أحكام القرآن للجصاص ت قمحاوي يَا أَيُّهَا النَّاسُ
اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ
وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا
كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ
بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا
(1)
سُورَةُ النِّسَاءِ
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي
تَسائَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحامَ قَالَ الْحَسَنُ وَمُجَاهِدٌ
وَإِبْرَاهِيمُ هُوَ قَوْلُ الْقَائِلِ أَسْأَلُك بِاَللَّهِ
وَبِالرَّحِمِ وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةُ
وَالسُّدِّيُّ وَالضَّحَّاكُ اتَّقُوا الْأَرْحَامَ أَنْ
تَقْطَعُوهَا وَفِي الْآيَةِ دَلَالَةٌ عَلَى جَوَازِ
الْمَسْأَلَةِ بِاَللَّهِ تَعَالَى
وَقَدْ رَوَى لَيْثٌ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ
سَأَلَ بِاَللَّهِ فَأَعْطُوهُ
وَرَوَى معاوية بن سويد ابن مُقْرِنٍ عَنْ الْبَرَاءِ بْنِ
عَازِبٍ قَالَ أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِسَبْعٍ مِنْهَا إبْرَارُ الْقَسَمِ
وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى مِثْلِ مَا دَلَّ عَلَيْهِ
قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ سَأَلَكُمْ
بِاَللَّهِ فَأَعْطُوهُ
وَأَمَّا قَوْلُهُ وَالْأَرْحامَ فَفِيهِ تَعْظِيمٌ لِحَقِّ
الرَّحِمِ وَتَأْكِيدٌ لِلنَّهْيِ عَنْ قَطْعِهَا قَالَ
اللَّهُ تَعَالَى فِي مَوْضِعٍ آخَرَ فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ
تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا
أَرْحامَكُمْ فَقَرَنَ قَطْعَ الرَّحِمِ إلَى الْفَسَادِ فِي
الْأَرْضِ وَقَالَ تَعَالَى لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ
إِلًّا وَلا ذِمَّةً قيل في الآل أنه القربى وَقَالَ تَعَالَى
وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَبِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى
وَالْمَساكِينِ وَالْجارِ ذِي الْقُرْبى وَقَدْ رُوِيَ عَنْ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي تَعْظِيمِ
حُرْمَةِ الرَّحِمِ مَا يُوَاطِئُ مَا وَرَدَ بِهِ
التَّنْزِيلُ
رَوَى سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ أَبِي
سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ
بْنِ عَوْفٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ اللَّهُ أَنَا الرَّحْمَنُ وَهِيَ
الرَّحِمُ شَقَقْت لَهَا اسْمًا مِنْ اسْمِي فَمَنْ وَصَلَهَا
وَصَلْته وَمَنْ قَطَعَهَا بَتَتُّهُ
وَحَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي بن قانع قال حدثنا بشر بن موسى
قال حدثنا خالي حيان ابن بِشْرٍ قَالَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ
بْنُ الْحَسَنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ قَالَ حَدَّثَنِي نَاصِحٌ
عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ
أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه
وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ مَا مِنْ شَيْءٍ أُطِيعَ اللَّهُ
فِيهِ أَعْجَلُ ثَوَابًا مِنْ صِلَةِ الرَّحِمِ وما مِنْ
عَمَلٍ عُصِيَ اللَّهُ بِهِ أَعْجَلُ عُقُوبَةً مِنْ الْبَغْيِ
وَالْيَمِينِ الْفَاجِرَةِ
وَحَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي قَالَ حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ
مُوسَى قَالَ حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ خِدَاشٍ قَالَ
حَدَّثَنَا صَالِحُ الْمُرِّيُّ قَالَ حَدَّثَنَا يَزِيدُ
الرَّقَاشِيُّ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّ الصَّدَقَةَ
وَصِلَةَ الرَّحِمِ يَزِيدُ اللَّهُ بِهِمَا فِي الْعُمُرِ
وَيَدْفَعُ بِهِمَا مَيْتَةَ السُّوءِ وَيَدْفَعُ اللَّهُ
بِهِمَا الْمَحْذُورَ وَالْمَكْرُوهَ
وَحَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي قَالَ حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ
مُوسَى قَالَ حَدَّثَنَا الْحُمَيْدِيُّ قَالَ حَدَّثَنَا
سُفْيَانُ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ حُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ
الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ عَنْ أُمِّهِ أُمِّ كُلْثُومِ بِنْتِ
عُقْبَةَ قَالَتْ سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ أَفْضَلُ الصَّدَقَةِ عَلَى ذِي
الرَّحِمِ الْكَاشِحِ قَالَ الْحُمَيْدِيُّ الْكَاشِحُ
الْعَدُوُّ وَرَوَاهُ أَيْضًا
(2/336)
سُفْيَانُ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ أَيُّوبَ
بْنِ بَشِيرٍ عَنْ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ عَنْ النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ أَفْضَلُ الصَّدَقَةِ
عَلَى ذِي الرَّحِمِ الْكَاشِحِ
وَرَوَتْ حَفْصَةُ بِنْتُ سِيرِينَ عن الرباب عن سليمان بْنِ
عَامِرٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
قَالَ الصَّدَقَةُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ صَدَقَةٌ وَعَلَى ذِي
الرَّحِمِ اثْنَتَانِ لِأَنَّهَا صَدَقَةٌ وَصِلَةٌ
قَالَ أَبُو بَكْرٍ فَثَبَتَ بِدَلَالَةِ الْكِتَابِ
وَالسُّنَّةِ وُجُوبُ صِلَةِ الرَّحِمِ وَاسْتِحْقَاقِ
الثَّوَابِ بِهَا وَجَعَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ الصَّدَقَةَ عَلَى ذِي الرحم اثنتين صدفة وَصِلَةً
وَأَخْبَرَ بِاسْتِحْقَاقِ الثَّوَابِ لِأَجْلِ الرَّحِمِ
سِوَى مَا يَسْتَحِقُّهُ بِالصَّدَقَةِ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ
الْهِبَةَ لِذِي الرَّحِمِ الْمُحَرَّمِ لَا يَصِحُّ
الرُّجُوعُ فِيهَا ولا فسخها أيا كَانَ الْوَاهِبُ أَوْ
غَيْرَهُ لِأَنَّهَا قَدْ جَرَتْ مَجْرَى الصَّدَقَةِ فِي
أَنَّ مَوْضُوعَهَا الْقُرْبَةُ وَاسْتِحْقَاقُ الثَّوَابِ
بِهَا كَالصَّدَقَةِ لَمَّا كَانَ مَوْضُوعُهَا الْقُرْبَةَ
وَطَلَبَ الثَّوَابِ لَمْ يَصِحَّ الرُّجُوعُ فِيهَا كَذَلِكَ
الْهِبَةُ لِذِي الرَّحِمِ الْمُحَرَّمِ وَلَا يَصِحُّ
لِلْأَبِ بِهَذِهِ الدَّلَالَةِ الرُّجُوعُ فِيمَا وَهَبَهُ
لِلِابْنِ كَمَا لَا يَجُوزُ لِغَيْرِهِ مِنْ ذَوِي الرَّحِمِ
الْمُحَرَّمِ إذْ كَانَتْ بِمَنْزِلَةِ الصَّدَقَةِ إلَّا أَنْ
يَكُونَ الْأَبُ مُحْتَاجًا فَيَجُوزُ لَهُ أَخْذُهُ كَسَائِرِ
أَمْوَالِ الِابْنِ فَإِنْ قِيلَ لَمْ يُفَرِّقْ الْكِتَابُ
وَالسُّنَّةُ فِيمَا أَوْجَبَهُ مِنْ صِلَةِ الرَّحِمِ بَيْنَ
ذِي الرَّحِمِ الْمُحَرَّمِ وَغَيْرِهِ فَالْوَاجِبُ أَنْ لَا
يَرْجِعَ فِيمَا وَهَبَهُ لِسَائِرِ ذَوِي أَرْحَامِهِ وَإِنْ
لَمْ يَكُنْ ذَا رَحِمٍ مَحْرَمٍ كَابْنِ الْعَمِّ
وَالْأَبَاعِدِ مِنْ أَرْحَامِهِ قِيلَ لَهُ لَوْ اعْتَبَرْنَا
كُلَّ مَنْ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ نَسَبٌ لَوَجَبَ أَنْ
يَشْتَرِكَ فيه آدم عليه السّلام كلهم لأنهم ذووا أَنْسَابِهِ
وَيَجْمَعُهُمْ نُوحٌ النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ
وَقَبْلَهُ آدَم عَلَيْهِ السَّلَامُ وَهَذَا فَاسِدٌ فَوَجَبَ
أَنْ يَكُونَ الرَّحِمُ الَّذِي يَتَعَلَّقُ بِهِ هَذَا
الْحُكْمُ هُوَ مَا يَمْنَعُ عَقْدَ النِّكَاحِ بَيْنَهُمَا
إذَا كَانَ أَحَدُهُمَا رَجُلًا وَالْآخَرُ امْرَأَةً لِأَنَّ
مَا عَدَا ذَلِكَ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ حُكْمٌ وَهُوَ
بِمَنْزِلَةِ الْأَجْنَبِيِّينَ
وَقَدْ رَوَى زِيَادُ بْنُ عِلَاقَةَ عَنْ أُسَامَةَ بْنِ
شَرِيكٍ قَالَ أَتَيْت النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ وَهُوَ يَخْطُبُ بِمِنًى وَهُوَ يَقُولُ أُمَّك
وَأَبَاك وَأُخْتَك وَأَخَاك ثُمَّ أَدْنَاك فَأَدْنَاك
فَذَكَرَ ذَوِي الرَّحِمِ الْمُحَرَّمِ فِي ذَلِكَ فَدَلَّ
عَلَى صِحَّةِ مَا ذَكَرْنَا وَهُوَ مَأْمُورٌ مَعَ ذَلِكَ
بِمَنْ بَعُدَ رَحِمُهُ أَنْ يَصِلَهُ وَلَيْسَ فِي تَأْكِيدِ
مَنْ قَرُبَ كَمَا يَأْمُرُ بِالْإِحْسَانِ إلَى الْجَارِ
وَلَا يَتَعَلَّقُ بِذَلِكَ حُكْمٌ فِي التَّحْرِيمِ وَلَا فِي
مَنْعِ الرُّجُوعِ فِي الْهِبَةِ فَكَذَلِكَ ذَوُو رَحِمِهِ
الَّذِينَ لَيْسُوا بِمَحْرَمٍ فَهُوَ مَنْدُوبٌ إلَى
الْإِحْسَانِ إلَيْهِمْ وَلَكِنَّهُ لَمَّا لَمْ يَتَعَلَّقْ
بِهِ حُكْمُ التَّحْرِيمِ كَانُوا بمنزلة الأجنبيين والله أعلم
بالصواب.
«22- أحكام في»
(2/337)
وَآتُوا الْيَتَامَى
أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ
وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ
كَانَ حُوبًا كَبِيرًا (2)
باب دفع أموال الأيتام إليهم بأعيانها
ومنعه الْوَصِيِّ مِنْ اسْتِهْلَاكِهَا
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ وَلا
تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ
رُوِيَ عَنْ الْحَسَنِ أَنَّهُ قَالَ لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ
الْآيَةُ فِي أَمْوَالِ الْيَتَامَى كَرِهُوا أَنْ
يُخَالِطُوهُمْ وَجَعَلَ وَلِيَّ الْيَتِيمِ يَعْزِلُ مَالَ
الْيَتِيمِ عَنْ مَالِهِ فَشَكَوْا ذَلِكَ إلَى النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأنزل الله وَيَسْئَلُونَكَ
عَنِ الْيَتامى قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ
تُخالِطُوهُمْ فَإِخْوانُكُمْ
قَالَ أَبُو بَكْرٍ وَأَظُنُّ ذَلِكَ غَلَطًا مِنْ الراوي لأن
المراد بهذه الآية إيتاءهم أَمْوَالَهُمْ بَعْدَ الْبُلُوغِ
إذْ لَا خِلَافَ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّ الْيَتِيمَ لَا
يَجِبُ إعْطَاؤُهُ مَالَهُ قَبْلَ الْبُلُوغِ وَإِنَّمَا
غَلِطَ الرَّاوِي بِآيَةٍ أُخْرَى وَهُوَ مَا
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو
دَاوُد قَالَ حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ قَالَ
حَدَّثَنَا جَرِيرٌ عَنْ عَطَاءٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ
عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ لَمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى
وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ
أَحْسَنُ
- وإِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً
الْآيَةَ انْطَلَقَ مَنْ كَانَ عِنْدَهُ يَتِيمٌ فَعَزَلَ
طَعَامَهُ مِنْ طَعَامِهِ وَشَرَابَهُ مِنْ شَرَابِهِ فَجَعَلَ
يَفْضُلُ مِنْ طَعَامِهِ فَيَحْبِسُ لَهُ حَتَّى يَأْكُلَهُ
أَوْ يَفْسُدَ فَاشْتَدَّ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ فَذَكَرُوا ذَلِكَ
لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم فأنزل الله
تعالى وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْيَتامى قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ
خَيْرٌ وَإِنْ تُخالِطُوهُمْ فَإِخْوانُكُمْ
فَخَلَطُوا طَعَامَهُمْ بِطَعَامِهِمْ وَشَرَابَهُمْ
بِشَرَابِهِمْ فَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ فِي ذَلِكَ وَأَمَّا
قَوْله تَعَالَى وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ فَلَيْسَ مِنْ
هَذَا فِي شَيْءٍ لِأَنَّهُ مَعْلُومٌ أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ
بِهِ إيتَاءَهُمْ أَمْوَالَهُمْ فِي حال اليتيم وَإِنَّمَا
يَجِبُ الدَّفْعُ إلَيْهِمْ بَعْدَ الْبُلُوغِ وَإِينَاسِ
الرُّشْدِ وَأَطْلَقَ اسْمَ الْأَيْتَامِ عَلَيْهِمْ لِقُرْبِ
عَهْدِهِمْ باليتم كما سمى مقارنة انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ
بُلُوغَ الْأَجَلِ فِي قَوْله تَعَالَى فَإِذا بَلَغْنَ
أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَالْمَعْنَى
مُقَارَبَةُ الْبُلُوغِ وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ قَوْله
تَعَالَى فِي نَسَقِ الْآيَةِ فَإِذا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ
أَمْوالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَالْإِشْهَادُ عَلَيْهِ
لَا يَصِحُّ قَبْلَ الْبُلُوغِ فَعُلِمَ أَنَّهُ أَرَادَ
بَعْدَ الْبُلُوغِ وَسَمَّاهُمْ يَتَامَى لِأَحَدِ
مَعْنَيَيْنِ إمَّا لِقُرْبِ عَهْدِهِمْ بِالْبُلُوغِ أَوْ
لِانْفِرَادِهِمْ عَنْ آبَائِهِمْ مَعَ أَنَّ الْعَادَةَ فِي
أَمْثَالِهِمْ ضَعْفُهُمْ عَنْ التَّصَرُّفِ لِأَنْفُسِهِمْ
وَالْقِيَامِ بِتَدْبِيرِ أُمُورِهِمْ عَلَى الْكَمَالِ حَسَبَ
تَصَرُّفِ الْمُتَحَنِّكِينَ الَّذِينَ قَدْ جَرَّبُوا
الْأُمُورَ وَاسْتَحْكَمَتْ آرَاؤُهُمْ وَقَدْ رَوَى يَزِيدُ
بْنُ هُرْمُزٍ أَنَّ نَجْدَةَ كَتَبَ إلَى ابْنِ عباس يسئله
عَنْ الْيَتِيمِ مَتَى يَنْقَطِعُ يُتْمُهُ فَكَتَبَ إلَيْهِ
إذَا أُونِسَ مِنْهُ الرُّشْدُ انْقَطَعَ عَنْهُ يُتْمُهُ
وَفِي بَعْضِ الْأَلْفَاظِ إنَّ الرَّجُلَ لَيَقْبِضُ عَلَى
لِحْيَتِهِ وَلَمْ يَنْقَطِعْ عَنْهُ يُتْمُهُ بَعْدُ
فَأَخْبَرَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَنَّ اسْمَ الْيَتِيمِ قَدْ
يَلْزَمُهُ بَعْدَ الْبُلُوغِ إذَا لَمْ يَسْتَحْكِمْ رَأْيُهُ
وَلَمْ يُؤْنَسْ مِنْهُ رُشْدُهُ فَجَعَلَ بَقَاءَ ضَعْفِ
الرَّأْيِ
(2/338)
مُوجِبًا لِبَقَاءِ اسْمِ الْيَتِيمِ
عَلَيْهِ وَاسْمُ الْيَتِيمِ قَدْ يَقَعُ عَلَى الْمُنْفَرِدِ
عَنْ أَبِيهِ وَعَلَى الْمَرْأَةِ الْمُنْفَرِدَةِ عَنْ
زَوْجِهَا
قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
تُسْتَأْمَرُ الْيَتِيمَةُ فِي نَفْسِهَا
وَهِيَ لَا تُسْتَأْمَرُ إلَّا وَهِيَ بَالِغَةٌ وَقَالَ
الشَّاعِرُ:
إنَّ الْقُبُورَ تَنْكِحُ الْأَيَامَى ... النِّسْوَةَ
الْأَرَامِلَ الْيَتَامَى
إلَّا أَنَّهُ مَعْلُومٌ أَنَّهُ إذَا صَارَ شَيْخًا أَوْ
كَهْلًا لَا يُسَمَّى يَتِيمًا وَإِنْ كَانَ ضَعِيفَ الْعَقْلِ
نَاقِصَ الرَّأْيِ فَلَا بُدَّ مِنْ اعْتِبَارِ قُرْبِ
الْعَهْدِ بِالصِّغَرِ وَالْمَرْأَةُ الْكَبِيرَةُ
الْمُسِنَّةُ تُسَمَّى يَتِيمَةً مِنْ جِهَةِ انْفِرَادِهَا
عَنْ زَوْجٍ وَالرَّجُلُ الْكَبِيرُ الْمُسِنُّ لَا يُسَمَّى
يَتِيمًا مِنْ جِهَةِ انْفِرَادِهِ عَنْ أَبِيهِ وَإِنَّمَا
كَانَ كَذَلِكَ لِأَنَّ الْأَبَ يَلِي عَلَى الصَّغِيرِ
وَيُدَبِّرُ أمره ويحوطه فيكنفه فسمى الصغير يتما
لِانْفِرَادِهِ عَنْ أَبِيهِ الَّذِي هَذِهِ حَالُهُ فَمَا
دَامَ عَلَى حَالِ الضَّعْفِ وَنُقْصَانِ الرَّأْيِ يُسَمَّى
يَتِيمًا بَعْدَ الْبُلُوغِ وَأَمَّا الْمَرْأَةُ فَإِنَّمَا
سُمِّيَتْ يَتِيمَةً لِانْفِرَادِهَا عَنْ الزَّوْجِ الَّذِي
هِيَ فِي حِبَالِهِ وَكَنَفِهِ فَهِيَ وَإِنْ كَبِرَتْ فَهَذَا
الِاسْمُ لَازِمٌ لَهَا لِأَنَّ وُجُودَ الزَّوْجِ لَهَا فِي
هَذِهِ الْحَالِ بِمَنْزِلَةِ الْأَبِ لِلصَّغِيرِ فِي أَنَّهُ
هُوَ الَّذِي يَلِي حِفْظَهَا وَحِيَاطَتَهَا فَإِذَا
انْفَرَدَتْ عَمَّنْ هَذِهِ حَالُهُ مَعَهَا سُمِّيَتْ
يَتِيمَةً كَمَا سُمِّيَ الصَّغِيرُ يَتِيمًا لِانْفِرَادِهِ
عَمَّنْ يُدَبِّرُ أَمْرَهُ وَيَكْنُفُهُ وَيَحْفَظُهُ أَلَا
تَرَى إلَى قَوْله تَعَالَى الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى
النِّساءِ كَمَا قَالَ وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتامى
بِالْقِسْطِ فَجَعَلَ الرَّجُلَ قَيِّمًا عَلَى امْرَأَتِهِ
كَمَا جَعَلَ ولى الْيَتِيمِ قَيِّمًا عَلَيْهِ
وَقَدْ رَوَى عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ وَجَابِرُ بْنُ
عَبْدِ اللَّهِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم أنه
قال لَا يُتْمَ بَعْدَ حُلُمٍ
وَهَذَا هُوَ الْحَقِيقَةُ في اليتيم وَبَعْدَ الْبُلُوغِ
يُسَمَّى يَتِيمًا مَجَازًا لِمَا وَصَفْنَا وَمَا ذَكَرْنَا
مِنْ دَلَالَةِ اسْمِ الْيَتِيمِ عَلَى الضَّعِيفِ عَلَى مَا
رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ قَوْلِ
أَصْحَابِنَا فِيمَنْ أَوْصَى لِيَتَامَى بَنِي فُلَانٍ وَهُمْ
لَا يُحْصَوْنَ أَنَّهَا جَائِزَةٌ لِلْفُقَرَاءِ مِنْ
الْيَتَامَى لِأَنَّ اسْمَ الْيَتِيمِ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ
وَيَدُلُّ عَلَيْهِ مَا حَدَّثَنَا عبد الله بن محمد بن إسحاق
قَالَ حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ أَبِي الرَّبِيعِ قَالَ
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ
عَنْ الحسن فِي قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ وَلا تُؤْتُوا
السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ
قِياماً قَالَ السُّفَهَاءُ ابْنُك السَّفِيهُ وَامْرَأَتُك
السَّفِيهَةُ قَالَ وقوله قِياماً قِيَامُ عَيْشِك وَقَدْ
ذُكِرَ
أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
قَالَ اتَّقُوا اللَّهَ فِي الضَّعِيفَيْنِ الْيَتِيمِ
وَالْمَرْأَةِ
فَسَمَّى الْيَتِيمَ ضَعِيفًا وَلَمْ يَشْرُطْ فِي هَذِهِ
الْآيَةِ إينَاسَ الرُّشْدِ في دفع المال إليهم وظاهره يقتضى
وجود دَفْعِهِ إلَيْهِمْ بَعْدَ الْبُلُوغِ أُونِسَ مِنْهُ
الرُّشْدُ أَوْ لَمْ يُؤْنَسْ إلَّا أَنَّهُ قَدْ شَرَطَهُ فِي
قَوْله تَعَالَى حَتَّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ فَإِنْ
آنَسْتُمْ
(2/339)
مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ
أَمْوالَهُمْ فَكَانَ ذَلِكَ مُسْتَعْمَلًا عِنْدَ أَبِي
حَنِيفَةَ مَا بينه وبين خمس وعشرين سنة فإذا بلغها وَلَمْ
يُؤْنَسْ مِنْهُ رُشْدٌ وَجَبَ دَفْعُ الْمَالِ إليه لقوله
تعالى وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ فَيَسْتَعْمِلُهُ بَعْدَ
خَمْسٍ وَعِشْرِينَ سَنَةً عَلَى مُقْتَضَاهُ وَظَاهِرِهِ
وَفِيمَا قَبْلَ ذَلِكَ لَا يَدْفَعُهُ إلَّا مَعَ إينَاسِ
الرُّشْدِ لِاتِّفَاقِ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّ إينَاسَ
الرُّشْدِ قَبْلَ بُلُوغِ هَذِهِ السِّنِّ شَرْطُ وجوب دفع
المال إليه وهذا وجه شائع مِنْ قِبَلِ أَنَّ فِيهِ
اسْتِعْمَالَ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْ الْآيَتَيْنِ عَلَى
مُقْتَضَى ظَوَاهِرِهِمَا عَلَى فَائِدَتِهِمَا وَلَوْ
اعْتَبَرْنَا إينَاسَ الرُّشْدِ عَلَى سَائِرِ الْأَحْوَالِ
كَانَ فِيهِ إسْقَاطُ حُكْمِ الْآيَةِ الْأُخْرَى رَأْسًا وهو
قوله تعالى وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ مِنْ غَيْرِ شَرْطٍ
لِإِينَاسِ الرُّشْدِ فِيهِ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَطْلَقَ
إيجَابَ دَفْعِ الْمَالِ مِنْ غَيْرِ قَرِينَةٍ وَمَتَى
وَرَدَتْ آيَتَانِ إحْدَاهُمَا خَاصَّةٌ مُضَمَّنَةٌ
بِقَرِينَةٍ فِيمَا تَقْتَضِيهِ مِنْ إيجَابِ الْحُكْمِ
وَالْأُخْرَى عَامَّةٌ غَيْرُ مُضَمَّنَةٍ بِقَرِينَةٍ
وَأَمْكَنَنَا اسْتِعْمَالُهُمَا على فائدتهما ولم يجز لنا
الاقتصار بها عَلَى فَائِدَةِ إحْدَاهُمَا وَإِسْقَاطِ
فَائِدَةِ الْأُخْرَى وَلَمَّا ثَبَتَ بِمَا ذَكَرْنَا وُجُوبُ
دَفْعِ الْمَالِ إلَيْهِ لقوله تعالى وَآتُوا الْيَتامى
أَمْوالَهُمْ وَقَالَ فِي نَسَقِ التِّلَاوَةِ فَإِذا
دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ
دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ جَائِزُ الْإِقْرَارِ بِالْقَبْضِ
إذ كان قوله فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ قَدْ تَضَمَّنَ جَوَازَ
الْإِشْهَادِ عَلَى إقْرَارِهِمْ بِقَبْضِهَا وَفِي ذَلِكَ
دَلَالَةٌ عَلَى نَفْيِ الْحَجْرِ وَجَوَازِ التَّصَرُّفِ
لِأَنَّ الْمَحْجُورَ عَلَيْهِ لَا يَجُوزُ إقْرَارُهُ وَمَنْ
وَجَبَ الْإِشْهَادُ عَلَيْهِ فَهُوَ جَائِزُ الْإِقْرَارِ
وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ
بِالطَّيِّبِ فَإِنَّهُ رُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ وَأَبِي صَالِحٍ
الْحَرَامُ بِالْحَلَالِ أَيْ لَا تَجْعَلْ بَدَلَ رِزْقِك
الْحَلَالِ حَرَامًا تَتَعَجَّلُ بِأَنْ تَسْتَهْلِكَ مَالَ
الْيَتِيمِ فَتُنْفِقَهُ أَوْ تَتَّجِرَ فِيهِ لِنَفْسِك أَوْ
تَحْبِسَهُ وَتُعْطِيَهُ غَيْرَهُ فَيَكُونُ مَا تَأْخُذُهُ
مِنْ مَالِ الْيَتِيمِ خَبِيثًا حَرَامًا وَتُعْطِيهِ مَالِكَ
الْحَلَالِ الَّذِي رَزَقَك اللَّهُ تَعَالَى وَلَكِنْ
آتُوهُمْ أَمْوَالَهُمْ بِأَعْيَانِهَا وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى
أَنَّ وَلِيَّ الْيَتِيمِ لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَسْتَقْرِضَ
مَالَ الْيَتِيمِ مِنْ نَفْسِهِ ولا يستبدله فَيَحْبِسُهُ
لِنَفْسِهِ وَيُعْطِيهِ غَيْرَهُ وَلَيْسَ فِيهِ دَلَالَةٌ
عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهُ التَّصَرُّفُ فِيهِ
بِالْبَيْعِ وَالشِّرَى لِلْيَتِيمِ لِأَنَّهُ إنَّمَا حُظِرَ
عَلَيْهِ أَنْ يَأْخُذَهُ لِنَفْسِهِ وَيُعْطِيَ الْيَتِيمَ
غَيْرَهُ وَفِيهِ الدَّلَالَةُ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ أَنْ
يَشْتَرِيَ مِنْ مَالِ الْيَتِيمِ لِنَفْسِهِ بِمِثْلِ
قِيمَتِهِ سَوَاءً لِأَنَّهُ قَدْ حُظِرَ عَلَيْهِ
اسْتِبْدَالُ مَالِ الْيَتِيمِ لِنَفْسِهِ فَهُوَ عَامٌّ فِي
سَائِرِ وُجُوهِ الِاسْتِبْدَالِ إلا ما قام دليله هو أَنْ
يَكُونَ مَا يُعْطِي الْيَتِيمَ أَكْثَرَ قِيمَةً مِمَّا
يَأْخُذُهُ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى
وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ
أَحْسَنُ
وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ وَالزُّهْرِيُّ
(2/340)
وَإِنْ خِفْتُمْ
أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ
لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ
خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ
أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا (3)
وَالضَّحَّاكُ وَالسُّدِّيُّ فِي قَوْلِهِ
وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ قَالَ لَا
تَجْعَلُوا الزَّائِفَ بَدَلَ الْجَيِّدِ وَالْمَهْزُولَ بدل
السمين وأما قوله وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى
أَمْوالِكُمْ فَإِنَّهُ رُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ وَالسُّدِّيِّ
لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ مَعَ أَمْوَالِكُمْ مُضِيفِينَ
لَهَا إلَى أَمْوَالِكُمْ فَنُهُوا عَنْ خَلْطِهَا
بِأَمْوَالِهِمْ عَلَى وَجْهِ الِاسْتِقْرَاضِ لِتَصِيرَ
دَيْنًا فِي ذِمَّتِهِ فَيَجُوزُ لَهُمْ أَكْلُهَا وَأَكْلُ
أَرْبَاحِهَا قَوْله تَعَالَى إِنَّهُ كانَ حُوباً كَبِيراً
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنُ وَمُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ
إثْمًا كَبِيرًا وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلَالَةٌ عَلَى
وُجُوبِ تَسْلِيمِ أَمْوَالِ الْيَتَامَى بَعْدَ الْبُلُوغِ
وَإِينَاسِ الرُّشْدِ إلَيْهِمْ وَإِنْ لَمْ يُطَالَبُوا
بِأَدَائِهَا لِأَنَّ الْأَمْرَ بِدَفْعِهَا مُطْلَقٌ
مُتَوَعَّدٌ عَلَى تَرْكِهِ غَيْرُ مَشْرُوطٍ فِيهِ
مُطَالَبَةُ الْأَيْتَامِ بِأَدَائِهَا وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ
مَنْ لَهُ عِنْدَ غَيْرِهِ مَالٌ فَأَرَادَ دَفْعَهُ إلَيْهِ
أَنَّهُ مَنْدُوبٌ عَلَى الْإِشْهَادِ عَلَيْهِ لِقَوْلِهِ
تَعَالَى فَإِذا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ
فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ والله الموفق.
بَابُ تَزْوِيجِ الصِّغَارِ
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي
الْيَتامى فَانْكِحُوا مَا طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ مَثْنى
وَثُلاثَ وَرُباعَ رَوَى الزُّهْرِيُّ عَنْ عُرْوَةَ قَالَ
قُلْت لِعَائِشَةَ قَوْله تَعَالَى وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا
تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى الْآيَةَ فَقَالَتْ يَا ابْنَ
أُخْتِي هِيَ الْيَتِيمَةُ تَكُونُ فِي حِجْرِ وَلِيِّهَا
فَيَرْغَبُ فِي مَالِهَا وَجَمَالِهَا وَيُرِيدُ أَنْ
يَنْكِحَهَا بِأَدْنَى مِنْ صَدَاقِهَا فَنُهُوا أَنْ
يَنْكِحُوهُنَّ إلَّا أَنْ يُقْسِطُوا لَهُنَّ وَأُمِرُوا أَنْ
يَنْكِحُوا سِوَاهُنَّ مِنْ النِّسَاءِ
قَالَتْ عَائِشَةُ ثُمَّ إنَّ النَّاسَ اسْتَفْتُوا رَسُولَ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ هَذِهِ
الْآيَةِ فِيهِنَّ فَأَنْزَلَ اللَّهُ وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي
النِّساءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَما يُتْلى
عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ- إلى قوله تعالى- وَتَرْغَبُونَ أَنْ
تَنْكِحُوهُنَ
قَالَتْ وَاَلَّذِي ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ يُتْلَى
عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ الْآيَةُ الْأُولَى الَّتِي قَالَ
فِيهَا وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى
وَقَوْلُهُ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى وَتَرْغَبُونَ أَنْ
تَنْكِحُوهُنَّ رَغْبَةَ أَحَدِكُمْ عَنْ يَتِيمَتِهِ الَّتِي
تَكُونُ فِي حجره حتى تَكُونُ قَلِيلَةَ الْمَالِ وَالْجَمَالِ
فَنُهُوا أَنْ يَنْكِحُوا مَنْ رَغِبُوا فِي مَالِهَا
وَجَمَالِهَا مِنْ يَتَامَى النِّسَاءِ إلَّا بِالْقِسْطِ مِنْ
أَجْلِ رَغْبَتِهِمْ عَنْهُنَّ قَالَ أَبُو بَكْرٍ وَرُوِيَ
عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ نَحْوُ تَأْوِيلِ عَائِشَةَ فِي قَوْله
تَعَالَى وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى
وَرُوِيَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَالضَّحَّاكِ
وَالرَّبِيعِ تَأْوِيلٌ غَيْرُ هَذَا وَهُوَ مَا حَدَّثَنَا
عَبْدُ الله بن محمد بن إسحاق قَالَ حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ
أَبِي الرَّبِيعِ الْجُرْجَانِيُّ قَالَ أَخْبَرَنَا عَبْدُ
الرَّزَّاقِ قَالَ أَخْبَرَنَا مَعْمَرُ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ
سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ فِي قَوْله تَعَالَى وَإِنْ خِفْتُمْ
أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى فَانْكِحُوا مَا طابَ لَكُمْ
مِنَ النِّساءِ
(2/341)
يقول ما أَحَلَّ لَكُمْ مِنْ النِّسَاءِ
مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ وَخَافُوا فِي النِّسَاءِ مِثْلَ
الَّذِي خِفْتُمْ فِي الْيَتَامَى أَلَّا تُقْسِطُوا فِيهِنَّ
وَرُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا
فَحَرَّجْتُمْ مِنْ أَكْلِ أَمْوَالِهِمْ وَكَذَلِكَ
فَتَحَرَّجُوا مِنْ الزِّنَا فَانْكِحُوا النِّسَاءَ نِكَاحًا
طَيِّبًا مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ وَرُوِيَ فِيهِ قَوْلٌ
ثَالِثٌ وَهُوَ مَا رَوَى شُعْبَةُ عَنْ سِمَاكٍ عَنْ
عِكْرِمَةَ قَالَ كَانَ الرَّجُلُ مِنْ قريش تَكُونُ عِنْدَهُ
النِّسْوَةُ وَيَكُونُ عِنْدَهُ الْأَيْتَامُ فَيَذْهَبُ
مَالُهُ فَيَمِيلُ عَلَى مَالِ الْأَيْتَامِ فَنَزَلَتْ وَإِنْ
خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى الْآيَةَ وَقَدْ
اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي تَزْوِيجِ غَيْرِ الْأَبِ
وَالْجَدِّ الصَّغِيرَيْنِ فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ لِكُلِّ من
كان من أهل الميراث من القربات أَنْ يُزَوِّجَ الْأَقْرَبَ
فَالْأَقْرَبَ فَإِنْ كَانَ الْمُزَوِّجُ الْأَبَ أَوْ
الْجَدَّ فَلَا خِيَارَ لَهُمْ بَعْدَ الْبُلُوغِ وَإِنْ كَانَ
غَيْرَهُمَا فَلَهُمْ الْخِيَارُ بَعْدَ الْبُلُوغِ وَقَالَ
أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ لَا يُزَوِّجُ الصَّغِيرَيْنِ إلَّا
الْعَصَبَاتُ الْأَقْرَبُ فَالْأَقْرَبُ قَالَ أَبُو يُوسُفَ
وَلَا خِيَارَ لَهُمَا بَعْدَ الْبُلُوغِ وَقَالَ مُحَمَّدٌ
لَهُمَا الْخِيَارُ إذَا زَوَّجَهُمَا غَيْرُ الْأَبِ
وَالْجَدِّ وَذَكَرَ ابْنُ وَهْبٍ عَنْ مَالِكٍ فِي تَزْوِيجِ
الرَّجُلِ يَتِيمَهُ إذَا رَأَى لَهُ الْفَضْلَ وَالصَّلَاحَ
وَالنَّظَرَ أَنَّ ذَلِكَ جَائِزٌ لَهُ عَلَيْهِ وَقَالَ ابْنُ
الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ فِي الرَّجُلِ يُزَوِّجُ أُخْتَهُ
وَهِيَ صَغِيرَةٌ إنَّهُ لَا يَجُوزُ وَيُزَوِّجُ الْوَصِيُّ
وَإِنْ كَرِهَ الْأَوْلِيَاءُ وَالْوَصِيُّ أَوْلَى مِنْ
الْوَلِيِّ غَيْرَ أَنَّهُ لَا يُزَوِّجُ الثَّيِّبَ إلَّا
بِرِضَاهَا وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَقْطَعَ عَنْهَا الْخِيَارَ
الَّذِي جُعِلَ لَهَا فِي نَفْسِهَا وَيُزَوِّجُ الْوَصِيُّ
بَنِيهِ الصِّغَارَ وَبَنَاتَهُ الصِّغَارَ وَلَا يُزَوِّجُ
الْبَنَاتَ الْكِبَارَ إلَّا بِرِضَاهُنَّ وَقَوْلُ اللَّيْثِ
فِي ذَلِكَ كَقَوْلِ مَالِكٍ وَكَذَلِكَ قَالَ يَحْيَى بْنُ
سَعِيدٍ وَرَبِيعَةُ إنَّ الْوَصِيَّ أَوْلَى وَقَالَ
الثَّوْرِيُّ لا يزوج العم ولا الأخ الصغيرة ولا أموال إلَى
الْأَوْصِيَاءِ وَالنِّكَاحُ إلَى الْأَوْلِيَاءِ وَقَالَ
الْأَوْزَاعِيُّ لَا يُزَوِّجُ الصَّغِيرَةَ إلَّا الْأَبُ
وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ لَا يُزَوِّجُ الْوَصِيُّ
إلَّا أَنْ يَكُونَ وَلِيًّا وَقَالَ الشَّافِعِيُّ لَا
يُزَوِّجُ الصِّغَارَ مِنْ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ إلَّا
الْأَبُ أَوْ الْجَدُّ إذَا لَمْ يَكُنْ أَبٌ وَلَا وِلَايَةَ
لِلْوَصِيِّ عَلَى الصَّغِيرَةِ قَالَ أَبُو بَكْرٍ رَوَى
جَرِيرٌ عَنْ مُغِيرَةَ عَنْ إبْرَاهِيمَ قَالَ قَالَ عُمَرُ
مَنْ كَانَ فِي حِجْرِهِ تَرِكَةٌ لَهَا عَوَارٌ
فَلْيَضُمَّهَا إلَيْهِ فَإِنْ كَانَتْ رَغْبَةً
فَلْيُزَوِّجْهَا غَيْرَهُ
وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عُمَرَ
وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ وَأُمِّ سَلَمَةَ وَالْحَسَنِ وَطَاوُسٍ
وَعَطَاءٍ فِي آخَرِينَ جَوَازُ تَزْوِيجِ غَيْرِ الْأَبِ
وَالْجَدِّ الصَّغِيرَةَ
وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَعَائِشَةَ فِي تَأْوِيلِ
الْآيَةِ مَا ذَكَرْنَا وَأَنَّهَا فِي الْيَتِيمَةِ فَتَكُونُ
فِي حِجْرِ وَلِيِّهَا فَيَرْغَبُ فِي مَالِهَا وَجَمَالِهَا
وَلَا يُقْسِطُ لَهَا فِي صَدَاقِهَا فَنُهُوا أَنْ
يَنْكِحُوهُنَّ أَوْ يَبْلُغُوا بِهِنَّ أَعْلَى سُنَنِهِنَّ
فِي الصَّدَاقِ وَلَمَّا كَانَ ذَلِكَ عِنْدَهُمَا تَأْوِيلَ
الْآيَةِ دَلَّ عَلَى أَنَّ جَوَازَ ذَلِكَ
(2/342)
مِنْ مَذْهَبِهِمَا أَيْضًا وَلَا نَعْلَمُ
أَحَدًا مِنْ السلف منع ذلك والآية يدل عَلَى مَا تَأَوَّلَهَا
عَلَيْهِ ابْنُ عَبَّاسٍ وَعَائِشَةُ لأنهما ذكر أَنَّهَا فِي
الْيَتِيمَةِ تَكُونُ فِي حِجْرِ وَلِيِّهَا فَيَرْغَبُ فِي
مَالِهَا وَجَمَالِهَا وَلَا يُقْسِطُ لَهَا فِي الصَّدَاقِ
فَنُهُوا أَنْ يَنْكِحُوهُنَّ أَوْ يُقْسِطُوا لَهُنَّ فِي
الصَّدَاقِ وَأَقْرَبُ الْأَوْلِيَاءِ الَّذِي تَكُونُ
الْيَتِيمَةُ فِي حِجْرِهِ وَيَجُوزُ لَهُ تَزَوُّجُهَا هُوَ
ابن العم فقد تضمنت الآية جواز تزوج ابْنِ الْعَمِّ
الْيَتِيمَةَ الَّتِي فِي حِجْرِهِ فَإِنْ قِيلَ لِمَ جَعَلْت
هَذَا التَّأْوِيلَ أَوْلَى مِنْ تَأْوِيلِ سَعِيدِ بْنِ
جُبَيْرٍ وَغَيْرِهِ الَّذِي ذَكَرْت مَعَ احْتِمَالِ الْآيَةِ
لِلتَّأْوِيلَاتِ كُلِّهَا قِيلَ لَهُ لَيْسَ يَمْتَنِعُ أَنْ
يَكُونَ الْمُرَادُ الْمَعْنَيَيْنِ جَمِيعًا لِاحْتِمَالِ
اللَّفْظِ لَهُمَا وَلَيْسَا مُتَنَافِيَيْنِ فَهُوَ
عَلَيْهِمَا جَمِيعًا وَمَعَ ذَلِكَ فَإِنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ
وَعَائِشَةَ قَدْ قَالَا إنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي ذَلِكَ
وَذَلِكَ لَا يُقَالُ بِالرَّأْيِ وَإِنَّمَا يُقَالُ
تَوْقِيفًا فَهُوَ أَوْلَى لِأَنَّهُمَا ذَكَرَا سَبَبَ
نُزُولِهَا وَالْقِصَّةَ الَّتِي نَزَلَتْ فِيهَا فَهُوَ
أَوْلَى فَإِنْ قِيلَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ
الْجَدَّ قِيلَ لَهُ إنَّمَا ذَكَرَا أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي
الْيَتِيمَةِ الَّتِي فِي حِجْرِهِ وَيَرْغَبُ فِي نِكَاحِهَا
وَالْجَدُّ لَا يَجُوزُ لَهُ نِكَاحُهَا فَعَلِمْنَا أَنَّ
الْمُرَادَ ابْنُ الْعَمِّ وَمَنْ هُوَ أَبْعَدُ مِنْهُ مِنْ
سَائِرِ الْأَوْلِيَاءِ فَإِنْ قِيلَ إنَّ الْآيَةَ إنَّمَا
هِيَ فِي الْكَبِيرَةِ لِأَنَّ
عَائِشَةَ قَالَتْ إنَّ النَّاسَ استفتوا رسول الله صلى الله
عليه وسلم بَعْدَ هَذِهِ الْآيَةِ فِيهِنَّ فَأَنْزَلَ اللَّهُ
وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّساءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ
فِيهِنَّ وَما يُتْلى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ فِي يَتامَى
النِّساءِ
يَعْنِي قَوْلَهُ وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي
الْيَتامى قال فلما قال فِي يَتامَى النِّساءِ دَلَّ عَلَى
أَنَّ الْمُرَادَ الْكِبَارُ مِنْهُنَّ دُونَ الصِّغَارِ
لِأَنَّ الصِّغَارَ لَا يُسَمَّيْنَ نِسَاءً قِيلَ لَهُ هَذَا
غَلَطٌ مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّ قَوْلَهُ وَإِنْ
خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى حَقِيقَتُهُ
تَقْتَضِي اللَّاتِي لَمْ يَبْلُغْنَ
لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا
يُتْمَ بَعْدَ بُلُوغِ الْحُلُمِ
وَلَا يَجُوزُ صَرْفُ الْكَلَامِ عَنْ حَقِيقَتِهِ إلَى
الْمَجَازِ إلَّا بِدَلَالَةٍ وَالْكَبِيرَةُ تُسَمَّى
يَتِيمَةً عَلَى وَجْهِ الْمَجَازِ وقَوْله تَعَالَى فِي
يَتامَى النِّساءِ لَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى مَا ذَكَرْت
لِأَنَّهُنَّ إذَا كُنَّ مِنْ جِنْسِ النِّسَاءِ جَازَتْ
إضَافَتُهُنَّ إلَيْهِنَّ وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى
فَانْكِحُوا مَا طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ وَالصِّغَارُ
وَالْكِبَارُ دَاخِلَاتٌ فِيهِنَّ وَقَالَ وَلا تَنْكِحُوا ما
نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ وَالصِّغَارُ وَالْكِبَارُ
مُرَادَاتٌ بِهِ وَقَالَ وَأُمَّهاتُ نِسائِكُمْ وَلَوْ
تَزَوَّجَ صَغِيرَةً حُرِّمَتْ عَلَيْهِ أُمُّهَا تَحْرِيمًا
مُؤَبَّدًا فَلَيْسَ إذًا فِي إضَافَةِ الْيَتَامَى إلَى
النِّسَاءِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهُنَّ الْكِبَارُ دُونَ
الصِّغَارِ وَالْوَجْهُ الْآخَرُ أَنَّ هَذَا التَّأْوِيلَ
الَّذِي ذَكَرَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَعَائِشَةُ لَا يَصِحُّ فِي
الْكِبَارِ لِأَنَّ الْكَبِيرَةَ إذَا رَضِيَتْ بِأَنْ
يَتَزَوَّجَهَا بِأَقَلَّ مِنْ مَهْرِ مِثْلِهَا جَازَ
النِّكَاحُ وَلَيْسَ لِأَحَدٍ
(2/343)
أَنْ يَعْتَرِضَ عَلَيْهَا فَعَلِمْنَا
أَنَّ الْمُرَادَ الصِّغَارُ اللَّاتِي يَتَصَرَّفُ
عَلَيْهِنَّ فِي التَّزْوِيجِ مَنْ هُنَّ فِي حِجْرِهِ
وَيَدُلُّ عَلَيْهِ مَا
رَوَى مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ قَالَ أَخْبَرَنِي عَبْدُ
اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرِ بْنِ حَزْمٍ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ
الْحَارِثِ وَمَنْ لَا أَتَّهِمُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بن شداد
قال كان زَوَّجَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أُمَّ سَلَمَةَ ابْنُهَا سَلَمَةُ فَزَوَّجَهُ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِنْتَ
حَمْزَةَ وَهُمَا صَبِيَّانِ صَغِيرَانِ فَلَمْ يَجْتَمِعَا
حَتَّى مَاتَا فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَلْ جَزَيْت سَلَمَةَ بِتَزْوِيجِهِ
إيَّايَ أُمَّهُ
وَفِيهِ الدَّلَالَةُ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ وَجْهَيْنِ
أَحَدُهُمَا أَنَّهُ زَوَّجَهُمَا وَلَيْسَ بِأَبٍ وَلَا جَدٍّ
فَدَلَّ عَلَى أَنَّ تَزْوِيجَ غَيْرِ الْأَبِ وَالْجَدِّ
جَائِزٌ لِلصَّغِيرَيْنِ وَالثَّانِي أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا فَعَلَ ذَلِكَ وَقَدْ قَالَ
اللَّهُ تَعَالَى فَاتَّبِعُوهُ فَعَلَيْنَا اتِّبَاعُهُ
فَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ لِلْقَاضِي تَزْوِيجَ الصَّغِيرَيْنِ
وَإِذَا جَازَ ذَلِكَ لِلْقَاضِي جَازَ لِسَائِرِ
الْأَوْلِيَاءِ لِأَنَّ أَحَدًا لَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَهُمَا
وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَيْضًا
قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا
نِكَاحَ إلَّا بِوَلِيٍّ
فَأَثْبَتَ النِّكَاحَ إذَا كَانَ بِوَلِيٍّ وَالْأَخُ وَابْنُ
الْعَمِّ أَوْلِيَاءُ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهَا لَوْ
كَانَتْ كَبِيرَةً كَانُوا أَوْلِيَاءَ فِي النِّكَاحِ
وَيَدُلُّ عَلَيْهِ مِنْ طَرِيقِ النَّظَرِ اتِّفَاقُ
الْجَمِيعِ عَلَى أَنَّ الْأَبَ وَالْجَدَّ إذا لم يكونا من
أهل الميراث إن كَانَا كَافِرَيْنِ أَوْ عَبْدَيْنِ لَمْ
يُزَوِّجَا فَدَلَّ على أن هذه الآية مستحقة بالميراث فكل من
كان أَهْلِ الْمِيرَاثِ فَلَهُ أَنْ يُزَوِّجَ الْأَقْرَبَ
فَالْأَقْرَبَ وَلِذَلِكَ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ إنَّ
لِلْأُمِّ وَمَوْلَى الْمُوَالَاةِ أَنْ يُزَوِّجُوا إذَا لَمْ
يَكُنْ أَقْرَبَ مِنْهُمْ لِأَنَّهُمْ مِنْ أَهْلِ الْمِيرَاثِ
فَإِنْ قِيلَ لَمَّا كَانَ فِي النِّكَاحِ مَالٌ وَجَبَ أَنْ
لَا يَجُوزَ عَقْدُ مَنْ لَا يَجُوزُ تَصَرُّفُهُ فِي الْمَالِ
قِيلَ لَهُ إنَّ الْمَالَ يَثْبُتُ فِي النِّكَاحِ مِنْ غَيْرِ
تَسْمِيَةٍ فَلَا اعْتِبَارَ فِيهِ بِالْوِلَايَةِ فِي
الْمَالِ أَلَا تَرَى أَنَّ عِنْدَ مَنْ لَا يُجِيزُ
النِّكَاحَ بِغَيْرِ وَلِيٍّ فللأولياء حتى فِي التَّزْوِيجِ
وَلَيْسَتْ لَهُمْ وِلَايَةٌ فِي الْمَالِ عَلَى الْكَبِيرَةِ
وَيَلْزَمُ مَالِكًا وَالشَّافِعِيَّ أَنْ لَا يجيز تَزْوِيجَ
الْأَبِ لِابْنَتِهِ الْبِكْرِ الْكَبِيرَةِ إذْ لَا وِلَايَةَ
لَهُ عَلَيْهَا فِي الْمَالِ فَلَمَّا جَازَ عِنْدَ مَالِكٍ
وَالشَّافِعِيِّ لِأَبِ الْبِكْرِ الْكَبِيرَةِ تَزْوِيجُهَا
بِغَيْرِ رِضَاهَا مَعَ عَدَمِ وِلَايَتِهِ عَلَيْهَا فِي
الْمَالِ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ لَا اعْتِبَارَ فِي
اسْتِحْقَاقِ الْوِلَايَةِ فِي عَقْدِ النِّكَاحِ بِجَوَازِ
التصرف في المال ولما ثَبَتَ بِمَا ذَكَرْنَا مِنْ دَلَالَةِ
الْآيَةِ جَوَازُ تَزْوِيجِ وَلِيِّ الصَّغِيرَةِ إيَّاهَا
مِنْ نَفْسِهِ دَلَّ عَلَى أَنَّ لِوَلِيِّ الْكَبِيرَةِ أَنْ
يُزَوِّجَهَا مِنْ نَفْسِهِ بِرِضَاهَا وَيَدُلُّ أَيْضًا
عَلَى أَنَّ الْعَاقِدَ لِلزَّوْجِ وَالْمَرْأَةِ يَجُوزُ أَنْ
يَكُونَ وَاحِدًا بِأَنْ يَكُونَ وَكِيلًا لَهُمَا كَمَا جَازَ
لِوَلِيِّ الصَّغِيرَةِ أَنْ يُزَوِّجَهَا مِنْ نَفْسِهِ
فَيَكُونُ الْمُوجِبُ لِلنِّكَاحِ والقابل له واحدا ويدل أيضا
عَلَى أَنَّهُ إذَا كَانَ وَلِيًّا لِصَغِيرَيْنِ جَازَ لَهُ
أَنْ يُزَوِّجَ أَحَدَهُمَا مِنْ صَاحِبِهِ فَالْآيَةُ
دَالَّةٌ مِنْ هَذِهِ الْوُجُوهِ عَلَى بُطْلَانِ مَذْهَبِ
الشافعى في قوله إن الصغيرة
(2/344)
لَا يُزَوِّجُهَا غَيْرُ الْأَبِ
وَالْجَدِّ وَفِي قَوْلِهِ إنَّهُ لَا يَجُوزُ لِوَلِيِّ
الْكَبِيرَةِ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا بِرِضَاهَا بِغَيْرِ
مَحْضَرٍ مِنْهَا وَيَدُلُّ عَلَى بُطْلَانِ قَوْلِهِ فِي
أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ رِجْلٌ وَاحِدٌ وَكِيلًا
لَهُمَا جَمِيعًا فِي عَقْدِ النِّكَاحِ عَلَيْهِمَا
وَإِنَّمَا قَالَ أَصْحَابُنَا إنَّهُ لَا يَجُوزُ لِلْوَصِيِّ
تَزْوِيجُ الصَّغِيرَةِ مِنْ قِبَلِ
قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا
نِكَاحَ إلَّا بِوَلِيٍّ
وَالْوَصِيُّ لَيْسَ بِوَلِيٍّ لَهَا أَلَا تَرَى أَنَّ
قَوْلَهُ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنا
لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً فَلَوْ وَجَبَ لَهَا قَوَدٌ لَمْ يَكُنْ
الْوَصِيُّ لَهَا وَلِيًّا فِي ذَلِكَ وَلَمْ يَسْتَحِقَّ
الْوِلَايَةَ فِيهِ فَثَبَتَ أَنَّ الْوَصِيَّ لَا يَقَعُ
عَلَيْهِ اسْمُ الْوَلِيِّ فَوَاجِبٌ أَنْ لَا يَجُوزَ
تَزْوِيجُهُ إيَّاهَا إذْ لَيْسَ بِوَلِيٍّ لَهَا فَإِنْ قِيلَ
فَوَاجِبٌ عَلَى هَذَا أَنْ لَا يَكُونَ الْأَخُ أَوْ الْعَمُّ
وَلِيًّا لِلصَّغِيرَةِ لِأَنَّهُمَا لَا يَسْتَحِقَّانِ
الْوِلَايَةَ فِي الْقِصَاصِ قِيلَ لَهُ لَمْ نَجْعَلْ عَدَمَ
الْوِلَايَةِ فِي الْقِصَاصِ عِلَّةً فِي ذَلِكَ حَتَّى
يَلْزَمَنَا عَلَيْهَا وَإِنَّمَا بَيَّنَّا أَنَّ ذَلِكَ
الاسم لا يتناوله وَلَا يَقَعُ عَلَيْهِ مِنْ جِهَةِ مَا
يَسْتَحِقُّ مِنْ التَّصَرُّفِ فِي الْمَالِ وَأَمَّا الْأَخُ
وَالْعَمُّ فَهُمَا وَلِيَّانِ لِأَنَّهُمَا مِنْ الْعَصَبَاتِ
وَأَحَدٌ لَا يَمْتَنِعُ مِنْ إطْلَاقِ اسْمِ الْوَلِيِّ عَلَى
الْعَصَبَاتِ قَالَ اللَّهَ تَعَالَى وَإِنِّي خِفْتُ
الْمَوالِيَ مِنْ وَرائِي قِيلَ إنَّهُ أَرَادَ بِهِ بَنِي
أَعْمَامِهِ وَعَصَبَاتِهِ فَاسْمُ الْوَلِيِّ يَقَعُ عَلَى
الْعَصَبَاتِ وَلَا يَقَعُ عَلَى الْوَصِيِّ فَلَمَّا
قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا نِكَاحَ إلَّا
بِوَلِيٍّ
أَنْتَفَى بِذَلِكَ جَوَازُ تَزْوِيجِ الْوَصِيِّ
لِلصَّغِيرَةِ إذْ لَيْسَ بِوَلِيٍّ
وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيُّمَا امْرَأَةٍ
نَكَحَتْ بِغَيْرِ إذْنِ وَلِيِّهَا وَفِي لَفْظٍ آخَرَ
بِغَيْرِ إذْنِ مَوَالِيهَا
فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ فَقَدْ اقْتَضَى بُطْلَانَ نِكَاحِ
الْمَجْنُونَةِ وَالْبِكْرِ الْكَبِيرَةِ إذَا زَوَّجَهَا
الْوَصِيُّ أَوْ تَزَوَّجَتْ بِإِذْنِ الْوَصِيِّ دُونَ إذْنِ
الْوَلِيِّ لِحُكْمِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ بِبُطْلَانِ نِكَاحِهَا إذْ كَانَتْ مُتَزَوِّجَةً
بِغَيْرِ إذْنِ وليها وَأَيْضًا فَإِنَّ هَذِهِ الْوِلَايَةَ
فِي النِّكَاحِ مُسْتَحَقَّةٌ بِالْمِيرَاثِ لِمَا دَلَّلْنَا
عَلَيْهِ وَلَيْسَ الْوَصِيُّ مِنْ أَهْلِ الْمِيرَاثِ فَلَا
وِلَايَةَ لَهُ وَأَيْضًا فَإِنَّ السَّبَبَ الَّذِي بِهِ
يَسْتَحِقُّ الْوِلَايَةَ فِي النِّكَاحِ هُوَ النَّسَبُ
وَذَلِكَ لَا يَصِحُّ النَّقْلُ فِيهِ وَلَا يَسْتَحِقُّهُ
الْوَصِيُّ لِعَدَمِ السَّبَبِ الَّذِي بِهِ يَسْتَحِقُّ
الْوِلَايَةَ وَلَيْسَ التَّصَرُّفُ فِي الْمَالِ بَعْدَ
الْمَوْتِ كَالتَّصَرُّفِ فِي النِّكَاحِ لِأَنَّ الْمَالَ
يَصِحُّ النَّقْلُ فِيهِ وَالنِّكَاحَ لَا يَصِحُّ النَّقْلُ
فِيهِ إلَى غَيْرِ الزَّوْجَيْنِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ
لِلْوَصِيِّ وِلَايَةٌ فِيهِ وَلَيْسَ الْوَصِيُّ كَالْوَكِيلِ
فِي حَالِ حَيَاةِ الْأَبِ لِأَنَّ الْوَكِيلَ يَتَصَرَّفُ
بِأَمْرِ الْمُوَكِّلِ وَأَمْرُهُ بَاقٍ لِجَوَازِ تَصَرُّفِهِ
وَأَمْرُ الْمَيِّتِ مُنْقَطِعٌ فِيمَا لَا يَصِحُّ فِيهِ
النَّقْلُ وَهُوَ النِّكَاحُ فَلِذَلِكَ اخْتَلَفَا فَإِنْ
قِيلَ فَإِنَّ الْحَاكِمَ يُزَوِّجُ عِنْدَكُمْ الصَّغِيرَيْنِ
مَعَ عَدَمِ الْمِيرَاثِ وَالْوِلَايَةِ مِنْ طَرِيقِ
النَّسَبِ قِيلَ لَهُ إنَّ الْحَاكِمَ قَائِمٌ مَقَامَ
جَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ فِيمَا يَتَصَرَّفُ فِيهِ مِنْ
ذَلِكَ وَجَمَاعَةُ الْمُسْلِمِينَ هُمْ مِنْ أَهْلِ ميراث
(2/345)
الصَّغِيرَيْنِ وَهُمْ بَاقُونَ
فَاسْتَحَقَّ الْوِلَايَةَ مِنْ حَيْثُ هو كالوكيل لهم وهم
مِنْ أَهْلِ مِيرَاثِهِ لِأَنَّهُ لَوْ مَاتَ وَلَا وَارِثَ
لَهُ مِنْ ذَوِي أَنْسَابِهِ وَرِثَهُ الْمُسْلِمُونَ وَفِي
هَذِهِ الْآيَةِ دَلَالَةٌ أَيْضًا عَلَى أَنَّ لِلْأَبِ
تَزْوِيجَ ابْنَتَهُ الصَّغِيرَةِ مِنْ حَيْثُ دَلَّتْ عَلَى
جَوَازِ تَزْوِيجِ سَائِرِ الْأَوْلِيَاءِ إذْ كَانَ هُوَ
أَقْرَبَ الْأَوْلِيَاءِ وَلَا نَعْلَمُ فِي جَوَازِ ذَلِكَ
خِلَافًا بَيْنَ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ مِنْ فُقَهَاءِ الأمصار
إلا شيئا رواه بشر بْنُ الْوَلِيدِ عَنْ ابْنِ شُبْرُمَةَ
أَنَّ تَزْوِيجَ الْآبَاءِ عَلَى الصِّغَارِ لَا يَجُوزُ
وَهُوَ مَذْهَبُ الْأَصَمِّ وَيَدُلُّ عَلَى بُطْلَانِ هَذَا
الْمَذْهَبِ سِوَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ دَلَالَةِ هَذِهِ
الْآيَةِ قَوْله تَعَالَى وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ
الْمَحِيضِ مِنْ نِسائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ
ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ فَحَكَمَ
بِصِحَّةِ طَلَاقِ الصَّغِيرَةِ الَّتِي لَمْ تَحِضْ
وَالطَّلَاقُ لَا يَقَعُ إلَّا فِي نِكَاحٍ صَحِيحٍ
فَتَضَمَّنَتْ الْآيَةُ جَوَازَ تَزْوِيجِ الصَّغِيرَةِ
وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ تَزَوَّجَ عَائِشَةَ وَهِيَ بِنْتُ سِتِّ سِنِينَ
زَوَّجَهَا إيَّاهُ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ وَقَدْ حَوَى هَذَا الْخَبَرُ مَعْنَيَيْنِ أَحَدُهُمَا
جَوَازُ تَزْوِيجِ الْأَبِ الصَّغِيرَةَ وَالْآخَرُ أَنْ لَا
خِيَارَ لَهَا بَعْدَ الْبُلُوغِ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يُخَيِّرْهَا بَعْدَ
الْبُلُوغِ وَأَمَّا قَوْله تعالى ما طابَ لَكُمْ مِنَ
النِّساءِ فَإِنَّ مُجَاهِدًا قَالَ مَعْنَاهُ انْكِحُوا
نِكَاحًا طَيِّبًا وَعَنْ عَائِشَةَ وَالْحَسَنِ وَأَبِي
مَالِكٍ مَا أَحَلَّ لَكُمْ وَقَالَ الْفَرَّاءُ أَرَادَ
بِقَوْلِهِ تَعَالَى ما طابَ الْمَصْدَرَ كَأَنَّهُ قَالَ
فَانْكِحُوا مِنْ النِّسَاءِ الطَّيِّبَ أَيْ الْحَلَالَ قَالَ
وَلِذَلِكَ جَازَ أَنْ يَقُولَ مَا وَلَمْ يَقُلْ مَنْ
وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ فَإِنَّهُ
إبَاحَةٌ لِلثِّنْتَيْنِ إنْ شَاءَ وَلِلثَّلَاثِ إنْ شَاءَ
وَلِلرُّبَاعِ إنْ شَاءَ عَلَى أَنَّهُ مُخَيَّرٌ فِي أَنْ
يَجْمَعَ فِي هَذِهِ الْأَعْدَادِ مَنْ شَاءَ قَالَ فَإِنْ
خَافَ أَنْ لَا يَعْدِلَ اقْتَصَرَ مِنْ الْأَرْبَعِ عَلَى
الثَّلَاثِ فَإِنْ خَافَ أَنْ لَا يَعْدِلَ اقْتَصَرَ مِنْ
الثَّلَاثِ عَلَى الِاثْنَتَيْنِ فَإِنْ خَافَ أَنْ لَا
يَعْدِلَ بَيْنَهُمَا اقتصر على الواحدة وقيل إن الواو هاهنا
بِمَعْنَى أَوْ كَأَنَّهُ قَالَ مَثْنَى أَوْ ثُلَاثَ أَوْ
رُبَاعَ وَقِيلَ أَيْضًا فِيهِ إنَّ الْوَاوَ عَلَى
حَقِيقَتِهَا وَلَكِنَّهُ عَلَى وَجْهِ الْبَدَلِ كَأَنَّهُ
قَالَ وَثُلَاثَ بَدَلًا مِنْ مَثْنَى وَرُبَاعَ بَدَلًا مِنْ
ثُلَاثَ لَا عَلَى الْجَمْعِ بَيْنَ الْأَعْدَادِ وَمَنْ قَالَ
هَذَا قَالَ إنَّهُ لَوْ قِيلَ بأو لَجَازَ أَنْ لَا يَكُونَ
الثُّلَاثُ لِصَاحِبِ الْمَثْنَى وَلَا الرُّبَاعُ لِصَاحِبِ
الثُّلَاثِ فَأَفَادَ ذِكْرُ الْوَاوِ إبَاحَةَ الْأَرْبَعِ
لِكُلِّ أَحَدٍ مِمَّنْ دَخَلَ فِي الْخِطَابِ وَأَيْضًا
فَإِنَّ الْمَثْنَى دَاخِلٌ فِي الثُّلَاثِ وَالثُّلَاثَ فِي
الرُّبَاعِ إذْ لَمْ يَثْبُتْ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ
الْأَعْدَادِ مُرَادٌ مَعَ الْأَعْدَادِ الأخر عن وَجْهِ
الْجَمْعِ فَتَكُونُ تِسْعًا وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى قُلْ
أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي
يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْداداً ذلِكَ رَبُّ
الْعالَمِينَ وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ مِنْ فَوْقِها
(2/346)
إلَى قَوْلِهِ وَقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها
فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ وَالْمَعْنَى فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ
بِالْيَوْمَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ بَدِيًّا ثُمَّ قَالَ
فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَلَوْلَا أَنَّ
ذَلِكَ كَذَلِكَ لَصَارَتْ الْأَيَّامُ كُلُّهَا ثَمَانِيَةً
وَقَدْ عُلِمَ أَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ كَذَلِكَ لِقَوْلِهِ
تَعَالَى خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ
فَكَذَلِكَ الْمَثْنَى دَاخِلٌ فِي الثُّلَاثِ وَالثُّلَاثُ
فِي الرُّبَاعِ فَجَمِيعُ مَا أَبَاحَتْهُ الْآيَةُ مِنْ
الْعَدَدِ أَرْبَعٌ لَا زِيَادَةَ عَلَيْهَا وَهَذَا الْعَدَدُ
إنَّمَا هُوَ لِلْأَحْرَارِ دُونَ الْعَبِيدِ فِي
قَوْلِ أَصْحَابِنَا وَالثَّوْرِيِّ وَاللَّيْثِ
وَالشَّافِعِيِّ. وَقَالَ مَالِكٌ لِلْعَبْدِ أَنْ يَتَزَوَّجَ
أَرْبَعًا وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْآيَةَ فِي الْأَحْرَارِ
دُونَ الْعَبِيدِ قَوْله تَعَالَى فَانْكِحُوا مَا طابَ لَكُمْ
إنَّمَا هُوَ مُخْتَصٌّ بِالْأَحْرَارِ لِأَنَّ الْعَبْدَ لَا
يَمْلِكُ عَقْدَ النِّكَاحِ لِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ أَنَّهُ
لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ إلَّا بِإِذْنِ الْمَوْلَى
وَأَنَّ الْمَوْلَى أَمْلَكُ بِالْعَقْدِ عَلَيْهِ مِنْهُ
بِنَفْسِهِ لِأَنَّ الْمَوْلَى لَوْ زَوَّجَهُ وَهُوَ كَارِهٌ
لَجَازَ عليه ولو تزوج هو بغير إذن المولى لَمْ يَجُزْ
نِكَاحُهُ
وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
أَيُّمَا عَبْدٍ تَزَوَّجَ بِغَيْرِ إذْنِ مَوْلَاهُ فَهُوَ
عَاهِرٌ
وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْداً
مَمْلُوكاً لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ فَلَمَّا كَانَ الْعَبْدُ
لَا يَمْلِكُ عَقْدَ النِّكَاحِ لَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِ
الْخِطَابِ بِالْآيَةِ فَوَجَبَ أَنْ تَكُونَ الْآيَةُ فِي
الْأَحْرَارِ وَأَيْضًا لَا يَخْتَلِفُونَ أَنَّ لِلرِّقِّ
تَأْثِيرًا فِي نُقْصَانِ حُقُوقِ النِّكَاحِ الْمُقَدَّرَةِ
كَالطَّلَاقِ وَالْعِدَّةِ فَلَمَّا كَانَ الْعَدَدُ مِنْ
حُقُوقِ النِّكَاحِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ لِلْعَبْدِ النِّصْفُ
مِمَّا لِلْحُرِّ وَقَدْ رُوِيَ عَنْ سِتَّةٍ مِنْ
الصَّحَابَةِ أَنَّ الْعَبْدَ لَا يَتَزَوَّجُ إلَّا
اثْنَتَيْنِ وَلَا يُرْوَى عَنْ أَحَدٍ مِنْ نُظَرَائِهِمْ
خِلَافُهُ فِيمَا نَعْلَمُهُ وَقَدْ رَوَى سُلَيْمَانُ بْنُ
يَسَارٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ قَالَ قَالَ عُمَرُ
بْنُ الْخَطَّابِ يَنْكِحُ الْعَبْدُ اثْنَتَيْنِ وَيُطَلِّقُ
اثْنَتَيْنِ وَتَعْتَدُّ الْأَمَةُ حَيْضَتَيْنِ فَإِنْ لَمْ
تَحِضْ فَشَهْرٌ وَنِصْفٌ وَرَوَى الْحَسَنُ وَابْنُ سِيرِينَ
عَنْ عُمَرَ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ أَنَّ الْعَبْدَ
لَا يَحِلُّ لَهُ أَكْثَرُ مِنْ امْرَأَتَيْنِ
وَرَوَى جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ عَلِيًّا
قَالَ لَا يَجُوزُ لِلْعَبْدِ أَنْ يَنْكِحَ فَوْقَ
اثْنَتَيْنِ
وَرَوَى حَمَّادُ عَنْ إبْرَاهِيمَ أَنَّ عُمَرَ وَعَبْدَ
اللَّهِ قَالَا لَا يَنْكِحُ الْعَبْدُ أَكْثَرَ مِنْ
اثْنَتَيْنِ وَشُعْبَةُ عَنْ الْحَكَمِ عَنْ الفضل بن العباس
قَالَ يَتَزَوَّجُ الْعَبْدُ اثْنَتَيْنِ وَابْنُ سِيرِينَ
قَالَ قَالَ عُمَرُ أَيُّكُمْ يَعْلَمُ مَا يَحِلُّ لِلْعَبْدِ
مِنْ النِّسَاءِ فَقَالَ رِجْلٌ مِنْ الْأَنْصَارِ أَنَا
فَقَالَ عُمَرُ كَمْ قَالَ اثْنَتَيْنِ فَسَكَتَ وَمَنْ يشاوره
عُمَرُ وَيَرْضَى بِقَوْلِهِ فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ صَحَابِيٌّ
وَرَوَى لَيْثٌ عَنْ الْحَكَمِ قَالَ اجْتَمَعَ أَصْحَابُ
رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى
أَنَّ الْعَبْدَ لَا يَجْمَعُ مِنْ النِّسَاءِ فَوْقَ
اثْنَتَيْنِ فَقَدْ ثَبَتَ بِإِجْمَاعِ أَئِمَّةِ الصَّحَابَةِ
مَا ذَكَرْنَاهُ وَلَا نَعْلَمُ أَحَدًا مِنْ نُظَرَائِهِمْ
قَالَ إنَّهُ يَتَزَوَّجُ أَرْبَعًا فَمَنْ خَالَفَ ذَلِكَ
كَانَ مَحْجُوجًا بِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ وَقَدْ رُوِيَ
نَحْوُ قَوْلِنَا
(2/347)
عَنْ الْحَسَنِ وَإِبْرَاهِيمِ وَابْنِ
سِيرِينَ وَعَطَاءٍ وَالشَّعْبِيِّ فإن قيل روى يحيى ابن
حَمْزَةَ عَنْ أَبِي وَهْبٍ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ قَالَ
يَتَزَوَّجُ الْعَبْدُ أَرْبَعًا وَهُوَ قَوْلُ مُجَاهِدٍ
وَالْقَاسِمِ وَسَالِمٍ وَرَبِيعَةَ الرَّأْيُ قِيلَ لَهُ
إسْنَادُ حَدِيثِ أَبِي الدَّرْدَاءِ فِيهِ رَجُلٌ مَجْهُولٌ
وَهُوَ أَبُو وَهْبٍ وَلَوْ ثَبَتَ لَمْ يَجُزْ الِاعْتِرَاضُ
بِهِ عَلَى قَوْلِ الْأَئِمَّةِ الَّذِينَ ذَكَرْنَا
أَقَاوِيلَهُمْ وَاسْتَفَاضَ ذَلِكَ عَنْهُمْ وَقَدْ ذَكَرَ
الْحَكَمُ وَهُوَ مِنْ جُلَّةِ فُقَهَاءِ التَّابِعِينَ
إجْمَاعَ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَنَّ الْعَبْدَ لَا يَتَزَوَّجُ أَكْثَرَ مِنْ
اثْنَتَيْنِ وَأَمَّا قَوْله تعالى فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا
تَعْدِلُوا فَواحِدَةً فَإِنَّ مَعْنَاهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
الْعَدْلُ فِي الْقَسْمِ بَيْنَهُنَّ لِمَا قَالَ تَعَالَى فِي
آيَةٍ أُخْرَى وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ
النِّساءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ
وَالْمُرَادُ مَيْلُ الْقَلْبِ وَالْعَدْلُ الَّذِي يُمْكِنُهُ
فِعْلُهُ وَيَخَافُ أَنْ لَا يَفْعَلَ إظْهَارُ الْمَيْلِ
بِالْفِعْلِ فَأَمَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِالِاقْتِصَارِ
عَلَى الْوَاحِدَةِ إذَا خَافَ إظْهَارَ الْمَيْلِ وَالْجَوْرِ
وَمُجَانَبَةَ الْعَدْلِ وَقَوْلُهُ عَطْفًا عَلَى مَا
تَقَدَّمَ مِنْ إبَاحَةِ الْعَدَدِ الْمَذْكُورِ بِعَقْدِ
النِّكَاحِ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ يَقْتَضِي
حَقِيقَتَهُ وَظَاهِرُهُ إيجَابُ التَّخْيِيرِ بَيْنَ أَرْبَعِ
حَرَائِرَ وَأَرْبَعِ إمَاءَ بِعَقْدِ النِّكَاحِ فَيُوجِبُ
ذَلِكَ تَخْيِيرَهُ بَيْنَ تَزْوِيجِ الْحُرَّةِ وَالْأَمَةِ
وَذَلِكَ لِأَنَّ قوله تعالى أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ
كلام مُسْتَقِلٍّ بِنَفْسِهِ بَلْ هُوَ مُضَمَّنٌ بِمَا
قَبْلَهُ وَفِيهِ ضَمِيرٌ لَا يُسْتَغْنَى عَنْهُ وَضَمِيرُهُ
مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مُظْهَرًا فِي الْخِطَابِ وَغَيْرُ
جَائِزٍ لَنَا إضْمَارُ مَعْنًى لَمْ يَتَقَدَّمْ لَهُ ذِكْرٌ
إلَّا بِدَلَالَةٍ مِنْ غَيْرِهِ فَلَمْ يَجُزْ لَنَا أَنْ
نَجْعَلَ الضَّمِيرَ فِي قَوْله تَعَالَى أَوْ ما مَلَكَتْ
أَيْمانُكُمْ الْوَطْءَ فَيَكُونُ تَقْدِيرُهُ قَدْ أَبَحْت
لَكُمْ وَطْءَ مِلْكِ الْيَمِينِ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي
الْآيَةِ ذِكْرُ الْوَطْءِ وَإِنَّمَا الَّذِي فِي أَوَّلِ
الْآيَةِ ذِكْرُ الْعَقْدِ لِأَنَّ قَوْله تَعَالَى
فَانْكِحُوا مَا طابَ لَكُمْ لَا خِلَافَ أَنَّ الْمُرَادَ
بِهِ الْعَقْدُ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ قَوْله تَعَالَى أَوْ
مَا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ ضَمِيرَهُ أَوْ فَانْكِحُوا مَا
مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَذَلِكَ النِّكَاحُ هُوَ الْعَقْدُ
فَالضَّمِيرُ الرَّاجِعُ إلَيْهِ أَيْضًا هُوَ الْعَقْدُ دُونَ
الْوَطْءِ فَإِنْ قِيلَ لَمَّا صَلُحَ أَنْ يَكُونَ النِّكَاحُ
اسْمًا لِلْوَطْءِ ثُمَّ عَطَفَ عَلَيْهِ قَوْلَهُ أَوْ مَا
مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ صار كَقَوْلِهِ فَانْكِحُوا مَا
مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَيَكُونُ مَعْنَاهُ الْوَطْءَ فِي
هَذَا الْمَوْضِعِ وَإِنْ كَانَ مَعْنَاهُ الْعَقْدَ فِي
أَوَّلِ الْخِطَابِ قِيلَ لَهُ لَا يَجُوزُ هَذَا لِأَنَّهُ
إذَا كَانَ ضَمِيرُهُ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ بَدِيًّا فِي
أَوَّلِ الْخِطَابِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ بِعَيْنِهِ
وَمَعْنَاهُ الْمُرَادُ بِهِ ضَمِيرًا فِيهِ فَإِذَا كَانَ
النِّكَاحُ الْمَذْكُورُ هُوَ الْعَقْدُ فَكَأَنَّهُ قِيلَ
فَاعْقِدُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ فِيمَا طَابَ لَكُمْ فَإِذَا
أَضْمَرَهُ فِي مِلْكِ الْيَمِينِ كَانَ الضَّمِيرُ هُوَ
الْعَقْدُ إذْ لَمْ يَجُزْ لِلْوَطْءِ ذِكْرٌ مِنْ جِهَةِ
الْمَعْنَى وَلَا مِنْ طَرِيقِ اللفظ
(2/348)
فَامْتَنَعَ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ إضْمَارُ
الْوَطْءِ فِيهِ وَإِنْ كَانَ اسْمُ النِّكَاحِ قَدْ
يَتَنَاوَلُهُ وَمِنْ جِهَةٍ أُخْرَى أَنَّهُ لَمَّا لَمْ
يَكُنْ فِي الْآيَةِ ذِكْرُ النِّكَاحِ إلَّا مَا تَقَدَّمَ
فِي أَوَّلِهَا وَثَبَتَ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْعَقْدُ لَمْ
يَجُزْ أَنْ يَكُونَ ضَمِيرُ ذَلِكَ اللَّفْظِ بِعَيْنِهِ وطء
لِامْتِنَاعِ أَنْ يَكُونَ لَفْظٌ وَاحِدٌ مَجَازًا حَقِيقَةً
لِأَنَّ أَحَدَ الْمَعْنَيَيْنِ يَتَنَاوَلُهُ اللَّفْظُ
مَجَازًا وَالْآخَرُ حَقِيقَةً وَلَا يَجُوزُ أَنْ
يَنْتَظِمَهُمَا لَفْظٌ وَاحِدٌ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ
ضَمِيرُهُ عَقْدَ النِّكَاحِ الْمَذْكُورِ بَدِيًّا فِي
الْآيَةِ فَإِنْ قِيلَ الَّذِي يَدُلُّ عَلَى أَنَّ ضَمِيرَهُ
هُوَ الْوَطْءُ دُونَ الْعَقْدِ إضَافَتُهُ لِمِلْكِ
الْيَمِينِ إلَى الْمُخَاطَبِينَ وَمَعْلُومٌ اسْتِحَالَةُ
تَزَوُّجِهِ بِمِلْكِ يَمِينِهِ وَيَجُوزُ لَهُ وَطْءُ مِلْكِ
يَمِينِهِ فَعَلِمْنَا أَنَّ الْمُرَادَ الْوَطْءُ دُونَ
الْعَقْدِ قِيلَ لَهُ لَمَّا أَضَافَ مِلْكَ الْيَمِينِ إلَى
الْجَمَاعَةِ كَانَ الْمُرَادُ نِكَاحَ مِلْكِ يَمِينِ
الْغَيْرِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ
مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَناتِ الْمُؤْمِناتِ
فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ فَتَياتِكُمُ
الْمُؤْمِناتِ فَأَضَافَ عَقْدَ النِّكَاحِ عَلَى مِلْكِ
أَيْمَانِهِمْ إلَيْهِمْ والخطاب متوجه إلى كل واحد فِي
إبَاحَةِ
تَزْوِيجِ مِلْكِ غَيْرِهِ كَذَلِكَ قَوْله تعالى أَوْ ما
مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مَحْمُولٌ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى
فَلَيْسَ إذًا فِيمَا ذَكَرْت دَلِيلٌ عَلَى وُجُوبِ إضْمَارٍ
لَا ذِكْرَ لَهُ فِي الْخِطَابِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ
ضَمِيرُهُ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مُظْهَرًا وَهُوَ عَقْدُ
النِّكَاحِ وفيما وصفنا دَلِيلٌ عَلَى اقْتِضَاءِ الْآيَةِ
التَّخْيِيرَ بَيْنِ تَزَوُّجِ الْأَمَةِ وَالْحُرَّةِ لِمَنْ
يَسْتَطِيعُ أَنْ يَتَزَوَّجَ حُرَّةً لِأَنَّ التَّخْيِيرَ
لَا يَصِحُّ إلَّا فِيمَا يُمْكِنُهُ فِعْلُ كُلِّ وَاحِدٍ
مِنْهُمَا عَلَى حَالِهِ فَقَدْ حَوَتْ هَذِهِ الْآيَةُ
الدَّلَالَةَ مِنْ وَجْهَيْنِ عَلَى جَوَازِ تَزْوِيجِ
الْأَمَةِ مَعَ وُجُودِ الطَّوْلِ إلَى الْحُرَّةِ أَحَدُهُمَا
عُمُومُ قَوْله تَعَالَى فَانْكِحُوا مَا طابَ لَكُمْ مِنَ
النِّساءِ وَذَلِكَ شَامِلٌ لِلْحَرَائِرِ وَالْإِمَاءِ
لِوُقُوعِ اسْمِ النِّسَاءِ عَلَيْهِنَّ وَالثَّانِي قَوْله
تَعَالَى أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ وَذَلِكَ يَقْتَضِي
التَّخْيِيرَ بَيْنَهُنَّ وَبَيْنَ الْحَرَائِرِ فِي
التَّزْوِيجِ وَقَدْ قَدَّمْنَا دَلَالَةَ قَوْله تَعَالَى
وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ عَلَى ذَلِكَ
فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَيْضًا قَوْله
تَعَالَى وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَراءَ ذلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا
بِأَمْوالِكُمْ وَذَلِكَ عُمُومٌ شَامِلٌ لِلْحَرَائِرِ
وَالْإِمَاءِ وَغَيْرُ جَائِزٍ تَخْصِيصُهُ إلَّا بِدَلَالَةٍ
وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى ذلِكَ أَدْنى أَلَّا تَعُولُوا فإن
ابن عباس والحسن ومجاهد وَأَبَا رَزِينٍ وَالشَّعْبِيَّ
وَأَبَا مَالِكٍ وَإِسْمَاعِيلَ وَعِكْرِمَةَ وَقَتَادَةَ
قَالُوا يَعْنِي لَا تَمِيلُوا عَنْ الْحَقِّ وروى إسماعيل ابن
أَبِي خَالِدٍ عَنْ أَبِي مَالِكٍ الْغِفَارِيِّ ذَلِكَ
أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا أَنْ لَا تَمِيلُوا وَأَنْشَدَ
عِكْرِمَةُ شِعْرًا لِأَبِي طَالِبٍ:
بِمِيزَانِ صِدْقٍ لَا يَخِسُّ شَعِيرَةً ... وَوِزَانِ قِسْطٍ
وَزْنُهُ غَيْرُ عَائِلِ
(2/349)
وَآتُوا النِّسَاءَ
صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ
مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا (4)
قَالَ غَيْرُ مَائِلٍ قَالَ أَهْلُ
اللُّغَةِ أَصْلُ الْعَوْلِ الْمُجَاوَزَةُ لِلْحَدِّ
فَالْعَوْلُ فِي الْفَرِيضَةِ مُجَاوَزَةُ حَدِّ السِّهَامِ
الْمُسَمَّاةِ وَالْعَوْلُ الْمَيْلُ الَّذِي هُوَ خِلَافُ
الْعَدْلِ لِخُرُوجِهِ عَنْ حَدِّ الْعَدْلِ وَعَالَ يَعُولُ
إذَا جَارَ وَعَالَ يَعِيلُ إذَا تَبَخْتَرَ وَعَالَ يَعِيلُ
إذَا افْتَقَرَ حَكَى لَنَا ذَلِكَ أَبُو عُمَرَ غُلَامُ
ثَعْلَبٍ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ فِي قوله تعالى ذلِكَ أَدْنى
أَلَّا تَعُولُوا مَعْنَاهُ أَنْ لَا يَكْثُرَ مَنْ تَعُولُونَ
قَالَ وهذا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ عَلَى الرَّجُلِ نَفَقَةَ
امْرَأَتِهِ وَقَدْ خَطَّأَهُ النَّاسُ فِي ذَلِكَ مِنْ
ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ أَحَدُهَا أَنَّهُ لَا خِلَافَ بَيْنَ
السَّلَفِ وَكُلِّ مَنْ رُوِيَ عَنْهُ تَفْسِيرُ هَذِهِ
الْآيَةِ أَنَّ مَعْنَاهُ أَنْ لَا تَمِيلُوا وَأَنْ لَا
تَجُورُوا وَأَنَّ هَذَا الْمَيْلَ هُوَ خِلَافُ الْعَدْلِ
الَّذِي أَمَرَ اللَّهُ بِهِ مِنْ الْقَسْمِ بَيْنَ النساء
والثاني خطأوه فِي اللُّغَةِ لِأَنَّ أَهْلَ اللُّغَةِ لَا
يَخْتَلِفُونَ فِي أَنَّهُ لَا يُقَالُ فِي كَثْرَةِ
الْعِيَالِ عَالَ يَعُولُ ذَكَرَهُ الْمُبَرِّدُ وَغَيْرُهُ
مِنْ أَئِمَّةِ اللُّغَةِ وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ مَعْمَرُ
بْنُ الْمُثَنَّى أَنْ لَا تَعُولُوا قَالَ أَنْ لَا تَجُورُوا
يُقَالُ عِلْت عَلَيَّ أَيْ جُرْت وَالثَّالِثُ أَنَّ فِي
الْآيَةِ ذَكَرَ الْوَاحِدَةَ أَوْ مِلْكَ الْيَمِينِ
وَالْإِمَاءُ فِي الْعِيَالِ بِمَنْزِلَةِ النِّسَاءِ وَلَا
خِلَافَ أَنَّ لَهُ أَنْ يَجْمَعَ مِنْ الْعَدَدِ مَنْ شَاءَ
بِمِلْكِ الْيَمِينِ فَعَلِمْنَا أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ كَثْرَةَ
الْعِيَالِ وَأَنَّ الْمُرَادَ نَفْيُ الْجَوْرِ وَالْمَيْلِ
بِتَزَوُّجِ امْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ إذْ لَيْسَ مَعَهَا مَنْ
يلزمها القسم بينه وبينها لَا قَسْمَ لِلْإِمَاءِ بِمِلْكِ
الْيَمِينِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
بَابُ هِبَةِ الْمَرْأَةِ الْمَهْرَ لِزَوْجِهَا
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى وَآتُوا النِّساءَ صَدُقاتِهِنَّ
نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً
فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً رُوِيَ عَنْ قَتَادَةَ وَابْنِ
جُرَيْجٍ فِي قَوْله تعالى وَآتُوا النِّساءَ صَدُقاتِهِنَّ
نِحْلَةً قَالَا فَرِيضَةٌ كَأَنَّهُمَا ذَهَبَا إلَى نِحْلَةِ
الدَّيْنِ وَأَنَّ ذَلِكَ فُرِضَ فِيهِ وَرُوِيَ عَنْ أَبِي
صَالِحٍ فِي قَوْله تَعَالَى وَآتُوا النِّساءَ صَدُقاتِهِنَّ
نِحْلَةً قَالَ كَانَ الرَّجُلُ إذَا زَوَّجَ مُوَلِّيَتَهُ
أَخَذَ صَدَاقَهَا فَنُهُوا عَنْ ذَلِكَ فَجَعَلَهُ خِطَابًا
لِلْأَوْلِيَاءِ أَنْ لَا يَحْبِسُوا عَنْهُنَّ الْمُهُورَ
إذَا قَبَضُوهَا إلَّا أَنَّ مَعْنَى النِّحْلَةِ يَرْجِعُ
إلَى مَا ذَكَرَهُ قَتَادَةُ فِي أَنَّهَا فَرِيضَةٌ وَهَذَا
عَلَى مَعْنَى مَا ذَكَرَهُ اللَّهُ عَقِيبَ ذِكْرِ
الْمَوَارِيثِ فريضة من الله قَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ
إنَّمَا سُمِّيَ الْمَهْرُ نِحْلَةً وَالنِّحْلَةُ فِي
الْأَصْلِ الْعَطِيَّةُ وَالْهِبَةُ فِي بَعْضِ الْوُجُوهِ
لِأَنَّ الزَّوْجَ لَا يَمْلِكُ بَدَلَهُ شَيْئًا لِأَنَّ
الْبُضْعَ فِي مِلْكِ الْمَرْأَةِ بَعْدَ النكاح كهو قَبْلَهُ
أَلَا تَرَى أَنَّهَا لَوْ وُطِئَتْ بِشُبْهَةٍ كَانَ
الْمَهْرُ لَهَا دُونَ الزَّوْجِ فَإِنَّمَا سُمِّيَ الْمَهْرُ
نِحْلَةً لِأَنَّهُ لَمْ يَعْتَضْ مِنْ قِبَلِهَا عِوَضًا
يَمْلِكُهُ فَكَانَ فِي مَعْنَى النِّحْلَةِ الَّتِي لَيْسَ
بِإِزَائِهَا بَدَلٌ وَإِنَّمَا الَّذِي يَسْتَحِقُّهُ
الزَّوْجُ مِنْهَا بِعَقْدِ النِّكَاحِ هُوَ الِاسْتِبَاحَةُ
لَا الْمِلْكُ وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ مَعْمَرُ بْنُ
الْمُثَنَّى
(2/350)
في قوله تعالى نِحْلَةً يَعْنِي بِطِيبَةِ
أَنْفُسِكُمْ يَقُولُ لَا تُعْطُوهُنَّ مُهُورَهُنَّ وأنتم
كارهون ولكن آتوهم ذَلِكَ وَأَنْفُسُكُمْ بِهِ طَيِّبَةٌ
وَإِنْ كَانَ الْمَهْرُ لَهُنَّ دُونَكُمْ قَالَ أَبُو بَكْرٍ
فَجَائِزٌ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى أَنْ يَكُونَ إنَّمَا
سَمَّاهُ نِحْلَةً لِأَنَّ النِّحْلَةَ هِيَ الْعَطِيَّةُ
وَلَيْسَ يَكَادُ يَفْعَلُهَا النَّاحِلُ إلَّا مُتَبَرِّعًا
بِهَا طَيِّبَةً بِهَا نَفْسُهُ فَأُمِرُوا بِإِيتَاءِ
النِّسَاءِ مُهُورَهُنَّ بِطِيبَةٍ مِنْ أَنْفُسِهِمْ
كَالْعَطِيَّةِ الَّتِي يَفْعَلُهَا الْمُعْطِي بِطِيبَةٍ مِنْ
نَفْسِهِ وَيُحْتَجُّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى وَآتُوا النِّساءَ
صَدُقاتِهِنَّ نِحْلَةً فِي إيجَابِ كَمَالِ الْمَهْرِ
لِلْمَخْلُوِّ بِهَا لِاقْتِضَاءِ الظَّاهِرِ لَهُ وَأَمَّا
قَوْله تَعَالَى فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ
نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً فَإِنَّهُ يَعْنِي عَنْ
الْمَهْرِ لَمَّا أَمَرَهُمْ بِإِيتَائِهِنَّ صَدُقَاتِهِنَّ
عَقَّبَهُ بِذِكْرِ جَوَازِ قَبُولِ إبْرَائِهَا وَهِبَتِهَا
لَهُ لِئَلَّا يَظُنَّ أَنَّ عَلَيْهِ إيتَاءَهَا مَهْرَهَا
وَإِنْ طَابَتْ نَفْسُهَا بِتَرْكِهِ قَالَ قَتَادَةُ فِي
هَذِهِ الْآيَةِ مَا طَابَتْ بِهِ نَفْسُهَا مِنْ غيره كُرْهٍ
فَهُوَ حَلَالٌ وَقَالَ عَلْقَمَةُ لِامْرَأَتِهِ أَطْعِمِينِي
من الهنيء والمريء فَتَضَمَّنَتْ الْآيَةُ مَعَانِيَ مِنْهَا
أَنَّ الْمَهْرَ لَهَا وَهِيَ الْمُسْتَحَقَّةُ لَهُ لَا حَقَّ
لِلْوَلِيِّ فِيهِ وَمِنْهَا أَنَّ عَلَى الزَّوْجِ أَنْ
يُعْطِيَهَا بِطِيبَةٍ مِنْ نَفْسِهِ وَمِنْهَا جَوَازُ
هِبَتِهَا الْمَهْرَ لِلزَّوْجِ وَالْإِبَاحَةِ لِلزَّوْجِ فِي
أَخْذِهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً
ومنها تساوى قال قَبْضِهَا لِلْمَهْرِ وَتَرْكِ قَبْضِهَا فِي
جَوَازِ هِبَتِهَا لِلْمَهْرِ لِأَنَّ قَوْله تَعَالَى
فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً يَدُلُّ عَلَى الْمَعْنَيَيْنِ
وَيَدُلُّ أَيْضًا عَلَى جَوَازِ هبتها للمهر قبل القبض لأن
اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَهُمَا فَإِنْ قِيلَ
قوله تعالى فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً يَدُلُّ عَلَى أَنَّ
الْمُرَادَ فِيمَا تَعَيَّنَ مِنْ الْمَهْرِ إمَّا أَنْ
يَكُونَ عَرَضًا بِعَيْنِهِ فَقَبَضَتْهُ أَوْ لَمْ تَقْبِضْهُ
أَوْ دَرَاهِمَ قَدْ قَبَضَتْهَا فَأَمَّا دَيْنٌ فِي
الذِّمَّةِ فَلَا دَلَالَةَ فِي الْآيَةِ عَلَى جَوَازِ
هِبَتِهَا لَهُ إذْ لَا يُقَالُ لِمَا فِي الذِّمَّةِ كُلْهُ
هَنِيئًا مَرِيئًا قِيلَ لَهُ لَيْسَ الْمُرَادُ فِي ذَلِكَ
مَقْصُورًا عَلَى مَا يَتَأَتَّى فِيهِ الْأَكْلُ دُونَ مَا
لَا يَتَأَتَّى لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَوَجَبَ أَنْ
يَكُونَ خَاصًّا فِي الْمَهْرِ إذَا كَانَ شَيْئًا مَأْكُولًا
وَقَدْ عُقِلَ مِنْ مَفْهُومِ الْخِطَابِ أَنَّهُ غَيْرُ
مَقْصُورٍ عَلَى الْمَأْكُولِ مِنْهُ دُونَ غَيْرِهِ لِأَنَّ
قَوْله تَعَالَى وَآتُوا النِّساءَ صَدُقاتِهِنَّ نِحْلَةً عام
في المهور كلها سَوَاءٌ كَانَتْ مِنْ جِنْسِ الْمَأْكُولِ أَوْ
مِنْ غيره وقوله تعالى فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً شَامِلٌ
لِجَمِيعِ الصَّدَقَاتِ الْمَأْمُورِ بِإِيتَائِهَا فَدَلَّ
أَنَّهُ لَا اعْتِبَارَ بِلَفْظِ الْأَكْلِ فِي ذَلِكَ وَأَنَّ
الْمَقْصِدَ فِيهِ جَوَازُ اسْتِبَاحَتِهِ بِطِيبَةٍ مِنْ
نَفْسِهَا وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى إِنَّ الَّذِينَ
يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً وَقَالَ تَعَالَى وَلا
تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ وهو عموم
النَّهْيِ عَنْ سَائِرِ وُجُوهِ التَّصَرُّفِ فِي مَالِ
الْيَتِيمِ مِنْ الدُّيُونِ وَالْأَعْيَانِ الْمَأْكُولِ
وَغَيْرِ الْمَأْكُولِ وَشَامِلٌ لِلنَّهْيِ فِي أَخْذِ
أَمْوَالِ النَّاسِ إلَّا على وجه
(2/351)
التِّجَارَةِ عَنْ تَرَاضٍ وَلَيْسَ
الْمَأْكُولُ بِأَوْلَى بِمَعْنَى الْآيَةِ مِنْ غَيْرِهِ
وَإِنَّمَا خُصَّ الْأَكْلُ بِالذِّكْرِ لِأَنَّهُ مُعْظَمُ
مَا يُبْتَغَى لَهُ الْأَمْوَالُ إذْ بِهِ قِوَامُ بَدَنِ
الْإِنْسَانِ وَفِي ذِكْرِهِ لِلْأَكْلِ دَلَالَةٌ عَلَى مَا
دُونَهُ وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ
مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللَّهِ
وَذَرُوا الْبَيْعَ فَخُصَّ الْبَيْعُ بِالذِّكْرِ وَإِنْ
كَانَ مَا عَدَاهُ مِنْ سَائِرِ مَا يَشْغَلُهُ عَنْ
الصَّلَاةِ بِمَثَابَتِهِ فِي النَّهْيِ لِأَنَّ الِاشْتِغَالَ
بِالْبَيْعِ مِنْ أَعْظَمِ أُمُورِهِمْ فِي السَّعْيِ فِي
طَلَبِ مَعَايِشِهِمْ فَعُقِلَ مِنْ ذَلِكَ إرَادَةُ مَا هُوَ
دُونَهُ وَأَنَّهُ أَوْلَى بِالنَّهْيِ إذْ قَدْ نَهَاهُمْ
عَمَّا هُمْ إلَيْهِ
أَحْوَجُ وَالْحَاجَةُ إلَيْهِ أَشَدُّ وَكَمَا قَالَ تَعَالَى
حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ
الْخِنْزِيرِ فَخُصَّ اللَّحْمُ بِذِكْرِ التَّحْرِيمِ
وَسَائِرُ أَجْزَائِهِ مِثْلُهُ دونه لِأَنَّهُ مُعْظَمُ مَا
يُرَادُ مِنْهُ وَيُنْتَفَعُ بِهِ فَكَانَ فِي تَحْرِيمِهِ
أَعْظَمُ مَنَافِعِهِ دَلَالَةً عَلَى مَا دُونَهُ فَكَذَلِكَ
قَوْله تَعَالَى فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً قَدْ اقْتَضَى
جَوَازَ هِبَتِهَا لِلْمَهْرِ مِنْ أَيِّ جِنْسٍ كَانَ عَيْنًا
أَوْ دَيْنًا قَبَضَتْهُ أَوْ لَمْ تَقْبِضْهُ وَمِنْ جِهَةٍ
أُخْرَى أَنَّهُ إذَا جَازَتْ هِبَتُهَا لِلْمَهْرِ إذَا كَانَ
مَقْبُوضًا مُعَيَّنًا فَكَذَلِكَ حُكْمُهُ إذَا كَانَ دَيْنًا
لِأَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ جَوَازُ تَصَرُّفِهَا فِي مَالِهَا
فَلَا يَخْتَلِفُ حُكْمُ الْعَيْنِ وَالدَّيْنِ فِيهِ
وَلِأَنَّ أَحَدًا لَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَهُمَا وَقَدْ دَلَّتْ
هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى جَوَازِ هِبَةِ الدَّيْنِ
وَالْبَرَاءَةِ مِنْهُ كَمَا جَازَتْ هِبَةُ الْمَرْأَةِ
لِلْمَهْرِ وَهُوَ دَيْنٌ وَيَدُلُّ أَيْضًا عَلَى أَنَّ مَنْ
وَهَبَ لِإِنْسَانٍ دَيْنًا لَهُ عَلَيْهِ أَنَّ الْبَرَاءَةَ
قَدْ وَقَعَتْ بِنَفْسِ الْهِبَةِ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى
قَدْ حَكَمَ بِصِحَّتِهِ وَأَسْقَطَهُ عَنْ ذِمَّتِهِ
وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَنْ وَهَبَ لِإِنْسَانٍ مَالًا
فَقَبَضَهُ وَتَصَرَّفَ فِيهِ أَنَّهُ جَائِزٌ لَهُ ذَلِكَ
وَإِنْ لَمْ يَقُلْ بِلِسَانِهِ قَدْ قَبِلْت لِأَنَّ اللَّهَ
تَعَالَى قَدْ أَبَاحَ لَهُ أكل ما وهبته مِنْ غَيْرِ شَرْطِ
الْقَبُولِ بَلْ يَكُونُ التَّصَرُّفُ فِيهِ بِحَضْرَتِهِ
حِينَ وَهَبَهُ قَبُولًا وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا لَوْ
قَالَتْ قَدْ طِبْت لَك نَفْسًا عَنْ مَهْرِي وَأَرَادَتْ
الْهِبَةَ وَالْبَرَاءَةَ أَنَّ ذَلِكَ جَائِزٌ لِقَوْلِهِ
تَعَالَى فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً
فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً وَقَدْ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ
فِي هِبَةِ الْمَرْأَةِ مَهْرَهَا لِزَوْجِهَا فَقَالَ أَبُو
حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ وَزُفَرُ وَالْحَسَنُ
بْنُ زِيَادٍ وَالشَّافِعِيُّ إذَا بَلَغَتْ الْمَرْأَةُ
وَاجْتَمَعَ لَهَا عَقْلُهَا جَازَ لَهَا التَّصَرُّفُ فِي
مَالِهَا بِالْهِبَةِ أَوْ غَيْرِهَا بِكْرًا كَانَتْ أَوْ
ثَيِّبًا وَقَالَ مَالِكٌ لَا يَجُوزُ أَمْرُ الْبِكْرِ فِي
مَالِهَا وَلَا مَا وَضَعَتْ عَنْ زَوْجِهَا مِنْ الصَّدَاقِ
وَإِنَّمَا ذَلِكَ إلَى أَبِيهَا فِي الْعَفْوِ عَنْ زَوْجِهَا
وَلَا يَجُوزُ لِغَيْرِ الْأَبِ مِنْ أَوْلِيَائِهَا ذَلِكَ
قَالَ وَبَيْعُ الْمَرْأَةِ ذَاتِ الزَّوْجِ دَارَهَا
وَخَادِمَهَا جَائِزٌ وَإِنْ كَرِهَ الزَّوْجُ إذَا أَصَابَتْ
وَجْهَ الْبَيْعِ فَإِنْ كَانَتْ فِيهِ مُحَابَاةٌ كَانَ مِنْ
ثُلُثِ مَالِهَا وَإِنْ تَصَدَّقَتْ أَوْ وَهَبَتْ أَكْثَرَ
مِنْ الثُّلُثِ لَمْ يَجُزْ مِنْ ذَلِكَ قَلِيلٌ وَلَا كَثِيرٌ
قَالَ مَالِكٌ وَالْمَرْأَةُ الْأَيِّمُ
(2/352)
وَلَا تُؤْتُوا
السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ
قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ
قَوْلًا مَعْرُوفًا (5)
إذَا لَمْ يَكُنْ لَهَا زَوْجٌ فِي
مَالِهَا كَالرَّجُلِ فِي مَالِهِ سَوَاءٌ وَقَالَ
الْأَوْزَاعِيُّ لَا تَجُوزُ عَطِيَّةُ الْمَرْأَةِ حَتَّى
تَلِدَ وَتَكُونَ فِي بَيْتِ زَوْجِهَا سَنَةً وَقَالَ
اللَّيْثُ لَا يَجُوزُ عِتْقُ الْمَرْأَةِ ذَاتِ الزَّوْجِ
وَلَا صَدَقَتُهَا إلَّا فِي الشَّيْءِ الْيَسِيرِ الَّذِي لَا
بُدَّ لَهَا منه لصلة رحم أو غيره ذَلِكَ مِمَّا يُتَقَرَّبُ
بِهِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى قَالَ أَبُو بَكْرٍ الْآيَةُ
قَاضِيَةٌ بِفَسَادِ هَذِهِ الْأَقْوَالِ شَاهِدَةٌ بِصِحَّةِ
قَوْلِ أَصْحَابِنَا الَّذِي قَدَّمْنَا لِقَوْلِهِ عَزَّ
وَجَلَّ فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً
فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً وَلَمْ يُفَرِّقْ فِيهِ بَيْنَ
الْبِكْرِ وَالثَّيِّبِ وَلَا بَيْنَ مَنْ أَقَامَتْ فِي
بَيْتِ زَوْجِهَا سَنَةً أَوْ لَمْ تُقِمْ وَغَيْرُ جَائِزٍ
الْفَرْقُ بَيْنَ الْبِكْرِ وَالثَّيِّبِ فِي ذَلِكَ إلَّا
بِدَلَالَةٍ تَدُلُّ عَلَى خُصُوصِ حُكْمِ الْآيَةِ فِي
الثَّيِّبِ دُونَ الْبِكْرِ وَأَجَازَ مَالِكٌ هِبَةَ الْأَبِ
وَاَللَّهُ تَعَالَى أَمَرَنَا بِإِعْطَائِهَا جَمِيعَ
الصَّدَاقِ إلَّا أَنْ تَهَبْ هِيَ شَيْئًا مِنْهُ لَهُ
فَالْآيَةُ قَاضِيَةٌ بِبُطْلَانِ هِبَةِ الْأَبِ لِأَنَّهُ
مَأْمُورٌ بِإِيتَاءِ جَمِيعِ الصَّدَاقِ إلَّا أَنْ تَطِيبَ
نَفْسُهَا بِتَرْكِهِ وَلَمْ يَشْرُطْ اللَّهُ تَعَالَى
طِيبَةَ نَفْسِ الْأَبِ فَمَنَعَ مَا أَبَاحَهُ اللَّهُ لَهُ
بِطِيبَةِ نَفْسِهَا مِنْ مَهْرِهَا وَأَجَازَ مَا حَظَرَهُ
اللَّهُ تَعَالَى مِنْ مَنْعِ شَيْءٍ مِنْ مَهْرِهَا إلَّا
بِطِيبَةِ نَفْسِهَا بِهِبَةِ الأب وهذا الاعتراض عَلَى
الْآيَةِ مِنْ وَجْهَيْنِ بِغَيْرِ دَلَالَةٍ أَحَدُهُمَا
مَنْعُهَا الْهِبَةَ مَعَ اقْتِضَاءِ ظَاهِرِ الْآيَةِ
لِجَوَازِهَا وَالثَّانِي جَوَازُ هِبَةِ الْأَبِ مَعَ أَمْرِ
اللَّهِ الزَّوْجَ بِإِعْطَائِهَا الْجَمِيعَ إلَّا أَنْ
تَطِيبَ نَفْسًا بِتَرْكِهِ وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ قَوْله
تَعَالَى وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا
آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً إِلَّا أَنْ يَخافا أَلَّا يُقِيما
حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيما حُدُودَ
اللَّهِ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ
فَمُنِعَ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهَا شَيْئًا مِمَّا أَعْطَاهَا
إلَّا بِرِضَاهَا بِالْفِدْيَةِ فَقَدْ شَرَطَ رِضَا
الْمَرْأَةِ وَلَمْ يُفَرِّقْ مَعَ ذَلِكَ بَيْنَ الْبِكْرِ
وَالثَّيِّبِ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ
حَدِيثُ زَيْنَبَ امْرَأَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ
أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ
لِلنِّسَاءِ تَصَدَّقْنَ وَلَوْ مِنْ حُلِيِّكُنَّ
وَفِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ يَوْمَ الْفِطْرِ فَصَلَّى ثُمَّ
خَطَبَ ثُمَّ أَتَى النِّسَاءَ فَأَمَرَهُنَّ أَنْ
يَتَصَدَّقْنَ وَلَمْ يُفَرِّقْ فِي شَيْءٍ مِنْهُ بَيْنَ
الْبِكْرِ وَالثَّيِّبِ
وَلِأَنَّ هَذَا حَجْرٌ وَلَا يَصِحُّ الْحَجْرُ عَلَى مَنْ
هَذِهِ صِفَتُهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
بَابُ دَفْعِ الْمَالِ إلَى السُّفَهَاءِ
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ
أَمْوالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِياماً قَالَ
أَبُو بَكْرٍ قَدْ اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي تَأْوِيلِ
هَذِهِ الْآيَةِ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ لَا يَقْسِمُ
الرَّجُلُ مَالَهُ عَلَى أَوْلَادِهِ فَيَصِيرَ عِيَالًا
عَلَيْهِمْ بَعْدَ إذْ هُمْ عِيَالٌ لَهُ وَالْمَرْأَةُ مِنْ
أَسْفَهِ السُّفَهَاءِ فَتَأَوَّلَ ابْنُ عَبَّاسٍ الآية «23-
أحكام في»
(2/353)
عَلَى ظَاهِرِهَا وَمُقْتَضَى حَقِيقَتِهَا
لِأَنَّ قَوْله تَعَالَى أَمْوالَكُمُ يَقْتَضِي خِطَابَ كُلِّ
وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِالنَّهْيِ عَنْ دَفْعِ مَالِهِ إلَى
السُّفَهَاءِ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ تَضْيِيعِهِ لِعَجْزِ
هَؤُلَاءِ عَنْ الْقِيَامِ بِحِفْظِهِ وَتَثْمِيرِهِ وَهُوَ
يَعْنِي بِهِ الصِّبْيَانَ وَالنِّسَاءَ الَّذِينَ لَا
يُكْمِلُونَ لِحِفْظِ الْمَالِ وَيَدُلُّ ذَلِكَ أَيْضًا عَلَى
أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُوَكِّلَ في حياته بمال
وَيَجْعَلَهُ فِي يَدِ مَنْ هَذِهِ صِفَتُهُ وَأَنْ لَا
يُوصِيَ بِهِ إلَى أَمْثَالِهِمْ وَيَدُلُّ أَيْضًا على
وَرَثَتَهُ إذَا كَانُوا صِغَارًا أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي أَنْ
يُوصِيَ بِمَالِهِ إلَّا إلَى أَمِينٍ مُضْطَلِعٍ بِحِفْظِهِ
عَلَيْهِمْ وَفِيهِ الدَّلَالَةُ عَلَى النَّهْيِ عَنْ
تَضْيِيعِ الْمَالِ وَوُجُوبِ حِفْظِهِ وَتَدْبِيرِهِ
وَالْقِيَامِ بِهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ
لَكُمْ قِياماً فَأَخْبَرَ أَنَّهُ جَعَلَ قِوَامَ
أَجْسَادِنَا بِالْمَالِ فَمَنْ رَزَقَهُ اللَّهُ مِنْهُ
شَيْئًا فَعَلَيْهِ إخْرَاجُ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى مِنْهُ
ثُمَّ حِفْظُ مَا بَقِيَ وَتَجَنُّبِ تَضْيِيعِهِ وَفِي ذَلِكَ
تَرْغِيبٌ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى لِعِبَادِهِ فِي إصْلَاحِ
الْمَعَاشِ وَحُسْنِ التَّدْبِيرِ وَقَدْ ذَكَرَ اللَّهُ
تَعَالَى ذَلِكَ فِي مَوَاضِعَ مِنْ كِتَابِهِ الْعَزِيزِ
مِنْهُ قَوْله تَعَالَى وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً إِنَّ
الْمُبَذِّرِينَ كانُوا إِخْوانَ الشَّياطِينِ وقَوْله
تَعَالَى وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَلا
تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً
وقَوْله تَعَالَى وَالَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا
وَلَمْ يَقْتُرُوا وما أمر الله بِهِ مِنْ حِفْظِ الْأَمْوَالِ
وَتَحْصِينِ الدُّيُونِ بِالشَّهَادَاتِ وَالْكِتَابِ
وَالرَّهْنِ عَلَى مَا بَيَّنَّا فِيمَا سَلَفَ وَقَدْ قِيلَ
فِي قَوْله تَعَالَى الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِياماً
يَعْنِي أَنَّهُ جَعَلَكُمْ قَوَامًا عَلَيْهَا فَلَا
تَجْعَلُوهَا فِي يَدِ مَنْ يُضَيِّعُهَا وَالْوَجْهُ
الثَّانِي مِنْ التأويل ما روى سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ أَنَّهُ
أَرَادَ لَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَهُمْ وَإِنَّمَا
أَضَافَهَا إلَيْهِمْ كَمَا قَالَ الله تعالى وَلا تَقْتُلُوا
أَنْفُسَكُمْ يَعْنِي لَا يَقْتُلْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا وقَوْله
تَعَالَى فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ وقَوْله تَعَالَى فَإِذا
دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ يُرِيدُ
مَنْ يَكُونُ فِيهَا وَعَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ يَكُونُ
السُّفَهَاءُ مَحْجُورًا عَلَيْهِمْ فَيَكُونُونَ مَمْنُوعِينَ
مِنْ أَمْوَالِهِمْ إلَى أَنْ يَزُولَ السَّفَهُ وَقَدْ
اُخْتُلِفَ في معنى السفهاء هاهنا فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ
السَّفِيهُ مِنْ وَلَدِك وَعِيَالِك وَقَالَ الْمَرْأَةُ مِنْ
أَسْفَهِ السُّفَهَاءِ وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ
وَالْحَسَنُ وَالسُّدِّيُّ وَالضَّحَّاكُ وَقَتَادَةُ
النِّسَاءُ وَالصِّبْيَانُ وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ
كُلُّ مَنْ يَسْتَحِقُّ صِفَةَ سَفِيهٍ فِي الْمَالِ مِنْ
مَحْجُورٍ عَلَيْهِ وَغَيْرِهِ وَرَوَى الشَّعْبِيُّ عَنْ
أَبِي بُرْدَةَ عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ قَالَ
ثَلَاثَةٌ يَدْعُونَ الله فلا يُسْتَجَابُ لَهُمْ رَجُلٌ
كَانَتْ لَهُ امْرَأَةٌ سَيِّئَةُ الْخُلُقِ فَلَمْ
يُطَلِّقْهَا وَرَجُلٌ أَعْطَى مَالَهُ سَفِيهًا وَقَدْ قَالَ
اللَّهُ تَعَالَى وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ
وَرَجُلٌ دَايَنَ رَجُلًا فَلَمْ يُشْهِدْ عَلَيْهِ وَرُوِيَ
عَنْ مُجَاهِدٍ أَنَّ السُّفَهَاءَ النِّسَاءُ وَقِيلَ إنَّ
أصل السفه
(2/354)
خِفَّةُ الْحِلْمِ وَلِذَلِكَ سُمِّيَ
الْفَاسِقُ سَفِيهًا لِأَنَّهُ لَا وَزْنَ لَهُ عِنْدَ أَهْلِ
الدِّينِ وَالْعِلْمِ وَيُسَمَّى النَّاقِصُ الْعَقْلِ
سَفِيهًا لِخِفَّةِ عَقْلِهِ وَلَيْسَ السَّفَهُ فِي هَؤُلَاءِ
صِفَةَ ذَمٍّ وَلَا يُفِيدُ مَعْنَى الْعِصْيَانِ لِلَّهِ
تَعَالَى وَإِنَّمَا سُمُّوا سُفَهَاءَ لخفة عقولهم ونقصان
تميزهم عَنْ الْقِيَامِ بِحِفْظِ الْمَالِ فَإِنْ قِيلَ لَا
خِلَافَ أَنَّهُ جَائِزٌ أَنْ نَهَبَ النِّسَاءَ
وَالصِّبْيَانَ الْمَالَ وَقَدْ أَرَادَ بَشِيرٌ أَنْ يَهَبَ
لِابْنِهِ النُّعْمَانِ فَلَمْ يَمْنَعْهُ النَّبِيُّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْهُ إلَّا لِأَنَّهُ لَمْ
يُعْطِ سَائِرَ بَنِيهِ مِثْلَهُ فَكَيْفَ يَجُوزُ حَمْلُ
الْآيَةِ عَلَى مَنْعِ إعْطَاءِ السُّفَهَاءِ أَمْوَالَنَا
قِيلَ لَهُ لَيْسَ الْمَعْنَى فِيهِ التَّمْلِيكَ وَهِبَةَ
الْمَالِ وَإِنَّمَا الْمَعْنَى فِيهِ أَنْ نَجْعَلَ
الْأَمْوَالَ فِي أَيْدِيهِمْ وَهُمْ غَيْرُ مُضْطَلِعِينَ
بِحِفْظِهَا وَجَائِزٌ لِلْإِنْسَانِ أَنْ يَهَبَ الصَّغِيرَ
وَالْمَرْأَةَ كَمَا يَهَبُ الْكَبِيرَ الْعَاقِلَ وَلَكِنَّهُ
يَقْبِضُهُ لَهُ مَنْ يَلِي عَلَيْهِ وَيَحْفَظُ مَالَهُ وَلَا
يُضَيِّعُهُ وَإِنَّمَا مَنَعَنَا اللَّهُ تَعَالَى بِالْآيَةِ
أَنْ نَجْعَلَ أَمْوَالَنَا فِي أَيْدِي الصِّغَارِ
وَالنِّسَاءِ اللاتي لَا يَكْمُلْنَ بِحِفْظِهَا
وَتَدْبِيرِهَا وَقَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ وَارْزُقُوهُمْ فِيها
وَاكْسُوهُمْ يَعْنِي وَارْزُقُوهُمْ مِنْ هَذِهِ الْأَمْوَالِ
لِأَنَّ فِي هاهنا بِمَعْنَى مِنْ إذْ كَانَتْ حُرُوفُ
الصِّفَاتِ تَتَعَاقَبُ فيقام بَعْضُهَا مَقَامَ بَعْضٍ كَمَا
قَالَ تَعَالَى وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى
أَمْوالِكُمْ وَهُوَ بِمَعْنَى مَعَ فَنَهَانَا اللَّهُ عَنْ
دَفْعِ الْأَمْوَالِ إلَى السُّفَهَاءِ الَّذِينَ لَا
يَقُومُونَ بِحِفْظِهَا وأمرنا
بأن نرزقهم منها ونكسوهم فإن قيل كَانَ مُرَادُ الْآيَةِ
النَّهْيَ عَنْ إعْطَائِهِمْ مَالَنَا عَلَى مَا اقْتَضَى
ظَاهِرُهَا فَفِي ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى وُجُوبِ نَفَقَةِ
الْأَوْلَادِ السُّفَهَاءِ وَالزَّوْجَاتِ لِأَمْرِهِ إيَّانَا
بِالْإِنْفَاقِ عَلَيْهِمْ مِنْ أَمْوَالِنَا وَإِنْ كَانَ
تَأْوِيلُهَا مَا ذَهَبَ إلَيْهِ الْقَائِلُونَ بِأَنَّ
مُرَادَهَا أَنْ لَا نُعْطِيَهُمْ أَمْوَالَهُمْ وَهُمْ
سُفَهَاءُ فَإِنَّمَا فِيهِ الْأَمْرُ بِالْإِنْفَاقِ
عَلَيْهِمْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى
الْحَجْرِ مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا مَنْعُهُمْ مِنْ
أَمْوَالِهِمْ وَالثَّانِي إجَازَتُهُ تَصَرُّفَنَا عَلَيْهِمْ
فِي الْإِنْفَاقِ عَلَيْهِمْ وَشِرَى أَقْوَاتِهِمْ
وَكِسْوَتِهِمْ وقَوْله تَعَالَى وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا
مَعْرُوفاً قال مجاهد وابن جريج قولا معروفا عِدَةً جَمِيلَةً
بِالْبِرِّ وَالصِّلَةِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يَجُوزُ
وَيَحْسُنُ وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدَ بِهِ إجْمَالَ
الْمُخَاطَبَةِ لَهُمْ وَإِلَانَةَ الْقَوْلِ فِيمَا
يُخَاطَبُونَ بِهِ كقوله تعالى فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا
تَقْهَرْ وَكَقَوْلِهِ وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ
ابْتِغاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوها فَقُلْ لَهُمْ
قَوْلًا مَيْسُوراً وَقَدْ قِيلَ إنَّهُ جَائِزٌ أَنْ يَكُونَ
الْقَوْلُ المعروف هاهنا التَّأْدِيبَ وَالتَّنْبِيهَ عَلَى
الرُّشْدِ وَالصَّلَاحِ وَالْهِدَايَةِ لِلْأَخْلَاقِ
الْحَسَنَةِ وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدَ بِهِ إذَا
أَعْطَيْتُمُوهُمْ الرزق والكسوة من أموالكم أن تجعلوا لَهُمْ
الْقَوْلَ وَلَا تُؤْذُوهُمْ بِالتَّذَمُّرِ عَلَيْهِمْ
وَالِاسْتِخْفَافِ بِهِمْ كَمَا قَالَ تَعَالَى وَإِذا حَضَرَ
الْقِسْمَةَ أُولُوا الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينُ
فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا
(2/355)
وَابْتَلُوا
الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ
آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ
أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَنْ
يَكْبَرُوا وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ
كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذَا
دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ
وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا (6)
مَعْرُوفاً
يَعْنِي وَاَللَّهُ أَعْلَمُ إجْمَالَ اللَّفْظِ وَتَرْكَ
التَّذَمُّرِ وَالِامْتِنَانِ وَكَمَا قَالَ تَعَالَى لا
تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذى وَجَائِزٌ أَنْ
تَكُونَ هَذِهِ الْمَعَانِي كُلُّهَا مُرَادَةً بقوله تعالى
وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفاً وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
بَابُ دَفْعِ الْمَالِ إلَى الْيَتِيمِ
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى وَابْتَلُوا الْيَتامى حَتَّى إِذا
بَلَغُوا النِّكاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً
فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ قَالَ الْحَسَنُ
وَمُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ وَالسُّدِّيُّ يَعْنِي اخْتَبِرُوهُمْ
فِي عُقُولِهِمْ وَدِينِهِمْ قَالَ أَبُو بَكْرٍ أَمَرَنَا
بِاخْتِبَارِهِمْ قَبْلَ الْبُلُوغِ لِأَنَّهُ قَالَ
وَابْتَلُوا الْيَتامى حَتَّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ فأمر
بابتلائهم في حال كونهم يتامى ثم قال حَتَّى إِذا بَلَغُوا
النِّكاحَ فَأَخْبَرَ أَنَّ بُلُوغَ النِّكَاحِ بَعْدَ
الِابْتِلَاءِ لِأَنَّ حَتَّى غَايَةٌ مَذْكُورَةٌ بَعْدَ
الِابْتِلَاءِ فَدَلَّتْ الْآيَةُ مِنْ وَجْهَيْنِ عَلَى أَنَّ
هَذَا الِابْتِلَاءَ قَبْلَ الْبُلُوغِ وَفِي ذَلِكَ دَلِيلٌ
عَلَى جَوَازِ الْإِذْنِ للصغير الذي يعقل في التجارة لأن
ابتلاءه لَا يَكُونُ إلَّا بِاسْتِبْرَاءِ حَالِهِ فِي
الْعِلْمِ بِالتَّصَرُّفِ وَحِفْظِ الْمَالِ وَمَتَى أُمِرَ
بِذَلِكَ كَانَ مَأْذُونًا فِي التِّجَارَةِ وَقَدْ اخْتَلَفَ
الْفُقَهَاءُ فِي إذْنِ الصَّبِيِّ فِي التِّجَارَةِ فَقَالَ
أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ وَزُفَرُ
وَالْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ وَالْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ جَائِزٌ
لِلْأَبِ أَنْ يَأْذَنَ لِابْنِهِ الصَّغِيرِ فِي التِّجَارَةِ
إذَا كَانَ يَعْقِلُ الشِّرَى وَالْبَيْعَ وَكَذَلِكَ وَصِيُّ
الْأَبِ أَوْ الْجَدِّ إذَا لَمْ يَكُنْ وَصِيُّ أَبٍ
وَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ الْعَبْدِ الْمَأْذُونِ لَهُ وَقَالَ
ابْنُ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ لَا أَرَى إذْنَ الْأَبِ
وَالْوَصِيَّ لِلصَّبِيِّ فِي التِّجَارَةِ جَائِزًا وَإِنْ
لَحِقَهُ فِي ذَلِكَ دَيْنٌ لَمْ يَلْزَمْ الصَّبِيَّ مِنْهُ
شَيْءٌ وَقَالَ الرَّبِيعُ عَنْ الشَّافِعِيِّ فِي كِتَابِهِ
فِي الْإِقْرَارِ وَمَا أَقَرَّ بِهِ الصَّبِيُّ مِنْ حَقِّ
اللَّهِ تَعَالَى أَوْ الْآدَمِيِّ أَوْ حَقٍّ فِي مَالٍ أَوْ
غَيْرِهِ فَإِقْرَارُهُ سَاقِطٌ عَنْهُ سَوَاءٌ كَانَ
الصَّبِيُّ مَأْذُونًا لَهُ فِي التِّجَارَةِ أَذِنَ لَهُ
أَبُوهُ أَوْ وَلِيُّهُ مَنْ كَانَ أَوْ حَاكِمٌ وَلَا يَجُوزُ
لِلْحَاكِمِ أَنْ يَأْذَنَ لَهُ فَإِنْ فَعَلَ فَإِقْرَارُهُ
سَاقِطٌ عَنْهُ وَكَذَلِكَ شِرَاؤُهُ وَبَيْعُهُ مَفْسُوخٌ
قَالَ أَبُو بَكْرٍ ظَاهِرُ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ
الْإِذْنِ لَهُ فِي التِّجَارَةِ لِقَوْلِهِ تعالى وَابْتَلُوا
الْيَتامى والابتلاء هو اختبارهم في عقولهم ومذاهبهم وحرمهم
فِيمَا يَتَصَرَّفُونَ فِيهِ فَهُوَ عَامٌّ فِي سَائِرِ هَذِهِ
الْوُجُوهِ وَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَقْتَصِرَ بِالِاخْتِبَارِ
عَلَى وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ فِيمَا يَحْتَمِلُهُ اللَّفْظُ
وَالِاخْتِبَارُ فِي اسْتِبْرَاءِ حَالِهِ فِي الْمَعْرِفَةِ
بِالْبَيْعِ والشرى وضبط أموره وحظ ماله ولا يَكُونُ إلَّا
بِإِذْنٍ لَهُ فِي التِّجَارَةِ وَمَنْ قَصَرَ الِابْتِلَاءَ
عَلَى اخْتِبَارِ عَقْلِهِ بِالْكَلَامِ دُونَ التَّصَرُّفِ
فِي التِّجَارَةِ وَحِفْظِ الْمَالِ فَقَدْ خَصَّ عُمُومَ
اللَّفْظِ بِغَيْرِ دَلَالَةٍ فَإِنْ قِيلَ
(2/356)
الَّذِي يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ
الْإِذْنَ لَهُ فِي التَّصَرُّفِ فِي حَالِ الصِّغَرِ قَوْله
تَعَالَى فِي نَسَقِ التِّلَاوَةِ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ
رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ وَإِنَّمَا
أَمَرَ بِدَفْعِ الْمَالِ إلَيْهِمْ بَعْدَ الْبُلُوغِ
وَإِينَاسِ الرُّشْدِ وَلَوْ جَازَ الْإِذْنُ لَهُ فِي
التِّجَارَةِ فِي صِغَرِهِ لَجَازَ دَفْعُ الْمَالِ إلَيْهِ
فِي حَالِ الصِّغَرِ وَاَللَّهُ تَعَالَى إنَّمَا أَمَرَ
بِدَفْعِ الْمَالِ إلَيْهِ بَعْدَ الْبُلُوغِ وَإِينَاسِ
الرُّشْدِ قِيلَ لَهُ لَيْسَ الْإِذْنُ لَهُ فِي التِّجَارَةِ
مِنْ دَفْعِ الْمَالِ إلَيْهِ فِي شَيْءٍ لِأَنَّ الْإِذْنَ
هُوَ أَنْ يَأْمُرَهُ بِالْبَيْعِ وَالشِّرَى وَذَلِكَ
مُمْكِنٌ بِغَيْرِ مَالٍ فِي يَدِهِ كَمَا يَأْذَنُ لِلْعَبْدِ
فِي التِّجَارَةِ مِنْ غَيْرِ مَالٍ يَدْفَعُهُ إلَيْهِ
فَنَقُولُ إنَّ الْآيَةَ اقْتَضَتْ الْأَمْرَ بِابْتِلَائِهِ
وَمِنْ الِابْتِلَاءِ الْإِذْنُ لَهُ فِي التِّجَارَةِ وَإِنْ
لَمْ يَدْفَعْ إلَيْهِ مَالًا ثُمَّ إذَا بَلَغَ وَقَدْ
أُونِسَ مِنْهُ رُشْدُهُ دُفِعَ الْمَالُ إلَيْهِ وَلَوْ كَانَ
الِابْتِلَاءُ لَا يَقْتَضِي اخْتِبَارَهُ بِالْإِذْنِ لَهُ
فِي التَّصَرُّفِ فِي الشِّرَى وَالْبَيْعِ وَإِنَّمَا هو
اختبار عقله من غير استبراء حاله فِي ضَبْطِهِ وَعِلْمِهِ
بِالتَّصَرُّفِ لِمَا كَانَ لِلِابْتِلَاءِ وَجْهٌ قَبْلَ
الْبُلُوغِ فَلَمَّا أَمَرَ بِذَلِكَ قَبْلَ الْبُلُوغِ
عَلِمْنَا أَنَّ الْمُرَادَ اخْتِبَارُ أَمْرِهِ
بِالتَّصَرُّفِ وَلِأَنَّ اخْتِبَارَ صِحَّةِ عَقْلِهِ لَا
يُنَبِّئُ عَنْ ضَبْطِهِ لِأُمُورِهِ وَحِفْظِهِ لِمَالِهِ
وَعِلْمِهِ بِالْبَيْعِ وَالشِّرَى وَمَعْلُومٌ أَنَّ اللَّهَ
تَعَالَى أَمَرَ بِالِاحْتِيَاطِ لَهُ فِي اسْتِبْرَاءِ
أَمْرِهِ فِي حِفْظِ الْمَالِ وَالْعِلْمِ بِالتَّصَرُّفِ
فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الِابْتِلَاءُ الْمَأْمُورُ بِهِ قَبْلَ
الْبُلُوغِ مَأْمُورًا بِذَلِكَ لَا لِاخْتِبَارِ صِحَّةِ
عَقْلِهِ فَحَسْبُ وَأَيْضًا فَإِنْ لَمْ يَجُزْ الْإِذْنُ
لَهُ فِي التِّجَارَةِ قَبْلَ الْبُلُوغِ لِأَنَّهُ مَحْجُورٌ
عَلَيْهِ فَالِابْتِلَاءُ إذًا سَاقِطٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ
فَلَا يَخْلُو بَعْدَ الْبُلُوغِ مَتَى أَرَدْنَا التَّوَصُّلَ
إلَى إينَاسِ رُشْدِهِ مِنْ أَنْ نَخْتَبِرَهُ بِالْإِذْنِ
لَهُ فِي التِّجَارَةِ أَوْ لَا نَخْتَبِرُهُ بِذَلِكَ فَإِنْ
وَجَبَ اخْتِبَارُهُ فَقَدْ أَجَزْت لَهُ التَّصَرُّفَ وَهُوَ
عِنْدَك مَحْجُورٌ عَلَيْهِ بَعْدَ الْبُلُوغِ إلَى إينَاسِ
الرُّشْدِ فَإِنْ جَازَ الْإِذْنُ لَهُ فِي التِّجَارَةِ
وَهُوَ مَحْجُورٌ عَلَيْهِ بَعْدَ الْبُلُوغِ فَقَدْ
أَخْرَجْته مِنْ الْحَجْرِ وَإِنْ لَمْ يُخْرَجْ مِنْ
الْحَجْرِ وَهُوَ مَمْنُوعٌ مِنْ مَالِهِ بَعْدَ الْبُلُوغِ
وَهُوَ مَأْذُونٌ لَهُ فَهَلَّا أَذِنْت لَهُ قَبْلَ
الْبُلُوغِ فِي التِّجَارَةِ لِاسْتِبْرَاءِ حَالِهِ كَمَا
يُسْتَبْرَأُ بها بِالْإِذْنِ بَعْدَ الْبُلُوغِ مَعَ بَقَاءِ
الْحَجْرِ إلَى إينَاسِ الرُّشْدِ
وَإِنْ لَمْ يُسْتَبْرَأْ حَالُهُ بَعْدَ الْبُلُوغِ
بِالْإِذْنِ فَكَيْفَ يُعْلَمُ إينَاسُ الرُّشْدِ مِنْهُ
فَقَوْلُ الْمُخَالِفِ لَا يَخْلُو مِنْ تَرْكِ الِابْتِلَاءِ
أَوْ دَفْعِ الْمَالِ قَبْلَ إينَاسِ الرُّشْدِ وَيَدُلُّ
عَلَى جَوَازِ الْإِذْنِ لِلصَّغِيرِ فِي التِّجَارَةِ
مَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَمَرَ عُمَرَ بْنَ أَبِي سَلَمَةَ وَهُوَ صَغِيرٌ
بِتَزْوِيجِ أُمِّ سَلَمَةَ إيَّاهُ
وَرَوَى عَبْدُ اللَّهِ ابن شَدَّادٍ أَنَّهُ أَمَرَ سَلَمَةَ
بْنَ أَبِي سَلَمَةَ بِذَلِكَ وَهُوَ صَغِيرٌ وَفِي ذَلِكَ
دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ الْإِذْنِ لَهُ فِي التَّصَرُّفِ
الَّذِي يَمْلِكُهُ عَلَيْهِ غَيْرُهُ مِنْ بَيْعٍ أَوْ شِرَى
أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَقْتَضِي جَوَازَ تَوْكِيلِ
(2/357)
الْأَبِ إيَّاهُ بِشِرَى عَبْدٍ
لِلصَّغِيرِ أَوْ بَيْعِ عَبْدٍ لَهُ هَذَا هُوَ مَعْنَى
الْإِذْنِ لَهُ فِي التِّجَارَةِ وَأَمَّا تَأْوِيلُ مَنْ
تَأَوَّلَ قَوْله تعالى وَابْتَلُوا الْيَتامى عَلَى
اخْتِبَارِهِمْ فِي عُقُولِهِمْ وَدِينِهِمْ فَإِنَّ
اعْتِبَارَ الدِّينِ فِي دَفْعِ الْمَالِ غَيْرُ وَاجِبٍ
بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ رَجُلًا
فَاسِقًا ضَابِطًا لِأُمُورِهِ عَالِمًا بِالتَّصَرُّفِ فِي
وُجُوهِ التِّجَارَاتِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُمْنَعَ مَالَهُ
لِأَجْلِ فِسْقِهِ فَعَلِمْنَا أَنَّ اعْتِبَارَ الدِّينِ فِي
ذَلِكَ غَيْرُ وَاجِبٍ وَإِنْ كَانَ رَجُلًا ذَا دِينٍ
وَصَلَاحٍ إلَّا أَنَّهُ غَيْرُ ضَابِطٍ لِمَالِهِ يَغْبِنُ
فِي تَصَرُّفِهِ كَانَ مَمْنُوعًا مِنْ مَالِهِ عِنْدَ
الْقَائِلِينَ بِالْحَجْرِ لِقِلَّةِ الضَّبْطِ وَضَعْفِ
الْعَقْلِ فَعَلِمْنَا أَنَّ اعْتِبَارَ الدِّينِ فِي ذَلِكَ
لَا مَعْنَى لَهُ وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى حَتَّى إِذا
بَلَغُوا النِّكاحَ فَإِنْ ابن عباس ومجاهد وَالسُّدِّيَّ
قَالُوا هُوَ الْحُلُمُ وَهُوَ بُلُوغُ حَالِ النِّكَاحِ مِنْ
الِاحْتِلَامِ وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى فَإِنْ آنَسْتُمْ
مِنْهُمْ رُشْداً فَإِنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ قَالَ فَإِنْ
عَلِمْتُمْ مِنْهُمْ ذَلِكَ وَقِيلَ إنَّ أَصْلَ الْإِينَاسِ
هُوَ الْإِحْسَاسُ حُكِيَ عَنْ الْخَلِيلِ وَقَالَ اللَّهُ
تَعَالَى إِنِّي آنَسْتُ ناراً يَعْنِي أَحْسَسْتهَا
وَأَبْصَرْتهَا وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي مَعْنَى الرشد هاهنا
فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالسُّدِّيُّ الصَّلَاحُ فِي
الْعَقْلِ وَحِفْظِ الْمَالِ وَقَالَ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ
الصَّلَاحُ فِي الْعَقْلِ وَالدِّينِ وَقَالَ إبْرَاهِيمُ
النَّخَعِيُّ وَمُجَاهِدٌ الْعَقْلُ وَرَوَى سِمَاكٌ عَنْ
عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْله تَعَالَى فَإِنْ
آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً قَالَ إذَا أَدْرَكَ بِحُلُمٍ
وَعَقْلٍ وَوَقَارٍ قَالَ أَبُو بَكْرٍ إذَا كَانَ اسْمُ
الرُّشْدِ يَقَعُ على العقل لتأويل من تأول عَلَيْهِ
وَمَعْلُومٌ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى شَرَطَ رُشْدًا مَنْكُورًا
وَلَمْ يَشْرُطْ سَائِرَ ضُرُوبِ الرُّشْدِ اقْتَضَى ظَاهِرُ
ذَلِكَ أَنَّ حُصُولَ هَذِهِ الصِّفَةِ لَهُ بِوُجُودِ
الْعَقْلِ مُوجِبًا لِدَفْعِ الْمَالِ إلَيْهِ وَمَانِعًا مِنْ
الْحَجْرِ عَلَيْهِ فَهَذَا يُحْتَجُّ بِهِ مِنْ هَذَا
الْوَجْهِ فِي إبْطَالِ الْحَجْرِ عَلَى الْحُرِّ الْعَاقِلِ
الْبَالِغِ وَهُوَ مَذْهَبُ إبْرَاهِيمَ وَمُحَمَّدِ بْنِ
سِيرِينَ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَقَدْ بَيَّنَّا هَذِهِ
الْمَسْأَلَةَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ وقَوْله تَعَالَى
فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ يَقْتَضِي وُجُوبَ دَفْعِ
الْمَالِ إلَيْهِمْ بَعْدَ الْبُلُوغِ وَإِينَاسِ الرُّشْدِ
عَلَى مَا بَيَّنَّا وَهُوَ نَظِيرُ قوله تعالى وَآتُوا
الْيَتامى أَمْوالَهُمْ وَهَذِهِ الشَّرِيطَةُ مُعْتَبَرَةٌ
فِيهَا أَيْضًا وَتَقْدِيرُهُ وَآتُوا الْيَتَامَى
أَمْوَالَهُمْ إذَا بَلَغُوا وَآنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا
وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى وَلا تَأْكُلُوها إِسْرافاً
وَبِداراً أَنْ يَكْبَرُوا فَإِنَّ السَّرَفَ مُجَاوَزَةُ
حَدِّ الْمُبَاحِ إلَى الْمَحْظُورِ فَتَارَةً يَكُونُ
السَّرَفُ فِي التَّقْصِيرِ وَتَارَةً فِي الْإِفْرَاطِ
لِمُجَاوَزَةِ حَدِّ الْجَائِزِ فِي الْحَالَيْنِ وقَوْله
تعالى وَبِداراً قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةُ وَالْحَسَنُ
وَالسُّدِّيُّ مُبَادَرَةً وَالْمُبَادَرَةُ الْإِسْرَاعُ فِي
الشَّيْءِ فَتَقْدِيرُهُ النَّهْيُ عَنْ أَكْلِ أَمْوَالِهِمْ
مُبَادَرَةً أَنْ يَكْبَرُوا فَيُطَالِبُوا بِأَمْوَالِهِمْ
وَفِيهَا دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهُ إذَا صَارَ فِي
(2/358)
حَدِّ الْكِبَرِ اسْتَحَقَّ الْمَالَ إذَا
كَانَ عَاقِلًا مِنْ غَيْرِ شَرْطِ إينَاسِ الرُّشْدِ
لِأَنَّهُ إنَّمَا شُرِطَ إينَاسُ الرُّشْدِ بَعْدَ الْبُلُوغِ
وَأَفَادَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى وَلا تَأْكُلُوها إِسْرافاً
وَبِداراً أَنْ يَكْبَرُوا أنه لا يجوز له إمساك ماله بعد ما
يَصِيرُ فِي حَدِّ الْكِبَرِ وَلَوْلَا ذَلِكَ لَمَا كان لذكر
الكبر هاهنا مَعْنًى إذْ كَانَ الْوَالِي عَلَيْهِ هُوَ
الْمُسْتَحِقُّ لِمَالِهِ قَبْلَ الْكِبَرِ وَبَعْدَهُ فَهَذَا
يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ إذَا صَارَ فِي حَدِّ الْكِبَرِ
اسْتَحَقَّ دَفْعَ الْمَالِ إلَيْهِ وَجَعَلَ أَبُو حَنِيفَةَ
حَدَّ الْكِبَرِ فِي ذَلِكَ خَمْسًا وَعِشْرِينَ سَنَةً
لِأَنَّ مِثْلَهُ يَكُونُ جَدًّا وَمُحَالٌ أَنْ يَكُونَ
جَدًّا ولا يكون في حد الكبر وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
بَابُ أَكْلِ وَلِيِّ الْيَتِيمِ مِنْ مَالِهِ
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى وَمَنْ كانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ
وَمَنْ كانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ قَالَ أَبُو
بَكْرٍ قَدْ اخْتَلَفَ السَّلَفُ فِي تَأْوِيلِهِ فَرَوَى
مَعْمَرٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ
قَالَ جَاءَ رَجُلٌ إلَى ابْنِ عَبَّاسٍ فَقَالَ إنَّ فِي
حِجْرِي أَيْتَامًا لَهُمْ أَمْوَالٌ وَهُوَ يَسْتَأْذِنُهُ
أَنْ يُصِيبَ مِنْهَا فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَلَسْت تَهْنَأُ
جَرْبَاءَهَا قَالَ بَلَى قَالَ أَلَسْت تَبْغِي ضَالَّتَهَا
قَالَ بَلَى قَالَ أَلَسْت تَلُوطُ حِيَاضَهَا قَالَ بَلَى
قَالَ أَلَسْت تَفْرُطُ عَلَيْهَا يَوْمَ وُرُودِهَا قَالَ
بَلَى قَالَ فَاشْرَبْ مِنْ لَبَنِهَا غَيْرَ نَاهِكٍ فِي
الْحَلْبِ وَلَا مُضِرٍّ بِنَسْلٍ وَرَوَى الشَّيْبَانِيُّ
عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ الْوَصِيُّ إذَا
احْتَاجَ وَضَعَ يَدَهُ مَعَ أَيْدِيهِمْ وَلَا يَكْتَسِي
عِمَامَةً فَشَرَطَ فِي الْحَدِيثِ الْأَوَّلِ عَمَلَهُ فِي
مَالِ الْيَتِيمِ فِي إبَاحَةِ الْأَكْلِ وَلَمْ يَشْرُطْ فِي
حَدِيثِ عِكْرِمَةَ وَرَوَى ابْنُ لَهِيعَةَ عَنْ يَزِيدَ بْنِ
أَبِي حَبِيبٍ قَالَ حَدَّثَنِي أَبُو الْخَيْرِ مَرْثَدُ بْنُ
عَبْدِ اللَّهِ الْيَزَنِيُّ أَنَّهُ سَأَلَ أُنَاسًا مِنْ
الْأَنْصَارِ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ قَوْله تَعَالَى وَمَنْ كانَ غَنِيًّا
فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ
بِالْمَعْرُوفِ فَقَالُوا فِينَا نَزَلَتْ إنَّ الْوَصِيَّ
كَانَ إذَا عَمِلَ فِي نَخْلِ الْيَتِيمِ كَانَتْ يَدُهُ مَعَ
أَيْدِيهِمْ وَقَدْ طُعِنَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ مِنْ جِهَةِ
سَنَدِهِ وَيَفْسُدُ أَيْضًا مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ لَوْ أُبِيحَ
لَهُمْ الْأَكْلُ لِأَجْلِ عَمَلِهِمْ لَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ
الْغَنِيُّ وَالْفَقِيرُ فَعَلِمْنَا أَنَّ هَذَا التَّأْوِيلَ
سَاقِطٌ وَأَيْضًا فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ إبَاحَةُ
الْأَكْلِ دُونَ أَنْ يَكْتَسِيَ مِنْهُ عِمَامَةً وَلَوْ
كَانَ ذَلِكَ مُسْتَحِقًّا لِعَمَلِهِ لَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ
حُكْمُ الْمَأْكُولِ وَالْمَلْبُوسِ فَهَذَا أَحَدُ الْوُجُوهِ
الَّتِي تَأَوَّلَتْ عَلَيْهِ الْآيَةُ وَهُوَ أَنْ يَقْتَصِرَ
عَلَى الْأَكْلِ فَحَسْبُ إذَا عَمِلَ لِلْيَتِيمِ وَقَالَ
آخَرُونَ يَأْخُذُهُ قَرْضًا ثُمَّ يَقْضِيهِ وَرَوَى شَرِيكٌ
عن ابن إِسْحَاقَ عَنْ حَارِثَةَ بْنِ مُضَرِّبٍ عَنْ عُمَرَ
قال إنى أنزلت مال الله تعالى بمنزلة مال الْيَتِيمِ إنْ
اسْتَغْنَيْت اسْتَعْفَفْت وَإِنْ افْتَقَرْت أَكَلْت
بِالْمَعْرُوفِ وَقَضَيْت وَرُوِيَ عَنْ عُبَيْدَةَ
السَّلْمَانِيِّ وَسَعِيدِ بن
(2/359)
جُبَيْرٍ وَأَبِي الْعَالِيَةِ وَأَبِي
وَائِلٍ وَمُجَاهِدٍ مِثْلُ ذَلِكَ وَهُوَ أَنْ يَأْخُذَ
قَرْضًا ثُمَّ يَقْضِيهِ إذَا وَجَدَ وَقَوْلٌ ثَالِثٌ قَالَ
الْحَسَنُ وَإِبْرَاهِيمُ وَعَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ
وَمَكْحُولٌ إنَّهُ يَأْخُذُ مِنْهُ مَا يَسُدُّ الْجَوْعَةَ
وَيُوَارِي الْعَوْرَةَ وَلَا يَقْضِي إذَا وَجَدَ وَقَوْلٌ
رَابِعٌ وَهُوَ مَا رُوِيَ عَنْ الشَّعْبِيِّ أَنَّهُ
بِمَنْزِلَةِ الْمَيْتَةِ يَتَنَاوَلُهُ عِنْدَ الضَّرُورَةِ
فَإِذَا أَيْسَرَ قَضَاهُ وَإِذَا لَمْ يُوسِرْ فَهُوَ فِي
حِلٍّ وَقَوْلٌ خَامِسٌ وَهُوَ مَا رَوَى مِقْسَمٌ عَنْ ابْنِ
عَبَّاسٍ فَلْيَسْتَعْفِفْ قَالَ بِغِنَاهُ وَمَنْ كَانَ
فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ قَالَ فَلْيُنْفِقْ
عَلَى نَفْسِهِ مِنْ مَالِهِ حَتَّى لَا يُصِيبَ مِنْ مَالِ
الْيَتِيمِ شَيْئًا حَدَّثَنَا عبد الباقي بن قانع حدثنا محمد
ابن عُثْمَانَ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ قَالَ حَدَّثَنَا مِنْجَابُ
بْنُ الْحَارِثِ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو عَامِرٍ الْأَسَدِيُّ
قالا حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ الْأَعْمَشِ عَنْ الْحَكَمِ
عَنْ مِقْسَمٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ بِمَعْنَى ذَلِكَ وَقَدْ
رَوَى عِكْرِمَةُ عَنْهُ أَنَّهُ يَقْضِي وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ
عَبَّاسٍ أَنَّهُ مَنْسُوخٌ وَقَالَ مُجَاهِدٌ فِي رِوَايَةٍ
أُخْرَى فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ مِنْ مَالِ نَفْسِهِ
وَلَا رُخْصَةَ لَهُ فِي مَالِ الْيَتِيمِ وَهُوَ قَوْلُ
الْحَكَمِ قَالَ أَبُو بَكْرٍ فَحَصَلَ الِاخْتِلَافُ بَيْنَ
السَّلَفِ عَلَى هَذِهِ الْوُجُوهِ وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ
عَبَّاسٍ أَرْبَعُ رِوَايَاتٍ عَلَى مَا ذَكَرْنَا أَحَدُهَا
أَنَّهُ إذَا عَمِلَ لِلْيَتِيمِ فِي إبِلِهِ شَرِبَ مِنْ
لَبَنِهَا وَالثَّانِيَةُ أَنَّهُ يَقْضِي وَالثَّالِثَةُ لَا
يُنْفِقُ مِنْ مَالِ الْيَتِيمِ شَيْئًا وَلَكِنَّهُ يَقُوتُ
عَلَى نَفْسِهِ مِنْ مَالِهِ حَتَّى لَا يَحْتَاجَ إلَى مَالِ
الْيَتِيمِ وَالرَّابِعَةُ أَنَّهُ مَنْسُوخٌ وَاَلَّذِي
نَعْرِفُهُ مِنْ مَذْهَبِ أَصْحَابِنَا أَنَّهُ لَا يَأْخُذُهُ
قَرْضًا وَلَا غَيْرَهُ غَنِيًّا كَانَ أَوْ فَقِيرًا وَلَا
يُقْرِضُهُ غَيْرَهُ أَيْضًا وَقَدْ رَوَى إسْمَاعِيلُ بْنُ
سَالِمٍ عَنْ مُحَمَّدٍ قَالَ أَمَّا نَحْنُ فَلَا نُحِبُّ
لِلْوَصِيِّ أَنْ يَأْكُلَ مِنْ مَالِ الْيَتِيمِ قَرْضًا
وَلَا غَيْرَهُ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَذَكَرَ
الطَّحَاوِيُّ أَنَّ مَذْهَبَ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ
يَأْخُذُ قَرْضًا إذَا احْتَاجَ ثُمَّ يَقْضِيهِ كَمَا رُوِيَ
عَنْ عُمَرَ وَمَنْ تَابَعَهُ وَرَوَى بِشْرُ بْنُ الْوَلِيدِ
عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ لَا يَأْكُلُ مِنْ مَالِ
الْيَتِيمِ إذَا كَانَ مُقِيمًا فَإِنْ خَرَجَ لِتَقَاضِي
دَيْنٍ لَهُمْ أَوْ إلَى ضِيَاعٍ لَهُمْ فَلَهُ أَنْ يُنْفِقَ
وَيَكْتَسِيَ وَيَرْكَبَ فَإِذَا رَجَعَ رَدَّ الثِّيَابَ
وَالدَّابَّةَ إلَى الْيَتِيمِ قَالَ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ
وقَوْله تعالى فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ يَجُوزُ أَنْ
يَكُونَ مَنْسُوخًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى لا تَأْكُلُوا
أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ
تِجارَةً عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ قَالَ أَبُو بَكْرٍ جَعَلَ
أَبُو يُوسُفَ الْوَصِيَّ فِي هَذِهِ الْحَالِ كَالْمُضَارِبِ
فِي جَوَازِ النَّفَقَةِ مِنْ مَالِهِ فِي السَّفَرِ وَقَالَ
ابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ عَنْ مَالِكٍ وَمَنْ كَانَ لَهُ
يَتِيمٌ فَخَلَطَ نَفَقَتَهُ بِمَالِهِ فَإِنْ كَانَ الَّذِي
يُصِيبُ الْيَتِيمَ أَكْثَرَ مِمَّا يُصِيبُ وَلِيَّهُ مِنْ
نَفَقَتِهِ فَلَا بَأْسَ وَإِنْ كَانَ الْفَضْلُ لِلْيَتِيمِ
فَلَا يَخْلِطُهُ وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ الْغَنِيِّ
وَالْفَقِيرِ وَقَالَ الْمُعَافَى عَنْ الثَّوْرِيِّ يَجُوزُ
لِوَلِيِّ الْيَتِيمِ أَنْ يَأْكُلَ طَعَامَ الْيَتِيمِ
وَيُكَافِئَهُ عَلَيْهِ وَهَذَا
(2/360)
يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ يُجِيزُ لَهُ
أَنْ يَسْتَقْرِضَ مِنْ مَالِهِ وَقَالَ الثَّوْرِيُّ لَا
يُعْجِبْنِي أَنْ يَنْتَفِعَ مِنْ مَالِهِ بِشَيْءٍ وَإِنْ
لَمْ يَكُنْ عَلَى الْيَتِيمِ فِيهِ ضَرَرٌ نَحْوُ اللَّوْحِ
يَكْتُبُ فِيهِ وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ حَيٍّ يَسْتَقْرِضُ
الْوَصِيُّ مِنْ مَالِ الْيَتِيمِ إذَا احْتَاجَ إلَيْهِ ثُمَّ
يَقْضِيهِ وَيَأْكُلُ الْوَصِيُّ مِنْ مَالِ الْيَتِيمِ
بِقَدْرِ عَمَلِهِ فِيهِ إذَا لَمْ يَضُرَّ بِالصَّبِيِّ قَالَ
اللَّهُ تَعَالَى وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ وَلا
تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلا تَأْكُلُوا
أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ إِنَّهُ كانَ حُوباً كَبِيراً
وَقَالَ تَعَالَى فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً
فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ وَلا تَأْكُلُوها
إِسْرافاً وَبِداراً أَنْ يَكْبَرُوا وَقَالَ تَعَالَى وَلا
تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ
حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ
وَقَالَ تَعَالَى إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ
الْيَتامى ظُلْماً وقال تعالى وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتامى
بِالْقِسْطِ وَقَالَ تَعَالَى لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ
بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ
تَراضٍ مِنْكُمْ وَهَذِهِ الْآيُ مُحْكَمَةٌ حَاظِرَةٌ لِمَالِ
الْيَتِيمِ عَلَى وَلِيِّهِ فِي حَالِ الْغِنَى وَالْفَقْرِ
وقَوْله تَعَالَى وَمَنْ كانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ
بِالْمَعْرُوفِ مُتَشَابِهٌ مُحْتَمِلٌ لِلْوُجُوهِ الَّتِي
ذَكَرْنَا فَأَوْلَى الْأَشْيَاءِ بِهَا حَمْلُهَا عَلَى
مُوَافَقَةِ الْآيِ الْمُحْكَمَةِ وَهُوَ من يَأْكُلَ مِنْ
مَالِ نَفْسِهِ بِالْمَعْرُوفِ لِئَلَّا يَحْتَاجَ إلَى مَالِ
الْيَتِيمِ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ أَمَرَنَا بِرَدِّ
الْمُتَشَابِهِ إلَى الْمُحْكَمِ وَنَهَانَا عَنْ اتِّبَاعِ
الْمُتَشَابِهِ مِنْ غَيْرِ رَدٍّ لَهُ إلَى الْمُحْكَمِ قَالَ
اللَّهُ تَعَالَى مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ
الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي
قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشابَهَ مِنْهُ
ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ وَتَأْوِيلُ
مَنْ تَأَوَّلَهُ عَلَى جَوَازِ أَخْذِ مَالِ الْيَتِيمِ
قَرْضًا أَوْ غَيْرَ قَرْضٍ مُخَالِفٌ لِمَعْنَى الْمُحْكَمِ
وَمَنْ تَأَوَّلَهُ عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ فَقَدْ رَدَّهُ إلَى
الْمُحْكَمِ وَحَمَلَهُ عَلَى مَعْنَاهُ فَهُوَ أَوْلَى وَقَدْ
رُوِيَ أَنَّ قَوْله تَعَالَى فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ
مَنْسُوخٌ رَوَاهُ الْحَسَنُ بْنُ أَبِي الْحَسَنِ بْنِ
عَطِيَّةَ عَنْ عَطِيَّةَ أَبِيهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمَنْ
كانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ نَسَخَتْهَا
الْآيَةُ الَّتِي تَلِيهَا إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ
أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً وَرَوَى عُثْمَانُ بْنُ عَطَاءٍ
عَنْ أَبِيهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ مِثْلُهُ وَرَوَى عِيسَى
بْنُ عُبَيْدِ الْكِنْدِيُّ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ
بْنِ مُسْلِمٍ عَنْ الضَّحَّاكِ بْن مُزَاحِمٍ فِي قَوْله
تعالى وَمَنْ كانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ
مَنْسُوخٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ
أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً فَإِنْ قِيلَ
رَوَى عَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ
رَجُلًا سَأَلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فَقَالَ لَيْسَ لِي مَالٌ وَلِي يَتِيمٌ فَقَالَ كُلْ مِنْ
مَالِ يَتِيمِك غَيْرَ مُسْرِفٍ وَلَا مُتَأَثِّلٍ مَالَك
بِمَالِهِ
وَرَوَى عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ عَنْ الْحَسَنِ الْعَوْفِيِّ
عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ
يَأْكُلُ وَلِيُّ الْيَتِيمِ مِنْ مَالِهِ بِالْمَعْرُوفِ
غَيْرَ مُتَأَثِّلٍ مِنْهُ مَالًا
قِيلَ لَهُ غَيْرُ جَائِزٍ الاعتراض
(2/361)
بِهَذَيْنِ الْخَبَرَيْنِ عَلَى مَا
ذَكَرْنَا مِنْ الْآيِ الْمُقْتَضِيَةِ لِحَظْرِ مَالِ
الْيَتِيمِ فَإِنْ صَحَّ ذَلِكَ فَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى
الْوَجْهِ الَّذِي يَجُوزُ وَهُوَ أَنْ يَعْمَلَ فِي مَالِ
الْيَتِيمِ مُضَارَبَةً فَيَأْخُذَ مِنْهُ مِقْدَارَ رِبْحِهِ
وَهَذَا جَائِزٌ عِنْدَنَا وَقَدْ رُوِيَ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ
السَّلَفِ نَحْوُ ذَلِكَ فإن قيل فإذا جَازَ أَنْ يَأْخُذَ
رِبْحَ مَالِ الْيَتِيمِ إذَا عَمِلَ بِهِ مُضَارَبَةً فَلِمَ
لَا يَجُوزُ أَنْ يَأْكُلَ مِنْ مَالِهِ إذَا عَمِلَ فِيهِ
كَمَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي إحْدَى الرِّوَايَاتِ
عَنْهُ أَنَّهُ إذَا كَانَ يَهْنَأُ جَرْبَاءَ الْإِبِلِ
وَيَبْغِي ضَالَّتَهَا وَيَلُوطُ حِيَاضَهَا جَازَ لَهُ أَنْ
يَشْرَبَ مِنْ لَبَنِهَا غَيْرَ مُضِرٍّ بِنَسْلٍ وَلَا
نَاهِكٍ حَلْبًا وَكَمَا رُوِيَ عَنْ الْحَسَنِ أَنَّ
الْوَصِيَّ كَانَ إذَا عَمِلَ فِي نَخْلِ الْيَتِيمِ كَانَتْ
يَدُهُ مَعَ أَيْدِيهِمْ قِيلَ لَهُ لِأَنَّهُ لَا يَخْلُو
الْوَصِيُّ إذَا أَعَانَ فِي الْإِبِلِ وَعَمِلَ فِي النَّخْلِ
مِنْ أَحَدِ وَجْهَيْنِ إمَّا أَنْ يَأْخُذَهُ عَلَى وَجْهِ
الْأُجْرَةِ لِعَمَلِهِ أَوْ على غير الْأُجْرَةِ وَالْعِوَضِ
مِنْ الْعَمَلِ فَإِنْ كَانَ يَأْخُذُهُ عَلَى وَجْهِ
الْأُجْرَةِ فَذَلِكَ يَفْسُدُ مِنْ أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ
أَحَدُهَا أَنَّ الَّذِينَ أَبَاحُوا ذَلِكَ لَهُ إنَّمَا
أَبَاحُوهُ فِي حَالِ الْفَقْرِ إذْ لَا خِلَافَ أَنَّ
الْغَنِيَّ لَا يَجُوزُ لَهُ أَخْذُهُ وَهُوَ نَصُّ الْكِتَابِ
فِي قَوْله تَعَالَى وَمَنْ كانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ
وَاسْتِحْقَاقُ الْأُجْرَةِ لَا يَخْتَلِفُ فِيهِ الْغَنِيُّ
وَالْفَقِيرُ فَبَطَلَ أَنْ يَكُونَ أُجْرَةً مِنْ هَذَا
الْوَجْهِ وَالْوَجْهُ الثَّانِي أَنَّ الْوَصِيَّ لَا يَجُوزُ
لَهُ أَنْ يَسْتَأْجِرَ نَفْسَهُ لِلْيَتِيمِ وَالْوَجْهُ
الثَّالِثُ أَنَّ الَّذِينَ أَبَاحُوا ذَلِكَ لَمْ يَشْرُطُوا
لَهُ شَيْئًا مَعْلُومًا وَالْإِجَارَةُ لَا تَصِحُّ إلَّا
بِأُجْرَةٍ مَعْلُومَةٍ وَالْوَجْهُ الرَّابِعُ أَنَّ مَنْ
أَبَاحَ ذَلِكَ لَهُ لَمْ يَجْعَلْهُ أُجْرَةً فَبَطَلَ أَنْ
يَكُونَ ذَلِكَ أُجْرَةً وَلَيْسَ هُوَ بِمَنْزِلَةِ رِبْحِ
الْمُضَارَبَةِ إذَا عَمِلَ بِهِ الْوَصِيُّ لِأَنَّ الرِّبْحَ
الَّذِي يَسْتَحِقُّهُ مِنْ الْمَالِ لَمْ يَكُنْ قَطُّ مَالًا
لِلْيَتِيمِ أَلَا تَرَى أَنَّ مَا يَشْرُطُهُ رَبُّ الْمَالِ
لِلْمُضَارِبِ مِنْ الرِّبْحِ لَمْ يَكُنْ قَطُّ مِلْكًا
لِرَبِّ الْمَالِ وَلَوْ كَانَ مِلْكًا لِرَبِّ الْمَالِ
مَشْرُوطًا لِلْمُضَارِبِ بَدَلًا مِنْ عَمَلِهِ لَوَجَبَ أَنْ
يَكُونَ مَضْمُونًا عَلَيْهِ كَالْأُجْرَةِ الَّتِي هِيَ
مُسْتَحَقَّةٌ مِنْ مَالِ الْمُسْتَأْجِرِ بَدَلًا مِنْ عَمَلِ
الْأَجِيرِ هِيَ مَضْمُونَةٌ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ فَلَمَّا
لَمْ يَكُنْ الرِّبْحُ الْمَشْرُوطُ لِلْمُضَارِبِ مَضْمُونًا
عَلَى رَبِّ الْمَالِ ثَبَتَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ قَطُّ
مِلْكًا لِرَبِّ الْمَالِ وَأَنَّهُ إنَّمَا حَدَثَ عَلَى
مِلْكِ الْمُضَارِبِ وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ مَرِيضًا
لَوْ دَفَعَ مَالًا مُضَارَبَةً وَشَرَطَ لِلْمُضَارِبِ
تِسْعَةَ أَعْشَارِ الرِّبْحِ وَهُوَ أَكْثَرُ مِنْ رِبْحِ
مِثْلِهِ أَنَّ ذَلِكَ جَائِزٌ وَلَمْ يُحْتَسَبْ
بِالْمَشْرُوطِ لِلْمُضَارِبِ مِنْ ذَلِكَ مِنْ مَالِ
الْمَرِيضِ إنْ مَاتَ مِنْ مَرَضِهِ وَأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ
بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ اسْتَأْجَرَهُ بِأَكْثَرَ مِنْ أُجْرَةِ
مِثْلِهِ فَيَكُونُ ذَلِكَ مِنْ الثُّلُثِ فَلَيْسَ إذًا فِي
أَخْذِهِ رِبْحُ الْمُضَارَبَةِ أَخْذُ شَيْءٍ مِنْ مَالِ
الْيَتِيمِ فَإِنْ قِيلَ هَلَّا كَانَ الْوَصِيُّ فِي ذَلِكَ
كَسَائِرِ الْعُمَّالِ وَالْقُضَاةِ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ
وَيَأْخُذُونَ أَرْزَاقَهُمْ لِأَجْلِ عَمَلِهِمْ
(2/362)
لِلْمُسْلِمِينَ فَكَذَلِكَ الْوَصِيُّ
إذَا عَمِلَ لِلْيَتِيمِ جَازَ لَهُ أَخْذُ رِزْقِهِ بِقَدْرِ
عَمَلِهِ قِيلَ لَهُ لَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ أَنَّ
الْوَصِيَّ لَا يَجُوزُ لَهُ أَخْذُ شَيْءٍ مِنْ مَالِ
الْيَتِيمِ لِأَجْلِ عَمَلِهِ إذَا كَانَ غَنِيًّا وَقَدْ
حَظَرَ ذَلِكَ عَلَيْهِ نَصُّ التَّنْزِيلِ فِي قَوْله
تَعَالَى وَمَنْ كانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَلَا خِلَافَ
مَعَ ذَلِكَ أَنَّ الْقُضَاةَ وَالْعُمَّالَ جائز لهم أخذ
أرزاقهم مع الغنى ولو كَانَ مَا أَخَذَهُ وَلِيُّ الْيَتِيمِ
مِنْ مَالِهِ يَجْرِي مَجْرَى رِزْقِ الْقُضَاةِ وَالْعُمَّالِ
جَازَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَهُ فِي حَالِ الْغِنَى فَدَلَّ ذَلِكَ
عَلَى أَنَّ وَلِيَّ الْيَتِيمِ لَا يَسْتَحِقُّ رِزْقًا مِنْ
مَالِهِ وَلَا خِلَافَ أَيْضًا أَنَّ الْقَاضِيَ لَا يَجُوزُ
لَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ مَالِ الْيَتِيمِ شَيْئًا وَإِلَيْهِ
الْقِيَامُ بِأَمْرِ الْأَيْتَامِ فَثَبَتَ بِذَلِكَ أَنَّ
سَائِرَ النَّاسِ مِمَّنْ لَهُمْ الْوِلَايَةُ عَلَى
الْأَيْتَامِ لَا يَجُوزُ لَهُمْ أَخْذُ شَيْءٍ مِنْ
أَمْوَالِهِمْ لَا قَرْضًا وَلَا غَيْرَهُ كَمَا لَا
يَأْخُذُهُ الْقَاضِي فَقِيرًا كَانَ أَوْ غَنِيًّا فَإِنْ
قِيلَ فَمَا الْفَرْقُ بَيْنَ رِزْقِ الْقَاضِي وَالْعَامِلِ
وَبَيْنَ أَخْذِ وَلِيِّ الْيَتِيمِ مِنْ مَالِهِ مِقْدَارَ
الْكِفَايَةِ وَبَيْنَ أَخْذِ الْأُجْرَةِ قِيلَ لَهُ إنَّ
الرِّزْقَ لَيْسَ بِأُجْرَةٍ لِشَيْءٍ وَإِنَّمَا هُوَ شَيْءٌ
جَعَلَهُ اللَّهُ لَهُ وَلِكُلِّ مَنْ قَامَ بِشَيْءٍ مِنْ
أُمُورِ الْمُسْلِمِينَ أَلَا تَرَى أَنَّ الْفُقَهَاءَ لَهُمْ
أَخْذُ الْأَرْزَاقِ وَلَمْ يَعْمَلُوا شَيْئًا يَجُوزُ أَخْذُ
الْأُجْرَةِ عَلَيْهِ لِأَنَّ اشْتِغَالَهُمْ بِالْفُتْيَا
وَتَفْقِيهِ النَّاسِ فَرْضٌ وَلَا جَائِزَ لِأَحَدٍ أَخْذُ
الْأُجْرَةِ عَلَى الْفُرُوضِ وَالْمُقَاتَلَةِ
وَذُرِّيَّتُهَا يَأْخُذُونَ الْأَرْزَاقَ وَلَيْسَتْ
بِأُجْرَةٍ وَكَذَلِكَ الْخُلَفَاءُ وَقَدْ كَانَ لِلنَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَهْمٌ مِنْ الْخُمْسِ
وَالْفَيْءِ وَسَهْمٌ مِنْ الْغَنِيمَةِ إذَا حَضَرَ
الْقِتَالَ وَغَيْرُ جَائِزٍ لِأَحَدٍ أَنْ يَقُولَ
إنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ كَانَ
يَأْخُذُ الْأَجْرَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا يَقُومُ بِهِ مِنْ
أُمُورِ الدِّينِ وَكَيْفَ يَجُوزُ ذَلِكَ مَعَ قَوْلِ الله
تعالى قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَما أَنَا
مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ- وقُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ
أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى فَثَبَتَ بِذَلِكَ
أَنَّ الرِّزْقَ لَيْسَ بِأُجْرَةٍ وَيَدُلُّك عَلَى هَذَا
أَنَّهُ قَدْ تَجِبُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ
وَالْأَيْتَامِ فِي بَيْتِ الْمَالِ الْحُقُوقُ وَلَا
يَأْخُذُونَهَا بَدَلًا مِنْ شَيْءٍ فَأَخْذُ الْأُجْرَةِ
لِلْقَاضِي وَلِمَنْ قَامَ بِشَيْءٍ مِنْ أُمُورِ الدِّينِ
غَيْرُ جَائِزٍ وَقَدْ مُنِعَ الْقَاضِي أَنْ يَقْبَلَ
الْهَدِيَّةَ وَسُئِلَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ عَنْ
قَوْله تَعَالَى أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ أَهْوَ الرِّشَا قَالَ
لَا ذَاكَ كُفْرٌ إنَّمَا هُوَ هَدَايَا الْعُمَّالِ
وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
أَنَّهُ قَالَ هَدَايَا الْأُمَرَاءِ غُلُولٌ
فَالْقَاضِي مَمْنُوعٌ مِنْ أَخْذِ الْأُجْرَةِ عَلَى شَيْءٍ
مِنْ أَمْرِ الْقَضَاءِ وَمَحْظُورٌ عَلَيْهِ قَبُولُ
الْهَدَايَا وَتَأَوَّلَهَا السَّلَفُ عَلَى أَنَّهَا
السُّحْتُ الْمَذْكُورُ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى
وَوَلِيُّ الْيَتِيمِ لَا يَخْلُو فِيمَا يَأْخُذُهُ مِنْ
مَالِ الْيَتِيمِ مِنْ أَنْ يَأْخُذَهُ أُجْرَةً أَوْ عَلَى
سَبِيلِ رِزْقِ الْقَاضِي وَالْعَامِلِ وَمَعْلُومٌ أَنَّ
الْأُجْرَةَ إنَّمَا تَكُونُ عَلَى عَمَلٍ مَعْلُومٍ وَمُدَّةٍ
مَعْلُومَةٍ
(2/363)
وَأَجْرٍ مَعْلُومٍ وَيَنْبَغِي أَنْ
يَتَقَدَّمَ لَهُ عَقْدُ إجَارَةٍ وَيَسْتَوِي فِيهَا
الْغَنِيُّ وَالْفَقِيرُ وَمَنْ يُجِيزُ لَهُ أَخْذَ شَيْءٍ
مِنْ مَالِ الْيَتِيمِ عَلَى وَجْهِ الْقَرْضِ أَوْ عَلَى
جِهَةٍ غَيْرِ الْقَرْضِ فإنه لا يجعله أجرة لما ذَكَرْنَا
وَلِاخْتِلَافِ حُكْمِ الْغَنِيِّ وَالْفَقِيرِ عِنْدَهُمْ
فِيهِ فَثَبَتَ أَنَّهُ لَيْسَ بِأُجْرَةٍ وَلَا يَجُوزُ لَهُ
أَنْ يَأْخُذَهُ عَلَى حَسَبِ مَا يَأْخُذُهُ الْقُضَاةُ مِنْ
الْأَرْزَاقِ لِاسْتِوَاءِ حَالِ الْغَنِيِّ وَالْفَقِيرِ مِنْ
القضاة فِيمَا يَأْخُذُونَهُ مِنْ الْأَرْزَاقِ وَاخْتِلَافُ
الْغَنِيِّ وَالْفَقِيرِ عِنْدَ مُجِيزِي أَخْذِ ذَلِكَ مِنْ
مَالِ الْيَتِيمِ وَلِأَنَّ الرِّزْقَ إنَّمَا يَجِبُ فِي
بَيْتِ مَالِ الْمُسْلِمِينَ لَا فِي مَالِ أَحَدٍ بِعَيْنِهِ
مِنْ النَّاسِ فَالْمُشْبِهُ لِوَلِيِّ الْيَتِيمِ فِيمَا
يُجِيزُ لَهُ أَخْذَ شَيْءٍ مِنْ مَالِهِ بِالْقَاضِي
وَالْأَجِيرِ فِيمَا يأخذانه مُغْفِلٌ لِلْوَاجِبِ عَلَيْهِ
وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ وَلِيَّ الْيَتِيمِ لَا يَحِلُّ لَهُ
أَخْذُ شَيْءٍ مِنْ مَالِهِ
قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي
غَنَائِمِ خَيْبَرَ لَا يَحِلُّ لِي مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ
عَلَيْكُمْ مِثْلُ هَذِهِ
يَعْنِي وَبَرَةً أَخَذَهَا مِنْ بَعِيرِهِ إلَّا الْخُمُسُ
وَالْخُمُسُ مَرْدُودٌ فِيكُمْ فَإِذَا كَانَ النَّبِيُّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا يَتَوَلَّاهُ مِنْ
مَالِ الْمُسْلِمِينَ كَمَا ذَكَرْنَا فَالْوَصِيُّ فِيمَا
يَتَوَلَّاهُ مِنْ مَالِ الْيَتِيمِ أَحْرَى أَنْ يَكُونَ
كَذَلِكَ وَأَيْضًا لَمَّا كَانَ دُخُولُ الْوَصِيِّ فِي
الْوَصِيَّةِ عَلَى وَجْهِ التَّبَرُّعِ من غير شرط أجرة كان
بمنزلة الْمُسْتَبْضَعِ فَلَا أُجْرَةَ لَهُ وَلَا يَحِلُّ
لَهُ أَخْذُ شَيْءٍ مِنْهُ قَرْضًا وَلَا غَيْرَهُ كَمَا لَا
يَجُوزُ ذَلِكَ لِلْمُسْتَبْضَعِ وقَوْله تَعَالَى فَإِذا
دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ
قال أبو بكر الآي الَّتِي تَقَدَّمَ ذِكْرُهَا فِي أَمْرِ
الْأَيْتَامِ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ سَبِيلَ الْأَيْتَامِ أَنْ
يَلِيَ عَلَيْهِمْ غَيْرَهُمْ فِي حِفْظِ أَمْوَالِهِمْ
وَالتَّصَرُّفِ عَلَيْهِمْ فِيمَا يَعُودُ نَفْعُهُ عَلَيْهِمْ
وَهُمْ وَصِيُّ الْأَبِ أَوْ الْجَدِّ إنْ لَمْ يَكُنْ وَصِيُّ
أَبٍ أَوْ وَصِيُّ الْجَدِّ إنْ لَمْ يَكُنْ أَحَدٌ مِنْ
هَؤُلَاءِ أَوْ أَمِينُ حَاكِمٍ عَدْلٍ بَعْدَ أَنْ يَكُونَ
الْأَمِينُ أَيْضًا عَدْلًا وَكَذَلِكَ شَرْطُ الْأَوْصِيَاءِ
وَالْجَدِّ وَالْأَبِ وَكُلِّ مَنْ يَتَصَرَّفُ عَلَى
الصَّغِيرِ لَا يَسْتَحِقُّ الْوِلَايَةَ عَلَيْهِ إلَّا أَنْ
يَكُونَ عَدْلًا مَأْمُونًا فَأَمَّا الْفَاسِقُ
وَالْمُتَّهَمُ مِنْ الْآبَاءِ وَالْمُرْتَشِي مِنْ
الْحُكَّامِ وَالْأَوْصِيَاءِ وَالْأُمَنَاءِ غَيْرِ
الْمَأْمُونِينَ فَإِنَّ وَاحِدًا مِنْ هَؤُلَاءِ غَيْرُ
جَائِزٍ لَهُ التَّصَرُّفُ عَلَى الصَّغِيرِ وَلَا خِلَافَ فِي
ذَلِكَ نَعْلَمُهُ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا خِلَافَ بَيْنَ
الْمُسْلِمِينَ فِي أَنَّ الْقَاضِيَ إذَا فَسَقَ بِأَخْذِ
الرِّشَا أَوْ مَيْلٍ إلَى هَوًى وَتَرَكَ الْحُكْمَ أَنَّهُ
مَعْزُولٌ غَيْرُ جَائِزِ الْحُكْمِ فَكَذَلِكَ حُكْمُ اللَّهِ
فِيمَنْ ائْتَمَنَهُ عَلَى أَمْوَالِ الْأَيْتَامِ مِنْ قَاضٍ
أَوْ وَصِيٍّ أَوْ أَمِينٍ أَوْ حَاكِمٍ فَغَيْرُ جَائِزٍ
ثُبُوتُ وِلَايَتِهِ فِي ذَلِكَ إلَّا عَلَى شَرْطِ
الْعَدَالَةِ وَصِحَّةِ الْأَمَانَةِ وَقَدْ أَمَرَ الله تعالى
أَوْلِيَاءَ الْأَيْتَامِ بِالْإِشْهَادِ عَلَيْهِمْ بَعْدَ
الْبُلُوغِ بِمَا يَدْفَعُونَ إلَيْهِمْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ
وَفِي ذَلِكَ ضُرُوبٌ مِنْ الْأَحْكَامِ أَحَدُهَا
الِاحْتِيَاطُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْيَتِيمِ وَوَالِي
مَالِهِ فَأَمَّا الْيَتِيمُ فَلِأَنَّهُ إذَا قَامَتْ
عَلَيْهِ الْبَيِّنَةُ
(2/364)
بِقَبْضِ الْمَالِ كَانَ أَبْعَدَ مِنْ
أَنْ يَدَّعِيَ مَا لَيْسَ لَهُ وَأَمَّا الْوَصِيُّ فَلَأَنْ
يُبْطِلَ دَعْوَى الْيَتِيمِ بِأَنَّهُ لَمْ يَدْفَعْهُ
إلَيْهِ كَمَا أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِالْإِشْهَادِ عَلَى
الْبُيُوعِ احْتِيَاطًا لِلْمُتَبَايِعِينَ وَوَجْهٌ آخَرُ فِي
الْإِشْهَادِ وَهُوَ أَنَّهُ يُظْهِرُ أَدَاءَ أَمَانَتِهِ
وَبَرَاءَةَ سَاحَتِهِ كَمَا أَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُلْتَقِطَ بِالْإِشْهَادِ على اللقطة
في حديث عياض بن حماد الْمُجَاشِعِيِّ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ مَنْ وَجَدَ لُقَطَةً
فَلْيُشْهِدْ ذَوِي عَدْلٍ وَلَا يَكْتُمْ وَلَا يُغَيِّبْ
فَأَمَرَهُ بِالْإِشْهَادِ لِتَظْهَرَ أمانته وتزول عنه التهمة
والله الموفق.
