أحكام القرآن لابن العربي ط العلمية [سُورَةُ الدَّهْرِ فِيهَا سِتُّ آيَاتٍ]
[الْآيَة الْأُولَى قَوْله تَعَالَى هَلْ أَتَى عَلَى
الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنْ الدَّهْر]
الْآيَةُ الْأُولَى قَوْله تَعَالَى: {هَلْ أَتَى عَلَى
الإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ} [الإنسان: 1].
وَقَدْ تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِي الْحِينِ بِمَا فِيهِ
الْكِفَايَةُ، فَلْيُنْظَرْ فِي سُورَةِ إبْرَاهِيمَ -
عَلَيْهِ السَّلَامُ -
[الْآيَة الثَّانِيَة قَوْله تَعَالَى إنَّا خَلَقْنَا
الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ]
ِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا} [الإنسان: 2].
بِمَعْنَى أَخْلَاطٍ. مَاءُ الرَّجُلِ غَلِيظٌ أَبْيَضُ،
وَمَاءُ الْمَرْأَةِ رَقِيقٌ أَصْفَرُ، فَيَجْمَعُهُمَا
الْمَلَكُ بِأَمْرِ اللَّهِ، وَتَنْقُلُهُمَا الْقُدْرَةُ مِنْ
تَطْوِيرٍ إلَى تَطْوِيرٍ، حَتَّى تَنْتَهِيَ إلَى مَا
دَبَّرَهُ مِنْ التَّقْدِيرِ، وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِيمَا
تَقَدَّمَ.
[الْآيَة الثَّالِثَةُ قَوْله تَعَالَى يُوفُونَ بِالنَّذْرِ
وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا]
} [الإنسان: 7] فِيهَا مَسْأَلَتَانِ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى قَوْلُهُ: {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ}
[الإنسان: 7]: فِيهِ أَقْوَالٌ، لُبَابُهَا قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا يُوفُونَ بِمَا افْتَرَضَ عَلَيْهِمْ.
(4/352)
الثَّانِي: يُوفُونَ [بِمَا اعْتَقَدُوهُ
وَ] بِمَا عَقَدُوهُ عَلَى أَنْفُسِهِمْ، وَلَا ثَنَاءَ
أَبْلَغُ مِنْ هَذَا كَمَا أَنَّهُ لَا فِعْلَ أَفْضَلُ
مِنْهُ؛ فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ أَلْزَمَ عَبْدَهُ وَظَائِفَ،
وَرُبَّمَا جَهِلَ الْعَبْدُ عَجْزَهُ عَنْ الْقِيَامِ بِمَا
فَرَضَ اللَّهُ عَلَيْهِ، فَيَنْذُرُ عَلَى نَفْسِهِ نَذْرًا،
فَيَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ الْوَفَاءُ بِهِ أَيْضًا، فَإِذَا
قَامَ بِحَقِّ الْأَمْرَيْنِ؛ وَخَرَجَ عَنْ وَاجِبِ
النَّذْرَيْنِ كَانَ لَهُ مِنْ الْجَزَاءِ مَا وَصَفَ اللَّهُ
فِي آخِرِ السُّورَةِ.
وَعَلَى عُمُومِ الْأَمْرَيْنِ كُلُّ ذَلِكَ حَمَلَهُ مَالِكٌ،
وَرَوَى عَنْهُ أَشْهَبُ أَنَّهُ قَالَ: " يُوفُونَ
بِالنَّذْرِ " هُوَ نَذْرُ الْعِتْقِ، وَالصِّيَامِ
وَالصَّلَاةِ. وَرَوَى عَنْهُ أَبُو بَكْرِ بْنُ عَبْدِ
الْعَزِيزِ قَالَ: قَالَ مَالِكٌ: يُوفُونَ بِالنَّذْرِ قَالَ:
النَّذْرُ هُوَ الْيَمِينُ.
