد. ومعنى حاضِرَةَ الْبَحْرِ
مجاورة البحر وبقربه وعلى شاطئه. إِذْ يَعْدُونَ قال الزجاج:
أي يظلمون، يقال: عدا فلان يعدو عُدْواناً وعَداءً وعَدْواً
وعُُدّواً: إذا ظلم، وموضع «إذ» نصب والمعنى: سلهم عن وقت
عَدْوِهم في السبت. إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتانُهُمْ في موضع نصب
أيضاً ب «يَعْدُونَ» والمعنى: سلهم إذ عَدَوْا في وقت الإتيان.
شُرَّعاً أي: ظاهرة. كَذلِكَ نَبْلُوهُمْ أي: مثل هذا الاختبار
الشديد نختبرهم بفسقهم. ويحتمل على بعد أن يكون المعنى
وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ كذلك، أي: لا تأتيهم
شُرَّعاً ويكون نَبْلُوهُمْ مستأنفا. وقرأ الأعمش، وأبان،
والمفضل عن عاصم: «يُسبِتون» بضم الياء.
[سورة الأعراف (7) : آية 164]
وَإِذْ قالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً
اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً
قالُوا مَعْذِرَةً إِلى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ
(164)
قوله تعالى: وَإِذْ قالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ قال المفسرون:
افترق أهل القرية ثلاث فرق فرقة صادت وأكلت، وفرقة نهت وزجرت،
وفرقة أمسكت عن الصيد، وقالت للفرقة الناهية: لِمَ تَعِظُونَ
قَوْماً اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ لاموهم على موعظة قوم يعلمون
أنهم غير مقلعين، فقالت الفرقة الناهية: مَعْذِرَةً إِلى
رَبِّكُمْ قرأ ابن كثير ونافع، وأبو عمرو، وابن عامر، وحمزة،
والكسائي: «معذرةُ» رفعاً، أي: موعظتُنا إياهم معذرةٌ، والمعنى
أن الأمر بالمعروف واجب علينا، فعلينا موعظة هؤلاء عذراً إلى
الله. وقرأ حفص عن عاصم: «معذرةً» نصباً، وذلك على معنى نعتذر
معذرةً. وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أي: وجائز أن ينتفعوا
بالموعظة فيتركوا المعصية.
[سورة الأعراف (7) : الآيات 165 الى 167]
فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ
يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا
بِعَذابٍ بَئِيسٍ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (165) فَلَمَّا
عَتَوْا عَنْ ما نُهُوا عَنْهُ قُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً
خاسِئِينَ (166) وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ
عَلَيْهِمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ
الْعَذابِ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقابِ وَإِنَّهُ
لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (167)
قوله تعالى: فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ يعني: تركوا ما
وُعظوا به أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وهم
الناهون عن المنكر. والذين ظلموا هم المعتدون في السبت.
قوله تعالى: بِعَذابٍ بَئِيسٍ قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وحمزة،
والكسائي: «بئيس» على وزن فعيل، فالهمزة بين الباء والياء.
وقرأ نافع: «بِيسٍ» بكسر الباء من غير همز. وقرأ ابن عامر
كذلك، إلا
__________
(1) أيلة: مدينة على ساحل القلزم مما يلي الشام، وقيل في آخر
الحجاز وأول الشام «معجم البلدان» 1/ 292.
(2) مقنا قرب أيلة «معجم البلدان» 5/ 178.
(2/163)
وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي
الْأَرْضِ أُمَمًا مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ
ذَلِكَ وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ
لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (168)
أنه همز. وروى خارجة عن نافع: «بَيْسٍ»
بفتح الباء من غير همز، على وزن «فَعْلٍ» . وروى أبو بكر عن
عاصم: «بَيْأسٍ» على وزن «فَيْعَلٍ» . وقرأ ابن عباس، وأبو
رزين، وأيوب: «بَيْآسٍ» على وزن «فَيْعالٍ» . وقرأ أبو عبد
الرّحمن السّلمي، ومعاذ القارئ: «بَئِسٍ» بفتح الباء وكسر
الهمزة من غير ياء على وزن «تعس» . وقرأ الضحاك، وعكرمة:
«بَيِّسٍ» بتشديد الياء مثل «قيِّم» . وقرأ أبو العالية، وأبو
مجلز: «بَئِسَ» بفتح الباء والسين وبهمزة مكسورة من غير ياء
ولا ألف على وزن «فَعِلَ» . وقرأ أبو المتوكل، وأبو رجاء:
«بائسٍ» بألف ومَدّة بعد الباء وبهمزة مكسورة بوزن «فاعِلٍ» .
قال أبو عبيدة:
البئيس: الشّديد، وأنشد:
حيفا عَليَّ وما تَرَى ... لي فيِهمُ أثراً بَئيسَا «1»
وقال الزجاج: يقال: بَئس يبأس بأساً، والعاتي: الشديد الدخول
في الفساد، المتمرد الذي لا يقبل موعظة. وقال ابن جرير: «فلما
عتوا» أي: تمردوا فيما نُهوا عنه وقد ذكرنا في سورة (البقرة) :
قصة مسخهم. وكان الحسن البصري يقول: والله ما لحوم هذه الحيتان
بأعظم عند الله من دماء قوم مسلمين.
قوله تعالى: وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ فيه أربعة أقوال: أحدها:
أعلم، قاله الحسن، وابن قتيبة، وقال:
هو من آذنتك بالأمر. وقال ابن الانباري: «تأذن» بمعنى آذن كما
يقال: تعلَّم أن فلاناً قائم، أي:
اعلم. وقال أبو سليمان الدمشقي: أي: أعلم أنبياء بني إسرائيل.
والثاني: حتم، قاله عطاء. والثالث:
وعد، قاله قطرب. والرابع: تألّى، قاله الزجاج.
قوله تعالى: لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ أي: على اليهود. وقال
مجاهد: على اليهود والنصارى بمعاصيهم.
مَنْ يَسُومُهُمْ أي: يولِّيهم سُوءَ الْعَذابِ. وفي المبعوث
عليهم قولان: أحدهما: أنه محمّد صلّى الله عليه وسلم، وأمته،
قاله ابن عباس. والثاني: العرب، كانوا يجبونهم الخراج، قاله
سعيد بن جبير، قال: ولم يجْبِ الخراجَ نَبيٌ قط إلا موسى، جباه
ثلاث عشرة سنة، ثم أُمسك إلى النبيّ صلّى الله عليه وسلم. وقال
السدي بعث الله عليهم العرب يأخذون منهم الجزية ويقتلونهم. وفي
سوء العذاب أربعة أقوال: أحدها: الجزية، رواه ابن أبي طلحة عن
ابن عباس. والثاني: المسكنة والجزية، رواه العوفي عن ابن عباس.
والثالث:
الخراج، رواه الضحاك عن ابن عباس، وبه قال سعيد بن جبير.
والرابع: أنه القتال حتى يُسلموا، أو يُعطوا الجزية.
[سورة الأعراف (7) : آية 168]
وَقَطَّعْناهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَماً مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ
وَمِنْهُمْ دُونَ ذلِكَ وَبَلَوْناهُمْ بِالْحَسَناتِ
وَالسَّيِّئاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (168)
قوله تعالى: وَقَطَّعْناهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَماً قال أبو
عبيدة: فرَّقناهم فِرقاً. قال ابن عباس: هم اليهود، ليس من بلد
إلا وفيه منهم طائفة. وقال مقاتل: هم بنو إسرائيل. وقيل:
معناه: شتات أمرهم وافتراق كلمتهم. مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ وهم
المؤمنون بعيسى ومحمد عليهما السلام. وَمِنْهُمْ دُونَ ذلِكَ
وهم الكفار. وقال ابن جرير: إنما كانوا على هذه الصفة قبل أن
يبعث عيسى، وقبل ارتدادهم.
__________
(1) البيت منسوب إلى ذي الإصبع العدواني «الأغاني» 3/ 102. وفي
«مجاز القرآن» لأبي عبيدة 1/ 231.
(2/164)
فَخَلَفَ مِنْ
بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ
هَذَا الْأَدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِنْ
يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ
عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لَا يَقُولُوا عَلَى
اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ وَدَرَسُوا مَا فِيهِ وَالدَّارُ
الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ
(169)
قوله تعالى: وَبَلَوْناهُمْ أي: اختبرناهم
بِالْحَسَناتِ وهي الخير، والخصب، والعافية، وَالسَّيِّئاتِ
وهي الجدب، والشر، والشدائد فالحسنات والسيئات تحث على الطاعة،
أما النّعم فلطلب الازدياد منها، وخوف زوالها، والنقمُ
فلكشفها، والسلامة منها. لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ أي: لكي
يتوبوا.
[سورة الأعراف (7) : آية 169]
فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتابَ
يَأْخُذُونَ عَرَضَ هذَا الْأَدْنى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ
لَنا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ
يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثاقُ الْكِتابِ أَنْ لا يَقُولُوا
عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الْحَقَّ وَدَرَسُوا ما فِيهِ وَالدَّارُ
الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ
(169)
قوله تعالى: فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ أي: من بعد الذين
وصفناهم. خَلْفٌ وقرأ الجوني، والجحدري: «خَلَفٌ» بفتح اللام.
قال أبو عبيدة: الخَلَفُ والخَلَفُ واحد وقوم يجعلون المحرَّك
اللام، للصالح، والمسكَّن، لغير الصالح. وقال ابن قتيبة:
الخَلْفُ: الرديء من الناس ومن الكلام، يقال: هذا خَلْفٌ من
القول. وقال ابن الأنباري: أكثر ما تستعمل العرب الخَلْفَ،
باسكان اللام، في الرديء المذموم، وتفتح اللام في الفاضل
الممدوح. وقد يوقع الخَلْفُ على الممدوح، والخلَفُ على المذموم
غير أن المختار ما ذكرناه.
وفي المراد بهذا الخَلْف ثلاثة أقوال «1» : أحدها: أنهم
اليهود، قاله ابن عباس، وابن زيد.
والثاني: النصارى. والثالث: أن الخَلْفَ من أُمة محمد صلّى
الله عليه وسلم، والقولان عن مجاهد.
فان قيل: الخَلْفُ واحد، فكيف قال: يَأْخُذُونَ وكذلك قال في
(مريم) أَضاعُوا «2» ؟ فقد ذكر ابن الأنباري عنه جوابين:
أحدهما: أن الخَلْف جمع خالف، كما أن الركب جمع راكب،
والشَّرْب جمع شارب. والثاني: أي الخَلْف مصدر يكون للاثنين
والجميع، والمذكر والمؤنث.
قوله تعالى: وَرِثُوا الْكِتابَ أي: انتقل إليهم انتقال
الميراث من سلف إلى خلف، فيخرج في الكتاب ثلاثة أقوال: أحدها:
أنه التوراة. والثاني: الإنجيل. والثالث: القرآن.
قوله تعالى: يَأْخُذُونَ عَرَضَ هذَا الْأَدْنى أي: هذه
الدنيا، وهو ما يعرض لهم منها. وقيل: سماه عرضاً، لقلة بقائه.
قال ابن عباس: يأخذون ما أحبوا من حلال أو حرام. وقيل: هو
الرِّشوة في الحكم. وفي وصفه بالأدنى قولان: أحدهما: أنه من
الدُّنُوِّ. والثاني: أنه من الدناءة.
قوله تعالى: سَيُغْفَرُ لَنا فيه قولان: أحدهما: أن المعنى:
إنا لا نؤاخَذ، تمنِّياً على الله الباطلَ.
والثاني: أنه ذنْب يغفره الله لنا، تأميلاً لرحمة الله تعالى.
وفي قوله تعالى: وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ
يَأْخُذُوهُ
__________
(1) قال الطبري في «تفسيره» 6/ 105: والصواب من القول في ذلك
عندي أن يقال: إن الله تعالى ذكره إنما وصف أنه خلف القوم
الذين قص قصصهم في الآيات التي مضت، خلف سوء رديء ولم يذكر لنا
أنهم نصارى في كتابه، وقصتهم بقصص اليهود أشبه منها بقصص
النصارى. وبعد فإن ما قبل ذلك خبر عن بني إسرائيل وما بعده
كذلك، فما بينهما بأن يكون خبرا عنهم أشبه. إذ لم يكن في الآية
دليل على صرف الخبر عنهم إلى غيرهم، ولا جاء بذلك دليل يوجب
صحة القول به. اه.
