معاني القرآن
وإعرابه للزجاج قَدْ سَمِعَ اللَّهُ
قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى
اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ
سَمِيعٌ بَصِيرٌ (1)
سُورَةُ المجادلة
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
قوله عزَّ وجلَّ: (قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي
تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ
وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ
بَصِيرٌ (1)
إدغام الدال في السين حسن، لقرَب المخرجين. يقرَأ (قَدْ سَمِعَ
اللَّهُ)
بإدغام الدال في السين حتى لا يلفظ التكلم بِدال.
وإنما حسن ذلك لأنَّ السين والدال من حروف طرف اللسان فإدغام
الدال في السين تقوية للحرف.
وإظهار الدال جائز لأن موضع الدال - وإن قَرُبَ من موضع السين
- فموضع الدال حَيِّزٌ على حدة.
ومن موضع الدال الطاء والتاء، هذه الأحرف الثلاثة
موضعها واحد. والسين والزايُ والصاد من موضع واحدٍ، وهي تسمى
حروف الصفير، فلذلك جاز إظهار الدال.
وهذه الآية نزلت بسبب خَوْلَة بنت ثعلبة، وَأوْس بن الصامت
وكانا من
الأنصار، قال لها: أنت على كظهر أُمِّي.
وقيل قَالَ لها أنت على كأُمِّي.
وكانت هذه الكلمة مما يطلق بها أهل الجاهلية، فروَوْا أنها
صارت إلى
النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالت: إنَّ أوْساً تزوجَنِي
وأنا شَابَّة مرغوب فِيَّ، فلما خلا سني ونثرتُ بَطني، أي كثر
ولدي جعلني عليه كأمِّه.
فروي أن رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - قال لها: ما عندي
في أمرك شيء، فشكت إلى اللَّه عزَّ وجلََّ وقالت:
اللهم إني أشكو إليك.
وروي أيضاً أنها قالت للنبي عليه السلام فيما قالت: إن لي صبية
صِغَاراً إن ضممتهم إليه ضاعوا، وإن ضممتهم إليَّ جاعوا، فأنزل
اللَّه
(5/133)
وَالَّذِينَ
يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا
فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ذَلِكُمْ
تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (3)
- عزَّ وجلَّ - كفَّارة الظِّهار.
وفي هذا دَليل أنه لا يكون ما يطلق به الجاهلية طلاقاً
إلا أن يأتي الإسلام بذلك نحو ما قالوا في خليَّة وبَرِيَّة
وحبلك على غاربك.
وأصل قولهم: أنْتِ طَالِقٌ لَمَّا أتى الِإسلام بحكم فيه مضى
على حكم
الإسلام.
* * *
وقوله: (الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ مَا
هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي
وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ
الْقَوْلِ وَزُورًا وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ (2)
المعنى ما اللواتي يجعلن من الزوجات كالأمهات بأُمَّهَاتٍ.
(إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ).
المعنى ما أمهاتهم إلا اللائي وَلَدْنَهُمْ، فذكر اللَّه -
عزَّ وجلَّ - الأمَّهاتِ
في موضع آخر فقال: (وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي
أَرْضَعْنَكُمْ)، فأعلمَ اللَّهُ أنَّ المرضِعَاتِ أمهاتٌ،
والمعنى ما أمهاتهم إلا اللائي ولَدْنَهم، أي الوَالِداتُ
والمرضِعَاتً.
فلا تكن الزوجات كهؤلاء، فأَعلم اللَّه - عزَّ وجلَّ - أن ذلك
منكر وباطل فقال:
(وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا
وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ).
عفا عنهم وغفر لهم بجعله الكفارة عليهم.
و (الذِين) في مَوْضِع رَفْعٍ بالابتداء، وخبره (مَا هُنَّ
أُمَّهَاتِهِمْ).
وأمهاتهم في موضع نصب على خبر (ما).
المعنى ليس هن بأُمَّهَاتِهِمْ.
* * *
وقوله: (وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ
يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ
أَنْ يَتَمَاسَّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِمَا
تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (3)
(الذين) رفع بالابتداء، وخبرهم فعَلَيْهم تَحْرِير رَقَبَةٍ،
ولم يذكر " عَلَيْهم "
لأن في الكلام دليلًا عليه، وإن شئت أضمرت فكفارتهم تحريرُ
رَقَبَةٍ.
(مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا).
فاختلف أهل العلم فقال بعضهم: الكفارة للمسيس.
وقال بعضهم: إذا أراد العوْدَ إليها والِإقامة مسَّ أو لم يمس
كفَّرَ.
(5/134)
فَمَنْ لَمْ يَجِدْ
فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ
يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ
مِسْكِينًا ذَلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ
وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ
(4)
وقوله عزَّ وجلَّ: (ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ
بِهِ).
المعنى ذلكم التغليظ في الكفَّارة توعظون به.
وقال بعض الناس لا تجب الكفَّارة حتى يقول ثانية: أنت عليَّ
كظهر أُمِّي. وهذا قول من لا يدري اللغة، وهو خلاف قول أهل
العلم أجمعين.
إنما المعنى ثم يعودون العودة التي من أجل القول، فلتلك العودة
تلزم الكفارة لا لكل عودَة.
وفيها قول آخر للأخفش وهو أن يُجْعَلَ " لما قالوا " من صلة
فتحرير رقبة، فالمعنى عنده: والذين يظاهرون من نسائهم ثم
يعودون فتحرير رقبة لما قالوا، فهذا مذهب حسن أيضاً.