[مَسْأَلَة النَّذْرُ مَكْرُوهٌ]
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ النَّذْرُ مَكْرُوهٌ
بِالْجُمْلَةِ؛ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ مَالِكٍ عَنْ أَبِي
الزِّنَادِ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ هُرْمُزَ عَنْ أَبِي
هُرَيْرَةَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - قَالَ: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: لَا يَأْتِي
النَّذْرُ عَلَى ابْنِ آدَمَ بِشَيْءٍ لَمْ أَكُنْ قَدَّرْته
لَهُ؛ إنَّمَا يُسْتَخْرَجُ بِهِ مِنْ الْبَخِيلِ» وَذَلِكَ
لِفِقْهٍ صَحِيحٍ؛ وَهُوَ أَنَّ الْبَارِي سُبْحَانَهُ وَعَدَ
بِالرِّزْقِ عَلَى الْعَمَلِ؛ وَمِنْهُ مَفْرُوضٌ، وَمِنْهُ
مَنْدُوبٌ، فَإِذَا عَيَّنَ الْعَبْدُ لِيَسْتَدِرَّ بِهِ
الرِّزْقَ، أَوْ يَسْتَجْلِبَ بِهِ الْخَيْرَ، أَوْ
يَسْتَدْفِعَ بِهِ الشَّرَّ لَمْ يَصِلْ إلَيْهِ بِهِ، فَإِنْ
وَصَلَ فَهُوَ لِبُخْلِهِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
[الْآيَة الرَّابِعَة قَوْله تَعَالَى وَيُطْعِمُونَ
الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا]
} [الإنسان: 8]: فِيهَا سِتُّ مَسَائِلَ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى قَوْلُهُ: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ}
[الإنسان: 8] تَنْبِيهٌ عَلَى الْمُوَاسَاةِ؛ وَمِنْ أَفْضَلِ
الْمُوَاسَاةِ وَضْعُهَا فِي هَذِهِ الْأَصْنَافِ الثَّلَاثَةِ
وَفِي الصَّحِيحِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ: «سُئِلَ
رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَيُّ
الْإِسْلَامِ خَيْرٌ؟ قَالَ:
(4/353)
تُطْعِمُ الطَّعَامَ، وَتُقْرِئُ
السَّلَامَ عَلَى مَنْ عَرَفْت وَمَنْ لَمْ تَعْرِفْ» وَهَذَا
فِي الْفَضْلِ لَا فِي الْفَرْضِ مِنْ الزَّكَاةِ عَلَى مَا
تَقَدَّمَ بَيَانُهُ الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ قَوْلُهُ:
{عَلَى حُبِّهِ} [الإنسان: 8].
وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ الْمَسْأَلَةُ
الثَّالِثَةُ قَوْلُهُ: {مِسْكِينًا} [الإنسان: 8].
الْمِسْكِينُ قَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهُ، وَهَذَا مِثَالُهُ مَا
رُوِيَ فِي شَأْنِ الْأَنْصَارِيِّ الَّذِي ذَكَرْنَا
قِصَّتَهُ فِي سُورَةِ الْحَشْرِ، عِنْدَ تَأْوِيلِ قَوْلِهِ
{وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ
خَصَاصَةٌ} [الحشر: 9] فَهَذَا هُوَ ذَلِكَ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ قَوْلُهُ: {وَيَتِيمًا} [الإنسان:
8]. وَإِنَّمَا أَكَّدَ بِالْيَتِيمِ؛ لِأَنَّهُ مِسْكِينٌ
مَضْعُوفٌ بِالْوَحْدَةِ وَعَدَمِ الْكَافِلِ مَعَ عَجْزِ
الصِّغَرِ.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ قَوْله تَعَالَى: {وَأَسِيرًا}
[الإنسان: 8]. وَفِي إطْعَامِهِ ثَوَابٌ عَظِيمٌ، وَإِنْ كَانَ
كَافِرًا فَإِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُهُ. وَقَدْ تَعَيَّنَ
بِالْعَهْدِ إطْعَامُهُ، وَلَكِنْ مِنْ الْفَضْلِ فِي
الصَّدَقَةِ، لَا مِنْ الْأَصْلِ فِي الزَّكَاةِ، وَيَدْخُلُ
فِيهِ الْمَسْجُونُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ، فَإِنَّ الْحَقَّ
قَدْ حَبَسَهُ عَنْ التَّصَرُّفِ وَأَسَرَهُ فِيمَا وَجَبَ
عَلَيْهِ، فَقَدْ صَارَ لَهُ عَلَى الْفَقِيرِ الْمُطْلَقِ
حَقٌّ زَائِدٌ بِمَا هُوَ عَلَيْهِ مِنْ الْمَنْعِ [عَنْ
التَّمَحُّلِ فِي] الْمَعَاشِ أَوْ التَّصَرُّفِ فِي
الطَّلَبِ، وَهَذَا كُلُّهُ إذَا خَلَصَتْ فِيهِ النِّيَّةُ
لِلَّهِ، وَهِيَ:
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ دُونَ تَوَقُّعِ مُكَافَأَةٍ، أَوْ
شُكْرٍ مِنْ الْمُعْطِي، فَإِذَا لَمْ يُشْكَرْ فَسَخِطَ
الْمُعْطِي يَحْبَطُ ثَوَابُهُ.
