أحكام القرآن لابن العربي ط العلمية

 [سُورَةُ الْبَيِّنَةِ فِيهَا آيَتَانِ] [الْآيَةُ الْأُولَى قَوْله تَعَالَى لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ]
ِ] الْآيَةُ الْأُولَى قَوْله تَعَالَى: {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ} [البينة: 1].
الْآيَةُ فِيهَا أَرْبَعُ مَسَائِلَ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى فِي قِرَاءَتِهَا: قَرَأَهَا أُبَيٌّ: {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ} [البينة: 1]؛ وَفِي قِرَاءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ: لَمْ يَكُنِ الْمُشْرِكُونَ وَأَهْلُ الْكِتَابِ مُنْفَكِّينَ. وَهَذِهِ قِرَاءَةٌ عَلَى التَّفْسِيرِ؛ وَهِيَ جَائِزَةٌ فِي مَعْرِضِ الْبَيَانِ، لَا فِي مَعْرِضِ التِّلَاوَةِ؛ فَقَدْ قَرَأَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي رِوَايَةِ الصَّحِيحِ: «فَطَلِّقُوهُنَّ لِقُبُلِ عِدَّتِهِنَّ»، وَهُوَ تَفْسِيرٌ؛ فَإِنَّ التِّلَاوَةَ مَا كَانَ فِي خَطِّ الْمُصْحَفِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ رَوَى ابْنُ إِسْحَاقَ بْنِ بِشْرٍ الْكَاهِلِيُّ عَنْ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ عَنْ ابْنِ الْمُسَيِّبِ، عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَوْ يَعْلَمُ النَّاسُ مَا فِي {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا} [البينة: 1] لَعَطَّلُوا الْأَهْلَ وَالْمَالَ، وَلَتَعَلَّمُوهَا».
وَهَذَا حَدِيثٌ بَاطِلٌ؛ وَإِنَّمَا الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ مَا رُوِيَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لِأُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ: إنَّ اللَّهَ قَدْ أَمَرَنِي أَنْ أَقْرَأَ عَلَيْك {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا} [البينة: 1] وَقَالَ: وَسَمَّانِي لَك؟ قَالَ: نَعَمْ، فَبَكَى».

(4/436)


الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ قَوْلُهُ: {مُنْفَكِّينَ} [البينة: 1] يَعْنِي زَائِلِينَ عَنْ دِينِهِمْ، حَتَّى تَأْتِيَهُمْ الْبَيِّنَةُ بِبُطْلَانِ مَا هُمْ عَلَيْهِ، وَتِلْكَ الْبَيِّنَةُ هِيَ: {رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُو صُحُفًا مُطَهَّرَةً} [البينة: 2]، وَهِيَ:
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ قَالُوا: {مُطَهَّرَةً} [البينة: 2] مِنْ الشِّرْكِ، وَقَالُوا: مُطَهَّرَةً بِحُسْنِ الذِّكْرِ، وَقَلْبٌ مُطَهَّرٌ مِنْ كُلِّ عَيْبٍ.
وَقَدْ قَالَ مَالِكٌ فِي الْآيَةِ الَّتِي فِي {عَبَسَ وَتَوَلَّى} [عبس: 1]: {مُكَرَّمَةٍ} [عبس: 13] {مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ} [عبس: 14] إنَّهَا
الْقُرْآنُ وَإِنَّهُ لَا يَمَسُّهُ إلَّا الْمُطَهَّرُونَ، كَمَا قَالَ فِي سُورَةِ الْوَاقِعَةِ؛ وَهَذِهِ الْآيَةُ تُوَافِقُ [ذَلِكَ وَتُؤَكِّدُهُ فَلَا يَمَسُّهَا إلَّا طَاهِرٌ شَرْعًا وَدِينًا، فَإِنْ وُجِدَ غَيْرُ ذَلِكَ فَبَاطِلٌ لَا يُنْفَى] ذَلِكَ فِي كَرَامَتِهَا، وَلَا يُبْطِلُ حُرْمَتَهَا، كَمَا لَوْ قَتَلَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ تَبْطُلْ نُبُوَّتُهُ، وَلَا أَسْقَطَ ذَلِكَ حُرْمَتَهُ، وَلَا اقْتَضَى ذَلِكَ تَكْذِيبَهُ؛ بَلْ يَكُونُ زِيَادَةً فِي مَرْتَبَتِهِ فِي الدَّارَيْنِ.

[الْآيَةُ الثَّانِيَةُ قَوْله تَعَالَى وَمَا أُمِرُوا إلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ]
َ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [البينة: 5]: فِيهَا مَسْأَلَتَانِ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى أَمَرَ اللَّهُ عِبَادَهُ بِعِبَادَتِهِ، وَهِيَ أَدَاءُ الطَّاعَةِ لَهُ بِصِفَةِ الْقُرْبَةِ، وَذَلِكَ بِإِخْلَاصِ النِّيَّةِ بِتَجْرِيدِ الْعَمَلِ عَنْ كُلِّ شَيْءٍ إلَّا لِوَجْهِهِ، وَذَلِكَ هُوَ الْإِخْلَاصُ الَّذِي تَقَدَّمَ بَيَانُهُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ إذَا ثَبَتَ هَذَا فَالنِّيَّةُ وَاجِبَةٌ فِي التَّوْحِيدِ؛ لِأَنَّهَا عِبَادَةٌ؛ فَدَخَلَتْ تَحْتَ هَذَا الْعُمُومِ دُخُولَ الصَّلَاةِ.
فَإِنْ قِيلَ: فَلِمَ خَرَجَتْ عَنْهُ طَهَارَةُ النَّجَاسَةِ، وَذَلِكَ يَعْتَرِضُ عَلَيْكُمْ فِي الْوُضُوءِ؟ قُلْنَا: إزَالَةُ النَّجَاسَةِ مَعْقُولَةُ الْمَعْنَى؛ لِأَنَّ الْغَرَضَ مِنْهَا إزَالَةُ الْعَيْنِ، لَكِنْ بِمُزِيلٍ

(4/437)


مَخْصُوصٍ، فَقَدْ جَمَعَتْ عَقْلَ الْمَعْنَى وَضَرْبًا مِنْ التَّعَبُّدِ، كَالْعِدَّةِ جَمَعَتْ بَيْنَ بَرَاءَةِ الرَّحِمِ وَالتَّعَبُّدِ، حَتَّى صَارَتْ عَلَى الصَّغِيرَةِ وَالْيَائِسَةِ الَّتِي تُحَقِّقُ بَرَاءَةَ رَحِمِهِمَا قَطْعًا، لَا سِيَّمَا وَمَا غَرَضٌ نَاجِزٌ؛ وَهُوَ النَّظَافَةُ؛ فَيَسْتَقِلُّ بِهِ، وَلَيْسَ فِي الْوُضُوءِ [غَرَضٌ نَاجِزٌ] إلَّا مُجَرَّدُ التَّعَبُّدِ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ أَكْمَلَ الْوُضُوءَ وَأَعْضَاؤُهُ تَجْرِي بِالْمَاءِ وَخَرَجَ مِنْهُ رِيحٌ بَطَلَ وُضُوءُهُ، وَقَدْ حَقَّقْنَا الْقَوْلَ فِيهَا فِي كِتَابِ تَخْلِيصِ التَّلْخِيصِ.

(4/438)