زاد المسير في علم التفسير

بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (1)

سورة التّوبة

[سورة التوبة (9) : آية 1]
بَراءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (1)
فصل في نزولها: هي مدنية باجماعهم، سوى الآيتين اللتين في آخرها لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ «1» فانها نزلت بمكة.
(662) روى البخاري في «صحيحه» من حديث البراء قال: آخر سورة نزلت براءة. وقد نُقل عن بعض العرب أنه سمع قارئاً يقرأ هذه السورة، فقال الأعرابي: إني لأحسب هذه من آخر ما نزل من القرآن. قيل له: ومن أين علمت؟ فقال: إني لأسمع عهوداً تُنْبَذُ، ووصايا تُنَفَّذ.
فصل: واختلفوا في أول ما نزل من (براءة) على ثلاثة أقوال: أحدها: أن أول ما نزل منها قوله تعالى: لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَواطِنَ كَثِيرَةٍ «2» ، قاله مجاهد. والثاني: انْفِرُوا خِفافاً وَثِقالًا «3» ، قاله أبو الضحى وأبو مالك. والثالث: إِلَّا تَنْصُرُوهُ «4» ، قاله مقاتل. وهذا الخلاف إنما هو في أول ما نزل منها بالمدينة، فانهم قد قالوا: نزلت الآيتان اللتان في آخرها بمكة.
فصل: ولها تسعة أسماء: أحدها: سورة التوبة. والثاني: براءة وهذان مشهوران بين الناس.
والثالث: سورة العذاب، قاله حذيفة. والرابع: المُقَشْقِشَة، قاله ابن عمر. والخامس: سورة البَحوث، لأنها بحثت عن سرائر المنافقين، قاله المقداد بن الأسود. والسادس: الفاضحة، لأنها فضحت المنافقين، قاله ابن عباس. والسابع: المبعثِرة، لأنها بعثرت أخبار الناس وكشفت عن سرائرهم، قاله الحارث بن يزيد وابن إسحاق. والثامن: المثيرة، لأنها أثارت مخازي المنافقين ومثالبهم، قاله قتادة.
والتاسع: الحافرة، لأنها حفرت عن قلوب المنافقين، قاله الزّجّاج.
__________
صحيح. أخرجه البخاري 4364 و 4605 و 4654 و 6744 ومسلم 1618 ح 11 و 1618 ح 13. وأبو داود 2888 والترمذي 3044 و 3045 من حديث البراء.
__________
(1) سورة التوبة: 128.
(2) سورة التوبة: 25.
(3) سورة التوبة: 41.
(4) سورة التوبة: 40.

(2/230)


فصل: وفي سبب امتناعهم من كتابة التسمية في أولها ثلاثة أقوال:
(663) أحدها: رواه ابن عباس، قال: قلت لعثمان بن عفان: ما حملكم على أن عمدتم إلى (الأنفال) وهي من المثاني، وإلى (براءة) وهي من المئين، فقرنتم بينهما ولم تكتبوا بينهما «بسم الله الرّحمن الرّحيم» ؟ فقال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أُنزل عليه الشيء يدعو بعضَ مَن يكتب، فيقول: «ضعوا هذا في السورة التي يذكر فيها كذا وكذا» ، وكانت (الأنفال) من أوائل ما نزل بالمدينة، و (براءة) من آخر القرآن، وكانت قصتها شبيهة بقصتها وقُبِض رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يُبيِّن لنا أنها منها، فظننا أنها منها فمن ثَمَّ قرنتُ بينهما ولم أكتب بينهما: «بسم الله الرحمن الرحيم» . وذُكر نحو هذا المعنى عن أُبَيِّ بن كعب. قال الزجاج: والشبه الذي بينهما، أن في (الأنفال) ذكر العهود، وفي (براءة) نقضها. وكان قتادة يقول: هما سورة واحدة.
والثاني: رواه محمد ابن الحنفية، قال: قلت لأبي: لِمَ لم تكتبوا في (براءة) «بسم الله الرحمن الرحيم» ؟ فقال: يا بنيَّ، إن (براءة) نزلت بالسيف، وإن «بسم الله الرحمن الرحيم» أمانٌ. وسئل سفيان بن عيينة عن هذا، فقال: لأن التسمية رحمة، والرحمة أمان، وهذه السورة نزلت في المنافقين.
والثالث: أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، لما كتب في صلح الحديبية «بسم الله الرحمن الرحيم» ، لم يقبلوها وردُّوها، فما ردها الله عليهم «1» ، قاله عبد العزيز بن يحيى المكي.
فصل: فأما سبب نزولها.
(664) فقال المفسرون: أخذت العرب تنقض عهوداً بَنَتْها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمره الله تعالى بالقاء عهودهم إليهم، فأنزل براءة في سنة تسع، فبعث رسول الله أبا بكر أميراً على الموسم ليقيم للناس
__________
ضعيف، أخرجه أبو داود 786 و 787 والترمذي 3086 والنسائي في «الكبرى» 8007 وابن حبان 43 والحاكم 2/ 221 وابن أبي داود في «المصاحف» ص 39 والبغوي 1028- بترقيمي- والبيهقي في «السنن» 2/ 42 و «الدلائل» 7/ 152- 153 من طرق عن عوف بن أبي جميلة عن يزيد الفارسي عن ابن عباس به.
وإسناده ضعيف. مداره على يزيد الفارسي. قال عنه الحافظ في «التقريب» : مقبول. أي حيث يتابع، ولم يتابع على هذا الحديث. وقال العلامة أحمد شاكر في «تخريج المسند» 399 ما ملخصه: إنه لا أصل له لأمور:
أولها جهالة يزيد الفارسي حيث تفرد به. ثانيها: فيه تشكيك في معرفة سور القرآن الثابتة بالتواتر القطعي.
ثالثها: فيه تشكيك في إثبات البسملة في أوائل السور، كأن عثمان- كان يثبتها برأيه وينفيها برأيه، وحاشاه من ذلك. فلا علينا إذا قلنا: إنه حديث لا أصل له. ونقل كلامه الشيخ شعيب في «الإحسان» 1/ 232 ووافقه.
وذكره الألباني في «ضعيف أبي داود» 786 و 787. وأما الحاكم فقال: صحيح على شرط الشيخين! ووافقه الذهبي! وقال الترمذي: حديث حسن وانظر «أحكام القرآن» لابن العربي 1075 و 1028 و «تفسير الشوكاني» 1075 بتخريجنا.
ذكره ابن هشام في «السيرة» 4/ 145- 146 بأتم منه عن ابن إسحاق وهذا معضل. وورد من مرسل السدي، أخرجه الطبري 16392. وورد من مرسل أبي جعفر محمد بن علي بن الحسين، أخرجه الطبري 16391 بنحوه. فهذه الروايات مرسلة لا تقوم بها حجة، فإن الصحيح أن أبا بكر أتبع بعلي من دون أن يرجع أبو بكر.
وانظر «أحكام القرآن» 1084 بتخريجنا.
__________
(1) لا يصح هذا السبب: وهو رأي لعبد العزيز، وليس بشيء وحديث صلح الحديبية متفق عليه. وتقدم.

(2/231)


الحج في تلك السنة، وبعث معه صدراً من (براءة) ليقرأها على أهل الموسم، فلما سار دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم علياً، فقال: «اخرج بهذه القصة من صدر براءة وأذِّن في الناس بذلك» ، فخرج عليٌّ على ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم العضباء حتى أدرك أبا بكر، فرجع أبو بكر فقال: يا رسول الله، أُنزِل في شأني شيء؟
قال: «لا، ولكن لا يبلغ عني إلا رجل مني، أما ترضى أنك كنتَ صاحبي في الغار، وأنك صاحبى على الحوض» ؟ قال: بلى يا رسول الله. فسار أبو بكر أميراً على الحج، وسار علي ليؤذِّن ب «براءة» .
فصل: وفي عدد الآيات التي بعثها رسول الله صلى الله عليه وسلم من أول براءة خمسة أقوال: أحدها: أربعون آية، قاله عليٌّ عليه السلام. والثاني: ثلاثون آية، قاله أبو هريرة. والثالث: عشر آيات، قاله أبو صالح عن ابن عباس. والرابع: سبع آيات، رواه ابن جريج عن عطاء. والخامس: تسع آيات، قاله مقاتل.
فصل: فان توهَّم مُتَوهِّمٌ أن في أخذ (براءة) من أبي بكر، وتسليمها إلى عليٍّ، تفضيلاً لعليٍّ على أبي بكر، فقد جهل لأن النبي صلى الله عليه وسلم أجرى العرب في ذلك على عادتهم. قال الزجاج: وقد جرت عادة العرب في عقد عهدها ونقضها، أن يتولىَّ ذلك على القبيلة رجل منها فكان. وجائز أن تقول العرب إذا تلا عليها نقضَ العهد مَن ليس من رهط النبي صلى الله عليه وسلم: هذا خلاف ما نعرف فينا في نقض العهود، فأزاح النبيّ صلى الله عليه وسلم العلّة بما فعل. وقال عمرو بن بحر: ليس هذا بتفضيل لعليٍّ على أبي بكر، وإنما عاملهم بعادتهم المتعارفة في حَلِّ العقد، وكان لا يتولىَّ ذلك إلا السَّيِّدُ منهم، أو رجل من رهطه دَنِيّاً، كأخ، أو عم وقد كان أبو بكر في تلك الحَجة الإمام، وعليٌّ يأتمُّ به، وأبو بكر الخطيب، وعليّ يستمع.
(665) وقال أبو هريرة: بعثني أبو بكر في تلك الحجة مع المؤذِّنين الذين بعثهم يؤذِّنون بمنى:
أن لا يحج بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان فأذَّن معنا علي ب (براءة) وبذلك الكلام.
(666) وقال الشعبي: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم علياً يؤذن بأربع كلمات: «ألا لا يحج بعد العام مشرك، ألا ولا يطوف بالبيت عريان، ألا ولا يدخل الجنة إلا مسلم، ألا ومن كانت بينه وبين محمّد
__________
صحيح. أخرجه البخاري 3177 و 4655 و 4656 ومسلم 1347 وأبو داود 1946 والنسائي 76 والبيهقي 5/ 87 والبغوي في «التفسير» 1031- بترقيمي- من طرق عن الزهري عن حميد بن عبد الرحمن بن عوف عن أبي هريرة به، واللفظ للبخاري في روايته: الثانية والثالثة.
جيد. أخرجه الطبري 1639، وفي الباب روايات. وللحديث شواهد: أخرجه الترمذي 3092 والحاكم 3/ 52 والطبري 16387 و 16393 من طرق عن أبي إسحاق عن زيد بن يثيع عن علي به، وإسناده حسن، زيد بن يثيع، قال عنه الحافظ في «التقريب» : ثقة. وأما الذهبي فقال في «الميزان» 3032: ما روى عنه سوى أبي إسحاق. وهذا منه إشارة إلى جهالته. قلت: ذكره الحافظ في «تهذيب التهذيب 3/ 1369، وذكره ابن حبان في الثقات، وقال العجلي: تابعي ثقة. وقال ابن سعد: كان قليل الحديث اه ملخصا. فينبغي أن يكون حسن الحديث، لا سيما، وقد توبع على هذا المتن، فقد ورد من طريق الحارث الأعور عن علي. أخرجه الطبري 16385، وإسناده ضعيف لضعف الحارث، وكرره 16388 من هذا الوجه. وله شاهد من حديث أبي هريرة، أخرجه أحمد 2/ 299 والحاكم 2/ 331 وإسناده لا بأس به، وصححه الحاكم والذهبي. الخلاصة:
هو حديث حسن أو صحيح بمجموع طرقه وشواهده، والله أعلم. وانظر «تفسير الشوكاني» 1081 بتخريجي، وصححه الحاكم على شرطهما! ووافقه الذهبي!. وقال الترمذي: هذا حديث حسن. وانظر أحكام القرآن 1083 بتخريجنا.

(2/232)


فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ (2)

مدَّة فأجله إلى مدته، والله بريء من المشركين ورسوله» .
فصل: فأما التفسير، فقوله تعالى: بَراءَةٌ قال الفراء: هي مرفوعة باضمار «هذه» ، ومثله سُورَةٌ أَنْزَلْناها «1» . وقال الزجاج: يقال: بَرِئْتُ من الرجل والدَّيْن براءةً، وبرئتُ من المرض وبرأتُ أيضاً أبرأُ برءا، وقد رووا: برأت أبرأ بروءا. ولم نجد في ما لامه همزة: فَعَلْتُ أفعل، إلا هذا الحرف. ويقال: بريت القلم، وكل شيء نحتَّه: أبريه بَرْياً، غير مهموز. وقرأ أبو رجاء، ومورق، وابن يعمر: «براءةً» بالنصب. قال المفسرون: والبراءة هاهنا: قطع الموالاة، وارتفاع العصمة، وزوال الأمان. والخطاب في قوله تعالى: إِلَى الَّذِينَ عاهَدْتُمْ لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، والمراد رسول الله صلى الله عليه وسلم، لأنه هو الذي يتولَّى المعاهدة، وأصحابُه راضون فكأنهم بالرضا عاهدوا أيضاً وهذا عام في كل من عاهد رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال مقاتل: هم ثلاثة أحياء من العرب: خزاعة، وبنو مدلج، وبنو جذيمة.

[سورة التوبة (9) : آية 2]
فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكافِرِينَ (2)
قوله تعالى: فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أي: انطلقوا فيها آمنين لا يقع بكم مِنَّا مكروه.
إن قال قائل: هذه مخاطبة شاهد، والآية الأولى إخبار عن غائب، فعنه جوابان:
أحدهما: أنه جائز عند العرب الرجوع من الغيبة إلى الخطاب. قال عنترة:
شَطَّتْ مَزارُ العاشِقينَ فأصبَحتْ ... عَسِراً عليَّ طِلابُكِ ابنةَ مَخْرَمِ «2»
هذا قول أبي عبيدة. والثاني: أن في الكلام إضماراً، تقديره: فقل لهم: سيحوا في الارض، أي: اذهبوا فيها، وأقبلوا، وأدبروا، وهذا قول الزجاج.
واختلفوا فيمن جُعلت له هذه الأربعة الأشهر على أربعة أقوال «3» : أحدها: أنها أمان لأصحاب
__________
(1) سورة النور: 2. [.....]
(2) البيت منسوب إلى عنترة، في شرح القصائد السبع الطوال 299 وقوله: شطت: أي بعدت.
(3) قال الطبري رحمه الله في تفسيره 6/ 305: وأولى الأقوال في ذلك بالصواب، قول من قال: الأجل الذي جعله الله لأهل العهد من المشركين، وأذن لهم بالسياحة فيه بقوله فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ إنما هو لأهل العهد الذين ظاهروا على رسول الله صلى الله عليه وسلم ونقضوا عهدهم قبل انقضاء مدته، فأما الذين لم ينقضوا عهدهم ولم يظاهروا عليه، فإن الله جل ثناؤه أمر نبيه صلى الله عليه وسلم بإتمام العهد بينه وبينهم إلى مدته بقوله إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً ... [التوبة: 4] . فإن ظن ظان أن قول الله تعالى ذكره فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ. [التوبة: 5] . يدل على خلاف ما قلنا في ذلك إذ كان ذلك ينبئ على أن الفرض على المؤمنين كان بعد انقضاء الأشهر الحرم، قتل كل مشرك فإن الأمر في ذلك بخلاف ما ظن، وذلك أن الآية التي تتلو ذلك تبين عن صحة ما قلنا، وفساد ما ظنه من ظن أن انسلاخ الأشهر الحرم كان يبيح قتل كل مشرك كان له عهد من رسول الله صلى الله عليه وسلم أو لم يكن كان له منه عهد وذلك قوله كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ فَمَا اسْتَقامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ [التوبة: 7] . فهؤلاء مشركون، وقد أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم والمؤمنين بالاستقامة لهم في عهدهم، ما استقاموا لهم بترك نقض صلحهم، وترك مظاهرة عدوهم عليهم. وبعد نفي الأخبار المتظاهرة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنه حين بعث عليا رحمة الله عليه ببراءة إلى أهل العهود بينه وبينهم، أمره فيما أمره أن ينادي به فيهم.
«ومن كان بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد فعهده إلى مدته» . أوضح دليل على صحة ما قلنا. وذلك أن الله لم يأمر نبيه صلى الله عليه وسلم بنقص عهد قوم كان عهدهم إلى أجل فاستقاموا على عهدهم بترك نقضه. وأنه إنما أجل أربعة أشهر من كان قد نقض عهده قبل التأجيل أو من كان له عهد إلى أجل غير محدود. فأما من كان أجل عهده محدودا، ولم يجعل بنقضه على نفسه سبيلا فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان بإتمام عهده إلى غاية أجله مأمورا. وبذلك بعث مناديه ينادي به في أهل الموسم من العرب. ا. هـ.

(2/233)


وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (3)

العهد، فمن كان عهده أكثر منها، حُطَّ إليها، ومن كان عهده أقل منها، رفع إليها، ومن لم يكن له عهد، فأجله انسلاخ المحرَّم خمسون ليلة، قاله ابن عباس، وقتادة، والضحاك. والثاني: أنها للمشركين كافَّةً، مَنْ له عهد، ومَنْ ليس له عهد، قاله مجاهد، والزهري، والقرظي. والثالث: أنها أجل لمن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد آمنه أقلَّ من أربعة أشهر، أو كان أمانه غير محدود فأما من لا أمان له، فهو حرب، قاله ابن إِسحاق. والرابع: أنها أمان لمن لم يكن له أمان ولا عهد فأما أرباب العهود، فهم على عهودهم إلى حين انقضاء مُددهم، قاله ابن السائب. ويؤكده ما روي أن علياً نادى يومئذ ومَن كان بينه وبين رسول الله عهد، فعهده إلى مدَّته. وفي بعض الألفاظ: فأجله أربعة أشهر.
واختلفوا في مدة هذه الأربعة الأشهر على أربعة أقوال «1» : أحدها: أنها الأشهر الحرم: رجب، وذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم، قاله ابن عباس. والثاني: أن أولها يوم الحج الأكبر، وهو يوم النحر، وآخرها العاشر من ربيع الآخر، قاله مجاهد، والسدي، والقرظي. والثالث: أنها شوال، وذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم، لأن هذه الآية نزلت في شوال، قاله الزهري. قال أبو سليمان الدمشقي: وهذا أضعف الأقوال، لأنه لو كان كذلك، لم يجز تأخير إعلامهم به إلى ذي الحجة، إذ كان لا يلزمهم الأمر إلا بعد الإعلام. والرابع: أن أولها العاشر من ذي القعدة، وآخرها العاشر من ربيع الأول، لأن الحج في تلك السنة كان في ذلك اليوم، ثم صار في السنة الثانية في العشر من ذي الحجة.
(667) وفيها حجّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: «إن الزمان قد استدار» ، ذكره الماوردي.
قوله تعالى: وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ أي: وإن أُجِّلْتُمْ هذه الأربعة الأشهر فلن تفوتوا الله.
قوله تعالى: وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكافِرِينَ قال الزجاج: الأجود فتح «أن» على معنى: اعلموا أن، ويجوز كسرها على الاستئناف. وهذا ضمان من الله نصرة المؤمنين على الكافرين.

[سورة التوبة (9) : آية 3]
وَأَذانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذابٍ أَلِيمٍ (3)
__________
حديث صحيح. أخرجه البخاري 3197 و 4662 و 5550. ومسلم 291679. وأبو داود 1947. وأحمد 5/ 37 والبيهقي 5/ 166 من حديث أبي بكرة. وتقدم مطولا.
__________
(1) قال الطبري رحمه الله في تفسيره 6/ 308: وأما الأشهر الأربعة، فإنها كانت أجل وكان ابتداؤها يوم الحج الأكبر، وانقضاؤها انقضاء عشر من ربيع الآخر، فذلك أربعة أشهر متتابعة، جعل لأهل العهد الذين وصفنا أمرهم فيها السياحة في الأرض ينجون حيث شاؤوا، لا يعرض لهم فيها من المسلمين أحد بحرب ولا قتل ولا سلب ا. هـ.

(2/234)


قوله تعالى: وَأَذانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ أي: إعلام ومنه أَذان الصلاة. وقرأ الضحاك، وأبو المتوكل، وعكرمة، والجحدري، وابن يعمر: «وَإِذْنٌ» بكسر الهمزة وقصرها ساكنة الذال من غير ألف.
قوله تعالى: إِلَى النَّاسِ أي: للناس. يقال: هذا إعلام لك، وإليك. والناس ها هنا عامّ في المؤمنين والمشركين. وفي يوم الحج الأكبر ثلاثة أقوال «1» : أحدها: أنه يوم عرفة، قاله عمر بن الخطاب، وابن الزبير، وأبو جحيفة، وطاوس، وعطاء. والثاني: يوم النحر، قاله أبو موسى الأشعري، والمغيرة بن شعبة، وعبد الله بن أبي أوفى، وابن المسيب، وابن جبير، وعكرمة، والشعبي، والنخعي، والزهري، وابن زيد، والسدي في آخرين. وعن علي، وابن عباس، كالقولين. والثالث: أنه أيام الحج كلُّها، فعبَّر عن الأيام باليوم، قاله سفيان الثوري. قال سفيان. كما يقال: يوم بعاث، ويوم الجمل، ويوم صفِّين يراد به: أيام ذلك، لان كل حرب من هذه الحروب دامت أياماً. وعن مجاهد، كالأقوال الثلاثة. وفي تسميته بيوم الحج الأكبر ثلاثة أقوال «2» : أحدها: أنه سمَّاه بذلك لأنه اتفق في سنة حج فيها المسلمون والمشركون، ووافق ذلك عيدَ اليهود والنصارى، قاله الحسن. والثاني: أن الحج الأكبر: هو الحج، والأصغر: هو العمرة، قاله عطاء، والشعبي. والثالث: أن الحج الأكبر: القِران، والأصغر: الإفراد، قاله مجاهد.
قوله تعالى: أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ وقرأ الحسن، ومجاهد، وابن يعمر: «إِن الله» بكسر الهمزة. مِنَ الْمُشْرِكِينَ أي: من عهد المشركين، فحذف المضاف. وَرَسُولِهِ رفعٌ على الابتداء، وخبره مضمر على معنى: ورسولُه أيضا بريء. وقرأ أبو رزين، وأبو مجلز، وأبو رجاء، ومجاهد، وابن يعمر، وزيد عن يعقوب: «ورسولَه» بالنصب. ثم رجع إلى خطاب المشركين بقوله تعالى: فَإِنْ تُبْتُمْ أي: رجعتم عن الشرك، وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ عن الإيمان.
__________
(1) قال الطبري رحمه الله تعالى في «تفسيره» 6/ 316: وأولى الأقوال في ذلك عندنا بالصحة قول من قال: «يوم الحج الأكبر، يوم النحر» تظاهرت الأخبار عن جماعة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن عليا نادى بما أرسله به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الرسالة إلى المشركين، وتلا عليهم (براءة) يوم النحر، هذا، مع الأخبار التي ذكرناها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال يوم النحر: أتدرون أي يوم هذا؟ هذا يوم الحج الأكبر. وبعد فإن «اليوم» إنما يضاف إلى المعنى بالذي يكون فيه، كقول الناس «يوم عرفة» وذلك يوم وقوف الناس بعرفة، «يوم الأضحى» وذلك يوم يضحون فيه، و «يوم الفطر» وذلك يوم يفطرون فيه. وكذلك «يوم الحج» يوم يحجون فيه، وإنما يحج الناس ويقضون مناسكهم يوم النحر، لأن في ليلة نهار يوم النحر، الوقوف بعرفة غير فائت إلى طلوع الفجر، وفي صبيحتها يعمل أعمال الحج. فأما يوم عرفة، فإنه وإن كان فيه الوقوف بعرفة، فغير فائت الوقوف به إلى طلوع الفجر من ليلة النحر، والحج كله يوم النحر. وأما ما قال مجاهد: من أن «يوم الحج» إنما هو أيامه كلها، فإن ذلك وإن كان جائزا في كلام العرب، فليس بالأشهر الأعرف في كلام العرب من معانيه، بل الأغلب على معنى «اليوم» عندهم أنه من غروب الشمس إلى مثله من الغد وإنما محمل تأويل كتاب الله على الأشهر الأعرف من كلام من نزل الكتاب بلسانه.
(2) وقال الطبري رحمه الله تعالى في «تفسيره» 6/ 318: وأولى هذه الأقوال بالصواب في ذلك عندي، قول من قال «الحج الأكبر» «الحج» لأنه أكبر من العمرة بزيادة عمله على عملها، فقيل له: «الأكبر» لذلك، وأما «الأصغر» فالعمرة لأن عملها أقل من عمل الحج، فلذلك قيل لها «الأصغر» لنقصان عملها من عمله.