[الْآيَة الْخَامِسَة قَوْله تَعَالَى وَاذْكُرْ اسْمَ رَبِّك
بُكْرَةً وَأَصِيلًا]
} [الإنسان: 25].
(4/354)
فِيهَا مَسْأَلَةٌ وَاحِدَةٌ الْبُكْرَةُ
وَقْتٌ مِنْ أَوْقَاتِ النَّهَارِ، وَهُوَ أَوَّلُهُ، وَمِنْهُ
بَاكُورَةُ الْفَاكِهَةِ.
وَالْأَصِيلُ: هُوَ الْعَشِيُّ. وَهَذِهِ الْإِشَارَةُ إلَى
صَلَاةِ الصُّبْحِ، وَصَلَاةِ الْعَصْرِ؛ وَقَدْ قَدَّمْنَا
مَعْنَى ذَلِكَ، وَأَنَّهُ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ صَلَّى الْبَرْدَيْنِ
دَخَلَ الْجَنَّةَ»، وَمَعْنَى قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «تَرَوْنَ رَبَّكُمْ كَمَا تَرَوْنَ
الْقَمَرَ لَيْلَةَ الْبَدْرِ، فَإِنْ اسْتَطَعْتُمْ أَلَّا
تُغْلَبُوا عَنْ صَلَاةٍ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ
غُرُوبِهَا فَافْعَلُوا وَقَرَأَ {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ
قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا} [طه: 130]».
وَقَدْ قَسَّمَ أَرْبَابُ اللُّغَةِ سَاعَاتِ اللَّيْلِ
وَسَاعَاتِ النَّهَارِ عَلَى تَفَاصِيلَ وَأَسْمَاءٍ
عُرْفِيَّةٍ فِي اللُّغَةِ، وَمُؤَلِّفُوهَا مُخْتَلِفُونَ فِي
ذَلِكَ؛ لَكِنَّ الْغُدُوَّ وَالْعَشِيَّ وَالظَّهِيرَةَ مِنْ
أُمَّهَاتِ ذَلِكَ الَّذِي لَا كَلَامَ فِيهِ. وَالضُّحَى
يَلْحَقُ بِهِ وَالْإِشْرَاقُ مِثْلُهُ، وَقَدْ قِيلَ: إنَّ
مَعْنَاهُ وَكَبِّرْ، فَكَانَ يُكَبِّرُ ثَلَاثًا بَعْدَ
الصُّبْحِ وَثَلَاثًا بَعْدَ الْمَغْرِبِ، وَلَا يَصِحُّ.
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
[الْآيَة السَّادِسَة قَوْله تَعَالَى وَمِنْ اللَّيْلِ
فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلًا طَوِيلًا]
} [الإنسان: 26] هَذِهِ الْآيَةُ مُحْتَمِلَةٌ لِلْفَرْضِ؛
وَهُوَ الْمَغْرِبُ وَالْعِشَاءُ، فَإِنَّهُمَا وَقْتَانِ مِنْ
أَوْقَاتِ الْمُصَلَّى، وَصَلَاتُهُمَا مِنْ صَلَاةِ
اللَّيْلِ. وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى: {وَسَبِّحْهُ لَيْلا
طَوِيلا} [الإنسان: 26] فَإِنَّهُ عِبَارَةٌ عَنْ قِيَامِ
اللَّيْلِ، وَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - يَفْعَلُ ذَلِكَ كَمَا تَقَدَّمَ.
وَقَدْ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ هَذَا خِطَابًا لِلنَّبِيِّ -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَحْدَهُ، فَيَبْقَى
الْأَمْرُ بِهِ عَلَيْهِ مُفْرَدًا، وَالْوُجُوبُ يَلْزَمُ
لَهُ خَاصَّةً. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ خِطَابًا
لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
وَالْمُرَادُ بِهِ الْجَمِيعُ، ثُمَّ نُسِخَ عَنَّا، وَبَقِيَ
عَلَيْهِ كَمَا تَقَدَّمَ؛ وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ؛ وَهُوَ
مَعْنَى قَوْله تَعَالَى: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ
نَافِلَةً لَكَ} [الإسراء: 79] كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ.
(4/355)
|