ذِكْرِ اخْتِلَافِ الْفُقَهَاءِ فِي تَصْدِيقِ الْوَصِيِّ
عَلَى دَفْعِ الْمَالِ إلَى الْيَتِيمِ
قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ وَزُفَرُ
وَالْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ فِي الْوَصِيِّ إذَا ادَّعَى بَعْدَ
بُلُوغِ الْيَتِيمِ أَنَّهُ قَدْ دَفَعَ الْمَالَ إلَيْهِ
إنَّهُ يُصَدَّقُ وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ أَنْفَقْت عَلَيْهِ
فِي صِغَرِهِ صُدِّقَ فِي نَفَقَةِ مِثْلِهِ وَكَذَلِكَ لَوْ
قَالَ هَلَكَ الْمَالُ وَهُوَ قَوْلُ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ
وَقَالَ مَالِكٌ لَا يُصَدَّقُ الْوَصِيُّ أَنَّهُ دَفَعَ
الْمَالَ إلَى الْيَتِيمِ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ قَالَ
لِأَنَّ الَّذِي زَعَمَ أَنَّهُ دَفَعَهُ إلَيْهِ غَيْرُ
الَّذِي ائْتَمَنَهُ كَالْوَكِيلِ بِدَفْعِ الْمَالِ إلَى
غَيْرِهِ لَا يُصَدَّقُ إلَّا بِبَيِّنَةٍ وَقَالَ اللَّهُ
تَعَالَى فَإِذا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ
فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ قَالَ أَبُو بَكْرٍ وَلَيْسَ فِي
الْأَمْرِ بِالْإِشْهَادِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ غَيْرُ
أَمِينٍ وَلَا مُصَدَّقٍ فِيهِ لِأَنَّ الْإِشْهَادَ مَنْدُوبٌ
إلَيْهِ فِي الْأَمَانَاتِ كَهُوَ فِي الْمَضْمُونَاتِ أَلَا
تَرَى أَنَّهُ يَصِحُّ الْإِشْهَادُ عَلَى رَدِّ الْأَمَانَاتِ
مِنْ الْوَدَائِعِ كَمَا يَصِحُّ فِي أَدَاءِ الْمَضْمُونَاتِ
مِنْ الدُّيُونِ فَإِذًا لَيْسَ فِي الْأَمْرِ بِالْإِشْهَادِ
دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهُ غَيْرُ مُصَدَّقٍ فِيهِ إذَا لَمْ
يُشْهِدْ فَإِنْ قِيلَ إذَا كَانَ مُصَدَّقًا فِي الرَّدِّ
فَمَا مَعْنَى الْإِشْهَادِ مَعَ قَبُولِ قَوْلِهِ بِغَيْرِ
بَيِّنَةٍ قِيلَ لَهُ فِيهِ مَا قَدَّمْنَا ذِكْرَهُ مِنْ
ظُهُورِ أَمَانَتِهِ وَالِاحْتِيَاطِ لَهُ فِي زَوَالِ
التُّهْمَةِ عَنْهُ فِي أَنْ لَا يُدَّعَى عَلَيْهِ بَعْدَ مَا
قَدْ ظَهَرَ رَدُّهُ وَفِيهِ الِاحْتِيَاطُ لِلْيَتِيمِ فِي
أَنْ لَا يَدَّعِيَ مَا يَظْهَرُ كَذِبُهُ فِيهِ وَفِيهِ
أَيْضًا سُقُوطُ الْيَمِينِ عَنْ الْوَصِيِّ إذَا كَانَتْ لَهُ
بَيِّنَةٌ فِي دَفْعِهِ إلَيْهِ وَلَوْ لَمْ يُشْهِدْ
وَادَّعَى الْيَتِيمُ أَنَّهُ لَمْ يَدْفَعْهُ كَانَ الْقَوْلُ
قَوْلَ الْوَصِيِّ مَعَ يَمِينِهِ وَإِذَا أَشْهَدَ فَلَا
يَمِينَ عَلَيْهِ فَهَذِهِ الْمَعَانِي كُلُّهَا مُضَمَّنَةٌ
بِالْإِشْهَادِ وَإِنْ كَانَ أَمَانَةً فِي يَدِهِ وَيَدُلُّ
عَلَى أَنَّهُ مُصَدَّقٌ فِيهِ بِغَيْرِ إشْهَادٍ اتِّفَاقُ
الْجَمِيعِ عَلَى أَنَّهُ مَأْمُورٌ بِحِفْظِهِ وَإِمْسَاكِهِ
عَلَى وَجْهِ الْأَمَانَةِ حَتَّى يُوصِلَهُ إلَى الْيَتِيمِ
فِي وَقْتِ اسْتِحْقَاقِهِ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْوَدَائِعِ
وَالْمُضَارَبَاتِ وَمَا جَرَى مَجْرَاهَا مِنْ الْأَمَانَاتِ
فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مُصَدَّقًا عَلَى الرَّدِّ كَمَا
يُصَدَّقُ عَلَى رَدِّ الْوَدِيعَةِ وَالدَّلِيلُ عَلَى
أَنَّهُ أَمَانَةٌ أَنَّ الْيَتِيمَ لَوْ صَدَّقَهُ عَلَى
الْهَلَاكِ لَمْ يُضَمِّنْهُ كَمَا أَنَّ الْمُودِعَ إذَا
صَدَّقَ الْمُودَعَ فِي هَلَاكِ الْوَدِيعَةِ لَمْ يُضَمِّنْهُ
وَأَمَّا قَوْلُ الشافعى أنه لَمْ يَأْتَمِنْهُمْ الْأَيْتَامُ
لَمْ يُصَدَّقُوا
(2/365)
لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ
مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ
نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا
قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا (7)
فَقَوْلٌ ظَاهِرُ الِاخْتِلَالِ بَعِيدٌ
مِنْ مَعَانِي الْفِقْهِ مُنْتَقَضٌ فَاسِدٌ لِأَنَّهُ لَوْ
كَانَ مَا ذَكَرَهُ عِلَّةً لِنَفْيِ التَّصْدِيقِ لَوَجَبَ
أَنْ لَا يُصَدَّقَ الْقَاضِي إذَا قَالَ لِلْيَتِيمِ قَدْ
دَفَعْته إلَيْك لِأَنَّهُ لَمْ يَأْتَمِنْهُ وَكَذَلِكَ
يَلْزَمُهُ أَنْ يَقُولَ فِي الْأَبِ إذَا قَالَ بَعْدَ
بُلُوغِ الصَّغِيرِ قَدْ دَفَعْت إلَيْك مَالَك أَنْ لَا
يُصَدِّقَهُ لِأَنَّهُ لَمْ يَأْتَمِنْهُ وَيَلْزَمُهُ أَيْضًا
أَنْ يُوجِبَ عَلَيْهِمْ الضَّمَانَ إذَا تَصَادَقُوا بَعْدَ
الْبُلُوغِ أَنَّهُ قَدْ هَلَكَ لِأَنَّهُ أَمْسَكَ مَالَهُ
مِنْ غَيْرِ ائْتِمَانٍ لَهُ عَلَيْهِ وَأَمَّا تَشْبِيهُهُ
إيَّاهُ بِالْوَكِيلِ بِدَفْعِ الْمَالِ إلَى غَيْرِهِ
فَتَشْبِيهٌ بَعِيدٌ وَمَعَ ذَلِكَ فَلَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا
مِنْ الْوَجْهِ الَّذِي صَدَّقْنَا فِيهِ الْوَصِيُّ لِأَنَّ
الْوَكِيلَ مُصَدَّقٌ أَيْضًا فِي بَرَاءَةِ نَفْسِهِ غَيْرُ
مُصَدَّقٍ فِي إيجَابِ الضَّمَانِ وَدَفْعِهِ إلَى غَيْرِهِ
وَإِنَّمَا لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ عَلَى الْمَأْمُورِ
بِالدَّفْعِ إلَيْهِ فَأَمَّا فِي بَرَاءَةِ نَفْسِهِ فَهُوَ
مُصَدَّقٌ كَمَا صَدَّقْنَا الْوَصِيَّ عَلَى الرَّدِّ بَعْدَ
الْبُلُوغِ وَأَيْضًا فَإِنَّ الْوَصِيَّ فِي مَعْنَى مَنْ
يَتَصَرَّفُ عَلَى الْيَتِيمِ بِإِذْنِهِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ
يَجُوزُ تَصَرُّفُهُ عَلَيْهِ فِي الْبَيْعِ وَالشِّرَى
كَجَوَازِ تَصَرُّفِ أَبِيهِ فَإِذَا كَانَ إمْسَاكُ
الْوَصِيِّ الْمَالَ بِائْتِمَانِ الْأَبِ لَهُ عَلَيْهِ
وَإِذْنِ الْأَبِ جَائِزٌ عَلَى الصَّغِيرِ صَارَ كَأَنَّهُ
مُمْسِكٌ لَهُ بَعْدَ الْبُلُوغِ بِإِذْنِهِ فَلَا فَرْقَ
بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُودَعِ
وقَوْله تَعَالَى لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ
الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ الْآيَةَ قَالَ أَبُو بَكْرٍ
قَدْ انْتَظَمَتْ هَذِهِ الْجُمْلَةُ عُمُومًا وَمُجْمَلًا
فَأَمَّا الْعُمُومُ فَقَوْلُهُ لِلرِّجَالِ وَلِلنِّسَاءِ
وقَوْله تَعَالَى مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ
فلذلك عموم في إيجاب الميراث للرجال وللنساء مِنْ
الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ فَدَلَّ مِنْ هَذِهِ
الْجِهَةِ عَلَى إثْبَاتِ مَوَارِيثِ ذَوِي الْأَرْحَامِ
لِأَنَّ أَحَدًا لَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَقُولَ إنَّ الْعَمَّاتِ
وَالْخَالَاتِ وَالْأَخْوَالَ وَأَوْلَادَ الْبَنَاتِ مِنْ
الْأَقْرَبِينَ فَوَجَبَ بِظَاهِرِ الْآيَةِ إثْبَاتُ
مِيرَاثِهِمْ إلَّا أَنَّهُ لَمَّا كَانَ قوله نَصِيبٌ
مُجْمَلًا غَيْرَ مَذْكُورِ الْمِقْدَارِ فِي الْآيَةِ
امْتَنَعَ استعمال حكمه إلا أنه ورود بَيَانٍ مِنْ غَيْرِهِ
إلَّا أَنَّ الِاحْتِجَاجَ بِظَاهِرِ الآية في إثبات ميراث ما
لِذَوِي الْأَرْحَامِ سَائِغٌ وَهَذَا مِثْلُ قَوْله تَعَالَى
خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً وقَوْله تَعَالَى أَنْفِقُوا
مِنْ طَيِّباتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنا لَكُمْ
مِنَ الْأَرْضِ وقوله تعالى وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ
عَطْفًا عَلَى مَا قُدِّمَ ذِكْرُهُ مِنْ الزَّرْعِ
وَالثَّمَرَةِ فَهَذِهِ أَلْفَاظٌ قَدْ اشْتَمَلَتْ عَلَى
الْعُمُومِ وَالْمُجْمَلِ فَلَا يَمْنَعُ مَا فِيهَا مِنْ
الْإِجْمَالِ مِنْ الِاحْتِجَاجِ بِعُمُومِهَا مَتَى
اخْتَلَفْنَا فِيمَا انْتَظَمَهُ لَفْظُ الْعُمُومِ وَهُوَ
أَصْنَافُ الْأَمْوَالِ الْمُوجَبِ فِيهَا وَإِنْ لَمْ يَصِحَّ
الِاحْتِجَاجُ بِمَا فِيهَا مِنْ الْمُجْمَلِ عِنْدَ
اخْتِلَافِنَا فِي الْمِقْدَارِ الْوَاجِبِ كَذَلِكَ مَتَى
اخْتَلَفْنَا فِي الْوَرَثَةِ الْمُسْتَحِقِّينَ لِلْمِيرَاثِ
سَاغَ الِاحْتِجَاجُ بِعُمُومِ قَوْله تَعَالَى لِلرِّجالِ
نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ الآية
(2/366)
وَمَتَى اخْتَلَفْنَا فِي الْمِقْدَارِ
الْوَاجِبِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ احْتَجْنَا فِي
إثْبَاتِهِ إلَى بَيَانٍ مِنْ غَيْرِهِ فَإِنْ قِيلَ لَمَّا
قَالَ نَصِيباً مَفْرُوضاً وَلَمْ يَكُنْ لِذَوِي الْأَرْحَامِ
نَصِيبٌ مَفْرُوضٌ عَلِمْنَا أَنَّهُمْ لَمْ يَدْخُلُوا فِي
مُرَادِ الْآيَةِ قِيلَ لَهُ مَا ذَكَرْت لَا يُخْرِجُهُمْ
مِنْ حُكْمِهَا وَكَوْنِهِمْ مُرَادِينَ بِهَا لِأَنَّ الَّذِي
يَجِبُ لِذَوِي الْأَرْحَامِ عِنْدَ مُوجِبِي مَوَارِيثِهِمْ
هُوَ نَصِيبٌ مَفْرُوضٌ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ وَهُوَ
مَعْلُومٌ مُقَدَّرٌ كَأَنْصِبَاءِ ذَوِي السِّهَامِ لَا
فَرْقَ بَيْنَهُمَا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ وَإِنَّمَا أَبَانَ
اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الرِّجَالِ
وَالنِّسَاءِ نَصِيبًا مَفْرُوضًا غَيْرَ مَذْكُورِ
الْمِقْدَارِ فِي الْآيَةِ لِأَنَّهُ مُؤْذِنٌ بِبَيَانٍ
وَتَقْدِيرٍ مَعْلُومٍ لَهُ يَرِدُ فِي التَّالِي فَكَمَا
وَرَدَ الْبَيَانُ فِي نَصِيبِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَوْلَادِ
وَذَوِي السِّهَامِ بَعْضُهَا بِنَصِّ التَّنْزِيلِ
وَبَعْضُهَا بِنَصِّ السُّنَّةِ وَبَعْضُهَا بِإِجْمَاعِ
الْأُمَّةِ وَبَعْضُهَا بِالْقِيَاسِ وَالنَّظَرِ كَذَلِكَ قد
روى بَيَانُ أَنْصِبَاءِ ذَوِي الْأَرْحَامِ بَعْضُهَا
بِالسُّنَّةِ وَبَعْضُهَا بِدَلِيلِ الْكِتَابِ وَبَعْضُهَا
بِاتِّفَاقِ الْأُمَّةِ مِنْ حَيْثُ أَوْجَبَتْ الْآيَةُ
لِذَوِي الْأَرْحَامِ أَنْصِبَاءَ فَلَمْ يَجُزْ إسْقَاطُ
عُمُومِهَا فِيهِمْ وَوَجَبَ تَوْرِيثُهُمْ بِهَا ثُمَّ إذَا
اسْتَحَقُّوا الْمِيرَاثَ بِهَا كَانَ الْمُسْتَحِقُّ مِنْ
النَّصِيبِ الْمَفْرُوضِ عَلَى مَا ذَهَبَ إلَيْهِ
الْقَائِلُونَ بِتَوْرِيثِ ذَوِي الْأَرْحَامِ فِيهِمْ فَهُمْ
وَإِنْ كَانُوا مُخْتَلِفِينَ فِي بَعْضِهَا فَقَدْ اتَّفَقُوا
فِي الْبَعْضِ وَمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ لَمْ يَخْلُ مِنْ
دَلِيلٍ لِلَّهِ تَعَالَى يَدُلُّ عَلَى حُكْمٍ فِيهِ فَإِنْ
قِيلَ قَدْ رُوِيَ عَنْ قَتَادَةَ وَابْنِ جُرَيْجٍ أَنَّ
الْآيَةَ نَزَلَتْ عَلَى سَبَبٍ وَهُوَ أَنَّ أَهْلَ
الْجَاهِلِيَّةِ كَانُوا يُوَرِّثُونَ الذُّكُورَ دُونَ
الْإِنَاثِ فَنَزَلَتْ الْآيَةُ وَقَالَ غَيْرُهُمَا إنَّ
الْعَرَبَ كَانَتْ لا تورث إلا من طاعن بالرمح وزاد عَنْ
الْحَرِيمِ وَالْمَالِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ
الْآيَةَ إبْطَالًا لِحُكْمِهِمْ فَلَا يَصِحُّ اعْتِبَارُ
عُمُومِهَا فِي غَيْرِ مَا وَرَدَتْ فِيهِ قِيلَ لَهُ هَذَا
غَلَطٌ مِنْ وُجُوهٍ أَحَدُهَا أَنَّ السَّبَبَ الَّذِي
ذَكَرْت غَيْرُ مَقْصُورٍ عَلَى الْأَوْلَادِ وَذَوِي
السِّهَامِ مِنْ الْقَرَابَاتِ الَّذِينَ بَيَّنَ اللَّهُ
حُكْمَهُمْ فِي غَيْرِهَا وَإِنَّمَا السَّبَبُ أَنَّهُمْ
كَانُوا يُوَرِّثُونَ الذُّكُورَ دُونَ الْإِنَاثِ وَجَائِزٌ
أَنْ يَكُونُوا قَدْ كَانُوا يُوَرِّثُونَ ذَوِي الْأَرْحَامِ
مِنْ الرِّجَالِ دُونَ الْإِنَاثِ فَلَيْسَ فِيمَا ذَكَرْت
إذًا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ السَّبَبَ كَانَ تَوْرِيثَ
الْأَوْلَادِ وَمَنْ ذَكَرَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ ذَوِي
السِّهَامِ فِي آيَةِ الْمَوَارِيثِ وَمِنْ جِهَةٍ أُخْرَى
أَنَّهَا لَوْ نَزَلَتْ عَلَى سَبَبٍ خَاصٍّ لَمْ يُوجِبْ
ذَلِكَ تَخْصِيصَ عُمُومِ اللَّفْظِ بَلْ الْحُكْمُ
لِلْعُمُومِ دُونَ السَّبَبِ عِنْدَنَا فَنُزُولُهَا عَلَى
سَبَبٍ وَنُزُولُهَا مُبْتَدَأَةً مِنْ غَيْرِ سَبَبٍ سَوَاءٌ
وَأَيْضًا فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ ذَكَرَ مَعَ الْأَوْلَادِ
غَيْرَهُمْ مِنْ الْأَقْرَبِينَ فِي قوله تعالى مِمَّا تَرَكَ
الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ فَعَلِمْنَا أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ
بِهِ مِيرَاثَ الْأَوْلَادِ دون
(2/367)
وَإِذَا حَضَرَ
الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ
فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا
(8)
سَائِرِ الْأَقْرَبِينَ وَيُحْتَجُّ
بِهَذِهِ الْآيَةِ فِي تَوْرِيثِ الْإِخْوَةِ وَالْأَخَوَاتِ
مَعَ الْجَدِّ كَنَحْوِ احْتِجَاجِنَا بِهَا فِي تَوْرِيثِ
ذَوِي الْأَرْحَامِ وقَوْله تَعَالَى نَصِيباً مَفْرُوضاً
يَعْنِي وَاَللَّهُ أَعْلَمُ مَعْلُومًا مُقَدَّرًا وَيُقَالُ
إنَّ أَصْلَ الْفَرْضِ الْحَزُّ فِي الْقِدَاحِ عَلَامَةً
لَهَا يُمَيَّزُ بَيْنَهَا وَالْفُرْضَةُ الْعَلَامَةُ فِي
قَسْمِ الْمَاءِ يعرف بها كل ذوى حَقٍّ نَصِيبَهُ مِنْ
الشُّرْبِ فَإِذَا كَانَ أَصْلُ الْفَرْضِ هَذَا ثُمَّ نُقِلَ
إلَى الْمَقَادِيرِ الْمَعْلُومَةِ فِي الشَّرْعِ أَوْ إلَى
الْأُمُورِ الثَّابِتَةِ اللَّازِمَةِ وَقَدْ قِيلَ إنَّ
أَصْلَ الْفَرْضِ الثُّبُوتُ وَلِذَلِكَ سُمِّيَ الْحَزُّ
الَّذِي فِي سِيَةِ الْقَوْسِ فَرْضًا
لِثُبُوتِهِ وَالْفَرْضُ فِي الشَّرْعِ يَنْقَسِمُ إلَى
هَذَيْنِ الْمَعْنَيَيْنِ فَمَتَى أُرِيدَ بِهِ الْوُجُوبُ
كَانَ الْمَفْرُوضُ فِي أَعْلَى مَرَاتِبِ الْإِيجَابِ وَقَدْ
اُخْتُلِفَ فِي مَعْنَى الْفَرْضِ وَالْوَاجِبِ فِي الشَّرْعِ
مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ وَإِنْ كَانَ كُلُّ مَفْرُوضٍ وَاجِبًا
مِنْ حَيْثُ كَانَ الْفَرْضُ يَقْتَضِي فَارِضًا وَمُوجِبًا
لَهُ وَلَيْسَ كَذَلِكَ الْوَاجِبُ لِأَنَّهُ قَدْ يَجِبُ مِنْ
غَيْرِ إيجَابِ مُوجِبٍ لَهُ أَلَا تَرَى أَنَّهُ جَائِزٌ أَنْ
يُقَالَ إنَّ ثَوَابَ الْمُطِيعِينَ وَاجِبٌ عَلَى اللَّهِ فِي
حِكْمَتِهِ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ إنَّهُ فَرْضٌ عَلَيْهِ
إذْ كَانَ الْفَرْضُ يَقْتَضِي فَارِضًا وَقَدْ يَكُونُ
وَاجِبًا فِي الْحِكْمَةِ غَيْرَ مُقْتَضٍ مُوجِبًا وَأَصْلُ
الْوُجُوبِ فِي اللُّغَةِ هُوَ السُّقُوطُ يُقَالُ وَجَبَتْ
الشَّمْسُ إذَا سَقَطَتْ وَوَجَبَ الْحَائِطُ إذَا سَقَطَ
وَسَمِعْت وَجْبَةً يَعْنِي سَقْطَةً وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى
فَإِذا وَجَبَتْ جُنُوبُها يَعْنِي سَقَطَتْ فَالْفَرْضُ فِي
أَصْلِ اللُّغَة أَشَدُّ تَأْثِيرًا مِنْ الْوَاجِبِ
وَكَذَلِكَ حُكْمُهُمَا فِي الشَّرْعِ إذا كَانَ الْحَزُّ
الْوَاقِعُ ثَابِتَ الْأَثَرِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ الوجوب
قوله تعالى وَإِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُوا الْقُرْبى
وَالْيَتامى الْآيَةَ قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ وَأَبُو
مَالِكٍ وَأَبُو صَالِحٍ هِيَ مَنْسُوخَةٌ بِالْمِيرَاثِ
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَعَطَاءٌ وَالْحَسَنُ وَالشَّعْبِيُّ
وَإِبْرَاهِيمُ وَمُجَاهِدٌ وَالزُّهْرِيُّ إنَّهَا مُحْكَمَةٌ
لَيْسَتْ بِمَنْسُوخَةٍ وَرَوَى عَطِيَّةُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ
يَعْنِي عِنْدَ قِسْمَةِ الْمِيرَاثِ وَذَلِكَ قَبْلَ أَنْ
يَنْزِلَ الْقُرْآنُ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى بَعْدَ
ذَلِكَ الْفَرَائِضَ فَأَعْطَى كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ
فَجُعِلَتْ الصَّدَقَةُ فِيمَا سَمَّى الْمُتَوَفَّى فَفِي
هَذِهِ الرِّوَايَةِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهَا كَانَتْ
وَاجِبَةً عِنْدَ قِسْمَةِ الْمِيرَاثِ ثُمَّ نُسِخَتْ
بِالْمِيرَاثِ وجعل ذَلِكَ فِي وَصِيَّةِ الْمَيِّتِ لَهُمْ
وَرَوَى عِكْرِمَةُ عَنْهُ أَنَّهَا لَيْسَتْ بِمَنْسُوخَةٍ
وَهِيَ فِي قِسْمَةِ الْمِيرَاثِ تُرْضَخُ لَهُمْ فَإِنْ كَانَ
فِي الْمَالِ تقصيرا اعتذر إليهم وهو قوله تعالى وَقُولُوا
لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفاً وَرَوَى الْحَجَّاجُ عَنْ أَبِي
إِسْحَاقَ أَنَّ أَبَا موسى الأشعرى وعبد الرحمن بن بَكْرٍ
كَانَا يُعْطِيَانِ مَنْ حَضَرَ مِنْ هَؤُلَاءِ وَقَالَ
قَتَادَةُ عَنْ الْحَسَنِ قَالَ قَالَ أَبُو مُوسَى هِيَ
مُحْكَمَةٌ وَرَوَى أَشْعَثُ عَنْ ابْنِ سِيرِينَ عَنْ
حُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ
(2/368)
قَالَ وَلِيَ أَبِي مِيرَاثًا فَأَمَرَ
بِشَاةٍ فَذُبِحَتْ ثُمَّ صُنِعَتْ وَلَمَّا قَسَّمَ ذَلِكَ
الْمِيرَاثَ أَطْعَمَهُمْ ثم تلا وَإِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ
أُولُوا الْقُرْبى وَالْيَتامى الْآيَةَ وَرَوَى مُحَمَّدُ
بْنُ سِيرِينَ عَنْ عُبَيْدَةَ مِثْلَهُ وَقَالَ لَوْلَا
هَذِهِ الْآيَةُ لَكَانَتْ هَذِهِ الشَّاةُ مِنْ مَالِي
وَذَكَرَ أَنَّهُ كَانَ مِنْ مال يتيم قد وليه وَرَوَى
هُشَيْمٌ عَنْ أَبِي بِشْرٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ فِي
هَذِهِ الْآيَةِ قَالَ هَذِهِ الْآيَةُ يَتَهَاوَنُ بِهَا
النَّاسُ وَقَالَ هُمَا وَلِيَّانِ أَحَدُهُمَا يَرِثُ
وَالْآخَرُ لَا يَرِثُ وَاَلَّذِي يَرِثُ هُوَ الَّذِي أُمِرَ
أَنْ يَرْزُقَهُمْ وَيُعْطِيَهُمْ وَاَلَّذِي لَا يَرِثُ هُوَ
الَّذِي أُمِرَ أَنْ يَقُولَ لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا
وَيَقُولُ هَذَا الْمَالُ لِقَوْمٍ غُيَّبٍ أَوْ لِأَيْتَامٍ
صِغَارٍ وَلَكُمْ فِيهِ حَقٌّ وَلَسْنَا نَمْلِكُ أَنْ
نُعْطِيَ مِنْهُ شَيْئًا فَهَذَا القول المعرف قَالَ هِيَ
مُحْكَمَةٌ وَلَيْسَتْ بِمَنْسُوخَةِ فَحَمَلَ سَعِيدُ بْنُ
جُبَيْرٍ قَوْلَهُ فَارْزُقُوهُمْ عَلَى أَنَّهُمْ يُعْطُونَ
أنصباءهم من الميراث والقول المعرف لِلْآخَرِينَ فَكَانَتْ
فَائِدَةُ الْآيَةِ عِنْدَهُ إنْ حَضَرَ بَعْضُ الْوَرَثَةِ
وَفِيهِمْ غَائِبٌ أَوْ صَغِيرٌ أَنَّهُ يُعْطَى الْحَاضِرُ
نَصِيبَهُ مِنْ الْمِيرَاثِ وَيُمْسَكُ نَصِيبُ الْغَائِبِ
وَالصَّغِيرِ فَإِنْ صَحَّ هَذَا التَّأْوِيلُ فَهُوَ حُجَّةٌ
لَقَوْلِ مَنْ يَقُولُ فِي الْوَدِيعَةِ إذَا كَانَتْ بَيْنَ
رَجُلَيْنِ وَغَابَ أَحَدُهُمَا أَنَّ لِلْحَاضِرِ أَنْ
يَأْخُذَ نَصِيبَهُ وَيُمْسِكَ الْمُودَعُ نَصِيبَ الْغَائِبِ
وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُف وَمُحَمَّدٍ وَأَبُو حَنِيفَةَ
يَقُولُ لَا يُعْطَى أَحَدُ الْمُودِعَيْنِ شَيْئًا إذَا
كَانَا شَرِيكَيْنِ فِيهِ حَتَّى يَحْضُرَ الْآخَرُ وَرَوَى
عَطَاءٌ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا
مَعْرُوفاً قَالَ يَقُولُ عِدَّةٌ جَمِيلَةٌ إنْ كَانَ
الْوَرَثَةُ صِغَارًا يَقُولُ أَوْلِيَاءُ الْوَرَثَةِ
لِهَؤُلَاءِ الَّذِينَ لَا يَرِثُونَ مِنْ قَرَابَةِ
الْمَيِّتِ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ إنَّ هَؤُلَاءِ
الْوَرَثَةَ صِغَارٌ فَإِذَا بَلَغُوا أَمَرْنَاهُمْ أَنْ
يعرفوا حكم وَيَتَّبِعُوا فِيهِ وَصِيَّةَ رَبِّهِمْ فَحَصَلَ
اخْتِلَافُ السَّلَفِ فِي ذَلِكَ عَلَى أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ
قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ وَأَبُو مَالِكٍ وَأَبُو
صَالِحِ إنَّهَا مَنْسُوخَةٌ بِالْمِيرَاثِ وَالثَّانِي
رِوَايَةُ عِكْرِمَة عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَقَوْلُ عَطَاءٍ
وَالْحَسَنِ وَالشَّعْبِيِّ وَإِبْرَاهِيم وَمُجَاهِدٍ
أَنَّهَا ثَابِتَةُ الْحُكْمِ غَيْرُ مَنْسُوخَةٍ وَهِيَ فِي
الْمِيرَاثِ وَالثَّالِثُ وَهُوَ قَوْلٌ ثَالِثٌ عَنْ ابْنِ
عَبَّاسٍ أَنَّهَا فِي وَصِيَّةِ الْمَيِّتِ لِهَؤُلَاءِ
مَنْسُوخَةٌ عَنْ الْمِيرَاثِ وَرُوِيَ نَحْوُهُ عَنْ زَيْدِ
بْنِ أَسْلَمَ قَالَ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ هَذَا شَيْءٌ أَمَرَ
بِهِ الْمُوصِي فِي الْوَقْتِ الَّذِي يُوصِي فِيهِ
وَاسْتَدَلَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ
تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعافاً قَالَ يَقُولُ
لَهُ مَنْ حَضَرَهُ اتَّقِ اللَّهَ وَصِلْهُمْ وَبِرَّهُمْ
وَأَعْطِهِمْ وَالرَّابِعُ قَوْلُ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ فِي
رِوَايَةِ أَبِي بِشْرٍ عَنْهُ أَنَّ قوله فَارْزُقُوهُمْ
مِنْهُ هُوَ الْمِيرَاثُ نَفْسُهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا
مَعْرُوفاً لِغَيْرِ أَهْلِ الْمِيرَاثِ فَأَمَّا الَّذِينَ
قَالُوا إنَّهَا مَنْسُوخَةٌ فَإِنَّهُ كَانَ عِنْدَهُمْ عَلَى
الْوُجُوبِ قَبْلَ نزول الميراث «24- أحكام في»
(2/369)
وَلْيَخْشَ الَّذِينَ
لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا
عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا
سَدِيدًا (9)
فَلَمَّا نَزَلَتْ الْمَوَارِيثُ وَجُعِلَ
لِكُلِّ وَارِثٍ نَصِيبٌ مَعْلُومٌ صَارَ ذَلِكَ مَنْسُوخًا
وَأَمَّا الَّذِينَ قَالُوا ثَابِتَةُ الْحُكْمِ فَإِنَّهُ
مَحْمُولٌ عِنْدَنَا عَلَى أَنَّهُمْ رَأَوْهَا نَدْبًا
وَاسْتِحْبَابًا لَا حَتْمًا وَإِيجَابًا لِأَنَّهَا لَوْ
كَانَتْ وَاجِبَةً مَعَ كَثْرَةِ قِسْمَةِ الْمَوَارِيثِ فِي
عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَالصَّحَابَةِ وَمَنْ بَعْدَهُمْ لَنُقِلَ وُجُوبُ ذَلِكَ
وَاسْتِحْقَاقُهُ لِهَؤُلَاءِ كَمَا نُقِلَتْ الْمَوَارِيثُ
لِعُمُومِ الْحَاجَةِ إلَيْهِ فَلَمَّا لَمْ يَثْبُتْ وُجُوبُ
ذَلِكَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَلَا عَنْ الصَّحَابَةِ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ
اسْتِحْبَابٌ لَيْسَ بِإِيجَابٍ وَمَا رُوِيَ عَنْ عَبْدِ
الرَّحْمَنِ وَعُبَيْدَةَ وَأَبِي مُوسَى فِي ذَلِكَ فَجَائِزٌ
أَنْ يَكُونَ
الْوَرَثَةُ كَانُوا كِبَارًا فَذَبَحَ الشَّاةَ مِنْ جُمْلَةِ
الْمَالِ بإذنهم وما روى في الحديث أن أبى عُبَيْدَة قَسَّمَ
مِيرَاثَ أَيْتَامٍ فَذَبَحَ شَاةً فَإِنَّ هَذَا عَلَى
أَنَّهُمْ كَانُوا يَتَامَى فَكَبِرُوا لِأَنَّهُمْ لو كانوا
صغارا لم تصح مقاسمتهم ويدل عَلَى أَنَّهُ نَدْبٌ مَا رَوَى
عَطَاءٌ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ أَنَّ الْوَصِيَّ يَقُولُ
لِهَؤُلَاءِ الْحَاضِرِينَ مِنْ أُولِي الْقُرْبَى
وَغَيْرِهِمْ إنَّ هَؤُلَاءِ الْوَرَثَةَ صِغَارٌ
وَيَعْتَذِرُونَ إلَيْهِمْ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانُوا
مُسْتَحِقِّينَ لَهُ عَلَى الْإِيجَابِ لَوَجَبَ إعْطَاؤُهُمْ
صِغَارًا كَانَ الْوَرَثَةُ أَوْ كِبَارًا وَأَيْضًا فَإِنَّ
اللَّهَ تَعَالَى قَدْ قَسَّمَ الْمَوَارِيثَ بَيْنَ
الْوَرَثَةِ وَبَيَّنَ نَصِيبَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ فِي
آيَةِ الْمَوَارِيثِ وَلَمْ يَجْعَلْ فِيهَا لِهَؤُلَاءِ
شَيْئًا وَمَا كَانَ مِلْكًا لِغَيْرِهِ فَغَيْرُ جَائِزٍ
إزَالَتُهُ إلَى غَيْرِهِ إلا بالوجوه التي حكم الله بإزالته
لِقَوْلِهِ تَعَالَى لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ
بِالْباطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ
مِنْكُمْ
وقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دِمَاؤُكُمْ
وَأَمْوَالُكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ
وَقَالَ لَا يَحِلّ مَالُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إلَّا بِطِيبَةٍ
مِنْ نَفْسِهِ
وَهَذَا كُلُّهُ يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ إعْطَاءُ هَؤُلَاءِ
الْحَاضِرِينَ عِنْدَ الْقِسْمَةِ اسْتِحْبَابًا لَا إيجَابًا
وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفاً
فَقَدْ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ إذَا كَانَ فِي
الْمَالِ تَقْصِيرٌ اُعْتُذِرَ إلَيْهِمْ وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ
جُبَيْرٍ قَالَ يُعْطَى الْمِيرَاثُ أَهْلَهُ وهو معنى قوله
تعالى فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ
وَيَقُولُ لِمَنْ لَا يَرِثُ إنَّ هَذَا الْمَالَ لِقَوْمٍ
غُيَّبٍ وَلِأَيْتَامٍ صِغَارٍ وَلَكُمْ فِيهِ حَقٌّ وَلَسْنَا
نَمْلِكُ أَنْ نُعْطِيَ مِنْهُ شَيْئًا فَمَعْنَاهُ عِنْدَهُ
ضَرْبٌ مِنْ الِاعْتِذَارِ إلَيْهِمْ وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ
الْعِلْمِ إذَا أَعْطَوْهُمْ عِنْدَ الْقِسْمَةِ شَيْئًا لَا
يَمُنُّ عَلَيْهِمْ وَلَا يَنْتَهِرُهُمْ وَلَا يُسِيءُ
اللَّفْظَ فِيمَا يُخَاطِبُهُمْ بِهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى
قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ
يَتْبَعُها أَذىً وقوله تعالى فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا
تَقْهَرْ وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ «
قَوْله تَعَالَى وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ
خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعافاً خافُوا عَلَيْهِمْ الْآيَةَ
اخْتَلَفَ السَّلَفُ فِي تَأْوِيلِهِ فَرُوِيَ عَنْ ابن عباس
رواية وعن سعيد ابن جُبَيْرٍ وَالْحَسَنِ وَمُجَاهِدٍ
وَقَتَادَةَ وَالضَّحَّاكِ وَالسُّدِّيِّ قَالُوا هُوَ
الرَّجُلُ يَحْضُرُهُ الْمَوْتُ
(2/370)
فَيَقُولُ لَهُ مَنْ يَحْضُرُهُ اتَّقِ
اللَّهَ أَعْطِهِمْ صِلْهُمْ بِرَّهُمْ وَلَوْ كَانُوا هُمْ
الَّذِينَ يُوصُونَ لَأَحَبُّوا أَنْ يُبْقُوا لِأَوْلَادِهِمْ
قَالَ حَبِيبُ بْنُ أَبِي ثَابِتٍ فَسَأَلْت مِقْسَمًا عَنْ
ذَلِكَ فَقَالَ لَا وَلَكِنَّهُ الرَّجُلُ يَحْضُرُهُ
الْمَوْتُ فَيَقُولُ لَهُ مَنْ يَحْضُرُهُ اتَّقِ اللَّهَ
وَأَمْسِكْ عَلَيْك مَالَك وَلَوْ كَانُوا ذَوِي قَرَابَتِهِ
لَأَحَبُّوا أَنْ يُوصِيَ لَهُمْ فَتَأَوَّلَهُ الْأَوَّلُونَ
عَلَى نَهْيِ الْحَاضِرِينَ عَنْ الْحَضِّ عَلَى الْوَصِيَّةِ
وَتَأَوَّلَهُ مِقْسَمٌ عَلَى نَهْيِ مَنْ يَأْمُرُهُ
بِتَرْكِهَا وَقَالَ الْحَسَنُ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى هُوَ
الرَّجُلُ يَكُونُ عِنْدَ الْمَيِّتِ فَيَقُولُ أَوْصِ
بِأَكْثَرَ مِنْ الثُّلُثِ مِنْ مَالِكَ وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ
رِوَايَةٌ أُخْرَى أَنَّهُ قَالَ فِي وِلَايَةِ مَالِ
الْيَتِيمِ وَحِفْظِهِ إنَّ عَلَيْهِمْ أَنْ يعملوا فيه
ويقولوا بمثل ما يحب أَنْ يُعْمَلَ وَيُقَالَ فِي أَمْوَالِ
أَيْتَامِهِمْ وَضِعَافِ ذُرِّيَّتِهِمْ بَعْدَ مَوْتِهِمْ
وَجَائِزٌ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ المعاني التي تأولها السَّلَفُ
عَلَيْهَا الْآيَةَ مُرَادَةً بِهَا إلَّا أَنَّ مَا نُهِيَ
عَنْهُ مِنْ الْأَمْرِ بِالْوَصِيَّةِ أَنَّ النَّهْيَ عَنْهَا
إذَا قَصَدَ الْمُشِيرُ بِذَلِكَ إلَى الْإِضْرَارِ
بِالْوَرَثَةِ أَوْ بِالْمُوصَى لَهُمْ مِمَّا لَا يَرْضَاهُ
هُوَ لِنَفْسِهِ لَوْ كَانَ مَكَانَ هَؤُلَاءِ وَذَلِكَ بِأَنْ
يَكُونَ الْمَرِيضُ قَلِيلَ الْمَالِ لَهُ ذُرِّيَّةٌ
ضُعَفَاءُ فَيَأْمُرُهُ الَّذِي يَحْضُرُهُ بِاسْتِغْرَاقِ
الثُّلُثِ لِلْوَصِيَّةِ وَلَوْ كَانَ هُوَ مَكَانَهُ لَمْ
يَرْضَ بِذَلِكَ وَصِيَّةً لَهُ لِأَجْلِ وَرَثَتِهِ وَهَذَا
يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُسْتَحَبَّ لَهُ إذَا كَانَ لَهُ
وَرَثَةٌ ضُعَفَاءُ وَهُوَ قَلِيلُ الْمَالِ أَنْ لَا يُوصِيَ
بِشَيْءٍ وَيَتْرُكَهُ لَهُمْ أَوْ يُوصِيَ لَهُمْ بِأَقَلَّ
مِنْ الثُّلُثِ
وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
لِسَعْدٍ حِينَ قَالَ أُوصِي بِجَمِيعِ مَالِي فَقَالَ لَا
إلَى أَنْ رَدَّهُ إلَى الثُّلُثِ فَقَالَ الثُّلُثُ
وَالثُّلُثُ كَثِيرٌ إنَّك إن تدع ورثتك أغنياء خير من أن
تَدَعَهُمْ عَالَةً يَتَكَفَّفُونَ النَّاسَ
فَأَخْبَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
أَنَّ الْوَرَثَةَ إذَا كَانُوا فُقَرَاءَ فَتَرْكُ
الْوَصِيَّةِ لِيَسْتَغْنُوا بِهِ أَفْضَلُ مِنْ فِعْلِهَا
وَذَكَرَ الْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ
كَانَ يَقُولُ الْأَفْضَلُ لِمَنْ لَهُ مَالٌ كَثِيرٌ
الْوَصِيَّةُ بِمَا يُرِيدُ أَنْ يُوصِيَ به على وجه القرية
مِنْ ثُلُثِ مَالِهِ وَالْأَفْضَلُ لِمَنْ لَيْسَ لَهُ مَالٌ
كَثِيرٌ أَنْ لَا يُوصِيَ مِنْهُ بِشَيْءٍ وَأَنْ يُبْقِيَهُ
لِوَرَثَتِهِ وَالنَّهْيُ مُنْصَرِفٌ أَيْضًا إلَى مَنْ
يَأْمُرُهُ مِنْ الْحَاضِرِينَ بِأَنْ يُوصِيَ بِأَكْثَرَ مِنْ
الثُّلُثِ عَلَى مَا رُوِيَ عَنْ الْحَسَنِ لِأَنَّ ذَلِكَ لَا
يَجُوزُ أَنْ يَفْعَلَهُ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الثُّلُثُ كَثِيرٌ وَلِنَهْيِهِ سَعْدًا
عَنْ الْوَصِيَّةِ بِأَكْثَرَ مِنْ الثُّلُثَ وَجَائِزٌ أَنْ
يَكُونَ مَا قَالَهُ مِقْسَمٌ مُرَادًا بِأَنْ يَقُولَ
الْحَاضِرُ لَا تُوصِ بِشَيْءٍ وَلَوْ كَانَ مِنْ ذَوِي
قَرَابَتِهِ لَأَحَبُّ أَنْ يُوصِيَ لَهُ فَيُشِيرَ عَلَيْهِ
بِمَا لَا يَرْضَاهُ لِنَفْسِهِ وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعْنَى ذَلِكَ
حَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي بْنُ قَانِعٍ قَالَ حَدَّثَنَا
إبْرَاهِيمُ بْنُ هَاشِمٍ قَالَ حَدَّثَنَا هُدْبَةُ قَالَ
حَدَّثَنَا هَمَّامٌ قَالَ حَدَّثَنَا قَتَادَةُ عَنْ أَنَسٍ
أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
قَالَ لَا يُؤْمِنُ الْعَبْدُ حَتَّى يُحِبَّ لِأَخِيهِ مَا
يُحِبُّ
(2/371)
إِنَّ الَّذِينَ
يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا
يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا
(10)
لِنَفْسِهِ مِنْ الْخَيْرِ
وَحَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي قَالَ حَدَّثَنَا الْحَسَنُ
بْنُ الْعَبَّاسِ الرَّازِيّ قَالَ حَدَّثَنَا سهل ابن
عُثْمَانَ قَالَ حَدَّثَنَا زِيَادُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ
لَيْثٍ عَنْ طَلْحَةَ عَنْ خَيْثَمَةَ عَنْ عبد الله بن عُمَرَ
عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ مَنْ
سَرَّهُ أَنْ يُزَحْزَحَ عَنْ النَّارِ وَيُدْخَلَ الْجَنَّةَ
فَلْتَأْتِهِ مَنِيَّتُهُ وَهُوَ يَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ
إلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ وَيُحِبُّ
أَنْ يَأْتِيَ إلى الناس ما يحب أن يأتى إلَيْهِ
قَالَ أَبُو بَكْرٍ فَهَذَا مَعْنَى قَوْله تَعَالَى
وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ
ذُرِّيَّةً ضِعافاً خافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ
وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيداً فَنَهَاهُ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ
يُشِيرَ عَلَى غَيْرِهِ وَيَأْمُرَهُ بِمَا لَا يَرْضَاهُ
لِنَفْسِهِ وَلِأَهْلِهِ وَلِوَرَثَتِهِ وَأَمَرَ اللَّهُ
تَعَالَى بِأَنْ يَقُولَ الْحَاضِرُونَ قَوْلًا سَدِيدًا
وَهُوَ الْعَدْلُ وَالْحَقُّ الَّذِي لَا خَلَلَ فِيهِ وَلَا
فَسَادَ فِي إجْحَافٍ بِوَارِثٍ أَوْ حِرْمَانٍ لِذِي
قَرَابَةٍ
وقَوْله تَعَالَى إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ
الْيَتامى ظُلْماً الآية روى عن ابن عباس وسعيد ابن جُبَيْرٍ
وَمُجَاهِدٍ أَنَّهُ لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَزَلَ
مَنْ كَانَ فِي حِجْرِهِ يَتِيمٌ طَعَامَهُ عَنْ طَعَامِهِ
وَشَرَابَهُ عَنْ شَرَابِهِ حَتَّى فَسَدَ حَتَّى أَنْزَلَ
اللَّهُ تَعَالَى وَإِنْ تُخالِطُوهُمْ فَإِخْوانُكُمْ
وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ فَرَخَّصَ
لَهُمْ فِي الْخُلْطَةِ عَلَى وَجْهِ الْإِصْلَاحِ قَالَ أَبُو
بَكْرٍ قَدْ خَصَّ اللَّهُ تَعَالَى الْأَكْلَ بِالذِّكْرِ
وَسَائِرُ الْأَمْوَالِ غَيْرِ الْمَأْكُولِ مِنْهَا مَحْظُورٌ
إتْلَافُهُ مِنْ مَالِ الْيَتِيمِ كَحَظْرِ الْمَأْكُولِ
مِنْهُ وَلَكِنَّهُ خَصَّ الْأَكْلَ بِالذِّكْرِ لِأَنَّهُ
أَعْظَمُ مَا يُبْتَغَى لَهُ الْأَمْوَالُ وَقَدْ بَيَّنَّا
ذَلِكَ وَنَظَائِرَهُ فِيمَا قَدْ سَلَفَ وقَوْله تَعَالَى
إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً رُوِيَ عَنْ
السُّدِّيِّ أَنَّ لَهَبَ النَّارِ يَخْرُجُ مِنْ فَمِهِ
وَمَسَامِعِهِ وَأَنْفِهِ وَعَيْنَيْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ
يعرفه مَنْ رَآهُ أَنَّهُ أَكَلَ مَالَ الْيَتِيمِ وَقِيلَ
إنَّهُ كَالْمَثَلِ لِأَنَّهُمْ يَصِيرُونَ بِهِ إلَى
جَهَنَّمَ فَتَمْتَلِئُ بِالنَّارِ أَجْوَافُهُمْ وَمِنْ
جُهَّالِ الْحَشْوِ وَأَصْحَابِ الْحَدِيثِ مَنْ يَظُنُّ أَنَّ
قَوْله تَعَالَى إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ
الْيَتامى ظُلْماً منسوخ بقوله تعالى وَإِنْ تُخالِطُوهُمْ
فَإِخْوانُكُمْ وَقَدْ أَثْبَتَهُ بَعْضُهُمْ فِي النَّاسِخِ
وَالْمَنْسُوخِ لِمَا رُوِيَ أَنَّهُ لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ
الْآيَةُ عَزَلُوا طَعَامَ الْيَتِيمِ وَشَرَابَهُ حَتَّى
نَزَلَ قَوْله تَعَالَى وَإِنْ تُخالِطُوهُمْ فَإِخْوانُكُمْ
وَهَذَا الْقَوْلُ مِنْ قَائِلِهِ يَدُلُّ عَلَى جَهْلِهِ
بِمَعْنَى النَّسْخِ وَبِمَا يَجُوزُ نَسْخُهُ مِمَّا لَا
يَجُوزُ وَلَا خِلَافَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ أَنَّ أَكْلَ
مَالِ الْيَتِيمِ ظُلْمًا مَحْظُورٌ وَأَنَّ الْوَعِيدَ
الْمَذْكُورَ فِي الْآيَةِ قَائِمٌ فِيهِ عَلَى اخْتِلَافٍ
مِنْهُمْ فِي إلْحَاقِ الْوَعِيدِ بِهِ فِي الْآخِرَةِ لَا
مَحَالَةَ أَوْ جَوَازِ الْغُفْرَانِ فَأَمَّا النَّسْخُ فَلَا
يُجِيزُهُ عَاقِلٌ فِي مِثْلِهِ وَجَهِلَ هَذَا الرَّجُلُ
أَنَّ الظُّلْمَ لَا تَجُوزُ إبَاحَتُهُ بِحَالٍ فَلَا يَجُوزُ
نَسْخُ حَظْرِهِ وَإِنَّمَا عَزَلَ مَنْ كَانَ فِي حِجْرِهِ
يَتِيمٌ مِنْ الصَّحَابَةِ طَعَامَهُ عَنْ طَعَامِهِ لِأَنَّهُ
خَافَ أَنْ يَأْكُلَ مِنْ مَالِ
(2/372)
اليتيم ما لا يستحقه فتلحقه سمة الظُّلْمِ
وَيَصِيرُ مِنْ أَهْلِ الْوَعِيدِ فِي الْآيَةِ وَاحْتَاطُوا
بِذَلِكَ فَلَمَّا نَزَلَ قَوْله تَعَالَى وَإِنْ
تُخالِطُوهُمْ فَإِخْوانُكُمْ زَالَ عَنْهُمْ الْخَوْفُ فِي
الْخُلْطَةِ بَعْدَ أَنْ يَقْصِدُوا الْإِصْلَاحَ بِهَا
وَلَيْسَ فِيهِ إبَاحَةٌ لِأَكْلِ مَالِ الْيَتِيمِ ظُلْمًا
حَتَّى يَكُونَ نَاسِخًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى إِنَّ الَّذِينَ
يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً والله أعلم.
(تم الجزء الثاني ويليه الجزء الثالث وأوله باب الفرائض)
(2/373)
يُوصِيكُمُ اللَّهُ
فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ
فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا
مَا تَرَكَ وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ
وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا
تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ
وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كَانَ لَهُ
إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي
بِهَا أَوْ دَيْنٍ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لَا تَدْرُونَ
أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ
إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (11)
[الجزء الثالث]
[تتمة سورة النساء]
بسم الله الرّحمن الرّحيم
بَابُ الْفَرَائِضِ
قَالَ أَبُو بَكْرٍ قَدْ كَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ
يَتَوَارَثُونَ بِشَيْئَيْنِ أَحَدُهُمَا النَّسَبُ وَالْآخَرُ
السَّبَبُ فَأَمَّا مَا يُسْتَحَقُّ بِالنَّسَبِ فَلَمْ
يَكُونُوا يُوَرِّثُونَ الصِّغَارَ وَلَا الْإِنَاثَ
وَإِنَّمَا يُوَرِّثُونَ مَنْ قَاتَلَ عَلَى الْفَرَسِ وَحَازَ
الْغَنِيمَةَ رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ ابْنِ عَبَّاس وَسَعِيدِ بْنِ
جُبَيْرٍ فِي آخَرِينَ مِنْهُمْ إلَى أَنْ أَنْزَلَ اللَّهُ
تَعَالَى يَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّساءِ قُلِ اللَّهُ
يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ إلى قوله تعالى وَالْمُسْتَضْعَفِينَ
مِنَ الْوِلْدانِ وَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى قَوْلَهُ
يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ
الْأُنْثَيَيْنِ وَقَدْ كَانُوا مُقِرِّينَ بَعْدَ مَبْعَثِ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى مَا
كَانُوا عَلَيْهِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ فِي الْمُنَاكَحَاتِ
وَالطَّلَاقِ وَالْمِيرَاثِ إلَى أن تقلوا عَنْهُ إلَى
غَيْرِهِ بِالشَّرِيعَةِ قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ قُلْت لِعَطَاءِ
أَبَلَغَكَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَقَرَّ النَّاسَ عَلَى مَا أدركهم صلّى الله عليه
وسلّم مِنْ طَلَاقٍ أَوْ نِكَاحٍ أَوْ مِيرَاثٍ قَالَ لَمْ
يَبْلُغْنَا إلَّا ذَلِكَ وَرَوَى حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ
ابْنِ عَوْنٍ عَنْ ابْنِ سِيرِينَ قال توارث المهاجرين
وَالْأَنْصَارُ بِنَسَبِهِمْ الَّذِي كَانَ فِي
الْجَاهِلِيَّةِ وَقَالَ ابن جريح عَنْ عَمْرو بْن شُعَيْبٍ
قَالَ مَا كَانَ مِنْ نِكَاحٍ أَوْ طَلَاقٍ فِي
الْجَاهِلِيَّةِ فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَقَرَّهُ عَلَى ذَلِكَ إلَّا الرِّبَا
فَمَا أَدْرَكَ الْإِسْلَامُ من ربا لم يقبض رد الْبَائِعِ
رَأْسَ مَالِهِ وَطَرَحَ الرِّبَا وَرَوَى حَمَّادُ بْنُ
زَيْدٍ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جبير فإن بَعَثَ
اللَّهُ تَعَالَى مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ وَالنَّاسُ عَلَى أَمْرِ جَاهِلِيَّتِهِمْ إلَى أَنْ
يؤمروا بشيء أو ينهوا عنه وإلأفهم مَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنْ
أَمْرِ جَاهِلِيَّتِهِمْ وَهُوَ عَلَى مَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ
عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ الْحَلَالُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ
تَعَالَى وَالْحَرَامُ مَا حَرَّمَ اللَّهُ تَعَالَى وَمَا
سَكَتَ عَنْهُ فَهُوَ عَفْوٌ فَقَدْ كَانُوا مُقِرِّينَ بَعْدَ
مَبْعَثِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا
لَا يَحْظُرُهُ الْعَقْلُ عَلَى مَا كَانُوا عَلَيْهِ وَقَدْ
كَانَتْ الْعَرَبُ مُتَمَسِّكَةً بِبَعْضٍ شَرَائِعِ
إبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ وَقَدْ
كَانُوا أَحْدَثُوا أَشْيَاءَ مِنْهَا مَا يَحْظُرُهُ
الْعَقْلُ نَحْوَ الشِّرْكِ وَعِبَادَةِ الْأَوْثَانِ وَدَفْنِ
الْبَنَاتِ وَكَثِيرٍ مِنْ الْأَشْيَاءِ الْمُقَبَّحَةِ فِي
الْعُقُولِ وَقَدْ كَانُوا عَلَى أَشْيَاءَ مِنْ مَكَارِمِ
الْأَخْلَاقِ وَكَثِيرٌ مِنْ الْمُعَامَلَاتِ الَّتِي لَا
تَحْظُرُهَا الْعُقُولُ فَبَعَثَ اللَّهُ نَبِيَّهُ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وسلّم داعيا إلى توحيد وَتَرْكِ مَا
تَحْظُرُهُ الْعُقُولُ مِنْ عِبَادَةِ الْأَوْثَانِ وَدَفْنِ
الْبَنَاتِ وَالسَّائِبَةِ وَالْوَصِيلَةِ وَالْحَامِي وَمَا
كَانُوا يَتَقَرَّبُونِ بِهِ إلَى
(3/2)
أَوْثَانِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِيمَا لَمْ
يَكُنْ الْعَقْلُ يَحْظُرُهُ مِنْ الْمُعَامَلَاتِ وَعُقُودِ
الْبِيَاعَاتِ وَالْمُنَاكَحَاتِ وَالطَّلَاقِ وَالْمَوَارِيثِ
عَلَى مَا كَانُوا عَلَيْهِ فَكَانَ ذَلِكَ جَائِزًا مِنْهُمْ
إذْ لَيْسَ فِي الْعَقْلِ حَظْرُهُ وَلَمْ تَقُمْ حُجَّةُ
السَّمْعِ عَلَيْهِمْ بِتَحْرِيمِهِ فَكَانَ أَمْرُ
مَوَارِيثِهِمْ عَلَى مَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنْ تَوْرِيثِ
الذكور المقاقلة مِنْهُمْ دُونَ الصِّغَارِ وَدُونَ الْإِنَاثِ
إلَى أَنْ أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى آيَ الْمَوَارِيثِ
وَكَانَ السَّبَبُ الَّذِي يَتَوَارَثُونَ بِهِ شَيْئَيْنِ
أَحَدُهُمَا الْحِلْفُ وَالْمُعَاقَدَةُ وَالْآخَرُ
التَّبَنِّي ثُمَّ جَاءَ الْإِسْلَامُ فَتُرِكُوا بُرْهَةً
مِنْ الدَّهْرِ عَلَى مَا كَانُوا عَلَيْهِ ثُمَّ نُسِخَ
فَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ إنَّهُمْ كَانُوا يَتَوَارَثُونَ
بِالْحِلْفِ وَالْمُعَاقَدَةِ بِنَصِّ التَّنْزِيلِ ثُمَّ
نُسِخَ وَقَالَ شَيْبَانُ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْله تَعَالَى
وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ
قَالَ كَانَ الرَّجُلُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ يُعَاقِدُ
الرَّجُلَ فَيَقُولُ دَمِي دَمُك وَهَدْمِي هَدْمُك
وَتَرِثُنِي وَأَرِثُك وَتُطْلَبُ بِي وَأُطْلَبُ بِك قَالَ
فَوَرَّثُوا السُّدُسَ فِي الْإِسْلَامِ مِنْ جَمِيعِ
الْأَمْوَالِ ثُمَّ يَأْخُذُ أَهْلُ الْمِيرَاثِ مِيرَاثَهُمْ
ثُمَّ نُسِخَ بَعْدَ ذَلِكَ فقال الله تعالى وَأُولُوا
الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ
وَرَوَى الْحَسَنُ بْنُ عَطِيَّةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ ابْنِ
عَبَّاس فِي قَوْله تَعَالَى وَلِكُلٍّ جَعَلْنا مَوالِيَ
مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَالَّذِينَ
عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ كَانَ الرَّجُلُ
فِي الْجَاهِلِيَّةِ يَحْلِفُ لَهُ الرَّجُلُ فَيَكُونُ
تَابِعًا لَهُ فَإِذَا مَاتَ صَارَ الْمِيرَاثُ لِأَهْلِهِ
وَأَقَارِبِهِ وَبَقِيَ تَابِعُهُ لَيْسَ لَهُ شَيْءٌ
فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى وَالَّذِينَ عَقَدَتْ
أَيْمانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ فَكَانَ يُعْطَى مِنْ
مِيرَاثِهِ وَقَالَ عَطَاءٌ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ فِي
قَوْله تَعَالَى وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ فَآتُوهُمْ
نَصِيبَهُمْ وَذَلِكَ أَنَّ الرَّجُلَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ
وَفِي الْإِسْلَامِ كَانَ يَرْغَبُ فِي خِلَّةِ الرَّجُلِ
فَيُعَاقِدُهُ فَيَقُولُ تَرِثُنِي وَأَرِثُك وَأَيُّهُمَا
مَاتَ قَبْلَ صَاحِبِهِ كَانَ لِلْحَيِّ مَا اشْتَرَطَ مِنْ
مَالِ الْمَيِّتِ فَلَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي
قِسْمَةِ الْمِيرَاثِ وَلَمْ يُذْكَرْ أَهْلُ الْعَقْدِ جَاءَ
رَجُلٌ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فَقَالَ يَا نَبِيَّ اللَّهِ نَزَلَتْ قِسْمَةُ
الْمِيرَاثِ وَلَمْ يُذْكَرْ أَهْلُ الْعَقْدِ وَقَدْ
كُنْت عَاقَدْتُ رَجُلًا فَمَاتَ فَنَزَلَتْ وَالَّذِينَ
عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ إِنَّ اللَّهَ
كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً فأخبر هؤلاء السلف مِيرَاثَ
الْحَلِيفِ قَدْ كَانَ حُكْمُهُ ثَابِتًا فِي الْإِسْلَامِ
مِنْ طَرِيقِ السَّمْعِ لَا مِنْ جِهَةِ إقْرَارِهِمْ عَلَى
مَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنْ أَمْرِ الْجَاهِلِيَّةِ وَقَالَ
بَعْضُهُمْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ ثَابِتًا بِالسَّمْعِ مِنْ
طَرِيقِ الشَّرْعِ وَإِنَّمَا كَانُوا مُقِرِّينَ عَلَى مَا
كَانُوا عَلَيْهِ مِنْ أَمْرِ الْجَاهِلِيَّةِ إلَى أَنْ
نَزَلَتْ آيَةُ الْمَوَارِيثِ فَأَزَالَتْ ذَلِكَ الحكم حدثنا
جعفر بن محمد الواسطي قال حدثنا جعفر بن محمد بن اليمان قال
حَدَّثَنَا أَبُو عُبَيْدٍ قَالَ حَدَّثَنَا عَبْدُ
الرَّحْمَنِ عَنْ سُفْيَانَ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي
قوله
(3/3)
تعالى وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ
فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ قَالَ كَانَ حُلَفَاءَ فِي
الْجَاهِلِيَّةِ فَأُمِرُوا أَنْ يُعْطُوهُمْ نَصِيبَهُمْ مِنْ
الْمَشُورَةِ وَالْعَقْلِ وَالنَّصْرِ وَلَا ميراث لهم قال
حدثنا أَبُو عُبَيْدٍ قَالَ حَدَّثَنَا مُعَاذٌ عَنْ ابْنِ
عَوْنٍ عَنْ عِيسَى بْن الْحَارِثِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
الزُّبَيْرِ فِي قَوْلِهِ تعالى وَأُولُوا الْأَرْحامِ
بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ قَالَ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ
فِي الْعَصَبَاتِ كَانَ الرَّجُلُ يُعَاقِدُ الرَّجُلَ يَقُولُ
تَرِثُنِي وَأَرِثُك فَنَزَلَتْ وَأُولُوا الْأَرْحامِ
بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ قَالَ وَحَدَّثَنَا أَبُو عُبَيْدٍ
قَالَ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ عَنْ
مُعَاوِيَةَ بْنِ إبْرَاهِيمَ عن على بن طَلْحَةَ عَنْ ابْنِ
عَبَّاسٍ وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ فَآتُوهُمْ
نَصِيبَهُمْ قَالَ كَانَ الرَّجُلُ يَقُولُ تَرِثُنِي
وَأَرِثُك فَنَسَخَتْهَا وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ
أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ
وَالْمُهاجِرِينَ إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلى أَوْلِيائِكُمْ
مَعْرُوفاً قَالَ إلَّا أَنْ تُوصُوا لِأَوْلِيَائِهِمْ
الَّذِينَ عَاقَدُوهُمْ وَصِيَّةً فَذَكَرَ هَؤُلَاءِ أَنَّ
مَا كَانَ مِنْ ذلك في الجاهلية نسخ بقوله تعالى وَأُولُوا
الْأَرْحامِ وأن قوله تعالى فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ إنَّمَا
أُرِيدَ بِهِ الْوَصِيَّةُ أَوْ الْمَشُورَةُ وَالنَّصْرُ مِنْ
غَيْرِ مِيرَاثٍ وَأَوْلَى الْأَشْيَاءِ بِمَعْنَى الْآيَةِ
تَثْبِيتُ التَّوَارُثِ بِالْحَلِفِ لِأَنَّ قَوْله تَعَالَى
وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ
يَقْتَضِي نَصِيبًا ثَابِتًا لَهُمْ وَالْعَقْلُ
وَالْمَشُورَةُ وَالْوَصِيَّةُ لَيْسَتْ بِنَصِيبٍ ثَابِتٍ
وَهُوَ مِثْلُ قَوْله تَعَالَى لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا
تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ
الْمَفْهُومُ مِنْ ظَاهِرِهِ إثْبَاتُ نَصِيبٍ مِنْ
الْمِيرَاثِ كَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى وَالَّذِينَ عَقَدَتْ
أَيْمانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ قَدْ اقْتَضَى ظَاهِرُهُ
إثْبَاتَ نَصِيبٍ لَهُمْ قَدْ اسْتَحَقُّوهُ بِالْمُعَاقَدَةِ
وَالْمَشُورَةُ يَسْتَوِي فِيهَا سَائِرُ النَّاسِ فَلَيْسَتْ
إذًا بِنَصِيبٍ فَالْعَقْلُ إنَّمَا يَجِبُ عَلَى حُلَفَائِهِ
وَلَيْسَ هُوَ بِنَصِيبٍ لَهُ وَالْوَصِيَّةُ إنْ لَمْ تَكُنْ
مُسْتَحَقَّةً وَاجِبَةً فَلَيْسَتْ بِنَصِيبٍ فَتَأْوِيلُ
الْآيَةِ عَلَى النَّصِيبِ الْمُسَمَّى لَهُ فِي عَقْدِ
الْمُحَالَفَةِ أَوْلَى وَأَشْبَهُ بِمَفْهُومِ الْخِطَابِ
مِمَّا قَالَ الْآخَرُونَ وَهَذَا عِنْدَنَا لَيْسَ
بِمَنْسُوخٍ وَإِنَّمَا حَدَثَ وَارِثٌ آخَرُ هُوَ أَوْلَى
مِنْهُمْ كَحُدُوثِ ابْنٍ لِمَنْ لَهُ أَخٌ لَمْ يَخْرُجْ
الْأَخُ مِنْ أَنْ يَكُونَ مِنْ أَهْلِ الْمِيرَاثِ إلَّا
أَنَّ الإبن أولى منه وكذلك أولوا الْأَرْحَامِ أَوْلَى مِنْ
الْحَلِيفِ فَإِذَا لَمْ يَكُنْ رَحِمٌ وَلَا عَصَبَةٌ
فَالْمِيرَاثُ لِمَنْ حَالَفَهُ وَجَعَلَهُ لَهُ وَكَذَلِكَ
أَجَازَ أَصْحَابُنَا الْوَصِيَّةَ بِجَمِيعِ الْمَالِ لِمَنْ
لَا وَارِثَ لَهُ وَأَمَّا الْمِيرَاثُ بِالدَّعْوَةِ
وَالتَّبَنِّي فَإِنَّ الرَّجُلَ مِنْهُمْ كَانَ يَتَبَنَّى
ابْنَ غَيْرِهِ فَيُنْسَبُ إلَيْهِ دُونَ أَبِيهِ مِنْ
النَّسَبِ وَيَرِثُهُ وَقَدْ كَانَ ذَلِكَ حُكْمًا ثَابِتًا
فِي الْإِسْلَامِ
وَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
تَبَنَّى زَيْدَ بْنَ حَارِثَةَ
وَكَانَ يُقَالُ لَهُ زَيْدُ بْنُ مُحَمَّدٍ حَتَّى أَنْزَلَ
اللَّهُ تَعَالَى مَا كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ
رِجالِكُمْ وَقَالَ تَعَالَى فَلَمَّا قَضى زَيْدٌ مِنْها
(3/4)
وَطَراً زَوَّجْناكَها لِكَيْ لا يَكُونَ
عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْواجِ أَدْعِيائِهِمْ
وَقَالَ تَعَالَى ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ
اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آباءَهُمْ فَإِخْوانُكُمْ فِي
الدِّينِ وَمَوالِيكُمْ وَقَدْ كَانَ أَبُو حُذَيْفَةَ بْنُ
عُتْبَةَ تَبَنَّى سَالِمًا فَكَانَ يُقَالُ لَهُ سَالِمُ بْنُ
أَبِي حُذَيْفَةَ إلَى أَنْ أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى
ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ رَوَاهُ الزُّهْرِيُّ عَنْ عُرْوَةَ
عَنْ عَائِشَةَ فَنَسَخَ اللَّهُ تَعَالَى الدَّعْوَةَ
بِالتَّبَنِّي وَنَسَخَ مِيرَاثَهُ حَدَّثَنَا جعفر بن محمد
الواسطي قال حدثنا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْيَمَانِ
الْمُؤَدِّبِ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو عُبَيْدٍ قَالَ
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ عَنْ لَيْثٍ عَنْ
عُقَيْلٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ أَخْبَرَنِي سَعِيدُ بْنُ
الْمُسَيِّبِ فِي قَوْله تَعَالَى وَالَّذِينَ عَقَدَتْ
أَيْمانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ قَالَ ابْنُ الْمُسَيِّبِ
إنَّمَا أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى ذَلِكَ فِي الَّذِينَ
كَانُوا يَتَبَنَّوْنَ رِجَالًا وَيُوَرِّثُونَهُمْ فَأَنْزَلَ
اللَّهُ تَعَالَى فِيهِمْ أَنْ يُجْعَلَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنْ
الْوَصِيَّة وَرَدَّ الْمِيرَاثَ إلَى الْمَوَالِي مِنْ ذَوِي
الرَّحِمِ وَالْعَصَبَةِ وَأَبَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ
لِلْمُدَّعِينَ مِيرَاثًا مِمَّنْ ادَّعَاهُمْ وَلَكِنْ جَعَلَ
لَهُمْ نَصِيبًا مِنْ الْوَصِيَّةِ فَكَانَ مَا تَعَاقَدُوا
عَلَيْهِ فِي الْمِيرَاثِ الَّذِي رَدَّ عَلَيْهِ أَمْرَهُمْ
قَالَ أَبُو بَكْرٍ وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ
بِقَوْلِهِ تَعَالَى وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ
فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ مُنْتَظِمًا لِلْحَلِفِ وَالتَّبَنِّي
جَمِيعًا إذْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَثْبُتُ بِالْعَقْدِ
فَهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَا كَانَ مِنْ مَوَارِيثِ
الْجَاهِلِيَّةِ وَبَقِيَ فِي الْإِسْلَامِ بَعْضُهَا
بِالْإِقْرَارِ عَلَيْهِ إلَى أَنْ نَقَلُوا عَنْهُ وَبَعْضُهُ
بِنَصٍّ وَرَدَّ فِي إثْبَاتِهِ إلَى أَنْ وَرَدَ مَا أَوْجَبَ
نَقْلَهُ وَأَمَّا مَوَارِيثُ الْإِسْلَامِ فَإِنَّهَا
مَعْقُودَةٌ بِشَيْئَيْنِ أَحَدُهُمَا نَسَبٌ وَالْآخَرُ
سَبَبٌ لَيْسَ بِنَسَبٍ فَأَمَّا الْمُسْتَحَقُّ بِالنَّسَبِ
فَمَا نَصَّ اللَّهُ تعالى عليه من كِتَابِهِ وَبَيَّنَ
رَسُولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْضَهُ
وَأَجْمَعَتْ الْأُمَّةُ عَلَى بَعْضِهِ وَقَامَتْ
الدَّلَالَةُ عَلَى بَعْضٍ وَأَمَّا السَّبَبُ الَّذِي وُرِّثَ
بِهِ فِي الْإِسْلَامِ فَبَعْضُهُ ثَابِتٌ وَبَعْضُهُ
مَنْسُوخُ الْحُكْمِ فَمِنْ الْأَسْبَابِ الَّتِي وُرِّثَ
بِهَا فِي الْإِسْلَامِ مَا ذَكَرْنَا فِي عَقْدِ
الْمُحَالَفَةِ وَمِيرَاثِ الْأَدْعِيَاءِ وَقَدْ ذَكَرْنَا
حُكْمَهُ وَنَسْخَ مَا رُوِيَ نَسْخُهُ وَأَنَّ ذَلِكَ
عِنْدَنَا لَيْسَ بِنَسْخٍ وَإِنَّمَا جُعِلَ وَارِثٌ أَوْلَى
مِنْ وَارِثٍ وَكَانَ مِنْ الْأَسْبَابِ الَّتِي أَوْجَبَ
اللَّهُ تَعَالَى بِهِ الْمِيرَاثَ الْهِجْرَةُ حدثنا جعفر بن
محمد الواسطي قال حدثنا جعفر بن محمد بن اليمان قال حدثنا
أَبُو عُبَيْدٍ قَالَ حَدَّثَنَا حَجَّاجٌ عَنْ ابْنِ جريج
وعثمان بن عطاء الخراساني عن ابن عَبَّاسٍ فِي قَوْله تَعَالَى
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ
وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا
وَنَصَرُوا أُولئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ
آمَنُوا وَلَمْ يُهاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ
شَيْءٍ حَتَّى يُهاجِرُوا قَالَ كَانَ الْمُهَاجِرُ لَا
يَتَوَلَّى الْأَعْرَابِيَّ وَلَا يَرِثُهُ وَهُوَ مُؤْمِنٌ
وَلَا يَرِثُ
(3/5)
الأعرابى المهاجر فنسختها وَأُولُوا
الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ وَقَالَ بَعْضُهُمْ
نَسَخَهَا قَوْله تَعَالَى وَلِكُلٍّ جَعَلْنا مَوالِيَ مِمَّا
تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ وكانوا يتواثون
بِالْأُخُوَّةِ الَّتِي آخَى بِهَا رَسُولُ اللَّه صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَهُمْ
وَرَوَى هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ رَسُولَ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ آخَى بَيْنَ
الزُّبَيْرِ بْنِ الْعَوَّامِ وَبَيْنَ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ
فَارْتَثَّ كَعْبٌ يَوْمَ أُحُدٍ فَجَاءَ بِهِ الزُّبَيْرُ
يَقُودُهُ بِزِمَامِ رَاحِلَتِهِ وَلَوْ مَاتَ كَعْبٌ عَنْ
الضِّحِّ وَالرِّيحِ لورثه الزبير حتى أنزل الله تعالى
وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ
اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ
وروى ابن جريح عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ
فإن كَانَ الْمُهَاجِرُونَ وَالْأَنْصَارُ يَرِثُ الرَّجُلُ
الرَّجُلَ الَّذِي آخَى بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دُونَ أَخِيهِ فَلَمَّا
نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ وَلِكُلٍّ جَعَلْنا مَوالِيَ مِمَّا
تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ نُسِخَتْ ثُمَّ قَالَ
تَعَالَى وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ فَآتُوهُمْ
نَصِيبَهُمْ مِنْ النَّصْرِ وَالرِّفَادَةِ فَذَكَرَ ابْنُ
عَبَّاسٍ فِي هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ قَوْله تَعَالَى
وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ أُرِيدَ بِهِ مُعَاقَدَةُ
الْأُخُوَّةِ الَّتِي آخَى بِهَا رَسُولُ اللَّه صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَهُمْ وَرَوَى مَعْمَرٌ عَنْ
قَتَادَةَ فِي قَوْله تَعَالَى ما لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ
مِنْ شَيْءٍ أن المسلمين كانوا يتواثون بِالْهِجْرَةِ
وَالْإِسْلَامِ فَكَانَ الرَّجُلُ يُسْلِمُ وَلَا يُهَاجِرُ
فَلَا يَرِثُ أَخَاهُ فَنَسَخَ اللَّهُ تَعَالَى ذَلِكَ بقوله
وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ
اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهاجِرِينَ وَرَوَى
جَعْفَرُ بْنُ سُلَيْمَانَ عَنْ الْحَسَنِ قَالَ كَانَ
الْأَعْرَابِيُّ الْمُسْلِمُ لَا يَرِثُ مِنْ الْمُهَاجِرِ
شَيْئًا وَإِنْ كَانَ ذَا قُرْبَى لِيَحُثَّهُمْ بِذَلِكَ
عَلَى الْهِجْرَةِ فَلَمَّا كَثُرَ الْمُسْلِمُونَ أَنْزَلَ
اللَّهُ تعالى وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى
بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ
وَالْمُهاجِرِينَ فَنَسَخَتْ هَذِهِ الْآيَةُ تِلْكَ إِلَّا
أَنْ تَفْعَلُوا إِلى أَوْلِيائِكُمْ مَعْرُوفاً فَرَخَّصَ
اللَّهُ لِلْمُسْلِمِ أَنْ يُوصِيَ لِقَرَابَتِهِ مِنْ
الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوس مِنْ الثُّلُثِ وَمَا
دُونَهُ كانَ ذلِكَ فِي الْكِتابِ مَسْطُوراً قَالَ مَكْتُوبًا
فَجُمْلَةُ مَا حَصَلَ عَلَيْهِ التَّوَارُثُ بِالْأَسْبَابِ
فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ التَّبَنِّي وَالْحَلِفُ
وَالْهِجْرَةُ وَالْمُؤَاخَاةُ الَّتِي آخَى بِهَا رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ نُسِخَ
الْمِيرَاثُ بِالتَّبَنِّي وَالْهِجْرَةِ وَالْمُؤَاخَاةِ
وَأَمَّا الْحَلِفُ فَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُ جُعِلَتْ
الْقَرَابَةُ أَوْلَى مِنْهُ وَلَمْ يُنْسَخْ إذَا لَمْ تَكُنْ
قَرَابَةٌ وَجَائِزٌ أَنْ يَجْعَلَ لَهُ جَمِيعَ مَالِهِ أَوْ
بَعْضَهُ وَمِنْ الْأَسْبَاب الَّتِي عُقِدَ بِهَا
التَّوَارُثُ فِي الْإِسْلَامِ وَلَاءُ الْعَتَاقَةِ
وَالزَّوْجِيَّةِ وَوَلَاءُ الْمُوَالَاةِ وَهُوَ عِنْدَنَا
يَجْرِي مَجْرَى الْحَلِفِ وَإِنَّمَا يَثْبُتُ حُكْمُهُ إذَا
لَمْ يَكُنْ وَارِثٌ مِنْ ذِي رَحِمٍ أَوْ عَصَبَةٍ فَجَمِيعُ
مَا انْعَقَدَتْ عَلَيْهِ مَوَارِيثُ الْإِسْلَامِ السَّبَبُ
وَالنَّسَبُ وَالسَّبَبُ كَانَ عَلَى أَنْحَاءٍ مُخْتَلِفَةٍ
(3/6)
مِنْهَا الْمُعَاقَدَةُ بِالْحَلِفِ
وَالتَّبَنِّي وَالْأُخُوَّةُ الَّتِي آخَى بَيْنَهُمْ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْهِجْرَةُ
وَالزَّوْجِيَّةُ وَوَلَاءُ الْعَتَاقَةِ وَوَلَاءُ
الْمُوَالَاةِ فَأَمَّا إيجَابُ الْمِيرَاثِ بِالْحَلِفِ
وَالتَّبَنِّي وَالْأُخُوَّةِ الَّتِي آخَى بَيْنَهُمْ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهَا فَمَنْسُوخٌ
مَعَ وُجُودِ الْعَصَبَاتِ وَذَوِي الْأَرْحَامِ وَوَلَاءُ
الْعَتَاقَةِ وَالْمُوَالَاةُ وَالزَّوْجِيَّةُ هِيَ أَسْبَابٌ
ثَابِتَةٌ يُسْتَحَقُّ بِهَا الْمِيرَاثُ عَلَى التَّرْتِيبِ
الْمَشْرُوطِ لِذَلِكَ وَأَمَّا النَّسَبُ الَّذِي يُسْتَحَقُّ
بِهِ الْمِيرَاثُ فَيَنْقَسِمُ إلَى أَنْحَاءٍ ثَلَاثَةٍ ذَوُو
السِّهَامِ وَالْعَصَبَاتُ وَذَوُو الْأَرْحَامِ وَسَنُبَيِّنُ
ذَلِكَ فِي مَوْضِعِهِ فَأَمَّا الْآيَاتُ الْمُوجِبَةُ
لِمِيرَاثِ ذَوِي الْأَنْسَابِ مِنْ ذَوِي السِّهَامِ
وَالْعَصَبَاتِ وَذَوِي الْأَرْحَامِ فَقَوْلُهُ تَعَالَى
لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ
وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ
الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ وقَوْله تَعَالَى وَما يُتْلى
عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ فِي يَتامَى النِّساءِ اللَّاتِي لا
تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ
تَنْكِحُوهُنَّ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدانِ نُسِخَ
بِهِمَا فِي رِوَايَةٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِ مِنْ
السَّلَفِ مَا كَانَ عَلَيْهِ الْأَمْرُ فِي تَوْرِيثِ
الرِّجَالِ الْمُقَاتِلَةِ دُونَ الذُّكُورِ الصِّغَارِ
وَالْإِنَاثِ وقَوْله تَعَالَى يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي
أَوْلادِكُمْ فِيهِ بَيَانٌ لِلنَّصِيبِ الْمَفْرُوضِ فِي
قَوْله تَعَالَى لِلرِّجالِ نَصِيبٌ- إلى قوله تعالى- نَصِيباً
مَفْرُوضاً وَالنَّصِيبُ الْمَفْرُوضُ هُوَ الَّذِي بَيَّنَ
مِقْدَارَهُ فِي قوله تعالى يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي
أَوْلادِكُمْ وَقَدْ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ
قَرَأَ كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ
إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ
وَالْأَقْرَبِينَ فَقَالَ قَدْ نَسَخَ هَذَا قَوْله تَعَالَى
لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ
وَالْأَقْرَبُونَ وَقَالَ مُجَاهِدٌ كَانَ الْمِيرَاثُ
لِلْوَلَدِ وَكَانَتْ الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ
وَالْأَقْرَبِينَ فَنَسَخَ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ ذَلِكَ مَا
أَحَبَّ فَجَعَلَ لِلْوَلَدِ الذَّكَرِ مِثْلَ حَظِّ
الْأُنْثَيَيْنِ وَجَعَلَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْأَبَوَيْنِ
السُّدُسَ مَعَ الْوَلَدِ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَقَدْ كَانَ
الرَّجُلُ إذَا مَاتَ وَخَلَّفَ زَوْجَتَهُ اعْتَدَّتْ سَنَةً
كَامِلَةً فِي بَيْتِهِ يُنْفِقُ عَلَيْهَا مِنْ تَرِكَتِهِ
وَهُوَ قَوْله تَعَالَى وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ
وَيَذَرُونَ أَزْواجاً وَصِيَّةً لِأَزْواجِهِمْ مَتاعاً إِلَى
الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْراجٍ ثُمَّ نُسِخَ ذَلِكَ بِالرُّبُعِ
أَوْ الثُّمُنِ وقَوْله تعالى وَأُولُوا الْأَرْحامِ
بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ نُسِخَ بِهِ التَّوَارُث
بِالْحَلِفِ وَبِالْهِجْرَةِ وَبِالتَّبَنِّي عَلَى النَّحْوِ
الَّذِي بَيَّنَّا وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى يُوصِيكُمُ
اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ هِيَ آيَةٌ مُحْكَمَةٌ غَيْرُ
مَنْسُوخَةٍ وَهِيَ مُوجِبَةٌ لِنَسْخِ الْمِيرَاثِ بِهَذِهِ
الْأَسْبَابِ الَّتِي ذَكَرْنَا لِأَنَّهُ جعل الميراث
للمسلمين فِيهَا فَلَا يَبْقَى لِأَهْلِ هَذِهِ الْأَسْبَابِ
شَيْءٌ
وَذَلِكَ مُوجِبٌ لِسُقُوطِ حُقُوقِهِمْ فِي هَذِهِ الْحَالِ
وَرَوَى مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَقِيلٍ عن جابر
(3/7)
ابن عَبْدِ اللَّه قَالَ جَاءَتْ امْرَأَةٌ
مِنْ الْأَنْصَارِ بِبِنْتَيْنِ لَهَا فَقَالَتْ يَا رَسُولَ
اللَّهِ هَاتَانِ بنتا ثابت ابن قَيْسٍ قُتِلَ مَعَك يَوْمَ
أُحُدٍ وَلَمْ يَدَعْ لَهُمَا عَمُّهُمَا مَالًا إلَّا
أَخَذَهُ فَمَا تَرَى يا رسول الله فو الله لَا تُنْكَحَانِ
أَبَدًا إلَّا وَلَهُمَا مَالٌ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْضِي اللَّهُ فِي ذَلِكَ
فَنَزَلَتْ سُورَةُ النِّسَاءِ يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي
أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ
الْآيَةَ فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اُدْعُ
إلى الْمَرْأَةَ وَصَاحِبَهَا فَقَالَ لِعَمِّهِمَا
أَعْطِهِمَا الثُّلُثَيْنِ وَأَعْطِ أُمَّهُمَا الثُّمُنَ
وَمَا بَقِيَ فَلَكَ
قَالَ أَبُو بكر قد حوى هذا الخبر معاني مِنْهَا أَنَّ
الْعَمَّ قَدْ كَانَ يَسْتَحِقُّ الْمِيرَاثَ دُونَ
الْبِنْتَيْنِ عَلَى عَادَةِ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ فِي
تَوْرِيثِ الْمُقَاتِلَةِ دُونَ النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ
وَلَمْ يُنْكِرْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
ذَلِكَ حِينَ سَأَلَتْهُ الْمَرْأَةُ بَلْ أَقَرَّ الْأَمْرَ
عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ وَقَالَ لَهَا يَقْضِي اللَّهُ فِي
ذَلِكَ ثُمَّ لَمَّا نَزَلَتْ الْآيَةُ أَمَرَ الْعَمَّ
بِدَفْعِ نَصِيبِ الْبِنْتَيْنِ وَالْمَرْأَةِ إلَيْهِنَّ
وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْعَمَّ لَمْ يَأْخُذْ
الْمِيرَاثَ بَدِيًّا مِنْ جِهَةِ التَّوْقِيفِ بَلْ عَلَى
عَادَةِ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ فِي الْمَوَارِيثِ لِأَنَّهُ
لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَكَانَ إنَّمَا يُسْتَأْنَفُ فِيمَا
يَحْدُث بَعْدَ نُزُولِ الْآيَةِ وَمَا قَدْ مَضَى عَلَى
حُكْمٍ مَنْصُوصٍ مُتَقَدِّمٍ لَا يُعْتَرَضُ عَلَيْهِ
بِالنَّسْخِ فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ أَخَذَهُ عَلَى حُكْمِ
الْجَاهِلِيَّةِ الَّتِي لَمْ يَنْقُلُوا عَنْهَا
وَرَوَى سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ
الْمُنْكَدِرِ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ الله قال مرضت فأتى
رسول الله صلى الله عليه وسلم يعودني فَأَتَانِي وَقَدْ
أُغْمِيَ عَلَيَّ فَتَوَضَّأَ رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ رَشَّ عَلَيَّ مِنْ وُضُوئِهِ
فَأَفَقْت فَقُلْت يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ تَقْضِي فِي
مَالِي فَلَمْ يُجِبْنِي بِشَيْءٍ حَتَّى نَزَلَتْ آيَةُ
الْمَوَارِيثِ يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ
مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ
قَالَ أَبُو بَكْرٍ ذَكَرَ فِي الْحَدِيثِ الْأَوَّلِ قِصَّةَ
الْمَرْأَةِ مَعَ بِنْتَيْهَا وَذَكَرَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ
أَنَّ جَابِرًا سَأَلَهُ عَنْ ذَلِكَ وَجَائِزٌ أن يكون الأمر
ان جَمِيعًا قَدْ كَانَا سَأَلَتْهُ الْمَرْأَةُ فَلَمْ
يُجِبْهَا مُنْتَظِرًا لِلْوَحْيِ ثُمَّ سَأَلَهُ جَابِرٌ فِي
حَالِ مَرَضِهِ فَنَزَلَتْ الْآيَةُ وَهِيَ ثَابِتَةُ
الْحُكْمِ مُثْبِتَةٌ لِلنَّصِيبِ الْمَفْرُوضِ فِي قَوْله
تَعَالَى لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ
وَالْأَقْرَبُونَ الْآيَةَ وَلَمْ يَخْتَلِفْ أَهْلُ الْعِلْمِ
فِي أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى يُوصِيكُمُ اللَّهُ
فِي أَوْلادِكُمْ أَوْلَادِ الصُّلْبِ وَأَنَّ وَلَدَ
الْوَلَدِ غَيْرُ دَاخِلٍ مَعَ وَلَدِ الصُّلْبِ وَأَنَّهُ
إذَا لَمْ يَكُنْ وَلَدُ الصُّلْبِ فَالْمُرَادُ أَوْلَادُ
الْبَنِينَ دُونَ أَوْلَادِ الْبَنَاتِ فَقَدْ انْتَظَمَ
اللَّفْظُ أَوْلَادَ الصُّلْبِ وَأَوْلَادَ الِابْنِ إذَا لَمْ
يَكُنْ وَلَدَ الصُّلْبِ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ قَوْلِ
أَصْحَابِنَا فِيمَنْ أَوْصَى لِوَلَدِ فُلَانٍ أَنَّهُ
لِوَلَدِهِ لِصُلْبِهِ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ
لِصُلْبِهِ فَهُوَ لِوَلَدِ ابْنِهِ وقوله تعالى لِلذَّكَرِ
مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ قَدْ أَفَادَ أَنَّهُ إنْ كَانَ
ذَكَرًا وَأُنْثَى فَلِلذَّكَرِ سَهْمَانِ وَلِلْأُنْثَى
سَهْمٌ وَأَفَادَ أَيْضًا
(3/8)
أَنَّهُمْ إذَا كَانُوا جَمَاعَةً ذُكُورًا
وَإِنَاثًا أَنَّ لكل ذكر سهمان وَلِكُلِّ أُنْثَى سَهْمًا
وَأَفَادَ أَيْضًا أَنَّهُ إذَا كان مع الأولاد ذو وسهام
نَحْوُ الْأَبَوَيْنِ وَالزَّوْجِ وَالزَّوْجَةِ أَنَّهُمْ
مَتَى أَخَذُوا سِهَامَهُمْ كَانَ الْبَاقِي بَعْدَ السِّهَامَ
بَيْنَ الْأَوْلَادِ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ
وَذَلِكَ لِأَنَّ قَوْله تعالى لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ
الْأُنْثَيَيْنِ اسْمٌ لِلْجِنْسِ يَشْتَمِلُ عَلَى الْقَلِيلِ
وَالْكَثِيرِ مِنْهُمْ فَمَتَى مَا أَخَذَ ذَوُو السِّهَامِ
سِهَامَهُمْ كَانَ الْبَاقِي بَيْنَهُمْ عَلَى مَا كَانُوا
يَسْتَحِقُّونَهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ ذُو سَهْمٍ وَقَوْلُهُ
عَزَّ وَجَلَّ فَإِنْ كُنَّ نِساءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ
فَلَهُنَّ ثُلُثا مَا تَرَكَ وَإِنْ كانَتْ واحِدَةً فَلَهَا
النِّصْفُ فَنَصَّ عَلَى نَصِيبِ مَا فَوْقَ الِابْنَتَيْنِ
وَعَلَى الْوَاحِدَةِ وَلَمْ يَنُصَّ عَلَى فَرْضِ
الِابْنَتَيْنِ لِأَنَّ فِي فَحَوَى الْآيَةِ دَلَالَةً عَلَى
بَيَانِ فَرْضِهِمَا وَذَلِكَ لِأَنَّهُ قَدْ أَوْجَبَ
لِلْبِنْتِ الْوَاحِدَةِ مَعَ الِابْنِ الثُّلُثَ وَإِذَا
كَانَ لَهَا مَعَ الذَّكَرِ الثُّلُثُ كَانَتْ بِأَخْذِ
الثُّلُثِ مَعَ الْأُنْثَى أَوْلَى وَقَدْ احْتَجْنَا إلَى
بَيَانِ حُكْمِ مَا فَوْقَهُمَا فَلِذَلِكَ نَصَّ عَلَى
حُكْمِهِ وَأَيْضًا لَمَّا قَالَ الله تعالى لِلذَّكَرِ مِثْلُ
حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَلَوْ تَرَكَ ابْنًا وَبِنْتًا كَانَ
لِلِابْنِ سَهْمَانِ ثُلُثَا الْمَالِ وَهُوَ حَظُّ
الْأُنْثَيَيْنِ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ نَصِيبَ
الِابْنَتَيْنِ الثُّلُثَانِ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ
نَصِيبَ الِابْنِ مِثْلَ نَصِيبِ الْبِنْتَيْنِ وَهُوَ
الثُّلُثَانِ وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ لِلْبِنْتَيْنِ
الثُّلُثَيْنِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَجْرَى الْإِخْوَةَ
وَالْأَخَوَاتِ مَجْرَى الْبَنَاتِ وَأَجْرَى الْأُخْتَ
الْوَاحِدَةَ مَجْرَى الْبِنْتِ الْوَاحِدَةِ فَقَالَ تَعَالَى
إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَها
نِصْفُ مَا تَرَكَ ثُمَّ قَالَ فَإِنْ كانَتَا اثْنَتَيْنِ
فَلَهُمَا الثُّلُثانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِنْ كانُوا إِخْوَةً
رِجالًا وَنِساءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ
فَجَعَلَ حَظَّ الْأُخْتَيْنِ كَحَظِّ مَا فَوْقَهُمَا وَهُوَ
الثُّلُثَانِ كَمَا جَعَلَ حَظَّ الْأُخْتِ كَحَظِّ الْبِنْتِ
وَأَوْجَبَ لَهُمْ إذَا كَانُوا ذُكُورًا وَإِنَاثًا
لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَوَجَبَ أَنْ
تَكُونَ الِابْنَتَانِ كَالْأُخْتَيْنِ فِي اسْتِحْقَاقِ
الثُّلُثَيْنِ لِمُسَاوَاتِهِمَا لَهُمَا فِي إيجَابِ الْمَالِ
بَيْنَهُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ إذَا لَمْ
يَكُنْ غَيْرُهُمْ كَمَا فِي مُسَاوَاةِ الأخت للبنت إذا لم
يكن غيرهم فِي اسْتِحْقَاقِ النِّصْفِ بِالتَّسْمِيَةِ
وَأَيْضًا الْبِنْتَانِ أَوْلَى بذلك إذا كَانَتَا أَقْرَبَ
إلَى الْمَيِّتِ مِنْ الْأُخْتَيْنِ وَإِذَا كَانَتْ الْأُخْتُ
بِمَنْزِلَةِ الْبِنْتِ فَكَذَلِكَ الْبِنْتَانِ فِي
اسْتِحْقَاقِ الثُّلُثَيْنِ وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ حَدِيثُ
جَابِرٍ فِي قِصَّةِ الْمَرْأَةِ الَّتِي أَعْطَى النَّبِيُّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهَا الْبِنْتَيْنِ
الثُّلُثَيْنِ وَالْمَرْأَةَ الثُّمُنَ وَالْعَمَّ مَا بَقِيَ
وَلَمْ يُخَالِفْ فِي ذَلِكَ أَحَدٌ إلَّا شَيْئًا رُوِيَ عَنْ
ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ جَعَلَ لِلْبِنْتَيْنِ النِّصْفَ
كَنَصِيبِ الْوَاحِدَةِ وَاحْتَجَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى فَإِنْ
كُنَّ نِساءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثا ما تَرَكَ
وَلَيْسَ فِي ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ لِلِابْنَتَيْنِ
النِّصْفَ وَإِنَّمَا فِيهِ نَصٌّ عَلَى أَنَّ مَا فوق
الإبنتين فلهن
(3/9)
الثُّلُثَانِ فَإِنْ كَانَ الْقَائِلُ
بِأَنَّ لِلِابْنَتَيْنِ الثُّلُثَيْنِ مُخَالِفًا لِلْآيَةِ
فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ جَعَلَ لِلِابْنَةِ النِّصْفَ
إذَا كَانَتْ وَحْدَهَا وَأَنْتَ جَعَلْت لِلِابْنَتَيْنِ
النِّصْفَ وَذَلِكَ خِلَافُ الْآيَةِ فَإِنْ لَمْ تَلْزَمْهُ
مُخَالَفَةُ الْآيَةِ حِينَ جَعَلَ لِلِابْنَتَيْنِ النِّصْفَ
وَإِنْ كَانَ اللَّهُ قَدْ جَعَلَ لِلْوَاحِدَةِ النِّصْفَ
فَكَذَلِكَ لَا تُلْزِمُ مُخَالِفِيهِ مُخَالَفَةُ الْآيَةِ
فِي جَعْلِهِمْ لِلِابْنَتَيْنِ الثُّلُثَيْنِ لِأَنَّ اللَّهَ
تَعَالَى لَمْ يَنْفِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى فَإِنْ كُنَّ نِساءً
فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثا ما تَرَكَ أَنْ يَكُونَ
لِلِابْنَتَيْنِ الثُّلُثَانِ وَإِنَّمَا نَصَّ عَلَى حُكْمِ
مَا فَوْقَهُمَا وَقَدْ دَلَّ عَلَى حُكْمِهِمَا فِي فَحْوَى
الْآيَةِ عَلَى النَّحْوِ الَّذِي بَيَّنَّا وَمَا ذَكَرْنَاهُ
مِنْ دَلَالَةِ حُكْمِ الْأُخْتَيْنِ عَلَى حُكْمِ
الِابْنَتَيْنِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا وَقَدْ قِيلَ إنَّ قَوْله
تَعَالَى فَإِنْ كُنَّ نِساءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ أن ذكر
فوق هاهنا صِلَةٌ لِلْكَلَامِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى فَاضْرِبُوا
فَوْقَ الْأَعْناقِ قَوْله تَعَالَى وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ
واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كانَ لَهُ
وَلَدٌ يُوجِبُ ظَاهِرَهُ أَنْ يَكُونَ لِكُلِّ وَاحِدٍ
مِنْهُمَا السُّدُسُ مَعَ الْوَلَدِ ذَكَرًا كَانَ الْوَلَدُ
أَوْ أُنْثَى لِأَنَّ اسْمَ الْوَلَدِ يَنْتَظِمُهُمَا إلَّا
أَنَّهُ لَا خِلَافَ إذَا كَانَ الْوَلَدُ بِنْتًا لَا
تَسْتَحِقُّ أَكْثَرَ مِنْ النِّصْفِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى
وَإِنْ كانَتْ واحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ فَوَجَبَ أَنْ
تُعْطَى النِّصْفَ بِحُكْمِ النَّصِّ وَيَكُونُ لِلْأَبَوَيْنِ
لِكُلِّ وَاحِدٍ السُّدُسُ بِنَصِّ التَّنْزِيلِ وَيَبْقَى
السدس يستحقه الأب بالتعصيب فاجتمع هاهنا لِلْأَبِ
الِاسْتِحْقَاقُ بِالتَّسْمِيَةِ وَبِالتَّعْصِيبِ جَمِيعًا
وَإِنْ كَانَ الْوَلَدُ ذَكَرًا فَلِلْأَبَوَيْنِ السُّدُسَانِ
بِحُكْمِ النَّصِّ وَالْبَاقِي لِلِابْنِ لِأَنَّهُ أَقْرَبُ
تَعْصِيبًا مِنْ الْأَبِ وَقَالَ تَعَالَى فَإِنْ لَمْ يَكُنْ
لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَواهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ
فَأَثْبَتَ الْمِيرَاثَ لِلْأَبَوَيْنِ بِعُمُومِ اللَّفْظِ
ثُمَّ فَصَلَ نَصِيبَ الْأُمِّ وَبَيَّنَ مِقْدَارَهُ
بِقَوْلِهِ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ وَلَمْ يَذْكُرْ نَصِيبَ
الْأَبِ فَاقْتَضَى ظَاهِرُ اللَّفْظِ لِلْأَبِ الثُّلُثَيْنِ
إذْ لَيْسَ هُنَاكَ مُسْتَحِقٌّ غَيْرُهُ وَقَدْ أَثْبَتَ
الْمِيرَاثَ لَهُمَا بَدِيًّا وَقَدْ كَانَ ظَاهِرُ اللَّفْظِ
يَقْتَضِي الْمُسَاوَاةَ لَوْ اقْتَصَرَ عَلَى قوله تعالى
وَوَرِثَهُ أَبَواهُ دُونَ تَفْصِيلِ نَصِيبِ الْأُمِّ
فَلَمَّا قَصَرَ نَصِيبَ الأم على الثلث عُلِمَ أَنَّ
الْمُسْتَحَقَّ لِلْأَبِ الثُّلُثَانِ قَوْله تَعَالَى فَإِنْ
كانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ
قَالَ عَلِيٌّ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ وَعُمَرُ بْنُ
الْخَطَّابِ وَعُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ
وَسَائِرُ أَهْلِ الْعِلْمِ إذَا تَرَكَ أَخَوَيْنِ
وَأَبَوَيْنِ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ وَمَا بَقِيَ فَلِأَبِيهِ
وَحَجَبُوا الْأُمَّ عَنْ الثُّلُثِ إلَى السُّدُسِ
كَحَجْبِهِمْ لَهَا بِثَلَاثَةِ إخْوَةٍ وَقَالَ ابْنُ
عَبَّاسٍ لِلْأُمِّ الثُّلُثُ وَكَانَ لَا يَحْجُبُهَا إلَّا
بِثَلَاثَةٍ مِنْ الْإِخْوَةِ وَالْأَخَوَاتِ وَرَوَى مَعْمَرٌ
عَنْ ابْنِ طَاوُسٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ إذَا
تَرَكَ أَبَوَيْنِ وَثَلَاثَةَ إخْوَةٍ فَلِلْأُمِّ السُّدُسُ
وَلِلْإِخْوَةِ السُّدُسُ الَّذِي حَجَبُوا الْأُمَّ عَنْهُ
وَمَا بَقِيَ فَلِلْأَبِ
(3/10)
وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ إنْ كَانَ
الْإِخْوَةُ مِنْ قِبَلِ الْأُمِّ فَالسُّدُسُ لَهُمْ خَاصَّةً
وَإِنْ كَانُوا مِنْ قِبَلِ الْأَبِ وَالْأُمِّ أَوْ مِنْ
قِبَلِ الْأَبِ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ شَيْءٌ وَكَانَ مَا بَعْدَ
السُّدُسِ لِلْأَبِ وَالْحُجَّةُ لِلْقَوْلِ الْأَوَّلِ أَنَّ
اسْمَ الْإِخْوَةِ قَدْ يَقَعُ عَلَى الِاثْنَيْنِ كَمَا قَالَ
تَعَالَى إِنْ تَتُوبا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ
قُلُوبُكُما وَهُمَا قَلْبَانِ وَقَالَ تَعَالَى وَهَلْ أَتاكَ
نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرابَ ثُمَّ قَالَ
تَعَالَى خَصْمانِ بَغى بَعْضُنا عَلى بَعْضٍ فَأَطْلَقَ
لَفْظَ الْجَمْعِ عَلَى اثْنَيْنِ وَقَالَ تَعَالَى وَإِنْ
كانُوا إِخْوَةً رِجالًا وَنِساءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ
الْأُنْثَيَيْنِ فَلَوْ كَانَ أَخًا وَأُخْتًا كَانَ حُكْمُ
الْآيَةِ جَارِيًا فِيهِمَا
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ اثْنَانِ فَمَا فَوْقَهُمَا جَمَاعَةٌ
وَلِأَنَّ الِاثْنَيْنِ إلَى الثَّلَاثَةِ فِي حُكْمِ
الْجَمْعِ أَقْرَبُ مِنْهُمَا إلَى الْوَاحِدِ لِأَنَّ لَفْظَ
الْجَمْعِ مَوْجُودٌ فِيهِمَا نَحْوُ قَوْلِكَ قَامَا
وَقَعَدَا وَقَامُوا وَقَعَدُوا كُلُّ ذَلِكَ جَائِزٌ فِي
الِاثْنَيْنِ وَالثَّلَاثَةِ وَلَا يَجُوزُ مِثْلُهُ فِي
الْوَاحِدِ فَلَمَّا كَانَ الِاثْنَانِ فِي حُكْمِ اللَّفْظِ
أَقْرَبَ إلَى الثَّلَاثَةِ مِنْهُمَا إلَى الْوَاحِدِ وَجَبَ
إلْحَاقُهُمَا بِالثَّلَاثَةِ دُونَ الْوَاحِدِ وَقَدْ رَوَى
عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ
خَارِجَةَ بْنِ زَيْدٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ كَانَ يَحْجُبُ
الْأُمَّ بِالْأَخَوَيْنِ فَقَالُوا لَهُ يَا أَبَا سَعِيد
إنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ فَإِنْ كانَ لَهُ إِخْوَةٌ
وَأَنْتَ تَحْجُبُهَا بِالْأَخَوَيْنِ فَقَالَ إنَّ الْعَرَبَ
تُسَمِّي الْأَخَوَيْنِ إخْوَةً فَإِذَا كَانَ زَيْدُ بْنُ
ثَابِتٍ قَدْ حَكَى عَنْ الْعَرَبِ أَنَّهَا تُسَمِّي
الْأَخَوَيْنِ إخْوَةً فَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ ذَلِكَ اسْمٌ
لَهُمَا فَيَتَنَاوَلُهُمَا اللَّفْظُ وَأَيْضًا قَدْ ثَبَتَ
أَنَّ حُكْمَ الْأُخْتَيْنِ حُكْمُ الثَّلَاثِ فِي
اسْتِحْقَاقِ الثُّلُثَيْنِ بِنَصِّ التَّنْزِيلِ فِي قَوْله
تَعَالَى فَإِنْ كانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثانِ
مِمَّا تَرَكَ وَكَذَلِكَ حُكْمُ الْأُخْتَيْنِ مِنْ الْأُمِّ
حُكْمُ الثَّلَاثِ فِي اسْتِحْقَاقِ الثُّلُثِ دُونَ حُكْمِ
الْوَاحِدَةِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ حُكْمُهُمَا حُكْمَ
الثَّلَاثِ فِي حَجْبِ الْأُمِّ عَنْ الثُّلُثِ إلَى السُّدُسِ
إذْ كَانَ حُكْمُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ ذَلِكَ حُكْمًا
مُتَعَلِّقًا بِالْجَمْعِ فَاسْتَوَى فِيهِ حُكْمُ
الِاثْنَيْنِ وَالثَّلَاثِ وَرُوِيَ عَنْ قَتَادَةَ أَنَّهُ
قَالَ إنَّمَا يَحْجُبُ الْإِخْوَةُ الْأُمَّ مِنْ غَيْرِ أَنْ
يَرِثُوا مَعَ الْأَبِ لِأَنَّهُ يَقُومُ بِنِكَاحِهِمْ
وَالنَّفَقَةِ عَلَيْهِمْ دُونَ الْأُمِّ وَهَذِهِ الْعِلَّةُ
إنَّمَا هِيَ مَقْصُورَةٌ عَلَى الْإِخْوَةِ مِنْ الْأَبِ
وَالْأُمِّ وَالْإِخْوَةِ مِنْ الْأَبِ فَأَمَّا الْإِخْوَةُ
مِنْ الْأُمِّ فَلَيْسَ إلَى الْأَبِ شَيْءٌ مِنْ أَمْرِهِمْ
وَهُمْ يَحْجُبُونَ أَيْضًا كَمَا يَحْجُبُ الْإِخْوَةَ مِنْ
الْأَبِ وَالْأُمِّ وَلَا خِلَافَ بَيْنَ الصَّحَابَةِ فِي
ثَلَاثَةِ إخْوَةٍ وَأَبَوَيْنِ أَنَّ لِلْأُمِّ السُّدُسَ
وَمَا بَقِيَ فَلِلْأَبِ إلَّا شَيْئًا يُرْوَى عَنْ ابْنِ
عَبَّاسٍ وَرَوَى عَبْدُ الرَّزَّاق عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ ابْنِ
طَاوُسٍ عن أبيه عن ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ لِلْأُمِّ السُّدُسَ
وَلِلْإِخْوَةِ السُّدُسَ الَّذِي حَجَبُوا الْأُمَّ عَنْهُ
وَمَا بَقِيَ فَلِلْأَبِ وَكَانَ لَا يَحْجُبُ بِمَنْ
(3/11)
وَلَكُمْ نِصْفُ مَا
تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ
كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ
بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ
الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ
فَإِنْ كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا
تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ
وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ
أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ
فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي
الثُّلُثِ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ
غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ
حَلِيمٌ (12)
لَا يَرِثُ فَلَمَّا حَجَبَ الْأُمَّ
بِالْإِخْوَةِ وَرِثَهُمْ وَهُوَ قَوْلٌ شَاذّ وَظَاهِرُ
الْقُرْآنِ خِلَافُهُ لِأَنَّهُ تعالى قال وَوَرِثَهُ أَبَواهُ
فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ ثُمَّ قَالَ تَعَالَى فَإِنْ كانَ لَهُ
إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ عطفا على قوله تعالى
وَوَرِثَهُ أَبَواهُ تَقْدِيرُهُ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ وَلَهُ
إخْوَةٌ وَذَلِكَ يَمْنَعُ أَنْ يَكُونَ لِلْإِخْوَةِ شَيْءٌ
قَوْله تَعَالَى مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِها أَوْ
دَيْنٍ الدَّيْنُ مُؤَخَّرٌ فِي اللَّفْظِ وَهُوَ مُبْتَدَأٌ
بِهِ في المعنى على الوصية لأن أولا تُوجِبُ التَّرْتِيبَ
وَإِنَّمَا هِيَ لِأَحَدِ شَيْئَيْنِ فَكَأَنَّهُ قِيلَ مِنْ
بَعْدِ أَحَدِ هَذَيْنِ
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ أَنَّهُ
قَالَ ذَكَرَ اللَّهُ الْوَصِيَّةَ قَبْلَ الدَّيْنِ وَهِيَ
بَعْدَهُ
يَعْنِي أَنَّهَا مُقَدَّمَةٌ فِي اللَّفْظِ مُؤَخَّرَةٌ فِي
الْمَعْنَى
قَوْله تَعَالَى وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْواجُكُمْ
الْآيَةَ هَذَا نَصٌّ مُتَّفَقٌ عَلَى تَأْوِيلِهِ
كَاتِّفَاقِهِمْ تَنْزِيلِهِ وَأَنَّ الْوَلَدَ الذَّكَرُ
وَالْأُنْثَى فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ يَحْجُبُ الزَّوْجَ عَنْ
النِّصْفِ إلَى الرُّبْعِ وَالزَّوْجَةَ مِنْ الرُّبْعِ إلَى
الثُّمُنِ إذَا كَانَ الْوَلَدُ مِنْ أَهْلِ الْمِيرَاثِ
وَلَمْ يَخْتَلِفُوا أَيْضًا أَنَّ وَلَدَ الِابْنِ
بِمَنْزِلَةِ وَلَدِ الصُّلْبِ فِي حَجْبِ الزَّوْجِ
وَالْمَرْأَةِ عَنْ النَّصِيبِ الْأَكْثَرِ إلَى الْأَقَلِّ
إذَا لَمْ يَكُنْ وَلَدَ الصُّلْبِ قَوْله تَعَالَى آباؤُكُمْ
وَأَبْناؤُكُمْ لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ
نَفْعاً فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ قِيلَ إنَّ مَعْنَاهُ لَا
تَعْلَمُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا فِي الدِّينِ
وَالدُّنْيَا وَاَللَّهُ يَعْلَمُهُ فَاقْسِمُوهُ عَلَى مَا
بَيَّنَهُ إذْ هُوَ عَالِمٌ بالمصالح وقيل إن معناه آباؤكم
وأبناؤهم مُتَقَارِبُونَ فِي النَّفْعِ حَتَّى لَا تَدْرُونَ
أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا إذْ كُنْتُمْ تَنْتَفِعُونَ
بِآبَائِكُمْ فِي حَالِ الصِّغَرِ وَتَنْتَفِعُونَ
بِأَبْنَائِكُمْ عِنْدَ الْكِبَرِ فَفَرَضَ ذَلِكَ فِي
أَمْوَالِكُمْ لِلْآبَاءِ وَالْأَبْنَاءِ عِلْمًا مِنْهُ
بِمَصَالِحِ الْجَمِيعِ وَقِيلَ لَا يَدْرِي أَحَدُكُمْ أَهُوَ
أَقْرَبُ وَفَاةً فَيَنْتَفِعُ وَلَدُهُ بِمَالِهِ أَمْ
الْوَلَدُ أَقْرَبُ وَفَاةً فَيَنْتَفِعُ الْأَبُ وَالْأُمُّ
بِمَالِهِ فَفَرَضَ فِي مَوَارِيثِكُمْ مَا فَرَضَ عِلْمًا
مِنْهُ وحكما وَقَدْ اخْتَلَفَ السَّلَفُ فِي الْحَجْبِ بِمَنْ
لَا يَرِثُ وَهُوَ أَنْ يُخَلِّفَ الْحُرُّ الْمُسْلِمُ
أَبَوَيْنِ حُرَّيْنِ مُسْلِمَيْنِ وَأَخَوَيْنِ كَافِرَيْنِ
أَوْ مَمْلُوكَيْنِ أَوْ قَاتِلَيْنِ
فَقَالَ عَلِيٌّ وَعُمَرُ وَزَيْدٌ لِلْأُمِّ الثُّلُثُ وَمَا
بَقِيَ فَلِلْأَبِ
وَكَذَلِكَ الْمُسْلِمَةُ إذَا تَرَكَتْ زواجا وَابْنًا
كَافِرًا أَوْ مَمْلُوكًا أَوْ قَاتِلًا أَوْ الرَّجُلُ تَرَكَ
امْرَأَةً وَابْنًا كَذَلِكَ أَنَّهُمْ لَا يَحْجُبُونَ
الزَّوْجَ وَلَا الْمَرْأَةَ عَنْ نَصِيبِهِمَا الْأَكْثَرَ
إلَى الْأَقَلِّ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي
يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ وَمَالِكٍ وَالثَّوْرِيِّ وَالشَّافِعِيِّ
وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ يَحْجُبُونَ وَإِنْ
لَمْ يَرِثُوا وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ وَالْحَسَنُ بْنُ
صَالِحٍ الْمَمْلُوكُ وَالْكَافِرُ لا يرثان ولا يحجبان
والقاتل يَرِثُ وَيَحْجُبُ قَالَ أَبُو بَكْرٍ لَا خِلَافَ
أَنَّ الْأَبَ الْكَافِرَ لَا يَحْجُبُ ابْنَهُ مِنْ مِيرَاثِ
جَدِّهِ وَأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْمَيِّتِ فَكَذَلِكَ فِي
حُكْمِ حَجْبِ الْأُمِّ وَالزَّوْجِ
(3/12)
وَالزَّوْجَةِ وَاحْتَجَّ مَنْ حَجَبَ
بِظَاهِرِ قَوْله تَعَالَى وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ واحِدٍ
مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كانَ لَهُ وَلَدٌ
وَلَمْ يُفَرَّقْ بَيْنَ الْكَافِرِ وَالْمُسْلِمِ فَيُقَالُ
لَهُ فَلِمَ حَجَبْت بِهِ الْأُمَّ دُونَ الْأَبِ وَاَللَّهُ
تَعَالَى إنَّمَا حَجَبَهُمَا جَمِيعًا بِالْوَلَدِ بِقَوْلِهِ
تَعَالَى لِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ
إِنْ كانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ جَازَ أَنْ لَا يَحْجُبَ الْأَبُ
وَجَعَلْت قوله تعالى إِنْ كانَ لَهُ وَلَدٌ عَلَى وَلَدٍ
يَجُوزُ الْمِيرَاثُ فَكَذَلِكَ حُكْمُهُ فِي الْأُمِّ قَوْله
تَعَالَى وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ- إلَى قَوْله
تَعَالَى- فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ قَدْ دَلَّ
عَلَى أَنَّهُنَّ إذَا كُنَّ أَرْبَعًا يَشْتَرِكْنَ فِي
الثُّمُنِ وَهَذَا لَا خِلَافَ فِيهِ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ
وَقَدْ اخْتَلَفَ السَّلَفُ فِي مِيرَاثِ الْأَبَوَيْنِ مَعَ
الزَّوْجِ وَالزَّوْجَةِ
فَقَالَ عَلِيٌّ وَعُمَرُ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ
وَعُثْمَانُ وَزَيْدٌ لِلزَّوْجَةِ الرُّبُعُ وَلِلْأُمِّ
ثُلُثُ مَا بَقِيَ وَمَا بَقِيَ فَلِلْأَبِ وَلِلزَّوْجِ
النِّصْفُ وَلِلْأُمِّ ثُلُثُ مَا بَقِيَ وَمَا بَقِيَ
فَلِلْأَبِ
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ لِلزَّوْجِ وَالزَّوْجَةِ
مِيرَاثُهُمَا وَلِلْأُمِّ الثُّلُثُ كَامِلًا وَمَا بَقِيَ
فَلِلْأَبِ وَقَالَ لَا أَجِدُ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى
ثُلُثَ مَا بَقِيَ وَعَنْ ابْنِ سِيرِينَ مِثْلُ قَوْلِ ابْنِ
عَبَّاسٍ وَرُوِيَ أَنَّهُ تَابَعَهُ فِي الْمَرْأَةِ
وَالْأَبَوَيْنِ وَخَالَفَهُ فِي الزَّوْجِ وَالْأَبَوَيْنِ
لَتَفْضِيلِهِ الْأُمَّ عَلَى الْأَبِ وَالصَّحَابَةُ وَمَنْ
بَعْدَهُمْ مِنْ التَّابِعِينَ وَفُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ عَلَى
الْقَوْلِ الْأَوَّلِ إلَّا مَا حَكَيْنَا عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ
وَابْنِ سِيرِينَ وَظَاهِرِ الْقُرْآنِ يَدُلُّ عَلَيْهِ
لِأَنَّهُ قَالَ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ
أَبَواهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ فَجَعَلَ الْمِيرَاثَ
بَيْنَهُمَا أَثْلَاثًا كَمَا جَعَلَهُ أَثْلَاثًا بَيْنَ
الِابْنِ وَالْبِنْتِ فِي قَوْله تَعَالَى لِلذَّكَرِ مِثْلُ
حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ وَجَعَلَهُ بَيْنَ الْأَخِ وَالْأُخْتِ
أَثْلَاثًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى وَإِنْ كانُوا إِخْوَةً
رِجالًا وَنِساءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ
ثُمَّ لَمَّا سَمَّى لِلزَّوْجِ وَالزَّوْجَةِ مَا سَمَّى
لَهُمَا وَأَخَذَا نَصِيبَهُمَا كَانَ الْبَاقِي بَيْنَ
الِابْنِ وَالْبِنْتَيْنِ عَلَى مَا كَانَ قَبْلَ دُخُولِهِمَا
وَكَذَلِكَ بَيْنَ الْأَخِ وَالْأُخْتِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ
أَخْذُ الزَّوْجِ وَالزَّوْجَةِ نَصِيبَهُمَا مُوجِبًا
لِلْبَاقِي بَيْنَ الْأَبَوَيْنِ عَلَى مَا اسْتَحَقَّاهُ
أَثْلَاثًا قَبْلَ دُخُولِهِمَا وَأَيْضًا هُمَا كَشَرِيكَيْنِ
بَيْنَهُمَا مَالٌ إذَا اُسْتُحِقَّ مِنْهُ شَيْءٌ كَانَ
الْبَاقِي بَيْنَهُمَا عَلَى مَا اسْتَحَقَّاهُ بَدِيًّا
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.