والدليل على بطلان هذا القائل أن " ثم يعودون لما قالوا " أن
يقول ثانية: أنت على كظهر أُمِّي - قول جميع أهل العلم
ومتابعته هو إياهم:
(لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ
أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا)
فأجمعوا أنه ليس (فَإِنْ فَاءُوا) فإن حَلَفُوا ثانية.
ومعنى فاءوا في اللغة وعادوا معنى واحد.
وقوله: (مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا)
كناية عن الجماع، ودليل ذلك قوله: (وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ
مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ).
فالمعنى من قبل أن تدخلوا بِهِنَّ.
* * *
وقوله: (فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ
مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ
يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا ذَلِكَ
لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ
وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ (4)
المعنى فمن لم يجد الرقبة فكفارته صيام شهرين متتابعين، وإن
شئت
فعليه صيام شهرين متتابعين.
ولو قرئت فَصِيَامٌ شهرين جَازَ كما قال اللَّهُ - عزَّ وجلَّ
-
(أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ (14) يَتِيمًا ذَا
مَقْرَبَةٍ (15).
ولا أعلم أحداً قرأ بالتنوين.
* * *
وقوله: (فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ
مِسْكِينًا).
(5/135)
أَلَمْ تَرَ أَنَّ
اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ
مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ
وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ
ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا
كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ
الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (7)
" مَن " في موضع رفع على معنى فَمَنْ لَمْ
يَسْتَطِعْ الصيام فكفارتُه إِطعام
سِتَينَ مِسْكِيناً، وكذلك فإطعامٌ بالتنوين ولا أعلم أحداً
قرأ بها.
وقوله: (ذَلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ).
(ذَلِكَ) في مَوْضِع رَفْعٍ، المعنى الفرض ذَلِكَ الذِي
وَصَفْنَا.
ومعنى لتؤمنوا باللَّه ورسوله، أي لتصَدِّقوا ما أتى به رسول
اللَّه، ولتصَدِّقوا أن اللَّه أمرنا به.
(وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ).
أي تلك التي وَصَفنا في الظِّهار والكفَّارة حدودُ اللَّهِ.
(وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ).
أي لمن لم يصدق بها، وأليم مؤلم.
* * *
وقوله: (إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ
كُبِتُوا كَمَا كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَقَدْ
أَنْزَلْنَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ
مُهِينٌ (5)
معنى (كُبِتُوا) أُذلُّوا وأُخْزوا بالعذاب وبأن غلِبُوا، كما
نزل بمن قَبلَهُم ممنْ
حَادَّ اللَّهَ.
ومعنى (يُحَادُّونَ اللَّهَ) ويشاقون الله أي هم في غير
الحَدِّ الذي يكون فيه أولياء اللَّه، وكذلك يُشَّاقُون يكونون
في الشق الذي فيه أعداء اللَّه.
* * *
وقوله: (يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُهُمْ
بِمَا عَمِلُوا أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ وَاللَّهُ عَلَى
كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (6)
(يَوْمَ) منصوب بمعنى قوله: وللْكَافِرين عَذَابٌ مُهِينٌ
يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا)، أي يبعثهم مجتمعين في
حال واحدة.
(فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا).
أي يخبرهم بذلك ليعلموا وجوب الحجة عليهم.
* * *
وقوله تعالى: (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي
السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى
ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ
سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا
هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا
عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ
عَلِيمٌ (7)
(5/136)
أَلَمْ تَرَ إِلَى
الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَى ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا
نُهُوا عَنْهُ وَيَتَنَاجَوْنَ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ
وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا
لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ
لَوْلَا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ حَسْبُهُمْ
جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمَصِيرُ (8)
أي يعلم كل ما في السَّمَاوَات وكل ما في
الأرض مما ظهر للعباد ومما بطن.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا
هُوَ رَابِعُهُمْ).
أي ما يكون من خَلْوَةِ ثلاثةٍ يسرون شيئاً وَيتناجون به إلا
وهو رابعهم
عالم به، وهو في كل مكانٍ، أي بالعلم.
ونجوى مشتق من النجوة وهو ما ارتفع وَتَنَحَّى تقول: فلان من
هذا المكان بنجوةٍ إذا كانت ناحية منه
فمعنى تناجون يتخالون بما يريدونَ.
وذكر الله هذه الآية لأن المنافقين واليهودَ كانوا يتناجَوْنَ،
فيوهمونَ المسلمين أنهم يتناجون فيما يسوءهم ويؤذيهم فيحزنون
لذلك، فنهي الله عزَّ وجلَّ - عق تلك النجوى فعاد المنافقون
واليهود إلى ذلك
فأَعلم اللَّه - عزَّ وجلَّ - النبي - صلى الله عليه وسلم -
أنهم قد عادوا في مثل تلك النجوى بعينها فقال:
(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَى ثُمَّ
يَعُودُونَ لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَيَتَنَاجَوْنَ بِالْإِثْمِ
وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ وَإِذَا جَاءُوكَ
حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ وَيَقُولُونَ فِي
أَنْفُسِهِمْ لَوْلَا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ
حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمَصِيرُ (8)
أي يوصي بعضهم بعضاً بمعصية الرسول.
(وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ
اللَّهُ وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلَا يُعَذِّبُنَا
اللَّهُ بِمَا نَقُولُ).
أي هَلَّا يعذبُنَا الله بما نقول، وكانوا إذا أتوا النبي -
صلى الله عليه وسلم - قالوا: السام عليكم، والسام: الموت،
فقالوا: لم لا ينزل بنا العذاب إذا قلنا للنبي - عليه السلام -
هذا القول، واللَّه - عزَّ وجلَّ - وَعدهم بعذاب الآخرة
وبالخزي في الدنيا، وبإظهار الإسلام وأمْرِ النبي - صلى الله
عليه وسلم - وغَلَبَةِ حِزْبِه، فقال: (حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ
يَصْلَوْنَهَا).