(2/235)


إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (4) فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5)

[سورة التوبة (9) : آية 4]
إِلاَّ الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً وَلَمْ يُظاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَداً فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (4)
قوله تعالى: إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قال أبو صالح عن ابن عباس: فلما قرأ علي (براءة) ، قالت بنو ضمرة: ونحن مثلهم أيضاً؟ قال: لا، لأن الله تعالى قد استثناكم ثم قرأ هذه الآية.
وقال مجاهد: هم قوم كان بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد ومدة، فأُمر أن يفي لهم. قال الزجاج: معنى الكلام: وقعت البراءة من المعاهدين الناقضين للعهود، إلا الذين عاهدتم ثم لم ينقضوكم، فليسوا داخلين في البراءة ما لم ينقضوا العهد. قال القاضي أبو يعلى: وفضل الخطاب في هذا الباب: أنه قد كان بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين جميع المشركين عهد عامٌّ، وهو أن لا يُصدَّ أحدٌ عن البيت، ولا يُخافَ أحد في الشهر الحرام، فجعل الله عهدهم أربعة أشهر وكان بينه وبين أقوام منهم عهود إلى آجال مسمَّاة، فأُمر بالوفاء لهم وإتمام مدّتهم إذا لم يخش غدرهم.

[سورة التوبة (9) : آية 5]
فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5)
قوله تعالى: فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فيها قولان: أحدهما: أنها رجب، وذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم، قاله الأكثرون. والثاني: أنها الأربعة الأشهر التي جُعلت لهم فيها السياحة، قاله الحسن في آخرين، فعلى هذا، سميت حُرُماً لأن دماء المشركين حرِّمت فيها.
قوله تعالى: فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ أي: مَن لم يكن له عهد حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ قال ابن عباس: في الحلّ والأشهر الحرم. قوله تعالى: وَخُذُوهُمْ أي: ائسروهم والأخيذ: الأسير. وَاحْصُرُوهُمْ أي:
احبسوهم والحصر: الحبس. قال ابن عباس: إن تحصَّنوا فاحصروهم. قوله تعالى: وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ قال الأخفش: أي: على كل مرصد فألقى «على» وأعمل الفعل، قال الشاعر:
نُغالي اللحمَ للأضيافِ نِيئاً ... ونرخصه إذ نَضِجَ القُدُور «1»
المعنى: نغالي باللحم، فحذف الباء كما حذف «على» . وقال الزجاج: «كل مرصد» ظرف، كقولك: ذهبتُ مذهباً، فلستَ تحتاج أن تقول في هذه إلا ما تقوله في الظروف، مثل: خلف، وقُدّام.
قوله تعالى: فَإِنْ تابُوا أي: من شركهم. وفي قوله تعالى: وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ قولان: أحدهما: اعترفوا بذلك. والثاني: فعلوه.
فصل: واختلف علماء الناسخ والمنسوخ في هذه الآية على ثلاثة أقوال: أحدها: أن حكم الأسارى كان وجوبَ قتلهم، ثم نسخ بقوله تعالى: فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً «2» ، قاله الحسن، وعطاء في آخرين. والثاني: بالعكس، وأنه كان الحكم في الأسارى: أنه لا يجوز قتلهم صبرا، وإنما يجوز المنّ
__________
(1) البيت غير منسوب في «اللسان» غلى. نغالي للحم: نشتريه غاليا ثم نبذله ونطعمه إذا نضج في قدورنا.
(2) سورة محمد: 4.

(2/236)


وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْلَمُونَ (6) كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (7)

أو الفداء بقوله تعالى: فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً ثم نُسخ بقوله تعالى: فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ، قاله مجاهد، وقتادة. والثالث: أن الآيتين محكمتان، والأسير إذا حصل في يد الإمام، فهو مخيَّر، إن شاءَ مَنَّ عليه، وإن شاء فاداه، وإن شاء قتله صبراً، أيَّ ذلك رأى فيه المصلحة للمسلمين فعلَ، هذا قول جابر بن زيد، وعليه عامة الفقهاء، وهو قول الإمام أحمد.

[سورة التوبة (9) : آية 6]
وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْلَمُونَ (6)
قوله تعالى: وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ قال المفسرون: وإن أحد من المشركين الذين أمرتك بقتلهم استأمنك يبتغي أن يسمع القرآن وينظر فيما أُمر به ونُهي عنه، فأَجِرْه، ثم أبلغه الموضع الذي يأمن فيه. وفي قوله تعالى: ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْلَمُونَ قولان: أحدهما: أن المعنى: ذلك الذي أمرناك به من أن يُعرَّفوا ويُجاروا لجهلهم بالعلم. والثاني: ذلك الذي أمرناك به من ردِّه إلى مأمنه إذا امتنع من الإيمان، لأنهم قوم جهلة بخطاب الله.

[سورة التوبة (9) : آية 7]
كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ إِلاَّ الَّذِينَ عاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ فَمَا اسْتَقامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (7)
قوله تعالى: كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ أي: لا يكون لهم ذلك، إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وفيهم ثلاثة أقوال «1» : أحدها: أنهم بنو ضمرة، قاله ابن عباس. والثاني: أنهم قريش، قاله ابن عباس أيضاً. وقال قتادة: هم مشركو قريش الذين عاهدهم نبيُّ الله صلى الله عليه وسلم زمن الحديبية، فنكثوا وظاهروا المشركين. والثالث: أنهم خزاعة، قاله مجاهد.
(668) وذكر أهل العلم بالسِّيَر أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لما صالح سهيل بن عمرو في غزوة الحديبية، كتب بينه وبينه: «هذا ما اصطلح عليه محمد بن عبد الله وسهيل بن عمرو، اصطلحا على وضع الحرب عشر سنين يأمن فيها الناس، ويكفُّ بعضهم عن بعض، على أنه لا إسلال ولا إغلال، وأن بيننا عيبةً مكفوفةً، وأنَّه من أحب أن يدخل في عهد محمد وعقده فعل، ومن أحبّ أن يدخل في عهد قريش
__________
انظر السيرة النبوية 4/ 26- 31.
__________
(1) قال الطبري رحمه الله في «تفسيره» 6/ 324: وأولى الأقوال عندي، قول من قال: هم بعض بني بكر من كنانة، ممن كان أقام على عهده، ولم يكن دخل في نقض ما كان بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين قريش يوم الحديبية من العهد مع قريش، حين نقضوه بمعونتهم حلفاء من بني الدّئل، على حلفاء رسول الله صلى الله عليه وسلم من خزاعة. وإنما قلت: هذا القول أولى الأقوال في ذلك بالصواب، لأن الله أمر نبيه والمؤمنين بإتمام العهد لمن كانوا عاهدوه عند المسجد الحرام، ما استقاموا على عهدهم، وقد بينا أن هذه الآيات إنما نادى بها علي في سنة تسع من الهجرة، وذلك بعد فتح مكة بسنة، فلم يكن بمكة من قريش ولا خزاعة كافر يومئذ بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد، فيؤمر بالوفاء له بعهده ما استقام على عهده، لأن من كان منهم من ساكني مكة، كان قد نقض العهد وحورب قبل نزول الآيات.

(2/237)


كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لَا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً يُرْضُونَكُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ (8)

وعقدها فعل، وأنَّه من أتى محمداً منهم بغير إذن وليه ردَّه إليه، وأنه من أتى قريشاً من أصحاب محمد لم يردُّوه، وأن محمداً يرجع عنَّا عامه هذا بأصحابه، ويدخل علينا في قابل في أصحابه، فيقيم بها ثلاثاً لا يدخل علينا بسلاح، إلا سلاح المسافر، السيوفَ في القُرب» ، فوثبتْ خزاعة فقالوا: نحن ندخل في عهد محمد وعقده، ووثبت بنو بكر فقالوا: نحن ندخل في عهد قريش وعقدها. ثم إن قريشاً أعانت بني بكر على خزاعة بالرجال والسلاح فبيَّتوا خزاعة ليلاً، فقتلوا منهم عشرين رجلاً. ثم إن قريشاً ندمت على ما صَنَعَتْ، وعلموا أنَّ هذا نقضٌ للعهد والمدة التي بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم، وخرج قوم من خزاعة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبروه بما أصابهم، فخرج إليهم وكانت غزاة الفتح. قال أبو عبيدة:
الإسلال: السرقة، والإغلال: الخيانة. قال ابن الأعرابي: وقوله: «وأن بيننا عيبة مكفوفة» مَثَل، أراد:
أنَّ صُلْحَنَا مُحْكَم مُسْتَوْثَقٌ منه، كأنه عيبة مشرجة. وزعم بعض المفسّرين أنّ قوله تعالى: إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ نُسخ بقوله تعالى: فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ.

[سورة التوبة (9) : آية 8]
كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلاًّ وَلا ذِمَّةً يُرْضُونَكُمْ بِأَفْواهِهِمْ وَتَأْبى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فاسِقُونَ (8)
قوله تعالى: كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ قال الزجاج: المعنى: كيف يكون لهم عهد وإن يظهروا عليكم، فحذف ذلك، لأنه قد سبق، قال الشاعر:
وخَبَّرُتماني أنَّما الموتُ بالقُرى ... فكيفَ وهذي هضبةٌ وقليبُ «1»
أي فكيف مات وليس بقرية؟ ومثله قول الحطيئة:
فكيف ولم أَعْلَمْهُمُ خذلوكُمُ ... على مُعظَمٍ ولا أديمَكُمُ قَدُّوا «2»
أي: فكيف تلومونني على مدح قوم؟ واستغنى عن ذكر ذلك، لأنه قد جرى في القصيدة ما يدلّ على ما أضمر. وقوله تعالى: يَظْهَرُوا يعني: يقدروا ويظفروا.
وفي قوله تعالى: لا يَرْقُبُوا ثلاثة أقوال: أحدها: لا يحفظوا، قاله ابن عباس. والثاني: لا يخافوا، قاله السدي. والثالث: لا يراعوا، قاله قطرب.
وفي الإلِّ خمسة أقوال «3» : أحدها: أنه القرابة، رواه جماعة عن ابن عباس، وبه قال الضحاك، والسدي، ومقاتل، والفراء، وأنشدوا:
إنَّ الوشاة كثيرٌ إن أطعتهمُ ... لا يرقبون بنا إلاً ولا ذِمَمَا
وقال الآخر:
__________
(1) البيت لكعب بن سعد الغنوي من مرثيته الشهيرة في «الأصمعيات» 99.
(2) البيت للحطيئة، ديوانه: 140 وقوله خذلوكم على معظم أي: لم يخذلوكم في أمر حدث، وقوله: ولا أديمكم قدّوا، أي: لم يقعوا في حبكم.
(3) قال ابن كثير في «تفسيره» 2/ 420: الصواب قول من قال إلّا: الله عز وجل. هذا القول هو الأشهر والأظهر وعليه الأكثر اه.

(2/238)


اشْتَرَوْا بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (9) لَا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ (10) فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (11)

لعَمْرُكَ إنَّ إلَّكَ مِنْ قُرَيش ... كالِّ السَّقْبِ من رَأْلِ النَّعامِ «1»
والثاني: أنه الجوار، قاله الحسن. والثالث: أنه الله عزّ وجلّ، رواه ابن أبي نجيج عن مجاهد، وبه قال عكرمة. والرابع: أنه العهد، رواه خصيف عن مجاهد، وبه قال ابن زيد، وأبو عبيدة.
والخامس: أنه الحِلْف، قاله قتادة. وقرأ عبد الله بن عمرو وعكرمة وأبو رجاء وطلحة بن مصرّف:
«إيلاً» بياء بعد الهمزة. وقرأ ابن السميفع والجحدري: «ألاً» بفتح الهمزة وتشديد اللام.
وفي المراد بالذمة ثلاثة أقوال: أحدها: أنها العهد، قاله ابن عباس، وسعيد بن جبير، وقتادة، والضحاك في آخرين. والثاني: التذمم ممن لا عهد له، قاله أبو عبيدة، وأنشد:
لاَ يَرْقُبُوْنَ بِنَا إلاً ولا ذِمَمَا
والثالث: الأمان، قاله اليزيديّ، واستشهد بقوله صلى الله عليه وسلم:
(669) «ويسعى بذمتهم أدناهم» .
قوله تعالى: يُرْضُونَكُمْ بِأَفْواهِهِمْ فيه ثلاثة أقوال: أحدها: يرضونكم بأفواههم في الوفاء، وتأبى قلوبهم إلا الغدر. والثاني: يرضونكم بأفواههم في العِدَة بالإيمان، وتأبى قلوبهم إلا الشرك. والثالث:
يرضونكم بأفواههم في الطاعة، وتأبى قلوبهم إلا المعصية، ذكرهنَّ الماوردي.
قوله تعالى: وَأَكْثَرُهُمْ فاسِقُونَ قال ابن عباس: خارجون عن الصّدق، ناكثون للعهد.

[سورة التوبة (9) : الآيات 9 الى 11]
اشْتَرَوْا بِآياتِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (9) لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلاًّ وَلا ذِمَّةً وَأُولئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ (10) فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (11)
قوله تعالى: اشْتَرَوْا بِآياتِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلًا في المشار إليهم قولان: أحدهما: أنهم الأعراب الذين جمعهم أبو سفيان على طعامه، قاله مجاهد. والثاني: أنهم قوم من اليهود، قاله أبو صالح. فعلى الأول، آيات الله: حججه. وعلى الثاني: هي آيات التوراة. والثمن القليل: ما حصَّلوه بدلاً من الآيات. وفي وصفه بالقليل وجهان: أحدهما: لأنه حرام، والحرام قليل. والثاني: لأنه من عَرَض الدنيا الذي بقاؤه قليل. وفي قوله تعالى: فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ ثلاثة أقوال: أحدها: عن بيته، وذلك حين منعوا النبيّ صلى الله عليه وسلم بالحديبية دخول مكّة. والثاني: عن دينه بمنع الناس منه. والثالث: عن طاعته في الوفاء بالعهد.
__________
صحيح. أخرجه أبو داود 4530 والنسائي 8/ 23 وأحمد 1/ 119 و 122 وأبو يعلى 338 من حديث علي وهو حديث صحيح، وتقدم.
__________
(1) البيت منسوب إلى حسان بن ثابت، ديوانه 407، و «اللسان» . ألل.
السقب: ولد الناقة ساعة يولد. الرأل: ولد النعام.

(2/239)


وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ (12)

[سورة التوبة (9) : آية 12]
وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لا أَيْمانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ (12)
قوله تعالى: وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ. قال ابن عباس:
(670) نزلت في أبي سفيان بن حرب، والحارث بن هشام، وسهيل بن عمرو، وعكرمة بن أبي جهل، وسائر رؤساء قريش الذين نقضوا العهد حين أعانوا بني بكر على خزاعة حلفاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يسير إليهم فينصر خزاعة، وهم الذين همّوا بإخراج الرّسول صلى الله عليه وسلم. فأما النّكث، فمعناه: النّقض. والأيمان ها هنا: العهود. والطعن في الدِّين: أن يعاب، وهذا يوجب قتل الذميّ إذا طعن في الإسلام، لأن المأخوذ عليه أن لا يطعن فيه «1» .
قوله تعالى: فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ قرأ عاصم، وابن عامر، وحمزة، والكسائي «أئمة» بتحقيق الهمزتين. وقرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو: بتحقيق الأولى وتليين الثانية. والمراد بأئمة الكفر:
رؤوس المشركين وقادتهم. إِنَّهُمْ لا أَيْمانَ لَهُمْ أي: لا عهود لهم صادقة هذا على قراءة من فتح الألف، وهم الأكثرون. وقرأ ابن عامر «لا إِيمان لهم» بالكسر وفيها وجهان ذكرهما الزجاج:
أحدهما: أنه وصف لهم بالكفر ونفي الإيمان. والثاني: لا أمان لهم، تقول: آمنته إيماناً، والمعنى:
فقد بطل أمانكم لهم بنقضهم.
وفي قوله تعالى: لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ قولان: أحدهما: عن الشّكر. والثاني: عن نقض العهود.
__________
عزاه المصنف لابن عباس، ولم أقف على إسناده وذكره الواحدي في «أسباب النزول» 490 بدون إسناد عن ابن عباس. وأخرجه الطبري 16540 من حديث قتادة مرسلا بنحوه. وقال ابن كثير في «تفسيره» 2/ 420:
والصحيح أن الآية عامة، وإن كان سبب نزولها مشركي قريش فهي عامة لهم ولغيرهم والله أعلم اه.
__________
(1) قال القرطبي في تفسيره «الجامع لأحكام القرآن» 8/ 77- 79: استدل بعض العلماء بهذه الآية على وجوب قتل كل من طعن في الدين، إذ هو كافر، والطعن أن ينسب إليه ما لا يليق به، أو يتعرض بالاستخفاف على ما هو من الدين لما ثبت من الدليل القطعي على صحة أصوله واستقامة فروعه. فذهب مالك والشافعي وابن المنذر إلى قتل من سب النبي صلى الله عليه وسلم. وحكي عن النعمان أنه قال: لا يقتل من سب النبي صلى الله عليه وسلم. وأما الذمي إذا طعن في الدين انتقض عهده في المشهور من مذهب مالك لقوله تعالى: وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ الآية فأمر بقتلهم وقتالهم، وهو مذهب الشافعي. وقال أبو حنيفة: إنه يستتاب، وإن مجرد الطعن لا ينقض به العهد إلا مع وجود النكث، لأن الله عز وجل إنما أمر بقتلهم بشرطين أحدهما نقضهم العهد. والثاني طعنهم في الدين.
وأكثر العلماء على أن من سب النبي صلى الله عليه وسلم من أهل الذمة، أو عرّض أو استخف بقدره أو وصفه بغير الوجه الذي كفر به فإنه يقتل. فإنا لم نعطه الذمة أو العهد على هذا. إلا أبا حنيفة والثوري وأتباعهما من أهل الكوفة فإنهم قالوا لا يقتل ما هو عليه من الشرك أعظم. ولكن يؤدب ويعزر والحجة عليه قوله تعالى: وَإِنْ نَكَثُوا الآية.
وقوله تعالى: فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ. المراد صناديد قريش- في قول بعض العلماء- كأبي جهل وعتبة وشيبة وأمية بن خلف، وهذا بعيد، فإن الآية في سورة (براءة) وحين نزلت وقرئت على الناس كان قد استأصل شأفة قريش فلم يبق إلا مسلم أو مسالم. فيحتمل أن يكون المراد فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ أي من أقدم على نكث العهد والطعن في الدين يكون أصلا ورأسا في الكفر فهو من أئمة الكفر على هذا. ويحتمل أن يعني به المتقدمون والرؤساء منهم، وأن قتالهم قتال لأتباعهم وأنهم لا حرمة لهم. ا. هـ.

(2/240)


أَلَا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (13) قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ (14) وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (15) أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَا رَسُولِهِ وَلَا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (16)

وفي «لعل» قولان: احدهما: أنها بمعنى الترجِّي، المعنى: ليرجى منهم الانتهاء، قاله الزجاج.
والثاني: أنها بمعنى: «كي» ، قاله أبو سليمان الدمشقي.

[سورة التوبة (9) : الآيات 13 الى 15]
أَلا تُقاتِلُونَ قَوْماً نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْراجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَؤُكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (13) قاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ (14) وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (15)
قوله تعالى: أَلا تُقاتِلُونَ قَوْماً قال الزجاج: هذا على وجه التوبيخ، ومعناه الحضّ على قتالهم. قال المفسرون: وهذا نزل في نقض قريش عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي عاهدهم بالحديبية حيث أعانوا على خزاعة.
وفي قوله تعالى: وَهَمُّوا بِإِخْراجِ الرَّسُولِ قولان: أحدهما: أنهم أبو سفيان في جماعة من قريش، كانوا فيمن همّ بإخراج الرّسول صلى الله عليه وسلم من مكة. والثاني: انهم قوم من اليهود، غدروا برسول الله صلى الله عليه وسلم، ونقضوا عهده وهمَّوا بمعاونة المنافقين على إخراجه من المدينة.
قوله تعالى: وَهُمْ بَدَؤُكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فيه قولان: أحدهما: بدءوكم باعانتهم على حلفائكم، قاله ابن عباس. والثاني: بالقتال يوم بدر، قاله مقاتل.
قوله تعالى: أَتَخْشَوْنَهُمْ قال الزجاج: أتخشون أن ينالكم من قتالهم مكروه؟! فمكروه عذاب الله أحق أن يُخشى إن كنتم مصدِّقين بعذابه وثوابه.
قوله تعالى: وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ قال ابن عباس، ومجاهد: يعني خزاعة.
قوله تعالى: وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ أي: كَربها وَوجْدها بمعونة قريشٍ بني بكر عليها.
قوله تعالى: وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلى مَنْ يَشاءُ قال الزجاج: هو مستأنف وليس بجواب «قاتِلوهم» .
وفيمن عُنِي به قولان: أحدهما: بنو خزاعة، والمعنى: ويتوب الله على من يشاء من بني خزاعة، قاله عكرمة. والثاني: أنه عام في المشركين كما تاب على أبي سفيان، وعكرمة، وسهيل. وَاللَّهُ عَلِيمٌ بنيّات المؤمنين، حَكِيمٌ فيما قضى.