(2) سورة مريم: 59.
(2/165)
وَالَّذِينَ
يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ إِنَّا لَا
نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ (170) وَإِذْ نَتَقْنَا
الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ
وَاقِعٌ بِهِمْ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا
مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (171)
قولان: أحدهما: أن المعنى: لا يشبعهم شيء،
فهم يأخذون لغير حاجة، قاله الحسن. والثاني: أنهم أهل إصرار
على الذنوب، قاله مجاهد.
قوله تعالى: أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثاقُ الْكِتابِ
أَنْ لا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ قال ابن
عباس: وكّد الله عليهم في التوراة أن لا يقولوا على الله إلا
الحق، فقالوا الباطل، وهو ما أوجبوا على الله من مغفرة ذنوبهم
التي لا يتوبون منها، وليس في التوراة ميعاد المغفرة مع
الإصرار.
قوله تعالى: وَدَرَسُوا ما فِيهِ معطوف على «ورثوا» . ومعنى
«درسوا ما فيه» : قرءوه، فكأنه قال:
خالفوا على علم. وَالدَّارُ الْآخِرَةُ أي: ما فيها من الثواب
خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ أن الباقي
خير من الفاني. قرأ ابن عامر ونافع وحفص عن عاصم بالتاء،
والباقون بالياء.
[سورة الأعراف (7) : آية 170]
وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتابِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ
إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ (170)
قوله تعالى: وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتابِ قرأ ابن
كثير، ونافع، وابن عامر، وحمزة، والكسائي، وحفص عن عاصم
«يمسّكون» مشدّدة، وقرءوا وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ
الْكَوافِرِ «1» مخفّفة، وقرأهما أبو عمرو بالتشديد. وروى أبو
بكر عن عاصم أنه خففهما. ويقال: مسَّكتُ بالشيء، وتمسّكت به،
واستمسكت به، وامتسكت به. وهذه الآية نزلت في مؤمني أهل الكتاب
الذين حفظوا حدوده ولم يُحرِّفوه، منهم عبد الله بن سلام
واصحابه. قال ابن الأنباري: وخبر «الذين» : «إنا» وما بعده،
وله ضمير مقدر بعد «المصلحين» تأويله: والذين يمسّكون بالكتاب
إنا لا نضيع أجر المصلحين منهم، ولهذه العلة وَعَدَهُم حفظَ
الأجر بشرطٍ، إذ كان منهم من لم يصلح. قال: وقال بعض النحويين:
المصلحون يرجعون على الذين، وتلخيص المعنى عنده: والذين
يمسِّكون بالكتاب وأقاموا الصلاة إنا لا نضيع أجرهم، فأظهرت
كنايتهم بالمصلحين، كما يقال: عليٌّ لقيتُ الكسائي، وأبو سعيد
رويت عن الخدري، يراد: لقيتُهُ ورويت عنه. قال الشاعر:
فيا ربّ لَيلى أنْتَ في كُلِّ مَوطِنٍ ... وَأنْتَ الذي في
رَحْمِةِ الله أطْمَعُ «2»
أراد في رحمته، فأظهر ضمير الهاء.
[سورة الأعراف (7) : آية 171]
وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ
وَظَنُّوا أَنَّهُ واقِعٌ بِهِمْ خُذُوا ما آتَيْناكُمْ
بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا ما فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (171)
قوله تعالى: وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ أي: واذكر
لهم إذ نتقنا الجبل، أي: رفعناه. قال مجاهد:
أُخرج الجبل من الأرض، ورفع فوقهم كالظُلَّة، فقيل لهم:
لتؤمنُنَّ أو ليقعنَّ عليكم. قال قتادة: نزلوا في أصل جبل،
فرُفع فوقهم، فقال: لتأخُذُنَّ أمري، أو لأرمينكم به.
قوله تعالى: وَظَنُّوا أَنَّهُ واقِعٌ بِهِمْ فيه قولان:
أحدهما: أنه الظن المعروف. والثاني: أنه بمعنى اليقين. وباقي
الآية مفسر في (البقرة) .
__________
(1) سورة الممتحنة: 10.
(2) البيت غير منسوب في «مغني اللبيب» 210.
(2/166)
وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ
مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ
وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ
قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ
إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ (172)
[سورة الأعراف (7) : آية 172]
وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ
ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ
بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى شَهِدْنا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ
الْقِيامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا غافِلِينَ (172)
قوله تعالى: وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ. روى ابن
عباس عن النبيّ صلّى الله عليه وسلم أنه قال:
(590) «أخذ الله الميثاق من ظهر آدم بنعمان» - ونعمان قريب من
عرفة، ذكره ابن قتيبة- «فأخرج من صلبه كل ذرية ذرأها، فنثرهم
بين يديه كالذَّر، ثم كلَّمهم قِبَلاً، وقال: أَلَسْتُ
بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى شَهِدْنا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ
الْقِيامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا غافِلِينَ» .
ومعنى الآية: وإذ أخذ ربكم من ظهور بني آدم. فقوله تعالى: مِنْ
ظُهُورِهِمْ بدل من بَنِي آدَمَ. وقيل: إنما قال: مِنْ
ظُهُورِهِمْ ولم يقل: من ظهر آدم، لأنه أخرج بعضهم من ظهور
بعض، فاستغنى عن ذكر ظهر آدم لأنه قد علم أنهم بنوه، وقد
أُخرجوا من ظهره. وقوله تعالى: ذُرِّيَّتَهُمْ قرأ ابن كثير،
وعاصم، وحمزة، والكسائي «ذُرِّيَّتَهُم» على التوحيد. وقرأ
نافع، وأبو عمرو، وابن عامر «ذُرِّيَّاتهِم» على الجمع. قال
أبو علي: الذُّرِّية تكون جمعاً، وتكون واحداً. وفي قوله
تعالى: وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ ثلاثة أقوال: أحدها:
أشهدهم على أنفسهم باقرارهم، قاله مقاتل. والثاني: دلَّهم
بخلقه على توحيده، قاله الزجاج. والثالث: أنه أشهد بعضهم على
بعض باقرارهم بذلك، قاله ابن جرير.
قوله تعالى: أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ والمعنى: وقال لهم: ألست
بربكم؟ وهذا سؤال تقرير. قالوا: بلى شهدنا أنك ربنا. قال
السدي: قوله «شهدنا» خبر من الله تعالى عن نفسه وملائكته أنهم
شهدوا على إقرار بني آدم. ويحسن الوقف على قوله «بلى» لأن كلام
الذرية قد انقطع. وزعم الكلبي ان الذّرّية لمّا قالت: «بلى» ،
قال الله تعالى للملائكة: «اشهدوا» فقالوا: «شهدنا» . وروى أبو
العالية عن أُبَيِّ بن كعب قال: جمعهم جميعاً، فجعلهم أزواجاً،
ثم صوَّرهم، ثم استنطقهم، ثم قال: أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا
بَلى شَهِدْنا أنك إلهنا. قال: فإنّي أشهد عليكم السماوات
السبع والأرضين السبع، وأشهد عليكم أباكم آدم أَنْ تَقُولُوا
يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا غافِلِينَ لم نعلم
بهذا. وقال السدي: أجابته طائفة طائعين، وطائفة كارهين تقيةً.
قوله تعالى: أَنْ تَقُولُوا قرأ أبو عمرو «أن يقولوا» ، «أو
يقولوا» بالياء فيهما. وقرأ الباقون بالتاء فيهما. قال أبو
علي: حجة أبي عمرو قوله: «وإذ أخذ ربك» وقوله تعالى: «قالوا
بلى» ، وحجة من قرأ بالتاء، أنه قد جرى في الكلام خطاب: «ألست
بربكم قالوا بلى شهدنا» . ومعنى قوله: «تقولوا» : لئلّا
__________
الصحيح موقوف. أخرجه النسائي في «الكبرى» 11191 وأحمد 1/ 272 ح
2451. والطبري 15349 والحاكم 1/ 27 و 2/ 544 من حديث كلثوم بن
جبر عن سعيد بن جبير عن ابن عباس مرفوعا. صححه الحاكم، وقال:
احتج مسلم بكلثوم بن جبر، ووافقه الذهبي، وأما النسائي فقال:
كلثوم هذا غير قوي، وحديثه غير محفوظ ا. هـ. والظاهر أن الوهم
في رفعه إنما هو من جهة جرير بن حازم، فإنه ثقة لكن له أوهام
إذا حدث من حفظه. أو الوهم ممن دونه فقد أخرجه الطبري 15350 عن
عبد الوارث عن كلثوم عن سعيد بن جبير عن ابن عباس موقوفا.
وتابعه ابن علية برقم 15351 عن كلثوم به موقوفا، و 15352،
وبرقم 15353 و 15354، تابعه عطاء بن السائب فرواه عن سعيد عن
ابن عباس موقوفا، فالصواب في هذا الحديث الوقف كما رواه غير
واحد، والله أعلم انظر «تفسير ابن كثير» عند هذه الآية
بتخريجنا.
(2/167)
أَوْ تَقُولُوا
إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً
مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ
(173) وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ وَلَعَلَّهُمْ
يَرْجِعُونَ (174) وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي
آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ
الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ (175)
تقولوا، ومثله: أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ «1» .
وفي قوله تعالى: إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا قولان: أحدهما: أنه
إشارة إلى الميثاق والإقرار. والثاني: أنه إشارة إلى معرفة أنه
الخالق. قال المفسرون: وهذه الآية تذكير من الله تعالى بما أخذ
على جميع المكلَّفين من الميثاق، واحتجاج عليهم لئلا يقول
الكفار: إنا كنّا عن هذا الميثاق غافلين لم نذكره، ونسيانهم لا
يُسقط الاحتجاج بعد أن أخبر الله تعالى بذلك على لسان النبيّ
صلّى الله عليه وسلم الصادق. وإذا ثبت هذا بقول الصادق، قام في
النفوس مقام الذِّكر، فالاحتجاج به قائم.
[سورة الأعراف (7) : آية 173]
أَوْ تَقُولُوا إِنَّما أَشْرَكَ آباؤُنا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا
ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ
الْمُبْطِلُونَ (173)
قوله تعالى: أَوْ تَقُولُوا إِنَّما أَشْرَكَ آباؤُنا مِنْ
قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ فاتبَّعنا منهاجهم
على جهلٍ منَّا بآلهيتك أَفَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ
الْمُبْطِلُونَ في دعواهم أن معك إلهاً، فقطع الله احتجاجهم
بمثل هذا، إذ أذكرهم أخذ الميثاق على كل واحد منهم. وجماعة أهل
العلم على ما شرحنا من أنه استنطق الذر، وركَّب فيهم عقولاً
وأفهاماً عرفوا بها ما عرض عليهم. وقد ذكر بعضهم أن معنى أخذ
الذرية: إخراجهم إلى الدنيا بعد كونهم نطفاً، ومعنى إشهادهم
على أنفسهم: اضطرارهم إلى العلم بأنه خالقهم بما أظهر لهم من
الآيات والبراهين. ولما عرفوا ذلك ودعاهم كلُّ ما يرون
ويشاهدون إلى التصديق، كانوا بمنزلة الشاهدين والمشهِدين على
أنفسهم بصحته، كما قال: شاهِدِينَ عَلى أَنْفُسِهِمْ
بِالْكُفْرِ «2» يريدهم بمنزلة الشاهدين، وإن لم يقولوا: نحن
كفرة، كما يقول الرجل: قد شهدتْ جوارحي بصدقك، أي: قد عرفْته.
ومن هذا الباب قوله تعالى: شَهِدَ اللَّهُ «3» أي: بيَّن وأعلم
وقد حكى نحو هذا القول ابن الأنباري، والأول أصح، لموافقة
الآثار.
