أحكام القرآن لابن العربي ط العلمية [سُورَةُ الْقَلَمِ فِيهَا ثَلَاثُ
آيَاتٍ] [الْآيَة الْأُولَى قَوْله تَعَالَى ن وَالْقَلَمِ
وَمَا يَسْطُرُونَ]
الْآيَةُ الْأُولَى قَوْله تَعَالَى: {ن وَالْقَلَمِ وَمَا
يَسْطُرُونَ} [القلم: 1]. فِيهَا مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ
الْأُولَى رَوَى الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ عَنْ أَنَسِ بْنِ
مَالِكٍ عَنْ سَمِيٍّ مَوْلَى أَبِي بَكْرٍ عَنْ أَبِي
صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: سَمِعْت رَسُولَ
اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ:
«أَوَّلُ مَا خَلَقَ اللَّهُ الْقَلَمَ، ثُمَّ خَلَقَ
النُّونَ، وَهِيَ الدَّوَاةُ، وَذَلِكَ قَوْلُهُ: {ن
وَالْقَلَمِ} [القلم: 1]؛ ثُمَّ قَالَ: اُكْتُبْ. قَالَ: وَمَا
أَكْتُبُ؟ قَالَ: مَا كَانَ وَمَا هُوَ كَائِنٌ إلَى يَوْمِ
الْقِيَامَةِ مِنْ عَمَلٍ، أَوْ أَجَلٍ، أَوْ رِزْقٍ، أَوْ
أَثَرٍ؛ فَجَرَى الْقَلَمُ بِمَا هُوَ كَائِنٌ إلَى يَوْمِ
الْقِيَامَةِ، ثُمَّ خَتَمَ عَلَى الْقَلَمِ فَلَمْ يَنْطِقْ،
وَلَا يَنْطِقُ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، ثُمَّ خَلَقَ
الْعَقْلَ فَقَالَ الْجَبَّارُ: مَا خَلَقْت خَلْقًا أَعْجَبَ
إلَيَّ مِنْك، وَعِزَّتِي وَجَلَالِي لَأُكَمِّلَنَّكَ فِيمَنْ
أَحْبَبْت، وَلَأُنْقِصَنَّكَ فِيمَنْ أَبْغَضْت، ثُمَّ قَالَ
رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:
أَكْمَلُ النَّاسِ عَقْلًا أَطْوَعُهُمْ لِلَّهِ
وَأَعْمَلُهُمْ بِطَاعَتِهِ» الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ
خَلَقَ اللَّهُ الْقَلَمَ الْأَوَّلَ، فَكَتَبَ مَا يَكُونُ
فِي الذِّكْرِ، وَوَضَعَهُ عِنْدَهُ فَوْقَ عَرْشِهِ، ثُمَّ
خَلَقَ الْقَلَمَ الثَّانِيَ لِيُعَلِّمَ بِهِ مَنْ فِي
الْأَرْضِ عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانُهُ فِي سُورَةِ: {اقْرَأْ
بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} [العلق: 1] إنْ شَاءَ اللَّهُ
تَعَالَى.
(4/304)
[الْآيَةُ الثَّانِيَةُ قَوْله تَعَالَى
وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ]
الْآيَةُ الثَّانِيَةُ: {وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ}
[القلم: 9]. فِيهَا مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى
ذَكَرَ الْمُفَسِّرُونَ فِيهَا نَحْوَ عَشْرَةِ أَقْوَالٍ،
كُلُّهَا دَعَاوَى عَلَى اللُّغَةِ وَالْمَعْنَى، أَمْثَلُهَا
قَوْلُهُمْ: وَدُّوا لَوْ تَكْذِبُ فَيَكْذِبُونَ. وَدُّوا
لَوْ تَكْفُرُ فَيَكْفُرُونَ.
وَقَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ: الْإِدْهَانُ هُوَ التَّلْبِيسُ،
مَعْنَاهُ: وَدُّوا لَوْ تَلْبِسُ إلَيْهِمْ فِي عَمَلِهِمْ
وَعَقْدِهِمْ فَيَمِيلُونَ إلَيْك.