[سورة التوبة (9) : آية 16]
أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلا رَسُولِهِ وَلا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (16)
قوله تعالى: أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا في المخاطب بهذا قولان: أحدهما: أنهم المؤمنون، خوطبوا بهذا حين شق على بعضهم القتال، قاله الأكثرون. والثاني: أنهم قوم من المنافقين كانوا يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم الخروج معه إلى الجهاد تعذيراً، قاله ابن عباس. وإنما دخلت الميم في الاستفهام، لأنه استفهام معترض في وسط الكلام، فدخلت لتفرق بينه وبين الاستفهام المبتدأ. قال الفراء: ولو أُريد به الابتداء، لكان إما بالألف، أو ب «هل» ، ومعنى الكلام: أن يتركوا بغير امتحان يبَين به الصادق من

(2/241)


مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ (17) إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (18)

الكاذب. وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ أي: ولمّا تجاهدوا فيعلم الله وجود ذلك منكم وقد كان يعلم ذلك غيباً، فأراد إظهار ما علم ليجازي على العمل. فأما الوليجة، فقال ابن قتيبة: هي البطانة من غير المسلمين، وهو أن يتخذ الرجل من المسلمين دخيلاً من المشركين وخليطاً ووادّاً وأصله من الولوج. قال أبو عبيدة: وكل شيء أدخلته في شيء ليس منه فهو وليجة، والرجل يكون في القوم وليس منهم فهو وليجة فيهم.

[سورة التوبة (9) : الآيات 17 الى 18]
ما كانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَساجِدَ اللَّهِ شاهِدِينَ عَلى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خالِدُونَ (17) إِنَّما يَعْمُرُ مَساجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللَّهَ فَعَسى أُولئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (18)
قوله تعالى: ما كانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَساجِدَ اللَّهِ قرأ ابن كثير، وأبو عمرو: «مسجد الله» على التوحيد، «إنما يعمر مساجدَ الله» على الجمع. وقرأ عاصم، ونافع، وابن عامر، وحمزة، والكسائي على الجمع فيهما.
(671) وسبب نزولها أن جماعة من رؤساء قريش أُسروا يوم بدر فيهم العباس بن عبد المطلب، فأقبل عليهم نفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فعيَّروهم بالشِّرك، وجعل علي بن أبي طالب يوبّخ العبّاس بقتال رسول الله صلى الله عليه وسلم وقطيعة الرّحم، فقال العبّاس: ما لكم تذكرون مساوئنا وتكتمون محاسننا؟ فقالوا:
وهل لكم من محاسن؟ قالوا: نعم، لنحن أفضل منكم أجراً إنا لنعمر المسجد الحرام، ونحجب الكعبة، ونسقي الحجيج، ونفك العاني، فنزلت هذه الآية، قاله مقاتل في جماعة.
وفي المراد بالعِمارة قولان: أحدهما: دخوله والجلوس فيه. والثاني البناء له وإصلاحه فكلاهما محظور على الكافر. والمراد من قوله تعالى: ما كانَ لِلْمُشْرِكِينَ أي: يجب على المسلمين منعهم من ذلك. قال الزّجّاج: وقوله تعالى: شاهِدِينَ حال. المعنى: ما كانت لهم عمارته في حال إقرارهم بالكفر، أُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ لأن كفرهم أذهب ثوابها.
فان قيل: كيف يشهدون على أنفسهم بالكفر، وهم يعتقدون أنهم على الصواب؟ فعنه ثلاثة أجوبة: أحدها: أنه قول اليهودي: أنا يهودي، وقول النصراني: أنا نصراني، قاله السدي. والثاني:
أنهم ثبَّتوا على أنفسهم الكفر بعدولهم عن أمر النبيّ صلى الله عليه وسلم، وهو حق لا يخفى على مميِّز، فكانوا بمنزلة من شهد على نفسه. والثالث: أنهم آمنوا بأنبياء شهدوا لمحمّد صلى الله عليه وسلم بالتصديق، وحرَّضوا على اتِّباعه، فلما آمنوا بهم وكذِّبوه، دلُّوا على كفرهم، وجرى ذلك مجرى الشهادة على أنفسهم بالكفر، لأن الشهادة هي تبيين وإظهار، ذكرهما ابن الأنباري.
فان قيل: ما وجه قوله تعالى: إِنَّما يَعْمُرُ مَساجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ولم يذكر الرسول، والإيمانُ لا يتم إلا به؟ فالجواب: أن فيه دليلاً على الرّسول، لقوله تعالى: وَأَقامَ الصَّلاةَ
__________
عزاه المصنف لمقاتل، وهو ممن يضع الحديث. وذكره الواحدي في «أسباب النزول» 491 من غير غزو لأحد. وانظر ما يأتي.

(2/242)


أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (19) الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ (20) يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ (21) خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (22)

أي: الصلاة التي جاء بها الرسول، قاله الزجاج. فان قيل: فَعَسى ترجّ، وفاعل هذه الخصال مهتد بلا شك. فالجواب أن «عسى» من الله واجبة، قاله ابن عباس. فان قيل: قد يعمر مساجد الله من ليس فيه هذه الصفات. فالجواب: أن المراد أنه من كان على هذه الصفات المذكورة، كان من أهل عمارتها وليس المراد أن من عمرها كان بهذه الصّفة.

[سورة التوبة (9) : الآيات 19 الى 22]
أَجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الْحاجِّ وَعِمارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (19) الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ (20) يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيها نَعِيمٌ مُقِيمٌ (21) خالِدِينَ فِيها أَبَداً إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (22)
قوله تعالى: أَجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الْحاجِّ في سبب نزولها ستة أقوال:
(672) أحدها: رواه مسلم في «صحيحه» من حديث النعمان بن بشير قال: كنت عند منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رجل: ما أبالي أن لا أعمل عملاً بعد الاسلام إلا أن أسقيَ الحاجَّ، وقال الآخر: ما أبالي أن لا أعمل عملاً بعد الاسلام إلا أن أعْمُرَ المسجدَ الحرامَ، وقال آخر: الجهاد في سبيل الله أفضل مما قلتم، فزجرهم عمر، وقال: لا ترفعوا أصواتكم عند منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يوم الجمعة، ولكني إذا صليت الجمعة دخلت فاستفتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما اختلفتم فيه، فنزلت هذه الآية.
(673) والثاني: أن العباس بن عبد المطلب قال يوم بدر: لئن كنتم سبقتمونا بالإسلام والهجرة والجهاد، لقد كنا نَعمُر المسجد الحرام ونسقي الحاج ونفك العاني»
، فنزلت هذه الآية، رواه علي بن أبي طلحة عن ابن عباس.
(674) والثالث: أنّ المشركين قالوا: عمارة البيت الحرام، والقيام على السقاية، خير ممن آمن وجاهد، وكانوا يفتخرون بالحرم من أجل أنهم أهله، فنزلت هذه الآية، رواه عطية العوفي عن ابن عباس.
(675) والرابع: أن علياً والعباس وطلحة- يعني سادن الكعبة- افتخروا، فقال طلحة: أنا صاحب
__________
صحيح أخرجه مسلم 1879 وابن حبان 4591 والطبري 16557 عن النعمان بن بشير به.
ضعيف. أخرجه الطبري 16572 عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس وفيه إرسال بينهما.
وذكره الواحدي في «أسباب النزول» 493 من رواية الوالبي عن ابن عباس.
ضعيف جدا، لكن يشهد لأصله، ما بعده. أخرجه الطبري 16573 بسند فيه مجاهيل عن عطية العوفي- وهو ضعيف- عن ابن عباس.
ورد من وجوه مرسلة متعددة. أخرجه الطبري 16577 عن محمد بن كعب القرظي مرسلا. وأخرجه 16578 عن الحسن. وبرقم 16576 عن الشعبي، وبرقم 16579 عن السدي. وذكره الواحدي في «أسباب النزول»
__________
(1) العاني: الأسير. [.....]

(2/243)


يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمَانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (23)

البيت، بيدي مفتاحه، ولو أشاء بتُّ فيه. وقال العباس: أنا صاحب السقاية، والقائم عليها، ولو أشاء بتُّ في المسجد. وقال علي: ما أدري ما تقولون، لقد صليت ستة أشهر قبل الناس، وأنا صاحب الجهاد، فنزلت هذه الآية، قاله الحسن، والشعبي، والقرظي.
(676) والخامس: أنهم لما أُمروا بالهجرة قال العباس: أنا أسقي الحاج، وقال طلحة: أنا صاحب الكعبة فلا نهاجر، فنزلت هذه الآية والتي بعدها، قاله مجاهد.
(677) والسادس: أن علياً قال للعباس: ألا تلحق بالنبيّ صلى الله عليه وسلم؟ فقال: ألستُ في أفضلَ من الهجرة، ألست أسقي حاج بيت الله وأعمر المسجد الحرام؟ فنزلت هذه الآية والتي بعدها، قاله مُرَّة الهَمْداني، وابن سيرين.
قال الزجاج: ومعنى الآية: أجعلتم أهل سقاية الحاج وأهل عمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله؟
فحذف المضاف، وأقام المضاف إليه مقامه. قال الحسن: كان يُنبذ زبيبٌ، فيسقُون الحاج في الموسم.
وقال ابن عباس: عمارة المسجد: تجميره، وتخليقه، فأخبر الله أن أفعالهم تلك لا تنفعهم مع الشرك، وسماهم ظالمين لشركهم.
قوله تعالى: أَعْظَمُ دَرَجَةً قال الزجاج: هو منصوب على التمييز. والمعنى: أعظم من غيرهم درجة. والفائز: الذي يظفر بأمنيته من الخير. فأما النعيم، فهو لين العيش. والمقيم: الدّائم.

[سورة التوبة (9) : آية 23]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آباءَكُمْ وَإِخْوانَكُمْ أَوْلِياءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (23)
قوله تعالى: لا تَتَّخِذُوا آباءَكُمْ وَإِخْوانَكُمْ أَوْلِياءَ في سبب نزولها خمسة أقوال:
(678) أحدها: أنه لما أُمر المسلمون بالهجرة، جعل الرجل يقول لأهله: إنا قد أُمرنا بالهجرة، فمنهم من يسرع إلى ذلك، ومنهم من يتعلق به عياله وزوجته فيقولون: نَنْشُدك الله أن تدعنا إلى غير شيء، فيرقُّ قلبه فيجلس معهم، فنزلت هذه الآية، قاله أبو صالح عن ابن عباس.
(679) والثاني: أنه لما أمر الله المؤمنين بالهجرة، قال المسلمون: يا نبي الله، إن نحن اعتزلنا مَنْ خالفنا في الدين، قطعنا آباءنا وعشائرنا، وذهبت تجارتنا، وخربت ديارنا، فنزلت هذه الآية، قاله الضحاك عن ابن عباس.
__________
494 عن الحسن والشعبي والقرظي، فهذه الروايات تتأيد بمجموعها وانظر ما يأتي. وانظر تفسير «ابن كثير» 2/ 424.
مرسل. أخرجه الطبري 16582 عن مجاهد فهو ضعيف ويشهد لأصله ما قبله.
أخرجه الفريابي كما في «الدر» 3/ 395 عن ابن سيرين. وذكره الواحدي في «أسباب النزول» 495 عن ابن سيرين ومرّة بدون إسناد وانظر ما قبله.
عزاه المصنف لابن عباس من رواية أبي صالح، وهي رواية ساقطة لأن روايه عن أبي صالح هو الكلبي، وقد كذبه غير واحد. وذكره الواحدي في «أسباب النزول» 496 عن الكلبي مرسلا بدون إسناد.
عزاه المصنف لابن عباس من رواية الضحاك، وهو لم يسمع من ابن عباس، ورواية الضحاك هو جويبر بن سعيد ذاك المتروك، فالخبر لا شيء.

(2/244)


قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (24)

(680) والثالث: أنه لما قال العباس: أنا أسقي الحاج، وقال طلحة: أنا أحجب الكعبة فلا نهاجر، نزلت هذه الآية والتي قبلها، هذا قول قتادة، وقد ذكرناه عن مجاهد.
(681) والرابع: أن نفراً ارتدوا عن الإسلام ولحقوا بمكة، فنهى الله عن ولايتهم، وأنزل هذه الآية، قاله مقاتل.
(682) والخامس: أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم لما أمر الناس بالجهاز لنصرة خزاعة على قريش، قال أبو بكر الصديق: يا رسول الله، نعاونهم على قومنا؟ فنزلت هذه الآية، ذكره أبو سليمان الدّمشقي.

[سورة التوبة (9) : آية 24]
قُلْ إِنْ كانَ آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ وَإِخْوانُكُمْ وَأَزْواجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوالٌ اقْتَرَفْتُمُوها وَتِجارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسادَها وَمَساكِنُ تَرْضَوْنَها أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (24)
قوله تعالى: قُلْ إِنْ كانَ آباؤُكُمْ الآية، في سبب نزولها ثلاثة أقوال:
(683) أحدها: أنها نزلت في الذين تخلَّفوا مع عيالهم بمكة ولم يهاجروا، قاله أبو صالح عن ابن عباس.
(684) والثاني: أن علي بن أبي طالب قدم مكة، فقال لقوم: ألا تهاجرون؟ فقالوا: نقيم مع إخواننا وعشائرنا ومساكننا، فنزلت هذه الآية، قاله ابن سيرين.
(685) والثالث: أنه لما نزلت الآية التي قبلها، قالوا: يا رسول الله، إن نحن اعتزلنا مَنْ خالفنا في الدين، قطعنا آباءنا وعشيرتنا، وذهبت تجارتنا، وخربت ديارنا، فنزلت هذه الآية، ذكره بعض المفسرين في هذه الآية، وذكره بعضهم في الآية الأولى كما حكيناه عن ابن عباس.
فأما العشيرة، فهم الأقارب الأدنون. وروى أبو بكر عن عاصم «وعشيراتُكم» على الجمع. قال أبو علي: وجهه أن كل واحد من المخاطَبين له عشيرة، فاذا جمعت قلت: عشيراتكم وحجة من افرد: أن العشيرة واقعة على الجمع، فاستغنى بذلك عن جمعها. وقال الأخفش: لا تكاد العرب تجمع عشيرة: عشيرات، إنما يجمعونها على عشائر. والاقتراف بمعنى الاكتساب. والتربص: الانتظار.
وفي قوله تعالى: حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ قولان: أحدهما: أنه فتح مكة، قاله مجاهد والأكثرون، ومعنى الآية: إن كان المُقام في أهاليكم، وكانت الأموال التي اكتسبتموها وَتِجارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسادَها لفراقكم بلدكم وَمَساكِنُ تَرْضَوْنَها أَحَبَّ إِلَيْكُمْ من الهجرة، فأقيموا غير مثابين، حتى
__________
أثر قتادة لم أره، وأثر مجاهد أخرجه الطبري 16582.
عزاه المصنف لمقاتل، وهو متهم بالكذب.
لم أقف عليه.
عزاه المصنف لابن عباس من رواية أبي صالح، وهي رواية ساقطة. وذكره الواحدي في «أسباب النزول» 496 عن الكلبي بدون إسناد. وهو يضع الحديث.
مرسل تقدم قبل أحاديث.
عزاه الحافظ في «تخريج الكشاف» 2/ 257 للثعلبي عن مقاتل، وهذا معضل، ومقاتل متهم بالكذب.

(2/245)


لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ (25)

تُفتح مكة، فيسقط فرض الهجرة. والثاني: أنه العقاب، قاله الحسن.

[سورة التوبة (9) : آية 25]
لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَواطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً وَضاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ (25)
قوله تعالى: لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَواطِنَ كَثِيرَةٍ أي: في أماكن. قال الفراء: وكل جمع كانت فيه ألف قبلها حرفان وبعدها حرفان لم يُجْرَ، مثل، صوامع، ومساجد: وجُريَ «حنين» لأنه اسم لمذكَّر، وهو وادٍ بين مكة والطائف، وإذا سمَّيتَ ماءً أو وادياً أو جبلاً باسم مذكَّر لا علَّة فيه، أجريته، من ذلك: حنين، وبدر، وحِراء، وثَبِير، ودابق. ومعنى الآية: أنّ الله عزّ وجلّ أعلمهم أنهم إنما يغلبون بنصر الله لا بكثرتهم. وفي عددهم يوم حنين أربعة أقوال: أحدها: أنهم كانوا ستة عشر ألفاً، رواه عطاء عن ابن عباس. والثاني: عشرة آلاف، رواه أبو صالح عن ابن عباس. والثالث: كانوا اثني عشر ألفاً، قاله قتادة، وابن زيد، وابن إسحاق، والواقدي. والرابع: أحد عشر ألفا وخمسمائة، قاله مقاتل. قال ابن عباس:
(686) فقال ذلك اليوم سلمة بن سلامة بن وقش، وقد عجب لكثرة الناس: لن نُغلَب اليوم من قلّة، فساء رسول الله صلى الله عليه وسلم كلامُه، ووُكلِوا إلى كلمة الرجل، فذلك قوله تعالى إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً. وقال سعيد بن المسيب: القائل لذلك أبو بكر الصديق. وحكى ابن جرير أنّ القائل لذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم «1» . وقيل: بل العباس. وقيل: رجل من بني بكر.
قوله تعالى: وَضاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ أي: برحبها. قال الفراء: والباء هاهنا بمنزلة «في» كما تقول: ضاقت عليكم الأرض في رحبها وبرحبها.
(الإشارة إلى القصة) قال أهل العلم بالسيرة: لما فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة، تآمر عليه أشراف هوازن وثقيف، فجاؤوا حتى نزلوا أوطاس «2» ، وأجمعوا المسير إليه، فخرج إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما التقَوا أعجبتهم كثرتُهم فهُزموا.
(687) وقال البراء بن عازب: لما حملنا عليهم انكشفوا، فأكببنا على الغنائم، فأقبلوا بالسهام، فانكشف المسلمون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
__________
عزاه البغوي في «التفسير» 2/ 328 للكلبي، وهو متهم بالكذب. وورد من مرسل قتادة دون ذكر القائل، أخرجه الطبري 16588. وورد من مرسل السدي 16590 وفيهما «أن رجلا ... » .
صحيح. أخرجه البخاري 2042 ومسلم 1776 والترمذي 1688 والطيالسي 2/ 108 وأحمد 4/ 281 وأبي يعلى 1727 والبيهقي في «السنن» 9/ 155 والطبري 16594 من حديث البراء.
__________
(1) كذا ذكره المصنف رحمه الله، ومثله الزمخشري في «الكشاف» 2/ 259. فقال الحافظ في تخريجه: لم أجده بهذا السياق ولم أجده من كلام أبي بكر.
(2) أوطاس: واد في هوازن كانت وقعة حنين للنبي صلى الله عليه وسلم.

(2/246)


ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ (26) ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (27) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (28)

وبعضهم يقول: ثبت مع النبيّ صلى الله عليه وسلم يومئذ جماعة من أصحابه منهم أبو بكر، وعمر، وعلي، والعباس، وأبو سفيان بن الحارث. وبعضهم يقول: لم يبق معه سوى العباس وأبي سفيان.
(688) فجعل النبي يقول للعباس: «نادِ: يا معشر الأنصار، يا أصحاب السمرة، يا أصحاب سورة البقرة» فنادى، وكان صيِّتاً، فأقبلوا كأنهم الإبل إذا حنَّت إلى أولادها، يقولون: يا لبّيك، فنظر النبيّ صلى الله عليه وسلم إلى قتالهم، فقال: «الآن حمي الوطيس، أنا النبي لا كذب، انا ابن عبد المطلب» ثم قال للعباس: «ناولني حَصَيات» فناوله، فقال: «شاهت الوجوه» ورمى بها، وقال: «انهزموا وربِّ الكعبة» ، فقذف الله في قلوبهم الرعب فانهزموا.
(689) وقيل: أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم كفاً من تراب، فرماهم به فانهزموا. وكانوا يقولون: ما بقي منا أحد إلا امتلأت عيناه بالتّراب.

[سورة التوبة (9) : الآيات 26 الى 27]
ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُوداً لَمْ تَرَوْها وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ (26) ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (27)
قوله تعالى: ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ أي: بعد الهزيمة. قال أبو عبيدة: هي فعيلة من السكون، وأنشد:
لِلّهِ قَبْرٌ غَالَها ماذا يُجِنُّ ... لقد أَجَنَّ سكينةً وَوَقارا «1»
وكذلك قال المفسرون: الأمن والطمأنينة.
قوله تعالى: وَأَنْزَلَ جُنُوداً لَمْ تَرَوْها قال ابن عباس: يعني الملائكة. وفي عددهم يومئذ ثلاثة أقوال: أحدها: ستة عشر ألفاً، قاله الحسن. والثاني: خمسة آلاف، قاله سعيد بن جبير. والثالث:
ثمانية، قاله مجاهد، يعني: ثمانية آلاف. وهل قاتلت الملائكة يومئذ، أم لا؟ فيه قولان. وفي قوله تعالى: وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أربعة أقوال: أحدها: بالقتل، قاله ابن عباس والسدي. والثاني:
بالقتل والهزيمة، قاله ابن أبزى ومقاتل. والثالث: بالخوف والحذر، ذكره الماوردي. والرابع: بالقتل والأسر وسبي الأولاد وأخذ الأموال، ذكره بعض ناقلي التفسير.
قوله تعالى: ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عَلى مَنْ يَشاءُ أي: يوفِّقه للتوبة من الشّرك.

[سورة التوبة (9) : آية 28]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هذا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شاءَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (28)
__________
صحيح. أخرجه مسلم 1775 والنسائي في «الكبرى» 8653 وعبد الرزاق في «المصنف» 9741 وأحمد 1/ 207 وابن حبان 7049 والطبري 16591 وابن سعد في الطبقات 4/ 18 و 19 والبغوي في «شرح السنة» 3710 من حديث العباس.
صحيح. أخرجه الطبري 16593 عن أبي عبد الرحمن الفهري به وأتم ... وأخرجه مسلم 1777 وابن حبان 6520 من حديث سلمة بن الأكوع. وله شواهد.
__________
(1) البيت لأبي عريف الكلبي «مجاز القرآن» 1/ 255 و «اللسان» سكن.