[سورة الأعراف (7) : آية 174]
وَكَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (174)
قوله تعالى: وَكَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ أي: وكما بينَّا في
أخذ الميثاق الآيات، ليتدبَّرها العباد فيعملوا بموجبها
وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ أي: ولكي يرجعوا عمَّا هم عليه من
الكفر إلى التوحيد.
[سورة الأعراف (7) : آية 175]
وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْناهُ آياتِنا
فَانْسَلَخَ مِنْها فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطانُ فَكانَ مِنَ
الْغاوِينَ (175)
قوله تعالى: وَاتْلُ عَلَيْهِمْ قال الزجاج: هذا نسق على ما
قبله، والمعنى: أتل عليهم إذ أخذ ربك، وَاتْلُ عَلَيْهِمْ
نَبَأَ الَّذِي آتَيْناهُ آياتِنا وفيه ستة أقوال «4» :
(591) أحدها: أنَّه رجل من بني إِسرائيل يقال له: بلعم بن أبر،
قاله ابن مسعود. وقال ابن
__________
ورد عن جماعة من الصحابة والتابعين. فقد أخرجه الطبري 15392-
15396 و 15399 من طرق عن ابن مسعود وأخرجه برقم 15398 و 15401
عن ابن عباس. وأخرجه برقم 15403 و 15404 عن مجاهد.
وأخرجه 15408 عن عكرمة، وله شواهد. وهذا القول هو أرجح
الأقوال.
__________
(1) سورة لقمان: 10.
(2) سورة التوبة: 17.
(3) سورة آل عمران: 19.
(4) قال الطبري في «تفسيره» 6/ 122: والصواب من القول في ذلك
أن يقال: إن الله تعالى ذكره أمر نبيه أن يتلو على قومه خبر
رجل كان آتاه حججه وأدلته، وهي «الآيات» ، وجائز أن يكون الذي
كان الله آتاه ذلك «بلعم» وجائز أن يكون «أمية» اه.
(2/168)
عباس: بلعم بن باعوراء. وروي عنه: أنه
بلعام بن باعور، وبه قال مجاهد، وعكرمة، والسدي. وروى العوفي
عن ابن عباس أن بلعماً من أهل اليمن. وروى عنه ابن أبي طلحة
أنه من مدينة الجبَّارين.
(592) والثاني: أنه أُميَّة بن أبي الصلت، قاله عبد الله بن
عمرو بن العاص، وسعيد بن المسيب، وأبو روق، وزيد بن أسلم، وكان
أميّة قد قرأ الكتاب، وعلم أن الله مرسِل رسولاً، ورجا أن يكون
هو، فلما بعث النبيّ صلّى الله عليه وسلم، حسده وكفر.
والثالث: أنه أبو عامر الراهب، روى الشعبي عن ابن عباس قال:
الأنصار تقول: هو الراهب الذي بُني له مسجد الشِّقاق، وروي عن
ابن المسيب نحوه. والرابع: أنه رجل كان في بني اسرائيل، أعطي
ثلاث دعوات يستجاب له فيهن، وكانت له امرأة له منها ولد، وكانت
سمجة دميمة، فقالت ادع الله أن يجعلني أجمل امرأة في بني
إسرائيل، فدعا الله لها، فلما علمت أن ليس في بني إسرائيل
مثلها، رغبت عن زوجها وأرادت غيره، فلما رغبت عنه، دعا الله أن
يجعلها كلبة نَبَّاحَةً، فذهبت منه فيها دعوتان، فجاء بنوها
وقالوا: ليس بنا على هذا صبر أن صارت أمُّنا كلبةً نبَّاحة
يعيِّرنا الناس بها، فادع الله أن يردَّها إلى الحال التي كانت
عليها أولاً، فدعا الله، فعادت كما كانت، فذهبت فيها الدعوات
الثلاث، رواه عكرمة عن ابن عباس، والذي روي لنا في هذا الحديث
«وكانت سَمِجة» بكسر الميم، وقد روى سيبويه عن العرب أنهم
يقولون: رجل سَمْج: بتسكين الميم، ولم يقولوا: سَمِج بكسرها.
والخامس: أنه المنافق، قاله الحسن. والسادس: أنه كل من انسلخ
من الحق بعد أن أُعطيَه من اليهود والنصارى والحنفاء، قاله
عكرمة.
وفي الآيات خمسة أقوال «1» : أحدها: أنه اسم الله الأعظم، رواه
علي بن أبي طلحة عن ابن عباس، وبه قال ابن جبير. والثاني: أنها
كتاب من كتب الله عزّ وجلّ. روى عكرمة عن ابن عباس قال:
هو بلعام، أوتي كتاباً فانسلخ منه. والثالث: أنه أوتي نبوّة،
فَرَشاهُ قومه على أن يسكت، ففعل، وتركهم على ما هم عليه، قاله
مجاهد، وفيه بُعد، لأن الله تعالى لا يصطفي لرسالته إلا
معصوماً عن مثل هذه الحال. والرابع: أنها حُجج التوحيد، وفهم
أدلّته. والخامس: أنها العلم بكتب الله عزّ وجلّ. والمشهور في
التفسير أنه بلعام وكان من أمره على ما ذكره المفسرون أن موسى
عليه السلام غزا البلد الذي هو فيه، وكانوا كفاراً، وكان هو
مجاب الدعوة، فقال ملكهم: ادع على موسى، فقال: إنه من أهل
ديني،
__________
موقوف. أخرجه الطبري 15413 و 15414 و 15415 و 15417 عن عبد
الله بن عمرو بن العاص.
__________
(1) قال الطبري في «تفسيره» 6/ 122: وكذلك «الآيات» إن كانت
بمعنى الحجة التي هي بعض كتب الله التي أنزلها على بعض أنبيائه
فتعلمها الذي ذكره الله في هذه الآية. وعناه بها. فجائز أن
يكون الذي كان «بلعم» وجائز أن يكون «أمية» ، لأن «أمية» كان
فيما يقال: قد قرأ من كتب أهل الكتاب. وإن كانت بمعنى كتاب
أنزله الله على من أمر نبي الله عليه السلام أن يتلو على قومه
نبأه، أو بمعنى اسم الله الأعظم، أو بمعنى النبوة فغير جائز أن
يكون معنيا به «أمية» لأن «أمية» لا تختلف الأمة في أنه لم يكن
أوتي شيئا من ذلك، ولا خبر بأي ذلك المراد، وأي الرجلين
المعني، يوجب الحجة، ولا في العقل دلالة على أي ذلك المعني به
من أي. فالصواب أن يقال فيه ما قال الله. ونقر بظاهر التنزيل
على ما جاء به الوحي من الله. ا. هـ.
(2/169)
وَلَوْ شِئْنَا
لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ
وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ
تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ
مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ
الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (176)
ولا ينبغي لي أن أدعوَ عليه، فأمر الملك أن
تنحت خشبة لصَلبه، فلما رأى ذلك، خرج على أتان ليدعوَ على
موسى، فلما عاين عسكرهم، وقفت الأتان فضربها، فقالت: لم
تضربني، وهذه نار تتوقَّد قد منعتني أن أمشي؟ فارجع، فرجع إلى
الملك فأخبره، فقال: إما أن تدعو عليهم، وإما أن أصلبك، فدعا
على موسى باسم الله الأعظم أن لا يدخل المدينة، فاستجاب الله
له، فوقع موسى وقومه في التيه بدعائه، فقال موسى: يا ربِّ، بأي
ذنب وقعنا في التيه؟ فقال: بدعاء بلعم. فقال: يا رب، فكما سمعت
دعاءه عليَّ، فاسمع دعائي عليه، فدعا اللهَ أن ينزع منه الاسم
الأعظم، فنزع منه. وقيل: إنه أمر قومه أن يزيِّنوا النساء
ويرسلوهنَّ في العسكر ليَفشو الزنا فيهم، فيُنصروا عليهم.
وقيل: إن موسى قتله بعد ذلك. وروى السدي عن أشياخه أن بلعم أتى
إلى قومه متبرِّعاً، فقال: لا ترهبوا بني إسرائيل، فانكم إذا
خرجتم لقتالهم، دعوتُ عليهم فهلكوا، فكان فيما شاء عندهم من
الدنيا، وذلك بعد مضي الأربعين سنة التي تاهوا فيها، وكان
نبيهم يوشع، لا موسى.
قوله تعالى: فَانْسَلَخَ مِنْها أي: خرج من العلم بها.
قوله تعالى: فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطانُ قال ابن قتيبة: أدركه.
يقال: اتبَّعتُ القوم: إذا لحقتَهم، وتبعتُهم: سرتُ في أثرهم.
وقرأ طلحة بن مصرِّف: «فاتّبعه» بالتشديد. وقال اليزيدي:
أتبْعه واتَّبعه:
لغتان. وكأن «أتبعه» خفيفة بمعنى: قفاه، و «اتّبعه» مشددة: حذا
حذوه. ولا يجوز أن تقول: أتبْعناك، وأنت تريد: اتَّبعناك، لأن
معناها: اقتدينا بك. وقال الزجاج: يقال: تبع الرجل الشيء
واتَّبعه بمعنى واحد. قال الله تعالى: فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ
«1» وقال: فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ «2» .
قوله تعالى: فَكانَ مِنَ الْغاوِينَ فيه قولان: أحدهما: من
الضالين، قاله مقاتل. والثاني: من الهالكين الفاسدين، قاله
الزجاج.
[سورة الأعراف (7) : آية 176]
وَلَوْ شِئْنا لَرَفَعْناهُ بِها وَلكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى
الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَواهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ
إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ
ذلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا
فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (176)
قوله تعالى: وَلَوْ شِئْنا لَرَفَعْناهُ بِها في هاء الكناية
في «رفعناه» قولان «3» : أحدهما: أنها تعود إلى الإِنسان
المذكور، وهو قول الجمهور فيكون المعنى: ولو شئنا لرفعنا منزلة
هذا الإنسان بما علّمنا.
والثاني: أنها تعود إلى الكفر بالآيات، فيكون المعنى: لو شئنا
لرفعنا عنه الكفر بآياتنا، وهذا المعنى مروي عن مجاهد. وقال
الزجاج: لو شئنا لحُلْنا بينه وبين المعصية.
قوله تعالى: وَلكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ أي: ركن إلى
الدنيا وسكن. قال الزجاج: يقال: أخلد
__________
(1) سورة البقرة: 38.
(2) سورة يونس: 90. [.....]
(3) قال الطبري في «تفسيره» 6/ 126: وأولى الأقوال في التأويل
ذلك بالصواب أن يقال: إن الله عم الخبر بقوله:
وَلَوْ شِئْنا لَرَفَعْناهُ بِها. أنه لو شاء رفعه بآياته التي
آتاه إياها و «الرفع» يعم معاني كثيرة: منها الرفع في المنزلة
عنده، ومنها الرفع في شرف الدنيا ومكارمها، ومنها الرفع في
الذكر الجميل والثناء الرفيع. وجائز أن يكون الله عنى كل ذلك:
أنه لو شاء لرفعه، فأعطاه كل ذلك، بتوفيقه للعمل بآياته التي
كان آتاها إياه. وإذ كان ذلك الخبر جائزا فالصواب من القول فيه
أن لا يخص منه شيء. إذ لا دلالة على خصوصه من خبر ولا عقل. اه.