وَحَقِيقَةُ الْإِدْهَانِ إظْهَارُ الْمُقَارَبَةِ مَعَ
الِاعْتِقَادِ لِلْعَدَاوَةِ؛ فَإِنْ كَانَتْ الْمُقَارَبَةُ
بِاللِّينِ فَهِيَ مُدَاهَنَةٌ، وَإِنْ كَانَتْ مَعَ سَلَامَةِ
الدِّينِ فَهِيَ مُدَارَاةٌ أَيْ مُدَافَعَةٌ.
وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهُ
«اسْتَأْذَنَ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - رَجُلٌ فَقَالَ: ائْذَنُوا لَهُ، بِئْسَ أَخُو
الْعَشِيرَةِ هُوَ، أَوْ ابْنُ الْعَشِيرَةِ؛ فَلَمَّا دَخَلَ
أَلَانَ لَهُ الْكَلَامَ، فَقُلْت لَهُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ؛
قُلْت مَا قُلْت، ثُمَّ أَلَنْت لَهُ فِي الْقَوْلِ، فَقَالَ
لِي: يَا عَائِشَةُ؛ إنَّ شَرَّ النَّاسِ مَنْزِلَةً مَنْ
تَرَكَهُ أَوْ وَدَعَهُ النَّاسُ اتِّقَاءَ فُحْشِهِ».
وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - قَالَ: «مَثَلُ الْمُدَاهِنِ فِي حُدُودِ اللَّهِ
وَالْقَائِمِ عَلَيْهَا كَمَثَلِ قَوْمٍ اسْتَهَمُوا فِي
سَفِينَةٍ، فَأَصَابَ بَعْضُهُمْ أَعْلَاهَا، وَأَصَابَ
بَعْضُهُمْ أَسْفَلَهَا، فَأَرَادَ الَّذِينَ فِي أَسْفَلِهَا
أَنْ يَسْتَقُوا الْمَاءَ عَلَى الَّذِينَ فِي أَعْلَاهَا
فَمَنَعُوهُمْ، فَأَرَادُوا أَنْ يَسْتَقُوا الْمَاءَ فِي
أَسْفَلِ السَّفِينَةِ، فَإِنْ مَنَعُوهُمْ نَجَوْا، وَإِنْ
تَرَكُوهُمْ هَلَكُوا جَمِيعًا».
وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {أَفَبِهَذَا الْحَدِيثِ
أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ} [الواقعة: 81]. قَالَ الْمُفَسِّرُونَ:
يَعْنِي مُكَذِّبُونَ، وَحَقِيقَتُهُ مَا قَدَّمْنَاهُ أَيْ
أَفَبِهَذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُقَارِبُونَ فِي
(4/305)
الظَّاهِرِ مَعَ إضْمَارِ الْخِلَافِ فِي
الْبَاطِنِ، يَقُولُونَ: اللَّهُ، اللَّهُ. ثُمَّ يَقُولُونَ:
مُطِرْنَا بِنَجْمِ كَذَا، وَنَوْءِ كَذَا، وَلَا يُنَزِّلُ
الْمَطَرَ إلَّا اللَّهُ سُبْحَانَهُ غَيْرَ مُرْتَبِطٍ
بِنَجْمٍ وَلَا مُقْتَرِنٍ بِنَوْءٍ. وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي
مَوْضِعِهِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ قَالَ اللَّهُ
سُبْحَانَهُ: {لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ} [القلم: 9]
فَسَاقَهُ عَلَى الْعَطْفِ، وَلَوْ جَاءَ بِهِ جَوَابُ
التَّمَنِّي لَقَالَ فَيُدْهِنُوا، وَإِنَّمَا أَرَادَ
أَنَّهُمْ تَمَنَّوْا لَوْ فَعَلْت فَيَفْعَلُونَ مِثْلَ
فِعْلِك عَطْفًا، لَا جَزَاءً عَلَيْهِ، وَلَا مُكَافَأَةً
لَهُ، وَإِنَّمَا هُوَ تَمْثِيلٌ وَتَنْظِيرٌ.