بَابُ مِيرَاثِ أَوْلَادِ الِابْنِ
قَالَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَدْ بَيَّنَّا
أَنَّ قَوْله تَعَالَى يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ
قَدْ أُرِيدَ بِهِ أَوْلَادُ الصُّلْبِ وَأَوْلَادُ الِابْنِ
إذَا لَمْ يَكُنْ وَلَدُ الصُّلْبِ إذْ لَا خِلَافَ أَنَّ مَنْ
تَرَكَ بَنِي ابْنٍ وَبَنَاتِ ابْنٍ أَنَّ الْمَالَ بَيْنَهُمْ
لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ بِحُكْمِ الْآيَةِ
وَكَذَلِكَ لَوْ تَرَكَ بِنْتَ ابن
(3/13)
كَانَ لَهَا النِّصْفُ وَإِنْ كُنَّ
جَمَاعَةً كَانَ لَهُنَّ الثُّلُثَانِ عَلَى سِهَامِ مِيرَاثِ
وَلَدِ الصُّلْبِ فَثَبَتَ بِذَلِكَ أَنَّ أَوْلَادَ
الذُّكُورِ مُرَادُونَ بِالْآيَةِ وَاسْمُ الْوَلَدِ
يَتَنَاوَلُ أَوْلَادَ الِابْنِ كَمَا يَتَنَاوَلُ أَوْلَادَ
الصُّلْبِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى يَا بَنِي آدَمَ وَلَا
يَمْتَنِعُ أَحَدٌ أَنْ يَقُولَ إنَّ النَّبِيَّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ وَلَدِ هَاشِمٍ وَمِنْ وَلَدِ
عَبْدِ الْمُطَّلِبِ فَثَبَتَ بِذَلِكَ أَنَّ اسْمَ
الْأَوْلَادِ يَقَعُ عَلَى وَلَدِ الِابْنِ وَعَلَى وَلَدِ
الصُّلْبِ جَمِيعًا إلَّا أَنَّ أَوْلَادَ الصُّلْبِ يَقَعُ
عَلَيْهِمْ هَذَا الِاسْمُ حَقِيقَةً وَيَقَعُ عَلَى أولاد
الابن مجازا ولذلك لم يردوا فِي حَالِ وُجُودِ أَوْلَادِ
الصُّلْبِ وَلَمْ يُشَارِكُوهُمْ فِي سِهَامِهِمْ وَإِنَّمَا
يَسْتَحِقُّونَ ذَلِكَ فِي أَحَدِ حَالَيْنِ إمَّا أَنْ
يُعْدَمَ وَلَدُ الصُّلْبِ رَأْسًا فيقومون مقامهم وإما أن لا
يجوز وَلَدُ الصُّلْبِ الْمِيرَاثَ فَيَسْتَحِقُّونَ بَعْضَ
الْفَضْلِ أَوْ جميعه فإما أن يستحقوا مع أَوْلَادِ الصُّلْبِ
عَلَى وَجْهِ الشَّرِكَةِ بَيْنَهُمْ كَمَا يَسْتَحِقُّهُ
وَلَدُ الصُّلْبِ بَعْضَهُمْ مَعَ بَعْضٍ فَلَيْسَ كَذَلِكَ
فَإِنْ قِيلَ لِمَا كَانَ الِاسْمُ يَتَنَاوَلُ وَلَدَ
الصُّلْبِ حَقِيقَةً وَوَلَدَ الِابْنِ مَجَازًا لَمْ يَجُزْ
أَنْ يُرَادُوا بِلَفْظٍ وَاحِدٍ لِامْتِنَاعِ كَوْنِ لفظ واحد
حقيقة مجازا قِيلَ لَهُ إنَّهُمْ لَمْ يُرَادُوا بِلَفْظٍ
وَاحِدٍ فِي حَالٍ وَاحِدَةٍ مَتَى وُجِدَ أَوْلَادُ الصُّلْبِ
فَإِنَّ وَلَدَ الِابْنِ لَا يَسْتَحِقُّونَ الْمِيرَاثَ
مَعَهُمْ بِالْآيَةِ وَلَيْسَ يَمْتَنِعُ أَنْ يُرَادَ وَلَدُ
الصُّلْبِ فِي حَالِ وُجُودِهِمْ وَوَلَدُ الِابْنِ فِي حَالِ
عَدَمِ وَلَدِ الصُّلْبِ فَيَكُونُ اللَّفْظُ مُسْتَعْمَلًا
فِي حَالَيْنِ فِي إحْدَاهُمَا هُوَ حَقِيقَةٌ وَفِي
الْأُخْرَى هُوَ مَجَازٌ وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا قَالَ قَدْ
أَوْصَيْت بِثُلُثِ مَالِي لِوَلَدِ فُلَانٍ وَفُلَانٍ وَكَانَ
لِأَحَدِهِمَا أَوْلَادٌ لِصُلْبِهِ وَلَمْ يَكُنْ لِلْآخَرِ
وَلَدٌ لِصُلْبِهِ وَكَانَ لَهُ أَوْلَادُ ابْنٍ كَانَتْ
الْوَصِيَّةُ لِوَلَدِ فُلَانٍ لِصُلْبِهِ وَلِأَوْلَادِ
أَوْلَادِ فُلَانٍ وَلَمْ يَمْتَنِعْ دُخُولُ أَوْلَادِ
بَنِيهِ فِي الْوَصِيَّةِ مَعَ أَوْلَادِ الْآخَرِ لِصُلْبِهِ
وَإِنَّمَا يَمْتَنِعُ دُخُولُ وَلَدِ فُلَانٍ لِصُلْبِهِ
وَوَلَدُ وَلَدِهِ مَعَهُ فَأَمَّا وَلَدُ غَيْرِهِ لِغَيْرِ
صُلْبِهِ فَغَيْرُ مُمْتَنَعٍ دُخُولُهُ مَعَ أَوْلَادِ
الْآخَرِ لِصُلْبِهِ فَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى يُوصِيكُمُ
اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ يَقْتَضِي وَلَدَ الصُّلْبِ لِكُلِّ
وَاحِدٍ مِنْ الْمَذْكُورِينَ إذَا كَانَ وَلَا يَدْخُلُ
مَعَهُ وَلَدُ الِابْنِ وَمَنْ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ لِصُلْبِهِ
وَلَهُ وَلَدُ ابْنٍ دَخَلَ فِي اللَّفْظِ وَلَدُ ابْنِهِ
وَإِنَّمَا جَازَ ذَلِكَ لِأَنَّ قَوْله تَعَالَى يُوصِيكُمُ
اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ خِطَابٌ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ
النَّاسِ فَكَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مُخَاطَبًا بِهِ
عَلَى حِيَالِهِ فَمَنْ لَهُ مِنْهُمْ وَلَدٌ لِصُلْبِهِ
تَنَاوَلَهُ اللَّفْظُ عَلَى حَقِيقَتِهِ وَلَمْ يَتَنَاوَلْ
ذَلِكَ وَلَدَ ابْنِهِ وَمَنْ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ لِصُلْبِهِ
وَلَهُ وَلَدُ ابْنٍ فَهُوَ مُخَاطَبٌ بِذَلِكَ عَلَى
حِيَالِهِ فَيَتَنَاوَلُ وَلَدَ ابْنِهِ فَإِنْ قِيلَ إنَّ
اسْمَ الْوَلَدِ يَقَعُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ وَلَدِ
الصُّلْبِ وَوَلَدُ الِابْنِ حَقِيقَةً لَمْ يَبْعُدْ إذْ
كَانَ الْجَمِيعُ مَنْسُوبِينَ إلَيْهِ مِنْ
(3/14)
جِهَةِ وِلَادَتِهِ وَنَسَبُهُ مُتَّصِلٌ
بِهِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ فَيَتَنَاوَلُ الْجَمِيعَ
كَالْأُخُوَّةِ لَمَّا كَانَ اسْمًا لِاتِّصَالِ النَّسَبِ
بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ مِنْ جِهَةِ أَحَدِ أَبَوَيْهِ شَمِلَ
الِاسْمُ الْجَمِيعَ وَكَانَ عُمُومًا فِيهِمْ جَمِيعًا
سَوَاءٌ كَانُوا لِأَبٍ وَأُمٍّ أَوْ لِأَبٍ أم لأم وبدل
عَلَيْهِ أَنَّ قَوْله تَعَالَى وَحَلائِلُ أَبْنائِكُمُ
الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ قَدْ عُقِلَ بِهِ حَلِيلَةُ ابْنِ
الِابْنِ كَمَا عقل به حَلِيلَةُ ابْنِ الصُّلْبِ فَإِذَا
تَرَكَ بِنْتًا وَبِنْتَ ابْنٍ فَلِلْبِنْتِ النِّصْفُ
بِالتَّسْمِيَةِ وَلِبِنْتِ الِابْنِ السُّدُسُ وَمَا بَقِيَ
لِلْعَصَبَةِ فَإِنْ تَرَكَ بِنْتَيْنِ وَبِنْتَ ابْنٍ وَابْنِ
ابْنٍ فَلِلْبِنْتَيْنِ الثُّلُثَانِ وَالْبَاقِي لِابْنِ
الِابْنِ وَبِنْتِ الِابْنِ بَيْنَهُمَا لِلذَّكَرِ مِثْلُ
حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَتْ بِنْتَيْنِ
وَبَنَاتِ ابْنٍ وَابْنَ ابْنِ ابْنٍ أَسْفَلَ مِنْهُنَّ كَانَ
لِلْبَنَاتِ الثُّلُثَانِ وَمَا بَقِيَ فَبَيْنَ بَنَاتِ
الِابْنِ وَمَنْ هُوَ أَسْفَلُ مِنْهُنَّ مِنْ بَنِي ابْنِ
الِابْنِ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ وَهَذَا
قَوْلُ أَهْلِ الْعِلْمِ جَمِيعًا مِنْ الصَّحَابَةِ
وَالتَّابِعِينَ إلَّا مَا روى عن عبد الله ابن مَسْعُودٍ
أَنَّهُ كَانَ يَجْعَلُ الْبَاقِيَ لِابْنِ الِابْنِ وَإِنْ
سَفُلَ وَلَا يُعْطِي بَنَاتَ الِابْنِ شَيْئًا إذَا
اسْتَكْمَلَ الْبَنَاتُ الثُّلُثَيْنِ وَإِنَّمَا كَانَ
يَجْعَلُ لِبَنَاتِ الِابْنِ تَكْمِلَةَ الثُّلُثَيْنِ مِثْلَ
أَنْ يَتْرُكَ بِنْتًا وَبَنَاتِ ابْنٍ فَيَكُونُ لِلْبِنْتِ
النِّصْفُ وَلِبَنَاتِ الِابْنِ السُّدُسُ تَكْمِلَةَ
الثُّلُثَيْنِ فَإِنْ كَانَ مَعَهُنَّ ابْنُ ابْنٍ لَمْ يُعْطِ
بَنَاتِ الِابْنِ أَكْثَرَ مِنْ السُّدُسِ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ
فِي الْأَخَوَاتِ مِنْ الْأَبِ مَعَ الْأَخَوَاتِ مِنْ الْأَبِ
وَالْأُمِّ
وَذَهَبَ فِي ذَلِكَ إلَى أَنَّ إنَاثَ وَلَدِ الِابْنِ لَوْ
كُنَّ وَحْدَهُنَّ لَمْ يَأْخُذْنَ شَيْئًا بَعْدَ اسْتِيفَاءِ
الْبَنَاتِ الثُّلُثَيْنِ فَكَذَلِكَ إذَا كَانَ لَهُنَّ أَخٌ
لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ شَيْءٌ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ كَانَ
ابْنُ عَمٍّ مَعَ إحْدَاهُنَّ لَمْ يَأْخُذْنَ شَيْئًا
وَلَيْسَ هَذَا عِنْدَ الْجَمَاعَةِ كَذَلِكَ لِأَنَّ بَنَاتَ
الِابْنِ يَأْخُذْنَ تَارَةً بِالْفَرْضِ وَتَارَةً
بِالتَّعْصِيبِ وَأَخُوهُنَّ وَمَنْ هُوَ أَسْفَلُ مِنْهُنَّ
يَعْصِبُهُنَّ كَبَنَاتِ الصُّلْبِ يَأْخُذْنَ تَارَةً
بِالْفَرْضِ وَتَارَةً بِالتَّعْصِيبِ فَلَوْ انْفَرَدَ
الْبَنَاتُ لَمْ يَأْخُذْنَ أَكْثَرَ مِنْ الثُّلُثَيْنِ
وَإِنْ كَثُرْنَ وَلَوْ كَانَ مَعَهُنَّ أَخٌ لَهُنَّ وَهُنَّ
عَشْرٌ كَانَ لَهُنَّ خَمْسَةُ أَسْدَاسِ الْمَالِ
فَيَأْخُذْنَ فِي حَالِ كَوْنِ الْأَخِ مَعَهُنَّ أَكْثَرَ
مِمَّا يَأْخُذْنَ فِي حَالِ الِانْفِرَادِ فَكَذَلِكَ حُكْمُ
بَنَاتِ الِابْنِ إذَا اسْتَوْفَى بَنَاتُ الصُّلْبِ
الثُّلُثَيْنِ لَمْ يَبْقَ لَهُنَّ فَرْضٌ فَإِنْ كان معهن أخ
صرن عصبة معه ووجبت قِسْمَةُ الثُّلُثِ الْبَاقِي بَيْنَهُمْ
لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ وَكَذَلِكَ قَالُوا
فِي بِنْتَيْنِ وَبِنْتِ ابْنٍ وَأُخْتٍ أَنَّ لِلْبِنْتَيْنِ
الثُّلُثَيْنِ وَالْبَاقِي لِلْأُخْتِ وَلَا شَيْءَ لِبِنْتِ
الِابْنِ لِأَنَّهَا لَوْ أَخَذَتْ فِي هَذِهِ الْحَالِ
الَّتِي لَيْسَ مَعَهَا ذِكْرٌ كَانَتْ مُسْتَحِقَّةً بِفَرْضِ
الْبَنَاتِ وَالْبَنَاتُ قَدْ اسْتَوْعَبْنَ الثُّلُثَيْنِ
فَلَمْ يَبْقَ مِنْ فَرْضِ الْبَنَاتِ شَيْءٌ تَأْخُذُهُ
فَكَانَتْ الْأُخْتُ أَوْلَى لِأَنَّهَا عَصَبَةٌ مَعَ
الْبَنَاتِ
(3/15)
فَمَا تَأْخُذُهُ الْأُخْتُ فِي هَذِهِ
الْحَالِ فَإِنَّمَا تَأْخُذُهُ بِالتَّعْصِيبِ فَإِذَا كَانَ
مَعَ بِنْتِ الِابْنِ أَخٍ لَهَا كَانَ الْبَاقِي بَعْدَ
الثُّلُثَيْنِ بَيْنَهُمَا لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ
الْأُنْثَيَيْنِ وَلَا شَيْءَ لِلْأُخْتِ
وَقَدْ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قَالَ حَدَّثَنَا
أَبُو دَاوُد قَالَ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَامِرِ
بْنِ زُرَارَةَ قَالَ حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ مسهر عن الأعمش
عن أَبِي قَيْسٍ الْأَوْدِيِّ عَنْ هُزَيْلِ بْنِ شُرَحْبِيلَ
الْأَوْدِيِّ قَالَ جَاءَ رَجُلٌ إلَى أَبِي مُوسَى
الْأَشْعَرِيِّ وَسَلْمَانَ بْنِ رَبِيعَةَ فَسَأَلَهُمَا عَنْ
بِنْتٍ وَبِنْتِ ابْنٍ وَأُخْتٍ لِأَبٍ وَأُمٍّ فَقَالَا
لِلْبِنْتِ النِّصْفُ وَلِلْأُخْتِ النِّصْفُ وَلَمْ
يُوَرِّثَا بِنْتَ الِابْنِ شَيْئًا وَأْتِ ابْنَ مَسْعُودٍ
فَإِنَّهُ سَيُتَابِعُنَا فَأَتَاهُ الرَّجُلُ فَسَأَلَهُ
وَأَخْبَرَهُ بِقَوْلِهِمَا فَقَالَ لَقَدْ ضَلَلْت إذًا وَمَا
أَنَا مِنْ الْمُهْتَدِينَ وَلَكِنْ أَقْضِي فِيهَا بِقَضَاءِ
رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لابنته
النصف ولابنة الابن السدس تكملة الثلثين وما بقي فللأخت مِنْ
الْأَبِ وَالْأُمِّ
فَهَذَا السُّدُسُ تَأْخُذُهُ بِنْتُ الِابْنِ بِالْفَرْضِ لَا
بِالتَّعْصِيبِ لَمْ يَخْتَلِفُوا فِيهِ إلَّا مَا رُوِيَ عَنْ
أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ وَسَلْمَانَ بْنِ رَبِيعَةَ
وَهُوَ الْآنَ اتِّفَاقٌ ثُمَّ لَمْ يُخَالِفْهُمْ عَبْدُ
اللَّهِ لَوْ كَانَ مَعَهَا أَخٌ أَنَّ لِلْبِنْتِ النِّصْفَ
وَمَا بَقِيَ فَبَيْنَ بِنْتِ الِابْنِ وَابْنِ الِابْنِ
لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ وَأَنَّهَا لَا
تُعْطَى السُّدُسَ فِي هَذِهِ الْحَالِ كَمَا أُعْطِيت إذَا
لَمْ يَكُنْ مَعَهَا أَخٌ فَفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ
بِنْتَ الِابْنِ تَسْتَحِقُّ تَارَةً بِالْفَرْضِ وَتَارَةً
بِالتَّعْصِيبِ مَعَ أخواتها كَفَرَائِضِ بَنَاتِ الصُّلْبِ
وَمِنْ قَوْلِ عَبْدِ اللَّهِ فِي بِنْتٍ وَبَنَاتِ ابْنٍ
وَابْنِ ابْنٍ أَنَّ للبنت النصف وما بقي فبين بنات لابن
وَابْنِ الِابْنِ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ مَا
لَمْ تَزِدْ أَنْصِبَاءُ بَنَاتِ الِابْنِ عَلَى السُّدُسِ
فَلَا يُعْطِيهِنَّ أَكْثَرَ مِنْ السُّدُسِ فَلَمْ يُعْتَبَرُ
الْفَرْضُ عَلَى حِدَةٍ فِي هَذِهِ الْحَالِ وَلَا
التَّعْصِيبُ عَلَى حِدَةٍ وَلَكِنَّهُ اُعْتُبِرَ
التَّسْمِيَةُ فِي مَنْعِ الزِّيَادَةِ عَلَى السُّدُسِ
وَاعْتُبِرَ الْمُقَاسَمَةُ فِي النُّقْصَانِ وَهُوَ خِلَافُ
الْقِيَاسِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.
بَابُ الْكَلَالَةِ
قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ وَإِنْ كانَ رَجُلٌ يُورَثُ
كَلالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ
واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ قَالَ أَبُو بَكْرٍ الْمَيِّتُ
نَفْسُهُ يُسَمَّى كَلَالَةً وَبَعْضُ مَنْ يَرِثُهُ يُسَمَّى
كَلَالَةً وقَوْله تَعَالَى وَإِنْ كانَ رَجُلٌ يُورَثُ
كَلالَةً يدل على أن الكلالة هاهنا اسْمُ الْمَيِّتِ
وَالْكَلَالَةُ حَالُهُ وَصِفَتُهُ وَلِذَلِكَ انْتَصَبَ
وَرَوَى السَّمِيطُ بْنُ عُمَيْرٍ أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ قَالَ أَتَى عَلَيَّ زَمَانٌ وَمَا أَدْرِي مَا
الْكَلَالَةُ وَإِنَّمَا الْكَلَالَةُ مَا خَلَا الْوَلَدَ
وَالْوَالِدَ وَرُوِيَ عَاصِمٌ الْأَحْوَلِ عَنْ الشَّعْبِيِّ
قَالَ قَالَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ الْكَلَالَةُ
مَا خَلَا الْوَلَدَ وَالْوَالِدَ فَلَمَّا طُعِنَ عمر رضى
(3/16)
اللَّهُ عَنْهُ قَالَ رَأَيْت أَنَّ
الْكَلَالَةَ مَنْ لَا وَلَدَ لَهُ وَلَا وَالِدَ وَإِنِّي
لَأَسْتَحْيِيَ اللَّهَ أَنْ أُخَالِفَ أَبَا بَكْرٍ هُوَ مَا
عَدَا الْوَالِدَ وَالْوَلَدَ وَرَوَى طَاوُسٍ عَنْ ابْنِ
عَبَّاسٍ قَالَ كُنْت آخِرَ النَّاسِ عَهْدًا بِعُمَرَ بْنِ
الْخَطَّابِ فَسَمِعْته يَقُولُ الْقَوْلَ مَا قُلْت قُلْت
وَمَا قُلْت قَالَ الْكَلَالَةُ مَنْ لَا وَلَدَ لَهُ وَرَوَى
سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ عَنْ
الْحَسَنِ بْنِ مُحَمَّدٍ قَالَ سَأَلْت ابْنَ عَبَّاسٍ عَنْ
الْكَلَالَةِ فَقَالَ مَنْ لَا وَلَدَ لَهُ وَلَا وَالِدَ
قَالَ قُلْت فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ فِي كِتَابِهِ
إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ
فَغَضِبَ وَانْتَهَرَنِي فَظَاهِرُ الْآيَةِ وَقَوْلِ مَنْ
ذَكَرْنَاهُمْ مِنْ الصَّحَابَةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ
الْمَيِّتَ نَفْسَهُ يُسَمَّى كَلَالَةً لِأَنَّهُمْ قَالُوا
الْكَلَالَةُ مَنْ لَا وَالِدَ لَهُ وَلَا وَلَدَ وَقَالَ
بَعْضُهُمْ الْكَلَالَةُ مَنْ لَا وَلَدَ لَهُ وَهَذِهِ صِفَةُ
الْمَوْرُوثِ الْمَيِّتِ لِأَنَّهُ مَعْلُومٌ أَنَّهُمْ لَمْ
يُرِيدُوا أَنَّ الْكَلَالَةَ هُوَ الْوَارِثُ الَّذِي لَا
وَلَدَ لَهُ وَلَا وَالِدَ إذْ كَانَ وُجُودُ الْوَلَدِ
وَالْوَالِدِ لِلْوَارِثِ لَا يُغَيِّرُ حُكْمَ مِيرَاثِهِ
مِنْ مَوْرُوثِهِ وَإِنَّمَا يَتَغَيَّرُ حُكْمُ الْمِيرَاثِ
بِوُجُودِ هَذِهِ الصِّفَةِ لِلْمَيِّتِ الْمُوَرِّثِ
وَاَلَّذِي يَدُلُّ عَلَى أَنَّ اسْمَ الْكَلَالَةِ قَدْ
يَقَعُ عَلَى بَعْضِ الْوَارِثِينَ
مَا رواه شعبة عن ابن الْمُنْكَدِرِ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ
اللَّهِ قَالَ أَتَانِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعُودُنِي وَأَنَا مَرِيضٌ فَقُلْت يَا
رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ الْمِيرَاثُ فَإِنَّمَا يَرِثُنِي
كَلَالَةٌ فَنَزَلَتْ آيَةُ الْفَرَائِضِ وَهَذَا الْحَرْفُ
تَفَرَّدَ بِهِ شُعْبَةُ فِي رواية محمد بن المنكدر
فأخبر أَنَّ الْكَلَالَةَ وَرِثَتْهُ وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَرَوَى ابْنُ عَوْنٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ سَعِيدٍ عَنْ حُمَيْدِ
بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ قَالَ حَدَّثَنَا رَجُلٌ مِنْ بَنِي
سَعْدٍ أَنَّ سَعْدًا مَرِضَ بِمَكَّةَ فَقَالَ يَا رَسُولَ
اللَّهِ لَيْسَ لِي وَارِثٌ إلَّا كَلَالَةٌ فأخبر أَيْضًا
أَنَّ الْكَلَالَةَ هُمْ الْوَرَثَةُ
وَحَدِيثُ سَعْدٍ مُتَقَدِّمٌ لِحَدِيثِ جَابِرٍ لِأَنَّ
مَرَضَهُ كَانَ بِمَكَّة وَلَيْسَ فِيهِ ذِكْرُ الْآيَةِ
فَقَالَ قَوْمٌ كَانَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ وَقَالَ قَوْمٌ
كَانَ فِي عَامِ الْفَتْحِ وَيُقَالُ إنَّ الصَّحِيحَ أَنَّهُ
كَانَ فِي عَامِ الْفَتْحِ وَحَدِيثُ جَابِرٍ كَانَ
بِالْمَدِينَةِ فِي آخِرِ أَيَّامِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَوَى شُعْبَةُ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ
عَنْ الْبَرَاءِ قَالَ آخِرُ آيَةٍ نَزَلَتْ يَسْتَفْتُونَكَ
قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ وَآخِرُ سُورَةٍ
نَزَلَتْ بَرَاءَةٌ
قَالَ يَحْيَى بْنُ آدَمَ وَقَدْ بَلَغَنَا عَنْ رَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قَالَ لِلَّذِي
سَأَلَهُ عَنْ الْكَلَالَةِ يَكْفِيك آيَةُ الصَّيْفِ وَهِيَ
قَوْله تَعَالَى يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي
الْكَلالَةِ
لِأَنَّهَا نَزَلَتْ فِي الصَّيْفِ وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَجَهَّزُ إلَى مَكَّةَ
وَنَزَلَتْ عَلَيْهِ آيَةُ الْحَجِّ وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ
حِجُّ الْبَيْتِ وَهِيَ آخِرُ آيَةٍ نَزَلَتْ بِالْمَدِينَةِ
ثُمَّ خَرَجَ إلَى مَكَّةَ فَنَزَلَتْ عَلَيْهِ بِعَرَفَةَ
يَوْمَ عَرَفَةَ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ
الْآيَةَ ثُمَّ نَزَلَتْ عَلَيْهِ مِنْ الْغَدِ يَوْمَ
النَّحْرِ وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ
«2- أحكام لث»
(3/17)
هَذِهِ الْآيَةُ ثُمَّ لَمْ يَنْزِلْ
عَلَيْهِ شَيْءٌ بَعْدَهَا حَتَّى قُبِضَ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ نُزُولِهَا هَكَذَا
سَمِعْنَا قَالَ يَحْيَى
وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن الْكَلَالَةِ فَقَالَ
مَنْ مَاتَ وَلَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَا وَالِدٌ فَوَرَثَتُهُ
كَلَالَةٌ
قَالَ أَبُو بَكْرٍ وَلَمْ يَذْكُرْ تَارِيخَ الْأَخْبَارِ
وَالْآيِ لِأَنَّ الْحُكْمَ يَتَغَيَّرُ فِيمَا ذَكَرْنَا
بِالتَّارِيخِ وَلَكِنَّهُ لَمَّا جَرَى ذِكْرُ الْآيِ
وَالْأَخْبَارِ اتَّصَلَ ذَلِكَ بِهَا وَإِنَّمَا أَرَدْنَا
بِذَلِكَ أَنْ نُبَيِّنَ أَنَّ اسْمَ الْكَلَالَةِ يَتَنَاوَلُ
الْمَيِّتَ تَارَةً وَبَعْضَ الْوَرَثَةِ تَارَةً أُخْرَى
وَقَدْ اخْتَلَفَ السَّلَفُ فِي الْكَلَالَةِ
فَرَوَى جَرِيرٌ عن أبى إسحاق الشيباني عن عمرو ابن مُرَّةَ
عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ
سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كيف
يورث الكلالة قال أو ليس قَدْ بَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى ذَلِكَ
ثُمَّ قَرَأَ وَإِنْ كانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوِ
امْرَأَةٌ إلَى آخِرِ الْآيَةِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى
يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ
إلَى آخِرِهَا قَالَ فَكَأَنَّ عُمَرَ لَمْ يَفْهَمْ فَقَالَ
لِحَفْصَةَ إذَا رَأَيْت مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طِيبَ نَفْسٍ فَسَلِيهِ عَنْهَا فَرَأَتْ
مِنْهُ طِيبَ نَفْسٍ فَسَأَلَتْهُ عَنْهَا فَقَالَ أَبُوك
كَتَبَ لَك هَذَا مَا أَرَى أَبَاك يَعْلَمُهَا أَبَدًا قَالَ
فَكَانَ عُمَرُ يَقُولُ مَا أَرَانِي أَعْلَمُهَا أَبَدًا
وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ مَا قَالَ
وَرَوَى سُفْيَانُ عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ عَنْ مرة قال قال
عمر ثلاث لا يَكُونَ بَيَّنَهُنَّ لَنَا أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ
الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا الْكَلَالَةُ وَالْخِلَافَةُ
وَالرِّبَا وَرَوَى قَتَادَةُ عن سالم بن أبي الجعد عن معدان
بْنِ أَبِي طَلْحَةَ قَالَ قَالَ عُمَرُ مَا سَأَلْت رَسُولَ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ شَيْءٍ
أَكْثَرَ مِمَّا سَأَلْته عَنْ الْكَلَالَةِ حَتَّى طَعَنَ
بِأُصْبُعِهِ فِي صَدْرِي ثُمَّ قَالَ يَكْفِيك آيَةُ
الصَّيْفِ وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ عِنْدَ مَوْتِهِ
اعْلَمُوا أَنِّي لَمْ أَقُلْ فِي الْكَلَالَةِ شَيْئًا
فَهَذِهِ الْأَخْبَارُ الَّتِي ذَكَرْنَا تَدُلُّ عَلَى
أَنَّهُ لَمْ يَقْطَعْ فِيهَا بِشَيْءٍ وَأَنَّ مَعْنَاهَا
وَالْمُرَادَ بِهَا كَانَ مُلْتَبِسًا عَلَيْهِ قَالَ سَعِيدُ
بْنُ الْمُسَيِّبِ كَانَ عُمَرُ كَتَبَ كِتَابًا فِي
الْكَلَالَةِ فَلَمَّا حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ مَحَاهُ وَقَالَ
تَرَوْنَ فِيهِ رَأْيَكُمْ فَهَذِهِ إحْدَى الرِّوَايَاتِ عَنْ
عُمَرَ وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ الْكَلَالَةُ مَنْ لَا
وَلَدَ لَهُ وَلَا وَالِدَ وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّ الْكَلَالَةَ
مَنْ لَا وَلَدَ لَهُ وَرُوِيَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ
وَعَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ أَنَّ
الْكَلَالَةَ مَا عَدَا الْوَالِدَ وَالْوَلَدَ وَرَوَى
مُحَمَّدُ بْنُ سَالِمٍ عَنْ الشَّعْبِيِّ عَنْ ابْنِ
مَسْعُودٍ أَنَّهُ قَالَ الْكَلَالَةُ مَا خَلَا الْوَالِدَ
وَالْوَلَدَ وَعَنْ زَيْدِ ابن ثَابِتٍ مِثْلُهُ وَرُوِيَ عَنْ
ابْنِ عَبَّاسٍ رِوَايَةٌ أخرى أن الكلالة ما خلا الوالد قَالَ
أَبُو بَكْرٍ اتَّفَقَتْ الصَّحَابَةُ عَلَى أَنَّ الْوَلَدَ
لَيْسَ مِنْ الْكَلَالَةِ وَاخْتَلَفُوا فِي الْوَالِدِ
فَقَالَ الْجُمْهُورُ الْوَالِدُ خَارِجٌ مِنْ الْكَلَالَةِ
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي
(3/18)
إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ مِثْلَهُ وَفِي
رِوَايَةٍ أُخْرَى أَنَّ الْكَلَالَةَ مَا عَدَا الْوَلَدَ
فَلَمَّا اخْتَلَفَ السَّلَفُ فيها عَلَى هَذِهِ الْوُجُوهِ
وَسَأَلَ عُمَرُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
عَنْ مَعْنَاهَا فَوَكَّلَهُ إلَى حُكْمِ الْآيَةِ وَمَا فِي
مَضْمُونِهَا وَهِيَ قَوْله تَعَالَى يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ
اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ وَقَدْ كَانَ عُمَرُ
رَجُلًا مِنْ أَهْلِ اللِّسَانِ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ مَا
طَرِيقُ مَعْرِفَتِهِ اللُّغَةُ ثَبَتَ أَنَّ مَعْنَى اسْمِ
الْكَلَالَةِ غَيْرُ مَفْهُومٍ مِنْ اللُّغَةِ وَأَنَّهُ مِنْ
مُتَشَابِهِ الْآيِ الَّتِي أمرنا الله تعالى بالاستدلال على
معناه بالحكم وَرَدَّهُ إلَيْهِ وَلِذَلِكَ لَمْ يُجِبْ
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عُمَرَ عَنْ
سُؤَالِهِ فِي مَعْنَى الْكَلَالَةِ وَوَكَّلَهُ إلَى
اسْتِنْبَاطِهِ وَالِاسْتِدْلَالِ عَلَيْهِ وَفِي ذَلِكَ
ضُرُوبٌ مِنْ الدَّلَالَةِ عَلَى الْمَعَانِي أحدها أن بمسئلته
إيَّاهُ لَمْ يُلْزِمْهُ تَوْقِيفَهُ عَلَى مَعْنَاهَا مِنْ
طَرِيقِ النَّصِّ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ وَاجِبًا عَلَيْهِ
تَوْقِيفُهُ عَلَى مَعْنَاهَا لَمَا أَخْلَاهُ النَّبِيُّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ بَيَانِهَا وَذَلِكَ
أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ أَمْرُ الْكَلَالَةِ فِي الْحَالِ الَّتِي
سَأَلَ عَنْهَا حَادِثَةٌ تُلْزِمُهُ تَنْفِيذَ حُكْمِهَا فِي
الْحَالِ وَلَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَمَا أَخْلَاهُ مِنْ
بَيَانِهَا وَإِنَّمَا سَأَلَهُ سُؤَالَ مُسْتَفْهِمٍ
مُسْتَرْشِدٍ لِمَعْنَى الآية من طريق النص ولم يكن عن
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَوْقِيفُ
النَّاسِ عَلَى جَلِيلِ الْأَحْكَامِ وَدَقِيقِهَا لِأَنَّ
مِنْهَا مَا هُوَ مَذْكُورٌ بِاسْمِهِ وَصِفَتِهِ وَمِنْهَا
مَا هُوَ مَدْلُولٌ عَلَيْهِ بِدَلَالَةٍ مُفْضِيَةٍ إلَى
الْعِلْمِ بِهِ لا احتمال فيه ومنها ما هو موكولا إلَى
اجْتِهَادِ الرَّأْيِ فَرَدَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عُمَرَ إلَى اجْتِهَادِهِ وَهَذَا يَدُلُّ
عَلَى أَنَّهُ رَآهُ مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ وَأَنَّهُ
مِمَّنْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى لَعَلِمَهُ الَّذِينَ
يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَفِيهِ الدَّلَالَةُ عَلَى
تَسْوِيغِ اجْتِهَادِ الرَّأْيِ فِي الْأَحْكَامِ وَأَنَّهُ
أَصْلٌ يُرْجَعُ إلَيْهِ فِي أَحْكَامِ الْحَوَادِثِ
وَالِاسْتِدْلَالِ عَلَى مَعَانِي الْآيِ الْمُتَشَابِهَةِ
وَبِنَائِهَا على المحكم واتفاق الصحابة أيضا على تسويغ
الِاجْتِهَادِ فِي اسْتِخْرَاجِ مَعَانِي الْكَلَالَةِ يَدُلُّ
عَلَى ذَلِكَ أَلَا تَرَى أَنَّ بَعْضَهُمْ قَالَ هُوَ مَنْ
لَا وَلَدَ لَهُ وَلَا وَالِدَ وَقَالَ بَعْضُهُمْ مَنْ لَا
وَلَدَ لَهُ وَأَجَابَ عُمَرُ بِأَجْوِبَةٍ مُخْتَلِفَةٍ
وَوَقَفَ فِيهَا فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ وَلَمْ يُنْكِرْ
بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ الْكَلَامَ فِيهَا بِمَا أَدَّاهُ
إلَيْهِ اجْتِهَادُهُ وَفِي ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى
اتِّفَاقِهِمْ عَلَى تَسْوِيغِ الِاجْتِهَادِ فِي الْأَحْكَامِ
وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَا
رَوَى أَبُو عِمْرَانَ الْجَوْنِيُّ عَنْ جُنْدُبٍ قَالَ قَالَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ قَالَ
فِي الْقُرْآنِ بِرَأْيِهِ فَأَصَابَ فَقَدْ أَخْطَأَ
إنَّمَا هُوَ فيمن قال فيه بما سنخ فِي وَهْمِهِ وَخَطَرَ
عَلَى بَالِهِ مِنْ غَيْرِ اسْتِدْلَالٍ عَلَيْهِ بِالْأُصُولِ
وَأَنَّ مَنْ اسْتَدَلَّ عَلَى حُكْمِهِ وَاسْتَنْبَطَ
مَعْنَاهُ فَحَمَلَهُ عَلَى الْمُحْكَمِ الْمُتَّفَقِ عَلَى
مَعْنَاهُ فَهُوَ مَمْدُوحٌ مَأْجُورٌ مِمَّنْ قَالَ الله
تعالى لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَقَدْ
تَكَلَّمَ أَهْلُ اللُّغَةِ فِي مَعْنَى الْكَلَالَةِ قَالَ
أَبُو عُبَيْدَةَ مَعْمَرُ بْنُ الْمُثَنَّى الْكَلَالَةُ
كُلُّ مَنْ لَمْ يَرِثْهُ أَبٌ وَلَا ابْنٌ فهو
(3/19)
عِنْدَ الْعَرَبِ كَلَالَةٌ مَصْدَرٌ مِنْ
تَكَلَّلَهُ النَّسَبُ أَيْ تَعَطَّفَ النَّسَبُ عَلَيْهِ
قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ مَنْ قَرَأَهَا يُورِثُ بِالْكَسْرِ
أَرَادَ مَنْ لَيْسَ بِوَلَدٍ وَلَا وَالِدٍ قَالَ أَبُو
بَكْرٍ وَاَلَّذِي قَرَأَهُ بِالْكَسْرِ الْحَسَنُ وَأَبُو
رَجَاءٍ الْعُطَارِدِيُّ قَالَ أَبُو بَكْرٍ وَقَدْ قِيلَ إنَّ
الْكَلَالَةَ فِي أَصْلِ اللُّغَةِ هُوَ الْإِحَاطَةُ فَمِنْهُ
الْإِكْلِيلُ لِإِحَاطَتِهِ بالرأس ومنه الكل لإحاطته بما يدل
عَلَيْهِ فَالْكَلَالَةُ فِي النَّسَبِ مِنْ أَحَاطَ
بِالْوَلَدِ والوالد من أخوة والأخوات وتكللهما وتعطف عليها
والولد والوالد ليس بِكَلَالَةٍ لِأَنَّ أَصْلَ النَّسَبِ
وَعَمُودَهُ الَّذِي إلَيْهِ يَنْتَهِي هُوَ الْوَلَدُ
وَالْوَالِدُ وَمَنْ سِوَاهُمَا فَهُوَ خَارِجٌ عَنْهُمَا
وَإِنَّمَا يَشْتَمِلُ عَلَيْهِمَا بِالِانْتِسَابِ عَنْ
غَيْرِ جِهَةِ الْوِلَادَةِ مِمَّنْ نُسِبَ إلَيْهِ
كَالْإِكْلِيلِ الْمُشْتَمِلِ عَلَى الرَّأْسِ وَهَذَا يَدُلُّ
عَلَى صِحَّةِ قول من تأولها على ما عَدَا الْوَالِدَ
وَالْوَلَدَ وَأَنَّ الْوَلَدَ إذَا لَمْ يكن من الكلالة فكذلك
الولد لِأَنَّ نِسْبَةَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إلَى
الْمَيِّتِ مِنْ طَرِيقِ الْوِلَادَةِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ
الْإِخْوَةُ وَالْأَخَوَاتُ لِأَنَّ نَسَبَ كُلِّ وَاحِدٍ
مِنْهُمَا لَا يَرْجِعُ إلَى الْمَيِّتِ مِنْ طَرِيقِ وِلَادٍ
بَيْنَهُمَا وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ مَنْ تَأَوَّلَهُ عَلَى
مَنْ عَدَا الوالد وَأَخْرَجَ الْوَلَدَ وَحْدَهُ مِنْ
الْكَلَالَةِ أَنَّ الْوَلَدَ مِنْ الْوَالِدِ وَكَأَنَّهُ
بَعْضُهُ وَلَيْسَ الْوَالِدُ مِنْ الْوَلَدِ كَمَا لَيْسَ
الْأَخُ وَالْأُخْتُ مِمَّنْ يُنْسَبُ إلَيْهِ بِالْأُخُوَّةِ
فَاعْتَبَرَ مَنْ قَالَ ذَلِكَ الْكَلَالَةَ بِمَنْ لَا
يُنْسَبُ إلَيْهِ بِأَنَّهُ مِنْهُ وَبَعْضُهُ فَأَمَّا مَنْ
كَانَتْ نِسْبَتُهُ إلَى الْمَيِّتِ مِنْ حَيْثُ هُوَ مِنْهُ
فَلَيْسَ بِكَلَالَةٍ وَقَدْ كَانَ اسْمُ الْكَلَالَةِ
مَشْهُورًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ قَالَ عَامِرُ بْنُ
الطُّفَيْلِ.
فَإِنِّي وَإِنْ كُنْت ابْنَ فَارِسِ عَامِرٍ وَفِي السِّرِّ
مِنْهَا وَالصَّرِيحِ الْمُهَذَّبِ فَمَا سَوَّدَتْنِي عَامِرٌ
عَنْ كَلَالَةٍ أَبَى اللَّهُ أَنْ أَسْمُوَ بِأُمٍّ وَلَا
أَبِ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ رَأَى الْجَدَّ الَّذِي
انْتَسَبُوا إلَيْهِ كَلَالَةً وَأَخْبَرَ مَعَ ذَلِكَ أَنَّ
سِيَادَتَهُ لَيْسَتْ مِنْ طَرِيقِ النَّسَبِ وَالْكَلَالَةِ
لَكِنَّهُ بِنَفْسِهِ سَادَ وَرَأَسَ وَقَالَ بَعْضُهُمْ
كَلَّتْ الرَّحِمُ بَيْنَ فُلَانٍ وَفُلَانٍ إذَا تَبَاعَدَتْ
وَحَمَلَ فُلَانٌ عَلَى فُلَانٍ ثُمَّ كل عنه إذا تباعد
والكلالة هُوَ الْإِعْيَاءُ لِأَنَّهُ قَدْ يَبْعُدُ عَلَيْهِ
تَنَاوُلُ مَا يُرِيدُهُ وَأَنْشَدَ الْفَرَزْدَقُ:
وَرِثْتُمْ قَنَاةَ الْمُلْكِ غَيْرَ كَلَالَةٍ عَنْ ابْنَيْ
مَنَافٍ عَبْدِ شَمْسٍ وَهَاشِمِ يَعْنِي: وَرِثْتُمُوهَا
بِالْآبَاءِ لَا بِالْأُخُوَّةِ وَالْعُمُومَةِ وَذَكَرَ
اللَّهُ تَعَالَى الْكَلَالَةَ فِي مَوْضِعَيْنِ مِنْ
كِتَابِهِ أَحَدُهُمَا قَوْله تَعَالَى قُلِ اللَّهُ
يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ
وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَها نِصْفُ مَا تَرَكَ إلَى آخِرِ
الْآيَةِ فَذَكَرَ مِيرَاثَ الْإِخْوَةِ وَالْأَخَوَاتِ
(3/20)
عِنْدَ عَدَمِ الْوَلَدِ وَسَمَّاهُمْ
كَلَالَةً وَعَدَمُ الْوَالِدِ مَشْرُوطٌ فِيهَا وَإِنْ لَمْ
يَكُنْ مَذْكُورًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى فِي أَوَّلِ السُّورَةِ
وَوَرِثَهُ أَبَواهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كانَ لَهُ
إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ فَلَمْ يَجْعَلْ لِلْإِخْوَةِ
مِيرَاثًا مَعَ الْأَبِ فَخَرَجَ الْوَالِدُ مِنْ الْكَلَالَةِ
كَمَا خَرَجَ الْوَلَدُ لِأَنَّهُ لَمْ يُوَرِّثْهُمْ مَعَ
الْأَبِ كَمَا لَمْ يُوَرِّثْهُمْ مَعَ الِابْنِ وَالْبِنْتُ
أَيْضًا لَيْسَتْ بِكَلَالَةٍ فَإِنْ تَرَكَ ابْنَةً أَوْ
ابْنَتَيْنِ وَإِخْوَةً وَأَخَوَاتٍ لِأَبٍ وَأُمٍّ أَوْ
لِأَبٍ فَالْبَنَاتُ لَسْنَ بِكَلَالَةٍ وَمَنْ وَرِثَ
مَعَهُمَا كَلَالَةً وَقَالَ تَعَالَى فِي أَوَّلِ السُّورَةِ
وَإِنْ كانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ
أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ
كانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذلِكَ فَهُمْ شُرَكاءُ فِي الثُّلُثِ
فَهَذِهِ الْكَلَالَةُ هِيَ الْأَخُ وَالْأُخْت لِأُمٍّ لَا
يَرِثَانِ مَعَ وَالِدٍ وَلَا وَلَدِ ذَكَرًا كَانَ أَوْ
أُنْثَى وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ فِي قِرَاءَةِ سَعْدِ بْنِ أَبِي
وَقَّاصٍ [وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يورث كلالة أو امرأة وله أخ أو
أُخْتٌ لِأُمٍّ] فَلَا خِلَافَ مَعَ ذَلِكَ أَنَّ المراد بالأخ
والأخت هاهنا إذا كانا لأم دونهما إذا كانا لِأَبٍ وَأُمٍّ
أَوْ لِأَبٍ وَقَدْ رُوِيَ عَنْ طَاوُسٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ
أَنَّ الْكَلَالَةَ مَا عَدَا الْوَلَدَ وَوَرِثَ الْإِخْوَةُ
مِنْ الْأُمِّ مَعَ الْأَبَوَيْنِ السُّدُسَ وَهُوَ السُّدُسُ
الَّذِي حُجِبَتْ الْأُمُّ عَنْهُ وَهُوَ قَوْلٌ شَاذٌّ وَقَدْ
بَيَّنَّا مَا رُوِيَ عَنْهُ أَنَّهَا مَا عَدَا الْوَالِدَ
وَالْوَلَدَ وَلَا خِلَافَ أَنَّ الْإِخْوَةَ وَالْأَخَوَاتِ
مِنْ الْأُمِّ يَشْتَرِكُونَ فِي الثُّلُثِ وَلَا يَفْضُلُ
مِنْهُمْ ذَكَرٌ عَلَى أُنْثَى وَقَدْ اخْتَلَفُوا فِي
الْجَدِّ هَلْ يُوَرَّثُ كَلَالَةً فَقَالَ قَائِلُونَ لَمْ
يُوَرَّثْ كَلَالَةً وَقَالَ آخَرُونَ بَلْ هُوَ كَلَالَةٌ
وَهُوَ قَوْلُ مَنْ يُوَرِّثُ الْإِخْوَةَ وَالْأَخَوَاتِ مَعَ
الْجَدِّ وَالْأَوْلَى أَنْ يَكُونَ خَارِجًا مِنْ
الْكَلَالَةِ لِثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ أَحَدُهَا أَنَّهُمْ لَا
يَخْتَلِفُونَ أَنَّ ابْنَ الِابْنِ خَارِجٌ عَنْ الْكَلَالَةِ
لِأَنَّهُ مَنْسُوبٌ إلَى الْمَيِّتِ بِالْوِلَادِ فَوَاجِبٌ
عَلَى هَذَا خُرُوجُ الْجَدِّ مِنْهَا إذا كَانَتْ النِّسْبَةُ
بَيْنَهُمَا مِنْ طَرِيقِ الْوِلَادِ وَمِنْ جِهَةٍ أُخْرَى
أَنَّ الْجَدَّ هُوَ أَصْلُ النَّسَبِ كَالْأَبِ وَلَيْسَ
بِخَارِجٍ عَنْهُ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ خارجا عن الكلالة إذا
كَانَتْ الْكَلَالَةُ مَا تُكَلَّلُ عَلَى النَّسَبِ
وَتُعْطَفُ عَلَيْهِ مِمَّنْ لَيْسَ أَصْلُ النَّسَبِ
مُتَعَلِّقًا بِهِ وَالثَّالِثُ أَنَّهُمْ لَا يَخْتَلِفُونَ
أَنَّ قَوْله تَعَالَى وَإِنْ كانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً
أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ لَمْ يَدْخُلْ فِيهِ
الْجَدُّ وَأَنَّهُ خَارِجٌ عَنْهُ لَا يَرِثُ مَعَهُ
الْإِخْوَةُ مِنْ الْأُمِّ كَمَا لَا يَرِثُونَ مَعَ الِابْنِ
وَالْبِنْتِ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْجَدَّ بِمَنْزِلَةِ
الْأَبِ فِي خُرُوجِهِ عَنْ الْكَلَالَةِ وَهَذَا يَدُلُّ
عَلَى أَنَّ الْجَدَّ بِمَنْزِلَةِ الْأَبِ فِي نَفْيِ
مُشَارَكَةِ الْإِخْوَةِ وَالْأَخَوَاتِ إيَّاهُ فِي
الْمِيرَاثِ فَإِنْ قِيلَ هَذَا لَا يَدُلُّ عَلَى مَا
ذَكَرْته مِنْ قِبَلِ
(3/21)
أَنَّ الْبِنْتَ خَارِجَةٌ عَنْ
الْكَلَالَةِ وَلَا يَرِثُ مَعَهَا الْإِخْوَةُ وَالْأَخَوَاتُ
مِنْ الْأُمِّ وَيَرِثُ مَعَهَا الْإِخْوَةُ وَالْأَخَوَاتُ
مِنْ الْأَبِ وَالْأُمِّ فَكَذَلِكَ الْجَدُّ قِيلَ لَهُ لِمَ
نَجْعَلُ مَا ذَكَرْنَاهُ عِلَّةً للمسئلة فَيَلْزَمُنَا مَا
وَصَفْت وَإِنَّمَا قُلْنَا إنَّهُ لَمَّا لَمْ يَتَنَاوَلْهُ
اسْمُ الْكَلَالَةِ كَالْأَبِ وَالِابْنِ اقْتَضَى ظَاهِرُ
الْآيَةِ أَنْ يَكُونَ مِيرَاثُ الْإِخْوَةِ وَالْأَخَوَاتِ
عِنْدَ عَدَمِهِ إلَّا أَنْ تَقُومَ الدَّلَالَةُ عَلَى
تَوْرِيثِهِمْ مَعَهُ وَالْبِنْتُ وَإِنْ كَانَتْ خَارِجَةً
عَنْ الْكَلَالَةِ فَقَدْ قَامَتْ الدَّلَالَةُ عَلَى
تَوْرِيثِ الْإِخْوَةِ وَالْأَخَوَاتِ مِنْ الْأَبِ مَعَهَا
فَخَصَصْنَاهَا مِنْ الظَّاهِرِ وبقي حكم اللفظ فيما سواه
مِمَّنْ يَشْتَمِلُهُ اسْمُ الْكَلَالَةِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
بَابُ الْعَوْلِ
رَوَى الزُّهْرِيُّ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ
بْنِ عُتْبَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ أَوَّلُ مَنْ أَعَالَ
الْفَرَائِضَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ لَمَّا الْتَوَتْ
عَلَيْهِ الْفَرَائِضُ وَدَافَعَ بَعْضُهَا بَعْضًا قَالَ
وَاَللَّهِ مَا أَدْرِي أَيُّكُمْ قَدَّمَ اللَّهُ وَلَا
أَيُّكُمْ أَخَّرَ وَكَانَ امْرَأً وَرِعًا فَقَالَ مَا أَجِدُ
شَيْئًا هُوَ أَوْسَعُ لِي أَنْ أُقَسِّمَ الْمَالَ عَلَيْكُمْ
بِالْحِصَصِ وَأُدْخِلَ عَلَى كل ذي حق ما أدخل عَلَيْهِ مِنْ
عَوْلِ الْفَرِيضَةِ
وَرَوَى أَبُو إِسْحَاقَ عَنْ الْحَارِثِ عَنْ عَلِيٍّ فِي
بِنْتَيْنِ وَأَبَوَيْنِ وَامْرَأَةٍ قَالَ صَارَ ثَمَنُهَا
تِسْعًا وَكَذَلِكَ رَوَاهُ الْحَكَمُ بْنُ عُتَيْبَةَ عَنْهُ
وَهُوَ قَوْلُ عَبْدِ اللَّهِ وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ وَقَدْ
رُوِيَ أَنَّ العباس ابن عَبْدِ الْمُطَّلِبِ أَوَّلُ مَنْ
أَشَارَ عَلَى عُمَرَ بِالْعَوْلِ قَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ
عَبْدِ اللَّهِ قال ابن عباس أَوَّلُ مَنْ أَعَالَ
الْفَرَائِضَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ وَأَيْمُ اللَّهِ لَوْ
قَدَّمَ مَنْ قَدَّمَ اللَّهُ لَمَا عَالَتْ فَرِيضَةٌ فَقِيلَ
لَهُ وَأَيُّهَا الَّتِي قَدَّمَ اللَّهُ وَأَيُّهَا الَّتِي
أَخَّرَ قَالَ كُلُّ فَرِيضَةٍ لَمْ تُزَلْ عَنْ فَرِيضَةٍ
إلَّا إلَى فَرِيضَةٍ فَهِيَ الَّتِي قَدَّمَ اللَّهُ وَكُلُّ
فَرِيضَةٍ إذَا زَالَتْ عَنْ فَرْضِهَا لَمْ يَكُنْ لَهَا إلا
مَا بَقِيَ فَهِيَ الَّتِي أَخَّرَ اللَّهُ تَعَالَى فَأَمَّا
الَّتِي قَدَّمَ اللَّهُ تَعَالَى فَالزَّوْجُ وَالزَّوْجَةُ
وَالْأُمُّ لِأَنَّهُمْ لَا يَزُولُونَ مِنْ فَرْضٍ إلَّا إلَى
فَرْضٍ وَالْبَنَاتُ وَالْأَخَوَاتُ نَزَلْنَ مِنْ فَرْضٍ إلَى
تَعْصِيبٍ مَعَ الْبِنْتَيْنِ وَالْإِخْوَةِ فَيَكُونُ لَهُنَّ
مَا بَقِيَ مَعَ الذُّكُورِ فَنَبْدَأُ بِأَصْحَابِ السِّهَامِ
ثُمَّ يَدْخُلُ الضَّرَرُ عَلَى الْبَاقِينَ وَهُمْ الَّذِينَ
يَسْتَحِقُّونَ مَا بَقِيَ إذَا كَانُوا عَصَبَةً قَالَ
عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ فَقُلْنَا لَهُ فَهَلَّا
رَاجَعْت فِيهِ عُمَرَ فَقَالَ إنَّهُ كَانَ امْرَأً مَهِيبًا
وَرِعًا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَلَوْ كَلَّمْت فِيهِ عُمَرَ
لَرَجَعَ وَقَالَ الزُّهْرِيُّ لَوْلَا أَنَّهُ تَقَدَّمَ
ابْنَ عَبَّاسٍ إمَامٌ عَدْلٌ فَأَمْضَى أَمْرًا فَمَضَى
وَكَانَ امْرَأً وَرِعًا مَا اخْتَلَفَ عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ
اثْنَانِ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَرَوَى مُحَمَّدُ بْنُ
إِسْحَاقَ عَنْ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ
(3/22)
عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ قَالَ
سَمِعْت ابْنَ عَبَّاسٍ ذَكَرَ الْفَرَائِضَ وَعَوْلَهَا
فَقَالَ أَتَرَوْنَ الَّذِي أَحْصَى رَمْلَ عَالِجٍ عَدَدًا
جَعَلَ فِي مَالٍ قَسَّمَهُ نِصْفًا وَنِصْفًا وَثُلُثًا
فَهَذَا النِّصْفُ وَهَذَا النِّصْفُ فَأَيْنَ مَوْضِعُ
الثُّلُثِ قَالَ عَطَاءٌ فقلت لابن عباس يا أبا عَبَّاسٍ إنَّ
هَذَا لَا يُغْنِي عَنْك وَلَا عنى شيئا لو مت أومت قسما
مِيرَاثَنَا عَلَى مَا عَلَيْهِ الْقَوْمُ مِنْ خِلَافِ
رَأْيِك وَرَأْيِي قَالَ فَإِنْ شَاءُوا فَلْنَدْعُ
أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَهُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَهُمْ
وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَهُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ
لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ مَا جَعَلَ اللَّهُ فِي
مَالٍ نِصْفًا وَنِصْفًا وَثُلُثًا وَالْحُجَّةُ لِلْقَوْلِ
الْأَوَّلِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ سَمَّى لِلزَّوْجِ
النِّصْفَ وَلِلْأُخْتِ مِنْ الْأَبِ وَالْأُمِّ النِّصْفَ
وَلِلْإِخْوَةِ مِنْ الْأُمِّ الثُّلُثَ وَلَمْ يُفَرِّقْ
بَيْنَ حَالِ اجْتِمَاعِهِمْ وَانْفِرَادِهِمْ فَوَجَبَ
اسْتِعْمَالُ نَصِّ الْآيَةِ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ عَلَى حَسَبِ
الْإِمْكَانِ فَإِذَا انفرد وَاتَّسَعَ الْمَالُ لَسِهَامِهِمْ
قُسِّمَ بَيْنَهُمْ عَلَيْهَا وَإِذَا اجْتَمَعُوا وَجَبَ
اسْتِعْمَالُ حُكْمِ الْآيَةِ فِي التَّضَارُبِ بِهَا وَمَنْ
اقْتَصَرَ عَلَى بَعْضٍ وَأَسْقَطَ بَعْضًا أَوْ نَقَّصَ
نَصِيبَ بَعْضٍ وَوَفَّى الْآخَرِينَ كَمَالَ سِهَامِهِمْ
فَقَدْ أَدْخَلَ الضَّيْمَ عَلَى بَعْضِهِمْ مَعَ مُسَاوَاتِهِ
لِلْآخَرِينَ فِي التَّسْمِيَةِ فَأَمَّا مَا قَالَهُ ابْنُ
عَبَّاسٍ مِنْ تَقْدِيمِ مَنْ قَدَّمَ اللَّهُ تَعَالَى
وَتَأْخِيرِ مَنْ أَخَّرَ فَإِنَّمَا قَدَّمَ بَعْضًا
وَأَخَّرَ بَعْضًا وَجَعَلَ لَهُ الْبَاقِيَ فِي حَالِ
التَّعْصِيبِ فَأَمَّا حَالُ التَّسْمِيَةِ الَّتِي لَا
تَعْصِيبَ فِيهَا فَلَيْسَ وَاحِدٌ مِنْهُمْ أَوْلَى
بِالتَّقْدِيمِ مِنْ الْآخَرِ أَلَا تَرَى أَنَّ الْأُخْتَ
مَنْصُوصٌ عَلَى فَرْضِهَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى وَلَهُ أُخْتٌ
فَلَها نِصْفُ ما تَرَكَ كَنَصِّهِ عَلَى فَرْضِ الزَّوْجِ
وَالْأُمِّ وَالْإِخْوَةِ مِنْ الْأُمِّ فَمِنْ أَيْنَ وَجَبَ
تَقْدِيمُ هَؤُلَاءِ عَلَيْهَا في هذه الحال وَقَدْ نَصَّ
اللَّهُ تَعَالَى عَلَى فَرْضِهَا فِي هذه الحال كما نص على
فرض الدين مَعَهَا وَلَيْسَ يَجِبُ لِأَنَّ اللَّهَ أَزَالَ
فَرْضَهَا إلَى غَيْرِ فَرْضٍ فِي مَوْضِعِ أَنْ يُزِيلَ
فَرْضَهَا فِي الْحَالِ الَّتِي نَصَّ عَلَيْهِ فِيهَا فَهَذَا
الْقَوْلُ أَشْنَعُ فِي مُخَالَفَةِ الْآيِ الَّتِي فِيهَا
سِهَامُ الْمَوَارِيثِ مِنْ الْقَوْلِ بِإِثْبَاتِ نِصْفٍ
وَنِصْفٍ وَثُلُثٍ عَلَى وَجْهِ الْمُضَارَبَةِ بِهَا
وَلِذَلِكَ نَظَائِرُ فِي الْمَوَارِيثِ مِنْ الْأُصُولِ
أَيْضًا قَالَ الله تعالى مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِها
أَوْ دَيْنٍ فَلَوْ تَرَكَ الْمَيِّتُ أَلْفَ دِرْهَمٍ
وَعَلَيْهِ دَيْنٌ لرجل ألف درهم ولآخر خمس مائة وَلِآخَرَ
أَلْفٌ كَانَتْ الْأَلْفُ الْمَتْرُوكَةُ مَقْسُومَةً
بَيْنَهُمْ عَلَى قَدْرِ دُيُونِهِمْ وَلَيْسَ يَجُوزُ أَنْ
يُقَالَ لما لم يمكن استيفاء ألفين وخمس مائة مِنْ أَلْفٍ
اسْتَحَالَ الضَّرْبُ بِهَا وَكَذَلِكَ لَوْ أَوْصَى رَجُلٌ
بِثُلُثِ مَالِهِ لِرَجُلٍ وَبِسُدُسِهِ لِآخَرَ وَلَمْ تُجِزْ
ذَلِكَ الْوَرَثَةُ تَضَارَبَا فِي الثُّلُثِ بقدر وصياهم
فَيَضْرِبُ أَحَدُهُمَا بِالسُّدُسِ وَالْآخَرُ بِالثُّلُثِ
مَعَ اسْتِحَالَةِ استيفاء النصف
(3/23)
مِنْ الثُّلُثِ وَكَذَلِكَ الِابْنُ
يَسْتَحِقُّ جَمِيعَ الْمَالِ لَوْ انْفَرَدَ وَلِلْبِنْتِ
النِّصْفُ لَوْ انْفَرَدَتْ فَإِذَا اجْتَمَعَا ضُرِبَ
الِابْنُ بِجَمِيعِ الْمَالِ وَالْبِنْتُ بِالنِّصْفِ
فَيَكُونُ الْمَالُ بَيْنَهُمَا أَثْلَاثًا وَهَكَذَا سَبِيلُ
الْعَوْلِ فِي الْفَرَائِضِ عِنْدَ تَدَافُعِ السِّهَامِ
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
بَابُ الْمُشْرَكَةِ
اخْتَلَفَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فِي مَسْأَلَةِ الْمُشْرَكَةِ وَهِيَ أَنْ تَخْلُفَ
الْمُوَرِّثَةُ زَوْجَهَا وَأُمَّهَا وَإِخْوَتِهَا لِأُمِّهَا
وَإِخْوَتِهَا لِأَبِيهَا وَأُمَّهَا
فَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ
عَبَّاسٍ وَأُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ وَأَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ
لِلزَّوْجِ النِّصْفُ وَلِلْأُمِّ السُّدُسُ وَلِلْأَخَوَيْنِ
مِنْ الْأُمِّ الثُّلُثُ
وَسَقَطَ الْإِخْوَةُ وَالْأَخَوَاتُ مِنْ الْأَبِ وَالْأُمِّ
وَرَوَى سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَمَةَ قَالَ سُئِلَ عَلِيٌّ عَنْ
الْإِخْوَةِ مِنْ الْأُمِّ فَقَالَ أَرَأَيْتُمْ لَوْ كَانُوا
مِائَةً أَكُنْتُمْ تَزِيدُونَهُمْ عَلَى الثُّلُثِ قَالُوا
لَا قَالَ فَأَنَا لَا أُنْقِصُهُمْ مِنْهُ شَيْئًا وَجَعَلَ
الْإِخْوَةَ وَالْأَخَوَاتِ مِنْ الْأَبِ وَالْأُمِّ عَصَبَةً
فِي هَذِهِ الْفَرِيضَةِ وَقَدْ حَالَتْ السِّهَامُ دُونَهُمْ
وَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ
مَسْعُودٍ وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ لِلزَّوْجِ النِّصْفُ
وَلِلْأُمِّ السُّدُسُ وَلِلْأَخَوَيْنِ مِنْ الْأُمِّ
الثُّلُثُ ثُمَّ يَرْجِعُ الْإِخْوَةُ مِنْ الْأَبِ وَالْأُمِّ
عَلَى الْإِخْوَةِ مِنْ الْأُمِّ فَيُشَارِكُونَهُمْ فَيَكُونُ
الثُّلُثُ الَّذِي أَخَذُوهُ بَيْنَهُمْ سَوَاءً وَرَوَى معمر
عن سماك ابن الْفَضْلِ عَنْ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ عَنْ
الْحَكَمِ بْنِ مَسْعُودٍ الثَّقَفِيِّ قَالَ شَهِدْت عُمَرَ
بْنَ الْخَطَّابِ أَشْرَكَ الْإِخْوَةُ مِنْ الْأَبِ
وَالْأُمِّ مَعَ الْإِخْوَةِ مِنْ الْأُمِّ فِي الثُّلُثِ
فَقَالَ لَهُ رجل قضيت عام أول بِخِلَافِ هَذَا قَالَ كَيْفَ
قَضَيْت قَالَ جَعَلْته لِلْإِخْوَةِ مِنْ الْأُمِّ وَلَمْ
تُعْطِ الْإِخْوَةَ مِنْ الْأَبِ وَالْأُمِّ شَيْئًا قَالَ
تِلْكَ عَلَى مَا قَضَيْنَا وَهَذِهِ عَلَى مَا قَضَيْنَا
وَرُوِيَ أَنَّ عُمَرَ كَانَ لَا يُشْرِكُ بَيْنَهُمْ حَتَّى
احْتَجَّ الْإِخْوَةُ مِنْ الْأَبِ وَالْأُمِّ فَقَالُوا يَا
أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ لَنَا أَبٌ وَلَيْسَ لَهُمْ أَبٌ
وَلَنَا أم كما لهم فإن كنتم حرمتونا بأبينا فورثونا بأمنا كما
ورستم هَؤُلَاءِ بِأُمِّهِمْ وَاحْسَبُوا أَنَّ أَبَانَا كَانَ
حِمَارًا أَلَيْسَ قَدْ تَرَاكَضْنَا فِي رَحِمٍ وَاحِدَةٍ
فَقَالَ عُمَرُ عِنْدَ ذَلِكَ صَدَقْتُمْ فَأَشْرَكَ
بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْإِخْوَةِ مِنْ الْأُمِّ فِي الثُّلُثِ
وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ
وَزُفَرُ وَالْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ إلَى
قَوْلِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
وَمَنْ تَابَعَهُ فِي تَرْكِ الشَّرِكَةِ بَيْنَهُمْ
وَالدَّلِيلُ عَلَى صِحَّةِ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ قَوْله
تَعَالَى وَإِنْ كانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوِ امْرَأَةٌ
وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ
فَإِنْ كانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذلِكَ فَهُمْ
(3/24)
شُرَكاءُ فِي الثُّلُثِ
فَنَصَّ عَلَى فَرْضِ الْإِخْوَةِ مِنْ الْأُمِّ وَهُوَ
الثُّلُثُ وَبَيَّنَ أَيْضًا حُكْمَ الْإِخْوَةِ مِنْ الْأَبِ
وَالْأُمِّ فِي قَوْله تَعَالَى يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ
يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ- إلَى قَوْله تَعَالَى- وَإِنْ
كانُوا إِخْوَةً رِجالًا وَنِساءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ
الْأُنْثَيَيْنِ فَلَمْ يَجْعَلْ اللَّهُ لَهُمْ فَرْضًا
مُسَمًّى وَإِنَّمَا جَعَلَ لَهُمْ الْمَالَ عَلَى وَجْهِ
التَّعْصِيبِ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ وَلَا
خِلَافَ أَنَّهَا لَوْ تَرَكَتْ زَوْجًا وَأُمًّا وَأَخًا
لِأُمٍّ وَإِخْوَةً وَأَخَوَاتٍ لِأَبٍ وَأُمٍّ أَنَّ
لِلزَّوْجِ النِّصْفُ وَلِلْأُمِّ السُّدُسُ وَلِلْأَخِ مِنْ
الْأُمِّ السُّدُسُ وَمَا بَقِيَ وَهُوَ السُّدُسُ بَيْنَ
الْإِخْوَةِ وَالْأَخَوَاتِ مِنْ الْأَبِ وَالْأُمِّ
لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ وَلَمْ يَدْخُلُوا
مَعَ الْأَخِ مِنْ الْأُمِّ فِي نَصِيبِهِ فَلَمَّا كَانُوا
مَعَ ذَوِي السِّهَامِ إنَّمَا يَسْتَحِقُّونَ بَاقِيَ
الْمَالِ بِالتَّعْصِيبِ لَا بِالْفَرْضِ لَمْ يَجُزْ لَنَا
إدْخَالُهُمْ مَعَ الْإِخْوَةِ مِنْ الْأُمِّ فِي فَرْضِهِمْ
لِأَنَّ ظَاهِرَ الْآيَةِ يَنْفِي ذَلِكَ إذْ كَانَتْ الْآيَةُ
إنَّمَا أَوْجَبَتْ لَهُمْ مَا يَأْخُذُونَهُ لِلذَّكَرِ
مِثْلُ حظ الأنثيين بالتعصيب لا بالفرض فما أَعْطَاهُمْ
بِالْفَرْضِ فَهُوَ خَارِجٌ عَنْ حُكْمِ الْآيَةِ وَيَدُلُّ
عَلَى ذَلِكَ
قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
أَلْحِقُوا الْفَرَائِضَ بِأَهْلِهَا فَمَا أَبْقَتْ الفرائض
فلا ولى عَصَبَةٍ ذَكَرٍ
فَجَعَلَ لِلْعَصَبَةِ بَقِيَّةَ الْمَالِ بَعْدَ أَخْذِ ذَوِي
السِّهَامِ سِهَامَهُمْ فَمَنْ أَشْرَكَهُمْ مَعَ ذَوِي
السِّهَامِ وَهُمْ عَصَبَةٌ فَقَدْ خَالَفَ الْأَثَرَ فَإِنْ
قِيلَ لَمَّا اشْتَرَكُوا فِي نَسَبِ الْأُمِّ وَجَبَ أَنْ لَا
يُحْرَمُوا بِالْأَبِ قِيلَ لَهُ هَذَا غَلَطٌ لِأَنَّهَا لَوْ
تَرَكَتْ زَوْجًا وَأُمًّا وأخا لأم وأخوة وأخوات لأب وأم لأخذ
الأخ من أم السُّدُسَ كَامِلًا وَأَخَذَ الْإِخْوَةُ
وَالْأَخَوَاتُ مِنْ الْأَبِ وَالْأُمِّ السُّدُسَ الْبَاقِيَ
بَيْنَهُمْ وَعَسَى يُصِيبُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ أَقَلَّ
مِنْ الْعُشْرِ وَلَمْ يَكُنْ لِوَاحِدٍ مِنْهُمْ أَنْ يَقُولَ
قَدْ حَرَمْتُمُونِي بِالْأَبِ مَعَ اشْتِرَاكِنَا فِي
الْأُمِّ بَلْ كَانَ نَصِيبُ الْأَخِ مِنْ الْأُمِّ أَوْفَرَ
مِنْ نَصِيبِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى
مَعْنَيَيْنِ أَحَدُهُمَا انْتِقَاضُ الْعِلَّةِ
بِالِاشْتِرَاكِ فِي الْأُمِّ وَالثَّانِي أَنَّهُمْ لَمْ
يَأْخُذُوا بِالْفَرْضِ وَإِنَّمَا أَخَذُوا بِالتَّعْصِيبِ
وَيَدُلُّ عَلَى فَسَادِ ذَلِكَ أَيْضًا أَنَّهَا لَوْ
تَرَكَتْ زَوْجًا وَأُخْتًا لِأَبٍ وَأُمٍّ وَأُخْتًا وَأَخًا
لِأَبٍ أَنَّ لِلزَّوْجِ النِّصْفَ وَلِلْأُخْتِ مِنْ الْأَبِ
وَالْأُمِّ النصف ولا شيء للأخ والأخت من الأم لِأَنَّهُمَا
عَصَبَةٌ فَلَا يُدْخَلُ مَعَ ذَوِي السِّهَامِ ولم يجز أن
يجعل الأخ مِنْ الْأَبِ بِمَنْزِلَةِ مَنْ لَمْ يَكُنْ حَتَّى
تَسْتَحِقَّ الْأُخْتُ مِنْ الْأَبِ سَهْمَهَا الَّذِي كَانَتْ
تَأْخُذُهُ فِي حَالِ الِانْفِرَادِ عَنْ الْأَخِ وَإِنَّمَا
التَّعْصِيبُ أَخْرَجَهَا عَنْ السُّدُسِ الَّذِي كَانَتْ
تَسْتَحِقُّهُ كَذَلِكَ التَّعْصِيبُ يُخْرِجُ الْإِخْوَةَ
مِنْ الْأَبِ وَالْأُمِّ عَنْ الثُّلُثِ الَّذِي يَسْتَحِقُّهُ
الْإِخْوَةُ مِنْ الْأُمِّ والله أعلم.
