أحكام القرآن لابن العربي ط العلمية [سُورَةُ الْمَاعُونِ فِيهَا ثَلَاثُ
آيَاتٍ] [الْآيَةُ الْأُولَى قَوْله تَعَالَى الَّذِينَ هُمْ
عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ]
ٍ] الْآيَةُ الْأُولَى قَوْله تَعَالَى: {الَّذِينَ هُمْ عَنْ
صَلاتِهِمْ سَاهُونَ} [الماعون: 5]: فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى قَدْ بَيَّنَّا أَنَّ النِّسْيَانَ
هُوَ التَّرْكُ، وَقَدْ يَكُونَ بِقَصْدٍ، وَقَدْ يَكُونَ
بِغَيْرِ قَصْدٍ؛ فَإِنْ كَانَ بِقَصْدٍ فَاسْمُهُ الْعَمْدُ،
وَإِنْ كَانَ بِغَيْرِ قَصْدٍ فَاسْمُهُ السَّهْوُ، وَلَا
يَتَعَلَّقُ بِهِ تَكْلِيفٌ وَهِيَ:
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ فَإِنَّ تَكْلِيفَ السَّاهِي
مُحَالٌ؛ لِأَنَّ مَنْ لَا يَعْقِلُ الْخِطَابَ كَيْفَ
يُخَاطَبُ؟ فَإِنْ قَالَ: فَكَيْفَ ذَمَّ مَنْ لَا يَعْقِلُ
الذَّمَّ؛ أَوْ كَلَّفَ مَنْ لَا يَصِحُّ مِنْهُ التَّكْلِيفُ؟
قُلْنَا: إنَّمَا ذَلِكَ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدِهِمَا أَنْ
يَعْقِدَ نِيَّتَهُ عَلَى تَرْكِهَا، فَيَتَعَلَّقُ بِهِ
الذَّمُّ إذَا جَاءَ الْوَقْتُ. وَإِنْ كَانَ حِينَئِذٍ
غَافِلًا أَوْ لِمَنْ يَكُونُ التَّرْكُ لَهَا عَادَتَهُ،
فَهَذَا يَتَعَلَّقُ بِهِ الذَّمُّ دَائِمًا، وَلَا يَدْخُلُ
فِيهِ مَنْ يَسْهُو فِي صَلَاتِهِ وَهِيَ:
(4/453)
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ لِأَنَّ
السَّلَامَةَ عَنْ السَّهْوِ مُحَالٌ فَلَا تَكْلِيفَ. وَقَدْ
سَهَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي
صَلَاتِهِ وَالصَّحَابَةُ، وَكُلُّ مَنْ لَا يَسْهُو فِي
صَلَاتِهِ فَذَلِكَ رَجُلٌ لَا يَتَدَبَّرُهَا وَلَا يَعْقِلُ
قِرَاءَتَهَا، وَإِنَّمَا هَمُّهُ فِي إعْدَادِهَا وَهَذَا
رَجُلٌ يَأْكُلُ الْقُشُورَ وَيَرْمِي اللُّبَّ، وَمَا كَانَ
النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَسْهُو فِي
صَلَاتِهِ إلَّا لِفِكْرَتِهِ فِي أَعْظَمَ مِنْهَا،
اللَّهُمَّ إلَّا أَنَّهُ قَدْ يَسْهُو فِي صَلَاتِهِ مَنْ
يُقْبِلُ عَلَى وَسْوَاسِ الشَّيْطَانِ إذَا قَالَ لَهُ:
اُذْكُرْ كَذَا [لَمَّا لَمْ يَكُنْ يَذْكُرُهُ] حَتَّى
يُضِلَّ الرَّجُلَ أَنْ يَدْرِيَ كَمْ صَلَّى.
[الْآيَة الثَّانِيَة قَوْله تَعَالَى الَّذِينَ هُمْ
يُرَاءُونَ وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ]
الْآيَةُ الثَّانِيَةُ قَوْله تَعَالَى: {الَّذِينَ هُمْ
يُرَاءُونَ} [الماعون: 6] {وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ}
[الماعون: 7].
قَالَ ابْنُ وَهْبٍ: قَالَ مَالِكٌ: هُمْ الْمُنَافِقُونَ
الَّذِينَ يُرَاءُونَ بِصَلَاتِهِمْ؛ يُرِي الْمُنَافِقُ
النَّاسَ أَنَّهُ يُصَلِّي طَاعَةً وَهُوَ يُصَلِّي تَقِيَّةً،
وَالْفَاسِقُ أَنَّهُ يُصَلِّي عِبَادَةً وَهُوَ يُصَلِّي
لِيُقَالَ إنَّهُ يُصَلِّي.
