أحكام القرآن لابن العربي ط العلمية [سُورَة نُوحٍ فِيهَا ثَلَاثُ آيَاتٍ]
[الْآيَةُ الْأُولَى قَوْله تَعَالَى مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ
لِلَّهِ وَقَارًا]
الْآيَةُ الْأُولَى قَوْله تَعَالَى: {مَا لَكُمْ لا تَرْجُونَ
لِلَّهِ وَقَارًا} [نوح: 13]. فِيهَا مَسْأَلَتَانِ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى قَوْلُهُ: {لا تَرْجُونَ لِلَّهِ
وَقَارًا} [نوح: 13] يَعْنِي لَا تَخْشَوْنَ لِلَّهِ عِقَابًا.
وَعَبَّرَ عَنْ الْعِقَابِ بِالْوَقَارِ؛ لِأَنَّ مَنْ
عَظَّمَهُ فَقَدْ عَرَفَهُ، وَعَنْ الْخَشْيَةِ بِالرَّجَاءِ؛
لِأَنَّهَا نَظِيرَتُهُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ قَوْلُهُ: {وَقَدْ خَلَقَكُمْ
أَطْوَارًا} [نوح: 14] يَعْنِي فِي الطُّولِ وَالْقِصَرِ،
وَالسَّوَادِ وَالْبَيَاضِ، وَالْعِلْمِ وَالْجَهْلِ،
وَالْإِيمَانِ وَالْكُفْرِ، وَالطَّاعَةِ وَالْمَعْصِيَةِ،
وَكُلِّ صِفَةٍ وَنَعْتٍ تَكُونُ لَهُمْ، وَكَذَلِكَ
تَدْبِيرُهُ فِي النَّشْأَةِ مِنْ تُرَابٍ إلَى نُطْفَةٍ إلَى
عَلَقَةٍ، إلَى مُضْغَةٍ، إلَى لَحْمٍ وَدَمٍ، وَخَلْقٍ
سَوِيٍّ. وَتَحْقِيقُ الْقَوْلِ فِيهِ: مَا لَكُمْ لَا
تُؤَمِّلُونَ تَوْقِيرَكُمْ لِأَمْرِ اللَّهِ وَلُطْفِهِ
وَنِعْمَتِهِ. أَدْخَلَهَا الْقَاضِي أَبُو إِسْحَاقَ فِي
الْأَحْكَامِ.
[الْآيَة الثَّانِيَة قَوْله تَعَالَى وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لَا
تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنْ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا]
} [نوح: 26].
فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ:
(4/311)
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى لَمَّا قَالَ
لِنُوحٍ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: {أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ
قَوْمِكَ إِلا مَنْ قَدْ آمَنَ} [هود: 36] حِينَ اسْتَنْفَدَ
مَا فِي أَصْلَابِ الرِّجَالِ وَمَا فِي أَرْحَامِ النِّسَاءِ
مِنْ الْمُؤْمِنِينَ، دَعَا عَلَيْهِمْ نُوحٌ بِقَوْلِهِ:
{رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ
دَيَّارًا} [نوح: 26] فَأَجَابَ اللَّهُ دَعْوَتَهُ،
وَأَغْرَقَ أُمَّتَهُ. وَهَذَا كَقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «اللَّهُمَّ مُنْزِلَ
الْكِتَابِ، سَرِيعَ الْحِسَابِ، هَازِمَ الْأَحْزَابِ،
اهْزِمْهُمْ وَزَلْزِلْهُمْ».
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ دَعَا نُوحٌ عَلَى الْكَافِرِينَ
أَجْمَعِينَ، وَدَعَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - عَلَى مَنْ تَحَزَّبَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ،
وَأَلَّبَ عَلَيْهِمْ، وَكَانَ هَذَا أَصْلًا فِي الدُّعَاءِ
عَلَى الْكُفَّارِ فِي الْجُمْلَةِ، فَأَمَّا كَافِرٌ
مُعَيَّنٌ لَمْ تُعْلَمْ خَاتِمَتُهُ فَلَا يُدْعَى عَلَيْهِ؛
لِأَنَّ مَآلَهُ عِنْدَنَا مَجْهُولٌ، وَرُبَّمَا كَانَ عِنْدَ
اللَّهِ مَعْلُومَ الْخَاتِمَةِ لِلسَّعَادَةِ؛ وَإِنَّمَا
خَصَّ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
الدُّعَاءَ عَلَى عُتْبَةَ وَشَيْبَةَ وَأَصْحَابِهِ
لِعِلْمِهِ بِمَآلِهِمْ، وَمَا كُشِفَ لَهُ مِنْ الْغِطَاء
عَنْ حَالِهِمْ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ الْمَسْأَلَةُ
الثَّالِثَةُ إنْ قِيلَ: لِمَ جَعَلَ نُوحٌ دَعْوَتَهُ عَلَى
قَوْمِهِ سَبَبًا لِتَوَقُّفِهِ عَنْ طَلَبِ الشَّفَاعَةِ
لِلْخَلْقِ مِنْ اللَّهِ فِي الْآخِرَةِ.
قُلْنَا: قَالَ النَّاسُ: فِي ذَلِكَ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا
أَنَّ تِلْكَ الدَّعْوَةَ نَشَأَتْ عَنْ غَضَبٍ وَقَسْوَةٍ؛
وَالشَّفَاعَةُ تَكُونُ عَنْ رِضًا وَرِقَّةٍ، فَخَافَ أَنْ
يُعَاتَبَ بِهَا، فَيُقَالُ: دَعَوْت عَلَى الْكُفَّارِ
بِالْأَمْسِ وَتَشْفَعُ لَهُمْ الْيَوْمَ.
الثَّانِي: أَنَّهُ دَعَا غَضَبًا بِغَيْرِ نَصٍّ وَلَا إذْنٍ
صَرِيحٍ فِي ذَلِكَ؛ فَخَافَ الدَّرْكَ فِيهِ يَوْمَ
الْقِيَامَةِ، كَمَا قَالَ مُوسَى: إنِّي قَتَلْت نَفْسًا لَمْ
أُومَرْ بِقَتْلِهَا. وَبِهَذَا أَقُولُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ،
وَتَمَامُهُ قَدْ ثَبَتَ فِي الْقِسْمِ الثَّانِي.
(4/312)
[الْآيَة الثَّالِثَةُ قَوْله تَعَالَى
رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِي
مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ]
ِ وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلا تَبَارًا} [نوح: 28].
قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: مَعْنَاهُ مَسْجِدِي؛ فَجَعَلَ دُخُولَ
الْمَسْجِدِ سَبَبًا لِلدُّعَاءِ بِالْمَغْفِرَةِ، وَقَدْ
قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إنَّ
الْمَلَائِكَةَ تُصَلِّي عَلَى أَحَدِكُمْ مَا دَامَ فِي
مُصَلَّاهُ الَّذِي صَلَّى فِيهِ مَا لَمْ يُحْدِثْ، تَقُولُ:
اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَهُ، اللَّهُمَّ ارْحَمْهُ»، حَسْبَمَا
ثَبَتَ فِي صَحِيحِ الرِّوَايَةِ. وَفَضْلُ الْمَسَاجِدِ
كَثِيرٌ، قَدْ أَثْبَتْنَاهُ فِي صَحِيحِ الْحَدِيثِ
وَشَرْحِهِ.
(4/313)
|