وقال: (كُبِتُوا كَمَا كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ).
وقال: (فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ (56).
فصدق وَعْدَهُ ونصر جُنْدَهُ رأظْهَرَ دِينَهُ وكبت عَدُوَّهُ.
(5/137)
إِنَّمَا النَّجْوَى
مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيْسَ
بِضَارِّهِمْ شَيْئًا إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ
فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (10)
وقوله عزَّ وجلَّ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلَا تَتَنَاجَوْا بِالْإِثْمِ
وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ وَتَنَاجَوْا
بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ
تُحْشَرُونَ
(9)
أي إذا تخاليْتُمْ لِلسِّر فلا تخالوا إلا بالبرِّ والتقوى،
ولا تكونوا كاليهود
والمنافقين.
وفي تناجوا ثلائة أوجهٍ:
فلا تتناجَوْا بتاءين ظاهرتين.
وبتاء واحدة مدغمة مشدَّدَةٍ: فلا تَنَاجَوْا.
وإنما أدْغمت التاءان لأنهما حرفان من مخرج واحد مُتحرّكان
وقبلهما ألف، والألف قد يكون بعدها الدغم نحو دَابَّةٍ
وَرَادَّ.
ويجور الِإظهار لأن التاءين في أول الكلمة وأن " لا " كلمة على
حالها.
و" تتناجوا " كلمة أخرى، فلم يكن هذا البناء لاَزِماً فلذلك
كان الِإظهار أجود.
ويجوز الِإدغام، ويجوز حَذْفُ التاء لاجتماع التاءين.
يحكى عن العرب " تبين هذه الخصلة، وتتبين هذه الخَصْلَةُ، وفي
القرآن لعلكم تَذَكَّرُون، وَتَتَذَكَّرُونَ
وتذكُرون واحدة، ولا أعلم أحداً قرأ " ولا تناجوا " بتاء واحدة
ولكن تقرأ " فَلَا تَنْتَجُوا " أي لا تفتعلوا من النجوى.
* * *
وقوله: (إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ
الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيْسَ بِضَارِّهِمْ شَيْئًا إِلَّا
بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ
الْمُؤْمِنُونَ (10)
أي النجوى بالِإثْمِ والعًدْوَانِ مِنَ الشَيطانِ ليحزن الذين
آمنوا.
ويجوز (ليُحْزِنَ الذين آمنوا) - بضم الياء وكسر الزاي -
العرب تقول: حزنني الأمر وأحزنني.
(وَلَيْسَ بِضَارِّهِمْ شَيْئًا).
أي ليس يضرُّ التناجي المؤمنين شيئاً.
ويجوز أن يكون وليس بضارهم الشيطان شيئاً.
وقوله: (إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ)، أي لا يضرهم شيء إلا ما
أراد الله
(وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ).
أي يكلون أمرهم إلى الله ويستعيذون به من الشيطان الرجيم.
(5/138)
يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا
بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً ذَلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ
وَأَطْهَرُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ
رَحِيمٌ (12)
وقوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا
يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذَا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا
يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ
أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ
خَبِيرٌ (11)
(فِي الْمَجْلِسِ) (تَفَسَّحُوا)
ويقرأ (في المَجَالِس) وتقرأ (تَفَاسَحُوا).
وجاء في التفسير أن المجلس ههنا يعنى به مجلس النبي - صلى الله
عليه وسلم -
وقيل في المجالس مجالس الحرب مثل قوله تعالى: (مقاعد للقتال).
فأمَّا مَا أمِروا به في مجلس النبي عليه السلام فقيل إن الآية
نزلت بسبب عبد اللَّه بن شَمَّاسٍ وكان من أهل الصفَّةِ، وكان
من يجلس في مجلس النبي - صلى الله عليه وسلم - من ذوي الغِنَى
والشرف كأنهم لَا يُوَسعُون لِمَنْ هو دونَهمْ، فأمر اللَّه
المؤمنين بالتواضع وأن يفسحوا في المجلس لمن أرادَ النبي - صلى
الله عليه وسلم - ليتساوى الناس بالأخذِ بالحظ منه.
(وَإِذَا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا).
أي إذا قيل انهضوا - قوموا - فانهضوا.
وهذا كما قال: (وَلَامُسْتَانِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذلِكُمْ
كانَ يُوذِي النَبِى فَيَسْتَحي مِنْكُمْ).
وَقِيلَ أيْضاً (وَإِذَا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا) أي إذا
قيل قوموا لصلاة
أو قضاء حَقٍّ أو شهادَةٍ فانشُزُوا.
ويجوز " انشُروا فانْشُرْوا، جميعاً يقرأ بهما ويرويان عن
العرب نشر ينشرُ وينْشِز.
* * *
وقوله: (يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ
وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ).
والدليل على فضل أهل العلم ما روي عن النبي - صلى الله عليه
وسلم - أنه قال: عبادةُ العالم يَوْماً واحِداً تعدِلُ
عِبَادَةَ العابد الجاهل أربعين سنةً.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا
نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ
صَدَقَةً ذَلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِنْ لَمْ
تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (12)
أي إذا خاليتم الرسول بالسِّرِّ فقدموا قبل ذلك صدقة وافعلوا
ذلك.