(2/247)


قوله تعالى: إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ قال أبو عبيدة: معناه: قذر. قال الزجاج: يقال لكل شيء مستقذَر: نجَسٌ. وقال الفراء: لا تكاد العرب تقول: نِجْسٌ، إلا وقبلها رِجْسٌ، فاذا أفردوها قالوا:
نَجَس. وفي المراد بكونهم نجساً ثلاثة أقوال «1» : أحدها: أنهم أنجاس الأبدان، كالكلب والخنزير، حكاه الماوردي عن الحسن، وعمر بن عبد العزيز. وروى ابن جرير عن الحسن قال: من صافحهم فليتوضأ. والثاني: أنهم كالأنجاس لتركهم ما يجب عليهم من غسل الجنابة، وإن لم تكن أبدانهم أنجاساً، قاله قتادة. والثالث: أنه لما كان علينا اجتنابهم كما تجتنب الأنجاسُ، صاروا بحكم الاجتناب كالأنجاس، وهذا قول الأكثرين، وهو الصحيح.
قوله تعالى فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ قال أهل التفسير: يريد جميع الحرم. بَعْدَ عامِهِمْ هذا وهو سنة تسع من الهجرة، وهي السنة التي حج فيها أبو بكر الصّديق وقرئت (براءة) . وقد أخذ أحمد رضي الله عنه بظاهر الآية، وأنه يحرم عليهم دخول الحرم، وهو قول مالك، والشافعي.
واختلفت الرواية عنه في دخولهم غير المسجد الحرام من المساجد، فروي عنه المنع أيضاً إلا لحاجة، كالحرم، وهو قول مالك. وروي عنه جواز ذلك، وهو قول الشافعي. وقال أبو حنيفة: يجوز لهم دخول المسجد الحرام، وسائر المساجد «2» .
قوله تعالى: وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً وقرأ سعد بن أبي وقاص، وابن مسعود، والشعبي، وابن السميفع: «عايلة» .
(690) قال سعيد بن جبير: لما نزلت إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هذا
__________
أخرجه الطبري 16615 عن سعيد بن جبير مرسلا. وأخرجه من مرسل عكرمة، برقم 16613 و 16614.
__________
(1) قال الإمام المرغيناني الحنفي في «الهداية» 1/ 210: النجاسة ضربان: مرئية، وغير مرئية. فما كان منها مرئيا فطهارته زوال عينها لأن النجاسة حلت المحل باعتبار العين فتزول بزوالها، إلا أن يبقى من أثرها ما تشق إزالته لأن الحرج مدفوع. وما ليس بمرئي: فطهارته أن يغسل حتى يغلب على ظن الغاسل أنه قد طهر اه. وانظر «مراقي الفلاح» 1/ 191- 196 للعلامة الشرنبلالي الحنفي.
- قلت: والحنيفة: يقولون بأن الكافر نجس حكما لا حقيقة.
(2) قال الإمام القرطبي رحمه الله في «التفسير» 8/ 104- 105- عند الحديث 3322 بترقيمي ما ملخصه: اختلف العلماء في دخول الكفار المساجد والمسجد الحرام على خمسة أقوال: فقال أهل المدينة: الآية عامة في سائر المشركين، وسائر المساجد، وبذلك كتب عمر بن عبد العزيز إلى عماله ونزع بهذه الآية. وفي صحيح مسلم وغيره «إن هذه المساجد لا تصلح لشيء من البول والقذر» والكافر لا يخلو عن ذلك وقال صلى الله عليه وسلم: «لا أحل المسجد لحائض ولا لجنب» والكافر جنب. وقوله تعالى إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فسماه الله تعالى نجسا، فلا يخلو أن يكون نجس العين أو مبعدا من طريق الحكم. وأي ذلك كان فمنعه من المسجد واجب، لأن العلة وهي النجاسة موجودة فيهم، والحرمة موجودة في المسجد. وقال الشافعي رحمه الله: الآية عامة في سائر المشركين، خاصة في المسجد الحرام، ولا يمنعون من دخول غيره. وقال أبو حنيفة وأصحابه: لا يمنع اليهود والنصارى من دخول المسجد الحرام ولا غيره. وهذا قول يرده ما ذكرنا من الآية وغيره. وقال الكيا الطبري:
ويجوز للذمي دخول سائر المساجد عند أبي حنيفة من غير حاجة. وقال الشافعي تعتبر الحاجة، ومع الحاجة لا يجوز دخول المسجد الحرام. وقال عطاء: الحرم كله قبلة ومسجد، فينبغي أن يمنعوا الحرم. وقال قتادة:
لا يقرب المسجد الحرام مشرك، إلا أن يكون صاحب جزية أو عبدا كافرا لمسلم. وبهذا قال جابر.

(2/248)


قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ (29)

شقَّ على المسلمين، وقالوا: مَنْ يأتينا بطعامنا؟ وكانوا يَقْدَمون عليهم بالتجارة، فنزلت وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً قال الأخفش: العيلة: الفقر. يقال: عال يعيل عَيْلة: إذا افتقر. وأعال إعالة فهو يُعيل:
إذا صار صاحب عيال. وقال أبو عبيدة: العيلة ها هنا مصدر عالَ فلانٌ: إذا افتقر، وأنشد:
وَمَا يَدري الفقيرُ مَتى غِناه ... وما يَدري الغنيُّ متى يَعيل «1»
وللمفسرين في قوله: «وإنْ» قولان: أحدهما: أنها للشرط، وهو الأظهر. والثاني: أنها بمعنى «وإذ» ، قاله عمرو بن فائد. قالوا: وإنما خاف المسلمون الفقر، لأن المشركين كانوا يحملون التجارات إليهم، ويجيئون بالطعام وغيره. وفي قوله تعالى: فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شاءَ ثلاثة أقوال: أحدها: أنه أنزل عليهم المطر عند انقطاع المشركين عنهم، فكثر خيرهم، قاله عكرمة. والثاني:
أنه أغناهم بالجزية المأخوذة من أهل الكتاب، قاله قتادة، والضحاك. والثالث: أن أهل نجد، وجُرَشَ، وأهل صنعاء أسلموا، فحملوا الطعام إلى مكة على الظَّهْرِ، فأغناهم الله به، قاله مقاتل. قوله تعالى:
إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ قال ابن عباس: عليم بما يصلحكم حَكِيمٌ فيما حكم في المشركين.

[سورة التوبة (9) : آية 29]
قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ ما حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صاغِرُونَ (29)
قوله تعالى: قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ قال المفسرون: نزلت في اليهود والنصارى. قال الزجاج: ومعناها: لا يؤمنون بالله إيمان الموحِّدين، لأنهم أقرُّوا بأنه خالقُهم وأنَّه له ولد، وكذلك إيمانهم بالبعث لأنهم لا يقرُّون بأنَّ أهل الجنة يأكلون ويشربون. وقال الماوردي: إقرارهم باليوم الآخر يوجب الإقرار بحقوقه، وهم لا يقرُّون بها، فكانوا كمن لا يُقِرُّ به.
قوله تعالى: وَلا يُحَرِّمُونَ ما حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ قال سعيد بن جبير: يعني الخمر والخنزير. قوله تعالى: وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ في الحق قولان: أحدهما: أنه اسم الله، فالمعنى: دين الله، قاله قتادة. والثاني: أنه صفة للدين، والمعنى: ولا يدينون الدِّينَ الحقَّ فاضاف الاسم إلى الصفة. وفي معنى «يدينون» قولان: أحدهما: أنه بمعنى الطاعة، والمعنى: لا يطيعون الله طاعةَ حقٍّ، قاله أبو عبيدة. والثاني: أنه من: دان الرجل يدين كذا: إذا التزمه. ثم في جملة الكلام قولان: أحدهما: أن المعنى: لا يدخلون في دين محمّد صلى الله عليه وسلم، لأنه ناسخ لما قبله. والثاني: لا يعملون بما في التّوراة من اتّباع محمّد صلى الله عليه وسلم.
قوله تعالى: حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ قال ابن الأنباري: الجزية: الخراج المجعول عليهم سميت جزية، لانها قضاء لما عليهم أُخذ من قولهم: جَزى يَجْزي: إذا قضى ومنه قوله تعالى: لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً «2» .
__________
وأخرجه برقم 1662 و 16621 عن الضحاك. أخرجه 16622 عن مجاهد. وأخرجه 16617 عن عطية العوفي. والخلاصة: هذه الروايات وإن كانت مراسيل فإنها تتأيد بمجموعها، والله أعلم.
__________
(1) البيت لأحيحة بن الجلاح. «مجاز القرآن» 1/ 255، «اللسان» عيل.
(2) سورة البقرة: 48.

(2/249)


(691) وقوله صلى الله عليه وسلم: «ولا تَجْزِي عن أحدٍ بعدَك» .
وفي قوله تعالى: عَنْ يَدٍ ستة أقوال: أحدها: عن قهر، قاله قتادة، والسدي. وقال الزجاج:
عن قهر وذُلٍّ. والثاني: أنه النقد العاجل، قاله شريك، وعثمان بن مقسم. والثالث: أنه إعطاء المبتدئ بالعطاء، لا إعطاء المكافئ، قاله ابن قتيبة. والرابع: أن المعنى: عن اعتراف للمسلمين بأن أيديهم فوق أيديهم. والخامس: عن إنعام عليهم بذلك لأن قبول الجزية منهم إنعام عليهم، حكاهما الزجاج.
والسادس: يؤدُّونَها بأيديهم، ولا ينفذونها مع رسلهم، ذكره الماوردي.
قوله تعالى: وَهُمْ صاغِرُونَ الصاغر: الذليل الحقير. وفي ما يُكَلَّفونه من الفعل الذي يوجب صغارهم خمسة أقوال: أحدها: أن يمشوا بها ملبّيين، رواه أبو صالح عن ابن عباس. والثاني: أن لا يُحمدوا على إعطائهم، قاله سلمان الفارسي. والثالث: أن يكونوا قياماً والآخذ جالساً، قاله عكرمة.
والرابع: أن دفع الجزية هو الصغار. والخامس: أن إجراء أحكام الإسلام عليهم هو الصغار.
(فصل:) واختُلف في الذين تؤخذ منهم الجزية من الكفار، فالمشهور عن أحمد: أنها لا تقبل إلا من اليهود والنصارى والمجوس، وبه قال الشافعي. ونقل الحسن بن ثواب عن أحمد: أنه من سُبي من أهل الأديان من العرب والعجم، فالعرب إن أسلموا، وإلا السيف، وأولئك إن أسلموا، وإلا الجزية فظاهر هذا أن الجزية تؤخذ من الكل، إلا من عابدي الأوثان من العرب فقط، وهو قول أبي حنيفة، ومالك «1» .
(فصل:) فأما صفة الذين تؤخذ منهم الجزية، فهم أهل القتال. فأما الزَّمِنُ، والأعمى، والمفلوج، والشيخ الفاني، والنساء، والصبيان، والراهب الذي لا يخالط الناس، فلا تؤخذ منهم.
(فصل:) فأما مقدارها، فقال أصحابنا: على الموسر: ثمانية وأربعون درهماً، وعلى المتوسط:
أربعة وعشرون، وعلى الفقير المعتمل: اثنا عشر، وهو قول أبي حنيفة. وقال مالك: على أهل الذهب أربعة دنانير، وعلى أهل الوَرِق أربعون درهماً، وسواء في ذلك الغني والفقير. وقال الشافعي:
على الغني والفقير دينار. وهل تجوز الزيادة والنقصان مما يؤخذ منهم؟ نقل الأثرم عن أحمد: أنها تزاد وتنقَص على قدر طاقتهم، فظاهر هذا: أنها على اجتهاد الإمام ورأيه. ونقل يعقوب بن بختان: أنه
__________
صحيح. أخرجه البخاري 976 ومسلم 1961 والطبراني في «الأوسط» 3036. كلهم من حديث البراء رضي الله عنه قال: قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: «إن أول ما نبدأ به في يومنا هذا نصلي، ثم نرجع فننحر، من فعله فقد أصاب سنتنا، ومن ذبح قبل فإنما هو لحم قدمه لأهله ليس من النسك في شيء» . فقام أبو بردة بن نيار وقد ذبح فقال: إن عندي جذعة فقال: «اذبحها ولن تجزي عن أحد بعدك» . لفظ البخاري.
__________
(1) قال الحافظ ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» 2/ 430: استدل بهذه الآية الكريمة من يرى أنه لا تؤخذ الجزية إلا من أهل الكتاب، أو من أشبههم كالمجوس، لما صح فيهم الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أخذها من مجوس هجر، وهذا مذهب الشافعي، وأحمد- في المشهور عنه-. وقال أبو حنيفة رحمه الله: بل يؤخذ من جميع الأعاجم سواء كانوا من أهل الكتاب أو من المشركين، ولا تؤخذ من العرب إلا من أهل الكتاب وقال الإمام مالك: بل يجوز أن تضرب الجزية على جميع الكفار من كتابي، ومجوسي ووثني وغير ذلك.

(2/250)


وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (30) اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (31)

لا يجوز للامام أن ينقص من ذلك، وله أن يزيد.
(فصل:) ووقت وجوب الجزية: آخر الحول، وبه قال الشافعي. وقال أبو حنيفة: تجب في أول الحول. فأما إذا دخلت سنة في سنة، فهل تسقط جزية السنة الماضية؟ عندنا لا تسقط، وقال أبو حنيفة:
تسقط. فأما إذا أسلم، فانها تسقط بالإسلام. فأما إن مات فكان ابن حامد يقول: لا تسقط. وقال القاضي أبو يعلى: يحتمل أن تسقط.

[سورة التوبة (9) : الآيات 30 الى 31]
وَقالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقالَتِ النَّصارى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْواهِهِمْ يُضاهِؤُنَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (30) اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَما أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا إِلهاً واحِداً لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (31)
قوله تعالى: وَقالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ قرأ أبن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وابن عامر، وحمزة: «عزيرُ ابن الله» بغير تنوين. وقرأ عاصم، والكسائي، ويعقوب، وعبد الوارث عن أبي عمرو:
منوّناً. قال مكي بن أبي طالب: من نوَّن عزيراً رفعه على الابتداء، و «ابن» خبره. ولا يحسن حذف التنوين على هذا من «عزير» لالتقاء الساكنين. ولا تحذف ألف «ابن» من الخط، ويكسر التنوين لالتقاء الساكنين. ومن لم ينون «عزيراً» جعله أيضاً مبتدأ، و «ابن» صفة له فيُحذف التنوينُ على هذا استخفافاً لالتقاء الساكنين، ولأن الصّفة مع الموصوف الشيء الواحد، وتحذف ألف «ابن» من الخط، والخبر مضمر تقديره: عزير بن الله نبيُّنا وصاحبنا.
(692) وسبب نزولها أن سلاَم بن مشكم، ونعمان بن أوفى، وشاس بن قيس، ومالك بن الصّيف، أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: كيف نتَّبِعُكَ وقد تركت قبلتنا، وأنت لا تزعم أن عزير ابن الله؟
فنزلت هذه الآية، قاله ابن عباس. وقال ابن عمر، وابن جريج: إن القائل لذلك فنحاص.
فأما عزير، فقال شيخنا أبو منصور اللغوي: هو اسم أعجمي معرب، وإن وافق لفظ العربية، فهو عِبراني كذا قرأته عليه. وقال مكي بن أبي طالب: العزير عند كل النحويين: عربي مشتق من قوله:
يعزِّروه. وقال ابن عباس: إنما قالوا ذلك، لأنهم لما عملوا بغير الحق، أنساهم الله التوراة، ونسخها من صدورهم، فدعا عزير اللهَ تعالى فعاد إليه الذي نسخ من صدورهم، ونزل نور من السماء فدخل جوفه، فأذَّن في قومه فقال: قد آتاني الله التوراة فقالوا: ما أُوتيها إلا لأنه ابن الله. وفي رواية أخرى عن ابن عباس: أن بختنصر لما ظهر على بني إسرائيل، وهدم بيت المقدس، وقتل من قرأ التوراة، كان عزير غلاماً، فتركه. فلما توفي عزير ببابل، ومكث مائة عام، ثم بعثه الله تعالى إلى بني اسرائيل، فقال: أنا عزير فكذَّبوه وقالوا: قد حدَّثنا آباؤنا أن عزيراً مات ببابل، فان كنتَ عزيراً فأملل علينا التوراة فكتبها لهم فقالوا: هذا ابن الله. وفي الذين قالوا هذا عن عزير ثلاثة أقوال: أحدها: أنهم
__________
ضعيف. أخرجه الطبري 16635 عن ابن عباس، وإسناده ضعيف فيه محمد بن أبي محمد، وهو مجهول.
وانظر «تفسير البغوي» 1057 بتخريجنا.

(2/251)


جميع بني اسرائيل، روي عن ابن عباس. والثاني: طائفة من سلفهم، قاله الماوردي. والثالث: جماعة كانوا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفيهم قولان: أحدهما: فنحاص وحده، وقد ذكرناه عن ابن عمر، وابن جريج. والثاني: الذين ذكرناهم في أول الآية عن ابن عباس.
فان قيل: إن كان قولَ بعضهم، فلِمَ أُضيف إلى جميعهم؟ فعنه جوابان:
أحدهما: أن إيقاع اسم الجماعة على الواحد معروف في اللغة، تقول العرب: جئت من البصرة على البغال، وإن كان لم يركب إلا بغلاً واحداً. والثاني: أن من لم يقله، لم ينكره.
قوله تعالى: وَقالَتِ النَّصارى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ في سبب قولهم هذا قولان:
أحدهما: لكونه ولد من غير ذكَر.
والثاني: لأنه أحيى الموتى، وأبرأ الكُمْةَ والبُرص وقد شرحنا هذا المعنى في (المائدة) .
قوله تعالى: ذلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْواهِهِمْ إن قال قائل: هذا معلوم، فما فائدته؟ فالجواب: أنّ معنى أنه قول بالفم، لا بيانَ فيه ولا برهانَ ولا تحته معنى صحيح، قاله الزجاج.
قوله تعالى: يُضاهِؤُنَ قرأ الجمهور: من غير همز. وقرأ عاصم: «يضاهئون» . قال ثعلب:
لم يتابع عاصماً أحد على الهمز. قال الفراء: وهي لغة. قال الزجاج: يضاهون: يشابهون قولَ من تقدَّمَهم من كَفَرتِهم، فانما قالوه اتباعاً لمتقدِّميهم. وأصل المضاهاة في اللغة: المشابهة والأكثر ترك الهمز واشتقاقه من قولهم: امرأة ضهياء، وهي التي لا ينبت لها ثدي. وقيل: هي التي لا تحيض، والمعنى: أنها قد أشبهت الرجال. قال ابن الأنباري: يقال: ضاهَيت، وضاهأت: إذا شبَّهتَ. وفي الَّذِينَ كَفَرُوا ها هنا ثلاثة أقوال: أحدها: أنهم عبدة الأوثان، والمعنى: أن أولئك قالوا: الملائكة بنات الله، قاله ابن عباس. والثاني: أنهم اليهود، فالمعنى: أن النصارى في قولهم: المسيح ابن الله، شابهوا اليهود في قولهم: عزير ابن الله، قاله قتادة، والسدي. والثالث: أنهم أسلافهم، تابعوهم في أقوالهم تقليداً، قاله الزجاج، وابن قتيبة. وفي قوله تعالى: قاتَلَهُمُ اللَّهُ ثلاثة أقوال: أحدها: أن معناه: لعنهم الله، قاله ابن عباس: والثاني: قتلهم الله، قاله أبو عبيدة. والثالث: عاداهم الله، ذكره ابن الأنباري.
قوله تعالى: أَنَّى يُؤْفَكُونَ أي: من أين يصرفون عن الحق.
قوله تعالى: اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ قد سبق في (المائدة) معنى الأحبار والرهبان.
(693) وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سئل عن هذه الآية، فقال: «أما إنّهم لم يكونوا يعبدونهم،
__________
يشبه الحسن، أخرجه الترمذي 3095 والطبري 16646 و 16647 و 16648 والطبراني 17/ 92/ 218 والبيهقي 10/ 116 والسهمي في «تاريخ جرجان» 1162 من طرق متعددة عن عبد السلام بن حرب عن غطيف بن أعين الجزري عن مصعب بن سعد عن عدي بن حاتم به، وإسناده ضعيف، مداره على غطيف بن أعين الجزري، وهو ضعيف كما في «التقريب» . وقال الذهبي في «الميزان» : ضعفه الدارقطني.
- وضعفه الترمذي بقوله: غريب، وغطيف ليس بمعروف في الحديث. وذكر الحافظ في «التهذيب» 22518 كلام الترمذي، وقال: ذكره ابن حبان في الثقات. وقال الدارقطني: ضعيف.
- قلت: حسنه الألباني في «صحيح الترمذي» 2471، ولم يعز الكلام عليه إلى موضع آخر، ولم يذكر مستنده

(2/252)


يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (32) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (33)

ولكنهم كانوا إذا أحلُّوا لهم شيئاً استحلُّوهْ، واذا حرموا عليهم شيئاً حرّموه» «1» . فعلى هذا المعنى: إنهم جعلوهم كالأرباب وإن لم يقولوا: إنهم أرباب.
قوله تعالى: وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ قال ابن عباس: اتخذوه ربّا.

[سورة التوبة (9) : آية 32]
يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُا نُورَ اللَّهِ بِأَفْواهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلاَّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ (32)
قوله تعالى: يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُا نُورَ اللَّهِ قال ابن عباس: يخمدوا دين الله بتكذيبهم، يعني:
أنهم يكذبون به ويُعرضون عنه يريدون إبطاله بذلك. وقال الحسن وقتادة: نور الله: القرآن والإسلام.
فأما تخصيص ذلك بالأفواه، فلما ذكرنا في الآية قبلها. وقيل: إن الله تعالى لم يذكر قولاً مقروناً بالأفواه والألسن إلا وهو زور. قوله تعالى: وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ قال الفرّاء: إنّما دخلت «إلا» ها هنا، لأن في الإباء طرفاً من الجحد، ألا ترى أنّ «أبيت» كقولك: «لم أفعل» ، فكأنه بمنزلة قولك: ما ذهب إلا زيد، قال الشاعر:
فَهَلْ لِيَ أُمٌّ غيرُها إن تركتُها ... أبى الله إلا أن أكُون لَها ابنما «2»
وقال الزجاج: المعنى: ويأبى الله كل شيء إلا إتمام نوره. قال مقاتل: «يتم نوره» أي: يظهر دينه.

[سورة التوبة (9) : آية 33]
هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (33)
قوله تعالى: هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ يعني محمّدا صلى الله عليه وسلم بِالْهُدى وفيه ثلاثة أقوال: أحدها:
__________
في تحسينه إياه! إلا أن يكون أخذ بقول ابن كثير في «التفسير» 2/ 362 وفي نسخة 2/ 432 حيث قال: روى الإمام أحمد والترمذي وابن جرير من طرق عن عدي بن حاتم. فذكر ابن كثير حديثا طويلا، وذكر فيه لفظ المصنف. وبحثت في مسند أحمد ومعجم الطبراني حديثا حديثا، فلم أجد في خبر إسلام عدي المطول، ما رواه غطيف هذا. فالصواب أن هذا اللفظ لم يرد من طرق، وليس له إلا هذا الطريق. والذي ورد من طرق إنما هو قصة إسلامه بغير هذا اللفظ. فهذا الحديث بهذا الإسناد ضعيف. والله أعلم.
- وورد تفسير الآية الكريمة بمثل الحديث المرفوع عن حذيفة بن اليمان من قوله. أخرجه الطبري 16649 و 16650 و 16651 و 16653 من طرق عن حبيب بن أبي ثابت عن أبي البختري عن حذيفة، وإسناده ضعيف، حبيب كثير الإرسال والتدليس، ولم يصرح في هذه الروايات بالتحديث. ومن هذا الوجه أخرجه البيهقي 10/ 116. لكن تابعه عطاء بن السائب برقم 16658 وهو ضعيف لكن يصلح للاعتبار بحديثه.
وله شاهد عن ابن عباس قوله، أخرجه الطبري 16656 وهو منقطع، السدي لم يلق ابن عباس. فلعل من حسنه لأجل هذه الروايات الموقوفة. والله أعلم، والأشبه أنه بين الضعيف والحسن، والله أعلم.
__________
(1) بهذه الآية الكريمة، وبهذا الحديث، وبما ورد عن أئمة التفسير، استدل العلامة الآلوسي رحمه الله وغيره من الأئمة: بأن الشرك بالله يتحقق بمجرد إعطاء حق التشريع لغير الله من عباده، ولو لم يصحبه شرك في الاعتقاد بألوهيته. واستدلوا بأن العبادة هي الاتباع في الشرائع، سواء كانت صحيحة أو غير صحيحة، ثم إن الإسلام لا يقوم إلا باتباع الله وحده في الشريعة بعد الاعتقاد بألوهيته وحده، فإذا اتبع الناس شريعة غير شريعة الله صح فيهم ما صح في اليهود والنصارى، نسأل الله تعالى أن يرحمنا ويهدينا إلى سواء الصراط.
(2) البيت منسوب إلى المتلمس «معاني القرآن» 1/ 433 وقوله ابنما، أراد ابنا، فزاد ميما.