(3/25)
ذِكْرُ اخْتِلَافِ السَّلَفِ فِي مِيرَاثِ
الْأُخْتِ مَعَ الْبِنْتِ
لَمْ يَخْتَلِفْ عَنْ عَلِيٍّ وَعُمَرَ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ
مَسْعُودٍ وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ وَمُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ فِي
رَجُلٍ خَلَفَ بِنْتًا وَأُخْتًا لِأَبٍ وَأُمٍّ وَعَصَبَةً
أَنَّ لِلْبِنْتِ النِّصْفَ وَمَا بَقِيَ فَلِلْأُخْتِ
فَجَعَلُوهَا عَصَبَةً مَعَ الْبَنَاتِ وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ
بْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ الزُّبَيْرِ لِلْبِنْتِ النصف وما بقي
فللعصبة وإن بعد نسبه ولاحظ لِلْأُخْتِ فِي الْمِيرَاثِ مَعَ
الْبِنْتِ وَرُوِيَ أَنَّ ابْنَ الزُّبَيْرِ رَجَعَ عَنْ
ذَلِكَ بَعْدَ أَنْ قَضَى بِهِ
وَرُوِيَ أَنَّهُ قِيلَ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ إنَّ
عَلِيًّا وَعَبْدَ اللَّهِ وَزَيْدًا كَانُوا يَجْعَلُونَ
الْأَخَوَاتِ مَعَ الْبَنَاتِ عَصَبَةً فَيُورَثُونَهُنَّ
فَاضِلَ الْمَالِ فَقَالَ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمْ اللَّهُ
يقول الله إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ
أُخْتٌ فَلَها نِصْفُ ما تَرَكَ وَأَنْتُمْ تَجْعَلُونَ لَهَا
مَعَ الْوَلَدِ النِّصْفَ قَالَ أَبُو بَكْرٍ مِمَّا يُحْتَجُّ
بِهِ لِلْقَوْلِ الْأَوَّلِ قَوْله تَعَالَى لِلرِّجالِ
نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ
وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ
وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيباً
مَفْرُوضاً فَظَاهِرُهُ يَقْتَضِي تَوْرِيثَ الْأُخْتِ مَعَ
الْبِنْتِ لِأَنَّ أَخَاهَا الْمَيِّتَ هُوَ مِنْ
الْأَقْرَبِينَ وَقَدْ جَعَلَ اللَّهُ مِيرَاثَ الْأَقْرَبِينَ
لِلرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَيُحْتَجُّ فِيهِ
بِحَدِيثِ أَبِي قَيْسٍ الْأَوْدِيِّ عَنْ هُزَيْلِ بْنِ
شُرَحْبِيلَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَضَى فِي
بِنْتٍ وَبِنْتِ ابْنٍ وَأُخْتٍ لِأَبٍ وَأُمٍّ أَنَّ
لِلْبِنْتِ النِّصْفَ وَلِبِنْتِ الِابْنِ السُّدُسَ
تَكْمِلَةَ الثُّلُثَيْنِ وَمَا بَقِيَ فَلِلْأُخْتِ فَأَعْطَى
لِلْأُخْتِ بَقِيَّةَ الْمَالِ بَعْدَ السِّهَامِ وَجَعَلَهَا
عَصَبَةً مَعَ الْبِنْتِ
وَأَمَّا احْتِجَاجُ مَنْ يَحْتَجُّ فِي ذَلِكَ بِأَنَّ
اللَّهَ تَعَالَى إنَّمَا جَعَلَ لَهَا النِّصْفَ إذَا لَمْ
يَكُنْ وَلَدٌ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَجْعَلَ لَهَا النِّصْفَ
مَعَ الْوَلَدِ فَإِنَّهُ غَيْرُ لَازِمٍ مِنْ قِبَلِ أَنَّ
اللَّهَ تَعَالَى نَصَّ عَلَى سَهْمِهَا عِنْدَ عَدَمِ
الْوَلَدِ وَلَمْ يَنْفِ مِيرَاثَهَا مَعَ وُجُودِهِ
وَتَسْمِيَتُهُ لَهَا النِّصْفَ عِنْدَ عَدَمِ الْوَلَدِ لَا
دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى سُقُوطِ حَقِّهَا إذَا كَانَ هُنَاكَ
وَلَدٌ إذْ لَمْ يَذْكُرْ هَذِهِ الْحَالَ بِنَفْيِ
الْمِيرَاثِ وَلَا بِإِيجَابِهِ فَهُوَ مَوْقُوفٌ عَلَى
دَلِيلِهِ وَمَعَ ذَلِكَ فَإِنَّ مَعْنَاهُ إنْ امْرُؤٌ هَلَكَ
وَلَيْسَ لَهُ وَلَدٌ ذَكَرٌ بِدَلَالَةِ قَوْله تَعَالَى فِي
نَسَقِ التِّلَاوَةِ وَهُوَ يَرِثُها يَعْنِي الْأَخَ يَرِثُ
الْأُخْتَ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَها وَلَدٌ مَعْنَاهُ عِنْدَ
الْجَمِيعِ إنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ ذَكَرٌ إذْ لَا
خِلَافَ بَيْنَ الصَّحَابَةِ أَنَّهَا إذَا تَرَكَتْ وَلَدًا
أُنْثَى وَأَخًا أَنَّ لِلْبِنْتِ النِّصْفَ وَالْبَاقِيَ
لِلْأَخِ وَالْوَلَدُ الْمَذْكُورُ هَاهُنَا هُوَ الْمَذْكُورُ
بَدِيًّا فِي أَوَّلِ الْآيَةِ وَأَيْضًا قَالَ اللَّهُ
تَعَالَى وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ
مِمَّا تَرَكَ إِنْ كانَ لَهُ وَلَدٌ وَمَعْنَاهُ عِنْدَ
الْجَمِيعِ إنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ ذَكَرٌ لِأَنَّهُ لَا
خِلَافَ بَيْنَ الصَّحَابَةِ وَمَنْ بَعْدَهُمْ مِنْ
الْفُقَهَاءِ أَنَّهُ لَوْ تَرَكَ
(3/26)
ابْنَةً وَأَبَوَيْنِ أَنَّ لِلْبِنْتِ
النِّصْفَ وَلِلْأَبَوَيْنِ السُّدُسَانِ وَالْبَاقِي لِلْأَبِ
فَيَأْخُذُ الْأَبُ فِي هَذِهِ الْحَالِ مَعَ الْوَلَدِ
الْأُنْثَى أَكْثَرَ مِنْ السُّدُسِ وَأَنَّ قَوْله تَعَالَى
وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا
تَرَكَ إِنْ كانَ لَهُ وَلَدٌ عَلَى أَنَّهُ وَلَدٌ ذَكَرٌ
وَكَذَلِكَ لَوْ تَرَكَ أَبًا وَبِنْتًا كَانَ لِلْبِنْتِ
النِّصْفُ وَلِلْأَبِ النِّصْفُ فَقَدْ أَخَذَ فِي هَاتَيْنِ
الْمَسْأَلَتَيْنِ أَكْثَرَ مِنْ السُّدُسِ مَعَ الْوَلَدِ
قَالَ أَبُو بَكْرٍ وَشَذَّتْ طائفة عن الْأُمَّةِ فَزَعَمَتْ
أَنَّهُ إذَا تَرَكَ بِنْتًا وَأُخْتًا كَانَ الْمَالُ كُلُّهُ
لِلْبِنْتِ وَكَذَلِكَ الْبِنْتُ وَالْأَخُ وَهَذَا قَوْلٌ
خَارِجٌ عَنْ ظَاهِرِ التَّنْزِيلِ وَاتِّفَاقِ الْأُمَّةِ
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ
لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِساءً
فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثا مَا تَرَكَ وَإِنْ كانَتْ
واحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ فَنَصَّ عَلَى سَهْمِ الْبِنْتِ
وَسَهْمِ مَا فَوْقَ الثِّنْتَيْنِ وَجَعَلَ لَهَا إذَا
انْفَرَدَتْ النِّصْفَ وَإِذَا ضَامَهَا غَيْرُهَا
الثُّلُثَيْنِ لَهُمَا جَمِيعًا فَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ تُعْطَى
أَكْثَرَ مِنْهُ إلَّا بِدَلَالَةٍ فَإِنْ قِيلَ إذَا كَانَ
ذِكْرُ النِّصْفِ وَالثُّلُثَيْنِ غَيْرَ دال عَلَى مَا
ذَكَرْت فَلَيْسَ إذًا فِي الظَّاهِرِ نَفْيُ مَا زَادَ
وَإِنَّمَا تَحْتَاجُ إلَى أَنْ تُطَالِبَ خَصْمَك بِإِقَامَةِ
الدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ الزِّيَادَةَ مُسْتَحَقَّةٌ قِيلَ
لَهُ لَمَّا كَانَ قَوْله تَعَالَى يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي
أَوْلادِكُمْ أَمْرًا بِاعْتِبَارِ السِّهَامِ الْمَذْكُورَةِ
إذْ كَانَتْ الْوَصِيَّةُ أَمْرًا أَوْجَبَ ذَلِكَ اعْتِبَارُ
كُلِّ فَرْضٍ مُقَدَّرٍ فِي الْآيَةِ عَلَى حِيَالِهِ
مَمْنُوعًا مِنْ الزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ فِيهِ فَاقْتَضَى
ذَلِكَ وُجُوبَ الِاقْتِصَارِ عَلَى الْمَقَادِيرِ
الْمَذْكُورَةِ لِمَنْ سَمَّيْت لَهُ غَيْرَ زَائِدَةٍ وَلَا
نَاقِصَةٍ وَلَمْ يَقُلْ بِذَلِكَ مِنْ حَيْثُ خَصَّهُ
بِالذِّكْرِ دُونَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ الْأَمْرِ
بِاعْتِبَارِهَا فِي ابْتِدَاءِ الْخِطَابِ فَلِذَلِكَ
مَنَعْنَا الزِّيَادَةَ عَلَيْهَا إلَّا بِدَلَالَةٍ وقَوْله
تَعَالَى لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ
وَالْأَقْرَبُونَ يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ تَوْرِيثِ الْأَخِ
مَعَ الْبِنْتِ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ
حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَلْحِقُوا الْفَرَائِضَ بِأَهْلِهَا فما
أبقت فلا ولى عَصَبَةٍ ذَكَرٍ
فَوَاجِبٌ بِمَجْمُوعِ الْآيَةِ وَالْخَبَرُ أَنَّا إذَا
أَعْطَيْنَا الْبِنْتَ النِّصْفَ أَنْ نُعْطِيَ الْبَاقِيَ
الْأَخَ لِأَنَّهُ أَوْلَى عَصَبَةٍ ذَكَرٍ وَاخْتَلَفَ
السَّلَفُ فِي ابْنَيْ عَمٍّ أَحَدُهُمَا أَخٌ لِأُمٍّ
فَقَالَ عَلِيٌّ وَزَيْدٌ لِلْأَخِ مِنْ الْأُمِّ السُّدُسُ
وَمَا بَقِيَ فَبَيْنَهُمَا نِصْفَانِ
وَهُوَ قَوْلُ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ وَقَالَ عُمَرُ وَعَبْدُ
اللَّهِ الْمَالُ لِلْأَخِ مِنْ الْأُمِّ وَقَالَا ذُو
السَّهْمِ أَحَقُّ مِمَّنْ لَا سَهْمَ لَهُ وَإِلَيْهِ كَانَ
يَذْهَبُ شُرَيْحٌ وَالْحَسَنُ وَلَمْ يَخْتَلِفُوا فِي
أَخَوَيْنِ لِأُمٍّ أَحَدُهُمَا ابْنُ عَمٍّ أَنَّ لَهُمَا
الثُّلُثَ بِنَسَبِ الْأُمِّ وَمَا بَقِيَ فَلِابْنِ الْعَمِّ
خَاصَّةً وَلَمْ يَجْعَلُوا ابْنَ الْعَمِّ أَحَقَّ بِجَمِيعِ
الْمِيرَاثِ لِاجْتِمَاعِ السَّهْمِ وَالتَّسْمِيَةُ لَهُ
دُونَ الْآخَرِ كَذَلِكَ حُكْمُ ابْنَيْ الْعَمِّ إذَا كَانَ
أَحَدُهُمَا أَخًا لِأُمٍّ فَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يُجْعَلَ
أَوْلَى
(3/27)
بِالْمِيرَاثِ مِنْ أَجْلِ اخْتِصَاصِهِ
بِالسَّهْمِ وَالتَّعْصِيبِ وَشَبَّهَ عُمَرُ وَعَبْدُ اللَّهِ
ذَلِكَ بِالْأَخِ لِأَبٍ وَأُمٍّ وَأَخٌ لِأَبٍ أَنَّهُ
أَوْلَى بِالْمِيرَاثِ وَلَيْسَ هَذَا عِنْدَ الْآخَرِينَ
مُشْبِهًا لِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مِنْ قِبَلِ أَنَّ
نَسَبَهُمَا مِنْ جِهَةٍ وَاحِدَةٍ وَهِيَ الْأُخُوَّةُ
فَاعْتُبِرَ فِيهَا أَقْرَبُهُمَا إلَيْهِ وَهُوَ الَّذِي
اجْتَمَعَ لَهُ قَرَابَةُ الْأَبِ وَالْأُمِّ وَلَا
يَسْتَحِقُّ بِقَرَابَتِهِ مِنْ الْأُمِّ سَهْمَ الْأَخِ مِنْ
الْأُمِّ بَلْ إنَّمَا يُؤَكِّدُ ذَلِكَ حُكْمُ الْأُخُوَّةِ
وَلَيْسَ كَذَلِكَ ابْنَا الْعَمِّ إذَا كَانَ أَحَدُهُمَا
أَخًا لِأُمٍّ لِأَنَّك تُرِيدُ أَنْ تُؤَكِّدَ بِالْأُخُوَّةِ
مِنْ جِهَةِ الْأُمِّ مَا لَيْسَ بِأُخُوَّةٍ وَإِنَّمَا هُوَ
سَبَبٌ آخَرُ غَيْرُهَا فَلَمْ يَجُزْ أَنْ تُؤَكِّدَهُ بِهَا
ويدل لك عَلَى هَذَا أَنَّ نِسْبَتَهُ مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ
ابْنُ الْعَمِّ لَا يُسْقِطُ سَهْمَهُ مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ
أَخٌ لِأُمٍّ بَلْ يَرِثُ بِأَنَّهُ أَخٌ لِأُمٍّ سَهْمُ
الْأَخِ مِنْ الْأُمِّ وَإِنْ كَانَ ابْنُ عَمٍّ أَلَا تَرَى
أَنَّ الْمَيِّتَةَ لَوْ تَرَكَتْ أُخْتَيْنِ لِأَبٍ وَأُمٍّ
وَزَوْجًا وَأَخًا لِأُمٍّ هُوَ ابْنُ عَمٍّ أَنَّ
لِلْأُخْتَيْنِ الثُّلُثَيْنِ وَلِلزَّوْجِ النِّصْفَ
وَلِلْأَخِ مِنْ الْأُمِّ السُّدُسَ وَلَمْ يَسْقُطْ سَهْمُهُ
مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ ابْنُ عَمٍّ وَلَوْ تَرَكَتْ زَوْجًا
وَأُمًّا وَأُخْتًا لِأُمٍّ وَإِخْوَةً لِأَبٍ وَأُمٍّ كَانَ
لِلزَّوْجِ النِّصْفُ وَلِلْأُمِّ السُّدُسُ وَلِلْأُخْتِ مِنْ
الْأُمِّ السُّدُسُ وَمَا بَقِيَ فَلِلْإِخْوَةِ مِنْ الأب
والأم ولم يستحق أخوة مِنْ الْأَبِ وَالْأُمِّ سَهْمَ
الْأُخُوَّةِ مِنْ الْأُمِّ لِمُشَارَكَتِهِمْ لِلْأَخِ مِنْ
الْأُمِّ فِي نَسَبِهَا بَلْ إنَّمَا اسْتَحَقُّوا
بِالتَّعْصِيبِ فَكَانَتْ قَرَابَتُهُمْ بِالْأَبِ وَالْأُمِّ
مُؤَكَّدَةً لَتَعْصِيبِهِمْ فَلَا يَسْتَحِقُّونَ بِهَا أَنْ
يَكُونُوا مِنْ ذَوِي السِّهَامِ وَقَرَابَةُ ابْنِ الْعَمِّ
بِنَسَبِهِ مِنْ جِهَةِ الْأُمِّ لَا تُخْرِجُهُ مِنْ أَنْ
يَكُونَ مِنْ ذَوِي السِّهَامِ فِيمَا يَسْتَحِقُّهُ مِنْ
سَهْمِ الْأَخِ مِنْ الْأُمِّ وَلَيْسَ لِهَذَا تَأْثِيرٌ فِي
تَأْكِيدِ التَّعْصِيبِ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ
لَوَجَبَ أَنْ لَا يَسْتَحِقَّ أَبَدًا إلَّا بِالتَّعْصِيبِ
كما لا يؤخذ الْإِخْوَةُ مِنْ الْأَبِ وَالْأُمِّ إلَّا
بِالتَّعْصِيبِ وَلَا يَأْخُذُونَ بِقَرَابَتِهِمْ مِنْ
الْأُمِّ سَهْمَ الْأُخُوَّةِ مِنْ الْأُمِّ وَاَللَّهُ
أَعْلَمُ.
بَابُ الرَّجُلِ يَمُوتُ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ وَيُوصِي
بِوَصِيَّةٍ
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِها
أَوْ دَيْنٍ
وروى الْحَارِثِ عَنْ عَلِيٍّ قَالَ تَقْرَءُونَ الْوَصِيَّةَ
قَبْلَ الدَّيْنِ وَإِنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قَضَى بِالدَّيْنِ قَبْلَ الْوَصِيَّةِ
قَالَ أَبُو بَكْرٍ وَهَذَا لَا خِلَافَ فِيهِ بَيْنَ
الْمُسْلِمِينَ وَذَلِكَ لِأَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ مِنْ بَعْدِ
وَصِيَّةٍ يُوصِي بِها أَوْ دَيْنٍ أَنَّ الْمِيرَاثَ بَعْدَ
هَذَيْنِ وَلَيْسَتْ أَوْ فِي هذا الموضع لأحدهما بل قد
تناولهما جَمِيعًا وَذَلِكَ لِأَنَّ قَوْلَهُ مِنْ بَعْدِ
وَصِيَّةٍ يُوصِي بِها أَوْ دَيْنٍ مُسْتَثْنًى عَنْ
الْجُمْلَةِ الْمَذْكُورَةِ فِي قِسْمَةِ الْمَوَارِيثِ
وَمَتَى دَخَلَتْ أَوْ عَلَى النَّفْيِ صَارَتْ فِي مَعْنَى
الْوَاوِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً
أَوْ
(3/28)
كَفُوراً
وَقَالَ تَعَالَى حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُما إِلَّا مَا
حَمَلَتْ ظُهُورُهُما أَوِ الْحَوايا أَوْ مَا اخْتَلَطَ
بِعَظْمٍ فَكَانَتْ أَوْ فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ بِمَنْزِلَةِ
الْوَاوِ فَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ
يُوصِي بِها أَوْ دَيْنٍ لَمَّا كَانَ فِي مَعْنَى
الِاسْتِثْنَاءِ كَأَنَّهُ قَالَ إلَّا أَنْ تَكُونَ هُنَاكَ
وَصِيَّةٌ أَوْ دَيْنٌ فَيَكُونُ الْمِيرَاثُ بَعْدَهُمَا
جَمِيعًا وَتَقْدِيمُ الْوَصِيَّةِ عَلَى الدَّيْنِ فِي
الذِّكْرِ غَيْرُ مُوجِبٍ لِلتَّبْدِئَةِ بِهَا عَلَى
الدَّيْنِ لِأَنَّ أَوْ لَا تُوجِبُ التَّرْتِيبَ وَإِنَّمَا
ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى ذَلِكَ بَعْدَ ذِكْرِ الْمِيرَاثِ
إعْلَامًا لَنَا أَنَّ سِهَامَ الْمَوَارِيثِ جَارِيَةٌ فِي
التَّرِكَةِ بَعْدَ قَضَاءِ الدَّيْنِ وَعَزْلِ حِصَّةِ
الْوَصِيَّةِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ إذَا أَوْصَى بِثُلُثِ
مَالِهِ كَانَتْ سِهَامُ الْوَرَثَةِ مُعْتَبَرَةً بَعْدَ
الثُّلُثِ فَيَكُونُ لِلزَّوْجَةِ الرُّبُعُ أَوْ الثُّمُنُ
فِي الثُّلُثَيْنِ وَكَذَلِكَ سِهَامُ سَائِرِ أَهْلِ
الْمِيرَاثِ جَارِيَةٌ فِي الثُّلُثَيْنِ دُونَ الثُّلُثِ
الَّذِي فِيهِ الْوَصِيَّةُ فَجَمَعَ تَعَالَى بَيْنَ ذِكْرِ
الدَّيْنِ وَالْوَصِيَّةِ لِيُعَلِّمَنَا أَنَّ سِهَامَ
الْمِيرَاثِ مُعْتَبَرَةٌ بَعْدَ الْوَصِيَّةِ كَمَا هِيَ
مُعْتَبَرَةٌ بَعْدَ الدَّيْنِ وَإِنْ كَانَتْ الْوَصِيَّةُ
مُخَالِفَةً لِلدَّيْنِ مِنْ جِهَةِ الِاسْتِيفَاءِ لِأَنَّهُ
لَوْ هَلَكَ مِنْ الْمَالِ شَيْءٌ لَدَخَلَ النُّقْصَانُ عَلَى
أَصْحَابِ الْوَصَايَا كَمَا يَدْخُلُ عَلَى الْوَرَثَةِ
وَلَيْسَ كَذَلِكَ الدَّيْنُ لِأَنَّهُ لَوْ هَلَكَ مِنْ
الْمَالِ شَيْءٌ اُسْتُوْفِيَ الدَّيْنُ كُلُّهُ مِنْ
الْبَاقِي وَإِنْ اسْتَغْرَقَهُ وَبَطَلَ حَقُّ الْمُوصَى لَهُ
وَالْوَرَثَةِ جَمِيعًا فَالْمُوصَى لَهُ شَرِيكُ الْوَرَثَةِ
مِنْ وَجْهٍ وَيَأْخُذُ شَبَهًا مِنْ الْغَرِيمِ مِنْ وَجْهٍ
آخَرَ وَهُوَ أَنَّ سِهَامَ أَهْلِ الْمَوَارِيثِ مُعْتَبَرَةٌ
بَعْدَ الْوَصِيَّةِ كَاعْتِبَارِهَا بَعْدَ الدَّيْنِ
وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى مِنْ بَعْدِ
وَصِيَّةٍ يُوصِي بِها أَوْ دَيْنٍ أَنَّ الْمُوصَى لَهُ
يُعْطَى وَصِيَّتَهُ قَبْلَ أَنْ يَأْخُذَ الْوَرَثَةُ
أَنْصِبَاءَهُمْ بَلْ يُعْطَوْنَ كُلَّهُمْ مَعًا كَأَنَّهُ
أَحَدُ الْوَرَثَةِ فِي هَذَا الْوَجْهِ وَمَا هَلَكَ مِنْ
الْمَالِ قَبْلَ الْقِسْمَةِ فَهُوَ ذَاهِبٌ منهم جميعا.
بَابُ مِقْدَارُ الْوَصِيَّةِ الْجَائِزَةِ
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِها
أَوْ دَيْنٍ ظَاهِرُهُ يَقْتَضِي جَوَازَ الْوَصِيَّةِ
بِقَلِيلِ الْمَالِ وَكَثِيرِهِ لِأَنَّهَا مَنْكُورَةٌ لَا
تَخْتَصُّ بِبَعْضٍ دُونَ بَعْضٍ إلَّا أَنَّهُ قَدْ قَامَتْ
الدَّلَالَةُ مِنْ غَيْرِ هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّ
الْمُرَادَ بِهَا الْوَصِيَّةُ بِبَعْضِ الْمَالِ لَا
بِجَمِيعِهِ وَهُوَ قَوْله تَعَالَى لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا
تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ
مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ
مِنْهُ أَوْ كَثُرَ فَأَطْلَقَ إيجَابَ الْمِيرَاثِ فِيهِ مِنْ
غَيْرِ ذِكْرِ الْوَصِيَّةِ فَلَوْ اقْتَضَى قَوْله تَعَالَى
مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِها الْوَصِيَّةَ بِجَمِيعِ
الْمَالِ لَصَارَ قَوْله تَعَالَى لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا
تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ مَنْسُوخًا بِجَوَازِ
الْوَصِيَّةِ بِجَمِيعِ الْمَالِ فَلَمَّا كَانَ حُكْمُ هَذِهِ
الْآيَةِ
(3/29)
ثَابِتًا فِي إيجَابِ الْمِيرَاثِ وَجَبَ
اسْتِعْمَالُهَا مَعَ آيَةِ الْوَصِيَّةِ فَوَجَبَ أَنْ
تَكُونَ الْوَصِيَّةُ مَقْصُورَةً على بعض المال والباقي
للورثة حتى تكون مُسْتَعْمِلِينَ لِحُكْمِ الْآيَتَيْنِ
وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَيْضًا قَوْله تَعَالَى وَلْيَخْشَ
الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعافاً
خافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا
قَوْلًا سَدِيداً يَعْنِي فِي مَنْعِ الرَّجُلِ الْوَصِيَّةَ
بِجَمِيعِ مَالِهِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ بَيَانِ
تَأْوِيلِهِ فَيَدُلُّ عَلَى جَوَازِ الْوَصِيَّةِ بِبَعْضِ
الْمَالِ لِاحْتِمَالِ اللَّفْظِ لِلْمَعْنَيَيْنِ وَقَدْ
رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
أَخْبَارٌ تَلَقَّتْهَا الْأُمَّةُ بِالْقَبُولِ
وَالِاسْتِعْمَالِ فِي الِاقْتِصَارِ بِجَوَازِ الْوَصِيَّةِ
عَلَى الثُّلُثِ مِنْهَا مَا
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو
دَاوُد قَالَ حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ
وَابْنُ أَبِي خَلَفٍ قَالَا حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ
الزُّهْرِيِّ عَنْ عَامِرِ بْنِ سَعْدٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ
مَرِضَ أَبِي مَرَضًا شَدِيدًا قَالَ ابن أبى خلف بمكة مرضا
شفى مِنْهُ فَعَادَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ لِي مَالًا
كَثِيرًا وَلَيْسَ يَرِثُنِي إلَّا ابْنَةٌ لِي
أَفَأَتَصَدَّقُ بِالثُّلُثَيْنِ قَالَ لَا قَالَ
فَبِالشَّطْرِ قَالَ لَا قَالَ فَبِالثُّلُثِ قَالَ الثُّلُثُ
وَالثُّلُثُ كَثِيرٌ وَإِنَّك إنْ تَتْرُكْ وَرَثَتَك
أَغْنِيَاءَ خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَدَعَهُمْ عَالَةً
يَتَكَفَّفُونَ النَّاسَ فَإِنَّك لَنْ تُنْفِقَ نَفَقَةً
إلَّا أُجِرْت عَلَيْهَا حَتَّى اللُّقْمَةَ تَرْفَعُهَا إلَى
فِي امْرَأَتِك قُلْت يَا رَسُولَ اللَّهِ أَتَخَلَّفُ عَنْ
هِجْرَتِي قَالَ إنَّك إنْ تُخَلَّفْ بَعْدِي فَتَعْمَلَ
عَمَلًا تُرِيدُ بِهِ وَجْهَ اللَّهِ لَا تَزْدَادُ بِهِ إلَّا
رِفْعَةً وَدَرَجَةً لَعَلَّك أَنْ تُخَلَّفَ حَتَّى
يَنْتَفِعَ بِك أَقْوَامٌ وَيُضَرَّ بِك آخَرُونَ ثُمَّ قَالَ
اللَّهُمَّ أَمْضِ لِأَصْحَابِي هِجْرَتَهُمْ وَلَا
تَرُدَّهُمْ عَلَى أَعْقَابِهِمْ لَكِنْ الْبَائِسُ سَعْدُ
بْنُ خَوْلَةَ يَرْثِي لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ مَاتَ بِمَكَّةَ
قَالَ أَبُو بَكْرٍ قَدْ حَوَى هَذَا الْخَبَرَ ضُرُوبًا مِنْ
الْأَحْكَامِ وَالْفَوَائِدِ مِنْهَا أَنَّ الْوَصِيَّةَ
غَيْرُ جَائِزَةٍ فِي أَكْثَرَ مِنْ الثُّلُثِ وَالثَّانِي
أَنَّ الْمُسْتَحَبَّ النُّقْصَانُ عَنْ الثُّلُثِ وَلِذَلِكَ
قَالَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ أَسْتَحِبُّ النُّقْصَانَ عَنْهُ
لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالثُّلُثُ
كَثِيرٌ وَالثَّالِثُ
أَنَّهُ إذَا كَانَ قَلِيلَ الْمَالِ وَوَرَثَتُهُ فُقَرَاءُ
أَنَّ الْأَفْضَلَ أَنْ لَا يُوصِيَ بِشَيْءٍ
لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّك أَنْ
تَدَعَ ورثتك أغنياء خير من أن تدعهم عالة يَتَكَفَّفُونَ
النَّاسَ
وَفِي ذَلِكَ أَيْضًا دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ الْوَصِيَّةِ
بِجَمِيعِ الْمَالِ إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ وَارِثٌ لِأَنَّهُ
أَخْبَرَ أَنَّ الْوَصِيَّةَ بِأَكْثَرَ مِنْ الثُّلُثِ
مَمْنُوعَةٌ لِأَجْلِ الْوَرَثَةِ وَفِيهِ الدَّلَالَةُ عَلَى
أَنَّ الصَّدَقَةَ فِي الْمَرَضِ وَصِيَّةٌ غَيْرُ جائزة إلا
من الثلث لأن سعد قَالَ أَتَصَدَّقُ بِجَمِيعِ مَالِي
فَقَالَ لَا إلَى أَنْ رَدَّهُ إلَى الثُّلُثِ
وَقَدْ رَوَاهُ جَرِيرٌ عَنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ عَنْ
أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيِّ عَنْ سَعْدٍ قَالَ
عَادَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَأَنَا مَرِيضٌ فَقَالَ أَوْصَيْت قُلْت نَعَمْ قَالَ بِكَمْ
قُلْت بِمَالِي كُلِّهِ فِي
(3/30)
سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ فَمَا تَرَكْت
لَوَلَدِك قَالَ هُمْ أَغْنِيَاءُ قَالَ أَوْصِ بِالْعَشْرِ
فَمَا زِلْتُ أُنَاقِصُهُ وَيُنَاقِصُنِي حَتَّى قَالَ أَوْصِ
بِالثُّلُثِ وَالثُّلُثُ كَثِيرٌ
قَالَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ فَنَحْنُ نَسْتَحِبُّ أن تنقص
مِنْ الثُّلُثِ
لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالثُّلُثُ
كَثِيرٌ
فَذَكَرَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّهُ قَالَ أَوْصَيْت
بِمَالِي كُلِّهِ وَهَذَا لَا يَنْفِي مَا رُوِيَ فِي
الْحَدِيثِ الْأَوَّلِ مِنْ الصَّدَقَةِ فِي الْمَرَضِ
لِأَنَّهُ جَائِزٌ أَنْ يَكُونَ لِمَا مَنَعَهُ الْوَصِيَّةَ
بِأَكْثَرَ مِنْ الثُّلُثِ ظَنَّ أَنَّ الصَّدَقَةَ جَائِزَةٌ
فِي الْمَرَضِ فَسَأَلَهُ عَنْهَا فَأَخْبَرَ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ حُكْمَ الصَّدَقَةِ حُكْمُ
الْوَصِيَّةِ فِي وُجُوبِ الِاقْتِصَارِ بِهَا عَلَى الثُّلُثِ
وَهُوَ نَظِيرُ حَدِيثِ عِمْرَانَ بْنَ حُصَيْنٍ فِي الرَّجُلِ
الَّذِي أَعْتَقَ سِتَّةَ أَعْبُدٍ لَهُ عِنْدَ مَوْتِهِ
وَفِيهِ إنَّ الرَّجُلَ مَأْجُورٌ فِي النَّفَقَةِ عَلَى
أَهْلِهِ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَنْ وَهَبَ
لِامْرَأَتِهِ هِبَةً لَمْ يَجُزْ لَهُ الرُّجُوعُ فِيهَا
لِأَنَّهَا بِمَنْزِلَةِ الصَّدَقَةِ لِأَنَّهُ قَدْ
اسْتَوْجَبَ بِهَا الثَّوَابَ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى وَهُوَ
نَظِيرُ مَا
رُوِيَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ
قَالَ إذَا أَعْطَى الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ عَطِيَّةً فَهِيَ
لَهُ صَدَقَةٌ
وَقَوْلُ سَعْدٍ أَتَخَلَّفُ عَنْ هِجْرَتِي عَنَى بِهِ
أَنَّهُ يَمُوتُ بِمَكَّةَ وَهِيَ دَارُهُ الَّتِي هَاجَرَ
مِنْهَا إلَى الْمَدِينَة
وَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
نَهَى الْمُهَاجِرِينَ أَنْ يُقِيمُوا بَعْدَ النَّفْرِ
أَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثٍ
فَأَخْبَرَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
أَنَّهُ يَتَخَلَّفُ بَعْدَهُ حَتَّى يُنَفِّعَ اللَّهُ به
أقواما ويضربه آخَرِينَ وَكَذَلِكَ كَانَ فَإِنَّهُ بَقِيَ
بَعْدَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفَتَحَ اللَّهُ
عَلَى يَدِهِ بِلَادِ الْعَجَمِ وَأَزَالَ بِهِ مُلْكَ
الْأَكَاسِرَةِ وَذَلِكَ مِنْ عُلُومِ الْغَيْبِ الَّذِي لَا
يَعْلَمُهُ غَيْرُ اللَّهِ تَعَالَى
حَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي بْنُ قَانِعٍ قَالَ حَدَّثَنَا
أَبُو عَبْدُ اللَّهِ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ حَاتِمٍ
الْعِجْلِيّ قَالَ حَدَّثَنِي عَبْدُ الْأَعْلَى ابن وَاصِلٍ
قَالَ حَدَّثَنَا إسْمَاعِيلُ بْنُ صَبِيحٍ قَالَ حَدَّثَنَا
مُبَارَكُ بْنُ حَسَّانَ قَالَ حَدَّثَنَا نَافِعٌ عَنْ ابْنِ
عُمَرَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
أَنَّهُ قَالَ حَاكِيًا عَنْ اللَّهِ تَعَالَى أَنَّهُ قَالَ
يَا ابْنَ آدَمَ اثْنَتَانِ لَيْسَتْ لَك وَاحِدَةٌ مِنْهُمَا
جَعَلْت لَك نَصِيبًا فِي مَالِك حِينَ أَخَذْت بِكَظْمِكَ
لِأُطَهِّركَ وَأُزَكِّيَكَ وَصَلَاةُ عِبَادِي عَلَيْك بَعْدَ
انْقِضَاءِ أَجَلِك
فَفِي هَذَا الْحَدِيثِ أَيْضًا أَنَّ لَهُ بَعْضَ الْمَالِ
عِنْدَ الْمَوْتِ لَا جَمِيعَهُ
وَحَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي قَالَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ
بْنُ أَحْمَدَ بْنِ شَيْبَةَ قَالَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ
صَالِحِ بْنِ النَّطَّاحِ قَالَ حَدَّثَنَا عُثْمَانُ قَالَ
سَمِعْت طَلْحَةَ بْنَ عَمْرٍو قَالَ حَدَّثَنَا عَطَاءُ عَنْ
أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه
وَسَلَّمَ إنَّ اللَّهَ أَعْطَاكُمْ ثُلُثَ أَمْوَالِكُمْ فِي
آخِرِ أَعْمَارِكُمْ زِيَادَةً فِي أَعْمَالِكُمْ
قَالَ أَبُو بَكْرٍ فَهَذِهِ الْأَخْبَارُ الْمُوجِبَةُ
لِلِاقْتِصَارِ بِالْوَصِيَّةِ عَلَى الثُّلُثِ عِنْدَنَا فِي
حَيِّزِ التَّوَاتُرِ الْمُوجِبِ لِلْعِلْمِ لِتَلَقِّي
النَّاسِ إيَّاهَا بِالْقَبُولِ وَهِيَ مُبَيِّنَةٌ لِمُرَادِ
اللَّهِ تَعَالَى فِي الْوَصِيَّةِ الْمَذْكُورَةِ فِي
الْكِتَابِ أَنَّهَا مَقْصُورَةٌ عَلَى الثُّلُثِ وقَوْله
تَعَالَى مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِها أَوْ دَيْنٍ
يَدُلُّ عَلَى أَنَّ
(3/31)
مَنْ لَيْسَ عَلَيْهِ دَيْنٌ لِآدَمِيٍّ
وَلَمْ يُوصِ بِشَيْءٍ أَنَّ جَمِيعَ مِيرَاثِهِ لَوَرَثَتِهِ
وَأَنَّهُ إنْ كَانَ عَلَيْهِ حَجٌّ أَوْ زَكَاةٌ لَمْ يَجِبْ
إخْرَاجُهُ إلَّا أَنْ يُوصِيَ بِهِ وَكَذَلِكَ الْكَفَّارَاتُ
وَالنُّذُورُ فَإِنْ قِيلَ إنَّ الْحَجَّ دَيْنٌ وَكَذَلِكَ
كُلُّ مَا يُلْزِمُهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ الْقُرَبِ فِي
الْمَالِ
لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
لِلْخَثْعَمِيَّةِ حِينَ سَأَلْته عَنْ الْحَجِّ عَنْ أَبِيهَا
أَرَأَيْت لَوْ كَانَ عَلَى أَبِيك دَيْنٌ فَقَضَيْتِيهِ
أَكَانَ يُجْزِئُ قَالَتْ نَعَمْ قَالَ فَدَيْنُ اللَّهِ
أَحَقُّ بِالْقَضَاءِ
قِيلَ لَهُ إنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
إنَّمَا سَمَّاهُ دَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى وَلَمْ يُسَمِّهِ
بِهَذَا الِاسْمِ إلَّا مُقَيَّدًا فَلَا يَتَنَاوَلُهُ
الْإِطْلَاقُ وَقَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ
يُوصِي بِها أَوْ دَيْنٍ إنما اقتضى التبدئة بما يسمى به عَلَى
الْإِطْلَاقِ فَلَا يَنْطَوِي تَحْتَهُ مَا لَا يُسَمَّى بِهِ
إلَّا مُقَيَّدًا لِأَنَّ فِي اللُّغَةِ وَالشَّرْعِ أَسْمَاءً
مُطْلَقَةً وَأَسْمَاءً مُقَيَّدَةً فَلَا يَتَنَاوَلُ
الْمُطْلَقُ إلَّا مَا يَقَعُ الِاسْمُ عَلَيْهِ عَلَى
الْإِطْلَاقِ فَإِذَا لَمْ تَتَنَاوَلْ الْآيَةُ مَا كَانَ
مِنْ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ الدُّيُونِ لِمَا وَصَفْنَا
اقْتَضَى قَوْله تَعَالَى مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِها
أَوْ دَيْنٍ أنه إذا لم يوص ولم يَكُنْ عَلَيْهِ دِينٌ
لِآدَمِيٍّ أَنْ يَسْتَحِقَّ الْوَارِثُ جَمِيعَ تَرِكَتِهِ
وَحَدِيثُ سَعْدٍ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَيْضًا لِأَنَّهُ
قَالَ أَتَصَدَّقُ بِمَالِي وَفِي لَفْظٍ آخَرَ أُوصِي
بِمَالِي فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلّم الثلث
والثلث كثير
ولم يستئن النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
الْحَجَّ وَلَا الزكاة ونحوها مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى
وَمَنَعَ الصَّدَقَةَ وَالْوَصِيَّةَ إلَّا بِثُلُثِ الْمَالِ
فَثَبَتَ بِذَلِكَ أَنَّهُ إذَا أَوْصَى بِهَذِهِ الْحُقُوقِ
كَانَتْ مِنْ الثُّلُثِ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَيْضًا
حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ لَكُمْ
ثُلُثَ أَمْوَالِكُمْ فِي آخِرِ أَعْمَارِكُمْ زِيَادَةً فِي
أَعْمَالِكُمْ
وَحَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ حَاكِيًا عَنْ اللَّهِ تَعَالَى
جَعَلْت لَك نَصِيبًا فِي مَالِك حِينَ أَخَذْت بِكَظْمِكَ
يَدُلُّ جَمِيعُ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ وَصِيَّتَهُ بِالزَّكَاةِ
وَالنُّذُورِ وَسَائِرِ الْقُرَبِ وَإِنْ كَانَتْ وَاجِبَةً
لَا تَجُوزُ إلَّا مِنْ الثلث والله أعلم.
بَابُ الْوَصِيَّةِ لِلْوَارِثِ
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو
دَاوُد قَالَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ نَجْدَةَ
قَالَ حَدَّثَنَا ابْنُ عَيَّاشٍ عن شرحبيل بن مسلم قال سمعت
أبا أُمَامَةَ قَالَ سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ إنَّ اللَّهَ قَدْ أَعْطَى كُلَّ
ذِي حَقٍّ حَقَّهُ فَلَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ
وَرَوَى عَمْرُو بْنُ خَارِجَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ لَا وَصِيَّةَ
لِوَارِثٍ إلَّا أَنْ تُجِيزَهَا الْوَرَثَةُ
وَنَقَلَ أَهْلُ السِّيَرِ
خُطْبَةَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي
حَجَّةِ الْوَدَاعِ وَفِيهَا أَنْ لَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ
فَوَرَدَ نَقْلُ ذَلِكَ مُسْتَفِيضًا كَاسْتِفَاضَةِ وُجُوبِ
الِاقْتِصَارِ بِالْوَصِيَّةِ عَلَى الثُّلُثِ دُونَ مَا زَادَ
لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا مِنْ طَرِيقِ نَقْلِ الِاسْتِفَاضَةِ
(3/32)
وَاسْتِعْمَالِ الْفُقَهَاءِ لَهُ
وَتَلَقِّيهمْ إيَّاهُ بِالْقَبُولِ وَهَذَا عِنْدَنَا فِي
حَيِّزِ الْمُتَوَاتِرِ الْمُوجِبِ لِلْعِلْمِ وَالنَّافِي
لِلرَّيْبِ وَالشَّكِّ
وَقَوْلُهُ فِي حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ خَارِجَةَ إلَّا أَنْ
تُجِيزَهَا الْوَرَثَةُ
يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا إذَا أَجَازَتْهَا فَهِيَ جَائِزَةٌ
وَتَكُونُ وَصِيَّةً مِنْ قِبَلِ الْمُوصِي لَا تَكُونُ هِبَةً
مِنْ قِبَلِ الْوَارِثِ لِأَنَّ الْهِبَةَ مِنْ قِبَلِ
الْوَارِثِ لَيْسَتْ بِإِجَازَةٍ مِنْ قِبَلِ الْمَوْرُوثِ
وَحَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي قَالَ حَدَّثَنَا عَبْدُ
اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الصَّمَدِ قَالَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ
بْنُ عَمْرٍو قَالَ حَدَّثَنَا يُونُسُ بْنُ رَاشِدٍ عَنْ
عَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيِّ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ
قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لا وَصِيَّةَ
لِوَارِثٍ إلَّا أَنْ تَشَاءَ الْوَرَثَةُ
قَالَ أَبُو بَكْرٍ وَقَدْ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيمَنْ
أَوْصَى بأكثر من الثلث فَأَجَازَهُ الْبَاقُونَ فِي حَيَاتِهِ
فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ وَزُفَرُ
وَالْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ والحسن ابن صَالِحٍ وَعُبَيْدُ
اللَّهِ بْنُ الْحَسَنِ وَالشَّافِعِيُّ لَا يجوز ذلك حتى
يجيزها بَعْدَ الْمَوْتِ وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى
وَعُثْمَانُ الْبَتِّيُّ لَيْسَ لَهُمْ أَنْ يَرْجِعُوا فِيهِ
بَعْدَ الْمَوْتِ وَهِيَ جَائِزَةٌ عَلَيْهِمْ وَقَالَ ابْنُ
الْقَاسِمِ عن مالك إذا استأذنهم فكل وارث بائن عن الميت مثل
الولد الذي قد بان عَنْ أَبِيهِ وَالْأَخِ وَابْنِ الْعَمِّ
الَّذِينَ لَيْسُوا فِي عِيَالِهِ فَإِنَّهُ لَيْسَ لَهُمْ
أَنْ يَرْجِعُوا فَأَمَّا امْرَأَتُهُ وَبَنَاتُهُ اللَّاتِي
لَمْ يَبِنَّ وَكُلُّ مَنْ فِي عِيَالِهِ وَإِنْ كَانَ قَدْ
احْتَلَمَ فَلَهُمْ أَنْ يَرْجِعُوا وَكَذَلِكَ الْعَمُّ
وَابْنُ الْعَمِّ وَمَنْ خَافَ مِنْهُمْ أَنَّهُ إنْ لَمْ
يَجُزْ لَحِقَهُ ضَرَرٌ مِنْهُ فِي قَطْعِ النَّفَقَةِ إنْ
صَحَّ فَلَهُمْ أَنْ يَرْجِعُوا وَقَوْلُ اللَّيْثِ فِي هَذَا
كَقَوْلِ مَالِكٍ قَالَ أَبُو بَكْرٍ وَإِنْ أَجَازُوهَا
بَعْدَ الْمَوْتِ جَازَتْ عِنْدَ جَمِيعِ الْفُقَهَاءِ قَالَ
أَبُو بَكْرٍ لَمَّا لَمْ يَكُنْ لَهُمْ فَسْخُهَا فِي
الْحَيَاةِ كَذَلِكَ لَا تَعْمَلُ إجَازَتُهُمْ لِأَنَّهُمْ
لَمْ يَسْتَحِقُّوا بَعْدُ شَيْئًا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
بَابُ الْوَصِيَّةِ بِجَمِيعِ الْمَالِ إذَا لَمْ يَكُنْ
وَارِثٌ
قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ وَزُفَرُ
وَالْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ وَارِثٌ
فَأَوْصَى بِجَمِيعِ مَالِهِ جَازَ وَهُوَ قَوْلُ شَرِيكِ بْنِ
عَبْدِ اللَّهِ وَقَالَ مَالِكٌ والأوزاعى والحسن ابن صَالِحٍ
لَا تَجُوزُ وَصِيَّتُهُ إلَّا مِنْ الثُّلُثِ قَالَ أَبُو
بَكْرٍ قَدْ بَيَّنَّا دَلَالَةَ قَوْله تعالى وَالَّذِينَ
عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ وَأَنَّهُمْ
كَانُوا يَتَوَارَثُونَ بِالْحِلْفِ وَهُوَ أَنْ يُحَالِفَهُ
عَلَى أَنَّهُ إنْ مَاتَ وَرِثَهُ مَا يُسَمِّي لَهُ مِنْ
مِيرَاثِهِ مِنْ ثُلُثٍ أَوْ أَكْثَرَ وَقَدْ كَانَ ذَلِكَ
حُكْمًا ثَابِتًا فِي صَدْرِ الْإِسْلَامِ وَفَرَضَهُ اللَّهُ
تَعَالَى بِقَوْلِهِ تَعَالَى وَالَّذِينَ عَقَدَتْ
أَيْمانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ
تَعَالَى لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ
وَالْأَقْرَبُونَ وقوله تعالى «3- أحكام لث»
(3/33)
يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ
لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ وقوله تعالى
وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ
اللَّهِ فَجَعَلَ ذَوِي الْأَرْحَامِ أَوْلَى مِنْ
الْحُلَفَاءِ وَلَمْ يُبْطِلْ بِذَلِكَ مِيرَاثَ الْحُلَفَاءِ
أَصْلًا بَلْ جَعَلَ ذَوِي الْأَنْسَابِ أَوْلَى مِنْهُمْ
كَمَا جَعَلَ الِابْنَ أَوْلَى مِنْ الْأَخِ فَإِذَا لَمْ
يَكُنْ ذَوُو الْأَنْسَابِ جَازَ لَهُ أَنْ يَجْعَلَ مَالَهُ
عَلَى أصل ما كان عليه حكم التوارث لحلف وَأَيْضًا فَإِنَّ
اللَّهَ تَعَالَى أَوْجَبَ سِهَامَ الْمَوَارِيثِ بَعْدَ
الْوَصِيَّةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ
يُوصِي بِها أَوْ دَيْنٍ وَقَالَ لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا
تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ
ظَاهِرَ قَوْله تَعَالَى مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِها
أَوْ دَيْنٍ يَقْتَضِي جَوَازَ الْوَصِيَّةِ بِجَمِيعِ
الْمَالِ لَوْلَا قِيَامُ دَلَالَةِ الْإِجْمَاعِ وَالسُّنَّةِ
عَلَى مَنْعِ ذَلِكَ وَوُجُوبِ الِاقْتِصَارِ بِهَا عَلَى
الثُّلُثِ وَإِيجَابِ نَصِيبِ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ مِنْ
الْأَقْرَبِينَ فَمَتَى عَدِمَ مَنْ وَجَبَ بِهِ تَخْصِيصُ
الْوَصِيَّةِ فِي بَعْضِ الْمَالِ وَجَبَ اسْتِعْمَالُ
اللَّفْظِ فِي جَوَازِ الْوَصِيَّةِ بِجَمِيعِ الْمَالِ عَلَى
ظَاهِرِهِ وَمُقْتَضَاهُ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ
قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَدِيثِ
سَعْدٍ إنَّك إن تدع ورثتك أغنياء خير من أن تَدَعَهُمْ
عَالَةً يَتَكَفَّفُونَ النَّاسَ
فَأَخْبَرَ أَنَّ مَنْعَ الْوَصِيَّةِ بِأَكْثَرَ مِنْ
الثُّلُثِ إنَّمَا هُوَ لِحَقِّ الْوَرَثَةِ وَيَدُلُّ
عَلَيْهِ حَدِيثُ الشَّعْبِيِّ وَغَيْرُهُ عَنْ عَمْرِو بْنِ
شُرَحْبِيلَ قَالَ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ لَيْسَ
مِنْ حَيٍّ مِنْ الْعَرَبِ أَحْرَى أَنْ يَمُوتَ الرَّجُلُ
مِنْهُمْ وَلَا يُعْرَفُ لَهُ وَارِثٌ مِنْكُمْ مَعْشَرَ
هَمْدَانَ فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ فَلْيَضَعْ مَالَهُ حَيْثُ
أَحَبَّ وَلَا يُعْلَمُ لَهُ مُخَالِفٌ مِنْ الصَّحَابَةِ
وَأَيْضًا فَإِنَّهُ لَا يَخْلُو مَنْ لَا وَارِثَ لَهُ إذَا
مَاتَ مِنْ أَنْ يَسْتَحِقَّ الْمُسْلِمُونَ مَالَهُ مِنْ
جِهَةِ الْمِيرَاثِ أَوْ مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ مَالٌ لَا
مَالِكَ لَهُ فَيَضَعُهُ الْإِمَامُ حَيْثُ يَرَى فَلَمَّا
جَازَ أَنْ يَسْتَحِقَّهُ الرَّجُلُ مَعَ ابْنِهِ وَمَعَ أبيه
والبعيد مع الْقَرِيبِ عَلِمْنَا أَنَّهُ غَيْرُ مُسْتَحَقٍّ
لَهُمْ عَلَى وَجْهِ الْمِيرَاثِ لِأَنَّ الْأَبَ وَالْجَدَّ
لَا يَجْتَمِعَانِ فِي اسْتِحْقَاقِ مِيرَاثِ وَاحِدٍ مِنْ
جِهَةِ الْأُبُوَّةِ وَأَيْضًا لَوْ كَانَ مِيرَاثًا لَمْ
يَجُزْ حِرْمَانُ وَاحِدٍ مِنْهُمْ لِأَنَّ سَبِيلَ
الْمِيرَاثِ أَنْ لَا يَخُصَّ بِهِ بَعْضَ الْوَرَثَةِ دُونَ
بَعْضٍ وَأَيْضًا لَوْ كَانَ مِيرَاثًا لَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ
لَوْ كَانَ الْمَيِّتُ رَجُلًا مِنْ هَمْدَانَ وَلَا يُعْرَفُ
لَهُ وَارِثٌ أَنْ يَسْتَحِقَّ مِيرَاثَهُ أَهْلُ قَبِيلَتِهِ
لِأَنَّهُمْ أَقْرَبُ إلَيْهِ مِنْ غَيْرِهِمْ فَلَمَّا كَانَ
إنَّمَا يَسْتَحِقُّهُ بَيْتُ الْمَالِ لِلْمُسْلِمِينَ
وَلِلْإِمَامِ أَنْ يَصْرِفَهُ إلَى مَنْ شَاءَ مِنْ النَّاسِ
مِمَّنْ يَرَاهُ أَهْلًا لَهُ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ
الْمُسْلِمِينَ لَا يَأْخُذُونَهُ مِيرَاثًا وَإِذَا لَمْ
يَأْخُذُوهُ مِيرَاثًا وَإِنَّمَا كَانَ لِلْإِمَامِ صَرْفُهُ
إلَى حَيْثُ يرى لأنه مَالِكَ لَهُ فَمَالِكُهُ أَوْلَى
بِصَرْفِهِ إلَى مِنْ يَرَى وَمِنْ جِهَةٍ أُخْرَى أَنَّهُمْ
إذَا لَمْ يَأْخُذُوهُ مِيرَاثًا أَشْبَهَ الثُّلُثَ الَّذِي
يُوصِي بِهِ الميت
(3/34)
تِلْكَ حُدُودُ
اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ
جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ
فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (13) وَمَنْ يَعْصِ
اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا
خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ (14)
وَلَا مِيرَاثَ فِيهِ فَلَهُ أَنْ
يَصْرِفَهُ إلَى مَنْ شَاءَ فَكَذَلِكَ بَقِيَّةُ الْمَالِ
إذَا لَمْ يَسْتَحِقَّهُ الْوَارِثُ كَانَ لَهُ صَرْفُهُ إلَى
مَنْ شَاءَ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ مَا
حَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي بْنُ قَانِعٍ قَالَ حَدَّثَنَا
بِشْرُ بْنُ مُوسَى قَالَ حدثنا الحميدي قال حدثنا أيوب قال
سمعت نافعا عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا حَقُّ امْرِئٍ مُسْلِمٍ لَهُ
مَالٌ يُوصِي فِيهِ تَمُرُّ عَلَيْهِ اللَّيْلَتَانِ إلَّا
وَوَصِيَّتُهُ عِنْدَهُ مَكْتُوبَةٌ
فَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ الْوَصِيَّةِ بِبَعْضِ الْمَالِ أَوْ
بِجَمِيعِهِ وَظَاهِرُهُ يَقْتَضِي جَوَازَ الْوَصِيَّةِ
بِجَمِيعِ الْمَالِ وَقَدْ قَامَتْ الدَّلَالَةُ عَلَى وُجُوبِ
الِاقْتِصَارِ عَلَى بَعْضِهِ إذَا كَانَ لَهُ وَارِثٌ فَإِذَا
لَمْ يَكُنْ لَهُ وَارِثٌ فَهُوَ عَلَى ظَاهِرِ مُقْتَضَاهُ
فِي جَوَازِهَا بِالْجَمِيعِ والله أعلم.
بَابُ الضِّرَارِ فِي الْوَصِيَّةِ
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ
اللَّهِ قَالَ أَبُو بَكْرٍ الضِّرَارُ فِي الْوَصِيَّةِ عَلَى
وجوه منها أن يقر في وصيته بماله أَوْ بِبَعْضِهِ
لِأَجْنَبِيٍّ أَوْ يُقِرَّ عَلَى نَفْسِهِ بدين لا حقيقة له
زيا لِلْمِيرَاثِ عَنْ وَارِثِهِ وَمُسْتَحِقِّهِ وَمِنْهَا
أَنْ يُقِرَّ بِاسْتِيفَاءِ دَيْنٍ لَهُ عَلَى غَيْرِهِ فِي
مَرَضِهِ لِئَلَّا يَصِلَ إلَى وَارِثِهِ وَمِنْهَا أَنْ
يَبِيعَ مَالَهُ مِنْ غَيْرِهِ فِي مَرَضِهِ وَيُقِرَّ
بِاسْتِيفَاءِ ثَمَنِهِ وَمِنْهَا أَنْ يَهَبَ مَالَهُ فِي
مَرَضِهِ أَوْ يَتَصَدَّقُ بِأَكْثَرَ مِنْ ثُلُثِهِ فِي
مَرَضِهِ إضْرَارًا مِنْهُ بِوَرَثَتِهِ وَمِنْهَا أَنْ
يَتَعَدَّى فَيُوصِيَ بِأَكْثَرَ مِمَّا تَجُوزُ لَهُ
الْوَصِيَّةُ بِهِ وَهُوَ الزيادة على الثلث فهذه الوجوه كلها
مِنْ الْمُضَارَّةِ فِي الْوَصِيَّةِ وَقَدْ بَيَّنَ
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَلِكَ فِي
فَحْوَى
قوله لسعد الثلث والثلث كثير إنك لأن تدع ورثتك أغنياء خير من
أن تدعهم عَالَةً يَتَكَفَّفُونَ النَّاسَ
وَحَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي بْنُ قَانِعٍ قَالَ حَدَّثَنَا
أَحْمَدُ بْنُ الْحَسَنِ الْمِصْرِيُّ قال حدثنا عبد الصمد بن
حسان قال حَدَّثَنَا سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ عَنْ دَاوُد
يَعْنِي ابْنَ أبي هند عن عكرمة عن ابن عباس قَالَ
الْإِضْرَارُ فِي الْوَصِيَّةِ مِنْ الْكَبَائِرِ ثُمَّ قَرَأَ
تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ
قَالَ فِي الْوَصِيَّةِ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ
قَالَ فِي الْوَصِيَّةِ
وَحَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي قَالَ حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ
بْنُ زَكَرِيَّا وَمُحَمَّدُ بْنُ اللَّيْثِ قال حدثنا حميد
بْنِ زَنْجُوَيْهِ قَالَ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ
يُوسُفَ قَالَ حدثنا عمر بن المغيرة عن داود بن أبي هند عَنْ
عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ
صلى الله عليه وَسَلَّمَ الْإِضْرَارُ فِي الْوَصِيَّةِ مِنْ
الْكَبَائِرِ
وَحَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي قَالَ حَدَّثَنَا طَاهِرُ بْنُ
عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنُ إِسْحَاقَ الْقَاضِي قَالَ حَدَّثَنَا
يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ قَالَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ
قَالَ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عن أشعث عن شهر بن حَوْشَبٍ عَنْ
أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ
الْجَنَّةِ سَبْعِينَ سَنَةً فَإِذَا أوصى
(3/35)
حَافَ فِي وَصِيَّتِهِ فَيُخْتَمُ لَهُ
بِشَرِّ عَمَلِهِ فَيَدْخُلُ النَّارَ وَإِنَّ الرَّجُلَ
لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ سَبْعِينَ سَنَةً
فَيَعْدِلُ فِي وَصِيَّتِهِ فَيُخْتَمُ له بخير عمله فيدخل
الجنة
قال أبو بكر ومصادقه فِي كِتَابِ اللَّهِ فِيمَا تَأَوَّلَهُ
ابْنُ عَبَّاسٍ فِي قَوْله تَعَالَى تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ
وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ قَالَ فِي الْوَصِيَّةِ
وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ قَالَ فِي الْوَصِيَّةِ.
بَابُ مَنْ يُحْرَمُ الْمِيرَاثَ مَعَ وُجُودِ النَّسَبِ
قَالَ أَبُو بَكْرٍ لَا خِلَافَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ أَنَّ
قَوْله تَعَالَى يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ وَمَا
عَطَفَ عَلَيْهِ مِنْ قِسْمَةِ الْمِيرَاثِ خَاصٌّ فِي بَعْضِ
الْمَذْكُورِينَ دُونَ بَعْضٍ فَبَعْضُ ذَلِكَ مُتَّفَقٌ
عَلَيْهِ وَبَعْضُهُ مُخْتَلَفٌ فِيهِ فَمَا اُتُّفِقَ
عَلَيْهِ أَنَّ الْكَافِرَ لَا يَرِثُ الْمُسْلِمَ وَأَنَّ
الْعَبْدَ لَا يَرِثُ وَأَنَّ قَاتِلَ الْعَمْدِ لَا يَرِثُ
وَقَدْ بَيَّنَّا مِيرَاثَ هَؤُلَاءِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ
مَا أَجْمَعُوا عَلَيْهِ مِنْهُ وَمَا اخْتَلَفُوا فيه واختلف
في ميراث المسلم الْكَافِرِ وَمِيرَاثِ الْمُرْتَدِّ فَأَمَّا
مِيرَاثُ الْمُسْلِمِ مِنْ الكافر فإن الأمة مِنْ الصَّحَابَةِ
مُتَّفِقُونَ عَلَى نَفْيِ التَّوَارُثِ بَيْنَهُمَا وَهُوَ
قَوْلُ عَامَّةِ التَّابِعِينَ وَفُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ
وَرَوَى شُعْبَةُ عَنْ عَمْرِو بْنِ أَبِي حَكِيمٍ عَنْ ابْنِ
«1» بَابَاهُ عَنْ يَحْيَى بْنِ يَعْمُرَ عَنْ أَبِي
الْأَسْوَدِ الدُّؤَلِيِّ قَالَ كَانَ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ
بِالْيَمَنِ فَارْتَفَعُوا إلَيْهِ فِي يَهُودِيٍّ مَاتَ
وَتَرَكَ أَخَاهُ مُسْلِمًا فَقَالَ سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ الْإِسْلَامُ
يَزِيدُ وَلَا يَنْقُصُ
وَرَوَى ابْنُ شِهَابٍ عَنْ دَاوُد بْنِ أَبِي هِنْدٍ قَالَ
قَالَ مَسْرُوقٌ مَا أَحْدَثَ فِي الْإِسْلَامِ قَضِيَّةً
أَعْجَبُ مِنْ قَضِيَّةٍ قَضَاهَا مُعَاوِيَةُ قَالَ كَانَ
يُوَرِّثُ الْمُسْلِمَ مِنْ الْيَهُودِيِّ وَالنَّصْرَانِيِّ
وَلَا يُوَرِّثُ الْيَهُودِيَّ وَالنَّصْرَانِيَّ مِنْ
الْمُسْلِمِ قَالَ فَقَضَى بِهَا أَهْلُ الشَّامِ قَالَ دَاوُد
فَلَمَّا قَدِمَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ رَدَّهُمْ إلَى
الْأَمْرِ الْأَوَّلِ وَرَوَى هُشَيْمٌ عَنْ مُجَالِدٍ عَنْ
الشَّعْبِيِّ أَنَّ مُعَاوِيَةَ كَتَبَ بِذَلِكَ إلَى زِيَادِ
يَعْنِي تَوْرِيثَ الْمُسْلِمِ مِنْ الْكَافِرِ فَأَرْسَلَ
زِيَادٌ إلَى شُرَيْحٍ فَأَمَرَهُ بِذَلِكَ وَكَانَ شُرَيْحٌ
قَبْلَ ذَلِكَ لَا يُوَرِّثُ الْمُسْلِمَ مِنْ الْكَافِرِ
فَلَمَّا أَمَرَهُ زِيَادُ بِمَا أَمَرَهُ قَضَى بِقَوْلِهِ
فَكَانَ شُرَيْحٌ إذَا قَضَى بِذَلِكَ قَالَ هَذَا قَضَاءُ
أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ
وَقَدْ رَوَى الزُّهْرِيُّ عن على بن الحسين عن عمرو ابن
عُثْمَانَ عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم لا يَتَوَارَثُ أَهْلُ
مِلَّتَيْنِ شَتَّى وَفِي لَفْظٍ لَا يَرِثُ الْمُسْلِمُ
الْكَافِرَ وَلَا الْكَافِرُ الْمُسْلِمَ
وَرَوَى عَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ
قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ لَا يَتَوَارَثُ أَهْلُ مِلَّتَيْنِ
فَهَذِهِ الْأَخْبَارُ تمنع توريث المسلم من الكافر
__________
(1) قوله: ابن باباه- اسمه عبد الله واسم أبيه باباه كما في
خلاصة تهذيب الكمال.
(3/36)
وَالْكَافِرَ مِنْ الْمُسْلِمِ وَلَمْ
يُرْوَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
خِلَافُهُ فَهُوَ ثَابِتُ الْحُكْمِ فِي إسْقَاطِ التَّوَارُثِ
بَيْنَهُمَا وَأَمَّا حَدِيثُ مُعَاذٍ فَإِنَّهُ لَمْ يَعْنِ
هَذِهِ الْمَقَالَةَ وَإِنَّمَا تَأَوَّلَ فِيهَا قَوْلَهُ
الْإِيمَانُ يَزِيدُ وَلَا يَنْقُصُ والتأول لَا يُقْضَى بِهِ
عَلَى النَّصِّ وَالتَّوْقِيفِ وَإِنَّمَا يرد التأويل إلى
المنصوص عليه يحمل عَلَى مُوَافَقَتِهِ دُونَ مُخَالِفَتِهِ
وَقَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
الْإِيمَانُ يَزِيدُ وَلَا يَنْقُصُ
يحتمل أن يرد بِهِ مَنْ أَسْلَمَ تُرِكَ عَلَى إسْلَامِهِ
وَمَنْ خَرَجَ عَنْ الْإِسْلَامِ رُدَّ إلَيْهِ وَإِذَا
احْتَمَلَ ذَلِكَ وَاحْتَمَلَ مَا تَأَوَّلَهُ مُعَاذٌ وَجَبَ
حَمْلُهُ عَلَى مُوَافَقَةِ خَبَرِ أُسَامَةَ فِي مَنْعِ
التَّوَارُثِ إذْ غَيْرُ جَائِزٍ رَدُّ النَّصِّ
بِالتَّأْوِيلِ وَالِاحْتِمَالِ أَيْضًا لَا تَثْبُتُ بِهِ
حُجَّةٌ لِأَنَّهُ مَشْكُوكٌ فِيهِ وَهُوَ مُفْتَقِرٌ فِي
إثْبَاتِ حُكْمِهِ إلَى دَلَالَةٍ مِنْ غَيْرِهِ فَسَقَطَ
الِاحْتِجَاجُ بِهِ وَأَمَّا قَوْلُ مَسْرُوقٍ مَا أَحْدَثَ
فِي الْإِسْلَامِ قَضِيَّةً أَعْجَبُ مِنْ قَضِيَّةٍ قَضَى
بِهَا مُعَاوِيَةُ فِي تَوْرِيثِ الْمُسْلِمِ مِنْ الْكَافِرِ
فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى بُطْلَانِ هَذَا الْمَذْهَبِ
لِإِخْبَارِهِ أَنَّهَا قَضِيَّةٌ مُحْدَثَةٌ فِي الْإِسْلَامِ
وَذَلِكَ يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ قَبْلَ قَضِيَّةِ مُعَاوِيَةَ
لَمْ يَكُنْ يُوَرَّثُ الْمُسْلِمُ مِنْ الْكَافِرِ وَإِذَا
ثَبَتَ أَنَّ مِنْ قَبْلِ قَضِيَّةِ مُعَاوِيَةَ لَمْ يَكُنْ
يُوَرَّثُ الْمُسْلِمُ مِنْ الْكَافِرِ وَأَنَّ مُعَاوِيَةَ
لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ خِلَافًا عَلَيْهِمْ بَلْ هُوَ
سَاقِطُ الْقَوْلِ مَعَهُمْ وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ أَيْضًا قَوْلُ
دَاوُد بْنِ أَبِي هِنْدٍ إنَّ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ
رَدَّهُمْ إلَى الْأَمْرِ الْأَوَّلِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
بَابُ مِيرَاثِ الْمُرْتَدِّ
اخْتَلَفَ السَّلَفُ فِي مِيرَاثِ الْمُرْتَدِّ الَّذِي
اكْتَسَبَهُ فِي حَالِ الْإِسْلَامِ قَبْلَ الرِّدَّةِ عَلَى
أَنْحَاء ثَلَاثَةٍ فَقَالَ عَلِيٌّ وَعَبْدُ اللَّهِ وَزَيْدُ
بْنُ ثَابِتٍ وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَسَعِيدُ بْنُ
الْمُسَيِّبِ وَإِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ وَجَابِرُ بْنُ
زَيْدٍ وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ العزيز وحماد بن الحكم وَأَبُو
حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ وَزُفَرُ وَابْنُ
شُبْرُمَةَ وَالثَّوْرِيُّ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَشَرِيكٌ
يَرِثُهُ وَرَثَتُهُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ إذَا مَاتَ أَوْ
قُتِلَ عَلَى رِدَّتِهِ وقال ربيعة بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ
وَابْنُ أَبِي لَيْلَى وَمَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ مِيرَاثُهُ
لِبَيْتِ الْمَالِ وَقَالَ قَتَادَةُ وَسَعِيدُ بْنُ أَبِي
عَرُوبَةَ إنْ كَانَ لَهُ وَرَثَةٌ عَلَى دِينِهِ الَّذِي
ارْتَدَّ إلَيْهِ فَمِيرَاثُهُ لَهُمْ دُونَ وَرَثَتِهِ مِنْ
الْمُسْلِمِينَ وَرَوَاهُ قَتَادَةُ عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ
الْعَزِيزِ وَالصَّحِيحُ عَنْ عُمَرَ أَنَّ مِيرَاثَهُ
لِوَرَثَتِهِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ ثُمَّ اخْتَلَفُوا فيما
اكتسبه بعد الرِّدَّةِ إذَا قُتِلَ أَوْ مَاتَ مُرْتَدًّا
فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالثَّوْرِيُّ مَا اكْتَسَبَهُ
بَعْدَ الرِّدَّةِ فَهُوَ فَيْءٌ وَقَالَ ابْنُ شُبْرُمَةَ
وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ وَالْأَوْزَاعِيُّ فِي إحْدَى
الرِّوَايَتَيْنِ مَا اكْتَسَبَهُ بَعْدَ الرِّدَّةِ أَيْضًا
فَهُوَ لَوَرَثَتِهِ
(3/37)
الْمُسْلِمِينَ قَالَ أَبُو بَكْرٍ ظَاهِرُ
قَوْله تَعَالَى يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ
يَقْتَضِي تَوْرِيثَ الْمُسْلِمِ مِنْ الْمُرْتَدِّ إذْ لَمْ
يُفَرِّقْ بَيْنَ الْمَيِّتِ الْمُسْلِمِ وَبَيْنَ
الْمُرْتَدِّ فَإِنْ قِيلَ يَخُصُّهُ حَدِيثُ أُسَامَةَ بْنِ
زَيْدٍ لَا يَرِثُ الْمُسْلِمُ الْكَافِرَ كَمَا خَصَّ
تَوْرِيثَ الْكَافِرِ مِنْ الْمُسْلِمِ وَهُوَ وَإِنْ كَانَ
مِنْ أَخْبَارِ الْآحَادِ فَقَدْ تَلَقَّاهُ النَّاسُ
بِالْقَبُولِ وَاسْتَعْمَلُوهُ فِي مَنْعِ تَوْرِيثِ
الْكَافِرِ مِنْ الْمُسْلِمِ فَصَارَ فِي حَيِّزِ
الْمُتَوَاتِرِ وَلِأَنَّ آيَةَ الْمَوَارِيثِ خَاصَّةً
بِالِاتِّفَاقِ وَأَخْبَارُ الْآحَادِ مَقْبُولَةٌ فِي
تَخْصِيصِ مِثْلِهَا قِيلَ لَهُ فِي بَعْضِ أَلْفَاظِ حَدِيثِ
أُسَامَةَ لَا يَتَوَارَثُ أَهْلُ مِلَّتَيْنِ لَا يَرِثُ
الْمُسْلِمُ الْكَافِرَ فَأَخْبَرَ أَنَّ الْمُرَادَ إسْقَاطُ
التَّوَارُثِ بَيْنَ أَهْلِ مِلَّتَيْنِ وَلَيْسَتْ الرِّدَّةُ
بِمِلَّةٍ قَائِمَةٍ لِأَنَّهُ وَإِنْ ارْتَدَّ إلَى
النَّصْرَانِيَّةِ أَوْ الْيَهُودِيَّةِ فَغَيْرُ مُقِرٍّ
عَلَيْهَا فَلَيْسَ هُوَ مَحْكُومًا لَهُ بِحُكْمِ أَهْلِ
الْمِلَّةِ الَّتِي انْتَقَلَ إلَيْهَا أَلَا تَرَى أَنَّهُ
وَإِنْ انْتَقَلَ إلَى مِلَّةِ الْكِتَابِيِّ أَنَّهُ لَا
تُؤْكَلُ ذَبِيحَتُهُ وَإِنْ كَانَتْ امْرَأَةً لَمْ يَجُزْ
نِكَاحُهَا فَثَبَتَ بِذَلِكَ أَنَّ الرِّدَّةَ لَيْسَتْ
بِمِلَّةٍ وَحَدِيثُ أُسَامَةَ مَقْصُورٌ فِي مَنْعِ
التَّوَارُثِ بَيْنَ أَهْلِ مِلَّتَيْنِ وَقَدْ بَيَّنَ ذَلِكَ
فِي حَدِيثٍ مُفَسَّرٍ وَهُوَ مَا رَوَاهُ هُشَيْمٌ عَنْ
الزُّهْرِيِّ قَالَ حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ عَنْ
عَمْرِو بْنِ عُثْمَانَ عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ قَالَ
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم لَا
يَتَوَارَثُ أَهْلُ مِلَّتَيْنِ شَتَّى لَا يَرِثُ الْمُسْلِمُ
الْكَافِرَ وَلَا الْكَافِرُ الْمُسْلِمَ
فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ مُرَادَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ذَلِكَ هُوَ مَنْعُ التَّوَارُثِ
بَيْنَ أَهْلِ مِلَّتَيْنِ وَأَيْضًا فَإِنَّ أَبَا حَنِيفَةَ
مِنْ أَصْلِهِ أَنَّ مِلْكَ الْمُرْتَدِّ يَزُولُ بِالرِّدَّةِ
فَإِذَا قتل أو مات انتقل إلى التوارث وَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ
لَا يُجِيزُ تَصَرُّفَ الْمُرْتَدِّ فِي مَالِهِ الَّذِي
اكْتَسَبَهُ فِي حَالِ الْإِسْلَامِ وَإِذَا كَانَ هَذَا
أَصْلَهُ فَهُوَ لَمْ يُوَرِّثُ مُسْلِمًا مِنْ كَافِرٍ
لِأَنَّ مِلْكَهُ زَالَ عَنْهُ فِي آخِرِ الْإِسْلَامِ
وَإِنَّمَا وَرَّثَ مُسْلِمًا مِمَّنْ كان مسلما فإن قبل
فَإِذًا يَكُونُ قَدْ وَرَّثْتَهُ مِنْهُ وَهُوَ حَيٌّ قِيلَ
لَهُ لَيْسَ يَمْتَنِعُ تَوْرِيثُ الْحَيِّ قَالَ الله تعالى
وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيارَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ
وَكَانُوا أَحْيَاءً وَعَلَى أَنَّا إنَّمَا نَقَلْنَا
الْمَالَ إلَى الْوَرَثَةِ بَعْدَ الْمَوْتِ فَلَيْسَ فِيهِ
تَوْرِيثُ الْحَيِّ وَيُقَالُ لِلسَّائِلِ عَنْ ذَلِكَ
وَأَنْتَ إذَا جَعَلْت مَالَهُ لِبَيْتِ الْمَالِ فَقَدْ
وَرَّثْت مِنْهُ جَمَاعَةَ الْمُسْلِمِينَ وَهُوَ كَافِرٌ
وَوَرَّثْتهمْ مِنْهُ وَهُوَ حي إذا لحق بدار الحرب مرتد
وَأَيْضًا فَإِنَّ الْمُسْلِمِينَ إذَا كَانُوا إنَّمَا
يَسْتَحِقُّونَ مَالَهُ بِالْإِسْلَامِ فَقَدْ اجْتَمَعَ
لِلْوَرَثَةِ الْقَرَابَةُ وَالْإِسْلَامُ وَجَبَ أَنْ
يَكُونُوا أَوْلَى بِمَالِهِ لِاجْتِمَاعِ السَّبَبَيْنِ
لَهُمْ وَانْفِرَادِ الْمُسْلِمِينَ بِأَحَدِهِمَا دُونَ
الْآخَرِ وَالسَّبَبَانِ اللَّذَانِ اجْتَمَعَا لِلْوَرَثَةِ
هُوَ الْإِسْلَامُ وَقُرْبُ النَّسَبِ فأشبه سَائِرَ
الْمَوْتَى مِنْ الْمُسْلِمِينَ لِمَا كَانَ مَالُهُ
مُسْتَحَقًّا لِلْمُسْلِمِينَ كَانَ مَنْ اجْتَمَعَ لَهُ
قُرْبُ النَّسَبِ مَعَ الْإِسْلَامِ أَوْلَى مِمَّنْ بَعْدَ
نَسَبِهِ منه وإن
(3/38)
كَانَ لَهُ إسْلَامٌ فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ
هَذِهِ الْعِلَّةُ تُوجِبُ تَوْرِيثَهُ مِنْ مَالِ الذِّمِّيِّ
قِيلَ لَهُ لَا يَجِبُ ذَلِكَ لِأَنَّ مَالَ الذِّمِّيِّ
بَعْدَ مَوْتِهِ غَيْرُ مُسْتَحَقٍّ بِالْإِسْلَامِ
لِاتِّفَاقِ الْجَمِيعِ عَلَى أَنَّ وَرَثَتَهُ مِنْ أَهْلِ
الذِّمَّةِ أَوْلَى بِهِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَاتِّفَاقُ
جَمِيعِ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ عَلَى أَنَّ مَالَ
الْمُرْتَدِّ مُسْتَحَقٌّ بِالْإِسْلَامِ فَمِنْ قَائِلٍ
يَقُولُ يَسْتَحِقُّهُ جَمَاعَةُ الْمُسْلِمِينَ وَآخَرِينَ
يَقُولُونَ يَسْتَحِقُّهُ وَرَثَتُهُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ
فَلَمَّا كَانَ مَالُهُ مُسْتَحَقًّا بِالْإِسْلَامِ أَشْبَهَ
مَالَ الْمُسْلِمِ الْمَيِّتِ لَمَّا كَانَ مُسْتَحَقًّا
بِالْإِسْلَامِ كَانَ مَنْ اجْتَمَعَ لَهُ الْإِسْلَامُ
وَقُرْبُ النَّسَبِ أَوْلَى مِنْ جَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ
فَإِنْ قِيلَ فَلَوْ مَاتَ ذِمِّيٌّ وَتَرَكَ مَالًا وَلَا
وَارِثَ لَهُ مِنْ أَهْلِ دِينِهِ وَلَهُ قَرَابَةٌ
مُسْلِمُونَ كَانَ مَالُهُ لِجَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ وَلَمْ
يَكُنْ أَقَارِبُهُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ أَوْلَى بِهِ
لِاجْتِمَاعِ السَّبَبَيْنِ لَهُمْ مِنْ الْإِسْلَامِ
وَالنَّسَبِ قِيلَ لَهُ إنَّ مَالَ الذِّمِّيِّ غَيْرُ
مُسْتَحَقٍّ بِالْإِسْلَامِ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ
لَوْ كَانَتْ لَهُ وَرَثَةٌ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ لَمْ
يَسْتَحِقَّ الْمُسْلِمُونَ مَالَهُ وَمَا اسْتَحَقَّ مِنْ
مَالِ الذِّمِّيِّ بِالْإِسْلَامِ لَا يَكُونُ وَرَثَتُهُ مِنْ
أَهْلِ الذِّمَّةِ أَوْلَى بِهِ مِنْهُمْ بَلْ يَكُونُونَ هُمْ
أَوْلَى كَمَوَارِيثِ الْمُسْلِمِينَ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى
أَنَّ مَالَ الذِّمِّيِّ وَإِنْ جُعِلَ لِبَيْتِ الْمَالِ إذَا
لَمْ يَكُنْ لَهُ وَارِثٌ فَلَيْسَ هُوَ مُسْتَحَقًّا
بِالْإِسْلَامِ وَإِنَّمَا هُوَ مَالٌ لَا مَالِكَ لَهُ
وَجَدَهُ الْإِمَامُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ كَاللُّقَطَةِ
الَّتِي لَا يُعْرَفُ مُسْتَحِقُّهَا فَتُصْرَفُ فِي وُجُوهِ
الْقُرْبِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى فَإِنْ قِيلَ فَقَدْ قَالَ
أَبُو حَنِيفَةَ فِيمَا اكْتَسَبَهُ الْمُرْتَدُّ فِي حَالِ
رِدَّتِهِ إنَّهُ فَيْءٌ لِبَيْتِ الْمَالِ وَهَذَا يَنْقُضُ
الِاعْتِلَالَ وَيَدُلُّ عَلَى أَصْلِ الْمَسْأَلَةِ
لِلْمُخَالِفِ قِيلَ لَهُ لَا يَلْزَمُ ذَلِكَ وَلَا دَلَالَةَ
فِيهِ عَلَى قَوْلِ الْمُخَالِفِ وَذَلِكَ لِأَنَّ مَا
اكْتَسَبَهُ فِي حَالِ الرِّدَّةِ هُوَ بِمَنْزِلَةِ مَالِ
الْحَرْبِيِّ وَلَا يَمْلِكُهُ مِلْكًا صَحِيحًا وَمَتَى
جَعَلْنَاهُ فِي بَيْتِ الْمَالِ بَعْدَ مَوْتِهِ أَوْ
قَبْلَهُ فَإِنَّمَا يَصِيرُ ذَلِكَ الْمَالُ مَغْنُومًا
كَسَائِرِ أَمْوَالِ الْحَرْبِ إذَا ظَفِرْنَا بِهَا وَمَا
يُؤْخَذُ عَلَى وَجْهِ الْغَنِيمَةِ فَلَيْسَ بِمُسْتَحَقٍّ
لِبَيْتِ الْمَالِ لِأَجْلِ الْإِسْلَامِ لِأَنَّ الْغَنَائِمَ
لَيْسَتْ بِمُسْتَحَقَّةٍ لِغَانِمِيهَا بِالْإِسْلَامِ
وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ الذِّمِّيَّ مَتَى شَهِدَ
الْقِتَالَ اسْتَحَقَّ أَنْ يُرْضَخَ لَهُ مِنْ الْغَنِيمَةِ
فَثَبَتَ بِذَلِكَ أَنَّ مَالَ الْحَرْبِيِّ وَمَالَ
الْمُرْتَدِّ الَّذِي اكْتَسَبَهُ فِي الرِّدَّةِ مَغْنُومٌ
غَيْرُ مُسْتَحَقٍّ بِالْإِسْلَامِ فَلَمْ يُعْتَبَرْ فِيهِ
قُرْبُ النَّسَبِ والإسلام كما اعتبرناه فِي مَالِهِ الَّذِي
اكْتَسَبَهُ فِي حَالِ الْإِسْلَامِ لِأَنَّ ذَلِكَ الْمَالَ
كَانَ مِلْكَهُ فِيهِ صَحِيحًا إلَى أَنْ ارْتَدَّ ثُمَّ زَالَ
مِلْكُهُ عَنْهُ بِالرِّدَّةِ فَمَنْ يَسْتَحِقُّهُ مِنْ
النَّاسِ فَإِنَّمَا يَسْتَحِقُّهُ بِالْمِيرَاثِ
وَالْمَوَارِيثُ يُعْتَبَرُ فِيهَا الْإِسْلَامُ وَقُرْبُ
النَّسَبِ إذَا كَانَ مِلْكًا لِمُسْلِمٍ إلَى أَنْ زَالَ
عَنْهُ بِالرِّدَّةِ الْمُوجِبَةِ لِزَوَالِ مِلْكِهِ كَمَا
يَزُولُ بِالْمَوْتِ فَلَمْ يَلْزَمْ عَلَيْهِ حُكْمُ مَالِهِ
الْمُكْتَسَبِ فِي حَالِ الرِّدَّةِ وَلَا يَجُوزُ
(3/39)
أَيْضًا أَنْ يَكُونَ أَصْلًا لِلْمَالِ
الْمُكْتَسَبِ فِي حَالِ الْإِسْلَامِ لِأَنَّ مِلْكَهُ فِيهِ
كَانَ صَحِيحًا إلى أن زال عنه بالموت وَالْمَالُ
الْمُكْتَسَبُ فِي حَالِ الرِّدَّةِ بِمَنْزِلَةِ مَالِ
الْحَرْبِيِّ مِلْكُهُ فِيهِ غَيْرُ صَحِيحٍ لِأَنَّهُ
اكْتَسَبَهُ وَهُوَ مُبَاحُ الدَّمِ فَمَتَى حَصَلَ فِي يَدِ
الْمُسْلِمِينَ صَارَ مَغْنُومًا بِمَنْزِلَةِ حَرْبِيٍّ
دَخَلَ إلَيْنَا بِغَيْرِ أَمَانٍ فَأَخَذْنَاهُ مَعَ مَالِهِ
أَنَّ مَالَهُ يَكُونُ غَنِيمَةً فَكَذَلِكَ مَالُ
الْمُرْتَدِّ الَّذِي اكْتَسَبَهُ فِي حَالِ الرِّدَّةِ فَإِنْ
احْتَجَّ مُحْتَجٌّ
بِحَدِيثِ البراء بن عازب قال مربى خَالِي أَبُو بُرْدَةَ
وَمَعَهُ الرَّايَةُ فَقُلْت إلَى أَيْنَ تَذْهَبُ فَقَالَ
أَرْسَلَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ إلَى رَجُلٍ نَكَحَ امْرَأَةَ أَبِيهِ أَنْ
أَقْتُلَهُ وَآخُذَ مَالَهُ
وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَالَ الْمُرْتَدِّ فَيْءٌ قِيلَ
لَهُ إنَّمَا فَعَلَ ذَلِكَ لِأَنَّ الرَّجُلَ كَانَ
مُحَارِبًا مَعَ اسْتِحْلَالِهِ لِذَلِكَ حَرْبِيًّا فَكَانَ
مَالُهُ مَغْنُومًا لأن الراية إنما تعد لِلْمُحَارَبَةِ
وَقَدْ رَوَى مُعَاوِيَةُ بْنُ قُرَّةَ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ جَدَّ
مُعَاوِيَةَ إلَى رَجُلٍ عَرَّسَ بِامْرَأَةِ أَبِيهِ أَنْ
يَضْرِبَ عُنُقَهُ وَيُخَمِّسَ مَالَهُ
وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَالَ ذَلِكَ الرَّجُلِ كَانَ
مَغْنُومًا بِالْمُحَارَبَةِ وَلِذَلِكَ أُخِذَ مِنْهُ
الْخُمُسُ فَإِنْ قِيلَ مَا أَنْكَرْت أَنْ يَكُونَ مَالُ
الْمُرْتَدِّ مَغْنُومًا قِيلَ لَهُ أَمَّا مَا اكْتَسَبَهُ
فِي حَالِ الرِّدَّةِ فَهُوَ كَذَلِكَ وَأَمَّا مَا
اكْتَسَبَهُ فِي حَالِ الْإِسْلَامِ فَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ
يَكُونَ مَغْنُومًا مِنْ قِبَلِ أَنَّ مَا كَانَ يُغْنَمُ مِنْ
الْأَمْوَالِ سَبِيلُهُ أَنْ يَكُونَ مِلْكَ مَالِكِهِ غَيْرَ
صَحِيحٍ فِيهِ قَبْلَ الْغَنِيمَةِ كَمَالِ الْحَرْبِيِّ
وَمَالِ الْمُرْتَدِّ قَبْلَ الرِّدَّةِ قَدْ كَانَ مِلْكُهُ
فِيهِ صَحِيحًا فَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَغْنَمَ كَمَا لا يغنم
أموال سائر المسلمين إذ كَانَتْ أَمْلَاكُهُمْ فِيهِ صَحِيحَةً
وَزَوَالُهُ عَنْ الْمُرْتَدِّ بِالرِّدَّةِ كَزَوَالِهِ
بِالْمَوْتِ فَمَتَى انْقَطَعَ حَقُّهُ عَنْهُ بِالْقَتْلِ
أَوْ بِالْمَوْتِ أَوْ اللَّحَاقِ بِدَارِ الْحَرْبِ
اسْتَحَقَّهُ وَرَثَتُهُ دُونَ سَائِرِ الْمُسْلِمِينَ لِأَنَّ
سَائِرَ الْمُسْلِمِينَ إنْ اسْتَحَقُّوهُ بِالْإِسْلَامِ لَا
عَلَى أَنَّهُ غَنِيمَةٌ كَانَتْ وَرَثَتُهُ أَوْلَى بِهِ
لِاجْتِمَاعِ الْإِسْلَامِ وَالْقَرَابَةِ لَهُمْ وَإِنْ
اسْتَحَقُّوهُ بِأَنَّهُ غَنِيمَةٌ لَمْ يَصِحَّ ذَلِكَ لِمَا
بَيَّنَّا مِنْ أَنَّ شَرْطَ الْغَنِيمَةِ أَنْ يَكُونَ مَالُ
الْمَغْنُومِ غَيْرَ صَحِيحِ الْمِلْكِ فِي الْأَصْلِ
وَاخْتَلَفَ السَّلَفُ فِيمَنْ أَسْلَمَ قَبْلَ قِسْمَةِ
الْمِيرَاثِ
فَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ فِي مُسْلِمٍ مَاتَ فَلَمْ
يُقَسَّمْ مِيرَاثُهُ حتى أسلم ابن له كافرا وكان عَبْدًا
فَأَعْتَقَ إنَّهُ لَا شَيْءَ لَهُ
وَهُوَ قَوْلُ عَطَاءٍ وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ
وَسُلَيْمَانِ بْنِ يَسَارٍ وَالزُّهْرِيِّ وَأَبِي الزِّنَادِ
وَأَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُف وَمُحَمَّدٍ وَزُفَرَ
وَمَالِكٍ وَالْأَوْزَاعِيِّ وَالشَّافِعِيِّ وَرُوِيَ عَنْ
عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَعُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ أَنَّهُمَا
قَالَا مَنْ أَسْلَمَ عَلَى مِيرَاثٍ قَبْلَ أَنْ يُقَسَّمَ
شَارَكَ فِي الْمِيرَاثِ وَهُوَ مَذْهَبُ الْحَسَنِ وَأَبِي
الشَّعْثَاءِ وَشَبَّهُوا ذَلِكَ بِالْمَوَارِيثِ الَّتِي
كَانَتْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ مَا طَرَأَ عَلَيْهِ الْإِسْلَامُ
مِنْهَا قَبْلَ الْقِسْمَةِ قُسِّمَ عَلَى حُكْمِ الْإِسْلَامِ
وَلَمْ يُعْتَبَرْ وَقْتُ الْمَوْتِ وَلَيْسَ هَذَا عِنْدَ
الْأَوَّلِينَ كَذَلِكَ لِأَنَّ حُكْمَ
(3/40)
وَاللَّاتِي يَأْتِينَ
الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ
أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي
الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ
اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا (15)
الْمَوَارِيثِ قَدْ اسْتَقَرَّ فِي
الشَّرْعِ عَلَى وُجُوهٍ مَعْلُومَةٍ وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى
وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْواجُكُمْ وَقَالَ إِنِ امْرُؤٌ
هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَها نِصْفُ ما
تَرَكَ فَأَوْجَبَ لَهَا الْمِيرَاثَ بِالْمَوْتِ وَحَكَمَ
لَهَا بِالنِّصْفِ وَلِلزَّوْجِ بِالنِّصْفِ بِحُدُوثِ
الْمَوْتِ مِنْ غَيْرِ شَرْطِ الْقِسْمَةِ وَالْقِسْمَةُ
إنَّمَا تَجِبُ فِيمَا قَدْ مُلِكَ فلاحظ لِلْقِسْمَةِ فِي
اسْتِحْقَاقِ الْمِيرَاثِ لِأَنَّ الْقِسْمَةَ تَبَعٌ