وقيل إن سبب ذلك أن الأغنياء كانوا يستخلون النبي - صلى الله
عليه وسلم - فَيُسَارُّونَه بما يريدونَ، وكان الفقراء لا
يتمكنون من النبي - صلى الله عليه وسلم - تمكنهم ففرض عليهم
(5/139)
اسْتَحْوَذَ
عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنْسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ
أُولَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ
الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ (19)
الصدقة قبل النجوى ليمتنعوا من ذلك، فروي
أن عَلِيًّا رحمه الله أراد أن
يناجِيَ النبي - صلى الله عليه وسلم -، فتصدق بدينار باعه
بعشرة دَرَاهم قبل منَاجَاتِه، ثم نسخ ذلك الزكاة فقال - عزَّ
وجلَّ:
(أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ
صَدَقَاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ
فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا
اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (13)
أي أطيعوه في كل أمْرٍ، ودخل في ذلك التَّفَسُّحُ في المجْلِسِ
لتَقَارُب
النَّاسِ في الدُّنُوِ من النبي عليه السلام.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا
قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَا
مِنْهُمْ وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ
(14)
هؤلاء المنافقون تولَّوُا اليهودَ.
ومعنى قَوله: (ويحْلِفُونَ عَلَى الكَذِبِ) يَدل على تفسيره
قوله: (وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَمَا
هُمْ مِنْكُمْ وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ)
وقوله: (يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ
لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ)
يدل عليه قوله: (ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ
قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ (23)
انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ).
* * *
وقوله: (اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنْسَاهُمْ
ذِكْرَ اللَّهِ أُولَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلَا إِنَّ
حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ (19)
معنى " استحوذ " في اللغة استولى، يقال: حُذْتُ الِإبِلَ
وَحُزْتُهَا إذا
استوليت عليها وجمعتها، وهذا مما خرج على أصله ومثله في الكلام
أجْوَدْتُ
وأطيبتُ، والأكثر أجدتُ وأطَبتُ، إلَّا أنَّ استحوذ جاء على
الأصل، لأنه لم
يُقَلْ عَلَى حَاذَ لأنه إنما بني على استفعل في أول وهلة كما
بني افتقر على
افتعل وهو من الفقر ولم يُقَلْ منه فَقُرَ ولا استعمل بغير
زيادة، ولم يقل: حاذ
عليهم الشيطان ولو جاء استحاذ كان صواباً، ولكن استحوذ ههنا
أجود لأنَّ
(5/140)
لَا تَجِدُ قَوْمًا
يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ
حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ
أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ
أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ
بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ
تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا
إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (22)
الفعل في ذا المعنى لم يستعمل إلا بزيادة.
وقوله عزَّ وجلَّ: (أُولَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ).
قال أبو عبيدة: حزب الشيطان جند الشَيطان، والأصل في اللغة أن
الحزب الجمع والجماعة، يقال منه: قد تحزب القوم إذا صاروا
فِرَقاً، جماعةً
كذا وجماعة كذا.
* * *
وقوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ
وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ (20)
قد فسرنا يحادون ومعناه يشاقونَ أي يصيرون في غير حَد أولياء
اللَّه.
وفي غير شِقِّهِمْ.
(أُولَئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ)، أي أولَئِكَ في المغلوبين.
* * *
وقوله: (كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ
اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (21)
أي قضى الله قضاء ثابتاً، ومعنى غلبة الرسل عَلَى نَوعين:
مَنْ بُعِثَ بالحرب فغالب في الحرب.
ومن بعث منهم بغير حرب فهو غالب بالحجة.
(إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ).
أي مانعٌ حِزْبَهُ من أن يُذَلَّ لأنه قال جلَّ وعلَا:
(أُولَئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ).
والعزيز الذي لا يُغلب وَلَا يُقْهَر.
* * *
وقوله: (لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ
الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ
كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ
أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ
الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ
جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ
فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ
حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ
الْمُفْلِحُونَ (22)
جاء في التفسير أن هذه الآية نزلت بسبب حاطب بن أبي بَلْتَعة،
وكان
النبي - صلى الله عليه وسلم - عزم على قصد أهل مكة فكتب حاطب
يشرح لهم القصةَ وُينْذِرَهمْ ليحرزوا فنزل الوحي على رسول
اللَّه - صلى الله عليه وسلم - فذكر حاطبٌ لَمَّا وُبِّخَ بذلك
أن له بمكة أهلاً وأنه لَيس لَه أحدٌ يكنفهم، وإنما فَعَلَ ذلك
ليحاط أهله، فأعلم اللَّه - عزَّ وجلَّ - أن إيمان المؤمِنِ
يَفْسدُ بِمَوَدةِ الكفار بالمعاونة على المؤمنين.
وأعلم اللَّه تعالى أنه من كان مؤمناً باللَّه واليوم الآخر لا
يوالي مَنْ كَفَر، ولو
كان أباه أو أُمَّه أو أخاه أوْ أحَداً مِنْ عَشِيرته.
(5/141)
وقوله تعالى: (أُولَئِكَ كَتَبَ فِي
قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ).
يعني الذين لا يوادُّون من حَادَّ اللَّهَ ورَسوله، ويوالون
المؤمنين.
وقوله: (وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ).
أي قواهم بنور الِإيمان بإحياء الإِيمان، ودليل ذلك قوله:
(وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا
كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ
جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ
عِبَادِنَا).
فكذلك: (وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ).
فأعلم الله عزَّ وجلَّ أن ذلك يوصلهم إلى الجنَّة فقال:
(وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ
خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ
أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ).
أي الذين لَا يُوادُّونَ من حاد الله ورسوله ومن المؤمنين،
وحزب الله أي
الداخلون في الجمع الذي اصطفاه الله وارتضاه.
وقوله: (أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ).
(أَلَا) كلمة تنبيه، وتوكيد للقصَّةِ.
و (الْمُفْلِحُونَ) المدركون البقاء في النعيم الدائم.