(2/253)


يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (34)

أنه التوحيد. والثاني: القرآن. والثالث: تبيان الفرائض. فأما دين الحق، فهو الإسلام. وفي قوله تعالى: لِيُظْهِرَهُ قولان: أحدهما: أن الهاء عائدة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالمعنى: ليعلّمه شرائع الدِّين كلَّها، فلا يخفى عليه منها شيء، قاله ابن عباس. والثاني: أنها راجعة إلى الدين. ثم في معنى الكلام قولان: أحدهما: ليظهر هذا الدين على سائر الملل. ومتى يكون ذلك؟ فيه قولان: أحدهما: عند نزول عيسى عليه السلام، فانه يتبعه أهل كل دين، وتصير المللُ واحدة، فلا يبقى أهل دين إلا دخلوا في الإسلام أو أدَّوا الجزية، قاله أبو هريرة، والضحاك. والثاني: أنه عند خروج المهدي. قاله السدي.
والقول الثاني: أن إظهار الدِّين إنما هو بالحجج الواضحة، وإن لم يدخل الناس فيه.

[سورة التوبة (9) : آية 34]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيراً مِنَ الْأَحْبارِ وَالرُّهْبانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (34)
قوله تعالى: إِنَّ كَثِيراً مِنَ الْأَحْبارِ الأحبار من اليهود، والرهبان من النصارى. وفي الباطل أربعة أقوال: أحدها: أنه الظلم، قاله ابن عباس. والثاني: الرشا في الحكم، قاله الحسن.
والثالث: الكذب، قاله أبو سليمان. والرابع: أخذه من الجهة المحظورة، قاله القاضي أبو يعلى:
والمراد: أخذ الأموال، وإنما ذكر الأكل لأنه معظم المقصود من المال. وفي المراد بسبيل الله ها هنا قولان: أحدهما: الإيمان برسول الله صلى الله عليه وسلم، قاله ابن عباس، والسدي. والثاني: أنه الحق في الحكم.
قوله تعالى: وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ اختلفوا فيمن نزلت على ثلاثة أقوال «1» : أحدها:
أنها نزلت عامّة في أهل الكتاب والمسلمين، قاله أبو ذر، والضحاك. والثاني: أنها خاصَّة في أهل الكتاب، قاله معاوية بن أبي سفيان. والثالث: أنها في المسلمين، قاله ابن عباس، والسدي. وفي الكنز المستحقّ عليه هذا الوعيد ثلاثة أقوال: أحدها: أنه ما لم تؤدَّ زكاته.
(694) قال ابن عمر: كل مال أُدِّيتْ زكاتُه وإن كان تحت سبع أرضين فليس بكنز، وكلّ مال لا
__________
موقوف صحيح. وورد مرفوعا وهو ضعيف جدا. أخرجه البيهقي 4/ 82 بإسناد صحيح عن ابن عمر موقوفا، وقال هذا هو الصحيح موقوف، وقد روى سويد بن عبد العزيز وليس بالقوي مرفوعا، ثم ساق إسناده اه.
وسويد هذا ضعيف متروك الحديث. وتوبع فقد أخرجه البيهقي 4/ 83 من وجه آخر عن ابن عمر مرفوعا وقال: ليس هذا بمحفوظ، والمشهور عن ابن عمر موقوفا. اه. وفي إسناده محمد بن كثير المصيصي الثقفي وهو ضعيف، فالراجح الوقف عليه، كما قال البيهقي رحمه الله. وأخرجه الطبري 16668 عن ابن عمر وكرره 16666 بنحوه. انظر «تفسير ابن كثير» بتخريجنا عند هذه الآية.
__________
(1) قال القرطبي في «الجامع لأحكام القرآن» 8/ 113: اختلفت الصحابة في المراد بهذه الآية، فذهب معاوية إلى أن المراد بها أهل الكتاب، وإليه ذهب الأصم، لأن قوله وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ مذكور بعد قوله إِنَّ كَثِيراً مِنَ الْأَحْبارِ وَالرُّهْبانِ.... وقال أبو ذر وغيره: المراد بها أهل الكتاب وغيرهم من المسلمين وهو الصحيح، لأنه لو أراد أهل الكتاب خاصة لقال: ويكنزون، بغير «والذين» فلما قال «والذين» فقد استأنف معنى آخر يبين أنه عطف جملة على جملة، فالذين يكنزون كلام مستأنف وهو رفع على الابتداء.

(2/254)


يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ (35)

تؤدَّى زكاته فهو كنز وإن كان ظاهراً على وجه الأرض، وإلى هذا المعنى ذهب الجمهور. فعلى هذا، معنى الإنفاق: إخراج الزكاة. والثاني: أنه ما زاد على أربعة آلاف، روي عن علي بن أبي طالب أنه قال: أربعة آلاف نفقة، وما فوقها كنز. والثالث: ما فضل عن الحاجة، وكان يجب عليهم إخراج ذلك في أول الإسلام ثم نُسخ بالزكاة.
فان قيل: كيف قال: «ينفقونها» وقد ذكر شيئين؟ فعنه جوابان:
أحدهما: أن المعنى: يرجع إلى الكنوز والأموال.
والثاني: أنه يرجع إلى الفضة، وحذُف الذهب، لأنه داخل في الفضة، قال الشاعر:
نَحْنُ بِمَا عِنْدَنَا وأنْتَ بِمَا ... عندك راضٍ والرأي مختلفُ «1»
يريد: نحن بما عندنا راضون، وأنت بما عندك راضٍ، ذكر القولين الزجاج. وقال الفراء: إن شئت اكتفيت بأحد المذكورين، كقوله تعالى: وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً
«2» ، وقوله تعالى: وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها «3» ، وأنشد:
إني ضمنت لمن أتاني ما جَنَى ... وأبى وكان وكنت غير غَدورِ «4»
ولم يقل: غدورين، وإنما اكتفى بالواحد لاتفاق المعنى. قال أبو عبيدة: والعرب إذا أشركوا بين اثنين قصروا، فخبَّروا عن أحدهما استغناء بذلك، وتحقيقاً لمعرفة السامع بأن الآخر قد شاركه، ودخل معه في ذلك الخبر، وأنشد:
فمن يك أمسى بالمدينة رحْلُهُ ... فاني وقيَّارٌ بها لغريب «5»
والنصب في «قيار» أجود، وقد يكون الرفع. وقال حسان بن ثابت:
إنَّ شرخَ الشبابِ والشّعر الأس ... ود ما لم يعاص كان جنونا «6»
ولم يقل: يعاصيا.

[سورة التوبة (9) : آية 35]
يَوْمَ يُحْمى عَلَيْها فِي نارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوى بِها جِباهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هذا ما كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ (35)
قوله تعالى: يَوْمَ يُحْمى عَلَيْها أي: على الأموال.
(695) قال ابن مسعود: والله ما من رجل يُكوى بكنز، فيوضعُ دينار على دينار ولا درهم على
__________
موقوف صحيح. أخرجه الطبري 16697 و 16698 والطبراني 8754 عن ابن مسعود موقوفا وهو صحيح.
__________
(1) البيت قائله عمرو بن امرئ القيس «معاني القرآن» 1/ 434.
(2) سورة النساء: 112.
(3) سورة الجمعة: 11. [.....]
(4) البيت غير منسوب في «معاني القرآن» 1/ 434.
(5) البيت منسوب إلى ضابئ بن الحارث البرجمي وهو في «الأصمعيات» 16. «اللسان» قير.
(6) البيت منسوب إلى حسان بن ثابت ديوان 312 «اللسان» شرخ.
الشرخ: الحد. أي غاية ارتفاعه، يعني بذلك أقصى قوته ونضارته وعنفوان.

(2/255)


إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (36)

درهم، ولكن يوسَّع جلده، فيوضع كل دينار. ودرهم على حدته. وقال ابن عباس: هي حيَّة تنطوي على جنبيه وجبهته، فتقول: أنا مالك الذي بخلت به «1» .
قوله تعالى: هذا ما كَنَزْتُمْ فيه محذوف تقديره: ويقال لهم هذا ما كنزتم لأنفسكم فَذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ أي: عذاب ذلك. فان قيل: لم خصَّ الجباه والجنوب والظهور من بقية البدن؟
فالجواب: أن هذه المواضع مجوَّفة، فيصل الحر إلى أجوافها، بخلاف اليد والرجل.
(696) وكان أبو ذرٍّ يقول: بشر الكنَّازين بكيّ في الجباه وكيّ في الجنوب وكيٍّ في الظهور، حتى يلتقي الحرُّ في أجوافهم. وجواب آخر: وهو أن الغنيَّ إذا رأى الفقير، انقبض وإذا ضمه وإياه مجلس، ازورّ عنه ووِّلاه ظهره، قاله أبو بكر الورّاق.

[سورة التوبة (9) : آية 36]
إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ مِنْها أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَما يُقاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (36)
قوله تعالى: إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ قال المفسرون: نزلت هذه الآية من أجل النسيء الذي كانت العرب تفعله، فربما وقع حجهم في رمضان، وربما وقع في شوال، إلى غير ذلك وكانوا يستحلُّون المحرَّم عاماً، ويحرِّمون مكانه صفر، وتارة يحرِّمون المحرَّم ويستحلُّون صفر. قال الزّجّاج:
أعلم الله عزّ وجلّ أن عدد شهور المسلمين التي تُعُبِّدوا بأن يجعلوه لسنتهم: اثنا عشر شهراً على منازل القمر فجعل حجهم وأعيادهم على هذا العدد، فتارة يكون الحج والصوم في الشتاء، وتارة في الصيف، بخلاف ما يعتمده أهل الكتاب، فانهم يعملون على أن السنة ثلاثمائة يوم وخمسة وستون يوماً وبعض يوم. وجمهور القراء على فتح عين «اثنا عشر» . وقرأ أبو جعفر: اثنا عشر، وأحد عْشر، وتسعة عْشر، بسكون العين فيهن.
قوله تعالى: فِي كِتابِ اللَّهِ أي: في اللوح المحفوظ. قال ابن عباس: في الإمام الذي عند الله، كتبه يَوْمَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ مِنْها أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ وفيها قولان: أحدهما: أنها رجب، وذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم، قاله الأكثرون. وقال القاضي أبو يعلى: إنما سماها حُرُماً لمعنيين.
أحدهما: تحريم القتال فيها، وقد كان أهل الجاهلية يعتقدون ذلك أيضاً. والثاني: لتعظيم انتهاك المحارم فيها أشدَّ من تعظيمه في غيرها، وكذلك تعظيم الطاعات فيها. والثاني: انها الأشهُر التي أُجِّل المشركون فيها للسياحة، ذكره ابن قتيبة.
__________
هو بعض حديث أخرجه البخاري 1407 ومسلم 992 وأحمد 5/ 160 وابن حبان 3260 من حديث أبي ذر وسياقه الوقف لكن أشار أبو ذر عقبة لرفعه، والله أعلم.
__________
(1) أثر ابن عباس لا يصح في تفسير هذه الآية، وإنما ينبغي ذكره في سورة آل عمران عند قوله سَيُطَوَّقُونَ ما بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ.

(2/256)


إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (37)

قوله تعالى: ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فيه قولان: أحدهما: ذلك القضاء المستقيم، قاله ابن عباس.
والثاني: ذلك الحساب الصحيح والعدد المستوي، قاله ابن قتيبة.
قوله تعالى: فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ اختلفوا في كناية «فيهنَّ» على قولين: أحدهما: أنها تعود على الاثني عشر شهراً، قاله ابن عباس. فعلى هذا يكون المعنى: لا تجعلوا حرامها حلالاً، ولا حلالها حراماً، كفعل أهل النسيء. والثاني: أنها ترجع إلى الأربعة الحرم، وهو قول قتادة، والفراء واحتج بأن العرب تقول لما بين الثلاثة إلى العشرة: لثلاث ليال خَلَوْنَ، وأيام خلون فاذا جُزتَ العشَرة قالوا: خلتْ ومضتْ ويقولون لما بين الثلاثة إلى العشرة: هُنَّ، وهؤلاء فاذا جزتَ العشرة، قالوا:
هي، وهذه: إرادةَ أن تُعرف سمة القليل من الكثير. وقال ابن الأنباري: العرب تعيد الهاء والنون على القليل من العدد، والهاء والألف على الكثير منه والقلَّة: ما بين الثلاثة إلى العشرة، والكثرة: ما جاوز العشرة. يقولون: وجهتُ إليك أكبُشاً فاذبحْهُنَّ، وكباشاً فاذبحها فلهذا قال: مِنْها أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ وقال: فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ لأنه يعني بقوله تعالى: «فيهن» الأربعة. ومن قال من المفسرين: إنه يعني بقوله تعالى «فيهن» الاثني عشر، فانه ممكن لأن العرب ربما جعلت علامة القليل للكثير، وعلامة الكثير للقليل. وعلى قول من قال: ترجع «فيهن» إلى الأربعة يُخرَّج في معنى الظلم فيهن أربعة أقوال:
أحدها: أنه المعاصي فتكون فائدة تخصيص النهي عنه بهذه الأشهر، أن شأن المعاصي يعظُم فيها أشدَّ من تعظيمه في غيرها، وذلك لفضلها على ما سواها، كقوله تعالى: وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ «1» وإن كانا قد دخلا في جملة الملائكة، وقوله: فاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ «2» وإن كانا قد دخلا في جملة الفاكهة، وقوله تعالى: فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدالَ فِي الْحَجِّ «3» وإن كان منهياً عنه في غير الحج، وكما أُمر بالمحافظة على الصلاة الوسطى وإن كان مأموراً بالمحافظة على غيرها، هذا قول الأكثرين. والثاني: أن المراد بالظلم فيهنَّ فعل النسيء، وهو تحليل شهر محرَّم، وتحريم شهر حلال، قاله ابن اسحاق.
والثالث: أنه البداية بالقتال فيهن فيكون المعنى: فلا تظلموا أنفسكم بالقتال فيهن إلا أن تُبدَؤوا بالقتال، قاله مقاتل. والرابع: أنه ترك القتال فيهن فيكون المعنى: فلا تظلموا فيهن أنفسكم بترك المحاربة لعدوِّكم، قاله ابن بحر، وهو عكس قول مقاتل. والسرُّ في أن الله تعالى عظَّم بعض الشهور على بعض، ليكون الكفُّ عن الهوى فيها ذريعة إلى استدامة الكف في غيرها تدريجاً للنفس إلى فراق مألوفها المكروه شرعا.

[سورة التوبة (9) : آية 37]
إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عاماً وَيُحَرِّمُونَهُ عاماً لِيُواطِؤُا عِدَّةَ ما حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا ما حَرَّمَ اللَّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمالِهِمْ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ (37)
قوله تعالى: إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ الجمهور على همز النسيء ومَدِّه وكسر سينه.
وروى شبل عن ابن كثير: «النِّسْءُ» على وزن النِسْع. وفي رواية أخرى عن شبل: «النَّسِيُّ» مشددة الياء من غير همز، وهي قراءة أبي جعفر والمراد بالكلمة التأخير. قال اللغويون: النّسيء: تأخير الشّيء.
__________
(1) سورة البقرة: 98.
(2) سورة الرحمن: 68.
(3) سورة البقرة: 197.

(2/257)


يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ (38)

وكانت العرب تحرِّم الأشهر الأربعة، وكان هذا مما تمسَّكت به من ملة إبراهيم فربما احتاجوا إلى تحليل المحرَّم للحرب تكون بينهم، فيؤخِّرون تحريم المحرَّم إلى صفر، ثم يحتاجون إلى تأخير صفر أيضاً إلى الشهر الذي بعده ثم تتدافع الشهور شهراً بعد شهر حتى يستدير التحريم على السنَّة كلِّها، فكأنهم يستنسئون الشهر الحرام ويستقرضونه، فأعلم الله تعالى أن ذلك زيادة في كفرهم لأنهم أحلُّوا الحرام وحرّموا الحلال لِيُواطِؤُا أي ليوافقوا عِدَّةَ ما حَرَّمَ اللَّهُ فلا يخرجون من تحريم أربعة، ويقولون: هذه بمنزلة الأربعة الحرم، ولا يبالون بتحليل الحرام وتحريم الحلال. وكان القوم لا يفعلون ذلك إلا في ذي الحجة إذا اجتمعت العرب للموسم، قال الفراء: كانت العرب في الجاهلية إذا أرادوا الصَّدَرَ عن مِنًى قام رجل من بني كنانة يقال له: نُعيم بن ثعلبة، وكان رئيس الموسم، فيقول: أنا الذي لا أُعابُ ولا أُجابُ ولا يُرَدُّ لي قضاء فيقولون: أنسئنا شهراً يريدون: أخِّر عنا حرمة المحرم، واجعلها في صفر، فيفعل ذلك. وإنما دعاهم إلى ذلك توالي ثلاثة أشهر حُرُم لا يُغِيرون فيها، وإنما كان معاشهم من الإغارة، فتستدير الشهور كما بيَّنَّا. وقيل: إنما كانوا يستحلُّون المحرَّم عاماً، فاذا كان من قابل ردُّوه إلى تحريمه. قال أبو عبيد: والتفسير الأول أحب إليَّ، لأن هذا القول ليس فيه استدارة.
(697) وقال مجاهد: كان أولَ من أظهر النسيء جنادةُ بن عوف الكناني، فوافقت حجَةُ أبي بكر ذا القعدة. ثم حجّ النبيّ صلى الله عليه وسلم في العام المقابل في ذي الحجة، فذلك حين قال: «ألا إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض» . وقال الكلبي: أول من فعل ذلك نُعيم بن ثعلبة.
قوله تعالى: يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر، وأبو بكر عن عاصم: «يَضِل» بفتح الياء وكسر الضاد، والمعنى: أنهم يكتسبون الضلال به. وقرأ حمزة والكسائي، وحفص عن عاصم: «يُضَلُّ» بضم الياء وفتح الضاد على ما لم يُسم فاعله. وقرأ الحسن البصري، ويعقوب إلا الوليد: «يُضِل» بضم الياء وكسر الضاد وفيه ثلاثة أوجه: أحدها: يُضِلُّ الله به. والثاني:
يُضِلّ الشيطان به، ذكرهما ابن القاسم. والثالث: يُضِلّ به الذين كفروا الناس، لأنهم الذين سنُّوه لهم.
قال أبو علي: التقدير: يُضل به الذين كفروا تابعيهم. وقال ابن القاسم: الهاء في «به» راجعة إلى النسيء، وأصل النسيء: المنسوء، أي: المؤخَّر، فينصرف عن «مفعول» إلى «فعيل» كما قيل: مطبوخ وطبيخ، ومقدور وقدير، قال: وقيل: الهاء راجعة إلى الظلم، لأن النسيء كَشَفَ تأويل الظلم، فجرى مجرى المظهر والأوّل اختيارنا.

[سورة التوبة (9) : آية 38]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ما لَكُمْ إِذا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَياةِ الدُّنْيا مِنَ الْآخِرَةِ فَما مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ (38)
قوله تعالى: ما لَكُمْ إِذا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا.
__________
مرسل. أخرجه الطبري 16728 عن مجاهد مرسلا. والمرفوع منه أخرجه البخاري 67 و 105 و 1741 و 3197 و 4406 و 4662 و 5550 و 7447 ومسلم 1679 وأبو داود 1948 وابن ماجة 233 وابن حبان 4848 وأحمد 5/ 39 من حديث أبي بكرة، وله شواهد كثيرة.

(2/258)


إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (39)

(698) قال المفسّرون: لمّا أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بغزوة تبوك، وكان في زمن عسرة وجدب وحرٍّ شديد، وقد طابت الثمار، عَظُمَ ذلك على الناس وأحبوا المُقام، فنزلت هذه الآية. وقوله تعالى: ما لَكُمْ استفهام معناه التّوبيخ. وقوله تعالى: انْفِرُوا معناه: اخرجوا، وأصل النفر: مفارقة مكان إلى مكان آخر لأمر هاج إلى ذلك. وقوله تعالى: اثَّاقَلْتُمْ قال ابن قتيبة: أراد:
تثاقلتم، فأدغم التاء في الثاء، وأحدثت الألف ليسكن ما بعدها، وأراد: قعدتم. وفي قراءة ابن مسعود، والأعمش: «تثاقلتم» . وفي معنى إِلَى الْأَرْضِ ثلاثة أقوال: أحدها: تثاقلتم إلى شهوات الدنيا حين أخرجت الأرض ثمرها، قاله مجاهد. والثاني: اطمأننتم إلى الدنيا، قاله الضحاك. والثالث: تثاقلتم إلى الإقامة بأرضكم، قاله الزجاج.
قوله تعالى: أَرَضِيتُمْ بِالْحَياةِ الدُّنْيا أي: بنعيمها من نعيم الآخرة، فما يُتمتَّع به في الدنيا قليل بالإضافة إلى ما يَتمتَّع به الأولياء في الجنة.

