أحكام القرآن لابن العربي ط العلمية [سُورَةُ الِانْشِرَاحِ فِيهَا ثَلَاثُ
آيَاتٍ] [الْآيَةُ الْأُولَى قَوْله تَعَالَى أَلَمْ نَشْرَحْ
لَك صَدْرَكَ]
ٍ] الْآيَةُ الْأُولَى قَوْله تَعَالَى: {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ
صَدْرَكَ} [الشرح: 1]: شَرْحُهُ حَقِيقَةٌ حِسِّيَّةٌ،
وَذَلِكَ حِينَ كَانَ عِنْدَ ظِئْرِهِ، وَحِينَ أُسْرِيَ بِهِ،
وَشَرَحَهُ مَعْنًى حِينَ جَمَعَ لَهُ التَّوْحِيدَ فِي
صَدْرِهِ وَالْقُرْآنَ، وَعَلَّمَهُ مَا لَمْ يَكُنْ يَعْلَمُ،
وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْهِ عَظِيمًا، وَشَرَحَهُ حِينَ
خَلَقَ لَهُ الْقَبُولَ لِكُلِّ مَا أَلْقَى إلَيْهِ
وَالْعَمَلَ بِهِ، وَذَلِكَ هُوَ تَمَامُ الشَّرْحِ وَزَوَالُ
التَّرَحِ.
[الْآيَةُ الثَّانِيَةُ قَوْله تَعَالَى وَرَفَعْنَا لَك
ذِكْرَك]
َ} [الشرح: 4]: يَعْنِي قَرَنَّاهُ بِذِكْرِنَا فِي
التَّوْحِيدِ وَالْأَذَانِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ.
[الْآيَةُ الثَّالِثَة قَوْله تَعَالَى فَإِذَا فَرَغْت
فَانْصَبْ]
ْ} [الشرح: 7]: فِيهَا مَسْأَلَتَانِ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى اتَّفَقَ الْمُوَحِّدُونَ
وَالْمُفَسِّرُونَ عَلَى أَنَّ مَعْنَاهُ: إذَا فَرَغْت مِنْ
الصَّلَاةِ فَانْصَبْ لِلْأُخْرَى بِلَا فُتُورٍ وَلَا كَسَلٍ،
وَقَدْ اخْتَلَفُوا فِي تَعْيِينِهِمَا عَلَى أَرْبَعَةِ
أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ إذَا فَرَغْت مِنْ الْفَرَائِضِ
فَتَأَهَّبْ لِقِيَامِ اللَّيْلِ.
(4/412)
الثَّانِي: إذَا فَرَغْت مِنْ الصَّلَاةِ
فَانْصَبْ لِلدُّعَاءِ.
الثَّالِثُ: إذَا فَرَغْت مِنْ الْجِهَادِ فَاعْبُدْ رَبَّك.
الرَّابِعُ إذَا فَرَغْت مِنْ أَمْرِ دُنْيَاك فَانْصَبْ
لِأَمْرِ آخِرَتِك.
وَمِنْ الْمُبْتَدِعَةِ مَنْ قَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ
فَأَنْصِبْ بِكَسْرِ الصَّادِ وَالْهَمْزِ فِي أَوَّلِهِ،
وَقَالُوا: مَعْنَاهُ أَنْصِبْ الْإِمَامَ الَّذِي
يُسْتَخْلَفُ؛ وَهَذَا بَاطِلٌ فِي الْقِرَاءَةِ، بَاطِلٌ فِي
الْمَعْنَى؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - لَمْ يَسْتَخْلِفْ أَحَدًا. وَقَرَأَهَا بَعْضُ
الْجُهَّالِ فَانْصَبَّ بِتَشْدِيدِ الْبَاءِ مَعْنَاهُ إذَا
فَرَغْت مِنْ الْغَزْوِ فَجُدَّ إلَى بَلَدِك.
وَهَذَا بَاطِلٌ أَيْضًا قِرَاءَةً لِمُخَالَفَةِ
الْإِجْمَاعِ، لَكِنَّ مَعْنَاهُ
صَحِيحٌ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -: «السَّفَرُ قِطْعَةٌ مِنْ الْعَذَابِ، يَمْنَعُ
أَحَدَكُمْ نَوْمَهُ وَطَعَامَهُ وَشَرَابَهُ، فَإِذَا قَضَى
أَحَدُكُمْ نَهْمَتَهُ فَلْيُعَجِّلْ الرُّجُوعَ إلَى
أَهْلِهِ».
وَأَشَدُّ النَّاسِ عَذَابًا وَأَسْوَأَهُمْ مَآبًا وَمَبَاءً
مَنْ أَخَذَ مَعْنًى صَحِيحًا، فَرَكَّبَ عَلَيْهِ مِنْ قِبَلِ
نَفْسِهِ قِرَاءَةً أَوْ حَدِيثًا، فَيَكُونُ كَاذِبًا عَلَى
اللَّهِ، كَاذِبًا عَلَى رَسُولِهِ، وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ
افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا. أَمَّا أَنَّهُ قَدْ رُوِيَ
وَهِيَ:
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ عَنْ شُرَيْحٍ أَنَّهُ مَرَّ
بِقَوْمٍ يَلْعَبُونَ يَوْمَ عِيدٍ، فَقَالَ: مَا بِهَذَا
أَمَرَ الشَّارِعُ.
وَفِيهِ نَظَرٌ؛ فَإِنَّ «الْحَبَشَ كَانُوا يَلْعَبُونَ
بِالدَّرَقِ وَالْحِرَابِ فِي الْمَسْجِدِ يَوْمَ الْعِيدِ،
وَالنَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
يَنْظُرُ».
«وَدَخَلَ أَبُو بَكْرٍ بَيْتَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى عَائِشَةَ وَعِنْدَهَا
جَارِيَتَانِ مِنْ جِوَارِي الْأَنْصَارِ تُغَنَّيَانِ،
فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: أَمِزْمَارَةُ الشَّيْطَانِ فِي بَيْتِ
رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟
فَقَالَ: دَعْهُمَا يَا أَبَا بَكْرٍ، فَإِنَّهُ يَوْمُ
عِيدٍ».
وَلَيْسَ يَلْزَمُ الدَّءُوبَ عَلَى الْعَمَلِ، بَلْ هُوَ
مَكْرُوهٌ لِلْخَلْقِ، حَسْبَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي
غَيْرِ مَوْضِعٍ.
(4/413)
|