لِلْمِلْكِ وَلَمَّا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ وَجَبَ أَنْ لَا
يَزُولَ مِلْكُ الْأُخْتِ عَنْهُ بِإِسْلَامِ الِابْنِ كَمَا
لَا يَزُولُ مِلْكُهَا عَنْهُ بَعْدَ الْقِسْمَةِ وَأَمَّا
مَوَارِيثُ الْجَاهِلِيَّةِ فَإِنَّهَا لَمْ تَقَعْ عَلَى
حُكْمِ الشَّرْعِ فَلَمَّا طَرَأَ الْإِسْلَامُ حُمِلَتْ عَلَى
أحكام الشرع إذا لَمْ يَكُنْ مَا وَقَعَ قَبْلَ وُرُودِ
الشَّرْعِ مُسْتَقَرًّا ثَابِتًا فَعُفِيَ لَهُمْ عَمَّا قَدْ
اقْتَسَمُوهُ وَحُمِلَ مَا لَمْ يُقَسَّمْ مِنْهَا عَلَى
حُكْمِ الشَّرْعِ كَمَا عُفِيَ لَهُمْ عَنْ الرِّبَا
الْمَقْبُوضِ وَحُمِلَ بَعْدَ وُرُودِ تَحْرِيمِ الرِّبَا مَا
لَمْ يَكُنْ مَقْبُوضًا عَلَى حُكْمِ الشَّرْعِ فَأَبْطَلَ
وَأَوْجَبَ عَلَيْهِمْ رَدَّ رَأْسِ الْمَالِ وَمَوَارِيثُ
الْإِسْلَامِ قَدْ ثَبَتَتْ وَاسْتَقَرَّ حُكْمُهَا وَلَا
يَجُوزُ وُرُودُ النَّسْخِ عَلَيْهَا فَلَا اعْتِبَارَ فِيهَا
بِالْقِسْمَةِ وَلَا عَدَمِهَا كَمَا أَنَّ عُقُودَ الرِّبَا
لَوْ أُوقِعَتْ فِي الْإِسْلَامِ بَعْدَ تَحْرِيمِ الرِّبَا
وَاسْتِقْرَارِ حُكْمِهِ لَا يَخْتَلِفُ فِيهِ حُكْمُ
الْمَقْبُوضِ مِنْهَا وَغَيْرُ الْمَقْبُوضِ في بطلان الجميع
وَأَيْضًا لَا خِلَافَ نَعْلَمُهُ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ أَنَّ
مَنْ وَرِثَ مِيرَاثًا فَمَاتَ قَبْلَ الْقِسْمَةِ أَنَّ
نَصِيبَهُ مِنْ الْمِيرَاثِ لَوَرَثَتِهِ وَكَذَلِكَ لَوْ
ارْتَدَّ لَمْ يَبْطُلْ مِيرَاثُهُ الَّذِي اسْتَحَقَّهُ
وَأَنَّهُ لَا يَكُونُ بِمَنْزِلَةِ مَنْ كَانَ مُرْتَدًّا
وَقْتَ الْمَوْتِ فَكَذَلِكَ مَنْ أَسْلَمَ أَوْ أَعْتَقَ
بَعْدَ الْمَوْت قبل القسمة فلاحظ لَهُ فِي الْمِيرَاثِ
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
بَابُ حَدِّ الزَّانِيَيْنِ
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ
مِنْ نِسائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً
مِنْكُمْ الْآيَةَ قَالَ أَبُو بَكْرٍ لَمْ يَخْتَلِفْ
السَّلَفُ فِي أَنَّ ذَلِكَ كَانَ حَدَّ الزَّانِيَةِ فِي
بَدْءِ الْإِسْلَامِ وَأَنَّهُ مَنْسُوخٌ غَيْرُ ثَابِتِ
الْحُكْمِ حدثنا جعفر بن محمد الواسطي قال حدثنا جعفر بن محمد
بن اليمان قال حدثنا أَبُو عُبَيْدٍ قَالَ حَدَّثَنَا حَجَّاجٌ
عَنْ ابْنِ جريح وعثمان بن عطاء الخراساني عن ابن عباس فِي
قَوْله تَعَالَى وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ مِنْ
نِسائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ-
إلى قوله تعالى- سَبِيلًا قَالَ وَقَالَ فِي الْمُطَلَّقَاتِ
لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ إِلَّا
أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ قَالَ هَذِهِ الْآيَاتُ
قَبْلَ أَنْ تَنْزِلَ سُورَةُ النُّورِ فِي الْجَلْدِ
نَسَخَتْهَا هَذِهِ الْآيَةُ الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي
فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ قال
والسبيل
(3/41)
وَاللَّذَانِ
يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا فَإِنْ تَابَا
وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ
تَوَّابًا رَحِيمًا (16)
الذي جعله لهن الْجَلْدُ وَالرَّجْمُ قَالَ
فَإِذَا جَاءَتْ الْيَوْمَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ فَإِنَّهَا
تُخْرَجُ وَتُرْجَمُ بِالْحِجَارَةِ قَالَ
وَحَدَّثَنَا أَبُو عُبَيْدٍ قَالَ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ
بْنُ صَالِحٍ عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ صَالِحٍ عَنْ عَلِيِّ ابن
أَبِي طَلْحَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي هَذِهِ الآية وفي قوله
تعالى وَالَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ فَآذُوهُما قَالَ
كَانَتْ الْمَرْأَةُ إذَا زَنَتْ حُبِسَتْ فِي الْبَيْتِ
حَتَّى تَمُوتَ وَكَانَ الرَّجُلُ إذَا زَنَى أُوذِيَ
بِالتَّعْيِيرِ وَبِالضَّرْبِ بِالنِّعَالِ قَالَ فَنَزَلَتْ
الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما
مِائَةَ جَلْدَةٍ قَالَ وَإِنْ كَانَا مُحْصَنَيْنِ رُجِمَا
بِسُنَّةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ
فَهُوَ سَبِيلُهَا الَّذِي جَعَلَهُ اللَّهُ لَهَا يَعْنِي
قَوْله تَعَالَى حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ
يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا قَالَ أَبُو بَكْرٍ فَكَانَ
حُكْمُ الزَّانِيَةِ فِي بَدْءِ الْإِسْلَامِ مَا أَوْجَبَ
مِنْ حَدِّهَا بِالْحَبْسِ إلَى أَنْ يَتَوَفَّاهُنَّ
الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا وَلَمْ
يَكُنْ عَلَيْهَا فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ شَيْءٌ غَيْرُ هَذَا
وَلَيْسَ فِي الْآيَةِ فَرْقٌ بَيْنَ الْبِكْرِ وَالثَّيِّبِ
فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ حُكْمًا عَامًّا فِي
الْبِكْرِ وَالثَّيِّبِ وقوله تعالى وَالَّذانِ يَأْتِيانِها
مِنْكُمْ فَآذُوهُما فَإِنَّهُ رُوِيَ عَنْ الْحَسَنِ
وَعَطَاءٍ أَنَّ الْمُرَادَ الرَّجُلُ وَالْمَرْأَةُ وَقَالَ
السُّدِّيُّ الْبِكْرَيْنِ مِنْ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ
وَرُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ أَنَّهُ أَرَادَ الرَّجُلَيْنِ
الزَّانِيَيْنِ وَهَذَا التَّأْوِيلُ الْأَخِيرُ يُقَالُ
إنَّهُ لَا يصح لأنه لا معنى للتثنية هاهنا إذْ كَانَ
الْوَعْدُ وَالْوَعِيدُ إنَّمَا يَجِيئَانِ بِلَفْظِ الْجَمْعِ
لِأَنَّهُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ أَوْ بِلَفْظِ الْوَاحِدِ
لِدَلَالَتِهِ عَلَى الْجِنْسِ الشَّامِلِ لَجَمِيعِهِمْ
وَقَوْلُ الْحَسَنِ صَحِيحٌ وَتَأْوِيلُ السُّدِّيِّ
مُحْتَمَلٌ أَيْضًا فَاقْتَضَتْ الْآيَتَانِ بِمَجْمُوعِهِمَا
أَنَّ حَدَّ الْمَرْأَةِ كَانَ الْأَذَى وَالْحَبْسَ جَمِيعًا
إلَى أَنْ تَمُوتَ وَحَدَّ الرَّجُلِ التَّعْيِيرُ وَالضَّرْبُ
بِالنِّعَالِ إذْ كَانَتْ الْمَرْأَةُ مَخْصُوصَةً فِي
الْآيَةِ الْأَوْلَى بِالْحَبْسِ وَمَذْكُورَةً مَعَ الرَّجُلِ
في الآية الثانية بالأذى فاجتمع لها الأمر ان جَمِيعًا وَلَمْ
يَذْكُرْ لِلرِّجَالِ إلَّا الْأَذَى فَحَسْبُ وَيُحْتَمَلُ
أَنْ تَكُونَ الْآيَتَانِ نَزَلَتَا مَعًا فَأَفْرَدَتْ
الْمَرْأَةُ بِالْحَبْسِ وَجُمِعَا جَمِيعًا فِي الْأَذَى
وَتَكُونُ فَائِدَةُ إفْرَادِ الْمَرْأَةِ بِالذِّكْرِ
إفْرَادَهَا بِالْحَبْسِ إلَى أَنْ تَمُوتَ وَذَلِكَ حُكْمٌ
لَا يُشَارِكُهَا فِيهِ الرَّجُلُ وَجُمِعَتْ مَعَ الرَّجُلِ
فِي الْأَذَى لَاشْتِرَاكِهِمَا فِيهِ وَيُحْتَمَلُ أَنْ
يَكُونَ إيجَابُ الْحَبْسِ لِلْمَرْأَةِ مُتَقَدِّمًا
لِلْأَذَى ثُمَّ زِيدَ فِي حَدِّهَا وَأَوْجَبَ عَلَى الرَّجُل
الْأَذَى فَاجْتَمَعَ لِلْمَرْأَةِ الْأَمْرَانِ وَانْفَرَدَ
الرَّجُلُ بِالْأَذَى دُونَهَا فَإِنْ كَانَ كَذَلِكَ فَإِنَّ
الْإِمْسَاكَ فِي الْبُيُوتِ إلَى الْمَوْتِ أَوْ السَّبِيلَ
قَدْ كَانَ حَدَّهَا فَإِذَا أُلْحِقَ بِهِ الْأَذَى صَارَ
مَنْسُوخًا لِأَنَّ الزِّيَادَةَ فِي النَّصِّ بَعْدَ
اسْتِقْرَارِ حُكْمِهِ تُوجِبُ النَّسْخَ إذْ كَانَ الْحَبْسُ
فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ جَمِيعَ حَدِّهَا وَلَمَّا وَرَدَتْ
الزِّيَادَةُ صَارَ بَعْضَ حَدِّهَا فَهَذَا
(3/42)
يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ كَوْنُ الْإِمْسَاكِ
حَدًّا مَنْسُوخًا وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ الْأَذَى حَدًّا
لَهُمَا جَمِيعًا بَدِيًّا ثُمَّ زِيدَ فِي حَدِّ الْمَرْأَةِ
الْحَبْسُ إلَى الْمَوْتِ أَوْ السَّبِيلُ الَّذِي يَجْعَلُهُ
اللَّهُ لَهَا فَيُوجِبُ ذَلِكَ نَسْخَ الْأَذَى فِي
الْمَرْأَةِ أَنْ يَكُونَ حَدًّا لِأَنَّهُ صَارَ بَعْضَهُ
بَعْدَ نُزُولِ الْحَبْسِ فَهَذِهِ الْوُجُوهُ كُلُّهَا
مُحْتَمَلَةٌ فَإِنْ قِيلَ هَلْ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ
الْحَبْسُ مَنْسُوخًا بِإِسْقَاطِ حُكْمِهِ وَالِاقْتِصَارِ
عَلَى الْأَذَى إذَا كَانَ نازل بَعْدَهُ قِيلَ لَهُ لَا
يَجُوزُ نَسْخُهُ عَلَى جِهَةِ رَفْعِ حُكْمِهِ رَأْسًا إذْ
لَيْسَ فِي إيجَابِ الْأَذَى مَا يَنْفِي الْحَبْسَ لِجَوَازِ
اجْتِمَاعِهِمَا وَلَكِنَّهُ يَكُونُ نَسْخُهُ مِنْ طَرِيقِ
أَنَّهُ يَصِيرُ بَعْضَ الْحَدِّ بَعْدَ أَنْ كَانَ جَمِيعَهُ
وَذَلِكَ ضَرْبٌ مِنْ النَّسْخِ وَقَدْ قِيلَ فِي تَرْتِيبِ
الْآيَتَيْنِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا مَا رُوِيَ عَنْ الْحَسَنِ
أن قوله تعالى وَالَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ فَآذُوهُما
نَزَلَتْ قَبْلَ قَوْله تَعَالَى وَاللَّاتِي يَأْتِينَ
الْفاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ ثُمَّ أَمَرَ أَنْ تُوضَعَ فِي
التِّلَاوَةِ بَعْدَهُ فَكَانَ الْأَذَى حَدًّا لَهُمَا
جَمِيعًا ثُمَّ الْحَبْسُ لِلْمَرْأَةِ مَعَ الْأَذَى وَذَلِكَ
يَبْعُدُ مِنْ وَجْهٍ لأن قوله تعالى وَالَّذانِ يَأْتِيانِها
مِنْكُمْ فَآذُوهُما الهاء التي في قوله تعالى يَأْتِيانِها
كِنَايَةٌ لَا بُدَّ لَهَا مِنْ مُظْهِرٍ مُتَقَدِّمٍ
مَذْكُورٍ فِي الْخِطَابِ أَوْ مَعْهُودٍ مَعْلُومٍ عِنْدَ
المخاطب وليس في قوله تعالى وَالَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ
دَلَالَةٌ مِنْ الْحَالِ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ الْفَاحِشَةُ
فَوَجَبَ أَنْ تَكُونَ كِنَايَةً رَاجِعَةً إلَى الْفَاحِشَةِ
التي تقدم ذكرها في أول الآية إذا لَوْ لَمْ تَكُنْ كِنَايَةً
عَنْهَا لَمْ يَسْتَقِمْ الْكَلَامُ بِنَفْسِهِ فِي إيجَابِ
الْفَائِدَةِ وَإِعْلَامِ الْمُرَادِ وَلَيْسَ ذَلِكَ
بِمَنْزِلَةِ قَوْله تَعَالَى مَا تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ
دَابَّةٍ وقَوْله تَعَالَى إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ
الْقَدْرِ لِأَنَّ مِنْ مَفْهُومِ ذِكْرِ الْإِنْزَالِ أَنَّهُ
الْقُرْآنُ وَفِي مَفْهُومِ قَوْله تَعَالَى مَا تَرَكَ عَلى
ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ أَنَّهَا الْأَرْضُ فَاكْتَفَى
بِدَلَالَةِ الْحَالِ وَعِلْمِ الْمُخَاطَبِ بالمراد
الْمَكِنِيِّ عَنْهُ فَاَلَّذِي يَقْتَضِيهِ ظَاهِرُ
الْخِطَابِ أَنْ يَكُونَ تَرْتِيبُ مَعَانِي الْآيَتَيْنِ
عَلَى حَسَبِ تَرْتِيبِ اللَّفْظِ فَإِمَّا أَنْ تَكُونَا
نَزَلَتَا مَعًا وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ الْأَذَى نَازِلًا
بَعْدَ الْحَبْسِ إنْ كَانَ الْمُرَادُ بِالْأَذَى مَنْ
أُرِيدَ
بِالْحَبْسِ مِنْ النِّسَاءِ وَالْوَجْهُ الثَّانِي مَا رُوِيَ
عَنْ السُّدِّيِّ أن قوله تعالى وَالَّذانِ يَأْتِيانِها
مِنْكُمْ إنَّمَا كَانَ حُكْمًا فِي الْبِكْرَيْنِ خَاصَّةً
وَالْأَوْلَى فِي الثَّيِّبَاتِ دُونَ الْأَبْكَارِ إلَّا
أَنَّ هَذَا قَوْلٌ يُوجِبُ تَخْصِيصَ اللَّفْظِ بِغَيْرِ
دَلَالَةٍ وَذَلِكَ غَيْرُ سَائِغٍ لِأَحَدٍ مَعَ إمْكَانِ
اسْتِعْمَالِ اللَّفْظَيْنِ على حقيقة مقتضاهما وعلى أى وجه
تصرفت وُجُوهُ الِاحْتِمَالِ فِي حُكْمِ الْآيَتَيْنِ
وَتَرْتِيبِهِمَا فَإِنَّ الْأُمَّةَ لَمْ تَخْتَلِفْ فِي
نَسْخِ هَذَيْنِ الْحُكْمَيْنِ عَنْ الزَّانِيَيْنِ وَقَدْ
اخْتَلَفَ السَّلَفُ فِي مَعْنَى السَّبِيلِ الْمَذْكُورِ فِي
هَذِهِ الْآيَةِ
(3/43)
فَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ
السَّبِيلَ الَّذِي جعله الْجَلْدُ لِغَيْرِ الْمُحْصَنِ
وَالرَّجْمُ لِلْمُحْصَنِ وَعَنْ قَتَادَةَ مِثْلُ ذَلِكَ
وَرُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي بَعْضِ الروايات أَوْ يَجْعَلَ
اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا أَوْ يَضَعْنَ مَا فِي بُطُونِهِنَّ
وَهَذَا لَا مَعْنَى لَهُ لِأَنَّ الْحُكْمَ كَانَ عَامًّا فِي
الْحَامِلِ وَالْحَائِلِ فَالْوَاجِبُ أَنْ يَكُونَ السَّبِيلُ
مَذْكُورًا لَهُنَّ جَمِيعًا وَاخْتُلِفَ أَيْضًا فِيمَا
نَسَخَ هَذَيْنِ الْحُكْمَيْنِ فَقَالَ قَائِلُونَ نُسِخَ
بِقَوْلِهِ تَعَالَى الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا
كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ وقد كان قوله تعالى
وَالَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ فِي الْبِكْرَيْنِ فَنُسِخَ
ذَلِكَ عَنْهُمَا بِالْجَلْدِ الْمَذْكُورِ فِي هَذِهِ
الْآيَةِ وَبَقِيَ حُكْمُ الثَّيِّبِ مِنْ النِّسَاءِ
الْحَبْسُ فَنُسِخَ بِالرَّجْمِ وَقَالَ آخَرُونَ نُسِخَ بحديث
عبادة ابن الصَّامِتِ وَهُوَ مَا
حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَ حدثنا جعفر بن محمد
بن اليمان قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو عُبَيْدٍ قَالَ حَدَّثَنَا
أَبُو النصر عَنْ شُعْبَةَ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ الْحَسَنِ عَنْ
حِطَّانَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الرَّقَاشِيِّ عَنْ عُبَادَةَ
بْنِ الصَّامِتِ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خُذُوا عَنِّي قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ
سَبِيلًا الْبِكْرُ بِالْبِكْرِ وَالثَّيِّبُ بِالثَّيِّبِ
الْبِكْرُ تُجْلَدُ وَتُنْفَى وَالثَّيِّبُ تُجْلَدُ
وَتُرْجَمُ
وَهَذَا هو صحيح وَذَلِكَ لِأَنَّ
قَوْلَهُ خُذُوا عَنِّي قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا
يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ بَيَانًا لِلسَّبِيلِ الْمَذْكُورِ فِي
الْآيَةِ وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ بَيْنَ قَوْلِ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَيْنَ
الْحَبْسِ وَالْأَذَى وَاسِطَةُ حُكْمٍ وَأَنَّ آيَةَ
الْجَلْدِ الَّتِي فِي سُورَةِ النُّورِ لَمْ تَكُنْ نَزَلَتْ
حِينَئِذٍ لَأَنَّهَا لَوْ كَانَتْ نَزَلَتْ كَانَ السَّبِيلُ
مُتَقَدِّمًا لِقَوْلِهِ خُذُوا عَنِّي قَدْ جَعَلَ اللَّهُ
لَهُنَّ سَبِيلًا وَلَمَّا صَحَّ أَنْ يَقُولَ ذَلِكَ فَثَبَتَ
بِذَلِكَ أَنَّ الْمُوجِبَ لِنَسْخِ الحبس والأذى وقول
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَدِيثِ
عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ وَأَنَّ آيَةَ الْجَلْدِ نَزَلَتْ
بَعْدَهُ وَفِي ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى نَسْخِ القرآن بالسنة إذ
نسخ
بقوله خُذُوا عَنِّي قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا
مَا أَوْجَبَ اللَّهُ مِنْ الْحَبْسِ وَالْأَذَى بِنَصِّ
التنزيل فإن قيل فقوله تعالى وَالَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ
وَمَا ذُكِرَ فِي الْآيَتَيْنِ مِنْ الْحَبْسِ وَالْأَذَى
كَانَ فِي الْبِكْرَيْنِ دُونَ الثَّيِّبَيْنِ قِيلَ لَهُ لَمْ
يَخْتَلِفْ السَّلَفُ فِي أَنَّ حُكْمَ الْمَرْأَةِ الثَّيِّبِ
كَانَ الْحَبْسَ وَإِنَّمَا قَالَ السُّدِّيُّ إنَّ الْأَذَى
كَانَ فِي الْبِكْرَيْنِ خَاصَّةً وَقَدْ أَخْبَرَ النَّبِيُّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ السَّبِيلِ
الْمَذْكُورِ فِي آيَةِ الْحَبْسِ وَذَلِكَ لَا مَحَالَةَ فِي
الثَّيِّبِ فَأَوْجَبَ أَنْ يَكُونَ مَنْسُوخًا
بِقَوْلِهِ الثَّيِّبُ بِالثَّيِّبِ الْجَلْدُ وَالرَّجْمُ
فَلَمْ يَخْلُ الْحَبْسُ مِنْ أَنْ يَكُونَ مَنْسُوخًا فِي
جَمِيعِ الْأَحْوَالِ بِغَيْرِ الْقُرْآنِ وَهِيَ الْأَخْبَارُ
الَّتِي فِيهَا إيجَابُ رَجْمِ الْمُحْصَنِ فَمِنْهَا حَدِيثُ
عُبَادَةَ الَّذِي ذَكَرْنَا
وَحَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ وَعَائِشَةَ وَعُثْمَانَ حِين كَانَ
مَحْصُورًا فَاسْتَشْهَدَ أَصْحَابُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قَالَ
(3/44)
لَا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إلَّا
بِإِحْدَى ثَلَاثٍ كُفْرٌ بَعْدَ إيمَانٍ وَزِنًا بَعْدَ
إحْصَانٍ وقتل نفس بغير نفس
وقصة ما عز وَالْغَامِدِيَّةِ وَرَجْمُ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إيَّاهُمَا قَدْ نَقَلَتْهُ
الْأُمَّةُ لَا يَتَمَارَوْنَ فِيهِ فَإِنْ قِيلَ هَذِهِ
الْخَوَارِجُ بِأَسْرِهَا تُنْكِرُ الرَّجْمَ وَلَوْ كَانَ
ذَلِكَ مَنْقُولًا مِنْ جِهَةِ الِاسْتِفَاضَةِ الْمُوجِبَةِ
لِلْعِلْمِ لَمَا جَهِلَتْهُ الْخَوَارِجُ قِيلَ لَهُ إنَّ
سَبِيلَ الْعِلْمِ بِمَخْبَرِ هَذِهِ الْأَخْبَارِ السَّمَاعُ
مِنْ نَاقِلِيهَا وَتَعَرُّفُهُ مِنْ جِهَتِهِمْ
وَالْخَوَارِجُ لَمْ تُجَالِسْ فُقَهَاءَ الْمُسْلِمِينَ
وَنَقَلَةَ الْأَخْبَارِ مِنْهُمْ وَانْفَرَدُوا عَنْهُمْ
غَيْرَ قَابِلِينَ لَأَخْبَارِهِمْ فَلِذَلِكَ شَكُّوا فِيهِ
وَلَمْ يُثْبِتُوهُ وَلَيْسَ يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ كَثِيرٌ
مِنْ أَوَائِلِهِمْ قَدْ عَرَفُوا ذَلِكَ مِنْ جِهَةِ
الاستفاضة ثم جحدوه مُحَامَلَةً مِنْهُمْ عَلَى مَا سَبَقُوا
إلَى اعْتِقَادِهِ مِنْ رَدِّ أَخْبَارِ مَنْ لَيْسَ عَلَى
مَقَالَتِهِمْ وَقَلَّدَهُمْ الْأَتْبَاعُ وَلَمْ يَسْمَعُوا
مِنْ غَيْرِهِمْ فَلَمْ يَقَعْ لَهُمْ الْعِلْمُ بِهِ أَوْ
الَّذِينَ عَرَفُوهُ كَانُوا عَدَدًا يَسِيرًا يَجُوزُ عَلَى
مِثْلِهِمْ كِتْمَانُ مَا عَرَفُوهُ وَجَحَدُوهُ وَلَمْ
يَكُونُوا صَحَابَةً فَيَكُونُوا قَدْ عَرَفُوهُ مِنْ جِهَةِ
الْمُعَايَنَةِ أَوْ بِكَثْرَةِ السَّمَاعِ مِنْ
الْمُعَايِنِينَ لَهُ فَلَمَّا خَلَوْا مِنْ ذَلِكَ لَمْ
يَعْرِفُوهُ أَلَا تَرَى أَنَّ فَرَائِضَ صَدَقَاتِ
الْمَوَاشِي مَنْقُولَةٌ مِنْ جِهَةِ النَّقْلِ الْمُسْتَفِيضِ
الْمُوجِبِ لِلْعِلْمِ وَلَا يَعْرِفُهَا إلَّا أَحَدُ
رَجُلَيْنِ إمَّا فَقِيهٌ قَدْ سَمِعَهَا فَثَبَتَ عِنْدَهُ
الْعِلْمُ بِهَا مِنْ جِهَةِ النَّاقِلِينَ لَهَا وَإِمَّا
رَجُلٌ صَاحِبُ مَوَاشٍ تَكْثُرُ بَلْوَاهُ بِوُجُوبِهَا
فَيَتَعَرَّفُهَا لِيَعْلَمَ مَا يَجِبُ عَلَيْهِ فِيهَا
وَمِثْلُهُ أَيْضًا إذَا كَثُرَ سَمَاعُهُ وَقَعَ لَهُ
الْعِلْمُ بِهَا وَإِنْ لَمْ يَسْمَعْهَا إلَّا مِنْ جِهَةِ
الْآحَادِ لَمْ يَعْلَمْهَا وَهَذَا سَبِيلُ الْخَوَارِجِ فِي
جُحُودِهِمْ الرَّجْمُ وَتَحْرِيمُ تَزْوِيجِ الْمَرْأَةِ
عَلَى عَمَّتِهَا وَخَالَتِهَا وَمَا جَرَى مَجْرَى ذَلِكَ
مِمَّا اخْتَصَّ أَهْلُ الْعَدْلِ بِنَقْلِهِ دُونَ
الْخَوَارِجِ وَالْبُغَاةِ وَقَدْ تَضَمَّنَتْ هَاتَانِ
الْآيَتَانِ أَحْكَامًا مِنْهَا اسْتِشْهَادُ أَرْبَعَةٍ مِنْ
الشُّهَدَاءِ عَلَى الزِّنَا وَمِنْهَا الْحَبْسُ لِلْمَرْأَةِ
وَالْأَذَى لِلرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ جَمِيعًا وَمِنْهَا
سُقُوطُ الْأَذَى وَالتَّعْبِيرُ عَنْهُمَا بِالتَّوْبَةِ
لِقَوْلِهِ تَعَالَى فَإِنْ تَابَا وَأَصْلَحا فَأَعْرِضُوا
عَنْهُما وَهَذِهِ التَّوْبَةُ إنَّمَا كَانَتْ مُؤَثِّرَةً
فِي إسْقَاطِ الْأَذَى دُونَ الْحَبْسِ وَأَمَّا الْحَبْسُ
فَكَانَ مَوْقُوفًا عَلَى وُرُودِ السَّبِيلِ وَقَدْ بَيَّنَ
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَلِكَ
السَّبِيلَ وَهُوَ الْجَلْدُ وَالرَّجْمُ وَنُسِخَ جَمِيعُ مَا
ذُكِرَ فِي الْآيَةِ إلَّا مَا ذُكِرَ مِنْ اسْتِشْهَادِ
أَرْبَعَةِ شُهُودٍ فَإِنَّ اعْتِبَارَ عَدَدِ الشُّهُودِ
بَاقٍ فِي الْحَدِّ الَّذِي نُسِخَ بِهِ الْحَدَّانِ
الْأَوَّلَانِ وَهُوَ الْجَلْدُ وَالرَّجْمُ وَقَدْ بَيَّنَ
اللَّهُ ذَلِكَ فِي قَوْله تَعَالَى وَالَّذِينَ يَرْمُونَ
الْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ
فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً وقال تعالى لَوْلا جاؤُ
عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا
بِالشُّهَداءِ فَأُولئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكاذِبُونَ
فَلَمْ يُنْسَخْ اعْتِبَارُ الْعَدَدِ وَلَمْ يُنْسَخْ
الِاسْتِشْهَادُ
(3/45)
يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا
النِّسَاءَ كَرْهًا وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا
بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ
بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ
فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا
وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا (19)
أَيْضًا وَهَذَا يُوجِبُ جَوَازَ إحْضَارِ
الشُّهُودِ وَالنَّظَرُ إلى الزانيين لإقامة الحد عليها
لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ بِالِاسْتِشْهَادِ عَلَى
الزِّنَا وَذَلِكَ لَا يَكُونُ إلَّا بِتَعَمُّدِ النَّظَرِ
فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ تَعَمُّدَ النَّظَرِ إلَى
الزَّانِيَيْنِ لِإِقَامَةِ الْحَدِّ عَلَيْهِمَا لَا يُسْقِطُ
شَهَادَتَهُ وَكَذَلِكَ فِعْلُ أَبُو بَكْرٍ مَعَ شِبْلِ بْنِ
مَعْبَدٍ وَنَافِعِ بْنِ الْحَارِثِ وَزِيَادِ فِي قِصَّةِ
الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ وَذَلِكَ مُوَافِقٌ لِظَاهِرِ
الْآيَةِ
وقَوْله تَعَالَى يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ
لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهاً وَلا تَعْضُلُوهُنَّ
الْآيَةَ رَوَى الشَّيْبَانِيُّ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ
عَبَّاسٍ فِي هَذِهِ الْآيَةِ قَالَ كَانُوا إذَا مَاتَ
الرَّجُلُ كَانَ أَوْلِيَاؤُهُ أَحَقَّ بِامْرَأَتِهِ مِنْ
وَلِيِّ نَفْسِهَا إنْ شَاءَ بَعْضُهُمْ تَزَوَّجَهَا وَإِنْ
شَاءُوا زَوَّجُوهَا وَإِنْ شَاءُوا لَمْ يُزَوِّجُوهَا
فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي ذَلِكَ وَقَالَ الْحَسَنُ
وَمُجَاهِدٌ كَانَ الرَّجُلُ إذَا مَاتَ وَتَرَكَ امْرَأَتَهُ
قَالَ وَلِيُّهُ وَرِثْت امْرَأَتَهُ كَمَا وَرِثْت مَالَهُ
فَإِنْ شَاءَ تَزَوَّجَهَا بِالصَّدَاقِ الْأَوَّلِ وَإِنْ
شَاءَ زَوَّجَهَا وَأَخَذَ صَدَاقَهَا قَالَ مُجَاهِدٌ
وَذَلِكَ إذَا لَمْ يَكُنْ ابْنَهَا قَالَ أَبُو مِجْلَزٍ
فَكَانَ بِالْمِيرَاثِ أَوْلَى مِنْ وَلِيِّ نَفْسِهَا
وَرَوَى جُوَيْبِرٌ عَنْ الضَّحَّاكِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ
قَالَ كَانُوا فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ إذَا مَاتَ الرَّجُلُ
يَقُومُ أَقْرَبُ النَّاسِ مِنْهُ فَيُلْقِي عَلَى امْرَأَتِهِ
ثَوْبًا فَيَرِثُ نِكَاحَهَا فَمَاتَ أَبُو عَامِرٍ زَوْجُ
كَبْشَةَ بِنْتِ معن فجاء ابن عامر من غيرهما وَأَلْقَى
عَلَيْهَا ثَوْبًا فَلَمْ يَقْرَبْهَا وَلَمْ يُنْفِقْ
عَلَيْهَا فَشَكَتْ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا
النِّساءَ كَرْهاً وَلا تَعْضُلُوهُنَ
أَنْ تُؤْتُوهُنَّ الصَّدَاقَ الْأَوَّلَ وَقَالَ الزُّهْرِيُّ
كَانَ يَحْبِسُهَا مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ إلَيْهَا حَتَّى
تَمُوتَ فيرثها فنهوا عن ذلك وقَوْله تَعَالَى وَلا
تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةُ وَالسُّدِّيُّ وَالضَّحَّاكُ
هُوَ أمر للأزواج تخلية سَبِيلِهَا إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ
فِيهَا حَاجَةٌ ولا يمسكها إضرار بِهَا حَتَّى تَفْتَدِيَ
بِبَعْضِ مَالِهَا وَقَالَ الْحَسَنُ هُوَ نَهْيٌ لِوَلِيِّ
الزَّوْجِ الْمَيِّتِ أَنْ يَمْنَعَهَا من التزويج عَلَى مَا
كَانَ عَلَيْهِ أَمْرُ الْجَاهِلِيَّةِ وَقَالَ مُجَاهِدٌ هُوَ
نَهْيٌ لِوَلِيِّهَا أَنْ يَعْضُلَهَا قَالَ أبو بكر الأظهر هو
التأويل تَأْوِيلُ ابْنِ عَبَّاسٍ لِأَنَّ قَوْله تَعَالَى
لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ ما آتَيْتُمُوهُنَّ وَمَا ذُكِرَ
بَعْدَهُ يَدُلُّ عَلَيْهِ لِأَنَّ قَوْلَهُ لِتَذْهَبُوا
بِبَعْضِ ما آتَيْتُمُوهُنَّ يُرِيدُ بِهِ الْمَهْرَ حَتَّى
تَفْتَدِيَ كَأَنَّهُ يَعْضُلَهَا أَوْ يُسِيءُ إلَيْهَا
لِتَفْتَدِيَ مِنْهُ بِبَعْضِ مَهْرِهَا وقَوْله تَعَالَى
إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ قَالَ الْحَسَنُ
وَأَبُو قِلَابَةَ وَالسُّدِّيُّ هُوَ الزِّنَا وَإِنَّهُ
إنَّمَا تَحِلُّ لَهُ الْفِدْيَةُ إذَا اطَّلَعَ مِنْهَا عَلَى
رِيبَةٍ وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالضَّحَّاكُ وَقَتَادَةُ
هِيَ النُّشُوزُ فَإِذَا نَشَزَتْ حَلَّ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ
مِنْهَا الْفِدْيَةَ وَقَدْ بَيَّنَّا فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ
أَمْرَ الْخُلْعِ وَأَحْكَامِهِ
(3/46)
وَإِنْ أَرَدْتُمُ
اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ
قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ
بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا (20)
وقوله تعالى وَعاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ
أَمْرٌ لِلْأَزْوَاجِ بِعِشْرَةِ نِسَائِهِمْ بِالْمَعْرُوفِ
وَمِنْ الْمَعْرُوف أَنْ يُوفِيَهَا حَقَّهَا مِنْ الْمَهْرِ
وَالنَّفَقَةِ وَالْقَسْمِ وَتَرْكِ أَذَاهَا بِالْكَلَامِ
الْغَلِيظِ وَالْإِعْرَاضُ عَنْهَا وَالْمَيْلُ إلَى غَيْرِهَا
وَتَرْكِ الْعُبُوسِ وَالْقُطُوبِ فِي وَجْهِهَا بغير ذنب جرى
مجرى ذلك نَظِيرُ قَوْله تَعَالَى فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ
تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ وقَوْله تَعَالَى فَإِنْ
كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ
اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ
مَنْدُوبٌ إلَى إمْسَاكِهَا مَعَ كراهته لَهَا وَقَدْ رُوِيَ
عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا
يُوَافِقُ مَعْنَى ذَلِكَ
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو داود
قَالَ حَدَّثَنَا كَثِيرُ بْنُ عُبَيْدٍ قَالَ حَدَّثَنَا
مُحَمَّدُ بْنُ خَالِدٍ عَنْ مَعْرُوفِ بْنِ وَاصِلٍ عَنْ
مُحَارِبِ بْنِ دِثَارٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ عَنْ النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم قال أَبْغَضُ الْحَلَالِ إلَى
اللَّهِ تَعَالَى الطَّلَاقُ
وَحَدَّثَنَا عبد الباقي بن قانع قال حدثنا محمد بْنُ خَالِدِ
بْنِ يَزِيدَ النِّيلِيُّ قَالَ حَدَّثَنَا مُهَلَّبُ بْنُ
الْعَلَاءِ قَالَ حَدَّثَنَا شُعَيْبُ بْنُ بَيَانٍ عَنْ
عِمْرَانَ الْقَطَّانِ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَبِي تَمِيمَةَ
الْهُجَيْمِيِّ عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ قَالَ قَالَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
تَزَوَّجُوا وَلَا تُطَلِّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يحب
الذواقين والذوقات
فَهَذَا الْقَوْلُ مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ مُوَافِقٌ لِمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ الْآيَةُ مِنْ
كَرَاهَةِ الطَّلَاقِ وَالنَّدْبِ إلَى الْإِمْسَاكِ
بِالْمَعْرُوفِ مَعَ كَرَاهَتِهِ لَهَا وَأَخْبَرَ اللَّهُ
تَعَالَى أَنَّ الْخِيرَةَ رُبَّمَا كَانَتْ لَنَا فِي
الصَّبْرِ عَلَى مَا نَكْرَهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى فَعَسى أَنْ
تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً
وَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً
وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ
شَرٌّ لَكُمْ
وقَوْله تَعَالَى وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدالَ زَوْجٍ مَكانَ
زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً الْآيَةَ قَدْ
اقْتَضَتْ هَذِهِ الْآيَةُ إيجَابَ الْمَهْرِ لَهَا تَمْلِيكًا
صَحِيحًا وَمَنْعَ الزَّوْجِ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهَا شَيْئًا
مِمَّا أَعْطَاهَا وَأَخْبَرَ أَنَّ ذَلِكَ سَالِمٌ لَهَا
سَوَاءٌ اسْتَبْدَلَ بِهَا أَوْ أَمْسَكَهَا وَأَنَّهُ
مَحْظُورٌ عَلَيْهِ أَخْذُ شَيْءٍ مِنْهُ إلَّا بِمَا أَبَاحَ
اللَّهُ تَعَالَى بِهِ أَخْذَ مَالِ الْغَيْرِ فِي قَوْله
تَعَالَى إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ
وَظَاهِرُهُ يَقْتَضِي حَظْرَ أَخْذِ شَيْءٍ مِنْهُ بَعْدَ
الْخَلْوَةِ فَيُحْتَجُّ بِهِ فِي إيجَابِ كَمَالِ الْمَهْرِ
إذَا طَلَّقَ بَعْدَ الْخَلْوَةِ لِعُمُومِ اللَّفْظِ فِي
حَظْرِ الْأَخْذِ فِي كُلِّ حَالٍ إلَّا مَا خَصَّهُ
الدَّلِيلُ وَقَدْ خَصَّ قَوْله تَعَالَى وَإِنْ
طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ
فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ ما فَرَضْتُمْ إذَا
طَلَّقَ قَبْلَ الْخَلْوَةِ فِي سُقُوطِ نِصْفِ الْمَهْرِ
لِأَنَّهُ لَا خِلَافَ أَنَّ ذَلِكَ مُرَادٌ إذَا طَلَّقَ
قَبْلَ الْخَلْوَةِ وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي الْخَلْوَةِ هَلْ
هِيَ الْمَسِيسُ الْمُرَادُ بِالْآيَةِ أَوْ الْمَسِيسُ
الْجِمَاعُ وَاللَّفْظُ مُحْتَمِلٌ لِلْأَمْرَيْنِ لِأَنَّ
عَلِيًّا وعمرو غيرهما مِنْ الصَّحَابَةِ قَدْ تَأَوَّلُوهُ
(3/47)
وَكَيْفَ
تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ
وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا (21)
عَلَيْهَا وَتَأَوَّلَهُ عَبْدُ اللَّهِ
بْنُ مَسْعُودٍ عَلَى الْجِمَاعِ فَلَا يَخُصُّ عُمُومَ قَوْله
تَعَالَى فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً بِالِاحْتِمَالِ
وقَوْله تَعَالَى وَآتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً فَلا
تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً يدل على أن من وهب محله مراته
هِبَةً لَا يَجُوزُ لَهُ الرُّجُوعُ فِيهَا لِأَنَّهَا مِمَّا
آتَاهَا وَعُمُومُ اللَّفْظِ قَدْ حَظَرَ أَخْذَ شَيْءٍ مِمَّا
آتَاهَا مِنْ غَيْرِ فَرْقٍ بَيْنَ الْمَهْرِ وَغَيْرِهِ
وَيُحْتَجُّ فِيمَنْ خَلَعَ امْرَأَتَهُ عَلَى مَالٍ وَقَدْ
أَعْطَاهَا صَدَاقَهَا أَنَّهُ لَا يَرْجِعُ عَلَيْهَا
بِشَيْءٍ مِنْ الصَّدَاقِ الَّذِي أَعْطَاهَا عَيْنًا كان أو
عرضا مَا قَالَهُ أَبُو حَنِيفَةَ فِي ذَلِكَ وَيَحْتَجُّ بِهِ
فِيمَنْ أَسَلَفَ امْرَأَتَهُ نَفَقَتَهَا لِمُدَّةٍ ثُمَّ
مَاتَتْ قَبْلَ الْمُدَّةِ أَنَّهُ لَا يَرْجِعُ فِي
مِيرَاثِهَا بِشَيْءٍ مِمَّا أَعْطَاهَا لِعُمُومِ اللَّفْظِ
لِأَنَّهُ جَائِزٌ أَنْ يُرِيدَ أَنْ يَتَزَوَّجَ بِأُخْرَى
بَعْدَ مَوْتِهَا مُسْتَبْدِلًا بِهَا مَكَانَ الْأُولَى
فَظَاهِرُ اللَّفْظِ قَدْ تَنَاوَلَ هَذِهِ الْحَالَ فَإِنْ
قِيلَ لَمَّا عَقِبَ ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى وَكَيْفَ
تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضى بَعْضُكُمْ إِلى بَعْضٍ دَلَّ
عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِأَوَّلِ الْخِطَابِ فِيمَا
أَعْطَاهَا هُوَ الْمَهْرُ دُونَ غَيْرِهِ إذْ كَانَ هَذَا
الْمَعْنَى إنَّمَا يَخْتَصُّ بِالْمَهْرِ دُونَ مَا سِوَاهُ
قِيلَ لَهُ لَيْسَ يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ أَوَّلَ الْخِطَابِ
عُمُومًا فِي جَمِيعِ مَا انْتَظَمَهُ الِاسْمُ وَيَكُونُ
الْمَعْطُوفُ عَلَيْهِ بِحُكْمٍ خَاصٍّ فِيهِ وَلَا يُوجِبُ
ذَلِكَ خُصُوصَ اللَّفْظِ الْأَوَّلِ وَقَدْ بَيَّنَّا
نَظَائِرَ ذَلِكَ فِي مَوَاضِعَ وَهَذِهِ الْآيَةُ أَيْضًا
تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ إذَا دَخَلَ بِهَا ثُمَّ وَقَعَتْ
الْفُرْقَةُ مِنْ قِبَلِهَا بِمَعْصِيَةٍ أَوْ غَيْرِ
مَعْصِيَةٍ أَنَّ مَهْرَهَا وَاجِبٌ لَا يُبْطِلُهُ وُقُوعُ
الْفُرْقَةِ مِنْ قِبَلِهَا وَفَائِدَةُ تَخْصِيصِ اللَّهِ
تَعَالَى حَالَ الِاسْتِبْدَالِ بِالنَّهْيِ عَنْ أَخْذِ
شَيْءٍ مِمَّا أَعْطَاهَا مَعَ شُمُولِ الْحَظْرِ لِسَائِرِ
الْأَحْوَالِ إزَالَةُ تَوَهُّمِ مَنْ يَظُنُّ أَنَّ ذَلِكَ
جَائِزٌ عِنْدَ حُصُولِ الْبُضْعِ لَهَا وَسُقُوطِ حَقِّ
الزَّوْجِ عَنْهُ بِطَلَاقِهَا وَأَنَّ الثَّانِيَةَ قَدْ
قَامَتْ مَقَامَ الْأُولَى فَتَكُونُ أَوْلَى بِالْمَهْرِ
الَّذِي أَعْطَاهَا فَنَصَّ عَلَى حَظْرِ الْأَخْذِ فِي هَذِهِ
الْحَالِ وَدَلَّ بِهِ عَلَى عُمُومِهِ فِي سَائِرِ
الْأَحْوَالِ إذَا لَمْ يُبِحْ لَهُ أَخْذَ شَيْءٍ مِمَّا
أَعْطَاهَا في الحال التي يسقط حقه عن بعضها فَهُوَ أَوْلَى
أَنْ لَا يَأْخُذَ مِنْهَا شَيْئًا مَعَ بَقَاءِ حَقِّهِ فِي
اسْتِبَاحَةِ بُضْعِهَا وَكَوْنِهِ أَمْلَكَ بِهَا مِنْ
نَفْسِهَا وَأَكَّدَ اللَّهُ تَعَالَى حَظْرَ أَخْذِ شَيْءٍ
مِمَّا أَعْطَى بِأَنْ جَعَلَهُ ظُلْمًا كَالْبُهْتَانِ وَهُوَ
الْكَذِبُ الَّذِي يُبَاهِتُ بِهِ مُخْبِرُهُ وَيُكَابِرُ بِهِ
مِنْ يُخَاطِبُهُ وَهَذَا أَقْبَحُ مَا يَكُونُ مِنْ الْكَذِبِ
وَأَفْحَشُهُ فَشَبَّهَ أَخْذَ مَا أَعْطَاهَا بِغَيْرِ حَقٍّ
بِالْبُهْتَانِ فِي قُبْحِهِ فَسَمَّاهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضى
بَعْضُكُمْ إِلى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً
قَالَ أَبُو بَكْرٍ ذَكَرَ الْفَرَّاءُ أَنَّ الْإِفْضَاءَ
هُوَ الْخَلْوَةُ وَإِنْ لَمْ يَقَعْ دُخُولٌ وَقَوْلُ
الْفَرَّاءِ حُجَّةٌ فِيمَا يَحْكِيهِ مِنْ اللُّغَةِ فَإِذَا
كَانَ اسْمُ الْإِفْضَاءِ يَقَعُ عَلَى الْخَلْوَةِ فَقَدْ
منعت
(3/48)
وَلَا تَنْكِحُوا مَا
نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ
إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاءَ سَبِيلًا (22)
الْآيَةُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهَا شَيْئًا
بَعْدَ الْخَلْوَةِ وَالطَّلَاقِ لِأَنَّ قَوْله تَعَالَى
وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدالَ زَوْجٍ قَدْ أَفَادَ
الْفُرْقَةَ وَالطَّلَاقَ وَالْإِفْضَاءُ مَأْخُوذٌ مِنْ
الْفَضَاءِ وَهُوَ الْمَكَانُ الَّذِي لَيْسَ فِيهِ بِنَاءٌ
حَاجِزٌ عَنْ إدْرَاكِ مَا فِيهِ فَسُمِّيت الْخَلْوَةُ
إفْضَاءً لِزَوَالِ الْمَانِعِ مِنْ الْوَطْءِ وَالدُّخُولِ
وَمِنْ النَّاسِ مِنْ يَقُولُ إنَّ الْفَضَاءَ السَّعَةُ
وَأَفْضَى إذا صار الْمُتَّسَعِ مِمَّا يَقْصِدُهُ وَجَائِزٌ
عَلَى هَذَا الْوَضْعِ أَيْضًا أَنْ تُسَمَّى الْخَلْوَةُ
إفْضَاءً لَوُصُولِهِ بِهَا إلَى مَكَانِ الْوَطْءِ
وَاتِّسَاعِ ذَلِكَ بِالْخَلْوَةِ وَقَدْ كَانَ يَضِيقُ
عَلَيْهِ الْوُصُولُ إلَيْهَا قَبْلَ الْخَلْوَةِ فَسُمِّيت
الْخَلْوَةُ إفْضَاءً لِهَذَا الْمَعْنَى فَأَخْبَرَ تَعَالَى
أَنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ لَهُ أَخْذُ شَيْءٍ مِمَّا أَعْطَاهَا
مَعَ إفْضَاءِ بَعْضِهِمْ إلَى بَعْضٍ وَهُوَ الْوُصُولُ إلَى
مَكَانِ الْوَطْءِ وَبَذْلُهَا ذَلِكَ لَهُ وَتَمْكِينُهَا
إيَّاهُ مِنْ الْوُصُولِ إلَيْهَا فَظَاهِرُ هَذِهِ الآية تمنع
الزَّوْجَ أَخْذَ شَيْءٍ مِمَّا أَعْطَاهَا إذَا كَانَ
النُّشُوزُ مِنْ قِبَلِهِ لِأَنَّ قَوْله تَعَالَى وَإِنْ
أَرَدْتُمُ اسْتِبْدالَ زَوْجٍ مَكانَ زَوْجٍ يَدُلُّ عَلَى
أَنَّ الزَّوْجَ هُوَ الْمَرِيدُ لِلْفُرْقَةِ دُونَهَا
وَلِذَلِكَ قَالَ أَصْحَابُنَا إنَّ النُّشُوزَ إذَا كَانَ
مِنْ قِبَلِهِ يُكْرَهُ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ شَيْئًا مِنْ
مَهْرِهَا وَإِذَا كَانَ مِنْ قِبَلِهَا فَجَائِزٌ لَهُ ذَلِكَ
لِقَوْلِهِ تَعَالَى وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا
بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ
بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ فَقِيلَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ إنَّ
الْفَاحِشَةَ هِيَ النشوز وقال غيره هي الزنا ولقوله تَعَالَى
فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ فَلا جُناحَ
عَلَيْهِما فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ وَمِنْ النَّاسِ مَنْ
يَقُولُ إنَّهَا مَنْسُوخَةٌ بِقَوْلِهِ وَإِنْ أَرَدْتُمُ
اسْتِبْدالَ زَوْجٍ مَكانَ زَوْجٍ وَذَلِكَ غَلَطٌ لِأَنَّ
قَوْله تَعَالَى وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدالَ زَوْجٍ مَكانَ
زَوْجٍ قَدْ أَفَادَ حَالَ كَوْنِ النُّشُوزِ مِنْ قِبَلِهِ
وقَوْله تَعَالَى إِلَّا أَنْ يَخافا أَلَّا يُقِيما حُدُودَ
اللَّهِ إنَّمَا فِيهِ ذِكْرُ حَالٍ أُخْرَى غَيْرُ الْأُولَى
وَهِيَ الْحَالُ الَّتِي يَكُونُ النُّشُوزُ مِنْهَا
وَافْتَدَتْ فِيهَا الْمَرْأَةُ مِنْهُ فَهَذِهِ حَالٌ غَيْرُ
تِلْكَ وكل واحد مِنْ الْحَالَيْنِ مَخْصُوصَةٌ بِحُكْمٍ دُونَ
الْأُخْرَى وقَوْله تعالى وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثاقاً
غَلِيظاً قَالَ الْحَسَنُ وَابْنُ سِيرِينَ وَقَتَادَةُ
وَالضَّحَّاكُ وَالسُّدِّيُّ هُوَ قَوْلُهُ فَإِمْساكٌ
بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ قَالَ قَتَادَةُ
وَكَانَ يُقَالُ لِلنَّاكِحِ فِي صَدْرِ الْإِسْلَامِ اللَّهُ
عَلَيْك لَتُمْسِكَنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ لَتُسَرِّحَنَّ
بِإِحْسَانٍ وَقَالَ مُجَاهِدٌ كَلِمَةُ النِّكَاحِ الَّتِي
يُسْتَحَلُّ بِهَا الْفَرْجُ وَقَالَ غَيْرُهُ هُوَ
قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّمَا
أَخَذْتُمُوهُنَّ بِأَمَانَةِ اللَّهِ وَاسْتَحْلَلْتُمْ
فُرُوجَهُنَّ بِكَلِمَةِ اللَّهِ تَعَالَى
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.
بَابُ مَا يَحْرُمُ مِنْ النِّسَاءِ
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى وَلا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آباؤُكُمْ
مِنَ النِّساءِ قَالَ أَبُو بَكْرٍ أَخْبَرَنَا أَبُو عُمَرَ
«4- أحكام لث»
(3/49)
غُلَامُ ثَعْلَبٍ قَالَ الَّذِي
حَصَّلْنَاهُ عَنْ ثَعْلَبٍ عَنْ الْكُوفِيِّينَ
وَالْمُبَرِّدِ عَنْ الْبَصْرِيِّينَ أَنَّ النِّكَاحَ فِي
أَصْلِ اللُّغَةِ هُوَ اسْمٌ لِلْجَمْعِ بَيْنَ الشيئين تقول
العرب أنكحنا الفرافسنرى هُوَ مَثَلٌ ضَرَبُوهُ لِلْأَمْرِ
يَتَشَاوَرُونَ فِيهِ وَيَجْتَمِعُونَ عليه ثم ينظر عما ذا
يَصْدُرُونَ فِيهِ مَعْنَاهُ جَمَعْنَا بَيْنَ الْحِمَارِ
وَأَتَانِهِ قَالَ أَبُو بَكْرٍ إذًا كَانَ اسْمُ النِّكَاحِ
فِي حَقِيقَةِ اللُّغَةِ مَوْضُوعًا لِلْجَمْعِ بَيْنَ
الشَّيْئَيْنِ ثُمَّ وَجَدْنَاهُمْ قَدْ سَمَّوْا الْوَطْءَ
نَفْسَهُ نِكَاحًا مِنْ غَيْرِ عَقْدٍ كَمَا قَالَ الْأَعْشَى:
وَمَنْكُوحَةٌ غير ممهورة ... وأخرى يقال له فادها
يعن المسبية الموطوأة بِغَيْرِ مَهْرٍ وَلَا عَقْدٍ وَقَالَ
الْآخَرُ:
وَمِنْ أَيِّمٍ قَدْ أَنْكَحَتْهَا رِمَاحُنَا ... وَأُخْرَى
عَلَى عَمٍّ وخال تلهف
وهو يَعْنِي الْمَسْبِيَّةَ أَيْضًا وَمِنْهُ قَوْلُ الْآخَرِ
أَيْضًا:
فَنَكَحْنَ أَبْكَارًا وَهُنَّ بِأُمَّةٍ ... أَعْجَلْنَهُنَّ
مَظِنَّةَ الْإِعْذَارِ
وَهُوَ يَعْنِي الْوَطْءَ أَيْضًا وَلَا يَمْتَنِعُ أَحَدٌ
مِنْ إطْلَاقِ اسْمِ النِّكَاحِ عَلَى الْوَطْءِ وَقَدْ
تَنَاوَلَ الِاسْمُ الْعَقْدَ أَيْضًا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى
إِذا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِناتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ
قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَالْمُرَادُ بِهِ الْعَقْدُ دُونَ
الْوَطْءِ
وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَا
مِنْ نِكَاحٍ وَلَسْت مِنْ سِفَاحٍ
فَدَلَّ بِذَلِكَ عَلَى مَعْنَيَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّ اسْمَ
النِّكَاحِ يَقَعُ عَلَى الْعَقْدِ وَالثَّانِي دَلَالَتُهُ
عَلَى أَنَّهُ قَدْ يَتَنَاوَلُ الْوَطْءَ مِنْ غَيْرِ عَقْدٍ
لَوْلَا ذَلِكَ لَاكْتَفَى بِقَوْلِهِ أَنَا مِنْ نِكَاحٍ إذْ
كَانَ السِّفَاحُ لَا يَتَنَاوَلُ اسْمَ النِّكَاحِ بِحَالٍ
فَدَلَّ قَوْلُهُ وَلَسْت مِنْ سِفَاحٍ بَعْدَ تَقْدِيمِ
ذِكْرِ النِّكَاحِ أَنَّ النِّكَاحَ يَتَنَاوَلُ لَهُ
الْأَمْرَيْنِ فَبَيَّنَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
أَنَّهُ مِنْ الْعَقْدِ الْحَلَالِ لَا مِنْ النِّكَاحِ
الَّذِي هُوَ سِفَاحٌ وَلَمَّا ثَبَتَ بِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ
الِاسْمَ يَنْتَظِمُ الْأَمْرَيْنِ جَمِيعًا مِنْ الْعَقْدِ
وَالْوَطْءِ وَثَبَتَ بِمَا ذَكَرْنَا مِنْ حُكْمِ هَذَا
الِاسْمِ فِي حَقِيقَةِ اللُّغَةِ وَأَنَّهُ اسْمٌ لِلْجَمْعِ
بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ وَالْجَمْعُ إنَّمَا يَكُونُ بِالْوَطْءِ
دُونَ الْعَقْدِ إذْ الْعَقْدُ لَا يَقَعُ بِهِ جَمْعٌ
لِأَنَّهُ قَوْلٌ مِنْهُمَا جَمِيعًا لَا يَقْتَضِي جَمْعًا
فِي الْحَقِيقَةِ ثَبَتَ أَنَّ اسْمَ النِّكَاحِ حَقِيقَةٌ
لِلْوَطْءِ مَجَازٌ لِلْعَقْدِ وَأَنَّ الْعَقْدَ إنَّمَا
سُمِّيَ نِكَاحًا لِأَنَّهُ سَبَبٌ يُتَوَصَّلُ بِهِ إلَى
الْوَطْءِ تَسْمِيَةُ الشَّيْءِ بِاسْمِ غَيْرِهِ إذَا كَانَ
مِنْهُ بِسَبَبٍ أَوْ مُجَاوِرًا لَهُ مِثْلُ الشَّعْرِ
الَّذِي يُوَلِّدُ الصَّبِيُّ وَهُوَ عَلَى رَأْسِهِ يُسَمَّى
عَقِيقَةً ثُمَّ سُمِّيت الشَّاةُ الَّتِي تُذْبَحُ عنه عند
حلق ذلك الشعر عقيقة وكالرواية الَّتِي هِيَ اسْمٌ لِلْجَمَلِ
الَّذِي يَحْمِلُ الْمَزَادَةَ ثُمَّ سُمِّيَتْ الْمَزَادَةُ
رَاوِيَةً لِاتِّصَالِهَا بِهِ وَقُرْبِهَا مِنْهُ وَقَالَ
أَبُو النَّجْمِ:
(3/50)
تَمْشِي مِنْ «1» الرِّدَّةِ مَشْيَ
الْحُفَّلِ ... مَشْيَ الرَّوَايَا بِالْمَزَادِ الْأَثْقَلِ
وَنَحْوُهُ الْغَائِطُ هُوَ اسْمٌ لِلْمَكَانِ الْمُطْمَئِنِّ
مِنْ الْأَرْضِ وَيُسَمَّى بِهِ مَا يَخْرُجُ من الإنسان مجازا
أنهم كَانُوا يَقْصِدُونَ الْغَائِطَ لِقَضَاءِ الْحَاجَةِ
وَنَظَائِرُ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ فَكَذَلِكَ النِّكَاحُ اسْمٌ
لِلْوَطْءِ حَقِيقَةً عَلَى مُقْتَضَى مَوْضُوعِهِ فِي أَصْلِ
اللُّغَةِ وَيُسَمَّى الْعَقْدُ بِاسْمِهِ مَجَازًا لِأَنَّهُ
يُتَوَصَّلُ بِهِ إلَيْهِ وَهُوَ سَبَبُهُ وَيَدُلُّ عَلَى
أَنَّهُ سُمِّيَ بِاسْمِ الْعَقْدِ مَجَازًا أَنَّ سَائِرَ
الْعُقُودِ مِنْ الْبِيَاعَاتِ وَالْهِبَاتِ لا يسمى منها شيء
نكاح وَإِنْ كَانَ قَدْ يُتَوَصَّلُ بِهِ إلَى اسْتِبَاحَةِ
وَطْءِ الْجَارِيَةِ إذْ لَمْ تَخْتَصَّ هَذِهِ الْعُقُودُ
بِإِبَاحَةِ الْوَطْءِ لِأَنَّ هَذِهِ الْعُقُودَ تَصِحُّ
فِيمَنْ يَحْظُرُ عَلَيْهِ وَطْؤُهَا كَأُخْتِهِ مِنْ
الرَّضَاعَةِ وَمِنْ النَّسَبِ وَأُمِّ امْرَأَتِهِ
وَنَحْوِهَا وَسُمِّيَ الْعَقْدُ الْمُخْتَصُّ بِإِبَاحَةِ
الْوَطْءِ نِكَاحًا لِأَنَّ مَنْ لَا يَحِلُّ لَهُ وَطْؤُهَا
لَا يَصِحُّ نِكَاحُهَا فَثَبَتَ بِذَلِكَ أَنَّ اسْمَ
النِّكَاحِ حَقِيقَةٌ لِلْوَطْءِ مَجَازٌ فِي الْعَقْدِ
فَوَجَبَ إذَا كَانَ هَذَا عَلَى مَا وَصَفْنَا أَنْ يُحْمَلَ
قَوْله تَعَالَى وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ
النِّساءِ عَلَى الْوَطْءِ فَاقْتَضَى ذَلِكَ تَحْرِيمَ مَنْ
وَطِئَهَا أَبُوهُ مِنْ النِّسَاءِ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ لَمَّا
ثَبَتَ أَنَّ النِّكَاحَ اسْمٌ لِلْوَطْءِ لَمْ يَخْتَصَّ
ذَلِكَ بِالْمُبَاحِ مِنْهُ دُونَ الْمَحْظُورِ كَالضَّرْبِ
وَالْقَتْلِ وَالْوَطْءُ نَفْسُهُ لَا يَخْتَصُّ عِنْدَ
الْإِطْلَاقِ بِالْمُبَاحِ مِنْهُ دُونَ الْمَحْظُورِ بَلْ
هُوَ عَلَى الْأَمْرَيْنِ حَتَّى تَقُومَ الدَّلَالَةُ عَلَى
تَخْصِيصِهِ وَكَانَ أَبُو الْحَسَنِ يَقُولُ إنَّ قَوْله
تَعَالَى مَا نَكَحَ آباؤُكُمْ مُرَادُهُ الْوَطْءُ دُونَ
الْعَقْدِ مِنْ حَيْثُ اللَّفْظِ حَقِيقَةٌ فِيهِ وَلَمْ
يُرِدْ بِهِ الْعَقْدَ لِاسْتِحَالَةِ كَوْنِ لَفْظٍ وَاحِدٍ
مَجَازًا حَقِيقَةً فِي حَالٍ وَاحِدَةٍ وَإِنَّمَا
أَوْجَبْنَا التَّحْرِيمَ بِالْعَقْدِ بِغَيْرِ الْآيَةِ
وَقَدْ اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي إيجَابِ تَحْرِيمِ
الْأُمِّ وَالْبِنْتِ بِوَطْءِ الزِّنَا فَرَوَى سَعِيدُ بْنُ
أَبِي عَرُوبَةَ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ الْحَسَنِ عَنْ عِمْرَانَ
بْنِ حُصَيْنٍ فِي رَجُلٍ زَنَى بِأُمِّ امْرَأَتِهِ حَرُمَتْ
عَلَيْهِ امْرَأَتُهُ وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ وَقَتَادَةَ
وَكَذَلِكَ قَوْلُ سَعِيدٍ بْنِ الْمُسَيِّبِ وَسُلَيْمَانِ
بْنِ يَسَارٍ وَسَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ وَمُجَاهِدٍ
وَعَطَاءٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَعَامِرٍ وَحَمَّادٍ وَأَبِي
حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ وَزُفَرَ
وَالثَّوْرِيِّ وَالْأَوْزَاعِيِّ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ
وَطْءِ الْأُمِّ قَبْلَ التَّزَوُّجِ أَوْ بَعْدَهُ فِي
إيجَابِ تَحْرِيمِ الْبِنْتِ وَرَوَى عِكْرِمَةُ عَنْ ابْنِ
عَبَّاسٍ فِي الرَّجُلِ يَزْنِي بِأُمِّ امْرَأَتِهِ بَعْدَ
مَا يَدْخُلُ بِهَا قَالَ تَخَطَّى حُرْمَتَيْنِ وَلَمْ
تَحْرُمْ عَلَيْهِ امْرَأَتُهُ وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ
لَا يُحَرِّمُ الْحَرَامُ الْحَلَالَ وَذَكَرَ الْأَوْزَاعِيُّ
عن عطاء أنه كان
__________
(1) قوله الردة بكسر الراء وتشديد الدال ورم يصيب الناقة في
أخلاقها والحفل جمع حافل وهي الناقة الممتلئ ضرعها لبنا.
(3/51)
حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ
أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ
وَخَالَاتُكُمْ وَبَنَاتُ الْأَخِ وَبَنَاتُ الْأُخْتِ
وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ
مِنَ الرَّضَاعَةِ وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ
اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي
دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ
فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ
مِنْ أَصْلَابِكُمْ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ
إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا
(23)
يَتَأَوَّلُ قَوْلَ ابْنِ عَبَّاسٍ لَا
يُحَرِّمُ حَرَامٌ حَلَالًا عَلَى الرَّجُلِ يَزْنِي
بِالْمَرْأَةِ وَلَا يُحَرِّمُهَا عَلَيْهِ زِنَاهُ وَهَذَا
يَدُلُّ عَلَى أَنَّ قَوْلَ ابْنِ عَبَّاسٍ الَّذِي رَوَاهُ
عِكْرِمَةُ فِي أَنَّ الزِّنَا بِالْأُمِّ لَا يُحَرِّمُ
الْبِنْتَ لَمْ يَكُنْ عِنْدَ عَطَاءٍ كَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَوْ
كَانَ ثَابِتًا عِنْدَهُ لَمَا احْتَاجَ إلَى تَأْوِيلِ
قَوْلِهِ لَا يُحَرِّمُ الْحَرَامُ الْحَلَالَ
وَقَالَ الزُّهْرِيُّ وَرَبِيعَةُ وَمَالِكٌ وَاللَّيْثُ
وَالشَّافِعِيُّ لَا تَحْرُمُ أُمُّهَا وَلَا بِنْتُهَا
بِالزِّنَا وَقَالَ عُثْمَانُ الْبَتِّيُّ فِي الرَّجُلِ
يَزْنِي بِأُمِّ امْرَأَتِهِ قَالَ حَرَامٌ لَا يُحَرِّمُ
حَلَالًا وَلَكِنَّهُ إنْ زَنَى بِالْأُمِّ قَبْلَ أَنْ
يَتَزَوَّجَ الْبِنْتَ أَوْ زَنَى بِالْبِنْتِ قَبْلَ أَنْ
يَتَزَوَّجَ الْأُمَّ فَقَدْ حَرُمَتْ فَفَرَّقَ بَيْنَ
الزِّنَا بَعْدَ التَّزْوِيجِ وَقَبْلَهُ وَاخْتَلَفَ
الْفُقَهَاءُ أَيْضًا فِي الرَّجُلِ يَلُوطُ بِالرَّجُلِ هَلْ
تَحْرُمُ عَلَيْهِ أُمُّهُ وَابْنَتُهُ فَقَالَ أَصْحَابُنَا
لَا تَحْرُمُ عَلَيْهِ وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ
الْحُسَيْنِ هُوَ مِثْلُ وَطْءِ الْمَرْأَةِ بِزِنًا فِي
تَحْرِيمِ الْأُمِّ وَالْبِنْتِ وَقَالَ مَنْ حَرَّمَ بِهَذَا
مِنْ النِّسَاءِ حُرِّمَ مِنْ الرِّجَالِ وَرَوَى إبْرَاهِيمُ
بْنُ إِسْحَاقَ قَالَ سَأَلْت سُفْيَانَ الثَّوْرِيَّ عَنْ
الرَّجُلِ يَلْعَبُ بِالْغُلَامِ أَيَتَزَوَّجُ أُمَّهُ قَالَ
لَا وَقَالَ كَانَ الْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ يَكْرَهُ أَنْ
يَتَزَوَّجَ الرَّجُلُ بِامْرَأَةٍ قَدْ لَعِبَ بِابْنِهَا
وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ فِي غُلَامَيْنِ يَلُوطُ أَحَدُهُمَا
بِالْآخَرِ فَتُولَدُ لِلْمَفْعُولِ بِهِ جَارِيَةٌ قَالَ لَا
يَتَزَوَّجُهَا الْفَاعِلُ قَالَ أَبُو بَكْرٍ قَوْله تَعَالَى
وَلا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ قَدْ
أَوْجَبَ تَحْرِيمَ نِكَاحِ امْرَأَةٍ قَدْ وَطِئَهَا أَبُوهُ
بِزِنًا أَوْ غَيْرِهِ إذْ كَانَ الِاسْمُ يَتَنَاوَلُهُ
حَقِيقَةً فَوَجَبَ حَمْلُهُ عَلَيْهَا
وَإِذَا ثَبَتَ ذَلِكَ فِي وَطْءِ الْأَبِ ثَبَتَ مِثْلُهُ فِي
وَطْءِ أُمِّ الْمَرْأَةِ أَوْ ابْنَتِهَا فِي إيجَابِ تحريم
المرأة لأن أحدا لم يفرق بينها وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ قَوْله
تَعَالَى وَرَبائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ
نِسائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ وَالدُّخُولُ بِهَا
اسْمٌ لِلْوَطْءِ وَهُوَ عَامٌّ فِي جَمِيعِ ضُرُوبِ الْوَطْءِ
مِنْ مُبَاحٍ أَوْ مَحْظُورٍ وَنِكَاحٍ أَوْ سِفَاحٍ فَوَجَبَ
تَحْرِيمُ الْبِنْتِ بِوَطْءٍ كان منه قبل تزويج الأم لقوله
تعالى اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ
الدُّخُولَ بِهَا اسْمٌ لِلْوَطْءِ وَأَنَّهُ مُرَادٌ
بِالْآيَةِ وَأَنَّ اسْمَ الدُّخُولِ لَا يَخْتَصُّ بِوَطْءِ
نِكَاحٍ دُونَ غَيْرِهِ أَنَّهُ لَوْ وَطِئَ الْأُمَّ بِمِلْكِ
الْيَمِينِ حَرُمَتْ عَلَيْهِ الْبِنْتُ تَحْرِيمًا مُؤَبَّدًا
بِحُكْمِ الْآيَةِ وَكَذَلِكَ لَوْ وَطِئَهَا بِنِكَاحٍ
فَاسِدٍ فَثَبَتَ أَنَّ الدُّخُولَ لَمَّا كَانَ اسْمًا
لِلْوَطْءِ لَمْ يَخْتَصَّ فِيمَا عُلِّقَ بِهِ مِنْ الْحُكْمِ
بِوَطْءٍ بِنِكَاحٍ دُونَ مَا سِوَاهُ مِنْ سَائِرِ ضُرُوبِ
الْوَطْءِ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ مِنْ جِهَةِ النَّظَرِ أَنَّ
الْوَطْءَ آكَدُ فِي إيجَابِ التحريم من العقد لأنا لم نجد وطأ
مُبَاحًا إلَّا وَهُوَ مُوجِبٌ لِلتَّحْرِيمِ وَقَدْ وَجَدْنَا
عَقْدًا صَحِيحًا لَا يُوجِبُ التَّحْرِيمَ وَهُوَ الْعَقْدُ
عَلَى الْأُمِّ لَا يُوجِبُ تَحْرِيمَ الْبِنْتِ وَلَوْ
وَطِئَهَا حَرُمَتْ فَعَلِمْنَا أَنَّ وُجُودَ الْوَطْءِ
عِلَّةٌ لإيجاب التحريم
(3/52)
فَكَيْفَمَا وُجِدَ يَنْبَغِي أَنْ
يَحْرُمَ مُبَاحًا كَانَ الْوَطْءُ أَوْ مَحْظُورًا لِوُجُودِ
الْوَطْءِ لِأَنَّ التَّحْرِيمَ لم يخرجه من أن يكون وطأ
صَحِيحًا فَلَمَّا اشْتَرَكَا فِي هَذَا الْمَعْنَى وَجَبَ
أَنْ يَقَعَ بِهِ تَحْرِيمٌ وَأَيْضًا لَا خِلَافَ أَنَّ
الْوَطْءَ بِشُبْهَةٍ وَبِمِلْكِ الْيَمِينِ يَحْرُمَانِ مَعَ
عَدَمِ النِّكَاحِ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْوَطْءَ
يُوجِبُ التَّحْرِيمَ عَلَى أَيِّ وَجْهٍ وَقَعَ فَوَجَبَ أَنْ
يَكُونَ وَطْءُ الزِّنَا مُحَرِّمًا لِوُجُودِ الْوَطْءِ
الصَّحِيحِ فَإِنْ قِيلَ إنَّ الْوَطْءَ بِمِلْكِ الْيَمِينِ
وَبِشُبْهَةٍ إنَّمَا تَعَلَّقَ بِهِمَا التَّحْرِيمُ لِمَا
يَتَعَلَّقُ بِهِمَا مِنْ ثُبُوتِ النَّسَبِ وَالزِّنَا لَا
يَثْبُتُ بِهِ النَّسَبُ فَلَا يَتَعَلَّقُ بِهِ حُكْمُ
التَّحْرِيمِ قِيلَ لَهُ لَيْسَ لِثُبُوتِ النَّسَبِ تَأْثِيرٌ
فِي ذَلِكَ لِأَنَّ الصَّغِيرَ الَّذِي لَا يُجَامِعُ مِثْلُهُ
لَوْ جَامَعَ امْرَأَتَهُ حَرُمَتْ عَلَيْهِ أُمُّهَا
وَبِنْتُهَا وَلَمْ يَتَعَلَّقْ بِوَطْئِهِ ثُبُوتُ النَّسَبِ
وَمَنْ عَقَدَ عَلَى امْرَأَةٍ نِكَاحًا تَعَلَّقَ بِعَقْدِ
النِّكَاحِ ثُبُوتُ النَّسَبِ قَبْلَ الْوَطْءِ حَتَّى لَوْ
جَاءَتْ بِوَلَدٍ قَبْلَ الدُّخُولِ وَبَعْدَ الْعَقْدِ
بِسِتَّةِ أَشْهُرٍ لَزِمَهُ ولم يتعلق بالعقد تحريم البنت فإذ
كُنَّا وَجَدْنَا الْوَطْءَ مَعَ عَدَمِ ثُبُوتِ النَّسَبِ
بِهِ يُوجِبُ التَّحْرِيمَ وَالْعَقْدَ مَعَ تَعَلُّقِ ثُبُوتِ
النَّسَبِ بِهِ لَا يُوجِبُ التَّحْرِيمَ عَلِمْنَا أَنَّهُ
لاحظ لِثُبُوتِ النَّسَبِ فِي ذَلِكَ وَأَنَّ الَّذِي يَجِبُ
اعْتِبَارُهُ هُوَ الْوَطْءُ لَا غَيْرُ وَأَيْضًا لَا خِلَافَ
بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ أَنَّهُ لَوْ لَمَسَ أَمَتَهُ
لِشَهْوَةٍ حَرُمَتْ عَلَيْهِ أُمُّهَا وَابْنَتُهَا وَلَيْسَ
لِلْمَسِّ حَظٌّ فِي ثُبُوتِ النَّسَبِ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ
حُكْمَ التَّحْرِيمِ لَيْسَ بِمَوْقُوفٍ عَلَى النَّسَبِ
وَأَنَّهُ جَائِزٌ ثُبُوتُهُ مَعَ ثُبُوتِ النَّسَبِ وَجَائِزٌ
ثُبُوتُهُ أَيْضًا مَعَ عَدَمِ ثُبُوتِ النَّسَبِ وَيَدُلُّ
عَلَى صِحَّةِ قَوْلِ أَصْحَابِنَا أَنَّا وَجَدْنَا اللَّهَ
تَعَالَى قَدْ غَلَّظَ أَمْرَ الزِّنَا بِإِيجَابِ الرَّجْمِ
تَارَةً وَبِإِيجَابِ الْجَلْدِ أُخْرَى وَأَوْعَدَ عَلَيْهِ
بِالنَّارِ وَمَنَعَ إلحاق النسب به وذلك كله تغليط لِحُكْمِهِ
فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ بِإِيجَابِ التَّحْرِيمِ أَوْلَى إذْ
كَانَ إيجَابُ التَّحْرِيمِ ضَرْبًا مِنْ التَّغْلِيظِ أَلَا
تَرَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا حَكَمَ بِبُطْلَانِ حَجِّ
مَنْ جَامَعَ امْرَأَتَهُ قَبْلَ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ كَانَ
الزَّانِي أَوْلَى بِبُطْلَانِ الْحَجِّ لِأَنَّ بُطْلَانَ
الْحَجِّ تَغْلِيظٌ لِتَحْرِيمِ الْجِمَاعِ فِيهِ كَذَلِكَ
لَمَّا حَكَمَ اللَّهُ بِإِيجَابِ تَحْرِيمِ الْأُمِّ
وَالْبِنْتِ بِالْوَطْءِ الْحَلَالِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ
الزِّنَا أَوْلَى بِإِيجَابِ التَّحْرِيمِ تَغْلِيظًا
لِحُكْمِهِ وَقَدْ زَعَمَ الشَّافِعِيُّ أَنَّ اللَّهَ
تَعَالَى لَمَّا أَوْجَبَ الْكَفَّارَةَ عَلَى قاتل الخطأ كان
قاتل العمد أَوْلَى إذْ كَانَ حُكْمُ الْعَمْدِ أَغْلَظَ مِنْ
حُكْمِ الْخَطَإِ أَلَا تَرَى أَنَّ الْوَطْءَ لَمْ يَخْتَلِفْ
حُكْمُهُ أَنْ يَكُونَ بِزِنًا أَوْ غَيْرِهِ فِيمَا تَعَلَّقَ
بِهِ مِنْ فَسَادِ الْحَجِّ وَالصَّوْمِ وَوُجُوبِ الْغُسْلِ
فَكَذَلِكَ يَنْبَغِي أَنْ يَسْتَوِيَا فِي حُكْمِ
التَّحْرِيمِ فَإِنْ قِيلَ الْوَطْءُ الْمُبَاحُ يَتَعَلَّقُ
به حكم فِي إيجَابِ الْمَهْرِ وَلَا يَتَعَلَّقُ ذَلِكَ
بِالزِّنَا قِيلَ لَهُ قَدْ تَعَلَّقَ بِالزِّنَا مِنْ إيجَابِ
الرَّجْمِ أَوْ الْجَلْدِ
(3/53)
مَا هُوَ أَغْلَظُ مِنْ إيجَابِ الْمَالِ
وَعَلَى أَنَّ الْمَالَ وَالْحَدَّ يَتَعَاقَبَانِ عَلَى
الْوَطْءِ لِأَنَّهُ مَتَى وَجَبَ الْحَدُّ لَمْ يَجِبْ
الْمَهْرُ وَمَتَى وَجَبَ الْمَهْرُ لَمْ يَجِبْ الْحَدُّ
فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَخْلُفُ الْآخَرَ فَإِذَا وَجَبَ
الْحَدُّ فَذَلِكَ قَائِمٌ مَقَامَ الْمَالِ فِيمَا تَعَلَّقَ
بِالْوَطْءِ مِنْ الْحُكْمِ فَلَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا مِنْ
هَذَا الْوَجْهِ فَإِنْ احْتَجَّ مُحْتَجٌّ بِمَا
حَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي قَالَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ
اللَّيْثِ الْجَزَرِيُّ قَالَ حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ
بُهْلُولٍ قَالَ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ نَافِعٍ
الْمَدَنِيُّ قَالَ حَدَّثَنَا الْمُغِيرَةُ بن إسماعيل بن
أيوب ابن سَلَمَةَ الزُّهْرِيُّ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ
الزُّهْرِيِّ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ سُئِلَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ
الرَّجُلِ يَتْبَعُ الْمَرْأَةَ حَرَامًا أَيَنْكِحُ أُمَّهَا
أَوْ يَتْبَعُ الْأُمَّ حَرَامًا أَيَنْكِحُ ابْنَتَهَا قَالَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا
يُحَرِّمُ الْحَرَامُ الْحَلَالَ إنَّمَا يَحْرُمُ مَا كَانَ
بِنِكَاحٍ
وَبِمَا رَوَاهُ إِسْحَاقُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْفَرْوِيُّ عَنْ
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عمر عن
النبي صلى الله عليه وسلم قال لَا يُحَرِّمُ الْحَرَامُ
الْحَلَالَ
وَرَوَى عُمَرُ بْنُ حَفْصٍ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَبْدِ
الرَّحْمَنِ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ
قَالَتْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ لا يُفْسِدُ الْحَرَامُ الْحَلَالَ
فَإِنَّ هَذِهِ الْأَخْبَارَ بَاطِلَةٌ عِنْدَ أَهْلِ
الْمَعْرِفَة وَرُوَاتُهَا غَيْرُ مَرْضِيِّينَ أَمَّا
الْمُغِيرَةُ بْنُ إسْمَاعِيلَ فَمَجْهُولٌ لَا يُعْرَفُ لَا
يَجُوزُ ثُبُوتُ شَرِيعَةٍ بِرِوَايَتِهِ لَا سِيَّمَا فِي
اعْتِرَاضِهِ عَلَى ظَاهِرِ الْقُرْآنِ وَإِسْحَاقُ بْنُ
مُحَمَّدٍ الْفَرْوِيُّ مَطْعُونٌ فِي رِوَايَتِهِ وَكَذَلِكَ
عُمَرُ بْنُ حَفْصٍ وَلَوْ ثَبَتَ لَمْ يَدُلَّ عَلَى قَوْلِ
الْمُخَالِفِ لِأَنَّ الْحَدِيثَ الْأَوَّلَ إنَّمَا ذُكِرَ
فِيهِ الرجل ويتبع الْمَرْأَةَ وَلَيْسَ فِيهِ ذِكْرُ
الْوَطْءِ فَكَانَ
قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَحْرُمُ
إلَّا ما كان بنكاح
جوابا عما سأله من اتِّبَاعِ الْمَرْأَةِ وَذَلِكَ إنَّمَا
يَكُونُ بِأَنْ يُتْبِعَهَا نفسه فيكون منه نظرا إليها
مُرَاوَدَتُهَا عَلَى الْوَطْءِ وَلَيْسَ فِيهِ إثْبَاتُ
الْوَطْءِ فَأَخْبَرَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ
مِثْلَ ذَلِكَ لَا يُوجِبُ تَحْرِيمًا وَأَنَّهُ لَا يَقَعُ
بِمِثْلِهِ التَّحْرِيمُ إلَّا أَنْ يَكُونَ بَيْنَهُمَا
عَقْدُ نِكَاحٍ وَلَيْسَ فِيهِ لِلْوَطْءِ ذِكْرٌ
وَقَوْلُهُ لَا يُحَرِّمُ الْحَرَامُ الْحَلَالَ
إنَّمَا هُوَ فِيمَا سُئِلَ عَنْهُ مِنْ اتِّبَاعِ الْمَرْأَةِ
مِنْ غَيْرِ وَطْءٍ وَأَمَّا
حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ وَقَوْلُهُ لَا يُحَرِّمُ الْحَرَامُ
الْحَلَالَ
فَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ بِعَيْنِهَا إنْ
صَحَّتْ فَكَانَ جَوَابًا لِمَا سُئِلَ عَنْهُ مِنْ النَّظَرِ
وَالْمُرَاوَدَةِ مِنْ غَيْرِ جِمَاعٍ وَتَكُونُ فَائِدَتُهُ
إزَالَةَ تَوَهُّمِ مَنْ يَظُنُّ أَنَّ النَّظَرَ
بِانْفِرَادِهِ يُحَرِّمُ لِمَا
رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم أنه قال
زِنَا الْعَيْنَيْنِ النَّظَرُ وَزِنَا الرِّجْلَيْنِ
الْمَشْيُ
فَكَانَ جائز أَنْ يَظُنَّ ظَانٌّ أَنَّ النَّظَرَ
بِانْفِرَادِهِ يُحَرِّمُ كَمَا يُحَرِّمُ الْوَطْءُ
لِتَسْمِيَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
إيَّاهُ زِنًا فَأَخْبَرَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
أَنَّ ذَلِكَ لَا يُحَرِّمُ وَأَنَّ التَّحْرِيمَ إذَا لَمْ
تَكُنْ مُلَامَسَةٌ إنَّمَا يَتَعَلَّقُ بِالْعَقْدِ وَإِنْ
لَمْ يَكُنْ مَسِيسٌ وَإِذَا
(3/54)
احْتَمَلَ هَذَا الْخَبَرُ مَا وَصَفْنَا
زَالَ الِاعْتِرَاضُ بِهِ وَعَلَى أَنَّهُمْ مُتَّفِقُونَ
أَنَّ التَّحْرِيمَ غَيْرُ مَقْصُورٍ عَلَى النِّكَاحِ وَلَا
عَلَى الْوَطْءِ الْمُبَاحِ لِأَنَّهُ لَا خِلَافَ أَنَّ مَنْ
وَطِئَ أَمَتَهُ حَائِضًا أَنَّ هَذَا وَطْءٌ حَرَامٌ فِي
غَيْرِ نِكَاحٍ وَأَنَّهُ يُوجِبُ التَّحْرِيمَ فَبَطَلَ أَنْ
يَكُونَ حُكْمُ التَّحْرِيمِ مَقْصُورًا عَلَى النِّكَاحِ
وَلَا عَلَى وَطْءٍ مُبَاحٍ وَكَذَلِكَ لَوْ وَطِئَ جَارِيَةً
بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ أَوْ جَارِيَتَهُ وَهِيَ
مَجُوسِيَّةٌ كَانَ واطئا وطأ حَرَامًا فِي غَيْرِ نِكَاحٍ
مُوجِبٍ لِلتَّحْرِيمِ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْحَدِيثَ
إنْ ثَبَتَ فَلَيْسَ بِعُمُومٍ فِي نَفْيِ إيجَابِ
التَّحْرِيمِ بِوَطْءٍ حَرَامٍ وَأَيْضًا قَدْ حَرَّمَ اللَّهُ
تَعَالَى امْرَأَةَ الْمُظَاهِرِ عَلَيْهِ بِالظِّهَارِ وَقَدْ
سَمَّاهُ مُنْكَرًا مِنْ الْقَوْلِ وَزُورًا وَلَمْ يَكُنْ
هَذَا الْقَوْلُ مُحَرِّمًا مَانِعًا مِنْ وُقُوعِ تَحْرِيمِ
الْوَطْءِ بِهِ وَأَيْضًا فَإِنَّ قَوْلَهُ الْحَرَامُ لَا
يُحَرِّمُ الْحَلَالَ لَا يَصِحُّ الِاحْتِجَاجُ بِهِ
لَوُرُودِهِ مُطْلَقًا مِنْ وَجْهٍ صَحِيحٍ غَيْرِ مُتَعَلِّقٍ
بِسَبَبٍ مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدِهِمَا أَنَّ الْحَرَامَ
وَالْحَلَالَ إنَّمَا هُوَ حُكْمُ اللَّهِ تَعَالَى
بِالتَّحْرِيمِ وَالتَّحْلِيلِ وَقَدْ عَلِمْنَا حَقِيقَةَ
أَنَّ حُكْمَ اللَّهِ تَعَالَى بِالتَّحْرِيمِ فِي شَيْءٍ
وَبِالتَّحْلِيلِ فِي غَيْرِهِ لَيْسَ يَتَعَلَّقُ بِهِ حُكْمٌ
آخَرُ فِي إيجَابِ تَحْرِيمٍ أَوْ تَحْلِيلٍ إلَّا بِدَلَالَةٍ
فَهَذَا اللَّفْظُ إذَا حُمِلَ عَلَى حَقِيقَتِهِ لَمْ يَكُنْ
له تعلق بمسئلتنا لِأَنَّا كَذَلِكَ نَقُولُ إنَّ حُكْمَ
اللَّهِ تَعَالَى بِالتَّحْرِيمِ لَا يُوجِبُ تَحْرِيمَ
مُبَاحٍ بِنَفْسِ وُرُودِ الْحُكْمِ إلَّا أَنْ يَقُومَ
الدَّلِيلُ عَلَى إيجَابِ تَحْرِيمِ غَيْرِهِ مِنْ حَيْثُ
حَرَّمَ هُوَ وَفَائِدَتُهُ حِينَئِذٍ أَنَّ مَا قَدْ حَكَمَ
اللَّهُ تَعَالَى بِتَحْلِيلِهِ نَصًّا فَهُوَ مُقِرٌّ عَلَى
مَا حَكَمَ بِهِ مِنْ تَحْلِيلِهِ وَإِذَا حَكَمَ بِتَحْرِيمِ
شَيْءٍ آخَرَ لَمْ يُجِزْ الِاعْتِرَاضَ عَلَى الْمَحْكُومِ
بِتَحْلِيلِهِ بَدِيًّا بِتَحْرِيمِ غَيْرِهِ مِنْ طَرِيقِ
الْقِيَاسِ فَمَنَعَ تحريم المباح بالقياس ودل ذلك عَلَى
بُطْلَانِ قَوْلِ مَنْ يُجِيزُ النَّسْخَ بِالْقِيَاسِ هَذَا
الَّذِي تَقْتَضِيهِ حَقِيقَةُ اللَّفْظِ إنْ صَحَّ فَهَذَا
أَحَدُ الْوَجْهَيْنِ اللَّذَيْنِ ذَكَرْنَا وَالْوَجْهُ
الْآخَرُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ الْحَرَامُ لَا
يُحَرِّمُ الْحَلَالَ أَنَّ فِعْلَ الْحَرَامِ لَا يُحَرِّمُ
الْحَلَالَ فَإِنْ كَانَ هَذَا أَرَادَ فَلَا مَحَالَةَ أَنَّ
فِي اللَّفْظِ ضَمِيرًا يَجِبُ اعْتِبَارُهُ دُونَ اعْتِبَارِ
حَقِيقَةِ مَعْنَى اللَّفْظِ فَلَا يَصِحُّ لَهُ الِاحْتِجَاجُ
بِهِ مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّ الضَّمِيرَ لَيْسَ
بِمَذْكُورٍ يُعْتَبَرُ عُمُومُهُ فَيَسْقُطُ الِاحْتِجَاجُ
بِعُمُومِهِ إذْ الضَّمِيرُ لَيْسَ بِمَذْكُورٍ حَتَّى يَكُونَ
لَفْظَ عُمُومٍ فِيمَا تَحْتَهُ مِنْ الْمُسَمَّيَاتِ فَلَا
يَصِحُّ لِأَحَدٍ الِاحْتِجَاجُ بِعُمُومِ ضَمِيرٍ غَيْرِ
مَذْكُورٍ وَالْوَجْهُ الْآخَرُ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ
اعْتِبَارُ الْعُمُومِ فِيهِ مِنْ قبل أن لَا يَصِحُّ
اعْتِقَادُ الْعُمُومِ فِي مِثْلِهِ لِاتِّفَاقِ
الْمُسْلِمِينَ عَلَى إيجَابِ تَحْرِيمِ الْحَرَامِ الْحَلَالَ
وَهُوَ الْوَطْءُ بِنِكَاحٍ فَاسِدٍ وَوَطْءُ الْأَمَةِ
الْحَائِضِ وَالطَّلَاقِ الثَّلَاثِ فِي الْحَيْضِ
وَالظِّهَارِ وَالْخَمْرِ إذَا
(3/55)
خَالَطَتْ الْمَاءَ وَالرِّدَّةَ تُبْطِلُ
النِّكَاحَ وَتُحَرِّمُهَا عَلَى الزَّوْجِ وَغَيْرُ ذَلِكَ
مِنْ الْأَفْعَالِ الْمُحَرِّمَةِ لِلْحَلَالِ
فَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْحَرَامُ لَا
يُحَرِّمُ الْحَلَالَ
لَوْ وَرَدَ بِلَفْظِ عُمُومٍ لَمَا صَحَّ اعْتِقَادُ
الْعُمُومِ فِيهِ وَكَانَ مَفْهُومًا مَعَ وُرُودِهِ أَنَّهُ
أَرَادَ بَعْضَ الْأَفْعَالِ الْمُحَرِّمَةِ لَا يُحَرِّمُ
الْحَلَالَ فَيَحْتَاجُ إلَى دَلَالَةٍ فِي إثْبَاتِ حُكْمِهِ
كَسَائِرِ الْأَلْفَاظِ الْمُجْمَلَةِ وَأَيْضًا لَوْ نَصَّ
النبي صلى الله عليه وسلم على ما ادَّعَيْت مِنْ ضَمِيرِهِ
فَقَالَ إنَّ فِعْلَ الْحَرَامِ لَا يُحَرِّمُ الْحَلَالَ
لَمَا دَلَّ عَلَى مَا ذَكَرْت لِأَنَّا كَذَلِكَ نَقُولُ إنَّ
فِعْلَ الْحَرَامِ لَا يُحَرِّمُ الْحَلَالَ فَيَكُونُ ذَلِكَ
مَحْمُولًا عَلَى حقيقة وَلَا دَلَالَةَ فِيهِ أَنَّ اللَّهَ
لَا يُحَرِّمُ الْحَلَالَ عِنْدَ وُقُوعِ فِعْلٍ حَرَامٍ
فَإِنْ قِيلَ مَعْنَاهُ أَنَّ اللَّهَ لَا يُحَرِّمُ
الْحَلَالَ بِفِعْلِ الْحَرَامِ قِيلَ لَهُ فَإِذًا قَوْلُهُ
الْحَرَامُ لَا يُحَرِّمُ الْحَلَالَ إذَا كَانَ الْمُرَادُ
بِهِ مَا ذَكَرْت مَجَازٌ لَيْسَ بِحَقِيقَةٍ فَيَحْتَاجُ إلَى
دَلَالَةٍ فِي إثْبَاتِ حُكْمِهِ إذْ لَا يَجُوزُ اسْتِعْمَالُ
الْمَجَازِ إلَّا عِنْدَ قِيَامِ الدَّلَالَةِ عَلَيْهِ.