[سورة التوبة (9) : آية 39]
إِلاَّ تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّوهُ شَيْئاً وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (39)
قوله تعالى: إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ.
(699) سبب نزولها أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لما حثَّهم على غزو الروم تثاقلوا، فنزلت هذه الآية، قاله ابن عباس. وقال قوم: هذه خاصّة فيمن استنفره رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم ينفر.
(700) قال ابن عباس: استنفر رسول الله صلى الله عليه وسلم حيّا من أحياء العرب فتثاقلوا عنه، فأُمسك عنهم المطر فكان عذابهم.
وفي قوله تعالى: وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ وعيد شديد في التخلُّف عن الجهاد، وإعلام بأنه يستبدل لنصر نبيه قوماً غير متثاقلين. ثم أعلمهم أنهم إن تركوا نصره لم يضروه، كما لم يضرُرْه ذلك إذْ كان بمكة. وفي هاء «تضرُّوه» قولان:
أحدهما: أنها ترجع إلى الله، والمعنى: لا تضروا الله بترك النفير، قاله الحسن.
والثاني: أنها ترجع إلى رسول الله. فالمعنى: لا تضروه بترك نصره، قاله الزجاج.
(فصل:) وقد روي عن ابن عباس، والحسن، وعكرمة، قالوا: نسخ قوله تعالى: إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً
__________
ذكره الواحدي في «أسباب النزول» 502 بدون إسناد.
وأخرجه الطبري 16734 و 16735 عن مجاهد مرسلا بنحوه.
هو معنى المتقدم، لأن غزوة تبوك كان المراد بها الروم.
باطل. أخرجه أبو داود 2506 والحاكم 2: 118 والطبري 16736 والبيهقي 9: 48 من رواية عبد المؤمن عن نجدة بن نفيع عن ابن عباس، وصححه الحاكم! ووافقه الذهبي! ومداره على نجدة، وهو مجهول، والمتن باطل، إذ لم يحصل ذلك، ثم إن العذاب الأليم ليس بحبس المطر، لأنهم يمكنهم الانتقال إلى موضع آخر، والمراد عذاب مهلك، أو عذاب النار.

(2/259)


إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (40)

بقوله: وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً «1» . وقال أبو سليمان الدمشقي:
ليس هذا من المنسوخ، إذ لا تنافي بين الآيتين، وإنما حكم كل آية قائم في موضعها. وذكر القاضي أبو يعلى عن بعض العلماء أنهم قالوا: ليس ها هنا نسخ، ومتى لم يقاوم أهل الثغور العدوَّ، ففرضٌ على الناس النفير إليهم، ومتى استغنَوا عن إعانة مَن وراءهم، عُذر القاعدون عنهم. وقال قوم: هذا في غزوة تبوك، ففُرِض على الناس النّفير مع رسول الله صلى الله عليه وسلم.

[سورة التوبة (9) : آية 40]
إِلاَّ تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُما فِي الْغارِ إِذْ يَقُولُ لِصاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْها وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (40)
قوله تعالى: إِلَّا تَنْصُرُوهُ أي: بالنفير معه فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إعانةً على أعدائه، إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا حين قصدوا إهلاكه على ما شرحنا في قوله تعالى: وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا «2» فأعلمهم أن نصره ليس بهم.
قوله تعالى: ثانِيَ اثْنَيْنِ العرب تقول: هو ثاني اثنين، أي: أحد الاثنين، وثالث ثلاثة، أي:
أحد الثلاثة، قال الزّجّاج: وقوله تعالى: ثانِيَ اثْنَيْنِ منصوب على الحال المعنى: فقد نصره الله أحد اثنين، أي: نصره منفرداً إلا من أبي بكر، وهذا معنى قول الشعبي: عاتب الله أهل الأرض جميعاً في هذه الآية غير أبي بكر. وقال ابن جرير: المعنى: أخرجوه وهو أحد الاثنين، وهما رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر. فأما الغار، فهو ثَقب في الجبل، وقال ابن فارس: الغار: الكهف، والغار: نبت طيِّب الرِّيح، والغار: الجماعة من الناس، والغاران: البطن والفرج، وهما الأجوفان، يقال: إنما هو عبد غارَيْه قال الشاعر:
ألَم تر أنَّ الدَّهْرَ يَوْمٌ وَلَيْلَةٌ ... وأنَّ الفَتَى يَسْعَى لِغَارَيْهِ دَائِبَا «3»
قال قتادة: وهذا الغار في جبل بمكة يقال له: ثور. قال مجاهد: مكثا فيه ثلاثاً. وقد ذكرت حديث الهجرة في كتاب «الحدائق» .
__________
(1) قال الطبري في «تفسيره» 6/ 374: ولا خبر بالذي قاله عكرمة والحسن من نسخ حكم هذه الآية التي ذكرا، يجب التسليم له. ولا حجة ناف لصحة ذلك. وقد رأى ثبوت الحكم بذلك عدد من الصحابة والتابعين سنذكرهم بعد، وجائز أن يكون قوله: إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً. الخاص من الناس، ويكون المراد به من استنفره رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم ينفر، على ما ذكرنا من الرواية عن ابن عباس. وإذ كان ذلك كذلك، كان قوله:
وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً [التوبة: 122] نهيا من الله المؤمنين عن إخلاء بلاد الإسلام بغير مؤمن مقيم فيها. وإعلاما من الله لهم أن الواجب النفر على بعضهم دون بعض، وذلك على من استنفر منهم دون من لم يستنفر. وإذا كان ذلك كذلك لم يكن في إحدى الآيتين نسخ للأخرى، وكان حكم كل واحدة منهما ماضيا فيما عنيت به ا. هـ.
(2) سورة الأنفال: 3.
(3) البيت في «اللسان» غور، غير منسوب.

(2/260)


(701) قال أنس بن مالك: أمر الله عزّ وجلّ شجرة فنبتت في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم فسترته، وأمر العنكبوت فنسجت في وجهه، وأمر حمامتين وحشيتين فوقعتا في فم الغار، فلما دنوا من الغار، عَجِل بعضهم لينظر، فرأى حمامتين، فرجع فقال: رأيت حمامتين على فم الغار، فعلمت أنه ليس فيه أحد.
(702) وقال مقاتل: جاء القائف فنظر إلى الأقدام فقال: هذه قدم ابن أبي قحافة، والأخرى لا أعرفها، إلا أنها تشبه القدم التي في المقام. وصاحبه في هذه الآية أبو بكر.
(703) وكان أبو بكر قد بكى لما مرَّ المشركون على باب الغار، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: «ما ظنك باثنين الله ثالثهما» ؟
وفي السكينة ثلاثة أقوال: أحدها: أنها الرحمة، قاله ابن عباس. والثاني: الوقار، قاله قتادة.
والثالث: السكون والطمأنينة، قاله ابن قتيبة، وهو أصح. وفي هاء «عليه» ثلاثة أقوال: أحدها: أنها ترجع إلى أبي بكر، وهو قول علي بن أبي طالب، وابن عباس، وحبيب بن أبي ثابت. واحتجَ من نصر هذا القول بأن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان مطمئناً. والثاني: أنها ترجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم، قاله مقاتل. والثالث: أنّ الهاء ها هنا في معنى تثنية، والتقدير: فأنزل الله سكينته عليهما، فاكتفى باعادة الذِّكر على أحدهما من إعادته عليهما، كقوله تعالى: وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ «1» ، ذكره ابن الأنباري.
قوله تعالى: وَأَيَّدَهُ أي: قوّاه، يعني النبيّ صلى الله عليه وسلم بلا خلاف. بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْها وهم الملائكة. ومتى كان ذلك؟ فيه قولان: أحدهما: يوم بدر، ويوم الأحزاب، ويوم حنين، قاله ابن عباس. والثاني: لما كان في الغار، صَرفت الملائكة وجوه الكفار وأبصارهم عن رؤيته، قاله الزجاج.
فان قيل: إذا وقع الاتفاق أن هاء الكناية في «أيده» ترجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فكيف تفارقها هاء «عليه» وهما متفقان في نظم الكلام؟
فالجواب: أن كل حرف يُردُّ إلى الأليق به، والسكينة إنما يَحتاج إليها المنزعج، ولم يكن النبيّ صلى الله عليه وسلم منزعجاً. فأما التأييد بالملائكة، فلم يكن إلا للنبيّ صلى الله عليه وسلم ونظير هذا قوله تعالى: لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ «2» يعني النبيّ صلى الله عليه وسلم، وَتُسَبِّحُوهُ يعني الله عزّ وجلّ.
__________
أخرجه ابن سعد في «الطبقات» 1/ 229 عن أبي مصعب المكي عن أنس بن مالك وزيد بن أرقم والمغيرة بن شعبة. وفي سنده ضعيف ومجهول. وذكره الهيثمي في «المجمع» 6/ 52- 53 وقال: رواه البزار والطبراني، وفيه جماعة لم أعرفهم.
عزاه المصنف لمقاتل، وهو ممن يضع الحديث، والخبر باطل.
كون أبي بكر بكى في الغار لم أقف عليه، والذي في «الصحيحين» أن أبا بكر بكى لما تبعهما سراقة.
والمرفوع من هذا الحديث صحيح، أخرجه البخاري 3653 و 3922 ومسلم 2381 وابن أبي شيبة 12/ 7 وأحمد 1/ 4 وابن سعد 3/ 173 و 174 والترمذي 3096 وأبو يعلى 67 وابن حبان 6278 عن أنس: أن أبا بكر حدثهم قال: قلت للنبي صلى الله عليه وسلم ونحن في الغار: لو أن أحدهم نظر إلى قدميه لأبصرنا، فقال: «يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما» .
__________
(1) سورة التوبة: 62.
(2) سورة الفتح: 8.

(2/261)


انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (41)

قوله تعالى: وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلى فيها قولان: أحدهما: أن كلمة الكافرين الشرك، جعلها الله السفلى لأنها مقهورة، وكلمة الله وهي التوحيد، هي العليا، لأنها ظهرت، هذا قول الأكثرين. والثاني: أن كلمة الكافرين ما قدَّروا بينهم في الكيد به ليقتلوه، وكلمة الله أنه ناصره، رواه عطاء عن ابن عباس. وقرأ ابن عباس، والحسن، وعكرمة، وقتادة، والضحاك، ويعقوب: «وكلمةَ الله» بالنصب.
قوله تعالى: وَاللَّهُ عَزِيزٌ أي: في انتقامه من الكافرين حَكِيمٌ في تدبيره.

[سورة التوبة (9) : آية 41]
انْفِرُوا خِفافاً وَثِقالاً وَجاهِدُوا بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (41)
قوله تعالى: انْفِرُوا خِفافاً وَثِقالًا.
(704) سبب نزولها أنّ المقداد جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان عظيماً سميناً، فشكا إليه وسأله أن يأذن له، فنزلت هذه الآية، قاله السدي.
وفي معنى «خفافاً وثقالاً» أحد عشر قولاً: أحدها: شيوخاً وشباباً، رواه أنس عن أبي طلحة، وبه قال الحسن، والشعبي، وعكرمة، ومجاهد، وأبو صالح، وشَمْرُ بن عطية، وابن زيد في آخرين.
والثاني: رجّالةً وركباناً، رواه عطاء عن ابن عباس، وبه قال الأوزاعي. والثالث: نِشاطاً وغير نِشاط، رواه العوفي عن ابن عباس، وبه قال قتادة، ومقاتل. والرابع: أغنياء وفقراء، روي عن ابن عباس. ثم في معنى هذا الوجه قولان: أحدهما: أن الخفاف: ذوو العسرة وقلَّة العيال، والثقال: ذوو العيال والميسرة، قاله الفراء. والثاني: أن الخفاف: أهل الميسرة، والثقال: أهل العسرة، حكي عن الزجاج.
والخامس: ذوي عيال، وغير ذوي عيال. قاله زيد بن أسلم. والسادس: ذوي ضياع، وغير ذوي ضياع، قاله ابن زيد. والسابع: ذوي أشغال، وغير ذوي أشغال، قاله الحكم. والثامن: أصحَّاء، ومرضى، قاله مرة الهمداني، وجويبر. والتاسع: عزَّاباً ومتأهِّلين، قاله يمان بن رئاب. والعاشر: خفافاً إلى الطاعة، وثقالاً عن المخالفة، ذكره الماوردي. والحادي عشر: خفافاً من السلاح، وثقالاً بالاستكثار منه، ذكره الثعلبي.
(فصل:) روى عطاء الخراساني عن ابن عباس ان هذه الآية منسوخة بقوله «1» تعالى:
__________
باطل. عزاه المصنف للسدي، وهو ذو مناكير، وخبره معضل، والمتن باطل، فإن المقداد بن الأسود أحد الشجعان الأبطال لم يتخلف عن غزوة دعي إليها. وذكره الواحدي في «أسباب النزول» 504 عن السدي.
وذكره السيوطي في «الدر» 3/ 440 وعزاه لأبي الشيخ وابن أبي حاتم عن السدي.
__________
(1) قال القرطبي في «الجامع لأحكام القرآن» 8/ 138 الآية انْفِرُوا خِفافاً وَثِقالًا: اختلف في هذه الآية، فقيل:
إنها منسوخة بقوله تعالى لَيْسَ عَلَى الضُّعَفاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضى [التوبة: 91] . وقيل الناسخ لها قوله فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ [التوبة: 22] . والصحيح أنها ليست بمنسوخة اه.

(2/262)


لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا وَسَفَرًا قَاصِدًا لَاتَّبَعُوكَ وَلَكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (42) عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ (43)

وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً «1» . وقال السّدّيّ: نسخت بقوله تعالى: لَيْسَ عَلَى الضُّعَفاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضى «2» .
قوله تعالى: وَجاهِدُوا بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ قال القاضي أبو يعلى: أوجب الجهاد بالمال والنفس جميعاً، فمن كان له مال وهو مريض أو مقعد أو ضعيف لا يصلح للقتال، فعليه الجهاد بماله، بأن يعطيه غيره فيغزو به، كما يلزمه الجهاد بنفسه إذا كان قوياً. وإن كان له مال وقوَّة، فعليه الجهاد بالنفس والمال. ومن كان معدماً عاجزاً، فعليه الجهاد بالنّصح لله ورسوله، لقوله تعالى: وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ ما يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ «3» .
قوله تعالى: ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ فيه قولان: أحدهما: ذلكم الجهاد خير لكم من تركه والتثاقل عنه. والثاني: ذلكم الجهاد خير حاصل لكم إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ما لكم من الثّواب.

[سورة التوبة (9) : آية 42]
لَوْ كانَ عَرَضاً قَرِيباً وَسَفَراً قاصِداً لاتَّبَعُوكَ وَلكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنا لَخَرَجْنا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (42)
قوله تعالى: لَوْ كانَ عَرَضاً قَرِيباً قال المفسرون: نزلت في المنافقين الذين تخلَّفوا عن غزوة تبوك. ومعنى الآية: لو كان ما دُعوا إليه عَرَضاً قريباً. والعرض: كلُّ ما عرض لك من منافع الدنيا، فالمعنى: لو كانت غنيمةً قريبة، أو كان سفراً قاصداً، أي: سهلاً قريباً، لاتَّبعوك طمعاً في المال وَلكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ قال ابن قتيبة: الشقة: السفر وقال الزجاج: الشقة: الغاية التي تقصد وقال ابن فارس: الشقة: مصير إلى أرض بعيدة، تقول: شقّة شاقّة.
قوله تعالى: وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ يعني المنافقين إذا رجعتم إليهم لَوِ اسْتَطَعْنا وقرأ زائدة عن الأعمش، والأصمعي عن نافع: «لوُ استطعنا» بضم الواو، وكذا أين وقع، مثل: لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ «4» ، كأنه لما احتيج إلى حركة الواو، حركت بالضم لأنها أخت الواو، والمعنى: لو قدرنا وكان لنا سَعَةٌ في المال. يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ بالكذب والنفاق وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ لأنهم كانوا أغنياء ولم يخرجوا.

[سورة التوبة (9) : آية 43]
عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكاذِبِينَ (43)
قوله تعالى: عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ كان عليه السّلام قد أذن لقوم من المنافقين في التخلُّف لمَّا خرج إلى تبوك، قال ابن عباس: ولم يكن يومئذ يعرف المنافقين.
(705) قال عمرو بن ميمون: اثنتان فعلهما رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يؤمر بهما: أذّنه للمنافقين، وأخذه
__________
مرسل. أخرجه الطبري 16780 عن عمرو بن ميمون الأودي ... وذكره السيوطي في «أسباب النزول» 573 عن عمرو. انظر «تفسير القرطبي» 8/ 139 و «تفسير الشوكاني» 2/ 419.
__________
(1) سورة التوبة: 122. [.....]
(2) سورة التوبة: 91.
(3) سورة التوبة: 91.
(4) سورة الكهف: 18.

(2/263)


لَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (44) إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ (45) وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ (46) لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (47)

الفداء من الأسارى فعاتبه الله كما تسمعون. قال مورِّق: عاتبه ربُّه بهذا. وقال سفيان بن عيينة: انظر إلى هذا اللطف، بدأه بالعفو قبل أن يعيِّره بالذَّنْب. وقال ابن الأنباري: لم يخاطَب بهذا لجرم أجرمه، لكنَّ الله وقَّره ورفع من شأنه حين افتتح الكلام بقوله تعالى: عَفَا اللَّهُ عَنْكَ كما يقول الرجل لمخاطبه إذا كان كريماً عليه: عفا الله عنك، ما صنعت في حاجتي؟ ورضي الله عنك، هلاَّ زرتني.
قوله تعالى: حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا فيه قولان: أحدهما: أن معناه: حتى تعرف ذوي العذر في التخلُّف ممن لا عذر له. والثاني: لو لم تأذن لهم لقعدوا وبان لك كذبهم في اعتذارهم. قال قتادة: ثم إن الله تعالى نسخ هذه الآية بقوله تعالى: فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ «1» .

[سورة التوبة (9) : الآيات 44 الى 45]
لا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يُجاهِدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (44) إِنَّما يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَارْتابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ (45)
قوله تعالى: لا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ قال ابن عباس: هذا تعيير للمنافقين حين استأذنوا في القعود. قال الزجاج: أعلم الله عزّ وجلّ نبيّه صلى الله عليه وسلم أنَّ علامة النفاق في ذلك الوقت الاستئذان.
(فصل:) وروي عن ابن عباس أنه قال: نسخت هذه الآية بقوله تعالى: لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ «2» إلى آخر الآية. قال أبو سليمان الدّمشقي: وليس للنّسخ ها هنا مدخل، لإمكان العمل بالآيتين، وذلك أنه إنما عاب على المنافقين أن يستأذنوه في القعود عن الجهاد من غير عذر، وأجاز للمؤمنين الاستئذان لما يعرض لهم من حاجة، وكان المنافقون إذا كانوا معه فعرضت لهم حاجة، ذهبوا من غير استئذانه.

[سورة التوبة (9) : الآيات 46 الى 47]
وَلَوْ أَرادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقاعِدِينَ (46) لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ ما زادُوكُمْ إِلاَّ خَبالاً وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (47)
قوله تعالى: وَلَوْ أَرادُوا الْخُرُوجَ يعني المستأذنين له في القعود. وفي المراد بالعُدَّة قولان:
أحدهما: النية، قاله الضحاك عن ابن عباس. والثاني: السلاح والمركوب وما يصلح للخروج، قاله أبو صالح عن ابن عباس. والانبعاث: الانطلاق. والتثبُّط: ردُّك الإنسان عن الشيء يفعله. قوله تعالى:
وَقِيلَ اقْعُدُوا في القائل لهم ثلاثة أقوال: أحدها: أنهم أُلهموا ذلك خذلاناً لهم. قاله مقاتل.
والثاني: أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قاله غضباً عليهم. والثالث: أنه قول بعضهم لبعض، ذكرهما الماوردي «3» . وفي المراد بالقاعدين قولان: أحدهما: أنهم القاعدون بغير عذر، قاله ابن السائب. والثاني: أنهم القاعدون بعذر، كالنساء والصبيان، ذكره عليّ بن عيسى. قال الزّجّاج: ثم أعلم الله عزّ وجلّ لم كره خروجهم،
__________
(1) سورة النور: 62.
(2) سورة النور: 62.
(3) انظر «تفسير القرطبي» 8/ 142. و «تفسير الشوكاني» 2/ 418.

(2/264)


لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ حَتَّى جَاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كَارِهُونَ (48) وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلَا تَفْتِنِّي أَلَا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ (49)

فقال: لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ ما زادُوكُمْ إِلَّا خَبالًا والخبال: الفساد وذهاب الشيء. وقال ابن قتيبة: الخبال:
الشر.
فان قيل: كأن الصحابة كان فيهم خبال حتى قيل: ما زادُوكُمْ إِلَّا خَبالًا؟ فالجواب: أنه من الاستثناء المنقطع، والمعنى: ما زادوكم قوَّة، لكن أوقعوا بينكم خبالاً.
(706) وقيل: سبب نزول هذه الآية أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم لما خرج، ضرب عسكره على ثنيَّة الوداع، وخرج عبد الله بن أُبيّ، فضرب عسكره على أسفل من ذلك فلما سار رسول الله صلى الله عليه وسلم، تخلَّف ابن أُبي فيمن تخلَّف من المنافقين، فنزلت هذه الآية.
قوله تعالى: وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ قال الفراء: الإيضاع: السير بين القوم. وقال أبو عبيدة:
لأسرعوا بينكم، وأصله من التخلل. قال الزجاج: يقال: أوضعت في السير: أسرعت.
قوله تعالى: يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ قال الفراء: يبغونها لكم. وفي الفتنة قولان: أحدهما: الكفر، قاله الضحاك، ومقاتل، وابن قتيبة. والثاني: تفريق الجماعة، وشتات الكلمة. قال الحسن: لأوضعوا خلالكم بالنميمة لإفساد ذات بينكم.
قوله تعالى: وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ فيه قولان: أحدهما: عيون ينقلون إليهم أخباركم، قاله مجاهد، وابن زيد. والثاني: مَن يسمع كلامهم ويطيعهم، قاله قتادة، وابن إسحاق.

[سورة التوبة (9) : آية 48]
لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ حَتَّى جاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كارِهُونَ (48)
قوله تعالى: لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ في الفتنة قولان: أحدهما: الشر، قاله ابن عباس. والثاني:
الشرك، قاله مقاتل. قوله تعالى: مِنْ قَبْلُ أي: مِنْ قَبْلِ غزوة تبوك. وفي قوله تعالى: وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ خمسة أقوال: أحدها: بَغَوْا لك الغوائل، قاله ابن عباس. وقيل: إن اثني عشر رجلاً من المنافقين وقفوا على طريقه ليلاً ليفتكوا به، فسلَّمه الله منهم. والثاني: احتالوا في تشتُّت أمرك وإبطال دينك، قاله أبو سليمان الدمشقي. قال ابن جرير: وذلك كانصراف ابن أُبيّ يوم أُحد بأصحابه.
والثالث: أنه قولهم ما ليس في قلوبهم. والرابع: أنه ميلهم إليك في الظاهر، وممالأة المشركين في الباطن. والخامس: أنه حلفهم بالله لَوِ اسْتَطَعْنا لَخَرَجْنا مَعَكُمْ، ذكر هذه الأقوال الثلاثة الماوردي.
قوله تعالى: حَتَّى جاءَ الْحَقُّ يعني النصر وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ يعني الإسلام.

[سورة التوبة (9) : آية 49]
وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ (49)
قوله تعالى: وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي
__________
هو بعض حديث، أخرجه الطبري 16799 من طريق ابن إسحاق عن الزهري ويزيد بن رومان وعبد الله بن أبي بكر، وعاصم بن عمر.