(2/170)
سَاءَ مَثَلًا
الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَأَنْفُسَهُمْ
كَانُوا يَظْلِمُونَ (177) مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ
الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ
(178) وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ
وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ
أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا
يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ
أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ (179)
وخلد، والأول أكثر في اللغة. والأرض ها هنا
عبارة عن الدنيا، لأن الدنيا هي الأرض بما عليها. وفي معنى
الكلام قولان: أحدهما: أنه رَكَن إلى أهل الدنيا، ويقال: إنه
أرضى امرأته بذلك لأنها حملته عليه. وقيل: أرضى بني عمِّه
وقومَه. والثاني: أنه ركن إلى شهوات الدنيا وقد بُيِّن ذلك
بقوله تعالى:
وَاتَّبَعَ هَواهُ والمعنى أنه انقاد لما دعاه إليه الهوى. قال
ابن زيد: كان هواه مع قومه. وهذه الآية من أشد الآيات على أهل
العلم إذا مالوا عن العلم إلى الهوى. قوله تعالى: فَمَثَلُهُ
كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ
تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ معناه: أن هذا الكافر، إن زجرتَه لم
ينزجر، وإن تركتَه لم يهتد، فالحالتان عنده سواء كحالتي الكلب،
فانه إن طُرد وحُمل عليه بالطرد كان لاهثاً، وإن تُرك وربض كان
أيضاً لاهثاً، والتشبيه بالكلب اللاهث خاصة فالمعنى: فمثله
كمثل الكلب لاهثاً وإنما شبهه بالكلب اللاهث، لأنه أخسُّ
الأمثال على أخس الحالات وأبشعها. وقال ابن قتيبة: كل لاهث
إنما يلهث من إعياء أو عطش، إلا الكلب، فانه يلهث في حال راحته
وحال كلاله، فضربه الله مثلاً لمن كذَّب بآياته، فقال: إن
وعظته فهو ضال، وإن لم تعظه فهو ضال، كالكلب إن طردته وزجرته
فسعى لهث، أو تركته على حاله رابضاً لهث. قال المفسرون: زُجِرَ
في منامه عن الدعاء على بني اسرائيل فلم ينزجر، وخاطبتْه أتانه
فلم ينته، فضُرب له هذا المثل ولسائر الكفّار فذلك قوله تعالى:
ذلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا لأن
الكافر إن وعظته فهو ضال، وإن تركتَه فهو ضال وهو مع إرسال
الرسل إليه كمن لم يأته رسول ولا بيِّنة.
قوله تعالى: فَاقْصُصِ الْقَصَصَ قال عطاء: قَصَصَ الذين كفروا
وكذّبوا أنبياءهم.
[سورة الأعراف (7) : الآيات 177 الى 178]
ساءَ مَثَلاً الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا
وَأَنْفُسَهُمْ كانُوا يَظْلِمُونَ (177) مَنْ يَهْدِ اللَّهُ
فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولئِكَ هُمُ
الْخاسِرُونَ (178)
قوله تعالى: ساءَ مَثَلًا يقال: ساء الشيء يسوء: إذا قَبُح،
والمعنى: ساء مثلاً مثل القوم، فحُذِف المضاف، فنُصب «مثلاً»
على التمييز.
قوله تعالى: وَأَنْفُسَهُمْ كانُوا يَظْلِمُونَ أي: يضُرُّون
بالمعصية.
[سورة الأعراف (7) : آية 179]
وَلَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ
وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها وَلَهُمْ
أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِها وَلَهُمْ آذانٌ لا يَسْمَعُونَ
بِها أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولئِكَ هُمُ
الْغافِلُونَ (179)
قوله تعالى: وَلَقَدْ ذَرَأْنا أي: خلقنا. قال ابن قتيبة: ومنه
ذرية الرجل، إنما هي الخلق منه، ولكن همزها يتركه أكثر العرب.
قوله تعالى: لِجَهَنَّمَ هذه اللام يسميها بعض أهل المعاني لام
العاقبة، كقوله تعالى: لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً،
ومثله قول الشاعر:
أمْوالُنَا لِذَوِي المِيْرَاثِ نَجْمَعُهَا ... وَدُوْرُنَا
لِخَرَابِ الدَّهْرِ نَبْنِيْها
ودخل رجل على عمر بن عبد العزيز يعزِّيه بموت ابنه، فقال:
تعزَّ أمِيْرَ المؤمنينَ فإنَّه ... لِما قَدْ تَرَى يُغْذَى
الصَّغِيْرُ ويُوْلَدُ
وقد أخبر الله عزّ وجلّ في هذه الآية بنفاذ عِلمه فيهم أنهم
يصيرون إليها بسبب كفرهم.
(2/171)
وَلِلَّهِ
الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ
يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا
يَعْمَلُونَ (180)
قوله تعالى: لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ
بِها لمّا أعرض القوم عن الحق والتفكر فيه، كانوا بمنزلة من لم
يفقه ولم يُبصر ولم يسمع. وقال محمد بن القاسم النحوي: أراد
بهذا كله أمر الآخرة، فانهم يعقلون أمر الدنيا. قوله تعالى:
أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ شبَّههم بالأنعام لأنها تسمع وتبصر ولا
تعتبر، ثم قال: بَلْ هُمْ أَضَلُّ لأن الأنعام تبصر منافعها
ومضارها فتلزم بعض ما تبصره، وهؤلاء يعلم أكثرهم أنه معاند
فيُقدِم على النار، أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ عن أمر الآخرة.
[سورة الأعراف (7) : آية 180]
وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى فَادْعُوهُ بِها وَذَرُوا
الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمائِهِ سَيُجْزَوْنَ ما كانُوا
يَعْمَلُونَ (180)
قوله تعالى: وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى. سبب نزولها:
(593) أن رجلاً دعا الله في صلاته، ودعا الرحمنَ، فقال أبو
جهل: أليس يزعم محمد وأصحابه أنهم يعبدون رباً واحداً، فما بال
هذا يدعو اثنين؟ فأنزل الله هذه الآية، قاله مقاتل.
فأما الحسنى، فهي تأنيث الأحسن. ومعنى الآية أن أسماء الله
حسنى، وليس المراد أن فيها ما ليس بحسن. وذكر الماوردي أن
المراد بذلك ما مالت إليه النفوس من ذكره بالعفو والرحمة دون
السخط والنّقمة. وقوله تعالى: فَادْعُوهُ بِها أي: نادوه بها،
كقوله: يا الله، يا رحمن.
قوله تعالى: وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمائِهِ
قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وعاصم، وابن عامر:
«يُلحِدُون» بضمّ الياء، وكذلك في سورة (النّحل) و (السّجدة)
«1» . وقرأ حمزة: «يَلحَدون» بفتح الحاء والياء فيهن، ووافقه
الكسائيّ، وخلف في سورة (النحل) «2» . قال الاخفش: أَلْحَد
ولَحَدَ: لغتان فمن قرأ بهما أراد الأخذ باللغتين، فكأن
الإلحاد: العدول عن الاستقامة. وقال ابن قتيبة: يجورون عن الحق
ويعدلون ومنه لَحْدُ القبر، لأنه في جانب. قال الزجاج: ولا
ينبغي لأحد أن يدعوه بما لم يسمِّ به نفسه، فيقول: يا جواد،
ولا يقول: يا سخي ويقول: يا قوي، ولا يقول: يا جلْد، ويقول: يا
رحيم، ولا يقول: يا رفيق، لأنه لم يصف نفسه بذلك. قال أبو
سليمان الخطابي: ودليل هذه الآية أن الغلط في أسمائه والزيغ
عنها إلحادٌ، ومما يُسمع على ألسنة العامة قولهم: يا سبحانُ،
يا برهانُ، وهذا مهجور مستهجن لا قدوة فيه، وربما قال بعضهم:
يا رب طه ويس. وقد أنكر ابن عباس على رجل قال: يا رب القرآن.
وروي عن ابن عباس أن إلحادهم في أسمائه أنهم سمَّوا بها
أوثانهم، وزادوا فيها ونقصوا منها، فاشتقوا اللات من الله،
والعزَّى من العزيز، ومناة من المنَّان.
(فصل:) والجمهور على أن هذه الآية محكمة، لأنها خارجة مخرج
التّهديد، كقوله تعالى: ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً «3»
، وقد ذهب بعضهم إلى أنها منسوخة بآية القتال، لأنّ قوله
تعالى: وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمائِهِ يقتضي
الإِعراض عن الكفار، وهذا قول ابن زيد.
__________
باطل، عزاه المصنف لمقاتل، وهو ممن يضع الحديث، وليس له أصل
بذكر سبب نزول الآية، وورد شيء من هذا في آخر سورة الإسراء،
وسيأتي.
__________
(1) سورة فصلت: 40.
(2) سورة النحل: 103.
(3) سورة المدثر: 11.
(2/172)
وَمِمَّنْ خَلَقْنَا
أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ (181)
وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ
حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ (182) وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي
مَتِينٌ (183)
[سورة الأعراف (7) : آية 181]
وَمِمَّنْ خَلَقْنا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ
يَعْدِلُونَ (181)
قوله تعالى: وَمِمَّنْ خَلَقْنا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ
أي: يعملون به، وَبِهِ يَعْدِلُونَ أي: وبالعمل به يعدلون.
وفيمن أُريد بهذه الآية أربعة أقوال: أحدها: أنهم المهاجرون
والأنصار والتابعون باحسان من هذه الأمة، قاله ابن عباس. وكان
ابن جريج يقول:
(594) ذُكر لنا أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «هذه أُمتي،
بالحق يأخذون ويعطون ويقضون.
(595) وقال قتادة: بلغنا أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلم كان
إذا تلا هذه الآية قال: «هذه لكم وقد أعطي القومُ مثلها» ثم
يقرأ: وَمِنْ قَوْمِ مُوسى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ
وَبِهِ يَعْدِلُونَ (159) «1» .
والثاني: أنهم من جميع الخلق، قاله ابن السائب. والثالث: أنهم
الأنبياء. والرابع: أنهم العلماء، ذكر القولين الماوردي.
[سورة الأعراف (7) : الآيات 182 الى 183]
وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ
حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ (182) وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي
مَتِينٌ (183)
قوله تعالى: وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا قال أبو صالح عن
ابن عباس: هم أهل مكة. وقال مقاتل:
نزلت في المستهزئين من قريش.
قوله تعالى: سَنَسْتَدْرِجُهُمْ قال الخليل بن أحمد: سنطوي
أعمارهم في اغترار منهم. وقال أبو عبيدة: الاستدراج: أن يُتدرج
إلى الشيء في خُفية قليلاً قليلاً ولا يُهجم عليه، وأصله من
الدَّرَجة، وذلك أن الراقي والنازل يرقى وينزل مَرقاة مرقاة
ومنه: دَرَجَ الكتابَ: إذا طواه شيئاً بعد شيء ودرج القوم: إذا
ماتوا بعضُهم في إثر بعض. وقال اليزيدي: الاستدراج: أن يأتيه
من حيث لا يعلم. وقال ابن قتيبة: هو ان يذيقهم من بأسه قليلاً
قليلاً من حيث لا يعلمون، ولا يباغتهم به ولا يجاهرهم. وقال
الأزهري: سنأخذهم قليلاً قليلاً من حيث لا يحتسبون وذلك أن
الله تعالى يفتح عليهم من النّعيم ما يغتبطون به ويركنون إليه،
ثم يأخذهم على غرَّتهم أغفل ما يكونون. قال الضحاك: كلما جددوا
لنا معصية جددنا لهم نعمة. وفي قوله تعالى: مِنْ حَيْثُ لا
يَعْلَمُونَ قولان: أحدهما: من حيث لا يعلمون بالاستدراج.
والثاني: بالهلكة.
قوله تعالى: وَأُمْلِي لَهُمْ الإملاء: الإمهال والتأخير.
قوله تعالى: إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ قال ابن عباس: إن مَكري
شديد. وقال ابن فارس: الكيد:
المكر فكل شيء عالجته فأنت تَكيدُه. قال المفسرون: مكر الله
وكيده: مجازاة أهل المكر والكيد على نحو ما بيّنا في (البقرة)
«2» و (آل عمران) «3» من ذِكر الاستهزاء والخداع والمكر.
__________
ضعيف جدا. أخرجه الطبري 15469 عن ابن جريج مرسلا، ومع إرساله،
مراسيل ابن جريج واهية، شبه موضوعة كما قال الإمام أحمد، راجع
«الميزان» . وانظر «تفسير ابن كثير» 2/ 338.
ضعيف. أخرجه الطبري 15471 عن قتادة مرسلا. والمرسل من قسم
الضعيف.