[الْآيَةُ الثَّالِثَةُ قَوْله تَعَالَى سَنَسِمُهُ عَلَى
الْخُرْطُومِ]
الْآيَةُ الثَّالِثَةُ: {سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ}
[القلم: 16].
فِيهَا مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: {سَنَسِمُهُ
عَلَى الْخُرْطُومِ} [القلم: 16]: ذَكَرَ فِيهِ أَهْلُ
التَّفْسِيرِ قَوْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا أَنَّهَا سِمَةٌ سَوْدَاءُ تَكُونُ عَلَى أَنْفِهِ
يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُمَيَّزُ بِهَا بَيْنَ النَّاسِ. وَهَذَا
كَقَوْلِهِ: {يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ} [الرحمن:
41].
وَقِيلَ: يُضْرَبُ بِالنَّارِ عَلَى أَنْفِهِ يَوْمَ
الْقِيَامَةِ يَعْنِي وَسْمًا يَكُونُ عَلَامَةً [عَلَيْهِ].
وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ
وُجُوهٌ} [آل عمران: 106]؛ فَهَذِهِ عَلَامَةٌ ظَاهِرَةٌ.
وَقَالَ: {وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا} [طه:
102] {يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلا
عَشْرًا} [طه: 103] وَهَذِهِ عَلَامَةٌ أُخْرَى ظَاهِرَةٌ،
فَأَفَادَتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَامَةً ثَالِثَةً وَهِيَ
الْوَسْمُ عَلَى الْخُرْطُومِ مِنْ جُمْلَةِ الْوَجْهِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ قَوْلُهُ: {سَنَسِمُهُ} [القلم:
16]: كَانَ الْوَسْمُ فِي الْوَجْهِ لِذَوِي الْمَعْصِيَةِ
قَدِيمًا عِنْدَ النَّاسِ حَتَّى أَنَّهُ رُوِيَ كَمَا
تَقَدَّمَ
(4/306)
أَنَّ الْيَهُودَ لَمَّا أَهْمَلُوا رَجْمَ
الزَّانِي وَاعْتَاضُوا عَنْهُ بِالضَّرْبِ وَتَحْمِيمِ
الْوَجْهِ، وَهَذَا وَضْعٌ بَاطِلٌ.
وَمِنْ الْوَسْمِ الصَّحِيحِ فِي الْوَجْهِ مَا رَأَى
الْعُلَمَاءُ مِنْ تَسْوِيدِ وَجْهِ شَاهِدِ الزُّورِ
عَلَامَةً عَلَى قُبْحِ الْمَعْصِيَةِ، وَتَشْدِيدًا لِمَنْ
يَتَعَاطَاهَا لِغَيْرِهِ مِمَّنْ يُرْجَى تَجَنُّبُهُ بِمَا
يُرْجَى مِنْ عُقُوبَةِ شَاهِدِ الزُّورِ وَشُهْرَتِهِ.
وَقَدْ كَانَ عَزِيزًا بِقَوْلِ الْحَقِّ، وَقَدْ صَارَ
مَهِينًا بِالْمَعْصِيَةِ؛ وَأَعْظَمُ الْإِهَانَةِ إهَانَةُ
الْوَجْهِ، وَكَذَلِكَ كَانَتْ الِاسْتِهَانَةُ بِهِ فِي
طَاعَةِ اللَّهِ سَبَبًا لِحَيَاةِ الْأَبَدِ، وَالتَّحْرِيمِ
لَهُ عَلَى النَّارِ؛ فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ حَرَّمَ عَلَى
النَّارِ أَنْ تَأْكُلَ مِنْ ابْنِ آدَمَ أَثَرَ السُّجُودِ،
حَسْبَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ.
(4/307)
|