(5/142)
هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ
الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ
لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا
أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ
اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي
قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ
وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي
الْأَبْصَارِ (2)
سُورَةُ الحشر
(مَدنية)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
قوله تعالى: (سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي
الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1)
افتتح اللَّه السورة بذكر تقديسه وأن له أشياء تبرئُهُ من
السُّوءِ ومثل ذلك
قوله: (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ).
* * *
وقوله تعالى: (هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ
أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا
ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ
حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ
لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ
يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي
الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ (2)
هَؤلَاءِ بنو النضير، كان لهم عزَّ ومنعة مِنَ اليهود، فظنَّ
الناس أنهم لعزهم
وَمَنْعَتِهِمْ لا يخرجون من ديارِهِمْ، وظنَّ بنو النضير أنَّ
حُصُونَهمْ تمنعهم من
الله، أي من أمر اللَّه (فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ
يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ). -
كان بنو النضير لما دخل النبي عليه السلام المدينة عاقدوه
ألَّا يكونوا
عليه ولا معه، - فلما كان يوم أحد وظهر المشركون على المسلمين
نكثوا
ودخلهم الريب، وكان كعب، بن الأشرف رئيساً لهم فخرج في ستين
رَجُلًا إلى مكة وعاقد المشركين على التظاهر على النبي عليه
السلام، فأطلع اللَّه نبيه عليه السلام على ذلك، فلى ما صار
إلى المدينة وَجَّهَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - محمد
بن مسلمة ليَقْتلَه، وكان محمد بن مَسْلَمَةً رضيعاً لكعب،
فاستَأذَنَ محمد بن مسلمة رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -
في، أن ينال منه [ليعتر] كعب بن الأشرف، فجاءَهُ محمد
(5/143)
مَا قَطَعْتُمْ مِنْ
لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا
فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ (5)
ومعه جماعة فاستنزله من منزله وأوهمه أنه
قَدْ حُمِلَ عَلَيْهِ في أخذ الصدقَةِ مِنهُ
فلما نزل أخذ محمد بن مَسْلَمَةً بناصيته وكَبَّرَ، فخرج
أصحابه فقتلوه في
مكانِه، وغَدَا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - غازياً بني
النَضِير فأناخ عليهم، وقيل إنه غزاهم على حمار مخطومِ بليف،
فكان المؤمِنونَ يخربون من منازل بني النضير ليكون لهم أمكنة
للقتال، وكان بنو النضير يخربون منازلهم ليَسدُّوا بها أبْوابَ
أزقتهم لِئَلَّا يُبْقَى علي المؤمنين، فقذف اللَّهُ في قلوبهم
الرعْبَ (يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي
الْمُؤْمِنِينَ).
ومعنى إخرابها بأيدي المؤمنين أنهم عَرَّضُوهَا لِذَلك.
ففارقوا رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - على الجلاء من
منازلهم وأن يحملوا ما استقلت به إبِلهمْ ما خلا الفضة والذهب،
فجلوا إلى الشام وطائفة منهم جلت إلى خيبر وطائفة إلى الحيرة،
وذلك قوله:
(هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ
الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ).
وهو أول حَشْرٍ حُشِرَ إلى الشامِ - ثم يحشر الخلق يوم
القيامةِ إلى الشامِ
ولذلك قيل لأول الحشر.
فجميع اليهود والنصارى يُجْلَوْنَ من جزيرة العَرَبِ.
وروي عن عمرَ أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال:
" لأخْرِجَنَّ اليهُودَ مِنْ جَزِيرَةِ العَرَبِ ".
قال الخليل: جزيرة العرب مَعْدِنها وَمَسْكَنها، وإنما قيل لها
جَزِيرة العَرَبِ لأن
بحر الحبس وبحر فارس ودجلة والفرات قد أحاطت بها، فَهِيَ أرضها
ومَعْدِنها.
قال أبو عبيدة: جزيرة العرب من [جَفْر] أبي موسى إلى اليَمَنِ
في
الطول ومن رمل بَيْرِينَ إلى منقطع السماوة في العرض.
وقال الأصْمَعِى إلى أقصى عَدَن أبْيَن إلى أطراف اليمن حتى
تبلغ أطرافَ بَوَادي الشام.
* * *
وقوله تعالى: (مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ
تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ
وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ (5)
أي ما قطعتم من نخلة - والنخل كله ما عدا البرني والعجوة يسميه
أهل
المدينة الألْوَان، وأصل لِينَةٍ لِوْنَهَ فقلبت الواو ياء
لانكسار ما قبلها فقيل لينة.
(5/144)
وَالَّذِينَ
تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ
يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي
صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى
أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ
شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (9)
فأنكر بنو النضير قطع النخل فأعلم اللَّه -
عزَّ وجلَّ - أن ذلك بإذنه -
القطع والترك جميعاً.
(وليُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ).
بأن يريهم أموالهم يتحكم فيها المسلمون كيف أحبوا.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ
مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَا
رِكَابٍ وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ
يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (6)
يعني ما أفاء اللَّه على رسوله من بني النضير مما لم يوجفوا
عليه خيلاً
ولا ركاباً - والركاب الإِبلُ والوَجِيفُ دون التقريب من
السير، يقال: وجف الفرس وأوجَفته، والمعنى أنه لا شيء لكم فيه
إنما هو لرسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - خالصاً يعمل فيه
ما أحب، وكذلك كل ما فتح على الأئمة مما لم يوجف المسلمون عليه
خيلًا ولاركاباً.
* * *
وقوله: (مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ
الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى
وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَا
يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ وَمَا
آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ
فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ
الْعِقَابِ (7)
معنى (فلِلَّهِ) أي له أن يأمركم فيه بما أحَبَّ.
(وَلِلرسُولِ وَلِذِي القُرْبَى).