وَذَكَرَ الشَّافِعِيُّ أَنْ مُنَاظَرَةً جَرَتْ بَيْنَهُ
وَبَيْنَ بَعْضِ النَّاسِ فِيهَا أُعْجُوبَةٌ لِمَنْ
تَأَمَّلَهَا قَالَ الشَّافِعِيُّ قَالَ لِي قَائِلٌ لِمَ
قُلْت إنَّ الْحَرَامَ لَا يُحَرِّمُ الْحَلَالَ قُلْت قَالَ
اللَّهُ تَعَالَى وَلا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ
النِّساءِ وقال وَحَلائِلُ أَبْنائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ
أَصْلابِكُمْ وقال وَأُمَّهاتُ نِسائِكُمْ- إلى قوله-
اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ أَفْلَسْت تَجِدُ التَّنْزِيلَ
إنَّمَا يُحَرِّمُ مَا سُمِّيَ بِالنِّكَاحِ أَوْ الدُّخُولِ
وَالنِّكَاحِ قَالَ بَلَى قَالَ قُلْت أَفَيَجُوزُ أَنْ
يَكُونَ اللَّهُ حَرَّمَ بِالْحَلَالِ شَيْئًا وَحَرَّمَهُ
بِالْحَرَامِ وَالْحَرَامُ ضِدُّ الْحَلَالِ وَالنِّكَاحُ
مَنْدُوبٌ إلَيْهِ مَأْمُورٌ بِهِ وَحَرَّمَ الزِّنَا فَقَالَ
وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَساءَ
سَبِيلًا قَالَ أَبُو بَكْرٍ تَلَا الشَّافِعِيُّ آيَةَ
التَّحْرِيمِ بِالنِّكَاحِ وَالدُّخُولِ وَآيَةَ تَحْرِيمِ
الزِّنَا وَهَذَانِ الْحُكْمَانِ غَيْرُ مُخْتَلَفٍ فِيهِمَا
أَعْنِي إبَاحَةَ النِّكَاحِ وَالدُّخُولِ وَتَحْرِيمَ
الزِّنَا وَلَيْسَ فِي ذَلِكَ دَلَالَةٌ عَلَى مَوْضِعِ
الْخِلَافِ فِي الْمَسْأَلَةِ لِأَنَّ إبَاحَةَ النِّكَاحِ
وَالدُّخُولِ وَإِيجَابِ التَّحْرِيمِ بِهِمَا لَيْسَ فِيهِ
أَنَّ التَّحْرِيمَ لَا يَقَعُ بِغَيْرِهِمَا كَمَا لَمْ
يَنْفِ إيجَابَ التَّحْرِيمِ بِالْوَطْءِ بِمِلْكِ الْيَمِينِ
وَتَحْرِيمُ اللَّهِ تَعَالَى لِلزِّنَا لَا يُفِيدُ أَنَّ
التَّحْرِيمَ لَا يَقَعُ إلَّا بِهِ فَإِذًا لَيْسَ فِي
ظَاهِرِ تِلَاوَةِ الْآيَتَيْنِ نَفْيٌ لِتَحْرِيمِ النِّكَاحِ
بِوَطْءِ الزِّنَا لأن الآية الزِّنَا إنَّمَا فِيهَا
تَحْرِيمُ الزِّنَا وَلَيْسَ تَحْرِيمُ الزِّنَا عِبَارَةً
عَنْ نَفْيِ إيجَابِهِ لِتَحْرِيمِ النِّكَاحِ وَلَا فِي
إيجَابِ التَّحْرِيمِ بِالنِّكَاحِ وَالدُّخُولِ نَفْيٌ
لِإِيجَابِهِ بِغَيْرِهِمَا فَإِذًا لَا دَلَالَةَ فِيمَا
تَلَاهُ مِنْ الْآيَتَيْنِ عَلَى مَوْضِعِ الْخِلَافِ وَلَا
جَوَابًا لِلسَّائِلِ الَّذِي سَأَلَهُ عَنْ الدَّلَالَةِ
عَلَى صِحَّةِ قَوْلِهِ ثُمَّ قَالَ الْحَرَامُ ضِدُّ
الْحَلَالِ فَلَمَّا قَالَ لَهُ السَّائِلُ فَرِّقْ
بَيْنَهُمَا قَالَ قُلْت قَدْ فَرَّقَ اللَّهُ بَيْنَهُمَا
لِأَنَّ اللَّهَ نَدَبَ إلَى النِّكَاحِ وَحَرَّمَ الزِّنَا
(3/56)
فَجَعَلَ فَرْقَ اللَّهِ بَيْنَهُمَا فِي
التَّحْلِيلِ وَالتَّحْرِيمِ دَلِيلًا عَلَى السَّائِلِ
وَالسَّائِلُ لَمْ يُشْكِلْ عَلَيْهِ إبَاحَةُ النِّكَاحِ
وَتَحْرِيمُ الزِّنَا وَإِنَّمَا سَأَلَهُ عَنْ وَجْهِ
الدَّلَالَةِ مِنْ الْآيَةِ عَلَى مَا ذُكِرَ فَلَمْ يُبَيِّنْ
وَجْهَهَا وَاشْتَغَلَ بِأَنَّ هَذَا مُحَرَّمٌ وَهَذَا
حَلَالٌ فَإِنْ كَانَ هَذَا السَّائِلُ مِنْ عَمَى الْقَلْبِ
بِالْمَحَلِّ الَّذِي لَمْ يُعْرَفْ بَيْنَ النِّكَاحِ
وَبَيْنَ الزِّنَا فَرْقًا مِنْ وَجْهٍ مِنْ الوجوه فمثله لا
يستحق الجواب لأنه مؤوف الْعَقْلِ إذْ الْعَاقِلُ لَا يُنْزِلُ
نَفْسَهُ بِهَذِهِ الْمَنْزِلَةِ مِنْ التَّجَاهُلِ وَإِنْ
كَانَ قَدْ عَرَفَ الْفَرْقَ بَيْنَهُمَا مِنْ جِهَةِ أَنَّ
أَحَدَهُمَا مَحْظُورٌ وَالْآخَرُ مُبَاحٌ وَإِنَّمَا سَأَلَهُ
أَنْ يُفَرِّقَ بَيْنَهُمَا فِي امْتِنَاعِ جَوَازِ
اجْتِمَاعِهِمَا فِي إيجَابِ تَحْرِيمِ النِّكَاحِ فَإِنَّ
الشَّافِعِيَّ لَمْ يُجِبْهُ عَنْ ذَلِكَ وَلَمْ يَزِدْهُ
عَلَى تِلَاوَةِ الْآيَتَيْنِ فِي الْإِبَاحَةِ وَالْحَظْرِ
وَأَنَّ الْحَلَالَ ضِدُّ الْحَرَامِ إذْ لَيْسَ فِي كَوْنِ
الْحَلَالِ ضِدَّ الْحَرَامِ مَا يَمْنَعُ اجْتِمَاعَهُمَا فِي
إيجَابِ التَّحْرِيمِ أَلَا تَرَى أَنَّ الْوَطْءَ
بِالنِّكَاحِ الْفَاسِدِ هُوَ حَرَامٌ وَوَطْءُ الْحَائِضِ
حَرَامٌ بِنَصِّ التَّنْزِيلِ وَاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ
وَهُوَ ضِدُّ الْوَطْءِ الْحَلَالِ وَهُمَا مُتَسَاوِيَانِ فِي
إيجَابِ التَّحْرِيمِ وَالطَّلَاقُ فِي الْحَيْضِ مَحْظُورٌ
وَفِي الطُّهْرِ قَبْلَ الْجِمَاعِ مُبَاحٌ وَهُمَا
مُتَسَاوِيَانِ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِهِمَا مِنْ إيجَابِ
التَّحْرِيمِ فَإِنْ كَانَ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ أَنَّ
الْقِيَاسَ مُمْتَنِعٌ فِي الضِّدَّيْنِ فَوَاجِبٌ أَنْ لَا
يَجْتَمِعَا أَبَدًا فِي حُكْمٍ وَاحِدٍ وَمَعْلُومٌ أَنَّ فِي
الشَّرِيعَةِ اجْتِمَاعُ الضِّدَّيْنِ فِي حُكْمٍ وَاحِدٍ
وَأَنَّ كَوْنَهُمَا ضِدَّيْنِ لَا يَمْنَعُ اجْتِمَاعَهُمَا
فِي أَحْكَامٍ كَثِيرَةٍ أَلَا تَرَى أَنَّ وُرُودَ النَّصِّ
جَائِزٌ بِمِثْلِهِ وَمَا جَازَ وُرُودُ النَّصِّ بِهِ سَاغَ
فِيهِ الْقِيَاسُ عِنْدَ قِيَامِ الدَّلَالَةِ عَلَيْهِ
فَإِذَا لَمْ يَكُنْ مُمْتَنِعًا فِي الْعَقْلِ وَلَا فِي
الشَّرْعِ اجْتِمَاعُ الضِّدَّيْنِ فِي حُكْمٍ وَاحِدٍ
فَقَوْلُهُ إنَّ الْحَلَالَ ضِدُّ الْحَرَامِ لَيْسَ بِمُوجِبٍ
لِلْفَرْقِ بَيْنَهُمَا مِنْ حَيْثُ سَأَلَهُ السَّائِلُ
وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ غَيْرُ مُمْتَنِعٍ أَنَّ اللَّهَ
تَعَالَى قَدْ نَهَى الْمُصَلِّي عَنْ الْمَشْيِ فِي
الصَّلَاةِ وَعَنْ الِاضْطِجَاعِ فِيهَا مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ
وَالْمَشْيُ وَالِاضْطِجَاعُ ضِدَّانِ وَقَدْ اجْتَمَعَا فِي
النَّهْيِ وَلَا يُحْتَاجُ فِي ذَلِكَ إلَى الْإِكْثَارِ إذْ
لَيْسَ يَمْتَنِعُ أَحَدٌ مِنْ إجَازَتِهِ فَلَمْ يَحْصُلْ
مِنْ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ إنَّهُمَا ضِدَّانِ مَعْنًى يُوجِبُ
الْفَرْقَ بَيْنَهُمَا ثُمَّ حُكِيَ عَنْ السَّائِلِ أَنَّهُ
قَالَ أَجِدُ جِمَاعًا وَجِمَاعًا فَأَقِيسُ أَحَدَهُمَا
بِالْآخَرِ قَالَ قُلْت وَجَدْت جِمَاعًا حَلَالًا حَمِدْت
بِهِ وَوَجَدْت جِمَاعًا حَرَامًا رَجَمْت بِهِ أَفَرَأَيْته
يُشْبِهُهُ قَالَ مَا يُشْبِهُهُ فَهَلْ تُوَضِّحُهُ
بِأَكْثَرَ مِنْ هَذَا قَالَ أَبُو بَكْرٍ فَقَدْ سَلَّمَ لَهُ
السَّائِلُ أَنَّهُ مَا يُشْبِهُهُ فَإِنْ كَانَ مُرَادُهُ
أَنَّهُ لَا يُشْبِهُهُ مِنْ حَيْثُ افْتَرَقَا فَهَذَا مَا
لَا يُنَازَعُ فِيهِ وَإِنْ كَانَ أَرَادَ لَا يُشْبِهُهُ مِنْ
حَيْثُ رَامَ الْجَمْعَ بَيْنَهُمَا مِنْ جِهَةِ إيجَابِ
التَّحْرِيمِ فَإِنَّهُ لَمْ يَأْتِ بِدَلِيلٍ يَنْفِي
الشَّبَهَ بَيْنَهُمَا مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ وَلَيْسَ فِي
الدُّنْيَا
(3/57)
قِيَاسٌ إلَّا وَهُوَ تَشْبِيهٌ لِلشَّيْءِ
بِغَيْرِهِ
مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ دُونَ جَمِيعِهَا فَإِنْ كَانَ
افْتِرَاقُ الشَّيْئَيْنِ مِنْ وَجْهٍ يُوجِبُ الْفَرْقَ
بَيْنَهُمَا مِنْ سَائِرِ الْوُجُوهِ فَإِنَّ فِي ذَلِكَ
إبْطَالُ الْقِيَاسِ أَصْلًا إذْ لَيْسَ يَجُوزُ وُجُودُ
الْقِيَاسِ فِيمَا اشْتَبَهَا فِيهِ مِنْ سَائِرِ الْوُجُوهِ
فَقَدْ بَانَ أَنَّ مَا قَالَهُ الشَّافِعِيُّ وَمَا سَلَّمَهُ
لَهُ السَّائِلُ كَلَامٌ فَارِغٌ لَا مَعْنًى تَحْتَهُ فِي
حُكْمِ مَا سُئِلَ عَنْهُ ثُمَّ قَالَ لَهُ السَّائِلُ هَلْ
تُوَضِّحُهُ بِأَكْثَرَ مِنْ هَذَا قَالَ نَعَمْ أَفَتَجْعَلُ
الْحَلَالَ الَّذِي هُوَ نِعْمَةٌ قِيَاسًا عَلَى الْحَرَامِ
الَّذِي هُوَ نِقْمَةٌ وَهَذَا هُوَ تَكْرَارٌ لِلْمَعْنَى
الْأَوَّلِ بِزِيَادَةِ النِّعْمَةِ وَالنِّقْمَةِ
وَالسُّؤَالُ قَائِمٌ عَلَيْهِ لَمْ يُجِبْ بِمَا تَقْتَضِيهِ
مُطَالَبَةُ السائل ببيان وَجْهِ الدَّلَالَةِ فِي مَنْعِ
هَذَا الْقِيَاسِ وَهُوَ قَدْ جَعَلَ هَذَا الْحَرَامَ الَّذِي
هُوَ نِقْمَةٌ وَهُوَ وَطْءُ الْحَائِضِ وَالْجَارِيَةِ
الْمَجُوسِيَّةِ وَالْوَطْءُ بِالنِّكَاحِ الفاسد الْحَلَالِ
الَّذِي هُوَ نِعْمَةٌ فِي إيجَابِ التَّحْرِيمِ فَانْتَقَضَ
مَا ذَكَرَهُ وَادَّعَاهُ مِنْ غَيْرِ دَلَالَةٍ أَقَامَهَا
عَلَيْهِ وَحَكَى عَنْ السَّائِلِ أَنَّهُ قَالَ إنَّ
صَاحِبَنَا قَالَ يُوجِدُكُمْ أَنَّ الْحَرَامَ يُحَرِّمُ
الْحَلَالَ قَالَ قُلْت لَهُ أَفِيمَا اخْتَلَفْنَا فِيهِ مِنْ
النِّسَاءِ قَالَ لَا وَلَكِنْ فِي غَيْرِهِ مِنْ الصَّلَاةِ
وَالْمَشْرُوبِ وَالنِّسَاءِ قِيَاسٌ عَلَيْهِ قَالَ قُلْت
أَفَتُجِيزُ لِغَيْرِك أَنْ يَجْعَلَ الصَّلَاةَ قِيَاسًا
عَلَى النِّسَاءِ قَالَ أَمَّا فِي شَيْءٍ فَلَا قَالَ أَبُو
بَكْرٍ فَمَنَعَ الشَّافِعِيُّ بِهَذَا أَنْ يقيس تحريم الحرام
والحلال مِنْ غَيْرِ النِّسَاءِ عَلَى النِّسَاءِ مَعَ
إطْلَاقِهِ الْقَوْلَ بَدِيًّا أَنَّهُ إنَّمَا لَمْ يُجِزْ
قِيَاسَ الزِّنَا عَلَى الْوَطْءِ الْمُبَاحِ لِأَنَّهُ
حَرَامٌ وَهُوَ ضِدُّ الْحَلَالِ وَالْحَلَالُ نِعْمَةٌ
وَالْحَرَامُ نِقْمَةٌ مِنْ غَيْرِ تَقْيِيدٍ لِذَلِكَ بِأَنَّ
هَذِهِ الْقَضِيَّةَ فِي مَنْعِ الْقِيَاسِ مَقْصُورَةٌ عَلَى
النِّسَاءِ دُونَ غَيْرِهِنَّ وَإِطْلَاقُهُ الِاعْتِلَالَ
بِالْفَرْقِ الَّذِي ذُكِرَ يَلْزَمُهُ إجْرَاؤُهُ فِي سَائِرِ
مَا وُجِدَ فِيهِ فَإِذَا لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ نَاقَضَ
ثُمَّ يُقَالُ لَهُ فَإِذَا جَازَ تَحْرِيمُ الْحَرَامِ
الْحَلَالَ فِي غَيْرِ النِّسَاءِ هَلَّا جَازَ مِثْلُهُ فِي
النِّسَاءِ مَعَ كون أحدهما ضد الآخر وَكَوْنُ أَحَدِهِمَا
نِعْمَةً وَالْآخَرُ نِقْمَةً كَمَا كَانَ الْوَطْءُ بِمِلْكِ
الْيَمِينِ مِثْلَ الْوَطْءِ بِالنِّكَاحِ فِي إيجاب التحريم
مع كون ملك اليمين ضد لِلنِّكَاحِ أَلَا تَرَى أَنَّ مِلْكَ
الْيَمِينِ وَالنِّكَاحِ لَا يَجْتَمِعَانِ لِرَجُلٍ وَاحِدٍ
وَحَكَى عَنْ السَّائِلِ أَنَّهُ قَالَ لَهُ إنَّ الصَّلَاةَ
حَلَالٌ وَالْكَلَامُ فِيهَا حَرَامٌ فَإِذَا تَكَلَّمَ فِيهَا
فَسَدَتْ عَلَيْهِ صَلَاتُهُ فَقَدْ أَفْسَدَ الْحَلَالَ
بِالْحَرَامِ قَالَ قُلْت له زعمت أن الصلاة فاسدة الصلاة لَا
تَكُونُ فَاسِدَةً وَلَكِنَّ الْفَاسِدَ فِعْلُهُ لَا هِيَ
وَلَكِنْ لَا تُجْزِي عَنْك الصَّلَاةُ لِأَنَّك لَمْ تَأْتِ
بِهَا كَمَا أُمِرْت قَالَ أَبُو بَكْرٍ مَا ظَنَنْت أَنَّ
أَحَدًا مِمَّنْ يُنْتَدَبُ لِمُنَاظَرَةِ خَصْمٍ يَبْلُغُ
بِهِ الْإِفْلَاسَ مِنْ الْحُجَّاجِ إلَى أَنْ يَلْجَأَ إلَى
مِثْلِ هَذَا مَعَ سَخَافَةِ عَقْلِ السَّائِلِ وَغَبَاوَتِهِ
وَذَلِكَ لِأَنَّ أَحَدًا لَا يَمْتَنِعُ مِنْ إطْلَاقِ
الْقَوْلِ
(3/58)
بِفَسَادِ صَلَاتِهِ إذَا فَعَلَ فِيهَا
مَا يُوجِبُ بطلانها كما لَا يَمْتَنِعُ مِنْ إطْلَاقِ
الْقَوْلِ بِفَسَادِ النِّكَاحِ إذَا وُجِدَ فِيهِ مَا
يُبْطِلُهُ فَإِنْ كَانَ الَّذِي أَوْجَبَ الْفَرْقَ
بَيْنَهُمَا أَنَّهُ لَا يُطْلَقُ اسْمُ الْفَسَادِ عَلَى
الصَّلَاةِ مَعَ بُطْلَانِهَا مَعَ إطْلَاقِ النَّاسِ
كُلِّهِمْ ذَلِكَ فِيهَا فَإِنَّهُ لَا يَعُوزُ خَصْمَهُ أَنْ
يَقُولَ مِثْلَ ذَلِكَ فِي النِّكَاحِ إنِّي لَا أَقُولُ إنَّ
نِكَاحَهُ يُفْسَدُ وَالنِّكَاحُ لَا يَكُونُ فَاسِدًا
وَإِنَّمَا فِعْلُهُ وَهُوَ الزِّنَا هُوَ الْفَاسِدُ فَأَمَّا
النِّكَاحُ فَلَمْ يُفْسِدْ وَلَكِنَّ الْمَرْأَةَ بَانَتْ
مِنْهُ وَخَرَجَتْ مِنْ حِبَالِهِ فَهُمَا سَوَاءٌ مِنْ هَذَا
الْوَجْهِ ثُمَّ يُقَالُ لَهُ أَحْسَبُ أَنَّا قَدْ سَلَّمْنَا
لَك مَا ادَّعَيْت مِنْ امْتِنَاعِ اسْمِ الْفَسَادِ عَلَى
الصَّلَاةِ الَّتِي قَدْ بَطَلَتْ أَلَيْسَ السُّؤَالُ
قَائِمًا عَلَيْك في المعنى إذا سَلَّمْنَا لَك الِاسْمَ
وَهُوَ أَنْ يُقَالَ لَك مَا أَنْكَرْت أَنَّهُ لَمَّا جَازَ
خُرُوجُ الْمُتَكَلِّمِ مِنْ الصَّلَاةِ وَلَمْ تُجِزْ عَنْهُ
لِأَجْلِ الْكَلَامِ الْمَحْظُورِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ
كَذَلِكَ حُكْمُ الْمَرْأَةِ فَلَا يَبْقَى نِكَاحُهَا بَعْدَ
وَطْءِ أُمِّهَا بِزِنًا كَمَا لَمْ تَبْقَ الصَّلَاةُ بَعْدَ
الْكَلَامِ فَتَبِينُ مِنْهُ امْرَأَتُهُ وَتَخْرُجُ مِنْ
حِبَالِهِ كَمَا خَرَجَ مِنْ الصَّلَاةِ وَيَلْزَمُ
الشَّافِعِيَّ عَلَى هَذَا أَنْ لَا يُطْلِقَ فِي شَيْءٍ مِنْ
الْبُيُوعِ أَنَّهُ فَاسِدٌ وَكَذَلِكَ سَائِرُ الْعُقُودِ
وَإِنَّمَا يُقَالُ فِيهَا إنَّهَا غَيْرُ مُجْزِيَةٍ وَلَا
مُوجِبَةٍ لِلْمِلْكِ وَهَذَا إنَّمَا هُوَ مَنْعٌ
لِلْعِبَارَةِ وَإِنَّمَا الْكَلَامُ عَلَى الْمَعَانِي لَا
عَلَى الْعِبَارَاتِ وَالْأَسَامِي وَذَكَرَ الشَّافِعِيُّ
عَنْ سَائِلِهِ أَنَّهُ قَالَ إنَّ صَاحِبَنَا قَالَ الْمَاءُ
حَلَالٌ وَالْخَمْرُ حَرَامٌ فَإِذَا صُبَّ الْمَاءُ فِي
الْخَمْرِ حُرِّمَ الْمَاءُ قَالَ قُلْت لَهُ أَرَأَيْت إنْ
صَبَبْت الْمَاءَ فِي الْخَمْرِ أَمَّا يَكُونُ الْمَاءُ
الْحَلَالُ مُسْتَهْلَكًا فِي الْحَرَامِ قَالَ بَلَى قُلْت
أَتَجِدُ الْمَرْأَةَ مُحَرَّمَةً عَلَى كُلِّ أَحَدٍ كَمَا
تَجِدُ الْخَمْرَ مُحَرَّمَةً عَلَى كُلِّ أَحَدٍ قَالَ لَا
قُلْت أَتَجِدُ الْمَرْأَةَ وَبِنْتَهَا مُخْتَلِطَتَيْنِ
كَاخْتِلَاطِ الْمَاءِ وَالْخَمْرِ قَالَ
لَا قُلْت أَفَتَجِدُ الْقَلِيلَ مِنْ الْخَمْرِ إذَا صُبَّ
فِي كَثِيرِ الْمَاءِ نَجِسَ قَالَ لَا قُلْت أَفَتَجِدُ
قَلِيلَ الزِّنَا وَالْقُبْلَةَ وَاللَّمْسَ لِلشَّهْوَةِ لَا
يَحْرُمُ وَيَحْرُمُ كَثِيرُهُ قَالَ لَا قَالَ فَلَا يُشْبِهُ
أَمْرُ النِّسَاءِ الْخَمْرَ وَالْمَاءَ قَالَ أَبُو بَكْرٍ
وَهَذَا أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ الْفُرُوقِ وَاَلَّذِي ذُكِرَ
فِي تَحْرِيمِ الْخَمْرِ لِلْمَاءِ يُحْكَى عَنْ الشَّافِعِيِّ
أَنَّهُ احْتَجَّ بِهِ عَلَى يَحْيَى بْنِ مَعِينٍ حِينَ قَالَ
الْحَرَامُ لَا يُحَرِّمُ الْحَلَالَ وَهُوَ إلْزَامٌ صَحِيحٌ
عَلَى مَنْ يَنْفِي التَّحْرِيمَ لِهَذِهِ الْعِلَّةِ
لِوُجُودِهَا فِيهِ إذْ لَمْ تَكُنْ الْعِلَّةُ فِي مَنْعِ
تَحْرِيمِ الْحَرَامِ الْحَلَالَ أَنَّهُمَا غَيْرُ مختلطين
وإن قيل الزِّنَا يَحْرُمُ وَإِنَّمَا كَانَتْ عِلَّتُهُ أَنَّ
الْحَرَامَ ضِدُّ الْحَلَالِ وَأَنَّ الْحَلَالَ نِعْمَةٌ
وَالْحَرَامُ نِقْمَةٌ وَلَمْ نَرَهُ احْتَجَّ بِغَيْرِهِ فِي
جَمِيعِ مَا نَاظَرَ بِهِ السَّائِلُ وَالْفُرُوقُ الَّتِي
ذَكَرَهَا إنَّمَا هِيَ فُرُوقٌ مِنْ وُجُوهٍ أُخَرَ تَزِيدُ
عِلَّتُهُ انْتِقَاضًا لَوُجُودِهَا مَعَ عَدَمِ الْحُكْمِ
وَعَلَى أَنَّهُ إنْ كَانَ التَّحْرِيمُ مَقْصُورًا عَلَى
الِاخْتِلَاطِ وَتَعَذَّرَ تَمْيِيزُ الْمَحْظُورِ مِنْ
الْمُبَاحِ فَيَنْبَغِي أَنْ
(3/59)
لَا يَحْرُمَ الْوَطْءُ الْمُبَاحُ
لِعَدَمِ الِاخْتِلَاطِ وَكَذَلِكَ الْوَطْءُ بِالنِّكَاحِ
الْفَاسِدِ وَسَائِرِ ضُرُوبِ الْوَطْءِ الَّذِي عُلِّقَ بِهِ
التَّحْرِيمُ إذْ كَانَتْ الْمَرْأَةُ مُتَمَيِّزَةً عن أمها
فَهُمَا غَيْرُ مُخْتَلِطَتَيْنِ فَإِذَا جَازَ أَنْ يَقَعَ
التَّحْرِيمُ بِهَذِهِ الْوُجُوهِ مَعَ عَدَمِ الِاخْتِلَاطِ
فَمَا أُنْكِرَ مِثْلُهُ فِي الزِّنَا وَقَدْ بَيَّنَّا فِي
صَدْرِ الْمَسْأَلَةِ دَلَالَةَ قَوْله تَعَالَى وَلا
تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ وقوله تعالى
اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ عَلَى وُقُوعِ التَّحْرِيمِ
بِالزِّنَا فَلَمْ يَحْصُلْ مِنْ كَلَامِ الشَّافِعِيِّ
دَلَالَةٌ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَلَا شُبْهَةَ عَلَى مَا
سُئِلَ عَنْهُ ثُمَّ حَكَى الشَّافِعِيُّ عَنْ سَائِلِهِ هَذَا
لَمَّا فَرَّقَ لَهُ بَيْنَ الْمَاءِ وَالْخَمْرِ وَبَيْنَ
النِّسَاءِ بِمَا ذَكَرَ أنه لا يشبهه أَمْرُ النِّسَاءِ
الْخَمْرَ وَالْمَاءَ قَالَ الشَّافِعِيُّ فَقُلْت لَهُ
وَكَيْفَ قَبِلْت هَذَا مِنْهُ فَقَالَ مَا بَيَّنَ لَنَا
أَحَدٌ بَيَانَك لَنَا وَلَوْ عَلِمَ صَاحِبُنَا بِهِ
لَظَنَنْت أَنَّهُ لَا يُقِيمُ عَلَى قَوْلِهِ وَلَكِنْ غَفَلَ
وَضَعُفَ عَنْ كَلَامِهِ قَالَ فَرَجَعَ عَنْ قَوْلِهِمْ
وَقَالَ الْحَقُّ عِنْدِي فِي قَوْلِكُمْ وَلَمْ يَصْنَعْ
صَاحِبُنَا شَيْئًا وَلَا نَدْرِي مَنْ كَانَ هَذَا السَّائِلُ
وَلَا مَنْ صَاحِبُهُمْ الَّذِي قَالَ لَوْ عَلِمَ صَاحِبُنَا
بِهَذِهِ الْفُرُوقِ لَظَنَّ أَنَّهُ لَا يُقِيمُ عَلَى
قَوْلِهِ وَقَدْ بَانَ عَمَى قَلْبِ هَذَا السَّائِلِ
بِتَسْلِيمِهِ لِلشَّافِعِيِّ جَمِيعَ مَا ادَّعَاهُ مِنْ
غَيْرِ مُطَالَبَةٍ لَهُ بِوَجْهِ الدَّلَالَةِ عَلَى
الْمَسْأَلَةِ فِيمَا ذَكَرَ وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ رَجُلًا
عَامِّيًّا لَمْ يَرْتَضِ بِشَيْءٍ مِنْ الْفِقْهِ إلَّا
أَنَّهُ قَدْ انْتَظَمَ بِذَلِكَ شَيْئَيْنِ أَحَدُهُمَا
الْجَهْلُ وَالْغَبَاوَةُ بِمَا وَقَفْنَا عَلَيْهِ مِنْ
مُنَاظَرَتِهِ وَتَسْلِيمِهِ مَا لَا يَجُوزُ تَسْلِيمُهُ
وَمُطَالَبَتُهُ لِلْمَسْئُولِ بِالْفُرُوقِ الَّتِي لَا
تُوجِبُ فَرْقًا فِي مَعَانِي الْعِلَلِ وَالْمُقَايَسَاتِ
ثُمَّ انْتِقَالُهُ بِمِثْلِ ذَلِكَ إلَى مَذْهَبِهِ عَلَى مَا
زَعَمَ وَتَرْكُهُ لِقَوْلِ أَصْحَابِهِ وَالْآخَرُ قِلَّةُ
الْعَقْلِ وَذَلِكَ أَنَّهُ ظَنَّ أَنَّ صَاحِبَهُ لَوْ سَمِعَ
بِمِثْلِ ذَلِكَ رَجَعَ عَنْ قَوْلِهِ فَقَضَى بِالظَّنِّ
عَلَى غَيْرِهِ فِيمَا لَا يَعْلَمُ حَقِيقَتَهُ وَسُرُورُ
الشَّافِعِيِّ بِمُنَاظَرَةِ مِثْلِهِ وَانْتِقَالُهُ إلَى
مَذْهَبِهِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمَا كَانَا مُتَقَارَبَيْنِ
فِي الْمُنَاظَرَةِ وَإِلَّا فَلَوْ كَانَ عِنْدَهُ فِي
مَعْنَى الْمُبْتَدِئِ وَالْمُغَفَّلِ الْعَامِّيِّ لَمَا
أَثْبَتَ مُنَاظَرَتَهُ إيَّاهُ فِي كِتَابِهِ وَلَوْ كُلِّمَ
بذلك المبتدؤن مِنْ أَحْدَاثِ أَصْحَابِنَا لَمَا خَفِيَ
عَلَيْهِمْ عَوَارُ هَذَا الْحِجَاجِ وَضَعْفُ السَّائِلِ
وَالْمَسْئُولِ فِيهِ وَقَدْ ذَكَرَ الشَّافِعِيُّ أَنَّهُ
قَالَ لِمُنَاظِرِهِ جَعَلْت الْفُرْقَةَ إلَى الْمَرْأَةِ
بِتَقْبِيلِهَا ابْنَ زَوْجِهَا وَاَللَّهُ لَمْ يَجْعَل
الْفُرْقَةَ إلَيْهَا قَالَ فَقَالَ فَأَنْتَ تَزْعُمُ
أَنَّهَا تَحْرُمُ عَلَى زَوْجِهَا إذَا ارْتَدَّتْ قَالَ
قُلْت وَأَقُولُ إنْ رَجَعَتْ وَهِيَ فِي الْعِدَّةِ فَهُمَا
عَلَى النِّكَاح أَفَتَزْعُمْ أَنْتَ فِي الَّتِي تُقَبِّلُ
ابْنَ زَوْجِهَا مِثْلَهُ قَالَ لَا قَالَ أَبُو بَكْرٍ
فَأَنْكَرَ عَلَى خَصْمِهِ وُقُوعَ التَّحْرِيمِ مِنْ قِبَلِ
الْمَرْأَةِ ثُمَّ قَالَ هُوَ بِهَا وَجَعَلَ إلَيْهَا
الرَّجْعَةَ كَمَا جَعَلَ إلَيْهَا التَّحْرِيمَ ثُمَّ قَالَ
الشَّافِعِيُّ فَأَقُولُ إنْ مَضَتْ الْعِدَّةُ فَرَجَعَتْ
إلَى الْإِسْلَامِ كَانَ لِزَوْجِهَا أَنْ
(3/60)
يَنْكِحَهَا أَفَتَزْعُمُ فِي الَّتِي
تُقَبِّلُ ابْنَ زَوْجِهَا مِثْلَهُ قَالَ وَالْمُرْتَدَّةُ
تَحْرُمُ عَلَى النَّاسِ كُلِّهِمْ حَتَّى تُسْلِمَ
وَتَقْبِيلُ ابْنِ الزَّوْجِ لَيْسَ كَذَلِكَ قَالَ أَبُو
بَكْرٍ فَنَاقَضَ عَلَى أَصْلِهِ فِيمَا أَنْكَرَهُ عَلَى
خَصْمِهِ ثُمَّ أَخَذَ فِي ذِكْرِ الْفُرُوقِ عَلَى النَّحْوِ
الَّذِي مَضَى مِنْ كَلَامِهِ وَلَمْ أَذْكُرْ ذَلِكَ لِأَنَّ
فِي مِثْلِهِ شُبْهَةً عَلَى مِنْ ارْتَاضَ بِشَيْءٍ مِنْ
النَّظَرِ وَلَكِنْ لِأُبَيِّنَ مَقَادِيرَ عُلُومِ مُخَالِفِي
أَصْحَابِنَا وَمَحَلَّهُمْ مِنْ النظر وأما ما حكى عُثْمَانَ
الْبَتِّيِّ فِي فَرْقِهِ بَيْنَ الزِّنَا بِأُمِّ الْمَرْأَةِ
بَعْدَ التَّزْوِيجِ وَقَبْلَهُ فَلَا مَعْنَى لَهُ لِأَنَّ
مَا يُوجِبُ تَحْرِيمًا مُؤَبَّدًا لَا يَخْتَلِفُ حكمه فِي
إيجَابِهِ ذَلِكَ بَعْدَ التَّزْوِيجِ وَقَبْلَهُ وَالدَّلِيلُ
عَلَيْهِ أَنَّ الرَّضَاعَ لَمَّا كَانَ مُوجِبًا
لِلتَّحْرِيمِ الْمُؤَبَّدِ لَمْ يَخْتَلِفْ حُكْمُهُ فِي
إيجَابِهِ ذَلِكَ قبل التزويج وبعده وإنما قَالَ أَصْحَابُنَا
إنَّ فِعْلَ ذَلِكَ بِالرَّجُلِ لَا يحرم عليه أمه ولابنته
مِنْ قِبَلِ أَنَّ هَذِهِ الْحُرْمَةَ إنَّمَا هِيَ
مُتَعَلِّقَةٌ بِمَنْ يَصِحُّ عَقْدُ النِّكَاحِ عَلَيْهَا
وَيَجُوزُ أَنْ تُمَلَّكَ بِهِ فَيَكُونُ الْوَطْءُ
الْمُحَرَّمُ فِيهَا بِمَنْزِلَةِ الْوَطْءِ الْحَلَالِ فِي
إيجَابِ التَّحْرِيمِ فَلَمَّا لَمْ يَصِحَّ وُجُودُ ذَلِكَ
فِي الرَّجُلِ عَلَى الْوَجْهِ الْمُبَاحِ وَلَا يَجُوزُ أَنْ
يَمْلِكَ ذَلِكَ بِالْعَقْدِ مِنْهُ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِهِ
حُكْمُ التَّحْرِيمِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ لَمَسَ
الرَّجُلُ بِشَهْوَةٍ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ حُكْمٌ فِي إيجَابِ
تَحْرِيمِ الْأُمِّ وَالْبِنْتِ وَاللَّمْسُ بِمَنْزِلَةِ
الْوَطْءِ فِي الْمَرْأَةِ عِنْدَ الْجَمِيعِ فِيمَا
يَتَعَلَّقُ بِهِ حُكْمُ التَّحْرِيمِ فَلَمَّا اتَّفَقَ
الْجَمِيعُ عَلَى أَنَّ اللَّمْسَ لَا حُكْمَ لَهُ فِي
الرَّجُلِ فِي حُكْمِ تَحْرِيمِ الأم والبنت كان ذلك مَا
سِوَاهُ مِنْ الْوَطْءِ وَفِي ذَلِكَ الدَّلَالَةُ مِنْ
وَجْهَيْنِ عَلَى صِحَّةِ مَا ذَكَرْنَا أَحَدُهُمَا أَنَّ
لَمْسَ الرَّجُلِ لِلرَّجُلِ لِشَهْوَةٍ لَمَّا لَمْ يَكُنْ
مِمَّا يَصِحُّ أَنْ يُمْلَكَ بِعَقْدِ النِّكَاحِ وَلَمْ
يَتَعَلَّقْ بِهِ تَحْرِيمٌ كَانَ كَذَلِكَ حُكْمُ الْوَطْءِ
إذْ لَا يَصِحُّ أَنْ يَمْلِكَ بِعَقْدِ النِّكَاحِ
وَالثَّانِي أَنَّ اللَّمْسَ عِنْدَ الْجَمِيعِ فِي
الْمَرْأَةِ حُكْمُهُ حُكْمُ الْوَطْءِ أَلَا تَرَى أَنَّ
الْجَمِيعَ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ لَمْسَ الْمَرْأَةِ
الزَّوْجَةَ يُحَرِّمُ بِنْتَهَا كَمَا يُحَرِّمُهَا الْوَطْءُ
وَكَذَلِكَ لَمْسُ الْجَارِيَةِ بِمِلْكِ الْيَمِينِ يُوجِبُ
مِنْ التَّحْرِيمِ مَا يُوجِبُهُ الْوَطْءُ وَكَذَلِكَ مَنْ
حُرِّمَ بِوَطْءِ الزِّنَا حرم باللمس فلم لَمْ يَكُنْ لَمْسُ
الرَّجُلِ مُوجِبًا لِلتَّحْرِيمِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ
كَذَلِكَ حُكْمُ وَطْئِهِ لِاسْتِوَائِهِمَا فِي الْمَرْأَةِ
قَالَ أَبُو بَكْرٍ وَاتَّفَقَ أَصْحَابُنَا وَالثَّوْرِيُّ
وَمَالِكٌ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَاللَّيْثُ وَالشَّافِعِيُّ
أَنَّ اللَّمْسَ لِشَهْوَةٍ بِمَنْزِلَةِ الْجِمَاعِ فِي
تَحْرِيمِ أُمِّ الْمَرْأَةِ وَبِنْتِهَا فَكُلُّ مَنْ حُرِّمَ
بِالْوَطْءِ الْحَرَامِ أَوْجَبَهُ بِاللَّمْسِ إذَا كَانَ
لِشَهْوَةٍ وَمَنْ لَمْ يُوجِبْهُ بِالْوَطْءِ الْحَرَامِ لَمْ
يُوجِبْهُ بِاللَّمْسِ لِشَهْوَةٍ وَلَا خِلَافَ أَنَّ
اللَّمْسَ الْمُبَاحَ فِي الزَّوْجَةِ وَمِلْكَ الْيَمِينِ
يُوجِبُ تَحْرِيمَ الْأُمِّ وَالْبِنْتِ إلَّا شَيْئًا يُحْكَى
عَنْ ابْنِ شُبْرُمَةَ أَنَّهُ قَالَ لَا تَحْرُمُ بِاللَّمْسِ
وَإِنَّمَا تَحْرُمُ بِالْوَطْءِ الَّذِي يُوجِبُ مِثْلُهُ
الْحَدَّ وَهُوَ قَوْلٌ شَاذٌّ قَدْ سَبَقَهُ
(3/61)
الْإِجْمَاعُ بِخِلَافِهِ وَاخْتَلَفَ
الْفُقَهَاءُ فِي النَّظَرِ هَلْ يَحْرُمُ أَمْ لَا فَقَالَ
أَصْحَابُنَا جَمِيعًا إذَا نَظَرَ إلَى فَرْجِهَا لِشَهْوَةٍ
كَانَ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ اللَّمْسِ فِي إيجَابِ التَّحْرِيمِ
وَلَا يُحَرِّمُ النَّظَرُ لِلشَّهْوَةِ إلَى غَيْرِ الْفَرْجِ
وَقَالَ الثَّوْرِيُّ إذَا نَظَرَ إلَى فَرْجِهَا مُتَعَمِّدًا
حُرِّمَتْ عَلَيْهِ أُمُّهَا وابنتها ولم يشرط أَنْ يَكُونَ
لِشَهْوَةٍ وَقَالَ مَالِكٌ إذَا نَظَرَ إلى شعر جاريته تلذذا
أَوْ صَدْرِهَا أَوْ سَاقِهَا أَوْ شَيْءٍ مِنْ مَحَاسِنِهَا
تَلَذُّذًا حُرِّمَتْ عَلَيْهِ أُمُّهَا وَابْنَتُهَا وَقَالَ
ابْنُ أَبِي لَيْلَى وَالشَّافِعِيُّ النَّظَرُ لَا يُحَرِّمُ
ما لم يلبس
قَالَ أَبُو بَكْرٍ رَوَى جَرِيرُ بْنُ عَبْدِ الْحَمِيدِ عَنْ
حَجَّاجٍ عَنْ أَبِي هَانِئٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم مَنْ نَظَرَ إلَى فَرْجِ
امْرَأَةٍ حَرُمَتْ عَلَيْهِ أُمُّهَا وَابْنَتُهَا
وَرَوَى حَمَّادٌ عَنْ إبْرَاهِيمَ عَنْ عَلْقَمَةَ عَنْ
عَبْدِ اللَّهِ قَالَ لَا يَنْظُرُ اللَّهُ إلَى رَجُلٍ نَظَرَ
إلَى فَرْجِ امْرَأَةٍ وَابْنَتِهَا وَرَوَى الْأَوْزَاعِيُّ
عَنْ مَكْحُولٍ أَنَّ عُمَرَ جَرَّدَ جَارِيَةً لَهُ
فَسَأَلَهُ إيَّاهَا بَعْضُ وَلَدِهِ فَقَالَ إنَّهَا لَا
تَحِلُّ لَك وَرَوَى حَجَّاجٌ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ
أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّهُ جَرَّدَ جَارِيَةً ثُمَّ
سَأَلَهُ إيَّاهَا بَعْضُ وَلَدِهِ فَقَالَ إنَّهَا لَا
تَحِلُّ لَك وَرَوَى الْمُثَنَّى عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ
عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ أَيُّمَا رَجُلٍ جَرَّدَ جَارِيَةً
لَهُ فَنَظَرَ إلَيْهِ مِنْهَا يُرِيدُ ذَلِكَ الْأَمْرَ
فَإِنَّهَا لَا تَحِلُّ لَابْنِهِ وَعَنْ الشَّعْبِيِّ قَالَ
كَتَبَ مَسْرُوقٌ إلَى أَهْلِهِ قَالَ اُنْظُرُوا جَارِيَتِي
فُلَانَةَ فَبِيعُوهَا فَإِنِّي لَمْ أُصِبْ مِنْهَا إلَّا مَا
حَرَّمَهَا عَلَيَّ وَلَدِي مِنْ اللَّمْسِ وَالنَّظَرِ وَهُوَ
قَوْلُ الْحَسَنِ وَالْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ وَمُجَاهِدٍ
وَإِبْرَاهِيمَ فَاتَّفَقَ هَؤُلَاءِ السَّلَفُ عَلَى إيجَابِ
التَّحْرِيمِ بِالنَّظَرِ وَاللَّمْسِ وَإِنَّمَا خَصَّ
أَصْحَابُنَا النَّظَرَ إلَى الْفَرْجِ فِي إيجَابِ
التَّحْرِيمِ دُونَ النَّظَرِ إلَى سَائِرِ الْبَدَنِ لِمَا
رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
أَنَّهُ قَالَ مَنْ نَظَرَ إلَى فَرْجِ امْرَأَةٍ لَمْ تَحِلَّ
لَهُ أُمُّهَا وَلَا ابْنَتُهَا
فَخَصَّ النَّظَرَ إلَى الْفَرْجِ بِإِيجَابِ التَّحْرِيمِ
دُونَ النَّظَرِ إلَى سَائِرِ الْبَدَنِ وَكَذَلِكَ رُوِيَ
عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عُمَرَ وَلَمْ يُرْوَ عَنْ
غَيْرِهِمَا مِنْ السَّلَفِ خِلَافُهُ فَثَبَتَ بِذَلِكَ أَنَّ
النَّظَرَ إلَى الْفَرْجِ مَخْصُوصٌ بِإِيجَابِ التَّحْرِيمِ
دُونَ غَيْرِهِ وَكَانَ الْقِيَاسُ أَنْ لَا يقع تحريم
بِالنَّظَرِ إلَى غَيْرِهِ مِنْ سَائِرِ الْبَدَنِ إلَّا
أَنَّهُمْ تَرَكُوا الْقِيَاسَ فِيهِ لِلْأَثَرِ وَاتِّفَاقِ
السَّلَفِ وَلَمْ يُوجِبُوهُ بِالنَّظَرِ إلَى غَيْرِ
الْفَرْجِ وَإِنْ كَانَ لِشَهْوَةٍ عَلَى مَا يَقْتَضِيهِ
الْقِيَاسُ أَلَا تَرَى أَنَّ النَّظَرَ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ
حُكْمٌ فِي سَائِرِ الْأُصُولِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ
نَظَرَ وَهُوَ مُحْرِمٌ أَوْ صَائِمٌ فَأَمْنَى لَا يَفْسُدُ
صَوْمُهُ وَلَوْ كَانَ الْإِنْزَالُ عَنْ لَمْسٍ فَسَدَ
صَوْمُهُ وَلَزِمَهُ دَمٌ لِإِحْرَامِهِ فَعَلِمْت أَنَّ
النَّظَرَ مِنْ غَيْرِ لَمْسٍ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ حكم فلذلك
قلنا إن القياس لَا يُحَرِّمَ النَّظَرُ شَيْئًا إلَّا
أَنَّهُمْ تَرَكُوا الْقِيَاسَ فِي النَّظَرِ إلَى الْفَرْجِ
خَاصَّةً لِمَا ذكرنا يحتج لِمَذْهَبِ ابْنِ شُبْرُمَةَ
بِظَاهِرِ قَوْله تَعَالَى فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ
(3/62)
بِهِنَّ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ
وَاللَّمْسُ لَيْسَ بِدُخُولٍ فَلَا يُحَرِّمُ وَالْجَوَابُ
عَنْهُ أَنَّهُ لَيْسَ بِمُمْتَنِعٍ أَنْ يُرِيدَ الدُّخُولُ
أَوْ مَا يَقُومُ مَقَامَهُ كَمَا قَالَ تَعَالَى فَإِنْ
طَلَّقَها فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يَتَراجَعا فَذَكَرَ
الطَّلَاقَ وَمَعْنَاهُ الطَّلَاقُ أَوْ مَا يَقُومُ مَقَامَهُ
وَيَكُونُ دَلَالَتُهُ مَا ذَكَرْنَا مِنْ قَوْلِ السَّلَفِ
وَاتِّفَاقِهِمْ مِنْ غَيْرِ مُخَالِفٍ لَهُمْ عَلَى إيجَابِ
التَّحْرِيمِ بِاللَّمْسِ وَلَا خِلَافَ بَيْنَ أَهْلِ
الْعِلْمِ أَنَّ عَقْدَ النِّكَاحِ عَلَى امْرَأَةٍ يُوجِبُ
تَحْرِيمَهَا عَلَى الِابْنِ وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ الْحَسَنِ
وَمُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ وَإِبْرَاهِيمَ وَعَطَاءٍ وَسَعِيدِ
بْنِ الْمُسَيِّبِ وقَوْله تَعَالَى إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ
فَإِنَّهُ رُوِيَ عَنْ عَطَاءٍ إلَّا مَا كَانَ فِي
الْجَاهِلِيَّةِ قَالَ أَبُو بَكْرٍ يَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدَ
إلَّا مَا كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَإِنَّكُمْ لَا
تُؤَاخَذُونَ بِهِ وَيُحْتَمَلُ إلَّا مَا قَدْ سَلَفَ
فَإِنَّكُمْ مُقِرُّونَ عَلَيْهِ وَتَأَوَّلَهُ بَعْضُهُمْ
عَلَى ذَلِكَ وَهَذَا خَطَأٌ لِأَنَّهُ لَمْ يُرْوَ أَنَّ
النبي صلى الله عليه وسلم أقر أحدا عَلَى عَقْدِ نِكَاحِ
امْرَأَةِ أَبِيهِ وَإِنْ كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ
وَقَدْ رَوَى الْبَرَاءُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ أَبَا بُرْدَةَ بْنَ نِيَارٍ إلَى
رَجُلِ عَرَّسَ بِامْرَأَةِ أَبِيهِ وَفِي بَعْضِ الْأَلْفَاظِ
نَكَحَ امْرَأَةَ أَبِيهِ أَنْ يَقْتُلَهُ وَيَأْخُذَ مَالَهُ
وَقَدْ كَانَ نِكَاحُ امْرَأَةِ الْأَبِ مُسْتَفِيضًا شَائِعًا
فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَلَوْ كَانَ النبي صلى الله عليه وسلم
أقر أحدا مِنْهُمْ عَلَى ذَلِكَ النِّكَاحِ لَنُقِلَ
وَاسْتَفَاضَ فَلَمَّا لَمْ يُنْقَلْ ذَلِكَ دَلَّ عَلَى أَنَّ
الْمُرَادَ بقوله إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ فَإِنَّكُمْ غَيْرُ
مُؤَاخَذِينَ بِهِ وَذَلِكَ لِأَنَّهُمْ قَبْلَ وُرُودِ
الشَّرْعِ بِخِلَافِ مَا هُمْ عَلَيْهِ كَانُوا مُقِرِّينَ
عَلَى أَحْكَامِهِمْ فَأَعْلَمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى
أَنَّهُمْ غَيْرُ مُؤَاخَذِينَ فِيمَا لَمْ تَقُمْ عِنْدَهُمْ
حُجَّةُ السَّمْعِ بِتَرْكِهِ فَلَا احْتِمَالَ فِي قَوْلِهِ
إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ إلَّا مَا
ذَكَرْنَا وقَوْله تعالى إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ عِنْدَ ذِكْرِ
الْجَمْعِ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ يَحْتَمِلُ غَيْرَ ما ذكر
هاهنا وَسَنَذْكُرُهُ إذَا انْتَهَيْنَا إلَيْهِ إنْ شَاءَ
اللَّهُ تعالى ومعنى إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ هاهنا اسْتِثْنَاءٌ
مُنْقَطِعٌ كَقَوْلِهِ لَا تَلْقَ فُلَانًا إلَّا مَا لَقِيت
يَعْنِي لَكِنْ مَا لَقِيت فَلَا لَوْمَ عَلَيْك فِيهِ
وَقَوْلُهُ إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً هَذِهِ الْهَاءُ كِنَايَةٌ
عَنْ النِّكَاحِ وَقَدْ قِيلَ فِيهِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا
النِّكَاحُ بَعْدَ النَّهْيِ فَاحِشَةٌ ومعناه هو فاحشة فكان
فِي هَذَا الْمَوْضِعِ مُلْغَاةٌ وَهُوَ مَوْجُودٌ فِي
كَلَامِهِمْ قَالَ الشَّاعِرُ:
فَإِنَّك لَوْ رَأَيْت دِيَارَ قَوْمٍ ... وَجِيرَانٍ لَنَا
كَانُوا كِرَامِ
فَأَدْخَلَ كَانَ وَهِيَ مُلْغَاةٌ غَيْرُ مُعْتَدٍّ بِهَا
لِأَنَّ الْقَوَافِيَ مَجْرُورَةٌ وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى
وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً وَاَللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ
وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدَ بِهِ أَنَّ مَا كَانَ مِنْهُ فِي
الْجَاهِلِيَّةِ فَهُوَ فَاحِشَةٌ فَلَا تَفْعَلُوا مِثْلَهُ
وَهَذَا لَا يَكُونُ إلَّا بَعْدَ قِيَامِ حُجَّةِ السَّمْعِ
عَلَيْهِمْ بِتَحْرِيمِهِ وَمَنْ قَالَ هَذَا
(3/63)
وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ
النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ كِتَابَ اللَّهِ
عَلَيْكُمْ وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ
تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ
فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ
أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا
تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ إِنَّ اللَّهَ
كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (24)
جَعَلَ قَوْله تَعَالَى إِلَّا مَا قَدْ
سَلَفَ فَإِنَّهُ يَسْلَمُ مِنْهُ بِالْإِقْلَاعِ عَنْهُ
وَالتَّوْبَةِ مِنْهُ قَالَ أَبُو بَكْرٍ وَالْأَوْلَى
حَمْلُهُ عَلَى أَنَّهُ فَاحِشَةٌ بَعْدَ نُزُولِ التَّحْرِيمِ
لِأَنَّ ذَلِكَ مُرَادٌ عِنْدَ الْجَمِيعِ لَا مَحَالَةَ
وَلَمْ تَقُمْ الدَّلَالَةُ عَلَى أَنَّ حُجَّةَ السَّمْعِ
قَدْ كَانَتْ قَامَتْ عَلَيْهِمْ بِتَحْرِيمِهِ مِنْ جِهَةِ
الرُّسُلِ الْمُتَقَدِّمِينَ فَيَسْتَحِقُّونَ اللَّوْمَ
عَلَيْهِ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْله تَعَالَى إِلَّا ما قَدْ
سَلَفَ وَظَاهِرُهُ يَقْتَضِي نَفْيَ الْمُؤَاخَذَةِ بِمَا
سَلَفَ مِنْهُ فَإِنْ قِيلَ هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَنْ
عَقَدَ نِكَاحًا عَلَى امْرَأَةِ أَبِيهِ وَوَطِئَهَا كَانَ
وَطْؤُهُ زِنًا مُوجِبًا لِلْحَدِّ لِأَنَّهُ سَمَّاهَا
فَاحِشَةً وقال الله تعالى وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى إِنَّهُ
كانَ فاحِشَةً وَساءَ سَبِيلًا قِيلَ لَهُ الْفَاحِشَةُ لَفْظٌ
مُشْتَرَكٌ يَقَعُ عَلَى كَثِيرٍ مِنْ الْمَحْظُورَاتِ وَقَدْ
رُوِيَ فِي قَوْله تعالى إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ
مُبَيِّنَةٍ أَنَّ خُرُوجَهَا مِنْ بَيْتِهِ فَاحِشَةٌ
وَرُوِيَ أَنَّ الْفَاحِشَةَ فِي ذَلِكَ أَنْ تَسْتَطِيلَ
بِلِسَانِهَا عَلَى أَهْلِ زَوْجِهَا وَقِيلَ فِيهَا إنَّهَا
الزِّنَا فَالْفَاحِشَةُ اسْمٌ يَتَنَاوَلُ مُوَاقَعَةَ
الْمَحْظُورِ وَلَيْسَ يَخْتَصُّ بِالزِّنَا دُونَ غَيْرِهِ
حَتَّى إذَا أُطْلِقَ فِيهِ اسْمُ الْفَاحِشَةِ كَانَ زِنًا
وَمَا كَانَ مِنْ وَطْءٍ عَنْ عَقْدٍ فَاسِدٍ فَإِنَّهُ لَا
يُسَمَّى زِنًا لِأَنَّ الْمَجُوسَ وَسَائِرَ الْمُشْرِكِينَ
الْمَوْلُودِينَ عَلَى مُنَاكَحَاتِهِمْ الَّتِي هِيَ
فَاسِدَةٌ فِي الْإِسْلَامِ لَا يُسَمَّوْنَ أَوْلَادَ زِنًا
وَالزِّنَا اسْمٌ لَوَطْءٍ فِي غَيْرِ مِلْكٍ وَلَا نِكَاحٍ
وَلَا شُبْهَةٍ عَنْ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فَأَمَّا إذَا صَدَرَ
عَنْ عَقْدٍ فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يُسَمَّى زِنًا سَوَاءٌ كَانَ
الْعَقْدُ فَاسِدًا أَوْ صَحِيحًا وقَوْله تَعَالَى وَمَقْتاً
وَساءَ سَبِيلًا يَعْنِي أَنَّهُ مِمَّا يُبْغِضُهُ اللَّهُ
تَعَالَى وَيُبْغِضُهُ الْمُسْلِمُونَ وَذَلِكَ تَأْكِيدٌ
لَتَحْرِيمِهِ وَتَقْبِيحِهِ وَتَهْجِينُ فَاعِلِهِ وَبَيَّنَ
أَنَّهُ طَرِيقٌ سُوءٌ لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إلَى جَهَنَّمَ
قَوْله تَعَالَى حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ
وَبَناتُكُمْ إلَى آخِرِ الْآيَةِ
حَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي بْنُ قَانِعٍ قَالَ حَدَّثَنَا
مُحَمَّدُ بْنُ الْفَضْلِ بْنُ سَلَمَةَ قَالَ حَدَّثَنَا
سُنَيْدُ بْنُ دَاوُد قَالَ حَدَّثَنَا وَكِيعٌ قَالَ
حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ صَالِحٍ عَنْ سِمَاكٍ عَنْ عِكْرِمَةَ
عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قال قوله تعالى حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ
أُمَّهاتُكُمْ إلى قوله تعالى وَبَناتُ الْأُخْتِ قَالَ
حَرَّمَ اللَّهُ هَذِهِ السَّبْعَ مِنْ النَّسَبِ وَمِنْ
الصِّهْرِ سَبْعٌ ثُمَّ قَالَ كِتابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ
وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ مَا وَرَاءَ هَذَا
النَّسَبِ ثُمَّ قَالَ وَأُمَّهاتُكُمُ اللَّاتِي
أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَواتُكُمْ مِنَ الرَّضاعَةِ- إلَى قَوْله
تَعَالَى- وَالْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ
أَيْمانُكُمْ يَعْنِي السَّبْيَ قَالَ أَبُو بَكْرٍ قَوْلُهُ
حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ عُمُومٌ فِي جَمِيعِ مَا يَتَنَاوَلُهُ
الِاسْمُ حَقِيقَةً وَلَا خِلَافَ أَنَّ الْجَدَّاتِ وَإِنْ
بَعُدْنَ مُحَرَّمَاتٍ وَاكْتَفَى بِذِكْرِ الْأُمَّهَاتِ
لِأَنَّ اسْمَ الْأُمَّهَاتِ يَشْمَلُهُنَّ كَمَا أَنَّ اسْمَ
الْآبَاءِ يَتَنَاوَلُ الْأَجْدَادَ وَإِنْ بَعُدُوا وَقَدْ
عُقِلَ مِنْ قَوْله تَعَالَى وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ
آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ
(3/64)
تَحْرِيمُ مَا نَكَحَ الْأَجْدَادُ وَإِنْ
كَانَ لِلْجَدِّ اسْمٌ خَاصٌّ لَا يُشَارِكُهُ فِيهِ الْأَبُ
الْأَدْنَى فَإِنَّ الِاسْمَ الْعَامَّ وَهُوَ الْأُبُوَّةُ
يَنْتَظِمُهُمْ جَمِيعًا وكذلك قوله تعالى وَبَناتُكُمْ قَدْ
يَتَنَاوَلُ بَنَاتِ الْأَوْلَادِ وَإِنْ سَفُلْنَ لِأَنَّ
الِاسْمَ يَتَنَاوَلُهُنَّ كَمَا يَتَنَاوَلُ اسْمُ الْآبَاءِ
الْأَجْدَادَ وقَوْله تَعَالَى وَأَخَواتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ
وَخالاتُكُمْ وَبَناتُ الْأَخِ وَبَناتُ الْأُخْتِ فَأَفْرَدَ
بَنَاتِ الْأَخِ وَبَنَاتِ الْأُخْتِ بِالذِّكْرِ لِأَنَّ اسم
الأخ والأخت لا يَتَنَاوَلُ اسْمُ الْبَنَاتِ بَنَاتِ
الْأَوْلَادِ فَهَؤُلَاءِ السَّبْعُ الْمُحَرَّمَاتُ بِنَصِّ
التَّنْزِيلِ مِنْ جِهَةِ النَّسَبِ ثُمَّ قَالَ
وَأُمَّهاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَواتُكُمْ مِنَ
الرَّضاعَةِ وَأُمَّهاتُ نِسائِكُمْ وَرَبائِبُكُمُ اللَّاتِي
فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ
فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُناحَ
عَلَيْكُمْ وَحَلائِلُ أَبْنائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ
أَصْلابِكُمْ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا
ما قَدْ سَلَفَ وَقَالَ قَبْلَ ذَلِكَ وَلا تَنْكِحُوا مَا
نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ فَهَؤُلَاءِ السَّبْعُ
الْمُحَرَّمَاتُ مِنْ جِهَةِ الصِّهْرِ وَقَدْ عُقِلَ مِنْ
قَوْله تَعَالَى وَبَناتُ الْأَخِ وَبَناتُ الْأُخْتِ مَنْ
سَفَلَ مِنْهُنَّ كَمَا عُقِلَ مِنْ قَوْله تعالى
أُمَّهاتُكُمْ مَنْ عَلَا مِنْهُنَّ وَمِنْ قَوْله تَعَالَى
وَبَناتُكُمْ مَنْ سَفَلَ مِنْهُنَّ وَعُقِلَ مِنْ قَوْله
تَعَالَى وَعَمَّاتُكُمْ تَحْرِيمُ عَمَّاتِ الْأَبِ
وَالْأُمِّ وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى وَخالاتُكُمْ عقل منه
تحريم خالات الأب والأم كَمَا عُقِلَ تَحْرِيمُ أُمَّهَاتِ
الْأَبِ وَإِنْ عَلَوْنَ وَخَصَّ تَعَالَى الْعَمَّاتِ
وَالْخَالَاتِ بِالتَّحْرِيمِ دُونَ أَوْلَادِهِنَّ وَلَا
خِلَافَ فِي جَوَازِ نِكَاحِ بِنْتِ الْعَمَّةِ وَبِنْتِ
الْخَالَةِ وَقَالَ تَعَالَى وَأُمَّهاتُكُمُ اللَّاتِي
أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَواتُكُمْ مِنَ الرَّضاعَةِ وَمَعْلُومٌ
أَنَّ هَذِهِ السِّمَةَ إنَّمَا هِيَ مُسْتَحَقَّةٌ
بِالرَّضَاعِ أَعْنِي سِمَةَ الْأُمُومَةِ وَالْأُخُوَّةِ
فَلَمَّا عَلَّقَ هَذِهِ السِّمَةَ بِفِعْلِ الرَّضَاعِ
اقْتَضَى ذَلِكَ اسْتِحْقَاقَ اسْمِ الْأُمُومَةِ
وَالْأُخُوَّةِ بِوُجُودِ الرَّضَاعِ وَذَلِكَ يَقْتَضِي
التَّحْرِيمَ بِقَلِيلِ الرَّضَاعِ لِوُقُوعِ الِاسْمِ
عَلَيْهِ فَإِنْ قيل قوله تعالى وَأُمَّهاتُكُمُ اللَّاتِي
أَرْضَعْنَكُمْ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِ الْقَائِلِ
وَأُمَّهَاتُكُمْ اللَّاتِي أَعْطَيْنَكُمْ وَأُمَّهَاتُكُمْ
اللَّاتِي كَسَوْنَكُمْ فَنَحْتَاجُ إلَى أَنْ نُثْبِتَ
أَنَّهَا أُمٌّ بِهَذِهِ الصِّفَةِ حَتَّى يَثْبُتَ الرَّضَاعُ
لِأَنَّهُ لَمْ يَقُلْ وَاَللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ
أُمَّهَاتُكُمْ قِيلَ لَهُ هَذَا غَلَطٌ مِنْ قِبَلِ أَنَّ
الرَّضَاعَ هُوَ الَّذِي يُكْسِبُهَا سِمَةَ الْأُمُومَةِ
فَلَمَّا كَانَ الِاسْمُ مُسْتَحِقًّا بِوُجُودِ الرَّضَاعِ
كَانَ الْحُكْمُ مُتَعَلِّقًا بِهِ وَاسْمُ الرَّضَاعِ فِي
الشَّرْعِ وَاللُّغَةِ يَتَنَاوَلُ الْقَلِيلَ وَالْكَثِيرَ
فَوَجَبَ أَنْ تَصِيرَ أُمًّا بِوُجُودِ الرَّضَاعِ لقوله
تعالى وَأُمَّهاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَلَيْسَ
كَذَلِكَ الَّذِي ذَكَرْت مِنْ قَوْلِ الْقَائِلِ
وَأُمَّهَاتُكُمْ اللَّاتِي كَسَوْنَكُمْ لِأَنَّ اسْمَ
الْأُمُومَةِ غَيْرُ متعلق «5- أحكام لث»
(3/65)
بِوُجُودِ الْكِسْوَةِ كَتَعَلُّقِهِ
بِوُجُودِ الرَّضَاعِ فَلِذَلِكَ احْتَجْنَا إلَى حُصُولِ
الِاسْمِ وَالْفِعْلِ الْمُتَعَلِّقِ بِهِ وَكَذَلِكَ قوله
تعالى وَأَخَواتُكُمْ مِنَ الرَّضاعَةِ يقتضى ظاهره كونها أختا
بوجود الرضاع إذا كَانَ اسْمُ الْأُخُوَّةِ مُسْتَفَادًا
بِوُجُودِ الرَّضَاعِ لَا بِمَعْنًى آخَرَ سِوَاهُ وَيَدُلُّ
عَلَى أَنَّ ذَلِكَ مَفْهُومُ الْخِطَابِ وَمُقْتَضَى
الْقَوْلِ مَا رَوَاهُ عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ عَطَاءٍ عَنْ
أَبِي الرَّبِيعِ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ قَالَ جَاءَ
رَجُلٌ إلَى ابْنِ عُمَرَ فَقَالَ إنَّ ابْنَ الزُّبَيْرِ
يَقُولُ لَا بَأْسَ بِالرَّضْعَةِ وَالرَّضْعَتَيْنِ فَقَالَ
ابْنُ عُمَرَ قَضَاءُ اللَّهِ خَيْرٌ مِنْ قَضَاءِ ابْنِ
الزُّبَيْرِ قال الله تعالى وَأَخَواتُكُمْ مِنَ الرَّضاعَةِ
فَعَقَلَ ابْنُ عُمَرَ مِنْ ظَاهِرِ اللَّفْظِ التَّحْرِيمَ
بِقَلِيلِ الرَّضَاعِ وَاخْتَلَفَ السَّلَفُ وَمَنْ بَعْدَهُمْ
فِي التحريم بقليل الرضاع فروى عن عمرو على وابن عباس وابن
عمرو الحسن وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ وَطَاوُسٍ
وَإِبْرَاهِيمَ وَالزُّهْرِيِّ وَالشَّعْبِيِّ قَلِيلُ
الرَّضَاعِ وَكَثِيرُهُ يُحَرِّمُ فِي الْحَوْلَيْنِ وَهُوَ
قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ وزفر
وَمَالِكٍ وَالثَّوْرِيِّ وَالْأَوْزَاعِيِّ وَاللَّيْثِ قَالَ
اللَّيْثُ اجْتَمَعَ الْمُسْلِمُونَ
عَلَى أَنَّ قَلِيلَ الرَّضَاعِ وَكَثِيرَهُ يُحَرِّمُ فِي
الْمَهْدِ مَا يُفْطِرُ الصَّائِمَ وَقَالَ ابْنُ الزُّبَيْرِ
وَالْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ لَا
تُحَرِّمُ الرَّضْعَةُ وَلَا الرَّضْعَتَانِ وَقَالَ
الشَّافِعِيُّ لَا يُحَرِّمُ مِنْ الرَّضَاعِ إلَّا خَمْسُ
رَضَعَاتٍ متفرقات قاله أَبُو بَكْرٍ وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي
سُورَةِ الْبَقَرَةِ الْكَلَامَ فِي مُدَّةِ الرَّضَاعِ
وَالِاخْتِلَافَ فِيهَا وَقَدْ قَدَّمْنَا ذِكْرَ دَلَالَةِ
الْآيَةِ عَلَى إيجَابِ التَّحْرِيمِ بِقَلِيلِ الرَّضَاعِ
وَغَيْرُ جَائِزٍ لِأَحَدٍ إثْبَاتُ تَحْدِيدِ الرَّضَاعِ
الْمُوجِبِ لِلتَّحْرِيمِ إلَّا بِمَا يُوجِبُ الْعِلْمَ مِنْ
كِتَابٍ أَوْ سُنَّةٍ مَنْقُولَةٍ مِنْ طَرِيقِ التَّوَاتُرِ
وَلَا يَجُوزُ قَبُولُ أَخْبَارِ الْآحَادِ عِنْدَنَا فِي
تَخْصِيصِ حُكْمِ الْآيَةِ الْمُوجِبَةِ لِلتَّحْرِيمِ
بِقَلِيلِ الرَّضَاعِ لِأَنَّهَا آيَةٌ مُحْكَمَةٌ ظَاهِرَةُ
الْمَعْنَى بَيِّنَةُ الْمُرَادِ لَمْ يَثْبُتْ خُصُوصُهَا
بِالِاتِّفَاقِ وَمَا كَانَ هَذَا وَصْفُهُ فَغَيْرُ جَائِزٍ
تَخْصِيصُهُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ وَلَا بِالْقِيَاسِ وَيَدُلُّ
عَلَيْهِ مِنْ جِهَةِ السُّنَّةِ
قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّمَا
الرَّضَاعَةُ مِنْ الْمَجَاعَةِ رَوَاهُ مَسْرُوقٌ عَنْ
عَائِشَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ فَهُوَ
مَحْمُولٌ عَلَيْهِمَا جميعها ويدل عليه أيضا مَا
رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
مِنْ جِهَةِ التَّوَاتُرِ وَالِاسْتِفَاضَةِ أَنَّهُ قَالَ
يَحْرُمُ مِنْ الرَّضَاعِ مَا يَحْرُمُ مِنْ النَّسَبِ رَوَاهُ
عَلِيٌّ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَعَائِشَةُ وَحَفْصَةُ عَنْ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَتَلَقَّاهُ أَهْلُ الْعِلْمِ بِالْقَبُولِ وَالِاسْتِعْمَالِ
فَلَمَّا حَرَّمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ مِنْ الرَّضَاعِ مَا يَحْرُمُ مِنْ النَّسَبِ
وَكَانَ مَعْلُومًا أَنَّ النَّسَبَ مَتَى ثَبَتَ مِنْ وَجْهٍ
أَوْجَبَ التَّحْرِيمَ وَإِنْ لَمْ يَثْبُتْ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ
كَذَلِكَ الرَّضَاعُ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ هَذَا حُكْمُهُ في
إيجاب
(3/66)
التَّحْرِيمِ بِالرَّضْعَةِ الْوَاحِدَةِ
لِتَسْوِيَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلّم بينهما
فيما علق بهما حُكْمِ التَّحْرِيمِ وَاحْتَجَّ مَنْ اعْتَبَرَ
خَمْسَ رَضَعَاتٍ بِمَا
رَوَتْ عَائِشَةُ وَابْنُ الزُّبَيْرِ وَأُمُّ الْفَضْلِ أَنَّ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَا
تُحَرِّمُ الْمَصَّةُ وَلَا الْمَصَّتَانِ
وَبِمَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ كَانَ فِيمَا
أُنْزِلَ من القرآن عشر رضعات فَنُسِخْنَ بِخَمْسٍ
مَعْلُومَاتٍ فَتُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهِيَ فِيمَا يُقْرَأُ مِنْ الْقُرْآنِ
قَالَ أَبُو بَكْرٍ وَهَذِهِ الْأَخْبَارُ لَا يَجُوزُ
الِاعْتِرَاضُ بِهَا عَلَى ظَاهِرِ قَوْله تَعَالَى
وَأُمَّهاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَواتُكُمْ مِنَ
الرَّضاعَةِ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ مَا لَمْ يَثْبُتُ
خُصُوصُهُ مِنْ ظَوَاهِرِ الْقُرْآنِ وَكَانَ ظَاهِرَ
الْمَعْنَى بَيِّنَ الْمُرَادِ لَمْ يَجُزْ تَخْصِيصُهُ
بِأَخْبَارِ الْآحَادِ فَهَذَا أَحَدُ الْوُجُوهِ الَّتِي
تُسْقِطُ الِاعْتِرَاضَ بِهَذَا الْخَبَرِ وَوَجْهٌ آخَرُ
وَهُوَ مَا حَدَّثَ أَبُو الْحَسَنِ الْكَرْخِيِّ قَالَ
حَدَّثَنَا الْحَضْرَمِيُّ قَالَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الله بن
سعيد قال حدثنا أبو خالد عَنْ حَجَّاجٍ عَنْ حَبِيبِ بْنِ
أَبِي ثَابِتٍ عَنْ طَاوُسٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ
سُئِلَ عن الرضاع فقال إنَّ النَّاسَ يَقُولُونَ لَا تُحَرِّمُ
الرَّضْعَةُ وَلَا الرَّضْعَتَانِ قَالَ قَدْ كَانَ ذَاكَ
فَأَمَّا الْيَوْمَ فَالرَّضْعَةُ الْوَاحِدَةُ تُحَرِّمُ
وَرَوَى مُحَمَّدُ بْنُ شُجَاعٍ قَالَ حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ
بْنُ سُلَيْمَانَ عَنْ حَنْظَلَةَ عَنْ طَاوُسٍ قَالَ
اُشْتُرِطَتْ عَشْرُ رَضَعَاتٍ ثُمَّ قِيلَ الرَّضْعَةُ
الْوَاحِدَةُ تُحَرِّمُ فَقَدْ عَرَفَ ابْنُ عَبَّاسٍ
وَطَاوُسٌ خَبَرَ الْعَدَدِ فِي الرَّضَاعِ وَأَنَّهُ
مَنْسُوخٌ بِالتَّحْرِيمِ بِالرَّضْعَةِ الْوَاحِدَةِ
وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ التَّحْدِيدُ كَانَ مَشْرُوطًا فِي
رَضَاعِ الْكَبِيرِ وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم فِي رَضَاعِ الْكَبِيرِ وَهُوَ
مَنْسُوخٌ عِنْدَ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ فَجَائِزٌ أَنْ
يَكُونَ تَحْدِيدُ الرَّضَاعِ كَانَ فِي رَضَاعِ الْكَبِيرِ
فَلَمَّا نُسِخَ سَقَطَ التَّحْدِيدُ إذْ كَانَ مَشْرُوطًا
فِيهِ وَأَيْضًا يُلْزِمُ الشَّافِعِيُّ إيجَابَ التَّحْرِيمِ
بِثَلَاثِ رَضَعَاتٍ لِدَلَالَةِ قَوْلِهِ لَا تُحَرِّمُ
الرَّضْعَةُ وَلَا الرَّضْعَتَانِ عَلَى إيجَابِ التَّحْرِيمِ
فِيمَا زَادَ عَلَى أَصْلِهِ فِي الْمَخْصُوصِ بِالذِّكْرِ
وَأَمَّا حَدِيثُ عَائِشَةَ فَغَيْرُ جَائِزٍ اعْتِقَادُ
صِحَّتِهِ عَلَى مَا وَرَدَ وَذَلِكَ لِأَنَّهَا ذَكَرَتْ
أَنَّهُ كان فيما أنزل من القرآن عشر فَنُسِخْنَ بِخَمْسٍ
وَأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
تُوُفِّيَ وَهُوَ مِمَّا يُتْلَى وَلَيْسَ أَحَدٌ مِنْ
الْمُسْلِمِينَ يُجِيزُ نَسْخَ الْقُرْآنِ بَعْدَ مَوْتِ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَوْ كَانَ
ثَابِتًا لَوَجَبَ أَنْ تَكُونَ التِّلَاوَةُ مَوْجُودَةً
فَإِذَا لَمْ تُوجَدْ بِهِ التِّلَاوَةُ وَلَمْ يَجُزْ
النَّسْخُ بَعْدَ وَفَاةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ لَمْ يَخْلُ ذَلِكَ مِنْ أَحَدِ وَجْهَيْنِ إمَّا
أَنْ يَكُونَ الْحَدِيثُ مَدْخُولًا فِي الْأَصْلِ غَيْرَ
ثَابِتِ الْحُكْمِ أَوْ يَكُونَ إنْ كَانَ ثَابِتًا فَإِنَّمَا
نُسِخَ فِي حَيَاةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ وَمَا كَانَ مَنْسُوخًا فَالْعَمَلُ بِهِ سَاقِطٌ
وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ كان تحديد الرضاع الْكَبِيرِ
وَقَدْ كَانَتْ عَائِشَةُ تَقُولُ بِهِ فِي إيجَابِ
التَّحْرِيمِ فِي
(3/67)
رَضَاعِ الْكَبِيرِ دُونَ سَائِرِ
أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَقَدْ ثَبَتَ عِنْدَنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيّ نَسْخُ رَضَاعِ
الْكَبِيرِ فَسَقَطَ حُكْمُ التَّحْدِيدِ الْمَذْكُورُ فِي
حَدِيثِ عَائِشَةَ هَذَا وَمَعَ ذَلِكَ لَوْ خَلَا مِنْ هَذِهِ
الْمَعَانِي الَّتِي ذَكَرْنَا مِنْ الِاسْتِحَالَةِ
وَالِاحْتِمَالِ لَمَا جَازَ الِاعْتِرَاضُ بِهِ عَلَى ظَاهِرِ
الْقُرْآنِ إذْ هُوَ مِنْ أَخْبَارِ الْآحَادِ وَمِمَّا
يَدُلُّ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ سُقُوطِ اعْتِبَارِ
التَّحْدِيدِ أَنَّ الرَّضَاعَ يُوجِبُ تَحْرِيمًا مُؤَبَّدًا
فَأَشْبَهَ الْوَطْءَ الْمُوجِبَ لِتَحْرِيمِ الْأُمِّ
وَالْبِنْتِ وَالْعَقْدَ الْمُوجِبَ لِلتَّحْرِيمِ كَحَلَائِلِ
الْأَبْنَاءِ وَمَا نَكَحَ الْآبَاءُ فَلَمَّا كَانَ
الْقَلِيلُ مِنْ ذَلِكَ كَكَثِيرِهِ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ
مِنْ حُكْمِ التَّحْرِيمِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ حُكْمَ
الرَّضَاعِ فِي إيجَابِ التَّحْرِيمِ بِقَلِيلِهِ وَاخْتَلَفَ
أَهْلُ الْعِلْمِ فِي لَبَنِ الْفَحْلِ وَهُوَ الرَّجُلُ
يَتَزَوَّجُ الْمَرْأَةَ فَتَلِدُ مِنْهُ وَلَدًا وَيَنْزِلُ
لَهَا لَبَنٌ بَعْدَ وِلَادَتِهَا مِنْهُ فَتُرْضِعُ بِهِ
صَبِيَّا فَإِنَّ مَنْ قَالَ بِتَحْرِيمِ لَبَنِ الْفَحْلِ
يُحَرِّمُ هَذَا الصَّبِيَّ عَلَى أَوْلَادِ الرَّجُلِ وَإِنْ
كَانُوا مِنْ غَيْرِهَا وَمَنْ لَا يَعْتَبِرُهُ لَا يُوجِبُ
تَحْرِيمًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَوْلَادِهِ مِنْ غَيْرِهَا
فَمِمَّنْ قَالَ بِلَبَنِ الْفَحْلِ ابْنُ عَبَّاسٍ وَرَوَى
الزُّهْرِيُّ عَنْ عَمْرِو بْن الشَّرِيدِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ
أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ رَجُلٍ له امرأتان أرضعت هذه غلاما وهذه
الجارية هل يصح الغلام أَنْ يَتَزَوَّجَ الْجَارِيَةَ فَقَالَ
لَا اللِّقَاحُ وَاحِدٌ وَهُوَ قَوْلُ الْقَاسِمِ وَسَالِمٍ
وَعَطَاءٍ وَطَاوُسٍ وَذَكَرَ الْخَفَّافُ عَنْ سَعِيدٍ عَنْ
ابْنِ سِيرِينَ قَالَ كرهه قوم ولم يربه قَوْمٌ بَأْسًا وَمَنْ
كَرِهَهُ كَانَ أَفْقَهَ مِنْ الَّذِينَ لَمْ يَرَوْا بِهِ
بَأْسًا وَذَكَرَ عَبَّادُ بْن مَنْصُورٍ قَالَ قُلْت
لِلْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ امْرَأَةُ أَبِي أَرْضَعَتْ
جَارِيَةً مِنْ النَّاسِ بِلَبَانِ إخوتى من أبى أتحل لي فقال
لَا أَبُوك أَبُوهَا فَسَأَلْت طَاوُسًا وَالْحَسَنَ فَقَالَا
مِثْلَ ذَلِكَ وَسَأَلْت مُجَاهِدًا فَقَالَ اخْتَلَفَ فِيهِ
الْفُقَهَاءُ فَلَسْت أَقُولُ فِيهِ شَيْئًا وَسَأَلْت
مُحَمَّدَ بْنَ سِيرِينَ فَقَالَ مِثْلَ قَوْلِ مُجَاهِدٍ
وَسَأَلْت يُوسُفَ بْنَ مَاهَكَ فَذَكَرَ حَدِيثَ أَبِي
قُعَيْسٍ وقال أبو حنفية وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدُ
وَزُفَرُ وَمَالِكٌ وَالثَّوْرِيُّ وَالْأَوْزَاعِيُّ
وَاللَّيْثُ وَالشَّافِعِيُّ لَبَنُ الْفَحْلِ يُحَرِّمُ
وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ وَإِبْرَاهِيمُ
النَّخَعِيُّ وَأَبُو سَلَمَةَ بْنُ عبد الرحمن وعطاء ابن
يَسَارٍ وَسُلَيْمَانُ بْنُ يَسَارٍ إنَّ لَبَنَ الْفَحْلِ لَا
يُحَرِّمُ شَيْئًا مِنْ قِبَلِ الرِّجَالِ وَرُوِيَ مِثْلُهُ
عَنْ رَافِعِ بْن خَدِيجٍ وَالدَّلِيلُ عَلَى صِحَّةِ
الْقَوْلِ الْأَوَّلِ
حَدِيثُ الزُّهْرِيِّ وَهِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ عُرْوَةَ
عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ أَفْلَحَ أخا أبى القيس جَاءَ
لِيَسْتَأْذِنَ عَلَيْهَا وَهُوَ عَمُّهَا مِنْ الرَّضَاعَةِ
بَعْدَ أَنْ نَزَلَ الْحِجَابُ قَالَتْ فَأَبَيْت أَنْ آذَنَ
لَهُ فَلَمَّا جَاءَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَخْبَرْته قَالَ لِيَلِجْ عَلَيْك فَإِنَّهُ عَمُّك
قُلْت إنَّمَا أَرْضَعْتنِي الْمَرْأَةُ وَلَمْ يُرْضِعْنِي
الرَّجُلُ قَالَ لِيَلِجْ عَلَيْك فَإِنَّهُ عَمُّك تَرِبَتْ
يَمِينُك
وَكَانَ أَبُو
(3/68)
الْقُعَيْسِ زَوْجَ الْمَرْأَةِ الَّتِي
أَرْضَعَتْ عَائِشَةَ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ مِنْ جِهَةِ
النَّظَرِ أَنَّ سَبَبَ نُزُولِ اللَّبَنِ هُوَ مَاءُ
الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ جَمِيعًا لِأَنَّ الْحَمْلَ مِنْهُمَا
جَمِيعًا فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الرَّضَاعُ مِنْهُمَا كَمَا
كَانَ الْوَلَدُ مِنْهُمَا وَإِنْ اخْتَلَفَ سَبَبُهُمَا
فَإِنْ قِيلَ قَدْ رَوَى مَالِكٌ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ
الْقَاسِمِ عَنْ أَبِيهِ عن عَائِشَةَ أَنَّهَا كَانَتْ
تُدْخِلُ عَلَيْهَا مَنْ أَرْضَعْته أَخَوَاتُهَا وَبَنَاتُ
أَخِيهَا وَلَا تُدْخِلُ عَلَيْهَا مَنْ أَرْضَعْته نِسَاءُ
إخْوَتِهَا قِيلَ لَهُ هَذَا غَيْرُ مُخَالِفٍ لِمَا وَرَدَ
فِي لَبَنِ الْفَحْلِ إذْ كَانَ لَهَا أَنْ تَأْذَنَ لِمَنْ
شَاءَتْ مِنْ مَحَارِمِهَا وَتَحْجُبَ مَنْ شَاءَتْ وَيَدُلُّ
عَلَيْهِ أَيْضًا مِنْ جِهَةِ النَّظَرِ أَنَّ الْبِنْتَ
مُحَرَّمَةٌ عَلَى الْجَدِّ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ مِنْ مَائِهِ
لِأَنَّهُ كَانَ سَبَبَ حُدُوثِ الْأَبِ الَّذِي هُوَ مِنْ
مَائِهِ كَذَلِكَ الرَّجُلُ لَمَّا كَانَ هُوَ سَبَبَ نُزُولِ
اللَّبَنِ مِنْ الْمَرْأَةِ وَجَبَ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِهِ
التَّحْرِيمُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ اللَّبَنُ مِنْهُ إذْ كَانَ
هُوَ سَبَبَهُ كَمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ التَّحْرِيمُ مِنْ
جِهَةِ الْأُمِّ وَالْمَنْصُوصُ عَلَيْهِ فِي التَّنْزِيلِ
مِنْ الرَّضَاعِ الْأُمَّهَاتُ وَالْأَخَوَاتُ مِنْ
الرَّضَاعَةِ إلَّا أَنَّهُ
قَدْ ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ بِالنَّقْلِ الْمُسْتَفِيضِ الْمُوجِبِ لِلْعِلْمِ
أَنَّهُ قَالَ يَحْرُمُ مِنْ الرَّضَاعِ مَا يَحْرُمُ مِنْ
النَّسَبِ
وَاتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى اسْتِعْمَالِهِ وَاَللَّهُ
أعلم.