__________
(1) سورة الأعراف: 159.
(2) سورة البقرة: 15.
(3) سورة آل عمران: 54.
(2/173)
أَوَلَمْ
يَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ
إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ (184) أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي
مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ
مِنْ شَيْءٍ وَأَنْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ
أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ (185) مَنْ
يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَا هَادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي
طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (186) يَسْأَلُونَكَ عَنِ
السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا
عِنْدَ رَبِّي لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ
ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا تَأْتِيكُمْ
إِلَّا بَغْتَةً يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا قُلْ
إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ
النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (187)
[سورة الأعراف (7) : الآيات 184 الى 186]
أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا ما بِصاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ
هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ مُبِينٌ (184) أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي
مَلَكُوتِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما خَلَقَ اللَّهُ مِنْ
شَيْءٍ وَأَنْ عَسى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ
فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ (185) مَنْ يُضْلِلِ
اللَّهُ فَلا هادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ
يَعْمَهُونَ (186)
قوله تعالى: أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا ما بِصاحِبِهِمْ مِنْ
جِنَّةٍ سبب نزولها:
(596) أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلم، علا على الصفا ليلة،
ودعا قريشاً فخذاً فخذاً: يا بني فلان، يا بني فلان، يا بني
فلان، فحذَّرهم بأس الله وعقابه، فقال قائلهم: إن صاحبكم هذا
لمجنون، بات يصوِّت حتى الصباح، فنزلت هذه الآية، قاله الحسن،
وقتادة.
ومعنى الآية: أو لم يتفكروا فيعلموا ما بصاحبهم من جِنة، أي:
جنون، فحثَّهم على التفكر في أمره ليعلموا أنه بريء من الجنون،
إِنْ هُوَ أي: ما هو إِلَّا نَذِيرٌ أي: مخوِّف مُبِينٌ يبيِّن
طريق الهدى. ثم حثهم على النظر المؤدي إلى العلم فقال:
أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ
ليستدلوا على أن لها صانعاً مدبراً وقد سبق بيان الملكوت في
(الأنعام) «1» .
قوله تعالى: وَما خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْ عَسى أَنْ
يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ قرأ ابن مسعود، وأبيٌّ،
والجحدري: «آجالهم» . ومعنى الآية: أو لم ينظروا في الملكوت
وفيما خلق الله من الأشياء كلِّها، وفي أنْ عسى أن تكون آجالهم
قد قربت فيهلِكوا على الكفر، ويصيروا إلى النار، فَبِأَيِّ
حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ يعني القرآن وما فيه من البيان.
ثم ذكر سبب إعراضهم عن الإيمان، فقال: مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ
فَلا هادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ قرأ ابن كثير ونافع وابن عامر:
«ونذرهم» بالنون والرفع. وقرأ أبو عمرو بالياء وبالرّفع.
وقرأ حمزة والسكائيّ: «ويذرْهُم» بالياء مع الجزم خفيفة، فمن
قرأ بالرفع استأنف، ومن جزم «ويذرْهم» عطفَ على موضع الفاء.
قال سيبويه: وموضعها جزْم فالمعنى: من يضلل الله يَذَرْه وقد
سبق في سورة (البقرة) «2» معنى الطّغيان والعمه.
[سورة الأعراف (7) : آية 187]
يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها قُلْ إِنَّما
عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي لا يُجَلِّيها لِوَقْتِها إِلاَّ هُوَ
ثَقُلَتْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لا تَأْتِيكُمْ إِلاَّ
بَغْتَةً يَسْئَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْها قُلْ إِنَّما
عِلْمُها عِنْدَ اللَّهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا
يَعْلَمُونَ (187)
قوله تعالى: يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ في سبب نزولها
قولان:
(597) أحدهما: أن قوماً من اليهود قالوا: يا محمد، أخبرنا متى
الساعة؟ فنزلت هذه الآية، قاله ابن عباس.
__________
ضعيف جدا بهذا اللفظ. أخرجه الطبري 15472 عن قتادة مرسلا، ومع
إرساله ذكره قتادة بصيغة التمريض، وحديث وقوفه صلّى الله عليه
وسلم على الصفا في الصحيح، والوهن في هذا الخبر ذكر نزول
الآية، وأنكر من ذلك قوله «حتى الصباح» فهذا باطل لأنه صلّى
الله عليه وسلم إنما نادى الناس صباحا، فاجتمعوا فلما سمعوا ما
يدعوهم إليه قال أبو لهب ما قال، فتفرق الناس.
باطل. أخرجه الطبري 15474 عن ابن عباس وفي إسناده محمد بن أبي
محمد وهو مجهول، والمتن باطل لأن السورة مكية، وسؤالات يهود
مدنية. وذكره الواحدي في أسباب «النزول» 458 من حديث ابن عباس.
__________
(1) سورة الأنعام: 75.
(2) سورة البقرة: 15.
(2/174)
(598) والثاني: أن قريشاً قالت: يا محمد،
بيننا وبينك قرابة، فبيِّن لنا متى الساعة؟ فنزلت هذه الآية،
قاله قتادة. وقال عروة: الذي سأله عن الساعة عتبة بن ربيعة.
والمراد بالسّاعة ها هنا التي يموت فيها الخلق.
قوله تعالى: أَيَّانَ مُرْساها قال أبو عبيدة: أي: متى
مُرساها؟ أي: منتهاها. ومرسى السفينة:
حيث تنتهي. وقال ابن قتيبة: «أيّان» بمعنى: متى و «متى» بمعنى:
أيّ حين، ونرى أن أصلها: أيّ أوانٍ فحذفت الهمزة والواو، وجعل
الحرفان واحداً، ومعنى الآية: متى ثبوتها؟ يقال: رسا في الأرض،
أي: ثبت، ومنه قيل للجبال: رواسي. قال الزجاج: ومعنى الكلام:
متى وقوعها؟
قوله تعالى: قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي أي: قد
استأثر بعلمها لا يُجَلِّيها أي: لا يظهرها في وقتها إِلَّا
هُوَ. قوله تعالى: ثَقُلَتْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ فيه
أربعة أقوال «1» : أحدها: ثَقُل وقوعها على أهل السماوات
والأرض، قاله ابن عباس، ووجهه أن الكلَّ يخافونها، محسنهم
ومسيئهم. والثاني: عظُم شأنها في السماوات والأرض، قاله عكرمة،
ومجاهد، وابن جريج. والثالث: خفي أمرها، فلم يُعلم متى كونها،
قاله السدي. والرابع: أن «في» بمعنى «على» فالمعنى: ثقلت على
السماوات والأرض، قاله قتادة. قوله تعالى: لا تَأْتِيكُمْ
إِلَّا بَغْتَةً أي: فجأة.
قوله تعالى: كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْها فيه أربعة أقوال: أحدها:
أنه من المقدَّم والمؤخَّر، فتقديره:
يسألونك عنها كأنك حفيّ، أي: برّ بهم، كقوله تعالى: إِنَّهُ
كانَ بِي حَفِيًّا. قال العوفي عن ابن عباس، وأسباط عن السدي:
كأنك صديق لهم. والثاني: كأنك حفي بسؤالهم، مجيب لهم. قال ابن
أبي طلحة عن ابن عباس: كأنك يعجبك سؤالهم. وقال خصيف عن مجاهد:
كأنّك تحبّ أن يسألونك عنها. وقال الزجاج: كأنك فَرِح بسؤالهم.
والثالث: كأنك عالم بها، قاله الضحاك عن ابن عباس، وهو قول ابن
زيد، والفراء. والرابع: كأنك استحفيت السؤال عنها حتى علمتها،
قاله ابن ابي نجيح عن مجاهد. وقال عكرمة: كأنّك مسؤول عنها.
وقال ابن قتيبة: كأنك معنيٌّ بطلب علمها. وقال ابن الانباري:
فيه تقديم وتأخير، تقديره: يسألونك عنها كأنك حفيٌّ بها،
والحفيُّ في كلام العرب: المعنيُّ.
قوله تعالى: قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللَّهِ أي: لا
يعلمها إلا هو وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ قال
مقاتل في آخرين: المراد بالنّاس ها هنا أهل مكّة.
__________
ضعيف. أخرجه الطبري 15473 عن قتادة مرسلا، فهو ضعيف. وذكره
الواحدي في «أسباب النزول» 459 عن قتادة مرسلا.
__________
(1) قال الطبري في «تفسيره» 6/ 138: وأولى ذلك عندي بالصواب
قول من قال: معنى ذلك: ثقلت الساعة في السماوات والأرض على
أهلها أن يعرفوا وقتها وقيامها، لأن الله تعالى ذكره أخفى ذلك
عن خلقه، فلم يطلع عليه منهم أحد، وذلك أن الله أخبر بذلك بعد
قوله قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي لا يُجَلِّيها
لِوَقْتِها إِلَّا هُوَ، وأخبر بعده أنها لا تأتي إلا بغتة،
فالذي هو أولى: أن يكون ما بين ذلك أيضا خبرا عن خفاء علمها عن
الخلق، إذ كان ما قبله وما بعده كذلك.
(2/175)
قُلْ لَا أَمْلِكُ
لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ
وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ
الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ
وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (188) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ
مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ
إِلَيْهَا فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفًا
فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللَّهَ
رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحًا لَنَكُونَنَّ مِنَ
الشَّاكِرِينَ (189) فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحًا جَعَلَا لَهُ
شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا
يُشْرِكُونَ (190) أَيُشْرِكُونَ مَا لَا يَخْلُقُ شَيْئًا
وَهُمْ يُخْلَقُونَ (191)
وفي قوله تعالى: لا يَعْلَمُونَ قولان:
أحدهما: لا يعلمون أنها كائنة، قاله مقاتل. والثاني:
لا يعلمون أن هذا مما استأثر الله بعلمه، قاله أبو سليمان
الدّمشقي.
[سورة الأعراف (7) : آية 188]
قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرًّا إِلاَّ ما
شاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاسْتَكْثَرْتُ
مِنَ الْخَيْرِ وَما مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلاَّ
نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (188)
قوله تعالى: قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرًّا
سبب نزولها.
(599) أن أهل مكة قالوا: يا محمد، ألا يخبرك ربك بالسعر الرخيص
قبل أن يغلو، فتشتري فتربح، وبالأرض التي تريد أن تُجدب،
فترتحل عنها إلى ما قد أخصب؟ فنزلت هذه الآية، روي عن ابن
عباس.
وفي المراد بالنفع والضر قولان: أحدهما: أنه عامّ في جميع ما
ينفع ويضر، قاله الجمهور.
والثاني: أن النفع: الهدى، والضَّر: الضلالة، قاله ابن جريج.
قوله تعالى: إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ أي: إلا ما أراد أن أملكه
بتمليكه إياي ومن هو على هذه الصفة فكيف يعلم علم الساعة؟
قوله تعالى: وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ فيه أربعة
أقوال: أحدها: لو كنت أعلم بجدب الأرض وقحط المطر قبل كون ذلك
لهيَّأت لسنة الجدب ما يكفيها، قاله أبو صالح عن ابن عباس.
والثاني: لو كنت أعلم ما أربح فيه إذا اشتريته لاستكثرت من
الخير، قاله الضحاك عن ابن عباس. والثالث: لو كنت أعلم متى
أموت لا لاستكثرت من العمل الصالح، قاله مجاهد. والرابع: لو
كنت أعلم ما أسأل عنه من الغيب لأَجبت عنه. وَما مَسَّنِيَ
السُّوءُ أي: لم يلحقني تكذيب، قاله الزجاج. فأما الغيب، فهو
كل ما غاب عنك. ويخرج في المراد بالخير ها هنا ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه العمل الصالح. والثاني: المال.
والثالث: الرزق.