(2/265)


إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِنْ قَبْلُ وَيَتَوَلَّوْا وَهُمْ فَرِحُونَ (50) قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (51) قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ (52)

(707) سبب نزولها أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال للجَدِّ بن قيس: «يا جَدُّ، هل لك في جِلاد بني الأصفر، لعلك أن تغنم بعض بنات الأصفر» ، فقال: يا رسول الله، ائذن لي فأقيم، ولا تفتني ببنات الأصفر. فأعرض عنه، وقال: «قد أذنت لك» ، ونزلت هذه الآية، قاله أبو صالح عن ابن عباس. وهذه الآية وما بعدها إلى قوله تعالى: إِنَّمَا الصَّدَقاتُ في المنافقين.
قوله تعالى: وَمِنْهُمْ يعني المنافقين مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي أي: في القعود عن الجهاد، وهو الجد بن قيس. وفي قوله تعالى: وَلا تَفْتِنِّي أربعة أقوال: أحدها: لا تفتنّي بالنساء، قاله ابن عباس، ومجاهد، وابن زيد. والثاني: لا تُكسبني الإثم بأمرك إيَّايَ بالخروج وهو غير متيسِّر لي، فآثم بالمخالفة، قاله الحسن، وقتادة، والزجاج. والثالث: لا تكفِّرني بإلزامك إيَّايَ الخروج، قاله الضحاك.
والرابع: لا تصرفني عن شغلى، قاله ابن بحر.
قوله تعالى: أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا في هذه الفتنة أربعة أقوال: أحدها: أنها الكفر، قاله أبو صالح عن ابن عباس. والثاني: الحرج، قاله علي بن أبي طلحة عن ابن عباس. والثالث: الإثم، قله قتادة، والزجاج. والرابع: العذاب في جهنم، ذكره الماوردي.

[سورة التوبة (9) : الآيات 50 الى 51]
إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنا أَمْرَنا مِنْ قَبْلُ وَيَتَوَلَّوْا وَهُمْ فَرِحُونَ (50) قُلْ لَنْ يُصِيبَنا إِلاَّ ما كَتَبَ اللَّهُ لَنا هُوَ مَوْلانا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (51)
قوله تعالى: إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ أي: نصر وغنيمة. والمصيبة: القتل والهزيمة. يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنا أَمْرَنا أي: عَمِلنا بالحزم فلم نخرج. وَيَتَوَلَّوْا وَهُمْ فَرِحُونَ بمصابك وسلامتهم. قوله تعالى: إِلَّا ما كَتَبَ اللَّهُ لَنا فيه ثلاثة أقوال: أحدها: ما قضى علينا، قاله ابن عباس. والثاني: ما بيَّن لنا في كتابه من أنَّا نظفر فيكون ذلك حسنى لنا، أو نقتل فتكون الشهادةُ حسنى لنا أيضاً، قاله الزجاج. والثالث: لن يصيبنا في عاقبة أمرنا إلا ما كتب الله لنا من النصر الذي وُعدنا، ذكره الماوردي.
قوله تعالى: هُوَ مَوْلانا أي: ناصرنا.

[سورة التوبة (9) : آية 52]
قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنا إِلاَّ إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ (52)
قوله تعالى: قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنا أي: تنتظرون. والحسنيان: النصر والشهادة. وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذابٍ مِنْ عِنْدِهِ في هذا العذاب قولان: أحدهما: الصواعق، قاله ابن عباس. والثاني: الموت، قاله ابن جُرَيج. قوله تعالى: أَوْ بِأَيْدِينا يعني: القتل.
__________
أخرجه الطبراني في «الكبير» 2154 و 12654 من حديث ابن عباس، وقال الهيثمي في المجمع 7/ 30: وفيه يحيى الحماني، وهو ضعيف اه. قلت: وبشر بن عمارة ضعيف، والضحاك لم يسمع من ابن عباس، وللحديث شواهد. انظر «الدر المنثور» 3/ 49 و «دلائل النبوة» للبيهقي 5/ 213 و 214.

(2/266)


قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْمًا فَاسِقِينَ (53) وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلَا يَأْتُونَ الصَّلَاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَى وَلَا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ (54) فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ (55)

[سورة التوبة (9) : آية 53]
قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْماً فاسِقِينَ (53)
قوله تعالى: أَنْفِقُوا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً.
(708) سبب نزولها أن الجدّ بن قيس قال للنبي صلى الله عليه وسلم لما عرض عليه غزو الروم: إذا رأيت النساء افتتنت ولكن هذا مالي أعينك به، فنزلت هذه الآية، قاله ابن عباس.
قال الزجاج: وهذا لفظ أمر، ومعناه معنى الشرط والجزاء، المعنى: إن أنفقتم طائعين أو مكرهين لن يُتقبَّل منكم. ومثله في الشعر قول كثيِّر:
أسيئي بنا أو أحسني لا ملومةً ... لَدينا ولا مَقْلِيَّةً إن تَقَلَّتِ «1»
لم يأمرها بالإساءة، ولكن أعلمها أنها إن أساءت أو أحسنت فهو على عهدها. قال الفراء. ومثله اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ «2» .

[سورة التوبة (9) : آية 54]
وَما مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقاتُهُمْ إِلاَّ أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلا يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلاَّ وَهُمْ كُسالى وَلا يُنْفِقُونَ إِلاَّ وَهُمْ كارِهُونَ (54)
قوله تعالى: وَما مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقاتُهُمْ قرأ ابن كثير، ونافع، وعاصم، وأبو عمرو، وابن عامر: «تقبل» بالتاء: وقرأ حمزة، والكسائيّ: «يقبل» بالياء. وقال أبو علي: من أنَّث، فلأن الفعل مسند إلى مؤنَّث في اللفظ ومن قرأ بالياء، فلأنه ليس بتأنيث حقيقي، فجاز تذكيره كقوله تعالى:
فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ «3» . وقرأ الجحدري: «أن يَقبل» بياء مفتوحة، «نفقاتِهم» بكسر التاء. وقرأ الأعمش: «نفقتهم» بغير ألف، مرفوعة التاء. وقرأ أبو مجلز، وأبو رجاء: «أن يَقبل» بالياء «نفقتهم» بنصب التاء على التوحيد.
قوله تعالى: إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ قال ابن الانباري: «أن» هاهنا مفتوحة، لأنها بتأويل المصدر مرتفعة ب «منعهم» ، والتقدير: وما منعهم قبول النفقة منهم إلا كفرهم بالله.
قوله تعالى: إِلَّا وَهُمْ كُسالى قد شرحناه في سورة (النساء) «4» .
قوله تعالى: وَلا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كارِهُونَ لأنهم يعدُّون الإنفاق مغرماً.

[سورة التوبة (9) : آية 55]
فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِها فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كافِرُونَ (55)
قوله تعالى: فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ أي: لا تستحسن ما أنعمنا به عليهم من الأموال والأولاد.
__________
ضعيف. أخرجه الطبري 16818 عن ابن عباس، وإسناده ضعيف، ابن جريج لم يسمع ابن عباس.
__________
(1) البيت منسوب إلى كثير عزة، ديوانه: 1/ 53. يقال قلاه: قلاه يقليه قلى كرهه وأبغضه، تقلى تبغض.
(2) سورة التوبة: 80.
(3) سورة البقرة: 275.
(4) سورة النساء: 142.

(2/267)


وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَمَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ (56) لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغَارَاتٍ أَوْ مُدَّخَلًا لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ (57)

وفي معنى الآية أربعة أقوال «1» : أحدها: فلا تعجبك أحوالهم ولا أولادهم في الحياة الدنيا، إنما يريد الله ليعذبهم بها في الآخرة، قاله ابن عباس ومجاهد وقتادة والسدي وابن قتيبة. فعلى هذا في الآية تقديم وتأخير، ويكون تعذيبهم في الآخرة بما صنعوا في كسب الأموال وإنفاقها. والثاني: أنها على نظمها، والمعنى: ليُعذبهم بها في الدنيا بالمصائب في الأموال والأولاد، فهي لهم عذاب، وللمؤمنين أجر، قاله ابن زيد. والثالث: أن المعنى: ليعذبهم بأخذ الزكاة من أموالهم والنفقة في سبيل الله، قاله الحسن. فعلى هذا ترجع الكناية إلى الأموال وحدها. والرابع: ليعذبهم بسبي أولادهم وغنيمة أموالهم، ذكره الماوردي. فعلى هذا تكون في المشركين.
قوله تعالى: وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ أي: تخرج، يقال: زهق السّهم: إذا جاوز الهدف.

[سورة التوبة (9) : الآيات 56 الى 57]
وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَما هُمْ مِنْكُمْ وَلكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ (56) لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغاراتٍ أَوْ مُدَّخَلاً لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ (57)
قوله تعالى: وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ أي: مؤمنون، ويَفْرَقُونَ بمعنى يخافون. فأما الملجأ، فقال الزجاج: الملجأ واللَّجأ مقصور مهموز، وهو المكان الذي يُتحصن فيه. والمغارات:
جمع مغارة، وهو الموضع الذي يغور فيه الإنسان، أي: يستتر فيه. وقرأ سعيد بن جبير، وابن أبي عبلة: «أو مُغارات» بضم الميم لأنه يقال: أغرت وغُرت: إذا دخلتَ الغور. وأصل مدَّخَل: مدتخل، ولكن التاء تبدل بعد الدال دالاً، لأن التاء مهموسة، والدال مجهورة، والتاء والدال من مكان واحد، فكان الكلام من وجه واحد أخف. وقرأ أُبيٌّ، وأبو المتوكل، وأبو الجوزاء: «أو مُتَدَخَّلاً» برفع الميم، وبتاء ودال مفتوحتين، مشددة الخاء. وقرأ ابن مسعود، وأبو عمران: «مُندخَلاً» بنون بعد الميم المضمومة. وقرأ الحسن، وابن يعمر، ويعقوب: «مدخلاً» بفتح الميم وتخفيف الدال وسكونها. قال الزجاج: من قال: «مَدْخلاً» فهو من دخل يدخل مدخلاً ومن قال: «مُدْخلاً» فهو من أدخلته مُدخلاً، قال الشاعر:
الحمد لله مُمْسَانا ومُصْبَحَنَا ... بالخير صبَّحنا رَبِّي ومسَّانا «2»
ومعنى مدّخل: أنهم لو وجدوا قوماً يدخلون في جملتهم لَوَلَّوْا إليه، أي: إلى أحد هذه الأشياء وَهُمْ يَجْمَحُونَ أي: يسرعون إسراعاً لا يرد فيه وجوهَهم شيء. يقال: جمح وطمح: إذا أسرع ولم يردَّ وجهه شيء ومنه قيل: فرس جموح للذي إذا حمل لم يرده اللجام.
__________
(1) قال الطبري في «تفسيره» 6/ 391: وأولى التأويلين. في ذلك عندنا. التأويل الذي ذكرنا عن الحسن، لأن ذلك هو الظاهر من التنزيل، فصرف تأويله إلى ما دل عليه ظاهره أولى من صرفه إلى باطن لا دلالة على صحته. وإنما وجّه من وجّه ذلك إلى التقديم وهو مؤخر، لأنه لم يعرف لتعذيب الله المنافقين بأموالهم وأولادهم في الحياة الدنيا، وجها يوجهه إليه، وقال: كيف يعذبهم بذلك في الدنيا وهي لهم فيها سرور؟ ذهب عنه توجيهه إلى أنه من عظيم العذاب عليه، إلزامه ما أوجب الله عليه فيها من حقوقه وفرائضه إذ كان يلزمه ويؤخذ منه وهو غير طيب النفس، ولا راج من الله جزاء، ولا من الأخذ منه حمدا ولا شكرا. على ضجر منه وكره. ا. هـ.
(2) البيت لأمية بن أبي الصلت في «اللسان» ما.

(2/268)


وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ (58) وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ (59) إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (60)

[سورة التوبة (9) : آية 58]
وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْها رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْها إِذا هُمْ يَسْخَطُونَ (58)
قوله تعالى: وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقاتِ فيمن نزلت فيه قولان:
(709) أحدهما: أنه ذو الخويصرة التّميمي، قال للنبيّ صلى الله عليه وسلم يوماً: اعدل يا رسول الله، فنزلت هذه الآية. ويقال: أبو الخواصر. ويقال: ابن ذي الخويصرة.
(710) والثاني: أنه ثعلبة بن حاطب كان يقول: إنما يعطي محمد من يشاء، فنزلت هذه الآية.
قال ابن قتيبة: «يلمزك» يعيبك ويطعن عليك. يقال: همزت فلاناً ولمزته: إذا اغتبته وعبته، والأكثرون على كسر ميم «يلمزك» . وقرأ يعقوب، ونظيف عن قنبل، وأبان عن عاصم، والقزّاز عن عبد الوارث: «يلمزون» و «يلمزك» و «لا تلمزوا» بضم الميم فيهنَّ. وقرأ ابن السميفع: «يلامزك» مثل:
يفاعل. وقد رواها حماد بن سلمة عن ابن كثير. قال أبو علي الفارسي: وينبغي أن تكون فاعلت في هذا من واحد، نحو: طارقت النعل، وعافاه الله، لأن هذا لا يكون من النبيّ صلى الله عليه وسلم. وقرأ الأعمش: «يلمِّزك» بتشديد الميم من غير ألف، مثل: يفعّلك. قال الزجاج: يقال: لمزت الرجل ألمِزُه وألمُزَه، بكسر الميم وضمها: إذا عبته، وكذلك: همزته أهمزه، قال الشاعر:
إذا لقيتُك تُبْدِي لي مُكَاشَرَةً ... وإن تَغَيَّبْتُ كنتَ الهامز اللّمزه «1»

[سورة التوبة (9) : الآيات 59 الى 60]
وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا ما آتاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ راغِبُونَ (59) إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ وَالْعامِلِينَ عَلَيْها وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقابِ وَالْغارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (60)
قوله تعالى: وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا ما آتاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أي: قنعوا بما أُعطوا. إِنَّا إِلَى اللَّهِ راغِبُونَ في الزيادة، أي: لكان خيراً لهم. وهذا جواب «لو» ، وهو محذوف في اللفظ.
ثم بيَّن المستحق للصدقات بقوله تعالى: إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ اختلفوا في صفة الفقير والمساكين على ستة أقوال «2» : أحدها: أن الفقير: المتعفف عن السّؤال، والمساكين: الذي يسأل
__________
صحيح. أخرجه البخاري 3610 و 5058 و 6163 و 6931 ومسلم 1064 والنسائي في «التفسير» 240 وابن ماجة 169 والطبري 16832 والواحدي في «الوسيط» 2/ 505 كلهم من حديث أبي سعيد بأتم منه.
باطل لا أصل له، لم أقف له على إسناد والآية في المنافقين، وثعلبة بدري، وسيأتي حديثه مطولا.
__________
(1) البيت لزياد الأعجم: «مجاز القرآن» 1/ 163 و «اللسان» : همز.
(2) قال الطبري في تفسيره 65/ 396: وأولى هذه الأقوال عندي بالصواب قول من قال: «الفقير» هو ذو الفقر والحاجة ومع حاجته يتعفف عن مسألة الناس والتذلل لهم في هذا الموضع، و «المساكين» هو المحتاج المتذلل للناس بمسألتهم. وإنما قلنا إن ذلك كذلك، وإن كان الفريقان لم يعطيا إلا بالفقر والحاجة دون الذلة والمسألة لإجماع الجميع من أهل العلم أن «المساكين» إنما يعطى من الصدقة المفروضة بالفقر. وأن معنى «المسكنة» عند العرب الذلة، كما قال الله عز وجل وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ [البقرة: 61] . يعني بذلك الهون والذلة، لا الفقر. فإذا كان الله جل ثناؤه قد صنف منهم غير الآخر، وإذا كان ذلك كذلك كان لا شك أن المقسوم له باسم «الفقير» غير المقسوم له باسم المسكنة والفقر هو الجامع إلى فقره المسكنة، وهي الذل بالطلب والمسألة فتأويل الكلام. إذا كان ذلك معناه: إنما الصدقات للفقراء: المتعفف منهم الذي لا يسأل والمتذلل منهم الذي يسأل. اه. [.....]

(2/269)


وبه رَمَق، قاله ابن عباس والحسن ومجاهد وجابر بن زيد والزهري والحكم وابن زيد ومقاتل. والثاني:
أن الفقير: المحتاج الذي به زمانة، والمساكين: المحتاج الذي لا زمانة به، قاله قتادة. والثالث: الفقير:
المهاجر، والمساكين: الذي لم يهاجر، قاله الضحاك بن مزاحم والنّخعيّ. والرابع: الفقير: فقير المسلمين، والمساكين: من أهل الكتاب، قاله عكرمة. والخامس: أن الفقير: من له البلغة من الشيء، والمساكين: الذي ليس له شيء، قاله أبو حنيفة ويونس بن حبيب ويعقوب بن السكّيت وابن قتيبة.
واحتجوا بقول الراعي:
أمَّا الفقيرُ الذي كانتْ حَلُوبَتُه ... وفقَ العيال فلم يُتْرَكْ له سَبَدُ «1»
فسماه فقيراً، وله حَلوبة تكفيه وعياله. وقال يونس: قلت لأعرابي: أفقير أنت؟ قال: لا والله، بل مساكين يريد: أنا أسوأ حالاً من الفقير. والسادس: أنّ الفقير أمسّ حاجة من المساكين، وهذا مذهب أحمد، لأن الفقير مأخوذ من انكسار الفَقار، والمسكنة مأخوذة من السكون والخشوع، وذلك أبلغ. قال ابن الأنباري: ويروى عن الأصمعيّ أنه قال: المساكين أحسن حالاً من الفقير. وقال أحمد بن عبيد: المساكين أحسن حالاً من الفقير، لأن الفقير أصله في اللغة: المفقور الذي نزعت فَقره من فِقَرِ ظهره، فكأنه انقطع ظهره من شدة الفقر، فصُرف عن مفقور إلى فقير، كما قيل: مجروح وجريح، ومطبوخ وطبيخ، قال الشاعر:
لَمّا رأى لُبَدَ النُّسُورِ تَطَايَرَتْ ... رَفَعَ القَوادِمَ كالفقيرِ الأعْزَلِ «2»
قال: ومن الحجة لهذا القول قوله تعالى: أَمَّا السَّفِينَةُ فَكانَتْ لِمَساكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ «3» فوصف بالمسكنة من له سفينة تساوي مالاً قال: وهو الصحيح عندنا.
قوله تعالى: وَالْعامِلِينَ عَلَيْها وهم السعاة لجباية الصدقة، يُعْطَوْنَ منها بقدر أُجُور أمثالهم، وليس ما يأخذونه بزكاة.
قوله تعالى: وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وهم قوم كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتألَّفهم على الإسلام بما يعطيهم، وكانوا ذوي شرف، وهم صنفان: مسلمون، وكافرون. فأما المسلمون، فصنفان صنف كانت نِيَّاتُهم في الإسلام ضعيفة، فتألَّفهم تقويةً لِنيَّاتهم، كعُيَيْنة بن حصن، والأقرع وصنف كانت نياتهم حسنة، فأُعطوا تألُّفاً لعشائرهم من المشركين، مثل عدي بن حاتم. وأما المشركون، فصنفان، صنف يقصدون المسلمين بالأذى، فتألَّفهم دفعاً لأذاهم، مثل عامر بن الطفيل وصنف كان لهم ميل إلى الإسلام،
__________
(1) البيت منسوب إلى الراعي ديوان: 55. الحلوبة: الناقة التي تحلب. وفق العيال: لها لبن قدر كفايتهم لا فضل فيه عنهم. السبد: الشعر. وقيل الوبر.
(2) البيت منسوب إلى لبيد، ديوانه 274 و «اللسان» . فقر. الأعزل: المائل الذنب توصف به الخيل. القوادم:
أربع ريشات في مقدم الجناح. الفقير: المكسور الفقار وهي ما انتصف من عظام الصلب من لدن الكاهل إلى العجب.
(3) سورة الكهف: 79.

(2/270)


تألَّفهم بالعطية ليؤمنوا، كصفوان بن أُمية. وقد ذكرت عدد المؤلفة في كتاب «التلقيح» . وحكمهم باقٍ عند أحمد في رواية، وقال أبو حنيفة، والشافعي: حكمهم منسوخ. قال الزهري: لا أعلم شيئا نسخَ حكم المؤلَّفة قلوبهم.
قوله تعالى: وَفِي الرِّقابِ قد ذكرناه في سورة (البقرة) «1» .
قوله تعالى: وَالْغارِمِينَ وهم الذين لزمهم الدَّين ولا يجدون القضاء. قال قتادة: هم ناس عليهم دَيْنٌ من غير فساد ولا إِسراف ولا تبذير، وإنما قال هذا، لأنه لا يؤمَن في حق المفسد إذا قُضِيَ دَيْنُه أن يعود إلى الاستدانة لذلك ولا خلاف في جواز قضاء دينه ودفع الزكاة إليه، ولكن قتادة قاله على وجه الكراهية.
قوله تعالى: وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ يعني: الغزاة والمرابطين. ويجوز عندنا أن يعطى الأغنياء منهم والفقراء، وهو قول الشافعي. وقال أبو حنيفة: لا يعطى إلا الفقير منهم. وهل يجوز أن يصرف من الزكاة إلى الحج، أم لا؟ فيه عن أحمد روايتان.
قوله تعالى: وَابْنِ السَّبِيلِ هو المسافر المنقطع به، وإن كان له مال في بلده قاله مجاهد، وقتادة، وأبو حنيفة، وأحمد. فأما إذا أراد أن ينشئ سفراً، فهل يجوز أن يعطى؟ قال الشافعي: يجوز، وعن أحمد نحوه وقد ذكرنا في سورة (البقرة) فيه أقوالاً فيه أقوالاً عن المفسرين.
قوله تعالى: فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ يعني أن الله افترض هذا.
(فصل:) وحدُّ الغنى الذي يمنع أخذ الزكاة عند أصحابنا بأحد شيئين: أن يكون مالكاً لخمسين درهماً، أو عِدلها من الذهب، سواء كان ذلك يقوم بكفايته أو لا يقوم، والثاني: أن يكون له كفاية، إمّا بصنعة، أو أجرة عقار، أو عروض للتجارة يقوم ربحها بكفايته. وقال أبو حنيفة: الاعتبار في ذلك أن يكون مالكاً لنصاب تجب عليه فيه الزكاة. فأما ذوو القربى الذين تحرم عليهم الصدقة، فهم بنو هاشم، وبنو المطلب. وقال أبو حنيفة: تحرم على ولد هاشم، ولا تحرم على ولد المطلب. ويجوز أن يعمل على الصدقة من بني هاشم وبني المطلب ويأخذ عمالته منها، خلافاً لأبي حنيفة. فأما موالي بني هاشم وبني المطلب، فتحرم عليهم الصدقة، خلافاً لمالك. ولا يجوز أن يعطيَ صدقته مَنْ تلزمه نفقتُه وبه قال مالك، والثوري. وقال أبو حنيفة والشافعي: لا يعطي والداً وإن علا، ولا ولداً وإن سفل، ولا زوجه، ويعطي مَنْ عَداهم. فأما الذميُّ فالأكثرون على أنه لا يجوز إعطاؤه. وقال عبيد الله بن الحسن: إذا لم يجد مسلماً، أعطي الذمي. ولا يجب استيعاب الأصناف ولا اعتبار عدد من كل صنف وهو قول أبي حنيفة، ومالك وقال الشافعي: يجب الاستيعاب من كل صنف ثلاثة.
فأما إذا أراد نقل الصدقة من بلد المال إلى موضع تُقصر فيه الصلاة، فلا يجوز له ذلك، فان نقلها لم يُجزئه وهو قول مالك، والشافعي. وقال أبو حنيفة: يكره نقلها، وتجزئه. قال أحمد: ولا يعطي الفقير أكثر من خمسين درهماً. وقال أبو حنيفة: أكره أن يعطي رجل واحد من الزكاة مائتي درهم، وإن أعطيته أجزأك. فأما الشافعي، فاعتبر ما يدفع الحاجةَ من غير حدّ. فان أعطى من يظنّه فقيرا، فبان أنه
__________
(1) سورة البقرة: 177 قوله تعالى: لَيْسَ الْبِرَّ ... وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقابِ.