يعني ذوي قرابات النبي - صلى الله عليه وسلم - لأنهم قد منعوا
الصدقة فَجُعِلَ لهم حَق في الفيء.
(وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَا
يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ).
* * *
وقوله: (لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا
مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ
اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ
أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (8)
بَيَّنَ مَن المَسَاكِينُ الذين لهم الحق فقال: (الَّذِينَ
أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ).
* * *
وقوله: (وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ
قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا
يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا
وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ
خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ
الْمُفْلِحُونَ (9)
يعني الأنصار.
(5/145)
وَالَّذِينَ جَاءُوا
مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا
وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا
تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا
إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (10)
(وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ)
يعني المهاجرين.
(يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ)
أي يحب الأنْصَارُ المُؤْمِنِينَ.
(وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا).
أي لا يجد الأنصار في صدورهم حاجة مما يُعْطَى المهاجرونَ.
وقوله: (وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ
خَصَاصَةٌ).
قال أبو إسحاق: ما أفاء اللَّه على رسوله من أهل القرَى نحو
خيبر.
وما أشْبَهَهَا، فالأمر عند أهل الحجاز في قسمة الفيء أنه
يُفَرَّق في هذه الأصْنَافِ المسمَّاة على قَدْرِ ما يراه
الِإمام على التحري للصلاح في ذلك إن رأى الِإمام ذلك، وإن رأى
أنَّ صِنفاً من الأصناف يحتاج فيه إلى جميع الفيء صرف فيه أو
في هذه الأصنافِ عَلى قَدْرِ مَا يَرَى.
* * *
قوله: (كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ
مِنْكُمْ).
يقرأ بضم الدال وفتحها - فالدُّولَة اسم الشيء الذي يتداول.
والدَّوْلَة الفِعْل والانتقال من حال إلى حالٍ.
وقرئت أيضاً (دُولَةٌ) - بالرفع -
فمن قرأ " كَيْلاَ يَكُونَ دُولَةٌ " فعلى أن يكون على مذهب
التمام.
ويجوز أن يكون " دُولَةٌ " اسمَ يكونُ وخَبَرُها " بين
الأغنياء ".
والأكثر (كيلا يكونَ دولةً بيْنَ الأغْنِيَاءِ مِنْكُمْ) على
معنى كيلا يكون الفيء دولةٍ، أي متداولًا.
وقوله: (وَمَا آتَاكَم الرسُولُ فَخُذوهُ).
أي من الفيء.
(وَمَا نَهَاكمْ عَنْهُ) أي عن أخذه (فَانْتَهوا).
* * *
قوله (وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ
رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا
بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا
لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ
(10)
أي ما أفاء اللَّه على رسوله من أهل القُرى فلله ولرسوله
ولهؤلاء
(5/146)
لَا يُقَاتِلُونَكُمْ
جَمِيعًا إِلَّا فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَرَاءِ
جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا
وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا
يَعْقِلُونَ (14)
المسلمين وللذين يجيئون من بعدهم إلى يوم
القيامة، ما أقاموا على محبة
- أصحاب رسول الله عليه السلام.
ودليل ذلك قوله: (وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ) في حال
قولهم: (رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ
سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ. .). الآية.
فمن يترحم على أصحاب رسول اللَّهِ ولم يكن في قلبه غِلٌ لهم
أجمعين
فله حظٌّ فِي فَيْء المسلمين، ومن شَتَمُهُمْ ولم يترحم
عَلَيهم أو كان في قَلْبِهِ
غِلٌّ لَهُمْ فما جعل الله له حقًّا في شيء من فيء المسلمين.
فهذا نصُّ الكتَابِ بَيِّنٌ.
* * *
قوله: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ
لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ
لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلَا نُطِيعُ
فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ
وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (11)
هُمْ إِخْوَانُهُمْ يَضُمُّهُمْ الكُفْرُ.
(لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلَا نُطِيعُ
فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ
وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ).
وقد بَانَ ذلك في أمر بني النضِير الذين عاقدهم المنافقون
لأنهم أخرجوا
من ديارهم وأموالهم فلم يخرج معهم المنافقون، وقُوتلُوا فلم
ينصروهم.
فأظهر الله عزَّ وجلَّ كَذِبَهُمْ.
فإن قال قائل: ما وجه قوله: (وَلَئِنْ قُوتِلُوا لَا
يَنْصُرُونَهُمْ)
ثم قال: (وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبَارَ
ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ).
قال أهل اللغة في هذا قولين: قالوا معناه أنهم لو تَعَاطَوْا
نَصْرَهُمْ، أي
ولئن نَصَرهُم مَنْ بَقِيَ مِنْهُمْ لَيُوَلُّنَّ
الْأَدْبَارَ.
* * *
وقوله: (لَا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلَّا فِي قُرًى
مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ
شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ
بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ (14)
(5/147)
كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ
إِذْ قَالَ لِلْإِنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ
إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ
الْعَالَمِينَ (16)
وقرئت (أَوْ مِنْ وَرَاءِ جِدَارٍ) - على
الوَاحِد - وقُرئت بتسكين الدال.
فمن قرأ (جُدُرٍ) فهو جمع جدار وجُدُرٍ مثل حمار وَحُمُرٍ.
ومن قرأ بتسكين الدال حذف الضمة لِثِقَلِهَا كما قالوا صُحْفٌ
وَصُحُفٌ. ومن قرأ (جِدَارٍ) فهو الوَاحِد.
فأعلم اللَّه عزَّ وجلَّ أنهم إذا اجتمعوا على قتالِكم لما قذف
اللَّه في قلوبهم مِنَ
الرُعبِ لا يبرزون لحربكم إنما يقاتلون متحصنين بالقرى
والجُدْرانِ.