قوله تعالى: وَما مَسَّنِيَ السُّوءُ فيه أربعة اقوال: أحدها:
أنه الفقر، قاله ابن عباس. والثاني: أنه كل ما يسوء، قاله ابن
زيد. والثالث: الجنون، قاله الحسن. والرابع: التكذيب، قاله
الزجاج. فعلى قول الحسن، يكون هذا الكلام مبتدأ، والمعنى: وما
بي من جنون إنما أنا نذير، وعلى باقي الأقوال يكون متعلّقا بما
قبله.
[سورة الأعراف (7) : الآيات 189 الى 191]
هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْها
زَوْجَها لِيَسْكُنَ إِلَيْها فَلَمَّا تَغَشَّاها حَمَلَتْ
حَمْلاً خَفِيفاً فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا
اللَّهَ رَبَّهُما لَئِنْ آتَيْتَنا صالِحاً لَنَكُونَنَّ مِنَ
الشَّاكِرِينَ (189) فَلَمَّا آتاهُما صالِحاً جَعَلا لَهُ
شُرَكاءَ فِيما آتاهُما فَتَعالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ
(190) أَيُشْرِكُونَ ما لا يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ
يُخْلَقُونَ (191)
قوله تعالى: هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ
يعني بالنفس: آدم، وبزوجها: حواء. ومعنى لِيَسْكُنَ إِلَيْها:
ليأنس بها ويأتي إليها. فَلَمَّا تَغَشَّاها أي: جامعها. قال
الزجاج: وهذا أحسن
__________
لا أصل له، عزاه المصنف لابن عباس، وهو من رواية الكلبي عن أبي
صالح، وهي رواية ساقطة كما تقدم مرارا. وذكره الواحدي في
«أسباب النزول» 461 عن الكلبي مرسلا.
(2/176)
كناية عن الجماع. والحمل، بفتح الحاء: ما
كان في بطن، أو أخرجتْه شجرة. والحمل، بكسر الحاء:
ما يُحمل. والمراد بالحمل الخفيف: الماء.
قوله تعالى: فَمَرَّتْ بِهِ أي: استمرَّت به، قعدت وقامت ولم
يُثقلها. وقرأ سعد بن أبي وقاص، وابن مسعود، وابن عباس،
والضحاك: «فاستمرت به» وقرأ أُبَيُّ بن كعب، والجونيّ:
«فاستمارّت به» بزيادة ألف. وقرأ عبد الله بن عمرو، والجحدري:
«فمارَّت به» بألف وتشديد الراء.
وقرأ أبو العالية، وأيوب، ويحيى بن يعمر: «فَمَرَتْ به» خفيفة
الراء، أي: شكّت وتمارت أحملت، أم لا؟ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ،
أي: صار حملها ثقيلاً. وقال الأخفش: صارت ذا ثقل. يقال:
أثمرنا، أي: صرنا ذوي ثمر.
قوله تعالى: دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُما يعني آدم وحواء لَئِنْ
آتَيْتَنا صالِحاً وفي المراد بالصالح قولان:
أحدهما: أنه الإنسان المشابه لهما، وخافا أن يكون بهيمة، هذا
قول الأكثرين. والثاني: أنه الغلام، قاله الحسن، وقتادة.
(شرح السبب في دعائهما) (600) ذكر أهل التفسير أن إبليس جاء
حواء، فقال: ما يدريك ما في بطنكِ، لعله كلب أو خنزير أو حمار
وما يدريك من أين يخرج، أيشق بطنك، أم يخرج من فيك، أو من
منخريك؟ فأحزنها ذلك، فدعوا الله حينئذ، فجاء إبليس فقال: كيف
تجدينك؟ قالت: ما أستطيع القيام إذا قعدت، قال: أفرأيت إن دعوت
الله، فجعله إنساناً مثلك ومثل آدم، أتسمينه باسمي؟ قالت: نعم.
فلما ولدته سويَّاً، جاءها إبليس فقال: لم لا تُسمِّينه بي كما
وعدتني، فقالت: وما اسمك؟ قال: الحارث، وكان اسم إبليس في
الملائكة الحارث، فسمته: عبد الحارث، وقيل: عبد شمس برضى آدم،
فذلك قوله تعالى:
__________
ورد هذا السياق مرفوعا، وهو منكر جدا، بل هو باطل. أخرجه
الترمذي 3077 والحاكم 2/ 545 والطبري 15524 من حديث سمرة،
وإسناده ضعيف، الحسن سمع من سمرة فقط حديث العقيقة، وباقي
أحاديثه عنه أخذها عن بعض من سمع سمرة، وفيه عمر بن إبراهيم
العبدي وهو منكر الحديث وبخاصة في روايته عن قتادة. وقد خالفه
غير واحد فرواه الطبري 15525 و 15526 موقوفا، وهو الصحيح. وقال
الترمذي عقب الحديث: حسن غريب ورواه بعضهم فلم يرفعه، وصححه
الحاكم! وسكت الذهبي! مع أنه عاد فذكره في «الميزان» 6042 في
ترجمة عمر العبدي، وقال: صححه الحاكم وهو منكر كما ترى اه.
وورد موقوفا على ابن عباس أخرجه الطبري 15527 و 15528 وموقوفا
على قتادة 15531 و 15532، وموقوفا على عكرمة 15530 وعلى مجاهد
15533 وعلى سعيد بن جبير 15534 و 15535، وموقوفا على السدي
15536 وهذا هو الصواب. وهو متلقى عن أهل الكتاب، ولا يصح
مرفوعا البتة، والمتن في غاية النكارة، لا يصح نسبة الشرك إلى
نبي الله آدم عليه السلام أبدا.
ومما يدل على بطلانه هو أن الحسن- وهو أحد رواته- فسر هذه
الآية بخلاف هذا الحديث فقد أخرج الطبري 15537 عن الحسن قال:
كان ذلك في بعض أهل الملل، ولم يكن بآدم. و 15538 عن معمر عن
الحسن قال: عني بذلك ذرية آدم. و 15539 عن قتادة عن الحسن قال:
هم اليهود والنصارى اه.
وهذه روايات صحيحة عن ثلاثة أثبات رووها عن الحسن فيدل هذا على
أن الحديث المرفوع من أوهام عمر العبدي ومنكراته والراجح أن
هذا الخبر من الإسرائيليات. وانظر «تفسير ابن كثير» عند هذه
الآية بتخريجي.
(2/177)
أَيُشْرِكُونَ مَا لَا
يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ (191)
فَلَمَّا آتاهُما صالِحاً جَعَلا لَهُ
شُرَكاءَ. قرأ ابن كثير، وابن عامر، وأبو عمرو، وحمزة،
والكسائي، وحفص عن عاصم: «شركاء» بضم الشين والمدّ، جمع شريك.
وقرأ نافع، وأبو بكر عن عاصم: «شِركاً» مكسورة الشين على
المصدر، لا على الجمع. قال أبو علي: من قرأ «شِرْكاً» حذف
المضاف، كأنه أراد: جعلا له ذا شِرك، وذوي شريك فيكون المعنى:
جعلا لغيره شِركاً، لأنه إذا كان التقدير: جَعلا له ذوي شرك،
فالمعنى: جعلا لغيره شركاً وهذه القراءة في المعنى كقراءة من
قرأ «شركاء» . وقال غيره: معنى «شركاء» : شريكاً، فأوقع الجمع
موقع الواحد كقوله تعالى: الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ
إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ «1» . والمراد بالشريك:
إبليس، لأنهما أطاعاه في الاسم، فكان الشرك في الطاعة، لا في
العبادة ولم يقصدا أن الحارثَ ربُّهما، لكن قصدا أنه سبب نجاة
ولدهما وقد يُطلَق العبد على من ليس بمملوك. قال الشاعر:
وإني لَعبدُ الضَّيف ما دَامَ ثَاوياً ... وما فيَّ إلا تِلْكَ
مَنْ شِيْمَةِ العَبْدِ «2»
وقال مجاهد: كان لا يعيش لآدم ولد، فقال الشيطان: إذا وُلد
لكما ولد فسمياه عبد الحارث، فأطاعاه في الاسم، فذلك قوله
تعالى: جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ فِيما آتاهُما، هذا قول الجمهور،
وفيه قول ثان، رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: ما أشرك
آدم، إن أول الآية لَشكر، وآخرها مَثَل ضربه الله لمن يعبده في
قوله عزّ وجلّ: جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ فِيما آتاهُما. وروى
قتادة عن الحسن، قال: هم اليهود والنصارى، رزقهم الله أولاداً
فهوَّدوهم ونصَّروهم. وروي عن الحسن، وقتادة قالا: الضمير في
قوله:
«جعلا له شركاء» عائد إلى النفس وزوجه من ولد آدم، لا إلى آدم
وحواء. وقيل: الضمير راجع إلى الولد الصالح، وهو السليم
الخلْق، فالمعنى: جعل له ذلك الولدُ شركاء. وإنما قال: «جعلا»
لأن حواء كانت تلد في كل بطن ذكراً وأُنثى. قال ابن الأنباري:
الذين جعلوا له شركاء اليهود والنصارى وغيرهم من الكفار الذين
هم أولاد آدم وحواء. فتأويل الآية: فلما آتاهما صالحاً، جعل
أولادُهُما له شركاء، فحذف الأولاد وأقامهما مقامهم كما قال:
وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ «3» . وذهب السدي إلى أن قوله: فَتَعالَى
اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ في مشركي العرب خاصة، وأنها مفصولة
عن قصة آدم وحوّاء.
[سورة الأعراف (7) : آية 191]
أَيُشْرِكُونَ ما لا يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ
(191)
قوله تعالى: أَيُشْرِكُونَ ما لا يَخْلُقُ شَيْئاً قال ابن
زيد: هذه لآدم وحواء حيث سمّيا ولدهما عبد شمس، والشمس لا تخلق
شيئاً. وقال غيره: هذا راجع إلى الكفار حيث أشركوا بالله
الاصنام، وهي لا تخلق شيئا. وقوله تعالى: وَهُمْ يُخْلَقُونَ
أي: وهي مخلوقة. قال ابن الأنباري: وإنما قال: «ما» ثم قال:
«وهم يُخلَقون» لأن «ما» تقع على الواحد والاثنين والجميع
وإنما قال: «وهم» وهو يعني الأصنام، لأن عابديها أدّعَوا أنها
تعقل وتميِّز، فأجريت مجرى الناس، فهو كقوله تعالى:
__________
(1) سورة آل عمران: 173.
(2) البيت منسوب إلى المقنع الكندي في «الحماسة» 3/ 1180.
(3) سورة يوسف: 82.
(2/178)
وَلَا يَسْتَطِيعُونَ
لَهُمْ نَصْرًا وَلَا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ (192) وَإِنْ
تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لَا يَتَّبِعُوكُمْ سَوَاءٌ
عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صَامِتُونَ (193)
إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ
أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ
كُنْتُمْ صَادِقِينَ (194) أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا
أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ
يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا قُلِ
ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلَا تُنْظِرُونِ (195)
إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ
يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ (196)
رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ «1» ، وقوله
تعالى: يا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ «2» ،
وقوله تعالى: وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ «3» ، قال
الشاعر:
تمزَّزْتُها والدِّيكُ يَدْعُو صَبَاحَهُ ... إذَا مَا بَنُو
نَعْشٍ دنَوْا فتصوَّبُوا «4»
وأنشد ثعلب لعبدة بن الطبيب:
إذْ أشْرَفَ الدِّيكُ يَدْعُو بَعْضَ أُسْرَتِه ... لَدَى
الصَّبَاحِ وَهُمْ قَوْمٌ مَعَازِيْلُ «5»
لمّا جعله يدعو، جعل الدِّيَكَة قوماً، وجعلهم معازيل، وهم
الذين لا سلاح معهم، وجعلهم أسرة وأسرة الرجل: رهطه وقومه.
[سورة الأعراف (7) : آية 192]
وَلا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْراً وَلا أَنْفُسَهُمْ
يَنْصُرُونَ (192)
قوله تعالى: وَلا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْراً يقول: إن
الأصنام لا تستطيع نصر مَنْ عبدها، ولا تمنع من نفسها.