(2/271)


وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (61)

غنيّ، فهل يجزئ، فيه عن أحمد روايتان.

[سورة التوبة (9) : آية 61]
وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (61)
قوله تعالى: وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ في سبب نزولها ثلاثة أقوال:
(711) أحدها: أن خِذام بن خالد، والجُلاس بن سويد، وعبيد بن هلال في آخرين، كانوا يؤذون رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال بعضهم لبعض: لا تفعلوا، فانا نخاف أن يبلغه فيقع بنا، فقال الجلاس: بل نقول ما شئنا، فانما محمد أُذنٌ سامعة، ثم نأتيه فيصدِّقنا فنزلت هذه الآية قاله أبو صالح عن ابن عباس.
(712) والثاني: إن رجلاً من المنافقين يقال له: نَبْتَل بن الحارث، كان ينمّ حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المنافقين، فقيل له: لا تفعل فقال: إنما محمد أُذن، مَنْ حدَّثه شيئاً صدقه نقول ما شئنا، ثم نأتيه فنحلف له فيصدقنا، فنزلت هذه الآية قاله محمد بن إسحاق.
(713) والثالث: أن ناساً من المنافقين منهم جلاس بن سويد، ووديعة بن ثابت، اجتمعوا، فأرادوا أن يقعوا في النبيّ صلى الله عليه وسلم، وعندهم غلام من الأنصار يدعى عامر بن قيس، فحقروه، فتكلموا وقالوا: لئن كان ما يقوله محمد حقاً، لنحن شر من الحمير، فغضب الغلام، وقال: والله إِن ما يقوله محمد حق، وإنكم لشرٌ من الحمير ثم أتى النبيّ صلى الله عليه وسلم فأخبره، فدعاهم فسألهم، فحلفوا أن عامراً كاذب، وحلف عامر أنهم كذبُوا، وقال: اللهم لا تفرِّق بيننا حتى تبيِّنَ صدق الصادق، وكذب الكاذب فنزلت هذه الآية، ونزل قوله تعالى: يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ، قاله السدي.
فأما الأذى فهو عيبه ونقل حديثه. ومعنى أُذُنٌ يقبل كل ما قيل له، قال ابن قتيبة: الأصل في هذا أن الأُذُنَ هي السامعة، فقيل لكل من صدَّق بكل خبر يسمعه: أذن. وجمهور القرّاء يقرءون: هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ بالتثقيل. وقرأ نافع: «هو أذنٌّ قل أُذْنُ خير» باسكان الذال فيهما. ومعنى أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ أي: أذن خير، لا أُذُنُ شرّ يسمع الخير فيعمل به، ولا يعمل بالشرَّ إذا سمعه. وقرأ ابن مسعود، وابن عباس، والحسن، ومجاهد، وابن يعمر، وابن أبي عبلة «أُذُنٌ» بالتنوين، «خيرٌ» بالرفع.
والمعنى: إن كان كما قلتم، يسمع منكم ويصدِّقكم، خيرٌ لكم من أن يكذِّبكم. قال أبو علي: يجوز أن تطلق الأذن على الجملة كما قال الخليل: إنما سميت النابُ من الإبل لمكان الناب البازل، فسميت الجملة كلُّها به، فأجرَوا على الجملة اسم الجارحة لإرادتهم كثرة استعماله لها في الإصغاء بها. ثم بيّن
__________
عزاه المصنف لأبي صالح عن ابن عباس، وهي رواية ساقطة. وذكره الواحدي في «أسباب النزول» ص 254 فقال: نزلت في جماعة من المنافقين.
مرسل. أخرجه الطبري 16915 عن ابن إسحاق مرسلا، والمرسل من قسم الضعيف. وذكره الواحدي في «أسباب النزول» 508 بدون إسناد. وانظر «تفسير الشوكاني» 2/ 430.
أخرجه ابن أبي حاتم كما في «الدر» 3/ 253 عن السدي مرسلا. وأخرجه الطبري 16922 عن قتادة مرسلا.
وذكره الواحدي في «أسباب النزول» 510 عن السدي بدون إسناد. وانظر «تفسير القرطبي» 8/ 178.

(2/272)


يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ (62) أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحَادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدًا فِيهَا ذَلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ (63) يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِئُوا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَا تَحْذَرُونَ (64)

ممن يَقبل، فقال: يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ قال ابن قتيبة: الباء واللام زائدتان والمعنى: يصدِّق اللهَ ويصدِّقُ المؤمنين. وقال الزجاج: يسمع ما ينزِّله الله عليه، فيصدِّق به، ويصدِّق المؤمنين فيما يخبرونه به. وَرَحْمَةٌ أي: وهو رحمة، لأنه كان سبب إيمان المؤمنين. وقرأ حمزة «ورحمةٍ» بالخفض. قال أبو علي: المعنى: أُذُنُ خيرٍ ورحمة. والمعنى: مستمعُ خيرٍ ورحمةٍ.

[سورة التوبة (9) : آية 62]
يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كانُوا مُؤْمِنِينَ (62)
قوله تعالى: يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ.
(714) قال ابن السائب: نزلت في جماعة من المنافقين تخلفوا عن غزوة تبوك، فلما رجع النبي صلى الله عليه وسلم، أتوا المؤمنين يعتذرون إليهم، ويحلفون ويعتلّون. وقال مقاتل: منهم عبد الله بن أُبيّ، حلف لا يتخلّف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولَيكونَنَّ معه على عدوِّه.
وقد ذكرنا في الآية التي قبلها أنهم حلفوا أنهم ما نطقوا بالعيب. وحكى الزجاج عن بعض النحويين أنه قال: اللام في: «ليرضوكم» بمعنى القسم، والمعنى: يحلفون بالله لكم لنرضينَّكم. قال:
وهذا خطأ، لأنّهم حلفوا أنهم ما قالوا ما حكي عنهم ليُرضُوا باليمين، ولم يحلفوا أنهم يُرضُون في المستقبل. قلت: وقول مقاتل يؤكد ما أنكره الزجاج، وقد مال إليه الأخفش.
قوله تعالى: وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ فيه قولان: أحدهما: بالتوبة والإِنابة. والثاني: بترك الطعن والعيب. فان قيل: لم قال: «يُرضُوه» ولم يقل: يرضوهما؟ فقد شرحنا هذا عند قوله تعالى:
وَلا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللَّهِ «1» .

[سورة التوبة (9) : آية 63]
أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِداً فِيها ذلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ (63)
قوله تعالى: أَلَمْ يَعْلَمُوا روى أبو زيد عن المفضل «ألم تعلموا» بالتاء. أَنَّهُ مَنْ يُحادِدِ اللَّهَ فيه قولان: أحدهما: من يخالف الله، قاله ابن عباس. والثاني: من يعاد الله، كقولك: من يُجانِبِ الله ورسوله، أي: يكون في حدٍّ، واللهُ ورسولُه في حدٍّ.
قوله تعالى: فَأَنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ قرأ الجمهور: «فأن» بفتح الهمزة، وقرأ أبو رزين، وأبو عمران، وابن أبي عبلة: بكسرها، فمن كسر، فعلى الاستئناف بعد الفاء، كما تقول: فله نار جهنم.
ودخلت «إِنّ» مؤكدة. ومن قال: «فأَنَّ له» فانما أعاد «أنَّ» الأولى توكيداً لأنه لما طال الكلام، كان إعادتها أوكد.

[سورة التوبة (9) : آية 64]
يَحْذَرُ الْمُنافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِما فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِؤُا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ ما تَحْذَرُونَ (64)
__________
عزاه المصنف للكلبي، وهو ممن يضع الحديث فالخبر لا شيء.
__________
(1) سورة التوبة: 34.

(2/273)


وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ (65) لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ (66)

قوله تعالى: يَحْذَرُ الْمُنافِقُونَ في سبب نزولها ثلاثة أقوال:
(715) أحدها: أن المنافقين كانوا يعيبون رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما بينهم، ويقولون: عسى الله أن لا يفشي سرَّنا فنزلت هذه الآية، قاله مجاهد.
(716) والثاني: أن بعض المنافقين قال: لوددت أني جُلدت مائة جلدة، ولا ينزل فينا شيء يفضحنا، فنزلت هذه الآية، قاله السدي.
(717) والثالث: أنّ جماعة من المنافقين وقفوا للنبيّ صلى الله عليه وسلم في ليلة مظلمة عند مرجعه من تبوك ليفتكوا به، فأخبره جبريل عليه السلام، ونزلت هذه الآية، قاله ابن كيسان.
وفي قوله تعالى: يَحْذَرُ الْمُنافِقُونَ قولان: أحدهما: أنه إخبار من الله عزّ وجلّ عن حالهم، قاله الحسن، وقتادة واختاره ابن القاسم. والثاني: أنه أمر من الله عزّ وجلّ لهم بالحذر، فتقديره: ليحذر المنافقون، قاله الزجاج. قال ابن الأنباري: والعرب ربما أخرجت الأمر على لفظ الخبر، فيقولون:
يرحم الله المؤمن، ويعذب الكافر يريدون: ليرحم وليعذب، فيسقطون اللام ويُجْرُونَه مجرى الخبر في الرفع، وهم لا ينوون إلا الدعاء والدعاء مضارع للأمر.
قوله تعالى: قُلِ اسْتَهْزِؤُا هذا وعيد خرج مخرج الأمر تهديداً. وفي قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ ما تَحْذَرُونَ وجهان: أحدهما: مظهر ما تُسِرُّون. والثاني: ناصر مَنْ تخذلون، ذكرهما الماوردي.

[سورة التوبة (9) : الآيات 65 الى 66]
وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّما كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآياتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِؤُنَ (65) لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طائِفَةً بِأَنَّهُمْ كانُوا مُجْرِمِينَ (66)
قوله تعالى: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ في سبب نزولها ستة أقوال:
(718) أحدهما: أن جَدَّ بنَ قيس، ووديعة بن خذام، والجُهَير بن خُمَير، كانوا يسيرون بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم مرجعه من تبوك، فجعل رجلان منهم يستهزئان برسول الله صلى الله عليه وسلم. والثالث يضحك مما يقولان ولا يتكلم بشيء، فنزل جبريل فأخبره بما يستهزئون به ويضحكون فقال لعمار بن ياسر:
«اذهب فسلهم عما كانوا يضحكون منه، وقل لهم: أحرقكم الله» ، فلما سألهم، وقال: أحرقكم الله
__________
أخرجه الطبري 16923 عن مجاهد مرسلا. وذكره الواحدي في «أسباب النزول» 510 م عن مجاهد مرسلا.
عزاه المصنف للسدي، وهذا معضل، والمتن غريب، فهو واه. وذكره الواحدي في «أسباب النزول» 510 عن السدي مرسلا.
ذكره الواحدي في «أسباب النزول» 516 عن الضحاك. وأخرجه البيهقي في «الدلائل» 5/ 260 و 261 من حديث حذيفة بنحوه وأتم. وأخرجه أيضا البيهقي في «الدلائل» 5/ 256- 257 عن عروة مرسلا بأتم منه.
وأخرجه أحمد 5/ 453 و 454 من حديث أبي الطفيل مع اختلاف فيه. الخلاصة هو حديث حسن بمجموع طرقه وشواهده.
عزاه المصنف لابن عباس من رواية أبي صالح، وهي رواية ساقطة لأنها من طريق الكلبي.

(2/274)


علموا أنه قد نزل فيهم قرآن، فأقبلوا يعتذرون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال الجُهَير: والله ما تكلَّمت بشيء، وإنما ضحكت تعجّبا من قولهم فنزل قوله تعالى: لا تَعْتَذِرُوا يعني جَدَّ بن قيس، ووديعة إِنْ نَعْفُ عَنْ طائِفَةٍ مِنْكُمْ يعني الجهير نُعَذِّبْ طائِفَةً يعني الجدّ ووديعة، وهذا قول أبي صالح عن ابن عباس.
(719) والثاني: أن رجلاً من المنافقين قال: ما رأيت مثل قرائنا هؤلاء، ولا أرغبَ بطوناً، ولا أكذبَ، ولا أجبنَ عند اللقاء يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه فقال له عوف بن مالك. كذبت، لكنّك منافق، لأخبرنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم فذهب ليخبره، فوجد القرآن قد سبقه فجاء ذلك الرجل فقال: يا رسول الله، إنما كنا نخوض ونلعب، هذا قول ابن عمر وزيد بن أسلم والقرظي.
(720) والثالث: أن قوماً من المنافقين كانوا يسيرون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: إن كان ما يقول هذا حقاً، لنحن شرٌّ من الحمير فأعلم الله نبيه ما قالوا، ونزلت: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ، قاله سعيد بن جبير.
(721) والرابع: أن رجلاً من المنافقين قال: يحدثنا محمد أن ناقة فلان بوادي كذا وكذا، وما يُدريه ما الغيب؟ فنزلت هذه الآية، قاله مجاهد.
(722) والخامس: أن ناساً من المنافقين قالوا: يرجو هذا الرجل أن يفتح قصور الشام وحصونها، هيهات فأطلع الله نبيّه على ذلك، فقال نبيّ الله صلى الله عليه وسلم: «احبسوا علي الرَّكب» ، فأتاهم، فقال: «قلتم كذا وكذا» ، فقالوا: إنما كنا نخوض ونلعب فنزلت هذه الآية، قاله قتادة.
(723) والسادس: أن عبد الله بن أُبيٍّ، ورهطاً معه، كانوا يقولون في رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ما لا ينبغي، فإذا بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا: إنما كنا نخوض ونلعب، فقال الله تعالى: قُلْ لهم أَبِاللَّهِ وَآياتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِؤُنَ؟ قاله الضّحّاك.
فقوله تعالى: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ أي: عما كانوا فيه من الاستهزاء لَيَقُولُنَّ إِنَّما كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ أي: نلهو بالحديث. وقوله تعالى: قَدْ كَفَرْتُمْ أي: قد ظهر كفركم بعد إظهاركم الإيمان وهذا يدل على أن الجِدَّ واللعب في إظهار كلمة الكفر سواء.
قوله تعالى: إِنْ نَعْفُ عَنْ طائِفَةٍ مِنْكُمْ قرأ الأكثرون «إن يُعْفَ» بالياء، «تعذّب» بالتاء. وقرأ
__________
أخرجه الطبري 16928 من حديث عبد الله بن عمر، وفيه هشام بن سعد ضعفه غير واحد. وأخرجه برقم 16927 عن زيد بن أسلم مرسلا، وهو أصح. وذكره الواحدي في «أسباب النزول» 512 عن زيد بن أسلم ومحمد بن كعب.
ضعيف. أخرجه الفريابي وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه كما في «الدر المنثور» 3/ 456 عن سعيد بن جبير مرسلا، والمرسل من قسم الضعيف.
أخرجه الطبري 16933 عن مجاهد مرسلا، والمرسل من قسم الضعيف.
- وأخرجه ابن أبي شيبة وابن المنذر كما في «الدر المنثور» 3/ 456 عن مجاهد مرسلا.
أخرجه الطبري 16930 عن قتادة مرسلا، والمرسل من قسم الضعيف.
- وذكره الواحدي في أسباب النزول 511 عن قتادة بدون ذكر السند مرسلا.
عزاه المصنف للضحاك، وهذا مرسل فهو واه.

(2/275)


الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (67) وَعَدَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ (68) كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلَاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلَاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلَاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (69) أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْرَاهِيمَ وَأَصْحَابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكَاتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (70)

عاصم غير أبان «إن نَعْفُ» ، «نُعَذِّبْ» ، بالنون فيهما ونصب «طائفةً» ، والمعنى: إن نعف عن طائفة منكم بالتوفيق للتوبة، نعذِّب طائفةً بترك التّوبة. وقيل: الطّائفتان ها هنا ثلاثة، فاستهزأ اثنان وضحك واحد.
ثم أنكر عليهم بعض ما سمع. وقد ذكرنا عن ابن عباس أسماء الثلاثة، وأن الضاحك اسمه الجُهَيْر، وقال غيره: هو مَخْشِيُّ بن خُمَيْر. وقال ابن عباس ومجاهد: الطائفة الواحد فما فوقه. وقال الزجاج:
أصل الطائفة في اللغة الجماعة ويجوز أن يقال للواحد طائفة، يراد به نفس طائفة. وقال ابن الأنباري:
إذا أريد بالطائفة الواحد كان أصلها طائفاً، على مثال: قائم وقاعد، فتدخل الهاء للمبالغة في الوصف، كما يقال: راوية، علّامة، نسّابة. قال عمر بن الخطّاب: ما فُرغ من تنزيل براءة حتى ظننا أن لن يبقى منا أحد إلا سينزل فيه شيء.

[سورة التوبة (9) : الآيات 67 الى 70]
الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنافِقِينَ هُمُ الْفاسِقُونَ (67) وَعَدَ اللَّهُ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْكُفَّارَ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذابٌ مُقِيمٌ (68) كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوالاً وَأَوْلاداً فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خاضُوا أُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (69) أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْراهِيمَ وَأَصْحابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكاتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (70)
قوله تعالى: الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ قال ابن عباس: بعضهم على دين بعض وقال مقاتل: بعضهم أولياء بعض يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وهو الكفر وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وهو الإيمان. وفي قوله تعالى: وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ أربعة أقوال: أحدها: يقبضونها عن الإنفاق في سبيل الله، قاله ابن عباس والحسن ومجاهد. والثاني: عن كل خير، قاله قتادة. والثالث: عن الجهاد في سبيل الله. والرابع: عن رفعها في الدعاء إلى الله، ذكرهما الماوردي.
قوله تعالى: نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ قال الزجاج: تركوا أمره، فتركهم من رحمته وتوفيقه. قال:
وقوله تعالى: هِيَ حَسْبُهُمْ أي: هي كفاية ذنوبهم، كما تقول: عذَّبتُك حسبَ فِعلك، وحسبُ فلان ما نزل به، أي: ذلك على قدر فعله. وموضع الكاف في قوله تعالى: كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ
نصب، أي: وعدكم الله على الكفر به كما وعد الذين من قبلكم. وقال غيره: رجع عن الخبر عنهم إلى مخاطبتهم، وشبَّههم في العدول عن أمره بمن كان قبلهم من الأمم الماضية.
قوله تعالى: فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلاقِهِمْ قال ابن عباس: استمتعوا بنصيبهم من الآخرة في الدنيا. وقال الزجاج: بحظهم من الدنيا. قوله تعالى: وَخُضْتُمْ أي: في الطعن على الدِّين وتكذيب نبيكم كما خاضوا. أُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا لأنها لم تُقبل منهم، وفي الآخرة، لأنهم لا يثابون عليها، وَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ بفوت الثواب وحصول العقاب.

(2/276)


وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (71) وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (72)

قوله تعالى: وَقَوْمِ إِبْراهِيمَ قال ابن عباس: يريد نمرود بن كنعان وَأَصْحابِ مَدْيَنَ يعني قوم شعيب وَالْمُؤْتَفِكاتِ قرى لوط. قال الزجاج: وهم جمع مؤتفكة، ائتفكت بهم الأرض، أي:
انقلبت. قال: ويقال إنَّهم جميع من أُهلك، كما يقال للهالك: انقلبت عليه الدنيا. قوله تعالى:
أَتَتْهُمْ يعني هذه الأمم رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فكذَّبوا بها فَما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ قال ابن عباس:
ليهلكم حتى يبعث فيهم نبياً ينذرهم، والمعنى أنهم أهلكوا باستحقاقهم.

[سورة التوبة (9) : الآيات 71 الى 72]
وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (71) وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَمَساكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (72)
قوله تعالى: وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ أي: بعضهم يوالي بعضاً، فهم يد واحدة، يأمرون بالإيمان، وينهون عن الكفر.
قوله تعالى: فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ قال أبو عبيدة: في جنات خُلْد، يقال: عَدَن فلان بأرض كذا، أي: أقام ومنه: المْعِدنُ، وهو في مَعْدِن صدق، أي: في أصل ثابت. قال الأعشى:
وإن تَستضيفوا إلى حِلْمه ... تُضافوا إلى راجح قد عَدَن «1»
أي: رزين لا يُستخف. قال ابن عباس: جنات عدن، هي بُطنان الجنة، وبُطنانها: وسطها، وهي أعلى درجة في الجنة، وهي دار الرّحمن عزّ وجلّ، وسقفها عرشه، خلقها بيده، وفيها عين التسنيم، والجنان حولها محدقة بها.
قوله تعالى: وَرِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ قال ابن عباس: أكبر مما يوصف. وقال الزجاج: أكبر مما هم فيه من النعيم. فان قيل: لم كان الرضوان أكبر من النعيم؟ فعنه جوابان: أحدهما: أن سرور القلب برضى الرب نعيم يختص بالقلب، وذاك أكبر من نعيم الأكل والشرب.
(724) وفي حديث أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يقول الله عزّ وجلّ لأهل الجنة: يا أهل الجنة، هل رضيتم؟ فيقولون: ربّنا وما لنا لا نرضى، وقد أعطيتنا ما لم تعط أحداً من خلقك! فيقول: أفلا أعطيكم أفضل من ذلك؟ فيقولون: وأي شيء أفضل من ذلك؟ قال: أُحل عليكم رضواني، فلا أسخط عليكم أبدا» .
__________
صحيح. أخرجه البخاري 7518 ومسلم 2829 وابن حبان 7440 وابن مندة 820 وأبو نعيم في «الحلية» 6/ 342 وفي «صفة الجنة» 282 والبيهقي في «البعث» 445 من طرق عن ابن وهب عن مالك بن أنس عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد الخدري به.
- وأخرجه البخاري 6549 ومسلم 2829 والترمذي 2555 وأحمد 3/ 88 وابن مندة 820 والبيهقي في «البعث» 445 من طريق ابن المبارك عن مالك من حديث أبي سعيد الخدري.
__________
(1) البيت منسوب إلى الأعشى في ديوانه: 17 و «اللسان» : وزن. استضاف إليه: لجأ إليه عند الحاجة.

(2/277)