وقوله: (تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى).
أي مختلفون لا تستوي قلوبهم ولا يتعاونون بِنيات مُجْتَمِعَة
لأن اللَّه -
- عزَّ وجلَّ - ناصر حزبه وخاذِل أعدائِه.
* * *
وقوله: (كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَرِيبًا ذَاقُوا
وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (15)
مثل ما نال أهل بَدْرٍ.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ
لِلْإِنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ
مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ (16)
أي مثل المنافقين في غرورهم لبني النضِير وَقَوْلهِم لَهُمْ:
(لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلَا نُطِيعُ
فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِنْ قُوتِلْتُمْ
لَنَنْصُرَنَّكُمْ) -
(كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنْسَانِ اكْفُرْ
فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ)
وهو - واللَّه أعلم - يدل عليه قوله: (وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ
الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لَا غَالِبَ لَكُمُ
الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ فَلَمَّا
تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ
إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ).
فكذلك المنافقون، لَمَّا نَزَلَ ببني النضِيرِ ما نزل تبرأوا
منهم.
وقد جاء في التفسير أن عابداً كان يقال له بَرْصِيصَا كان
يُدَاوِي مِنَ
الجُنُونِ فداوى امرأة فأعَجَبته فأغواه الشيطان حتى وَقَعَ
بها ثم قتلها - ثم تبرأ
(5/148)
لَوْ أَنْزَلْنَا
هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا
مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ
نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (21)
منه الشيطان، وفي الحديث طول ولكن هذا
معناه.
* * *
وقوله: (فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَا أَنَّهُمَا فِي النَّارِ
خَالِدَيْنِ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ (17)
وقرأ عبد الله بن مسعود أنهما في النار خَالِدَان فِيهَا،
وَهوَ في العربيةِ
جائز إلَّا أنه خلاف المصحف، فمن قَالَ (خَالِدَيْن فيها) فنصب
على الحال.
ومن قرأ (خالدان) فهو خبر أَنَّ.
والقراءة فَكانَ عَاقِبَتهُمَا على اسم كانَ ويكون
خبر كانَ أنهما في النار على معنى فكان عاقبتهما كَوْنَهُما في
النَّارِ
ويقرأ فكان (عاقِبَتُهُمَا) والنصب أحسَنُ.
ويكون اسم كان (أَنَّهُمَا).
* * *
وقوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ
وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ
إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (18)
أي ليوم القيامَةِ، وقُرِّبَ على الناسِ فجعل كأنه يأتي غَداً.
وأصل غَدٍ غَدْوٌ إلا أنه لم يأت في القرآن إلا بحذف الواو،
وقد تُكُلِّمَ به
بحذف الواو، وجاء في الشَعْر بإثبات الواوِ وحَذْفِها.
قال الشاعر في إثباتها:
وما الناسُ إلاَّ كالدِّيارِ وأَهلِها. . . بها يومَ حَلُّوها
وغَدْواً بَلاقِعُ
وقال آخر:
لا تَغْلُواها وادْلُواها دَلْوَا. . . إنَّ مَعَ اليَوْمِ
أَخاه غَدْوَ
* * *
وقوله عزَّ وجل: (وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ
فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (19)
نسوا الله تركوا ذكره وما أمرهم به فترك اللَّه ذكرهم بالرحمة
والتوفيق.
* * *
وقوله: (لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ
لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ
وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ
يَتَفَكَّرُونَ (21)
(5/149)
هُوَ اللَّهُ الَّذِي
لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ
الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ
الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (23)
ْأعلم اللَّه عزَّ وجلَّ أن من شأن القرآن
وعَظَمَتِهِ وَبَيانِه أنه لو جُعِلَ في
الجبل تمييز كما جعل فيكم وأنزل عليه القرآن لخشع وتصدَّع من
خشية اللَّه
ومعنى خشع تطأطأ وخضع، ومعنى تصدَّع تشققَ.
وجائز أن يكون هذا عَلَى المَثَلِ لقوله: (وَتِلْكَ
الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ)
كما قَالَ - سبحانه -: (لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا (89)
تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ
الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا (90).
* * *
وقوله: (هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ
الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ (22)
هذا رد على أول السورة، على قوله: (سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي
السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ
الْحَكِيمُ).
(هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ).
* * *
قوله: (هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ
الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ
الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا
يُشْرِكُونَ (23)
(الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ).
والقدوس الطاهر ومن هذا قيل: بيت المقدس أي بيت المكان الذي
يتطهر فيه من الذُنُوبِ.
وقوله: (السَّلَامُ).
اسم من أسماء اللَّه عزَّ وجلَّ، وقيل السلام الذي قد سَلِمَ
الخلقُ من ظُلْمِهِ.
(الْمُؤْمِنُ).
الذي وَحَّد نَفْسَهُ بقوله: (شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا
إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ
قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ
الْحَكِيمُ).
وقيل المؤمِنُ الذي أمِنَ الخلقُ من ظُلمِه.
وقوله: (العَزِيزُ).
أي الممتنِعُ الذي لا يغلبه شيء.
(الْمُهَيْمِنُ). -
جاء في التفسير أنه الشهيد، وجاء في التفسير أنه الأمين، وزعم
بَعْضُ
(5/150)
هُوَ اللَّهُ
الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاءُ
الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ
وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (24)
أهل اللغة أن الهاء بدل من الهمزة وأن أصله
المؤيمِنُ، كما قالوا: إِياك
وهِيَّاكَ، والتفسير يشهد لهذا القول لأنه جاء أنه الأمِينُ،
وجاء أنه الشهِيدُ.