[سورة الأعراف (7) : آية 193]
وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدى لا يَتَّبِعُوكُمْ سَواءٌ
عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صامِتُونَ (193)
قوله تعالى: وَإِنْ تَدْعُوهُمْ فيه قولان: أحدهما: أنها ترجع
إلى الأصنام، فالمعنى: وإن دعوتم أيها المشركون أصنامكم إلى
سبيل رشاد لا يتبعوكم، لأنهم لا يعقلون. والثاني: أنها ترجع
إلى الكفار، فالمعنى: وإن تدع يا محمد هؤلاء المشركين إلى
الهدى، لا يتَّبعوكم، فدعاؤكم إياهم وصمتكم عنهم سواء، لأنهم
لا ينقادون إلى الحق. وقرأ نافع «لا يَتْبعوكم» بسكون التاء.
[سورة الأعراف (7) : الآيات 194 الى 196]
إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبادٌ
أَمْثالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ
كُنْتُمْ صادِقِينَ (194) أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِها
أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِها أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ
يُبْصِرُونَ بِها أَمْ لَهُمْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها قُلِ
ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلا تُنْظِرُونِ (195)
إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتابَ وَهُوَ
يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ (196)
قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ
يعني الأصنام عِبادٌ أَمْثالُكُمْ في أنهم مسخَّرون مذلَّلون
لأمر الله. وإنما قال «عباد» وقال: فَادْعُوهُمْ، وإن كانت
الأصنام جماداً، لما بيّنا عند قوله تعالى: وَهُمْ
يُخْلَقُونَ.
قوله تعالى: فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ أي: فليجيبوكم إِنْ
كُنْتُمْ صادِقِينَ أنَّ لكم عندهم نفعاً وثواباً. أَلَهُمْ
أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِها في المصالح أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ
يَبْطِشُونَ بِها في دفع ما يؤذي. وقرأ أبو
__________
(1) سورة يوسف: 4. [.....]
(2) سورة النمل: 18.
(3) سورة يس: 4.
(4) البيت منسوب إلى النابغة الجعدي في «اللسان» نعش. تمززتها:
شربتها قليلا قليلا.
(5) البيت في «المفضليات» : 143. والمعازيل: العزل في السلاح.
(2/179)
وَالَّذِينَ تَدْعُونَ
مِنْ دُونِهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلَا
أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ (197) وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى
الْهُدَى لَا يَسْمَعُوا وَتَرَاهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ
وَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ (198) خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ
بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ (199)
جعفر «يبطشون» بضمّ الطّاء ها هنا وفي
(القصص) «1» و (الدخان) »
. أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِها المنافع من المضار
أَمْ لَهُمْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها تضرعكم ودعاءكم؟ وفي هذا
تنبيه على تفضيل العابدين على المعبودين، وتوبيخ لهم حيث عبدوا
مَنْ هم أفضل منه. قُلِ ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ قال الحسن: كانوا
يخوِّفونه بآلهتهم، فقال الله تعالى: قُلِ ادْعُوا
شُرَكاءَكُمْ، ثُمَّ كِيدُونِ أنتم وهم فَلا تُنْظِرُونِ أي:
لا تؤخِّروا ذلك. وكان ابن كثير، وعاصم، وابن عامر، وحمزة،
والكسائي يقرءون «ثم كيدون» بغير ياء في الوصل والوقف. وقرأ
أبو عمرو، ونافع في رواية ابن حماد بالياء في الوصل. وروى ورش،
وقالون، والمسيِّبي بغير ياء في الوصل، ولا وقف. فأما «تنظرون»
فأثبت فيها الياء يعقوب في الوصل والوقف. إِنَّ وَلِيِّيَ
اللَّهُ أي: ناصري الَّذِي نَزَّلَ الْكِتابَ وهو القرآن، أي:
كما أيّدني بإنزال الكتاب ينصرني.
[سورة الأعراف (7) : آية 197]
وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَطِيعُونَ
نَصْرَكُمْ وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ (197)
قوله تعالى: وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ يعني الأصنام
لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ أي: لا يقدرون على منعكم ممن
أرادكم بسوء، ولا يمنعون أنفسهم من سوء أريد بهم.
[سورة الأعراف (7) : آية 198]
وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدى لا يَسْمَعُوا وَتَراهُمْ
يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لا يُبْصِرُونَ (198)
قوله تعالى: وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدى لا يَسْمَعُوا
في المراد بهؤلاء قولان: أحدهما: أنهم الأصنام.
ثم في قوله تعالى: وَتَراهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ قولان:
أحدهما: يواجهونك، تقول العرب: داري تنظر إلى دارك، وَهُمْ لا
يُبْصِرُونَ لأنه ليس فيهم أرواح. والثاني: وتراهم كأنهم
ينظرون إليك، لأن لهم أعيناً مصنوعة، فأسقط كاف التشبيه، كقوله
تعالى: وَتَرَى النَّاسَ سُكارى
«3» أي: كأنهم سكارى، وَهُمْ لا يُبْصِرُونَ في الحقيقة. وإنما
أخبر عنهم بالهاء والميم، لأنهم على هيئة بني آدم. والقول
الثاني: أنهم المشركون، فالمعنى: وتراهم ينظرون إليك بأعينهم
ولا يبصرون بقلوبهم.
[سورة الأعراف (7) : آية 199]
خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ
الْجاهِلِينَ (199)
قوله تعالى: خُذِ الْعَفْوَ العفو: الميسور، وقد سبق شرحه في
سورة البقرة «4» . وفي الذي أُمر بأخذ العفو منه ثلاثة أقوال:
أحدها: أخلاق الناس، قاله ابن الزبير، والحسن، ومجاهد فيكون
المعنى:
إقبل الميسور من أخلاق الناس، ولا تستقص عليهم فتظهر منهم
البغضاء. والثاني: أنه المال، وفيه قولان: أحدهما: أن المراد
بعفو المال: الزكاة، قاله مجاهد في رواية، والضّحّاك. والثاني:
أنها صدقة كانت تؤخذ قبل فرض الزكاة، ثم نُسخت بالزكاة، روي عن
ابن عباس. والثالث: أن المراد به: مساهلة المشركين والعفو
عنهم، ثم نسخ بآية السيف، قاله ابن زيد.
__________
(1) سورة القصص: 19 قوله تعالى: فَلَمَّا أَنْ أَرادَ أَنْ
يَبْطِشَ.
(2) سورة الدخان: 16 قوله تعالى: يَوْمَ نَبْطِشُ.
(3) سورة الحج: 2.
(4) سورة البقرة: 219.
(2/180)
وَإِمَّا
يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ
إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (200) إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا
إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا
فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ (201)
قوله تعالى: وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ أي
بالمعروف. وفي قوله: وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ قولان:
أحدهما: أنهم المشركون، أُمر بالإِعراض عنهم، ثم نُسخ ذلك بآية
السيف. والثاني: أنه عام فيمن جهل، أُمر بصيانة النفس عن
مقابلتهم على سفههم، وإن وجب عليه الإنكار عليهم. وهذه الآية
عند الأكثرين كلها محكمة، وعند بعضهم أن وسطها محكم وطرفيها
منسوخان على ما بيَّنا.
[سورة الأعراف (7) : الآيات 200 الى 201]
وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ
بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (200) إِنَّ الَّذِينَ
اتَّقَوْا إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ تَذَكَّرُوا
فَإِذا هُمْ مُبْصِرُونَ (201)
قوله تعالى: وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ.
قال ابن زيد:
(601) لما نزلت «خذ العفو» قال النبيّ صلّى الله عليه وسلم:
«يا رب كيف بالغضب» ؟ فنزلت هذه الآية.
فأمّا قوله تعالى: وَإِمَّا فقد سبق بيانه في (البقرة) في
قوله: فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً «1» ، وقال أبو
عبيدة: ومجاز الكلام: وإما تستخفَّنَّك منه خفة وغضب وَعَجَلة.
وقال السدي: النزغ: الوسوسة وحديث النفس. قال الزجاج: النزغ:
أدنى حركة تكون، تقول: قد نزغته: إذا حركته. وقد سبق معنى
الاستعاذة.
قوله تعالى: إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ قرأ ابن كثير وأبو عمرو
والكسائي: «طيف» بغير ألف. وقرأ نافع وعاصم وابن عامر وحمزة:
«طائف» بألف ممدوداً مهموزاً. وقرأ ابن عباس وابن جبير
والجحدري والضحاك: «طَيِّفٌ» بتشديد الياء من غير ألف. وهل
الطائف والطيف بمعنى واحد، أم يختلفان؟ فيه قولان: أحدهما:
أنهما بمعنى واحد، وهما ما كان كالخيال والشيء يُلم بك، حكي عن
الفراء. وقال الأخفش: الطيف أكثر في كلام العرب من الطّائف،
قال الشاعر:
ألا يا لقوم لِطَيْفِ الخَيال ... أرَّقَ مِنْ نَازِحٍ ذي
دَلاَلِ «2»
والثاني: أن الطائف: ما يطوف حول الشيء، والطيف: اللَّمة
والوسوسة والخَطْرة، حكي عن أبي عمرو، وروي عن ابن عباس أنه
قال: الطائف: اللَّمة من الشيطان، والطيف: الغضب. وقال ابن
الأنباري: الطائف: الفاعل من الطيف والطيف عند أهل اللغة:
اللَّمم من الشيطان وزعم مجاهد أنه الغضب.
قوله تعالى: تَذَكَّرُوا فيه ثلاثة أقوال: أحدهما: تذكَّروا
الله إذا همُّوا بالمعاصي فتركوها، قاله مجاهد. والثاني:
تفكَّروا فيما أوضح الله لهم من الحجة، قاله الزجاج. والثالث:
تذكَّروا غضب الله
__________
ضعيف جدا. أخرجه الطبري 15564 عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم
وهذا معضل، ومع ذلك ابن زيد ضعيف ليس بشيء، إن وصل الحديث فكيف
إذا أرسله؟!.
__________
(1) سورة البقرة: 38.
(2) البيت لأمية بن عائذ في شرح «أشعار الهذليين» 2/ 494.
الطيف: ما جاء في المنام. الدلال: الشكل والهيئة الحسنة.
النازح: البعيد. الأرق: أن يغمض عينه مرة ويفتحها أخرى.
(2/181)
وَإِخْوَانُهُمْ
يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لَا يُقْصِرُونَ (202)
وَإِذَا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ قَالُوا لَوْلَا
اجْتَبَيْتَهَا قُلْ إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يُوحَى إِلَيَّ
مِنْ رَبِّي هَذَا بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى
وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (203)
والمعنى: إذا جرّأهم الشيطان على ما لا
يحل، تذكَّروا غضب الله فأمسكوا، فاذا هم مبصرون لمواضع الخطأ
بالتّفكر.
[سورة الأعراف (7) : آية 202]
وَإِخْوانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الغَيِّ ثُمَّ لا
يُقْصِرُونَ (202)
قوله تعالى: وَإِخْوانُهُمْ في هذه الهاء والميم قولان:
أحدهما: أنها عائدة على المشركين فتكون هذه الآية مقدَّمة على
التي قبلها، والتقدير: وأعرض عن الجاهلين، وإخوان الجاهلين،
وهم الشياطين يَمُدُّونَهُمْ فِي الغَيِّ قرأ نافع: «يمدونهم»
بضم الياء وكسر الميم. والباقون: بفتح الياء وضم الميم. قال
أبو علي: عامة ما جاء في التنزيل فيما يُحمَد ويُستَحب: أمددت،
على أفعلت، كقوله تعالى: أَتُمِدُّونَنِ بِمالٍ «1» أَنَّما
نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مالٍ «2» وَأَمْدَدْناهُمْ بِفاكِهَةٍ
«3» ، وما كان على خلافه يجيء على: مددت كقوله تعالى:
وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ «4» فهذا يدل على أن الوجه فتح
الياء، إلّا أنّ وجه قراءة نافع منزلة فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ
أَلِيمٍ «5» . قال المفسرون: «يمدونهم في الغي» أي: يزيِّنونه
لهم، ويريدون منهم لزومه فيكون معنى الكلام: أن الذين اتَّقَوا
إذا جرَّهم الشيطان إلى خطيئة، تابوا منها، وإخوان الجاهلين،
وهم الشياطين، وقد جرى ذكرهم لقوله تعالى: مِنَ الشَّيْطانِ
فالمعنى: وإخوان الشياطين يَمدُّونهم.