وَحَقِيقَةُ الرِّيَاءِ طَلَبُ مَا فِي الدُّنْيَا
بِالْعِبَادَاتِ، وَأَصْلُهُ طَلَبُ الْمَنْزِلَةِ فِي قُلُوبِ
النَّاسِ؛ فَأَوَّلُهَا تَحْسِينُ السَّمْتِ؛ وَهُوَ مِنْ
أَجْزَاءِ النُّبُوَّةِ، وَيُرِيدُ بِذَلِكَ الْجَاهَ
وَالثَّنَاءَ. ثَانِيهِمَا الرِّيَاءُ بِالثِّيَابِ الْقِصَارِ
وَالْخَشِنَةِ، لِيَأْخُذَ بِذَلِكَ هَيْئَةَ الزُّهْدِ فِي
الدُّنْيَا. ثَالِثُهُمَا الرِّيَاءُ بِالْقَوْلِ بِإِظْهَارِ
التَّسَخُّطِ عَلَى أَهْلِ الدُّنْيَا، وَإِظْهَارِ الْوَعْظِ
وَالتَّأَسُّفِ عَلَى مَا يَفُوتُ مِنْ الْخَيْرِ
وَالطَّاعَةِ. رَابِعُهُمَا الرِّيَاءُ بِإِظْهَارِ الصَّلَاةِ
وَالصَّدَقَةِ، أَوْ بِتَحْسِينِ الصَّلَاةِ لِأَجْلِ رُؤْيَةِ
النَّاسِ، وَذَلِكَ يَطُولُ؛ وَهَذَا دَلِيلُهُ.
(4/454)
[الْآيَة الثَّالِثَةُ قَوْله تَعَالَى
وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ]
َ} [الماعون: 7]: فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى فِي تَحْقِيقِ الْكَلِمَةِ:
الْمَاعُونَ: مَفْعُولٌ مِنْ أَعَانَ يُعِينُ، وَالْعَوْنُ
هُوَ الْإِمْدَادُ بِالْقُوَّةِ وَالْآلَةِ وَالْأَسْبَابِ
الْمُيَسِّرَةِ لِلْأَمْرِ الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ فِي
أَقْوَالِ الْعُلَمَاءِ فِيهِ، وَذَلِكَ سِتَّةُ أَقْوَالٍ:
الْأَوَّلُ: قَالَ مَالِكٌ: هِيَ الزَّكَاةُ، وَالْمُرَادُ
بِهَا الْمُنَافِقُ يَمْنَعُهَا. وَقَدْ رَوَى أَبُو بَكْرِ
بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ عَنْ مَالِكٍ قَالَ: بَلَغَنِي أَنَّ
قَوْلَ اللَّهِ تَعَالَى: {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ} [الماعون:
4] {الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ} [الماعون: 5]
{الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ} [الماعون: 6] {وَيَمْنَعُونَ
الْمَاعُونَ} [الماعون: 7]
قَالَ: إنَّ الْمُنَافِقَ إذَا صَلَّى صَلَّى لَا لِلَّهِ،
بَلْ رِيَاءً، وَإِنْ فَاتَتْهُ لَمْ يَنْدَمْ عَلَيْهَا؛
وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ: الزَّكَاةَ الَّتِي فَرَضَ اللَّهُ
عَلَيْهِمْ قَالَ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ: لَوْ خُفِّفَتْ لَهُمْ
الصَّلَاةُ كَمَا خُفِّفَتْ لَهُمْ الزَّكَاةُ مَا صَلَّوْهَا.
الثَّانِي: قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: الْمَاعُونُ الْمَالُ.
الثَّالِثُ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هُوَ مَا يَتَعَاطَاهُ
النَّاسُ بَيْنَهُمْ.
الرَّابِعُ هُوَ الْقِدْرُ وَالدَّلْوُ وَالْفَأْسُ
وَأَشْبَاهُ ذَلِكَ الْخَامِسُ هُوَ الْمَاءُ وَالْكَلَأُ.
السَّادِسُ هُوَ الْمَاءُ وَحْدَهُ، وَأَنْشَدَ الْفَرَّاءُ:
يَمُجُّ صَبِيرُهُ الْمَاعُونَ صَبًّا
(4/455)
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ لَمَّا
بَيَّنَّا أَنَّ الْمَاعُونَ مِنْ الْعَوْنِ كَانَ كُلُّ مَا
ذَكَرَهُ الْعُلَمَاءُ فِي تَفْسِيرِهِ عَوْنًا، وَأَعْظَمُهُ
الزَّكَاةُ إلَى الْمِحْلَابِ، وَعَلَى قَدْرِ الْمَاعُونِ
وَالْحَاجَةِ إلَيْهِ يَكُونُ الذَّمُّ فِي مَنْعِهِ، إلَّا
أَنَّ الذَّمَّ إنَّمَا هُوَ عَلَى مَنْعِ الْوَاجِبِ،
وَالْعَارِيَّةُ لَيْسَتْ بِوَاجِبَةٍ عَلَى التَّفْصِيلِ؛
بَلْ إنَّهَا وَاجِبَةٌ عَلَى الْجُمْلَةِ. وَاَللَّهُ
أَعْلَمُ؛ لِأَنَّ الْوَيْلَ لَا يَكُونُ إلَّا لِمَنْ مَنَعَ
الْوَاجِبَ، فَاعْلَمُوهُ وَتَحَقَّقُوهُ.
(4/456)
|