وتأويل الشهيد الأمين في شهادته.
وقوله: (الْجَبَّارُ).
تأويله الذي جبر الخلق على ما أراده من أمْرِه.
وقوله: (الْمُتَكَبِّرُ).
الذي تكبر عن ظلم عِبَادِه.
(سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ)
تأويله تنزيه الله عن شركِهِمْ.
* * *
قوله: (هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ
الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ
وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (24)
وقد رويت رواية لا ينبغي أن تُقْرَأ، رويت (الْبَارِئَ
الْمُصَوِّرَ) بالنصب معناه الذي برأ آدم وصَوَّرَة.
وقوله: (لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى).
جاء في التفسير أنها تسعة وتسْعُون اسماً، من أحصاها دَخَل
الجنَّةَ
وجاء في التفسير أن اسم اللَّهِ الأعظم اللَّه، ونحن نبيِّن
هذه الأسماء واشتقاق ما ينبغي أن يبين منها إن شاء اللَّه.
روى أبو هريرة الدوسي عن النبي عليه السلام قال إن للَّهِ مائة
اسم غير
واحِدٍ مَن أحصاها دخل الجنَّةَ.
وهو الله الواحد الرحمن الرحيم الأحَدُ الصمَدُ الفرد السلام
المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر الخالق البارئ المصور
الحي القيوم العَلِى الكبير الغني الكريم الولي الحميد العليم
اللطيف السميع البصير الودود الشكور
الظاهر البَاطِن الأول الآخر المبدئ البديع الملك القدوس
الذَارِئ الفَاصِلُ الغَفُورُ المجيد الحليم الحفيظ الشهيد
الربُّ
(5/151)
القدير التَّوَّاب الحافظ الكفيل القريبُ
المجيب العَظيمُ الجليل العَفُوُّ الصَّفُوح
الحق المبين المعز المذل القوِي الشديد الحنَّان المَّان
الفتاح الرؤوف القابض
الباسط الباعثُ الوَارِث الدَّيَّانُ الفاضل الرقيب الحسيب
المتين الوكيل الزكي
الطاهر المحسن المجمل المبارك السُّبُّوح الحكيم البرُّ
الرَّزاق الهادي المولى
النصير الأعلى الأكبر الوهاب الجواد الوفى الواسع الخلاَّق
الوِتْر.
جاء في التفسير أن اسم اللَّه الأعظم اللَّه.
قال سيبويه: سألت الخليل عن هذا الاسم فقال:
الأصل فيه إله فأدخلت الألف واللام بدلًا من الهمزة.
وقال مرة أخْرَى: الأصل لَاهْ وأدْخِلَتِ الألف واللام
لَازِمة.
وأما الرحمن الرحيم فالرحمن اسم الله خاصة لا يقال لغير اللَّه
رحمن، ومعناه المبالغ في الرحَمَةِ وأرحم الراحمين -
وَفَعْلانُ من بناء المُبَالَغَةِ، تقول للشديد الامتلاء ملآنُ
وللشديد الشبع شبعَانُ، والرحيم اسم الفاعِلِ من رحم فَهُوَ
رَحِيم، وهو أيضاً للمبالغة والأحدُ أصله الوَحَدُ بمعنى
الواحد، وهو الواحد الذي ليس كمثله شيء.
والصَّمَدُ السيد الذي صَمَدَ له كل شيء، أي قصد قَصْدَهُ.
وتأويل صمود كل شيء للَّهِ أن في كل شيء أثر صنعة اللَّه.
السلام الذي سلم الخلق من ظلمه، وقد فَسَّرْنَا المؤمِن
المهَيْمِن، وفسرنا الجبار المتكبر.
والباريء الخالق، تقول برأ اللَّه الخلق يبرؤهم أي خلقهم،
والقيُّوم المُبَالِغُ في
القيام بكل ما خَلَقَ، وما أراد، والولي المتولي للمؤمنين
اللطيف للخلق من
حيث لا يعلمون ولا يقدرون، والودودُ المحب الشديد المحبَّةِ.
الشكور الذي يرجع الخير عنده، الظاهر الباطن الذي يعلم مَا
ظَهَرَ وَمَا بَطَن، المبدئ الذي ابتدأ كل شيء من غير شيء،
والبديع الذي ابتدع الخلق على غير مثالٍ، القدُوس قد رويت
القَدُّوس بفتح القاف، جاء في التفسير أنه المبارك، ومن ذلك
أرض مقدَّسَةٌ مباركة، وقيل الطاهر أيضاً.
والمذرئ - مهموز - الذي ذرأ الخلق أي خلقهم، والفاصل الذي فصل
بين الحَقِّ والباطل، والغفور الذي
(5/152)
يغفر الذنوب، وتأويل الغفران في اللغة
التغطيةُ على الشيء ومن ذلك المِغفَرُ
ما غطَيَ به الرأس.
المجيد الجميل الفعال، والشهيد الذي لا يغيب عنه شيء.
والرَّبُّ مالك كل شيء والصَّفوح المتجاوز عَنِ الذُنُوبِ يصفح
عنها.
الحَنَّانُ ذو الرحمة والتعطف المَنَّان الكثير المَنِّ على
عباده بمُظَاهر النعم.
الفتاح الحاكم، الدَّيَّانُ المجازي، الرقيب الحافظ الذي لا
يغيب عنه شيء.
المتين الشديد القوة على أمْرِه، الوكيل الذي يوكل بالقيام
بجميع ما خلق.
والزكي الكثير الخير السُّبُّوح الذي بيَّن عن كل سِرٍّ،
الحليم الذي لا يعجل
بالعقوبة، وكان الحلم على هذا تأخير العقوبة.
(5/153)
|