والثاني: أن الهاء والميم ترجع إلى المتقين فالمعنى: وإخوان
المتقين من المشركين، وقيل: من الشياطين يمدونهم في الغي، أي:
يريدون من المسلمين أن يدخلوا معهم في الكفر، ذكر هذا القول
جماعة منهم ابن الأنباري. فان قيل: كيف قال: «وإخوانهم» وليسوا
على دينهم؟ فالجواب: أنا إن قلنا: إنهم المشركون، فجائز أن
يكونوا إخوانهم في النسب، أو في كونهم من بني آدم، أو لكونهم
يظهرون النصح كالإخوان فإن قلنا: إنهم الشياطين، فجائز أن
يكونوا لكونهم مصاحبين لهم، والقول الأول أصح.
قوله تعالى: ثُمَّ لا يُقْصِرُونَ وقرأ الزهري وابن أبي عبلة:
«لا يقصِّرون» بالتشديد. قال الزجاج: يقال: أقصر يُقْصِر،
وقصّر يقصِّر. قال ابن عباس: لا الإنس يقصِّرون عما يعملون من
السيئات ولا الشياطين تُقصِر عنهم فعلى هذا يكون قوله تعالى:
يُقْصِرُونَ من فعل الفريقين، وهذا على القول المشهور ويخرّج
على القول الثاني أن يكون هذا وصفا للإخوان فقط.
[سورة الأعراف (7) : آية 203]
وَإِذا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ قالُوا لَوْلا اجْتَبَيْتَها
قُلْ إِنَّما أَتَّبِعُ ما يُوحى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي هذا
بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ
يُؤْمِنُونَ (203)
قوله تعالى: وَإِذا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ يعني به المشركين.
وفي معنى الكلام قولان: أحدهما: إذا لم تأتهم
__________
(1) سورة النمل: 36.
(2) سورة المؤمنون: 55.
(3) سورة الطور: 22.
(4) سورة البقرة: 15. [.....]
(5) سورة التوبة: 34.
(2/182)
وَإِذَا قُرِئَ
الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ
تُرْحَمُونَ (204)
بآية، سألوها تعنتاً، قاله ابن السائب.
والثاني: إذا لم تأتهم بآية لإبطاء الوحي، قاله مقاتل: وفي
قوله:
لَوْلا اجْتَبَيْتَها قولان: أحدهما: هلاَّ افتعلتها من تلقاء
نفسك، قاله ابن عباس، ومجاهد، وقتادة، والسدي، وابن زيد،
والفراء، والزجاج، وابن قتيبة في آخرين، وحكي عن الفراء أنه
قال: العرب تقول: اجتبيت الكلام، واختلقته، وارتجلته: إذا
افتعلته من قبل نفسك. والثاني: هلاَّ طلبتها لنا قبل مسألتك؟
ذكره الماوردي والأول أصح.
قوله تعالى: قُلْ إِنَّما أَتَّبِعُ ما يُوحى إِلَيَّ مِنْ
رَبِّي أي: ليس الأمر لي.
قوله تعالى: هذا بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ يعني القرآن. قال أبو
عبيدة: البصائر بمعنى الحجج والبرهان والبيان، واحدتها: بصيرة.
وقال الزجاج: معنى البصائر: ظهور الشيء وبيانه.
[سورة الأعراف (7) : آية 204]
وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا
لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (204)
قوله تعالى: وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ
اختلفوا في نزولها على خمسة أقوال.
(602) أحدها: أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلم قرأ في الصلاة
المكتوبة، فقرأ أصحابه وراءه رافعين أصواتهم، فنزلت هذه الآية،
قاله ابن عباس.
(603) والثاني: أن المشركين كانوا يأتون رسول الله صلّى الله
عليه وسلم إذا صلى، فيقول بعضهم لبعض: لا تسمعوا لهذا القرآن
والغَوا فيه، فنزلت هذه الآية، قاله سعيد بن المسيب.
(604) والثالث: أن فتى من الأنصار كان كلّما قرأ النبيّ صلّى
الله عليه وسلم شيئاً، قرأ هو، فنزلت هذه الآية، قاله الزهري.
(605) والرابع: أنهم كانوا يتكلمون في صلاتهم أول ما فُرضت،
فيجيء الرجل فيقول لصاحبه:
كم صليتم؟ فيقول: كذا وكذا، فنزلت هذه الآية، قاله قتادة.
(606) والخامس: أنها نزلت تأمر بالإنصات للامام في الخطبة يوم
الجمعة، روي عن عائشة، وسعيد بن جبير، وعطاء، ومجاهد، وعمرو بن
دينار في آخرين.
__________
لم أره مسندا، فهو لا شيء لخلوه عن الإسناد.
باطل. عزاه المصنف لابن المسيب، ولم أقف عليه، وهو باطل لا يصح
عنه، فإن الخطاب في الآية للمؤمنين، وسياق الخبر يدل على أن
الخطاب للمشركين!!!
ضعيف. أخرجه الطبري 15594 عن الزهري مرسلا، والمرسل من قسم
الضعيف. وذكره الواحدي في «أسباب النزول» 465 عن الزهري مرسلا.
ضعيف. أخرجه الطبري 15610 عن قتادة به، وهذا مرسل، فهو ضعيف.
وذكره الواحدي في «أسباب النزول» 464 عن قتادة.
لم أره عن عائشة، وورد عن بعض التابعين، ولا يصح شيء من ذلك
أخرجه الطبري 15620 و 15621 عن مجاهد قوله. و 15622 عن منصور
قال: سمعت إبراهيم بن أبي حمزة يحدث أنه سمع مجاهدا. وأخرجه
الطبري 15623 عن عطاء قال: وجب الصموت في اثنتين عند الرجل
يقرأ القرآن وهو يصلي، وعند الإمام وهو يخطب. وكرره 15624 و
15626 عن مجاهد نحوه. وكرره 15627 عن بقية بن الوليد قال سمعت
ثابت بن عجلان يقول: سمعت سعيد بن جبير يقول ... وكرره 15629
عن عطاء نحوه.
(2/183)
وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي
نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ
الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ وَلَا تَكُنْ مِنَ
الْغَافِلِينَ (205) إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لَا
يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ
يَسْجُدُونَ (206)
[سورة الأعراف (7) : آية 205]
وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ
الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ وَلا تَكُنْ
مِنَ الْغافِلِينَ (205)
قوله تعالى: وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ في هذا الذكر
أربعة أقوال «1» : أحدها: أنه القراءة في الصلاة، قاله ابن
عباس فعلى هذا، أُمر أن يقرأ في نفسه في صلاة الإسرار.
والثاني: أنه القراءة خلف الإمام سراً في نفسه، قاله قتادة.
والثالث: أنه ذِكْرُ الله باللسان. والرابع: أنه ذِكر الله
باستدامة الفكر، لا يغفل عن الله تعالى، ذكر القولين الماوردي.
وفي المخاطب بهذا الذِكر قولان: أحدهما: أنه المستمع للقرآن،
إما في الصلاة، وإما من الخطيب، قاله ابن زيد. والثاني: أنه
خطاب النبيّ صلّى الله عليه وسلم، ومعناه عام في جميع
المكلفين.
قوله تعالى: تَضَرُّعاً وَخِيفَةً التضرع: الخشوع في تواضع
والخيفة: الحذر من عقابه.
قوله تعالى: وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ الجهر: الإِعلان
بالشيء ورجل جهير الصوت: إذا كان صوته عالياً. وفي هذا نص على
أنه الذِّكر باللسان ويحتمل وجهين: أحدهما: قراءة القرآن.
والثاني:
الدعاء، وكلاهما مندوب إلى إخفائه، إلا أن صلاة الجهر قد بيّن
أدبها في قوله تعالى: وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ
بِها «2» . فأما الغدوُّ: فهو جمع غُدوة والآصال: جمع أُصُل،
والأُصُل جمع أصيل فالآصال جمع الجمع، والآصال: العشيات. وقال
أبو عبيدة: هي ما بين العصر إلى المغرب وأنشد:
لَعَمْري لأَنْتَ البيتُ أُكْرِمُ أهلَه ... وأقْعُدُ في
أفيائه بالأصَائِل «3»
وروي عن ابن عباس أنه قال: يعني بالغدوّ: صلاة الفجر وبالآصال:
صلاة العصر.
[سورة الأعراف (7) : آية 206]
إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ
عِبادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ (206)
قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يعني الملائكة. لا
يَسْتَكْبِرُونَ أي: لا يتكبَّرون ويتعظَّمون
__________
(1) قال الحافظ ابن كثير في «تفسيره» 2/ 353- 354. الآية
وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ ... : أي اذكر ربك في نفسك
رهبة ورغبة وبالقول لا جهرا ولهذا قال وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ
الْقَوْلِ وهكذا يستحب أن يكون الذكر، لا يكون نداء وجهرا
بليغا. ولهذا لما سألوا رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقالوا:
أقريب ربنا فنناجيه أم بعيد فنناديه، فأنزل الله وَإِذا
سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ
الدَّاعِ إِذا دَعانِ. وكذا قال في هذه الآية الكريمة وَدُونَ
الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ.. وَلا
تَكُنْ مِنَ الْغافِلِينَ. وقد زعم ابن جرير وعبد الرحمن بن
زيد بن أسلم قبله: أن المراد بهذه الآية السامع للقرآن في حال
استماعه بالذكر على هذه الصفة. وهذا بعيد مناف للإنصات المأمور
به. ثم المراد بذلك في الصلاة، كما تقدم، أو الصلاة والخطبة.
ومعلوم أن الإنصات إذ ذاك أفضل من الذكر باللسان، سواء كان سرا
أو جهرا فهذا الذي قالاه لم يتابعا عليه. بل المراد الحض على
كثرة الذكر من العباد بالغدو والآصال، لئلا يكون من الغافلين
وبهذا مدح الملائكة الذين يسبحون الليل والنهار ولا يفترون
فقال إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ
عِبادَتِهِ الآية. وإنما ذكرهم بهذا التشبيه بهم في كثرة
طاعتهم وعبادتهم، ولهذا شرع لنا السجود ها هنا لما ذكر سجودهم
لله عز وجل. وهذه أول سجدة في القرآن مما يشرع لتاليها
ومستمعها السجود بالإجماع.
(2) سورة الإسراء: 110.
(3) البيت لأبي ذؤيب الهذلي كما في «ديوانه» 1/ 141.
(2/184)
عَنْ عِبادَتِهِ، وفي هذه العبادة قولان:
أحدهما: الطّاعة. الثاني: الصّلاة والخضوع فيها. وفي قوله
تعالى: وَيُسَبِّحُونَهُ قولان: أحدهما: ينزِّهونه عن السوء.
والثاني: يقولون: سبحان الله. قوله تعالى:
وَلَهُ يَسْجُدُونَ أي: يصلّون. وقيل: سبب نزول هذه الآية أن
كفار مكة قالوا: أنسجد لما تأمُرنا؟
فنزلت هذه الآية تخبر أن الملائكة وهم أكبر شأنا، لا يتكبَّرون
عن عبادة الله. وقد روى أبو هريرة عن النبيّ صلّى الله عليه
وسلم أنه قال:
(607) «إذا قرأ ابن آدم السجدة فسجد، اعتزل الشيطان يبكي
ويقول: يا ويله، أمر هذا بالسجود فسجد فله الجنة، وأُمرتُ
بالسّجود فعصيت فلي النّار» .
__________
حديث صحيح. أخرجه مسلم 81 وابن ماجة 1052 وأحمد 2/ 443 وابن
خزيمة 549 وابن حبان 2759 والبغوي في «شرح السنة» 654 من حديث
أبي هريرة.
(2/185)
|