بَابُ أُمَّهَاتُ النِّسَاءِ وَالرَّبَائِبُ
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى وَأُمَّهاتُ نِسائِكُمْ وَرَبائِبُكُمُ
اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسائِكُمُ اللَّاتِي
دَخَلْتُمْ بِهِنَّ ولم تختلف الأمة أن الربائب لا يحر من
بِالْعَقْدِ عَلَى الْأُمِّ حَتَّى يَدْخُلَ بِهَا أَوْ
يَكُونَ مِنْهُ مَا يُوجِبُ التَّحْرِيمَ مِنْ اللَّمْسِ
والنظر على ما بيناه فيما سلف هو نَصُّ التَّنْزِيلِ فِي
قَوْله تَعَالَى فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ
فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ وَاخْتَلَفَ السَّلَفُ فِي أُمَّهَاتِ
النِّسَاءِ هَلْ يَحْرُمْنَ بالعقد دون الدخول فسوى
حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ خِلَاسٍ أَنَّ
عَلِيًّا قَالَ فِي رَجُلٍ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ قَبْلَ
الدُّخُولِ بِهَا فَلَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ أُمَّهَا وَإِنْ
تَزَوَّجَ أُمَّهَا ثُمَّ طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ
يَتَزَوَّجُ بِنْتَهَا تَجْرِيَانِ مَجْرًى وَاحِدًا
وَأَهْلُ النَّقْلِ يُضَعِّفُونَ حَدِيثَ خِلَاسٍ عَنْ عَلِيٍّ
وَيُرْوَى عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ مِثْلُ ذَلِكَ
وَهُوَ قَوْلُ مُجَاهِدٍ وَابْنِ الزُّبَيْرِ وَعَنْ ابْنِ
عَبَّاسٍ رِوَايَتَانِ إحْدَاهُمَا مَا يَرْوِيهِ ابْنُ
جُرَيْجٍ عَنْ أَبِي بَكْرٍ بْنِ حَفْصٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ
مسلم ابن عُوَيْمِرِ بْنِ الْأَجْدَعِ عَنْهُ أَنَّ أُمَّ
الْمَرْأَةِ لَا تَحْرُمُ إلَّا بِالدُّخُولِ وَالْأُخْرَى مَا
يَرْوِيهِ عِكْرِمَةُ عَنْهُ أَنَّهَا تَحْرُمُ بِنَفْسِ
الْعَقْدِ وَقَالَ عمرو عبد اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ
وَعِمْرَانُ بْنُ حُصَيْنٍ وَمَسْرُوقٌ وَعَطَاءٌ وَالْحَسَنُ
وَعِكْرِمَةُ تَحْرُمُ بِالْعَقْدِ دَخَلَ بِهَا أَوْ لَمْ
يَدْخُلْ وَرَوَى أَبُو أُسَامَةَ عَنْ سفيان
(3/69)
عَنْ أَبِي فَرْوَةَ عَنْ أَبِي عَمْرٍو
الشَّيْبَانِيِّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ
أَفْتَى فِي امْرَأَةٍ تَزَوَّجَهَا رَجُلٌ فَطَلَّقَهَا
قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ بِهَا أَوْ مَاتَتْ قَالَ لَا بَأْسَ
أَنْ يَتَزَوَّجَ أُمَّهَا فَلَمَّا أَتَى الْمَدِينَةَ رَجَعَ
فَأَفْتَاهُمْ فَنَهَاهُمْ وَقَدْ وَلَدَتْ أَوْلَادًا وَرَوَى
إبْرَاهِيمُ عَنْ شُرَيْحٍ أَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ كَانَ
يَقُولُ بِقَوْلِ عَلِيٍّ وَيُفْتِي بِهِ يَعْنِي فِي
أُمَّهَاتِ النِّسَاءِ فَحَجَّ فَلَقِيَ أَصْحَابَ رَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَاكَرَهُمْ
ذَلِكَ فَكَرِهُوا أَنْ يَتَزَوَّجَهَا فَلَمَّا رَجَعَ ابْنُ
مَسْعُودٍ نَهَى مَنْ كَانَ أَفْتَاهُ بِذَلِكَ وَكَانُوا
أَحْيَاءَ مِنْ بَنِي فَزَارَةَ أَفْتَاهُمْ بِذَلِكَ وَقَالَ
إنِّي سَأَلْت أَصْحَابِي فَكَرِهُوا ذَلِكَ وَرَوَى قَتَادَةُ
عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ أَنَّ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ
قَالَ فِي رَجُلٍ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ قَبْلَ الدُّخُولِ
فَأَرَادَ أَنْ يَتَزَوَّجَ أُمَّهَا قَالَ إنْ طَلَّقَهَا
قَبْلَ الدُّخُولِ يَتَزَوَّجُ أُمَّهَا وَإِنْ مَاتَتْ لَمْ
يَتَزَوَّجْ أُمَّهَا وَأَصْحَابُ الْحَدِيثِ يُضَعِّفُونَ
حَدِيثَ قَتَادَةَ هَذَا عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ عَنْ
زَيْدٍ وَيَقُولُونَ إنَّ أَكْثَرَ مَا يَرْوِيهِ قَتَادَةُ
عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ رِجَالٌ
وَإِنَّ رِوَايَاتِهِ عَنْ سَعِيدٍ مُخَالِفَةٌ لِرِوَايَاتِ
أَكْثَرِ أَصْحَابِ سَعِيدٍ الثِّقَاتِ وَقَالَ عَبْدُ
الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِي عَنْ مَالِكٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ
الْمُسَيِّبِ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ قَتَادَةَ عَنْ سَعِيدٍ
وَقَدْ رَوَى يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الْأَنْصَارِيِّ عَنْ
زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ خِلَافَ رِوَايَةِ قَتَادَةَ وَيُقَالُ
إنَّ حَدِيثَ يَحْيَى وَإِنْ كَانَ مُرْسَلًا فَهُوَ أَقْوَى
مِنْ حَدِيثِ قَتَادَةَ عَنْ سَعِيدٍ قَالَ أَبُو بَكْرٍ
وَهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ طَرِيقَةُ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ
وَالْفُقَهَاءُ لَا يَعْتَبِرُونَ ذَلِكَ فِي قَبُولِ
الْأَخْبَارِ وَرَدِّهَا وَإِنَّمَا ذَكَرْنَا ذَلِكَ
لِيُعْرَفَ بِهِ مَذْهَبُ الْقَوْمِ فِيهِ دُونَ اعْتِبَارِهِ
وَالْعَمَلِ عَلَيْهِ وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ زَيْدُ بْنُ
ثَابِتٍ إنَّمَا فَرَّقَ بَيْنَ الْمَوْتِ وَالطَّلَاقِ فِي
التَّحْرِيمِ لِأَنَّ الطَّلَاقَ قَبْلَ الدُّخُولِ لَا
يَتَعَلَّقُ بِهِ شَيْءٌ مِنْ أَحْكَامِ الدُّخُولِ أَلَا ترى
أنه يجب فيه نصف المهر ولا يجب عَلَيْهَا الْعِدَّةُ وَأَمَّا
الْمَوْتُ فَلَمَّا كَانَ فِي حُكْمِ الدُّخُولِ فِي بَابِ
اسْتِحْقَاقِ كَمَالِ الْمَهْرِ وَوُجُوبِ الْعِدَّةِ جَعَلَهُ
كَذَلِكَ فِي حُكْمِ التَّحْرِيمِ وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ
أُمَّهَاتِ النِّسَاءِ يَحْرُمْنَ بِالْعَقْدِ قوله تعالى
وَأُمَّهاتُ نِسائِكُمْ هي مبهمة عامة كقوله وَحَلائِلُ
أَبْنائِكُمُ وَقَوْلُهُ وَلا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آباؤُكُمْ
مِنَ النِّساءِ فَغَيْرُ جَائِزٍ تَخْصِيصُهُ إلَّا
بِدَلَالَةٍ وقَوْله تَعَالَى وَرَبائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي
حُجُورِكُمْ مِنْ نِسائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ
حُكْمٌ مَقْصُورٌ عَلَى الرَّبَائِبِ دُونَ أُمَّهَاتِ
النِّسَاءِ وَذَلِكَ مِنْ وُجُوهٍ أَحَدُهَا أَنَّ كُلَّ
وَاحِدَةٍ مِنْ الْجُمْلَتَيْنِ مُكْتَفِيَةٌ بِنَفْسِهَا فِي
إيجَابِ الْحُكْمِ الْمَذْكُورِ فِيهَا أَعْنِي قَوْله
تَعَالَى وَأُمَّهاتُ نِسائِكُمْ وقَوْله تَعَالَى
وَرَبائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسائِكُمُ
اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ وَكُلُّ كَلَامٍ اكْتَفَى
(3/70)
بِنَفْسِهِ مِنْ غَيْرِ تَضْمِينٍ لَهُ
بِغَيْرِهِ وَلَا حَمَلَهُ عَلَيْهِ وَجَبَ إجْرَاؤُهُ عَلَى
مُقْتَضَى لَفْظِهِ دُونَ تَعْلِيقِهِ بِغَيْرِهِ فَلَمَّا
كَانَ قَوْلُهُ وَأُمَّهاتُ نِسائِكُمْ جُمْلَةً مُكْتَفِيَةً
بِنَفْسِهَا يَقْتَضِي عُمُومُهَا تَحْرِيمَ أُمَّهَاتِ
النِّسَاءِ مَعَ وُجُودِ الدُّخُولِ وَعَدَمِهِ وَكَانَ قَوْله
تَعَالَى وَرَبائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ
نِسائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ جُمْلَةً قَائِمَةً
بِنَفْسِهَا عَلَى مَا فِيهَا مِنْ شَرْطِ الدُّخُولِ لَمْ
يَجُزْ لَنَا بِنَاءُ إحْدَى الْجُمْلَتَيْنِ عَلَى الْأُخْرَى
بَلْ الْوَاجِبُ إجْرَاءُ الْمُطْلَقِ مِنْهُمَا عَلَى
إطْلَاقِهِ وَالْمُقَيَّدُ عَلَى تَقْيِيدِهِ وَشَرْطُهُ إلَّا
أَنْ تَقُومَ الدَّلَالَةُ عَلَى أَنَّ إحْدَاهُمَا مبنية عن
الْأُخْرَى مَحْمُولَةٌ عَلَى شَرْطِهَا وَأُخْرَى وَهِيَ
أَنَّ قَوْله تَعَالَى وَرَبائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي
حُجُورِكُمْ مِنْ نِسائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ
فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُناحَ
عَلَيْكُمْ يَجْرِي هَذَا الشَّرْطُ مَجْرَى الِاسْتِثْنَاءِ
تَقْدِيرُهُ وَرَبَائِبُكُمْ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ
نِسَائِكُمْ إلَّا اللَّاتِي لَمْ تَدْخُلُوا بِهِنَّ لِأَنَّ
فِيهِ إخْرَاجُ بَعْضِ مَا انْتَظَمَهُ الْعُمُومُ فَلَمَّا
كَانَ ذَلِكَ فِي مَعْنَى الِاسْتِثْنَاءِ وَكَانَ مِنْ حُكْمِ
الِاسْتِثْنَاءِ عَوْدُهُ إلَى مَا يَلِيهِ إلَّا أَنْ تَقُومَ
الدَّلَالَةُ عَلَى رُجُوعِهِ إلَى مَا تَقَدَّمَ وَجَبَ أَنْ
يَكُونَ حُكْمُهُ مَقْصُورًا عَلَى الرَّبَائِبِ وَلَمْ يَجُزْ
رَدُّهُ إلَى مَا تَقَدَّمَهُ إلَّا بِدَلَالَةٍ وَأُخْرَى
وَهِيَ أَنَّ شَرْطَ الدُّخُولِ تَخْصِيصٌ لِعُمُومِ اللَّفْظِ
وَهُوَ لَا مَحَالَةَ مُسْتَعْمَلٌ فِي الرَّبَائِبِ
وَرُجُوعُهُ إلَى أُمَّهَاتِ النِّسَاءِ مَشْكُوكٌ فِيهِ
وَغَيْرُ جَائِزٍ تَخْصِيصُ الْعُمُومِ بِالشَّكِّ فَوَجَبَ
أَنْ يَكُونَ عُمُومُ التَّحْرِيمِ فِي أُمَّهَاتِ النِّسَاءِ
مُقِرًّا عَلَى بَابِهِ وَأُخْرَى وَهِيَ أَنَّ إضْمَارَ
شَرْطِ الدُّخُولِ لَا يَصِحُّ فِي أُمَّهَاتِ النِّسَاءِ
مُظْهِرًا لِأَنَّهُ لَا يَسْتَقِيمُ أَنْ يُقَالَ
وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمْ التي دَخَلْتُمْ
بِهِنَّ لِأَنَّ أُمَّهَاتِ نِسَائِنَا لَسْنَ مِنْ نِسَائِنَا
وَالرَّبَائِبُ مِنْ نِسَائِنَا لِأَنَّ الْبِنْتَ مِنْ
الْأُمِّ وَلَيْسَتْ الْأُمُّ مِنْ الْبِنْتِ فَلَمَّا لَمْ
يَسْتَقِمْ الْكَلَامُ بِإِظْهَارِ أُمَّهَاتِ النِّسَاءِ فِي
الشَّرْطِ لَمْ يَصِحَّ إضْمَارُهُ فِيهِ فَثَبَتَ بِذَلِكَ
أَنَّ قوله مِنْ نِسائِكُمْ إنَّمَا هُوَ مِنْ وَصْفِ
الرَّبَائِبِ دُونَ أُمَّهَاتِ النِّسَاءِ وَأَيْضًا فَلَوْ
جَعَلْنَا قَوْلَهُ مِنْ نِسائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ
بِهِنَّ نَعْتًا لِأُمَّهَاتِ النِّسَاءِ وَجَعَلْنَا
تَقْدِيرَهُ وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمْ
اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ لَخَرَجَ الرَّبَائِبُ مِنْ
الْحُكْمِ وَصَارَ حُكْمُ الشَّرْطِ فِي أُمَّهَاتِ النِّسَاءِ
دُونَهُنَّ وَذَلِكَ خِلَافُ نَصِّ التَّنْزِيلِ فَثَبَتَ
أَنَّ شَرْطَ الدُّخُولِ مَقْصُورٌ عَلَى الرَّبَائِبِ دُونَ
أُمَّهَاتِ النِّسَاءِ
وَقَدْ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي بْنُ قَانِعٍ قَالَ
حَدَّثَنَا إسماعيل ابن الْفَضْلِ قَالَ حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ
بْنُ سَعِيدٍ قَالَ حَدَّثَنَا ابْنُ لَهِيعَةَ عَنْ عَمْرِو
بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عَنْ النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ أَيُّمَا
رَجُلٍ نَكَحَ امْرَأَةً فَدَخَلَ بِهَا فَلَا يَحِلُّ لَهُ
نكاح ابنتها
(3/71)
وَإِنْ لَمْ يَدْخُلْ بِهَا فَلْيَنْكِحْ
ابْنَتَهَا وَأَيُّمَا رَجُلٍ نَكَحَ امْرَأَةً فَدَخَلَ بِهَا
أَوْ لَمْ يَدْخُلْ بِهَا فَلَا يَحِلُّ لَهُ نِكَاحُ أُمِّهَا
وَقَدْ حُكِيَ عَنْ السَّلَفِ اخْتِلَافٌ فِي حُكْمِ
الرَّبِيبَةِ
فَذَكَرَ ابْنُ جُرَيْجٍ قَالَ أَخْبَرَنِي إبْرَاهِيمُ بْنُ
عُبَيْدٍ بْنُ رِفَاعَةَ عَنْ مَالِك بْنِ أَوْسٍ عَنْ عَلِيِّ
بْنِ أَبِي طَالِبٍ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ أَنَّهُ قَالَ
فِي الرَّبِيبَةِ إذَا لَمْ تَكُنْ فِي حِجْرِ الزَّوْجِ
وَكَانَتْ فِي بَلَدٍ آخَرَ ثُمَّ فَارَقَ الْأُمَّ بَعْدَ
الدُّخُولِ إنَّهُ جَائِزٌ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ الرَّبِيبَةَ
وَنَسَبَ عبد الرزاق إبراهيم هذا فقال إبراهيم ابن عُبَيْدٍ
فِي غَيْرِ هَذَا الْحَدِيثِ وَهُوَ مَجْهُولٌ لَا تَثْبُتُ
بِمِثْلِهِ مَقَالَةٌ وَمَعَ ذَلِكَ فَإِنَّ أَهْلَ الْعِلْمِ
رَدُّوهُ وَلَمْ يَتَلَقَّهُ أَحَدٌ مِنْهُمْ بِالْقَبُولِ
وَقَدْ ذَكَرَ قَتَادَةُ عَنْ خِلَاسٍ عَنْ عَلِيٍّ أَنَّ
الرَّبِيبَةَ وَالْأُمَّ تَجْرِيَانِ مَجْرًى وَاحِدًا
وَهُوَ خِلَافُ هَذَا الْحَدِيثِ لِأَنَّ الْأُمَّ لَا
مَحَالَةَ تَحْرُمُ بِالدُّخُولِ بِالْبِنْتِ وَقَدْ جَعَلَ
الرَّبِيبَةَ مثلها فاقتضى تحريم البنت بالدخول فالأم سَوَاءٌ
كَانَتْ فِي حِجْرِهِ أَوْ لَمْ تَكُنْ وَذَكَرَ
فِي حَدِيثِ إبْرَاهِيمَ هَذَا أَنَّ عَلِيًّا احْتَجَّ فِي
ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ وَرَبائِبُكُمُ
اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ فَإِذَا لَمْ تَكُنْ فِي حِجْرِهِ
لَمْ تَحْرُمْ
وَحِكَايَةُ هَذَا الْحِجَاجِ يَدُلُّ عَلَى وَهْيِ الْحَدِيثِ
وَضَعْفِهِ لِأَنَّ عَلِيًّا لَا يُحْتَجُّ بِمِثْلِهِ
وَذَلِكَ لأنا قد علمنا أن قوله وَرَبائِبُكُمُ لَمْ يَقْتَضِ
أَنْ تَكُونَ تَرْبِيَةُ زَوْجِ الْأُمِّ لَهَا شَرْطًا فِي
التَّحْرِيمِ وَأَنَّهُ مَتَى لَمْ يُرَبِّهَا لَمْ تَحْرُمْ
وَإِنَّمَا سُمِّيت بِنْتُ الْمَرْأَةِ رَبِيبَةً لِأَنَّ
الْأَعَمَّ الْأَكْثَرَ أَنَّ زَوْجَ الْأُمِّ يُرَبِّيهَا
ثُمَّ مَعْلُومٌ أَنَّ وُقُوعَ الِاسْمِ عَلَى هَذَا
الْمَعْنَى لَمْ يُوجِبْ كَوْنَ تَرْبِيَتِهِ إيَّاهَا شَرْطًا
فِي التَّحْرِيمِ كَذَلِكَ قَوْلُهُ فِي حُجُورِكُمْ كَلَامٌ
خَرَجَ عَلَى الْأَعَمِّ الْأَكْثَرِ مِنْ كَوْنِ الرَّبِيبَةِ
فِي حِجْرِ الزَّوْجِ وَلَيْسَتْ هَذِهِ الصِّفَةُ شَرْطًا فِي
التَّحْرِيمِ كَمَا أَنَّ تَرْبِيَةَ الزَّوْجِ إيَّاهَا
لَيْسَتْ شَرْطًا فِيهِ وَهَذَا
كَقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي
خَمْسٍ وَعِشْرِينَ مِنْ الْإِبِلِ بِنْتُ مَخَاضٍ
وَفِي سِتٍّ وَثَلَاثِينَ بِنْتُ لَبُونٍ وَلَيْسَ كَوْنُ
الْمَخَاضِ أَوْ اللَّبَنِ بِالْأُمِّ شَرْطًا فِي
الْمَأْخُوذِ وَإِنَّمَا ذَكَرَهُ لِأَنَّ الْأَغْلَبَ
أَنَّهَا إذَا دَخَلَتْ فِي السَّنَةِ الثَّانِيَةِ كَانَ
بِأُمِّهَا مَخَاضٌ وَإِذَا دَخَلَتْ فِي الثَّالِثَةِ كَانَ
بِأُمِّهَا لَبَنٌ فَإِنَّمَا أَجْرَى الْكَلَامَ عَلَى
غَالِبِ الْحَالِ كَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى فِي حُجُورِكُمْ
عَلَى هَذَا الْوَجْهِ قَالَ أَبُو بَكْرٍ لَا خِلَافَ بَيْنَ
أَهْلِ الْعِلْمِ فِي تَحْرِيمِ مَنْ ذُكِرَ مِمَّنْ لَا
يُعْتَقُ عَلَيْهِ بِمِلْكِ الْيَمِينِ وَأَنَّ الْأُمَّ
وَالْأُخْتَ مِنْ الرَّضَاعَةِ مُحَرَّمَتَانِ بِمِلْكِ
الْيَمِينِ كَمَا هُمَا بِالنِّكَاحِ وَكَذَلِكَ أُمُّ
الْمَرْأَةِ وَابْنَتُهَا إذَا دَخَلَ بِالْأُمِّ وَأَنَّ
كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِ تَحْرِيمًا
مُؤَبَّدًا إذَا وَطِئَ الْأُخْرَى وَكَذَلِكَ لَا خِلَافَ
أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهُ الْجَمْعُ بَيْنَ أُمٍّ وَبِنْتٍ
بِمِلْكِ الْيَمِينِ وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ وَابْنِ
(3/72)
عَبَّاسٍ وَابْنِ عُمَرَ وَعَائِشَةَ وَلَا
خِلَافَ أَيْضًا أن الْوَطْءُ بِالنِّكَاحِ فِيمَا يَتَعَلَّقُ
بِهِ تَحْرِيمٌ مُؤَبَّدٌ
قَوْله تَعَالَى وَحَلائِلُ أَبْنائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ
أَصْلابِكُمْ قَالَ عَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ نَزَلَتْ فِي
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ تَزَوَّجَ
امْرَأَةَ زَيْدٍ
وَنَزَلَتْ وَما جَعَلَ أَدْعِياءَكُمْ أَبْناءَكُمْ وما كانَ
مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ قَالَ وَكَانَ يُقَالُ
لَهُ زَيْدُ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَ أَبُو بَكْرٍ حَلِيلَةُ
الِابْنِ هِيَ زَوْجَتُهُ وَيُقَالُ إنَّمَا سُمِّيَتْ
حَلِيلَةً لِأَنَّهَا تَحُلُّ مَعَهُ فِي فِرَاشٍ وَقِيلَ
لِأَنَّهُ يَحِلُّ لَهُ مِنْهَا الجماع بعد النكاح والأمة وإن
اسْتَبَاحَ فَرْجَهَا بِالْمِلْكِ لَا تُسَمَّى حَلِيلَةً
وَلَا تَحْرُمُ عَلَى الْأَبِ مَا لَمْ يَطَأْهَا وَعَقْدُ
نكاح الابن عليهما يُحَرِّمُهَا عَلَى أَبِيهِ تَحْرِيمًا
مُؤَبَّدًا وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْحَلِيلَةَ اسْمٌ
يَخْتَصُّ بِالزَّوْجَةِ دُونَ مِلْكِ الْيَمِينِ وَلَمَّا
عُلِّقَ حُكْمُ التَّحْرِيمِ بِالتَّسْمِيَةِ دُونَ ذِكْرِ
الْوَطْءِ اقْتَضَى ذَلِكَ تَحْرِيمَهُنَّ بِالْعَقْدِ دُونَ
شَرْطِ الْوَطْءِ لِأَنَّا لَوْ شَرَطْنَا الْوَطْءَ لَكَانَ
فِيهِ زِيَادَةٌ فِي النَّصِّ وَمِثْلُهَا يُوجِبُ النَّسْخَ
لِأَنَّهَا تُبِيحُ مَا حَظَرَتْهُ الْآيَةُ وَهَذَا لَا
خِلَافَ فِيهِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ قَالَ أَبُو بكر وقوله
تعالى الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ قد تناول عند الجميع
تَحْرِيمَ حَلِيلَةِ وَلَدِ الْوَلَدِ عَلَى الْجَدِّ وَهَذَا
يَدُلُّ عَلَى أَنَّ وَلَدَ الْوَلَدِ يُطْلَقُ عَلَيْهِ
أَنَّهُ مِنْ صُلْبِ الْجَدِّ لِأَنَّ إطْلَاقَ الْآيَةِ قد
اقتضاها عِنْدَ الْجَمِيعِ وَفِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ
وَلَدَ الولد منسوب إلى الجد بولادة وَهَذِهِ الْآيَةُ فِي
تَخْصِيصِهَا حَلِيلَةَ الِابْنِ مِنْ الصُّلْبِ فِي مَعْنَى
قَوْله تَعَالَى فَلَمَّا قَضى زَيْدٌ مِنْها وَطَراً
زَوَّجْناكَها لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ
فِي أَزْواجِ أَدْعِيائِهِمْ إِذا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً
لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنْ إبَاحَةِ تَزْوِيجِ حَلِيلَةِ الِابْنِ
مِنْ جِهَةِ التَّبَنِّي وَقَوْلُهُ فِي أَزْواجِ
أَدْعِيائِهِمْ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ حَلِيلَةَ الِابْنِ هِيَ
زَوْجَتُهُ لأنه عبر في هذا الموضوع عنهم بِاسْمِ الْأَزْوَاجِ
وَفِي الْآيَةِ الْأُولَى بِذِكْرِ الْحَلَائِلِ. قَوْله
تَعَالَى وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا ما
قَدْ سَلَفَ قَالَ أَبُو بَكْرٍ قَدْ اقْتَضَى ذَلِكَ
تَحْرِيمَ الْجَمْعِ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ فِي سَائِرِ
الْوُجُوهِ لِعُمُومِ اللَّفْظِ وَالْجَمْعُ عَلَى وُجُوهٍ
مِنْهَا أَنْ يَعْقِدَ عَلَيْهِمَا جَمِيعًا مَعًا فَلَا
يَصِحُّ نِكَاحُ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا لِأَنَّهُ جَامِعٌ
بَيْنَهُمَا وَلَيْسَتْ إحْدَاهُمَا بِأَوْلَى يجوز نِكَاحِهَا
مِنْ الْأُخْرَى وَلَا يَجُوزُ تَصْحِيحُ نِكَاحِهِمَا مَعَ
تَحْرِيمِ اللَّهِ تَعَالَى الْجَمْعَ بَيْنَهُمَا وَغَيْرُ
جَائِزٍ تَخْيِيرُ الزَّوْجِ فِي أَنْ يَخْتَارَ أَيَّتَهُمَا
شَاءَ مِنْ قِبَلِ أَنَّ الْعُقْدَةَ وَقَعَتْ فَاسِدَةً
مِثْلَ النِّكَاحِ فِي الْعِدَّةِ أَوْ هِيَ تَحْتَ زَوْجٍ
فَلَا يَصِحُّ أَبَدًا وَمِنْ الْجَمْعِ أَنْ يتزوج أحدهما
ثُمَّ يَتَزَوَّجَ الْأُخْرَى بَعْدَهَا فَلَا يَصِحُّ نِكَاحُ
الثَّانِيَةِ لِأَنَّ الْجَمْعَ بِهَا حَصَلَ وَعَقْدُهَا
وَقَعَ مَنْهِيًّا عَنْهُ وَعَقْدُ الْأُولَى وَقَعَ مُبَاحًا
فَيُفَرَّقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الثَّانِيَةِ
(3/73)
وَمِنْ الْجَمْعِ أَيْضًا أَنْ يَجْمَعَ
بَيْنَ وَطْئِهِمَا بِمِلْكِ الْيَمِينِ فَيَطَأَ إحْدَاهُمَا
ثُمَّ يَطَأَ الْأُخْرَى قَبْلَ إخْرَاجِ الْمَوْطُوءَةِ
الْأُولَى مِنْ مِلْكِهِ فَهَذَا ضَرْبٌ مِنْ الْجَمْعِ وَقَدْ
كَانَ فِيهِ خِلَافٌ بَيْنَ السَّلَفِ ثُمَّ زَالَ وَحَصَلَ
الْإِجْمَاعُ عَلَى تَحْرِيمِ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا بِمِلْكِ
الْيَمِينِ وَرُوِيَ عَنْ عُثْمَانَ وَابْنِ عَبَّاسٍ
أَنَّهُمَا أَبَاحَا ذَلِكَ وَقَالَا أَحَلَّتْهُمَا آيَةٌ
وَحَرَّمَتْهُمَا آيَةٌ وَقَالَ عُمَرُ وَعَلِيٌّ وَابْنُ
مَسْعُودٍ وَالزُّبَيْرُ وَابْنُ عُمَرَ وَعَمَّارٌ وَزَيْدُ
بْنُ ثَابِتٍ لَا يَجُوزُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا بِمِلْكِ
الْيَمِينِ
وَقَالَ الشَّعْبِيُّ سُئِلَ عَلِيٌّ عَنْ ذَلِكَ فقال
أَحَلَّتْهُمَا آيَةٌ وَحَرَّمَتْهُمَا آيَةٌ فَالْحَرَامُ
أَوْلَى
وَرَوَى عَبْدُ الرَّحْمَنِ الْمُقْرِي قَالَ حَدَّثَنَا
مُوسَى بْنُ أَيُّوبَ الْغَافِقِيُّ قَالَ حَدَّثَنِي عَمِّي
إيَاسُ بْنُ عَامِرٍ قَالَ سَأَلْت عَلَيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ
عَنْ الْأُخْتَيْنِ بِمِلْكِ الْيَمِينِ وَقَدْ وَطِئَ
إحْدَاهُمَا هَلْ يَطَأُ الْأُخْرَى فَقَالَ أَعْتِقْ
الْمَوْطُوءَةَ حَتَّى يَطَأَ الْأُخْرَى وَقَالَ مَا حَرَّمَ
اللَّهُ مِنْ الْحَرَائِرِ شَيْئًا إلَّا حَرَّمَ مِنْ
الْإِمَاءِ مِثْلَهُ إلَّا عَدَدَ الْأَرْبَعِ
وَرُوِيَ عَنْ عَمَّارٍ مِثْلُ ذَلِكَ قَالَ أَبُو بَكْرٍ
أَحَلَّتْهُمَا آيَةٌ يَعْنُونَ بِهِ قَوْله تَعَالَى
وَالْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ
أَيْمانُكُمْ وقوله حرمتهما آية قوله وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ
الْأُخْتَيْنِ فَرُوِيَ عَنْ عُثْمَانَ الْإِبَاحَةُ وَرُوِيَ
عَنْهُ أَنَّهُ ذكر التحريم والتحليل وقال لا آمر وَلَا
أَنْهَى عَنْهُ وَهَذَا الْقَوْلُ مِنْهُ يَدُلُّ عَلَى
أَنَّهُ كَانَ نَاظِرًا فِيهِ غَيْرَ قَاطِعٍ بِالتَّحْلِيلِ
وَالتَّحْرِيمِ فِيهِ فَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ قَالَ فِيهِ
بِالْإِبَاحَةِ ثُمَّ وَقَفَ فِيهِ وَقَطَعَ عَلِيٌّ فِيهِ
بِالتَّحْرِيمِ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ مِنْ
مَذْهَبِهِ أَنَّ الْحَظْرَ وَالْإِبَاحَةَ إذَا اجْتَمَعَا
فَالْحَظْرُ أَوْلَى إذَا تَسَاوَى سَبَبَاهُمَا وَكَذَلِكَ
يَجِبُ أَنْ يَكُونَ حُكْمُهُمَا فِي الْأَخْبَارِ
الْمَرْوِيَّةِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ وَمَذْهَبُ أَصْحَابِنَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ
قَوْلُهُمْ وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ
وَقَدْ رَوَى إيَاسُ بْنُ عَامِرٍ أَنَّهُ قَالَ لِعَلِيٍّ
إنَّهُمْ يَقُولُونَ إنَّك تَقُولُ أَحَلَّتْهُمَا آيَةٌ
وَحَرَّمَتْهُمَا آيَةٌ فَقَالَ كَذَبُوا
وَهَذَا يَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدَ بِهِ نَفْيَ الْمُسَاوَاةِ
فِي مُقْتَضَى الْآيَتَيْنِ وَإِبْطَالَ مَذْهَبِ مَنْ يَقُولُ
بِالْوَقْفِ فِيهِ عَلَى مَا رُوِيَ عَنْ عُثْمَانَ لِأَنَّهُ
قَالَ فِي رِوَايَةِ الشَّعْبِيِّ أَحَلَّتْهُمَا آيَةٌ
وَحَرَّمَتْهُمَا آيَةٌ وَالتَّحْرِيمُ أَوْلَى وَإِنْكَارُهُ
أَنْ يَكُونَ أَحَلَّتْهُمَا آيَةٌ وَحَرَّمَتْهُمَا آيَةٌ
إنَّمَا هُوَ عَلَى جِهَةِ أَنَّ آيَتَيْ التَّحْلِيلِ
وَالتَّحْرِيمِ غَيْرُ مُتَسَاوِيَتَيْنِ فِي مُقْتَضَاهُمَا
وَأَنَّ التَّحْرِيمَ أَوْلَى مِنْ التَّحْلِيلِ وَمِنْ جِهَةٍ
أُخْرَى أَنَّ إطْلَاقَ الْقَوْلِ بِأَنَّهُ أَحَلَّتْهُمَا
آيَةٌ وَحَرَّمَتْهُمَا آيَةٌ مِنْ غَيْرِ تَقْيِيدٍ هُوَ
قَوْلٌ مُنْكَرٌ لِاقْتِضَاءِ حَقِيقَتِهِ أَنْ يَكُونَ شَيْءٌ
وَاحِدٌ مُبَاحًا مَحْظُورًا فِي حَالٍ وَاحِدَةٍ فَجَائِزٌ
أَنْ يَكُونَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنْكَرَ إطْلَاقَ
الْقَوْلِ بِأَنَّهُ أَحَلَّتْهُمَا آيَةٌ وَحَرَّمَتْهُمَا
آيَةٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ وَأَنَّهُ إذَا كَانَ مقيدا بالقطع
(3/74)
عَلَى أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ كَانَ سَائِغًا
جَائِزًا عَلَى مَا رُوِيَ عَنْهُ فِي الْخَبَرِ الْآخَرِ
وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ التَّحْرِيمَ أَوْلَى لَوْ
تَسَاوَتْ الْآيَتَانِ فِي إيجَابِ حُكْمَيْهِمَا أَنَّ فِعْلَ
الْمَحْظُورِ يَسْتَحِقُّ بِهِ الْعِقَابَ وَتَرْكَ الْمُبَاحِ
لَا يَسْتَحِقُّ بِهِ الْعِقَابَ وَالِاحْتِيَاطُ
الِامْتِنَاعُ مِمَّا لَا يَأْمَنُ اسْتِحْقَاقَ الْعِقَابِ
بِهِ فَهَذِهِ قَضِيَّةٌ وَاجِبَةٌ فِي حُكْمِ الْعَقْلِ
وَأَيْضًا فَإِنَّ الْآيَتَيْنِ غَيْرُ مُتَسَاوِيَتَيْنِ فِي
إيجَابِ التَّحْرِيمِ وَالتَّحْلِيلِ وَغَيْرُ جَائِزٍ
الِاعْتِرَاضُ بِإِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى إذْ كُلُّ
وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا وُرُودُهَا فِي سَبَبٍ غَيْرِ سَبَبِ
الْأُخْرَى وَذَلِكَ لِأَنَّ قَوْله تَعَالَى وَأَنْ
تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ وارد حكم التحريم كقوله تعالى
وَحَلائِلُ أَبْنائِكُمُ، وَأُمَّهاتُ نِسائِكُمْ وَسَائِرُ
مَنْ ذُكِرَ فِي الْآيَةِ تَحْرِيمُهَا وقَوْله تَعَالَى
وَالْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ
أَيْمانُكُمْ وَارِدٌ فِي إبَاحَةِ الْمَسْبِيَّةِ الَّتِي
لَهَا زَوْجٌ فِي دَارِ الْحَرْبِ وَأَفَادَ وُقُوعَ
الْفُرْقَةِ وَقَطْعَ الْعِصْمَةِ فِيمَا بَيْنَهُمَا فَهُوَ
مُسْتَعْمَلٌ فِيمَا وَرَدَ فِيهِ مِنْ إيقَاعِ الْفُرْقَةِ
بَيْنَ الْمَسْبِيَّةِ وَبَيْنَ زَوْجِهَا وَإِبَاحَتِهَا
لِمَالِكِهَا فَلَا يَجُوزُ الِاعْتِرَاضُ بِهِ عَلَى
تَحْرِيمِ الْجَمْعِ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إذْ كُلُّ وَاحِدَةٍ
مِنْ الْآيَتَيْنِ وَارِدَةٌ فِي سَبَبٍ غَيْرِ سَبَبِ
الْأُخْرَى فَيُسْتَعْمَلُ حُكْمُ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا
فِي السَّبَبِ الَّذِي وَرَدَتْ فِيهِ وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ
أَنَّهُ لَا خِلَافَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ فِي أَنَّهَا لَمْ
تَعْتَرِضْ عَلَى حَلَائِلِ الْأَبْنَاءِ وَأُمَّهَاتِ
النِّسَاءِ وَسَائِرِ مَنْ ذُكِرَ تَحْرِيمُهُنَّ فِي الْآيَةِ
وَأَنَّهُ لَا يَجُوزُ وَطْءُ حَلِيلَةِ الِابْنِ وَلَا أُمِّ
الْمَرْأَةِ بِمِلْكِ الْيَمِينِ وَلَمْ يَكُنْ قَوْله تعالى
إِلَّا ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مُوجِبًا لَتَخْصِيصِهِنَّ
لَوُرُودِهِ فِي سَبَبٍ غَيْرِ سَبَبِ الْآيَةِ الْأُخْرَى
كَذَلِكَ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ حُكْمُهُ فِي اعْتِرَاضِهِ
عَلَى تَحْرِيمِ الْجَمْعِ وَامْتِنَاعِ عَلِيٍّ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ وَمَنْ تَابَعَهُ فِي ذَلِكَ مِنْ الصَّحَابَةِ
مِنْ الِاعْتِرَاضِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى إِلَّا ما مَلَكَتْ
أَيْمانُكُمْ عَلَى تَحْرِيمِ الْجَمْعِ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ
يَدُلُّ عَلَى أَنَّ حُكْمَ الْآيَتَيْنِ إذَا وَرَدَتَا فِي
سَبَبَيْنِ إحْدَاهُمَا فِي التَّحْلِيلِ وَالْأُخْرَى فِي
التَّحْرِيمِ أَنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا تَجْرِي عَلَى
حُكْمِهَا فِي ذَلِكَ السَّبَبِ وَلَا يُعْتَرَضُ بِهَا عَلَى
الْأُخْرَى وَكَذَلِكَ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ حُكْمُ
الْخَبَرَيْنِ إذَا وَرَدَا عَنْ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مِثْلِ ذَلِكَ وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ
فِي أُصُولِ الْفِقْهِ وَأَيْضًا لَا نَعْلَمُ خِلَافًا بَيْنَ
الْمُسْلِمِينَ فِي حَظْرِ الْجَمْعِ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ
إحْدَاهُمَا بِالنِّكَاحِ وَالْأُخْرَى بِمِلْكِ الْيَمِينِ
نَحْوَ أَنْ تَكُونَ عِنْدَهُ امْرَأَةٌ بِنِكَاحٍ فَيَشْتَرِي
أُخْتَهَا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهُ وَطْؤُهُمَا جَمِيعًا
وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ تَحْرِيمَ الْجَمْعِ قَدْ
انْتَظَمَ مِلْكَ الْيَمِينِ كَمَا انْتَظَمَ النِّكَاحَ
وَعُمُومُ قَوْله تَعَالَى وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ
الْأُخْتَيْنِ يَقْتَضِي تَحْرِيمَ جَمْعِهِمَا عَلَى سَائِرِ
الْوُجُوهِ وَهُوَ موجب لتحريم
(3/75)
تَزْوِيجِ الْمَرْأَةِ وَأُخْتِهَا
تَعْتَدُّ مِنْهُ لِمَا فِيهِ مِنْ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا فِي
اسْتِحْقَاقِ نَسَبِ وَلَدَيْهِمَا وَفِي إيجَابِ النَّفَقَةِ
الْمُسْتَحَقَّةِ بِالنِّكَاحِ وَالسُّكْنَى لَهُمَا وَذَلِكَ
كُلُّهُ مِنْ ضُرُوبِ الْجَمْعِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ
مَحْظُورًا مُنْتَفِيًا بِتَحْرِيمِهِ الْجَمْعَ بَيْنَهُمَا
فَإِنْ قِيلَ قَوْله تَعَالَى وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ
الْأُخْتَيْنِ مَقْصُورٌ عَلَى النِّكَاحِ دُونَ غَيْرِهِ
قِيلَ لَهُ هَذَا غَلَطٌ لِاتِّفَاقِ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ
عَلَى تَحْرِيمِ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا بِمِلْكِ الْيَمِينِ
عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ وَلَيْسَ مِلْكُ الْيَمِينِ بِنِكَاحٍ
فَعَلِمْنَا أَنَّ تَحْرِيمَ الْجَمْعِ غَيْرُ مَقْصُورٍ عَلَى
النِّكَاحِ وَأَيْضًا فَإِنَّ اقْتِصَارَك بِالتَّحْرِيمِ
عَلَى النِّكَاحِ دُونَ غَيْرِهِ مِنْ سَائِرِ ضُرُوبِ
الْجَمْعِ تَخْصِيصٌ بِغَيْرِ دَلَالَةٍ وَذَلِكَ غَيْرُ
سَائِغٍ لِأَحَدٍ وَقَدْ اخْتَلَفَ السَّلَفُ وَفُقَهَاءُ
الْأَمْصَارِ فِي ذَلِكَ
فَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسِ وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ
وَعَبِيدَةَ السَّلْمَانِيِّ وَعَطَاءٍ وَمُحَمَّدِ بْنِ
سِيرِينَ وَمُجَاهِدٍ فِي آخَرِينَ مِنْ التَّابِعِينَ أَنَّهُ
لَا يَتَزَوَّجُ الْمَرْأَةَ فِي عِدَّةِ أُخْتِهَا وَكَذَلِكَ
لَا يَتَزَوَّجُ الْخَامِسَةَ
وَإِحْدَى الْأَرْبَعِ تَعْتَدُّ مِنْهُ فَبَعْضُهُمْ أَطْلَقَ
الْعِدَّةَ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ
وَمُحَمَّدٍ وزفر والثوري وَالْحَسَنِ بْنِ صَالِحٍ وَرُوِيَ
عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ وَالْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ
وَخِلَاسٍ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ أُخْتَهَا إذَا كَانَتْ
عِدَّتُهَا مِنْ طَلَاقٍ بَائِنٍ وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ
وَالْأَوْزَاعِيِّ وَاللَّيْثِ وَالشَّافِعِيِّ وَاخْتَلَفَ
عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ وَالْحَسَنِ وَعَطَاءٍ
فَرُوِيَ عَنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ رِوَايَتَانِ
إحْدَاهُمَا أَنَّهُ يَتَزَوَّجُهَا وَالْأُخْرَى أَنَّهُ لَا
يَتَزَوَّجُهَا وَقَالَ قَتَادَةُ رَجَعَ الْحَسَنُ عَنْ
قَوْلِهِ أَنَّهُ يَتَزَوَّجُهَا فِي عِدَّةِ أُخْتِهَا وَمَا
قَدَّمْنَا مِنْ دَلَالَةِ الْآيَةِ وَعُمُومِهَا فِي
تَحْرِيمِ الْجَمْعِ كَافٍ فِي إيجاب التحريم وما دَامَتْ
الْأُخْتُ مُعْتَدَّةً مِنْهُ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ مِنْ جِهَةِ
النَّظَرِ اتِّفَاقُ الْجَمِيعِ عَلَى تَحْرِيمِ الْجَمْعِ
بَيْنَ وَطْءِ الْأُخْتَيْنِ بِمِلْكِ الْيَمِينِ وَالْمَعْنَى
فِيهِ أَنَّ إبَاحَةَ الْوَطْءِ حُكْمٌ مِنْ أَحْكَامِ
النِّكَاحِ وإن لم يكن نكاحا وَلَا عَقْدٌ فَوَاجِبٌ عَلَى
ذَلِكَ تَحْرِيمُ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا فِي حُكْمٍ مِنْ
أَحْكَامِ النِّكَاحِ فَلَمَّا كَانَ اسْتِلْحَاقُ النَّسَبِ
وَوُجُوبُ النَّفَقَةِ وَالسُّكْنَى مِنْ أَحْكَامِ النِّكَاحِ
وَجَبَ أَنْ يَكُونَ مَمْنُوعًا مِنْ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا
فِيهِ فَإِنْ قِيلَ كَيْفَ يَكُونُ جَامِعًا بَيْنَهُمَا مَعَ
ارْتِفَاعِ الزَّوْجِيَّةِ وَكَوْنِهَا أَجْنَبِيَّةً مِنْهُ
وَلَوْ كَانَ قَدْ طَلَّقَهَا ثَلَاثًا ثُمَّ وَطِئَهَا فِي
الْعِدَّةِ وَجَبَ عَلَيْهِ الْحَدُّ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى
أَنَّهَا بِمَنْزِلَةِ الْأَجْنَبِيَّةِ مِنْهُ فَلَا تَمْنَعُ
تَزْوِيجَ أُخْتِهَا قِيلَ لَهُ لَا يَخْتَلِفَانِ في وجوب
الحد لأنه كما يَجِبُ عَلَيْهَا بِوَطْئِهِ إيَّاهَا وَمَعَ
ذَلِكَ لَا يَجُوزُ لَهَا أَنْ تَتَزَوَّجَ وَتَجْمَعَ إلَى
حُقُوقِ نِكَاحِ الْأَوَّلِ زَوْجًا آخَرَ وَلَمْ يَكُنْ
وُجُوبُ الْحَدِّ عَلَيْهَا بِمُطَاوَعَتِهَا إيَّاهُ عَلَى
الْوَطْءِ مُبِيحًا لَهَا نِكَاحَ زَوْجٍ آخَرَ بَلْ كَانَتْ
فِي الْمَنْعِ مِنْ زَوْجٍ ثَانٍ بِمَنْزِلَةِ مَنْ هِيَ في
حباله وَكَذَلِكَ الزَّوْجُ لَا يَجُوزُ
(3/76)
لَهُ جَمْعُ أُخْتِهَا فِي هَذِهِ الْحَالِ
مَعَ بَقَاءِ حُقُوقِ النِّكَاحِ وَإِنْ كَانَ وَطْؤُهُ
إيَّاهَا مُوجِبًا لِلْحَدِّ وَدَلِيلٌ آخَرُ وَهُوَ أَنَّهُ
لَمَّا كَانَ تَحْرِيمُ نِكَاحِ الْأُخْتِ مِنْ طَرِيقِ
الْجَمْعِ وَوَجَدْنَا تَحْرِيمَ نِكَاحِ زَوْجٍ آخَرَ إذَا
كَانَتْ عِنْدَ زَوْجٍ مِنْ طَرِيقِ الْجَمْعِ ثُمَّ وَجَدْنَا
العدة تمنع من الجمع ما تمنع نَفْسُ النِّكَاحِ وَجَبَ أَنْ
يَكُونَ الزَّوْجُ مَمْنُوعًا مِنْ تَزْوِيجِ أُخْتِهَا فِي
عِدَّتِهَا كَمَا مُنِعَ ذَلِكَ فِي حَالِ بَقَاءِ نِكَاحِهَا
إذْ كَانَتْ الْعِدَّةُ تَمْنَعُ مِنْ الْجَمْعِ مَا
يَمْنَعُهُ نَفْسُ النِّكَاحِ كَمَا جَرَتْ الْعِدَّةُ مَجْرَى
النِّكَاحِ فِي بَابِ مَنْعِهَا مِنْ نِكَاحِ زَوْجٍ آخَرَ
حَتَّى تَنْقَضِيَ عِدَّتُهَا فَإِنْ قِيلَ هَذَا يُوجِبُ أَنْ
يَكُونَ الرَّجُلُ فِي الْعِدَّةِ إذَا مَنَعْته مِنْ
تَزْوِيجِ الْأُخْتِ حَتَّى تَنْقَضِيَ عِدَّتُهَا قِيلَ لَهُ
لَيْسَ تَحْرِيمُ النِّكَاحِ مَقْصُورًا عَلَى الْعِدَّةِ
حَتَّى إذَا مَنَعْنَاهُ مِنْ نِكَاحِ أُخْتِهَا فَقَدْ
جَعَلْنَاهُ فِي الْعِدَّةِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ مَمْنُوعٌ
مِنْ تَزَوَّجَ أُخْتِهَا إذَا كَانَتْ مُعْتَدَّةً مِنْهُ
مِنْ طلاق رجعي ولم يوجب الرجل في العدة وكذلك قبل طلاق كُلُّ
وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَمْنُوعٌ مِنْ عَقْدِ نِكَاحٍ عَلَى
الْأُخْتِ أَوْ لِزَوْجٍ آخَرَ وَلَيْسَ وَاحِدٌ مِنْهُمَا فِي
الْعِدَّةِ وقَوْله تَعَالَى إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ قَالَ
أَبُو بَكْرٍ قَدْ ذَكَرْنَا مَعْنَى قَوْلِهِ إِلَّا مَا قَدْ
سَلَفَ عِنْدَ ذِكْرِ قَوْله تَعَالَى وَلا تَنْكِحُوا مَا
نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ
وَاخْتِلَافُ الْمُخْتَلِفِينَ فِي تَأْوِيلِهِ وَاحْتِمَالِهِ
لِمَا قِيلَ فِيهِ وَقَالَ تَعَالَى عِنْدَ ذِكْرِ تَحْرِيمِ
الْجَمْعِ بين الأختين إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ وَهُوَ فِي هَذَا
الْمَوْضِعِ يَحْتَمِلُ مِنْ الْمَعَانِي مَا احْتَمَلَهُ
الْأَوَّلُ وَفِيهِ احْتِمَالٌ لِمَعْنًى آخَرَ لَا
يَحْتَمِلُهُ الْأَوَّلُ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ أَنَّ
الْعُقُودَ الْمُتَقَدِّمَةَ عَلَى الْأُخْتَيْنِ لَا
تَنْفَسِخُ ويكون أَنْ يَخْتَارَ إحْدَاهُمَا وَيَدُلُّ
عَلَيْهِ
حَدِيثُ أَبِي وَهْبٍ الْجَيَشَانِيِّ عَنْ الضَّحَّاكِ بْنِ
فَيْرُوزَ الدَّيْلَمِيِّ عَنْ أَبِيهِ قَالَ أَسْلَمْت
وَعِنْدِي أُخْتَانِ فَأَتَيْت النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ طَلِّقْ إحْدَاهُمَا وَفِي بَعْضِ
الْأَلْفَاظِ طَلِّقْ أَيَّتَهُمَا شِئْت
فَلَمْ يَأْمُرْهُ بِمُفَارَقَتِهِمَا إنْ كَانَ الْعَقْدُ
عَلَيْهِمَا مَعًا وَلَمْ يَأْمُرْهُ بِمُفَارَقَةِ الْآخِرَةِ
مِنْهُمَا إنْ كان تزوجهما في عقدين ولم يسئله عَنْ ذَلِكَ
فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى بَقَاءِ نِكَاحِهِ عَلَيْهِمَا
بِقَوْلِهِ طَلِّقْ أَيَّتَهمَا شِئْت وَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى
أَنَّ الْعَقْدَ عَلَيْهِمَا كَانَ صَحِيحًا قَبْلَ نُزُولِ
التَّحْرِيمِ وَأَنَّهُمْ كَانُوا مُقَرِّينَ عَلَى مَا
كَانُوا عَلَيْهِ مِنْ عُقُودِهِمْ قَبْلَ قِيَامِ حُجَّةِ
السمع ببطلانها واختلاف أهل العلم في الكافر يسلم وتحته
أُخْتَانِ أَوْ خَمْسُ أَجْنَبِيَّاتٍ فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ
وَأَبُو يُوسُفَ وَالثَّوْرِيُّ يَخْتَارُ الْأَوَائِلَ
مِنْهُنَّ إنْ كان خَمْسًا وَإِنْ كَانَتَا أُخْتَيْنِ
اخْتَارَ الْأُولَى وَإِنْ كَانَ تَزَوَّجَهُنَّ فِي عُقْدَةٍ
وَاحِدَةٍ فُرِّقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُنَّ وَقَالَ مُحَمَّدُ
بْنُ الْحَسَنِ وَمَالِكٌ وَاللَّيْثُ وَالْأَوْزَاعِيِّ
وَالشَّافِعِيُّ يَخْتَارُ مِنْ الْخَمْسِ
(3/77)
أَرْبَعًا أَيَّتَهُنَّ شَاءَ وَمِنْ
الْأُخْتَيْنِ أَيَّتَهمَا شَاءَ إلَّا أَنَّ الْأَوْزَاعِيَّ
رُوِيَ عَنْهُ فِي الْأُخْتَيْنِ أَنَّ الْأُولَى امْرَأَتُهُ
وَيُفَارِقُ الْآخِرَةَ وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ
يَخْتَارُ الْأَرْبَعَ الْأَوَائِلَ فَإِنْ لَمْ يَدْرِ
أَيَّتَهُنَّ الْأُولَى طَلَّقَ كُلَّ وَاحِدَةٍ حَتَّى
تَنْقَضِيَ عِدَّتُهَا ثُمَّ يَتَزَوَّجَ أَرْبَعًا
وَالدَّلِيلُ عَلَى صِحَّةِ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ قَوْله
تَعَالَى وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ وَذَلِكَ
خِطَابٌ لِجَمِيعِ الْمُكَلَّفِينَ فَكَانَ عَقْدُ الْكَافِرِ
عَلَى الْأُخْتَيْنِ بَعْدَ نُزُولِ التَّحْرِيمِ كَعَقْدِ
الْمُسْلِمِ فِي حُكْمِ الْفَسَادِ فَوَجَبَ التَّفْرِيقُ
بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْآخِرَةِ لِوُقُوعِ عَقْدِهَا عَلَى
فَسَادٍ بِنَصِّ التَّنْزِيلِ كَمَا يُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا
لَوْ نَكَحَهَا بَعْدَ الْإِسْلَامِ لقوله تعالى وَأَنْ
تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ وَالْجَمْعُ وَاقِعٌ
بِالثَّانِيَةِ وَإِنْ كَانَ تَزَوَّجَهُمَا فِي عُقْدَةٍ
وَاحِدَةٍ فَهِيَ فَاسِدَةٌ فِيهِمَا جَمِيعًا لَوُقُوعِهَا
مَنْهِيًّا عَنْهَا بِظَاهِرِ النَّصِّ فَدَلَّ ذَلِكَ مِنْ
وَجْهَيْنِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا أَحَدُهُمَا وُقُوعُ
الْعُقْدَةِ مَنْهِيًّا عَنْهَا وَالنَّهْيُ عِنْدَنَا
يَقْتَضِي الْفَسَادَ وَالثَّانِي أنه منع الجمع بينهما بحال
فلو بقينا عَقْدَهُ عَلَيْهِمَا بَعْدَ الْإِسْلَامِ كُنَّا
مُثْبِتِينَ لِمَا نَفَاهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ الْجَمْعِ
فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى بُطْلَانِ الْعَقْدِ الَّذِي وَقَعَ بِهِ
الْجَمْعُ وَمِنْ جِهَةِ النَّظَرِ أَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَجُزْ
أَنْ يَبْتَدِئَ الْمُسْلِمُ عَقْدًا عَلَى أُخْتَيْنِ وَلَمْ
يَجُزْ أَيْضًا أَنْ يَبْقَى لَهُ عَقْدٌ عَلَى أُخْتَيْنِ
وَإِنْ لَمْ تَكُونَا أُخْتَيْنِ فِي حَالِ العقد كمن تزوج
رضيعتين فأرضعهما امْرَأَةٌ فَاسْتَوَى حُكْمُ الِابْتِدَاءِ
وَالْبَقَاءِ فِي نَفْيِ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا أَشْبَهَ
نِكَاحَ ذَوَاتِ الْمَحَارِمِ فِي اسْتِوَاءِ حَالِ الْبَقَاءِ
وَالِابْتِدَاءِ فِيهِمَا فَلَمَّا لَمْ يَخْتَلِفْ الْعَقْدُ
عَلَى ذَوَاتِ الْمَحَارِمِ فِي وُقُوعِهِ فِي حَالِ الْكُفْرِ
وَحَالِ الْإِسْلَامِ وَوَجَبَ التَّفْرِيقُ مَتَى طَرَأَ
عَلَيْهِ الْإِسْلَامُ وَكَانَ بِمَنْزِلَةِ ابْتِدَاءِ
الْعَقْدِ بَعْدَ الْإِسْلَامِ وَجَبَ مِثْلُهُ فِي نِكَاحِ
الْأُخْتَيْنِ وَأَكْثَرِ مِنْ أَرْبَعِ نِسْوَةٍ وَكَمَا لَمْ
يختلف حكم البقاء والابتداء فيهما كَمَا قُلْنَا فِي ذَوَاتِ
الْمَحَارِمِ وَاحْتَجَّ مَنْ خَيَّرَهُ بَعْدَ الْإِسْلَامِ
بِحَدِيثِ فَيْرُوزَ الدَّيْلَمِيِّ الَّذِي قَدَّمْنَاهُ
وَبِمَا
رَوَى ابْنُ أَبِي لَيْلَى عَنْ حميضة بن الشمر دل عن الحرث
بْنِ قَيْسٍ قَالَ أَسْلَمْت وَعِنْدِي ثَمَانُ نِسْوَةٍ
فَأَمَرَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَنْ أَخْتَارَ مِنْهُنَّ أَرْبَعًا
وَبِمَا رَوَى مَعْمَرٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَالِمٍ عَنْ
ابْنِ عُمَرَ أَنَّ غَيْلَانَ بْنَ سَلَمَةَ أَسْلَمَ
وَعِنْدَهُ عَشْرُ نِسْوَةٍ فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خُذْ مِنْهُنَّ أَرْبَعًا
فَأَمَّا حَدِيثُ فَيْرُوزَ فَإِنَّ فِي لَفْظِهِ مَا يَدُلُّ
عَلَى صِحَّةِ الْعَقْدِ وَكَانَ قَبْلَ نُزُولِ التَّحْرِيمِ
لِأَنَّهُ قَالَ أَيَّتَهمَا شِئْت وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى
بَقَاءِ الْعَقْدِ عَلَيْهِمَا بَعْدَ الْإِسْلَامِ وَحَدِيثُ
الْحَارِثِ بْنِ قَيْسٍ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْعَقْدُ
كَانَ قَبْلَ نُزُولِ التَّحْرِيمِ فَكَانَ صَحِيحًا إلَى أَنْ
طَرَأَ التَّحْرِيمُ فَلَزِمَهُ اخْتِيَارُ الْأَرْبَعِ
مِنْهُنَّ وَمُفَارَقَةُ سَائِرِهِنَّ كَرَجُلٍ لَهُ
امْرَأَتَانِ فَطَلَّقَ إحْدَاهُمَا
(3/78)
ثلاثا فيقال له اختر أيهما شِئْت لِأَنَّ
الْعَقْدَ كَانَ صَحِيحًا إلَى أَنْ طَرَأَ التَّحْرِيمُ
فَإِنْ قِيلَ لَوْ كَانَ ذَلِكَ يَخْتَلِفُ لَسَأَلَهُ
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ وَقْتِ
الْعَقْدِ قِيلَ لَهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ النَّبِيُّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ عَلِمَ ذَلِكَ فَاكْتَفَى
بِعِلْمِهِ عَنْ مَسْأَلَتِهِ وَأَمَّا حَدِيثُ مَعْمَرٍ عَنْ
الزُّهْرِيِّ عَنْ سَالِمٍ عَنْ أَبِيهِ فِي قِصَّةِ غَيْلَانَ
فَإِنَّهُ مِمَّا لَا يَشُكُّ أَهْلُ النَّقْلِ فِيهِ أَنَّ
مَعْمَرًا أَخْطَأَ فِيهِ بِالْبَصْرَةِ وَأَنَّ أَصْلَ هَذَا
الْحَدِيثِ مَقْطُوعٌ مِنْ حَدِيثِ الزُّهْرِيِّ
رَوَاهُ مَالِكٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ بَلَغَنَا أَنَّ
رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ
لِرَجُلٍ مِنْ ثَقِيفٍ أَسْلَمَ وَعِنْدَهُ عَشْرُ نِسْوَةٍ
اخْتَرْ مِنْهُنَّ أَرْبَعًا
وَرَوَاهُ عنه عقيل ابن خَالِدٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ
بَلَغَنَا عَنْ عُثْمَانَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي سُوَيْد
أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال
لِغَيْلَانَ بْنِ سَلَمَةَ وَكَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ
عِنْدَهُ عَنْ سَالِمٍ عَنْ أَبِيهِ فَيَجْعَلُهُ بَلَاغًا عن
عثمان ابن مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي سُوَيْد وَيُقَالُ إنَّهُ
إنَّمَا جَاءَ الْغَلَطُ مِنْ قِبَلِ أَنَّ مَعْمَرًا كَانَ
عِنْدَهُ عَنْ الزُّهْرِيِّ حَدِيثَانِ فِي قِصَّةِ غَيْلَانَ
أَحَدُهُمَا هَذَا وَهُوَ بَلَاغٌ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ
مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي سُوَيْد وَالْآخَرُ حَدِيثُهُ عَنْ
سَالِمٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ غَيْلَانَ بْنَ سَلَمَةَ طَلَّقَ
نِسَاءَهُ فِي زَمَنِ عُمَرَ وَقَسَّمَ مَالَهُ بَيْنَ
وَرَثَتِهِ فَقَالَ لَهُ عُمَرُ لَئِنْ لَمْ تُرَاجِعْ
نِسَاءَك ثُمَّ مِتَّ لَأُوَرِّثُهُنَّ ثُمَّ لَأَرْجُمَنَّ
قَبْرَك كَمَا رُجِمَ قَبْرُ أَبِي رِغَالٍ فَأَخْطَأَ
مَعْمَرٌ وَجَعَلَ إسْنَادَ هَذَا الْحَدِيثِ لِحَدِيثِ
إسْلَامِهِ مع النسوة.
(فَصْلٌ) قَالَ أَبُو بَكْرٍ وَالْمَنْصُوصُ عَلَى تَحْرِيمِهِ
فِي الْكِتَابِ هُوَ الْجَمْعُ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ وَقَدْ
وَرَدَتْ آثَارٌ مُتَوَاتِرَةٌ فِي النَّهْيِ عَنْ الْجَمْعِ
بَيْنَ الْمَرْأَةِ وَعَمَّتِهَا وَخَالَتِهَا
رَوَاهُ عَلِيٌّ وَابْنُ عباس وجابر وابن عمرو أبو مُوسَى
وَأَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ وَأَبُو هُرَيْرَةَ وَعَائِشَةُ
وعبد الله ابن عمر أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قَالَ لَا تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ عَلَى عَمَّتِهَا
وَلَا عَلَى خَالَتِهَا وَلَا عَلَى بِنْتِ أَخِيهَا وَلَا
عَلَى بِنْتِ أُخْتِهَا وَفِي بَعْضِهَا لَا الصُّغْرَى عَلَى
الْكُبْرَى وَلَا الْكُبْرَى عَلَى الصُّغْرَى
عَلَى اخْتِلَافِ بَعْضِ الْأَلْفَاظِ مَعَ اتِّفَاقِ
الْمَعْنَى وقد تلقها النَّاسُ بِالْقَبُولِ مَعَ تَوَاتُرِهَا
وَاسْتِفَاضَتِهَا وَهِيَ مِنْ الْأَخْبَارِ الْمُوجِبَةِ
لِلْعِلْمِ وَالْعَمَلِ فَوَجَبَ اسْتِعْمَالُ حُكْمِهَا مَعَ
الْآيَةِ وَشَذَّتْ طَائِفَةٌ مِنْ الْخَوَارِجِ بِإِبَاحَةِ
الْجَمْعِ بَيْنَ مَنْ عَدَا الْأُخْتَيْنِ لِقَوْلِهِ
تَعَالَى وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ وَأَخْطَأَتْ فِي
ذَلِكَ وَضَلَّتْ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ لِأَنَّ اللَّهَ
تَعَالَى كَمَا قَالَ وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ قال
وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَقَدْ ثَبَتَ عَنْ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَحْرِيمُ
الْجَمْعِ بَيْنَ مَنْ ذَكَرْنَا فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ
مَضْمُومًا إلَى الْآيَةِ فَيَكُونُ قَوْله تعالى وَأُحِلَّ
لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ مُسْتَعْمَلًا فِيمَنْ عَدَا
الْأُخْتَيْنِ وَعَدَا مَنْ بَيَّنَ النبي صلى الله عليه وسلم
تحريم الجمع بينهن
(3/79)
وَلَيْسَ يَخْلُو قَوْله تَعَالَى
وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَراءَ ذلِكُمْ مِنْ أَنْ يَكُونَ نَزَلَ
قَبْلَ حُكْمِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
بِتَحْرِيمِ مَنْ حَرَّمَ الْجَمْعَ بَيْنَهُنَّ أَوْ مَعَهُ
أَوْ بَعْدَهُ وَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَكُونَ قَوْله تَعَالَى
وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ بَعْدَ الْخَبَرِ لِأَنَّ
قَوْله تَعَالَى وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ مُرَتَّبٌ
عَلَى تَحْرِيمِ مَنْ ذُكِرَ تَحْرِيمُهُنَّ مِنْهُنَّ لأن
قوله ما وَراءَ ذلِكُمْ الْمُرَادُ بِهِ مَا وَرَاءَ مَنْ
تَقَدَّمَ ذِكْرُ تَحْرِيمِهِنَّ وَقَدْ كَانَ قَبْلَ
تَحْرِيمِ الْجَمْعِ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ جَمِيعُ ذَلِكَ
مُبَاحًا فَعَلِمْنَا أَنَّ تَحْرِيمَ مَنْ ذُكِرَ تَحْرِيمُ
الْجَمْعِ بَيْنَهُنَّ فِي الْخَبَرِ لَمْ يَكُنْ قَبْلَ
تَحْرِيمِ الْجَمْعِ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ وَإِذَا امْتَنَعَ
أَنْ يَكُونَ الْخَبَرُ قَبْلَ الْآيَةِ لَمْ يَخْلُ مِنْ أَنْ
يَكُونَ مَعَهَا أَوْ بَعْدَهَا فَإِنْ كَانَ مَعَهَا فَلَمْ
تَرُدَّ الْآيَةُ إلا خاصة فيما عَدَا مَا ذُكِرَ فِي
الْخَبَرِ تَحْرِيمُ جَمْعِهِنَّ وَعَلِمْنَا
أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ
ذَلِكَ عَقِيبَ تِلَاوَةِ الْآيَةِ
وَبَيَّنَ مُرَادَ اللَّهِ تَعَالَى بِهَا فَلَمْ يَعْقِلْ
السَّامِعُونَ لِلْآيَةِ حكما إلا خاصا على ما بينا وَإِنْ
كَانَ حُكْمُ الْآيَةِ اسْتَقَرَّ عَلَى مُقْتَضَى عُمُومِ
لَفْظِهَا ثُمَّ وَرَدَ الْخَبَرُ فَإِنَّ هَذَا لَا يَكُونُ
إلَّا عَلَى وَجْهِ النَّسْخِ وَنَسْخُ الْقُرْآنِ جَائِزٌ
بِمِثْلِهِ لِتَوَاتُرِهِ وَاسْتِفَاضَتِهِ وَكَوْنِهِ فِي
حَيِّزِ الْأَخْبَارِ الْمُوجِبَةِ لِلْعِلْمِ وَالْعَمَلِ
فَإِنْ لَمْ يَثْبُتْ عِنْدَنَا تَارِيخُ الْآيَةِ وَالْخَبَرُ
مَعَ حُصُولِ الْيَقِينِ بِأَنَّهُ غَيْرُ مَنْسُوخٍ
بِالْآيَةِ لِأَنَّهُ لَمْ يَرِدْ قَبْلَهَا عَلَى مَا
بَيَّنَّا آنِفًا وَجَبَ اسْتِعْمَالُهُ مَعَ الْآيَةِ
وَأَوْلَى الْأَشْيَاءِ أَنْ يَكُونَ الْآيَةُ وَالْخَبَرُ
وَرَدَا مَعًا لِأَنَّهُ لَيْسَ عِنْدَنَا عِلْمٌ
بِتَارِيخِهِمَا وَغَيْرُ جَائِزٍ لَنَا الْحُكْمُ
بِتَأَخُّرِهِ عَنْ الْآيَةِ وَنَسْخِ بَعْضِ أَحْكَامِ
الْآيَةِ بِهِ لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يَكُونُ إلَّا بَعْدَ
اسْتِقْرَارِ حُكْمِ الْآيَةِ عَلَى عُمُومِهَا ثُمَّ وَرَدَ
النَّسْخُ عَلَيْهَا بِالْخَبَرِ فَوَجَبَ الْحُكْمُ
بِوُرُودِهِمَا مَعًا وَلِأَنَّ الْآيَةَ وَالْخَبَرَ إذَا
لَمْ يُعْلَمْ تَارِيخُهُمَا وَجَبَ الْحُكْمُ بِهِمَا مَعًا
كَالْغَرْقَى وَالْقَوْمِ الَّذِينَ يَقَعُ عَلَيْهِمْ
الْبَيْتُ إذَا لَمْ يُعْلَمْ مَوْتُ أَحَدِهِمْ مُتَقَدِّمًا
عَلَى الْآخَرِ حَكَمْنَا بِمَوْتِهِمْ جَمِيعًا مَعًا والله
أعلم.
باب نكاح ذوات الزوج
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى وَالْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ إِلَّا
ما مَلَكَتْ عَطْفًا عَلَى مَنْ حُرِّمَ مِنْ النِّسَاءِ مِنْ
عند قوله تعالى حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ فَرَوَى
سُفْيَانُ عَنْ حَمَّادِ عَنْ إبْرَاهِيمَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ
وَالْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ
أَيْمانُكُمْ قَالَ ذَوَاتُ الْأَزْوَاجِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ
وَالْمُشْرِكِينَ
وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ ذَوَاتُ الْأَزْوَاجِ مِنْ
المشركين
وقد روى عن سعيد ابن جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ كُلُّ ذَاتِ
زَوْجٍ إتْيَانُهَا زِنًا إلَّا مَا سُبِيَتْ قَالَ أَبُو
بَكْرٍ اتَّفَقَ هَؤُلَاءِ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ
تعالى وَالْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ ذَوَاتُ الْأَزْوَاجِ
مِنْهُنَّ وَأَنَّ
(3/80)
نِكَاحَهَا حَرَامٌ مَا دَامَتْ ذَاتَ
زَوْجٍ وَاخْتَلَفُوا فِي قَوْله تَعَالَى إِلَّا مَا مَلَكَتْ
أَيْمانُكُمْ فَتَأَوَّلَهُ عَلِيٌّ وَابْنُ عَبَّاسٍ فِي
رِوَايَةٍ وَعُمَرُ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ وَابْنُ
عُمَرَ أَنَّ الْآيَةَ إنَّمَا وَرَدَتْ فِي ذَوَاتِ
الْأَزْوَاجِ مِنْ السَّبَايَا أُبِيحَ وَطْؤُهُنَّ بِمِلْكِ
الْيَمِينِ وَوَجَبَ بِحُدُوثِ السَّبْيِ عَلَيْهَا دُونَ
زَوْجِهَا وُقُوعُ الْفُرْقَةِ بَيْنَهُمَا وَكَانُوا
يَقُولُونَ إنَّ بَيْعَ الْأَمَةِ لَا يَكُونُ طَلَاقًا وَلَا
يَبْطُلُ نِكَاحُهَا وَتَأَوَّلَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ وَأُبَيُّ
بْنُ كَعْبٍ وَأَنَسُ بْنُ مَالِكٍ وَجَابِرُ بْنُ عَبْدِ
اللَّهِ وَابْنُ عَبَّاسٍ فِي رِوَايَةِ عِكْرِمَةَ أَنَّهُ
فِي جَمِيعِ ذَوَاتِ الْأَزْوَاجِ مِنْ السَّبَايَا
وَغَيْرِهِمْ وَكَانُوا يَقُولُونَ بَيْعُ الْأَمَةِ
طَلَاقُهَا
وَقَدْ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قَالَ حَدَّثَنَا
أَبُو دَاوُد قَالَ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ
بْنُ مَيْسَرَةَ قَالَ حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ قَالَ
حَدَّثَنَا سَعِيدٌ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَبِي الْخَلِيلِ عَنْ
أَبِي عَلْقَمَةَ الْهَاشِمِيِّ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ
الْخُدْرِيِّ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ بَعَثَ جَيْشًا إلَى أَوْطَاسٍ فَلَقُوا عَدُوًّا
فَقَاتَلُوهُمْ وَظَهَرُوا عَلَيْهِمْ فَأَصَابُوا مِنْهُمْ
سَبَايَا لَهُنَّ أَزْوَاجٌ مِنْ الْمُشْرِكِينَ فَكَانَ
الْمُسْلِمُونَ يَتَحَرَّجُونَ من غشيانهم فَأَنْزَلَ اللَّهُ
تَعَالَى وَالْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ
أَيْمانُكُمْ
أَيْ هُنَّ لَكُمْ حَلَالٌ إذَا انْقَضَتْ عِدَّتُهُنَّ وَقَدْ
ذُكِرَ أَنَّ أَبَا عَلْقَمَةَ هَذَا رَجُلٌ جَلِيلٌ مِنْ
أَهْلِ الْعِلْمِ وَقَدْ رَوَى عَنْهُ يعلى ابن عَطَاءٍ
وَرَوَى هُوَ هَذَا الْحَدِيثَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ وَلَهُ
أَحَادِيثُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَهَذَا حَدِيثٌ صَحِيحُ
السَّنَدِ قَدْ أَخْبَرَ فِيهِ بِسَبَبِ نُزُولِ الْآيَةِ
وَأَنَّهَا فِي السَّبَايَا وَتَأَوَّلَهَا ابْنُ مَسْعُودٍ
وَمَنْ وَافَقَهُ عَلَى جَمِيعِ النِّسَاءِ ذَوَاتِ
الْأَزْوَاجِ إذَا مُلِكْنَ حَلَّ وَطْؤُهُنَّ لِمَالِكِهِنَّ
وَوَقَعَتْ الْفُرْقَةُ بَيْنَهُنَّ وَبَيْنَ أَزْوَاجِهِنَّ
فَإِنْ قِيلَ أَنْتُمْ لَا تَعْتَبِرُونَ السَّبَبَ وَإِنَّمَا
تُرَاعُونَ حُكْمَ اللَّفْظِ إنْ كَانَ عَامًّا فَهُوَ عَلَى
عُمُومِهِ حَتَّى تَقُومَ دَلَالَةُ الْخُصُوصِ فَهَلَّا
اعْتَبَرْت ذَلِكَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَجَعَلْتهَا عَلَى
الْعُمُومِ فِي سَائِرِ مَنْ يَطْرَأُ عَلَيْهِ الْمِلْكُ مِنْ
النِّسَاءِ ذَوَاتِ الْأَزْوَاجِ فَيَنْتَظِمُ السَّبَايَا
وَغَيْرُهُنَّ قِيلَ لَهُ الدَّلَالَةُ ظاهرة في الآية على
خصوصها في السبايا وَذَلِكَ لِأَنَّهُ قَالَ وَالْمُحْصَناتُ
مِنَ النِّساءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ فَلَوْ كَانَ
حُدُوثُ الْمِلْكِ مُوجِبًا لِإِيقَاعِ الْفُرْقَةِ لَوَجَبَ
أَنْ تَقَعَ الْفُرْقَةُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ زَوْجِهَا إذَا
اشْتَرَتْهَا امْرَأَةٌ أَوْ أَخُوهَا مِنْ الرَّضَاعَةِ
لِحُدُوثِ الْمِلْكِ فَإِنْ قِيلَ جَائِزٌ أَنْ يُقَالَ ذلك في
سائر من طَرَأَ عَلَيْهِنَّ الْمِلْكُ سَوَاءٌ كَانَ حُدُوثُ
الْمِلْكِ سَبَبًا لِإِبَاحَةِ الْوَطْءِ أَوْ لَمْ يَكُنْ
بِأَنْ تَمْلِكَهَا امْرَأَةٌ أَوْ رَجُلٌ لَا يَحِلُّ لَهُ
وَطْؤُهَا قِيلَ لَهُ فَشَأْنُ الْآيَةِ إنَّمَا هُوَ فِيمَنْ
حَدَثَ لَهُ مِلْكُ الْيَمِينِ فَأَبَاحَتْ لَهُ وَطْأَهَا
لِأَنَّهُ اسْتِثْنَاءٌ بِمِلْكِ الْيَمِينِ مِنْ حَظْرِ
وَطْءِ الْمُحْصَنَاتِ مِنْ النِّسَاءِ فَوَاجِبٌ عَلَى ذَلِكَ
أنه إذا
(3/81)
لَمْ يَسْتَبِحْ الْمَالِكُ وَطْأَهَا
بِمِلْكِ الْيَمِينِ أَنْ تَكُونَ الزَّوْجِيَّةُ قَائِمَةً
بَيْنَهَا وَبَيْنَ زَوْجِهَا بِحُكْمِ الْآيَةِ وَإِذَا
وَجَبَ ذَلِكَ بِحُكْمِ الْآيَةِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ قَوْله
تَعَالَى وَالْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ
أَيْمانُكُمْ خَاصًّا فِي السَّبَايَا وَيَكُونُ السَّبَبُ
الْمُوجِبُ لِلْفُرْقَةِ اختلاف الدين لَا حُدُوثَ الْمِلْكِ
وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ حُدُوثَ الْمِلْكِ لَا يُوجِبُ
الْفُرْقَةَ مَا
رَوَى حَمَّادُ عَنْ إبْرَاهِيمَ عَنْ الْأَسْوَدِ عَنْ
عَائِشَةَ أَنَّهَا اشْتَرَتْ بَرِيرَةَ فَأَعْتَقْتهَا
وَشَرَطَتْ لِأَهْلِهَا الْوَلَاءَ فَذَكَرَتْ ذَلِكَ
لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ
الْوَلَاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ وَقَالَ لَهَا يَا بَرِيرَةُ
اخْتَارِي فَالْأَمْرُ إلَيْك
وَرَوَاهُ سِمَاكٌ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْقَاسِمِ
عَنْ أَبِيهِ عن عَائِشَةَ مِثْلَهُ
وَرَوَى قَتَادَةُ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ
زَوْجَ بَرِيرَةَ كَانَ عَبْدًا أَسْوَدَ يُسَمَّى مُغِيثًا
فَقَضَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فِيهَا أَنَّ الْوَلَاءَ لِمَنْ أعطى الثمن وخيرها
فَإِنْ قِيلَ
فَقَدْ رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ فِي أَمْرِ بَرِيرَةَ مَا رَوَى
ثُمَّ قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْعُ الْأَمَةِ طَلَاقُهَا
فَيَنْبَغِي أَنْ يَقْضِيَ قَوْلُهُ هَذَا عَلَى مَا رَوَاهُ
لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُخَالِفَ النَّبِيَّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا رَوَاهُ عَنْهُ قِيلَ لَهُ
قَدْ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي
السَّبَايَا وَأَنَّ بَيْعَ الْأَمَةِ لَا يُوقِعُ فُرْقَةً
بَيْنَهَا وَبَيْنَ زَوْجِهَا فَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ الَّذِي
ذَكَرْت عَنْهُ مِنْ أَنَّ بَيْعَ الْأَمَةِ طَلَاقُهَا كَانَ
يَقُولُ قَبْلَ أَنْ تَثْبُتَ عِنْدَهُ قِصَّةُ بَرِيرَةَ
وَتَخْيِيرُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
إيَّاهَا بَعْدَ الشِّرَى فَلَمَّا سَمِعَ بِقِصَّةِ بَرِيرَةَ
رَجَعَ عَنْ قَوْلِهِ وَأَيْضًا يَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدَ
بِقَوْلِهِ بَيْعُ الْأَمَةِ طَلَاقُهَا
إذَا اشْتَرَاهَا الزَّوْجُ وَلَا يَبْقَى النِّكَاحُ مَعَ
الْمِلْكِ وَالنَّظَرُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ بَيْعَ الْأَمَةِ
لَيْسَ بِطَلَاقٍ وَلَا يُوجِبُ الْفُرْقَةَ وَذَلِكَ لِأَنَّ
الطَّلَاقَ لَا يَمْلِكُهُ الزَّوْجِ وَلَا يَصِحُّ إلَّا
بِإِيقَاعِهِ أَوْ بِسَبَبٍ مِنْ قِبَلِهِ فَلَمَّا لَمْ
يَكُنْ مِنْ الزَّوْجِ فِي ذَلِكَ سَبَبٌ وَجَبَ أَنْ لَا
يَكُونَ طَلَاقًا وَيَدُلُّ أَيْضًا عَلَى ذَلِكَ أَنَّ مِلْكَ
الْيَمِينِ لَا يُنَافِي النِّكَاحَ لِأَنَّ الْمِلْكَ
مَوْجُودٌ قَبْلَ الْبَيْعِ غَيْرُ نَافٍ لِلنِّكَاحِ
فَكَذَلِكَ مِلْكُ الْمُشْتَرِي لَا يُنَافِيهِ فَإِنْ قِيلَ
لَمَّا طَرَأَ ملك المشترى ولم يكن منه رضى بِالنِّكَاحِ
وَجَبَ أَنْ يَنْفَسِخَ قِيلَ لَهُ هَذَا غَلَطٌ لِأَنَّهُ
قَدْ ثَبَتَ أَنَّ الْمِلْكَ لَا يُنَافِي النِّكَاحَ
وَالْمَعْنَى الَّذِي ذَكَرْت إنْ كَانَ مُعْتَبَرًا
فَإِنَّمَا يُوجِبُ لِلْمُشْتَرِي خِيَارًا فِي فَسْخِ
النِّكَاحِ وَلَيْسَ هَذَا قَوْلَ أَحَدٍ لِأَنَّ عَبْدَ
اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ وَمَنْ تَابَعَهُ يُوجِبُونَ فَسْخَ
النِّكَاحِ بِحُدُوثِ الْمِلْكِ وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي
الزَّوْجَيْنِ إذَا سُبِيَا مَعًا فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ
وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ وَزُفَرُ إذَا سُبِيَ
الْحَرْبِيَّانِ مَعًا وَهُمَا زَوْجَانِ فَهُمَا عَلَى
النِّكَاحِ وَإِنْ سُبِيَ أَحَدُهُمَا قَبْلَ الْآخَرِ
وَأُخْرِجَ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ فَقَدْ وَقَعَتْ
الْفُرْقَةُ وَهُوَ قَوْلُ الثَّوْرِيِّ وَقَالَ الأوزاعى إذا
(3/82)
سُبِيَا جَمِيعًا فَمَا كَانَا فِي
الْمُقَاسِمِ فَهُمَا عَلَى النِّكَاحِ فَإِذَا اشْتَرَاهُمَا
رَجُلٌ فَإِنْ شَاءَ جَمَعَ بَيْنَهُمَا وَإِنْ شَاءَ فَرَّقَ
بَيْنَهُمَا فَاِتَّخَذَهَا لنفسه أو زوجها غيره بعد ما
يَسْتَبْرِئُهَا بِحَيْضَةٍ وَهُوَ قَوْلُ اللَّيْثِ بْنِ
سَعْدٍ وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ إذَا سُبِيَتْ ذَاتُ
زَوْجٍ اُسْتُبْرِئَتْ بِحَيْضَتَيْنِ لِأَنَّ زَوْجَهَا
أَحَقُّ بِهَا إذَا جَاءَ فِي عِدَّتِهَا وَغَيْرُ ذَاتِ
الْأَزْوَاجِ بِحَيْضَةٍ وَقَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ إذَا
سُبِيَتْ بَانَتْ مِنْ زَوْجِهَا سَوَاءٌ كَانَ مَعَهَا
زَوْجُهَا أَوْ لَمْ يَكُنْ قَالَ أَبُو بَكْرٍ قَدْ ثَبَتَ
أَنَّ حُدُوثَ الْمِلْكِ غَيْرُ مُوجِبٍ لِلْفُرْقَةِ
بِدَلَالَةِ الأمة المبيعة والمورثة فَوَجَبَ أَنْ لَا تَقَعَ
الْفُرْقَةُ بِالسَّبْيِ نَفْسِهِ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ
أَكْثَرُ مِنْ حُدُوثِ الْمِلْكِ وَدَلِيلٌ آخَرُ وَهُوَ أَنَّ
حُدُوثَ الرِّقِّ عَلَيْهَا لَا يَمْنَعُ ابْتِدَاءَ الْعَقْدِ
فَلَأَنْ لَا يَمْنَعَ بَقَاءَهُ أَوْلَى لِأَنَّ الْبَقَاءَ
هُوَ آكَدُ فِي ثُبُوتِ النِّكَاحِ مَعَهُ مِنْ الِابْتِدَاءِ
أَلَا تَرَى أَنَّهُ قَدْ يَمْنَعُ الِابْتِدَاءَ مَا لَا
يَمْنَعُ الْبَقَاءَ وَهُوَ حُدُوثُ الْعِدَّةِ عَلَيْهَا مِنْ
وَطْءٍ بِشُبْهَةٍ يَمْنَعُ ابْتِدَاءَ الْعَقْدِ وَلَا
يَمْنَعُ بَقَاءَ الْعَقْدِ الْمُتَقَدِّمِ فَإِنْ احْتَجُّوا
بِحَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الخدري في قصة سبابا أَوْطَاسٍ
وَسَبَبِ نُزُولِ الْآيَةِ عَلَيْهَا وَهُوَ قَوْلُهُ
وَالْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ
أَيْمانُكُمْ لَمْ يُفَرَّقْ بَيْنَ مَنْ سُبِيَتْ مَعَ
زَوْجِهَا أَوْ وَحْدَهَا قِيلَ لَهُ رَوَى حَمَّادٌ قَالَ
أَخْبَرَنَا الْحَجَّاجُ عَنْ سَالِمٍ الْمَكِّيِّ عَنْ
مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ قَالَ لَمَّا كَانَ يَوْمُ أَوْطَاسٍ
لَحِقَتْ الرِّجَالُ بِالْجِبَالِ وَأُخِذَتْ النِّسَاءُ
فَقَالَ الْمُسْلِمُونَ كَيْفَ نَصْنَعُ وَلَهُنَّ أَزْوَاجٌ
فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى وَالْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ
إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ فَأَخْبَرَ أَنَّ الرِّجَالَ
لَحِقُوا بِالْجِبَالِ وَأَنَّ السَّبَايَا كُنَّ
مُنْفَرِدَاتٍ عَنْ الْأَزْوَاجِ وَالْآيَةُ فِيهِنَّ نَزَلَتْ
وَأَيْضًا لَمْ يَأْسِرْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فِي غَزَاةِ حُنَيْنٍ مِنْ الرِّجَالِ أَحَدًا
فِيمَا نَقَلَ أَهْلُ الْمَغَازِي وَإِنَّمَا كَانُوا مِنْ
بَيْنِ قَتِيلٍ أَوْ مَهْزُومٍ وَسَبَى النِّسَاءَ ثُمَّ جاءه
الرجال بعد ما وَضَعَتْ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا فَسَأَلُوهُ
أَنْ يَمُنَّ عَلَيْهِمْ بِإِطْلَاقِ سَبَايَاهُمْ
فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَّا
مَا كَانَ لِي وَلِبَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ فَهُوَ لَكُمْ
وَقَالَ لِلنَّاسِ مَنْ رَدَّ عَلَيْهِمْ فَذَاكَ وَمَنْ
تَمَسَّك بِشَيْءٍ مِنْهُنَّ فَلَهُ خَمْسُ فَرَائِضَ فِي
كُلِّ رَأْسٍ وَأَطْلَقَ النَّاسُ سَبَايَاهُمْ
فَثَبَتَ بِذَلِكَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مَعَ السَّبَايَا
أَزْوَاجُهُنَّ فَإِنْ احْتَجُّوا بِعُمُومِ قَوْلِهِ
وَالْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ إِلَّا ما مَلَكَتْ
أَيْمانُكُمْ لَمْ يُخَصِّصْ مَنْ مَعَهُنَّ أَزْوَاجُهُنَّ
وَالْمُنْفَرِدَاتِ مِنْهُنَّ قِيلَ لَهُ قَدْ اتَّفَقْنَا
عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَرِدْ عُمُومُ الْحُكْمِ فِي إيجَابِ
الْفُرْقَةِ بِالْمِلْكِ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ
لَوَجَبَ أَنْ تَقَعَ الفرقة بشرى الأمة وهبتها وبالميراث
وَغَيْرِهِ مِنْ وُجُوهِ الْأَمْلَاكِ الْحَادِثَةِ فَلَمَّا
لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ كَذَلِكَ عَلِمْنَا أَنَّ الْفُرْقَةَ لَمْ
تَتَعَلَّقْ بِحُدُوثِ الْمِلْكِ وَكَانَ ذَلِكَ دَلِيلًا
عَلَى مُرَادِ الْآيَةِ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَخْلُ
(3/83)
مُرَادُ اللَّهِ تَعَالَى فِي الْمَعْنَى
الْمُوجِبِ لِلْفُرْقَةِ فِي الْمَسْبِيَّةِ مِنْ أَحَدِ
وَجْهَيْنِ إمَّا اخْتِلَافُ الدَّارَيْنِ بِهِمَا أَوْ
حُدُوثُ الْمِلْكِ ثُمَّ قَامَتْ دَلَالَةُ السُّنَّةِ
وَاتِّفَاقُ الْخَصْمِ مَعَنَا عَلَى نَفْيِ إيجَابِ
الْفُرْقَةِ بِحُدُوثِ الْمِلْكِ قَضَى ذَلِكَ عَلَى مُرَادِ
الْآيَةِ بِأَنَّهُ اخْتِلَافُ الدَّارَيْنِ وَأَوْجَبَ ذَلِكَ
خُصُوصَ الْآيَةِ فِي الْمَسْبِيَّاتِ دُونَ أَزْوَاجِهِنَّ
وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمَعْنَى فِيهِ مَا ذَكَرْنَا مِنْ
اختلاف الدارين أنهما الْمَسْبِيَّاتِ دُونَ أَزْوَاجِهِنَّ
وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمَعْنَى فِيهِ مَا ذَكَرْنَا مِنْ
اخْتِلَافِ الدَّارَيْنِ أَنَّهُمَا لَوْ خَرَجَا مُسْلِمَيْنِ
أَوْ ذِمِّيَّيْنِ لَمْ تَقَعْ بَيْنَهُمَا فُرْقَةٌ
لِأَنَّهُمَا لَمْ تَخْتَلِفْ بِهِمَا الدَّارَانِ فَدَلَّ
ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْمَعْنَى الْمُوجِبِ لِلْفُرْقَةِ بَيْنَ
الْمَسْبِيَّةِ وَزَوْجِهَا إذَا كَانَتْ مُنْفَرِدَةً
اخْتِلَافُ الدَّارَيْنِ بِهِمَا وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّ
الْحَرْبِيَّةَ إذَا خَرَجَتْ إلَيْنَا مُسْلِمَةً أَوْ
ذِمِّيَّةً ثُمَّ لَمْ يَلْحَقْ بِهَا زَوْجُهَا وَقَعَتْ
الْفُرْقَةُ بِلَا خِلَافٍ وَقَدْ حَكَمَ اللَّهُ تَعَالَى
بِذَلِكَ فِي الْمُهَاجِرَاتِ فِي قَوْلِهِ وَلا جُناحَ
عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ
أُجُورَهُنَّ ثم قال وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ قال
أبو أَبُو بَكْرٍ قَوْله تَعَالَى إِلَّا مَا مَلَكَتْ
أَيْمانُكُمْ يَقْتَضِي إبَاحَةَ الْوَطْءِ بِمِلْكِ الْيَمِين
لِوُجُودِ الْمِلْكِ إلَّا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
قَدْ رُوِيَ عَنْهُ مَا حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ
قَالَ حَدَّثَنَا أبو داود قال حدثنا عَمْرُو بْنُ عَوْنٍ
قَالَ أَخْبَرْنَا شَرِيكٌ عَنْ قَيْسِ بْنِ وَهْبٍ عَنْ أَبِي
الْوَدَّاكِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّ النَّبِيَّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فِي سَبَايَا
أَوْطَاسٍ لَا تُوطَأُ حَامِلٌ حَتَّى تَضَعَ وَلَا غَيْرُ
ذَاتِ حَمْلٍ حَتَّى تَحِيضَ حَيْضَةً
وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو
دَاوُد قَالَ حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ قَالَ
حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ
قَالَ حَدَّثَنِي يَزِيدُ بن أبي حبيب عن أبي مرزوق عن حنش
الصنعاني عن روى يفع بْنِ ثَابِتٍ الْأَنْصَارِيِّ قَالَ قَامَ
فِينَا خَطِيبًا فَقَالَ أَمَا إنِّي لَا أَقُولُ لَكُمْ إلَّا
مَا سَمِعْت مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ يَقُولُ يَوْمَ حُنَيْنٍ لَا يَحِلُّ لِامْرِئٍ
يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يَسْقِيَ ماؤه
زَرْعَ غَيْرِهِ حَتَّى يَسْتَبْرِئَهَا بِحَيْضَةٍ
قَالَ أَبُو دَاوُد ذِكْرُ الِاسْتِبْرَاءِ هَاهُنَا وَهْمٌ
مِنْ أَبِي مُعَاوِيَةَ وَهُوَ صَحِيحٌ فِي حَدِيثِ أَبِي
سَعِيدٍ
وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو
دَاوُد قَالَ حَدَّثَنَا النُّفَيْلِيُّ قَالَ حَدَّثَنَا
مِسْكِينٌ قَالَ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ يَزِيدَ بْنِ
خُمَيْرَ عن عبد الرحمن ابن جُبَيْرِ بْنِ نُفَيْرٍ عَنْ
أَبِيهِ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ فِي غَزْوَةٍ فَرَأَى
امْرَأَةً «1» مُجِحًّا فَقَالَ لَعَلَّ صَاحِبَهَا أَلَمَّ
بِهَا قَالُوا نَعَمْ قَالَ لَقَدْ هَمَمْت أَنْ أَلْعَنَهُ
لَعْنَةً تَدْخُلُ مَعَهُ فِي قَبْرِهِ كَيْفَ يُوَرِّثُهُ
وَهُوَ لَا يَحِلُّ لَهُ وَكَيْفَ يَسْتَخْدِمُهُ وَهُوَ لَا
يَحِلُّ له
فهذه الأخبار
__________
(1) قوله مجحا بضم الميم وكسر الجيم وتشديد الحاء المهملة أى
حاملا دنا وقت ولادتها.
(3/84)
تَمْنَعُ مَنْ اسْتَحْدَثَ مِلْكًا فِي
جَارِيَةٍ أَنْ يَطَأَهَا حَتَّى يَسْتَبْرِئَهَا إنْ كَانَتْ
حَائِلًا وَحَتَّى تَضَعَ حَمْلَهَا إنْ كَانَتْ حَامِلًا
وَلَيْسَ بَيْنَ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ خِلَافٌ فِي وُجُوبِ
اسْتِبْرَاءِ الْمَسْبِيَّةِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا إلَّا أَنَّ
الْحَسَنَ بْنَ صَالِحٍ قَالَ عَلَيْهَا الْعِدَّةُ
حَيْضَتَيْنِ إذَا كَانَ لَهَا زَوْجٌ فِي دَارِ الْحَرْبِ
وَقَدْ ثَبَتَ بحديث أبى سعيد الذي ذِكْرِنَا الِاسْتِبْرَاءَ
بِحَيْضَةٍ وَاحِدَةٍ وَلَيْسَ هَذَا الِاسْتِبْرَاءُ
بِعِدَّةٍ لِأَنَّهَا لَوْ كَانَتْ عِدَّةً لَفَرَّقَ
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ ذَوَاتِ
الْأَزْوَاجِ منهن وبين من ليس لها زوج لِأَنَّ الْعِدَّةَ لَا
تَجِبُ إلَّا عَنْ فِرَاشٍ فَلَمَّا سَوَّى النَّبِيُّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ مَنْ كَانَ لَهَا فِرَاشٌ
وَبَيْنَ مَنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا فِرَاشٌ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى
أَنَّ هَذِهِ الْحَيْضَةَ لَيْسَتْ بِعِدَّةٍ فَإِنْ قِيلَ
قَدْ ذُكِرَ فِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الَّذِي ذَكَرْت إذَا
انْقَضَتْ عِدَّتُهُنَّ فَجَعَلَ ذَلِكَ عِدَّةً قِيلَ لَهُ
يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ اللَّفْظَةُ مِنْ كَلَامِ
الرَّاوِي تَأْوِيلًا مِنْهُ لِلِاسْتِبْرَاءِ أَنَّهُ عِدَّةٌ
وَجَائِزٌ أَنْ تَكُونَ الْعِدَّةُ لَمَّا كَانَ أَصْلُهَا
اسْتِبْرَاءَ الرَّحِمِ أُجْرِيَ اسْمُ الْعِدَّةِ عَلَى
الِاسْتِبْرَاءِ عَلَى وَجْهِ الْمَجَازِ قَالَ أَبُو بَكْرٍ
وَقَدْ رُوِيَ فِي قَوْله تَعَالَى وَالْمُحْصَناتُ مِنَ
النِّساءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ تأويل آخر وروى
زَمْعَةُ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ
قَالَ ذَوَاتُ الْأَزْوَاجِ وَرَجَعَ ذَلِكَ إلَى قَوْلِهِ حرم
الله تعالى الزِّنَا وَرَوَى مَعْمَرُ عَنْ ابْنِ طَاوُسٍ عَنْ
أَبِيهِ فِي قَوْله تَعَالَى وَالْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ
إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ قَالَ فَزَوْجَتُك مِمَّا
مَلَكَتْ يَمِينُك يَقُولُ حَرَّمَ الله الزِّنَا لَا يَحِلُّ
لَك أَنْ تَطَأَ امْرَأَةً إلَّا مَا مَلَكَتْ يَمِينُك
وَرَوَى ابْنُ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ وَالْمُحْصَناتُ
مِنَ النِّساءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ قَالَ نَهْيٌ
عَنْ الزِّنَا وَعَنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ قَالَ كُلُّ
مُحْصَنَةٍ عَلَيْك حَرَامٌ إلَّا امْرَأَةً تَمْلِكُهَا
بِنِكَاحٍ قَالَ أَبُو بَكْرٍ وَكَأَنَّ تَأْوِيلَهَا عِنْدَ
هَؤُلَاءِ أَنَّ ذَوَاتِ الْأَزْوَاجِ حَرَامٌ إلَّا عَلَى
أَزْوَاجِهِنَّ وَلَيْسَ يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مِنْ
مُرَادِ اللَّهِ تَعَالَى بِالْآيَةِ لِاحْتِمَالِ اللَّفْظِ
لَهُ وَذَلِكَ لَا يَمْنَعُ إرَادَةَ الْمَعَانِي الَّتِي
تَأَوَّلَهَا الصَّحَابَةُ عَلَيْهَا مِنْ إبَاحَةِ وَطْءِ
السَّبَايَا اللَّاتِي لَهُنَّ أَزْوَاجٌ حَرْبِيُّونَ
فَيَكُونُ مَحْمُولًا عَلَى الْأَمْرَيْنِ وَالْأَظْهَرُ أَنَّ
مِلْكَ الْيَمِينِ هِيَ الْأَمَةُ دُونَ الزَّوْجَاتِ لِأَنَّ
اللَّهَ قَدْ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى
وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ إِلَّا عَلى
أَزْواجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَجَعَلَ مِلْكَ
الْيَمِينِ غَيْرَ الزَّوْجَاتِ وَالْإِطْلَاقُ إنَّمَا
يَتَنَاوَلُ الْإِمَاءَ الْمَمْلُوكَاتِ دُونَ الزَّوْجَاتِ
وَهِيَ كَذَلِكَ فِي الْحَقِيقَةِ لِأَنَّ الزَّوْجَ لَا
يَمْلِكُ مِنْ زَوْجَتِهِ شَيْئًا وَإِنَّمَا لَهُ مِنْهَا
اسْتِبَاحَةُ الْوَطْءِ وَمَنَافِعُ بُضْعِهَا فِي مِلْكِهَا
دُونَهُ أَلَا تَرَيْ أَنَّهَا لَوْ وُطِئَتْ بِشُبْهَةٍ
وَهِيَ تَحْتَ زَوْجٍ كَانَ الْمَهْرُ لَهَا دُونَهُ فَدَلَّ
ذَلِكَ
(3/85)
عَلَى أَنَّهُ لَا يَمْلِكُ مِنْ
زَوْجَتِهِ شَيْئًا فَوَجَبَ أَنْ يُحْمَلَ قَوْله تَعَالَى
إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ عَلَى مَنْ يَمْلِكُهَا فِي
الْحَقِيقَةِ وَهِيَ الْمَسْبِيَّةُ قوله تعالى كِتابَ اللَّهِ
عَلَيْكُمْ رُوِيَ عَنْ عَبِيدَةُ قَالَ أَرْبَعٌ وَإِنَّمَا
نَصَبَ كِتَابَ اللَّهِ لِأَنَّهُمْ يَقُولُونَ إنَّ مَعْنَى
كِتَابَ الله عليكم أَيْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ ذَلِكَ
وَقِيلَ مَعْنَاهُ حَرَّمَ ذَلِكَ كِتَابًا مِنْ اللَّهِ
عَلَيْكُمْ وَهَذَا تَأْكِيدٌ لِوُجُوبِهِ وَإِخْبَارٌ مِنْهُ
لَنَا بِفَرْضِهِ لِأَنَّ الْكِتَابَ هُوَ الْفَرْضُ قَوْله
تَعَالَى وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ روى عن عبيدة
السلماني والسدى أحل مَا دُونَ الْخَمْسِ أَنْ تَبْتَغُوا
بِأَمْوَالِكُمْ عَلَى وَجْهِ النِّكَاحِ وَقَالَ عَطَاءٌ
أُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَوَاتِ الْمَحَارِمِ مِنْ
أَقَارِبِكُمْ وَقَالَ قَتَادَةُ ما وَراءَ ذلِكُمْ مَا
مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَقِيلَ مَا وَرَاءِ ذَوَاتِ
الْمَحَارِمِ وَمَا وَرَاءِ الزِّيَادَةِ عَلَى الْأَرْبَعِ
أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ نِكَاحًا أَوْ مِلْكَ يَمِينٍ
قَالَ أَبُو بَكْرٍ هُوَ عَامٌّ فِيمَا عَدَا الْمُحَرَّمَاتِ
فِي الْآيَةِ وَفِي سُنَّةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه
وسلّم
بَابُ الْمُهُورِ
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ
أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوالِكُمْ فعقد الإباحة بشريطة إيجاب بدل
البضع وهو مال فدل عَلَى مَعْنَيَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّ
بَدَلَ الْبُضْعِ وَاجِبٌ أَنْ يَكُونَ مَا يَسْتَحِقُّ بِهِ
تَسْلِيمُ مَالٍ وَالثَّانِي أَنْ يَكُونَ الْمَهْرُ مَا
يُسَمَّى أَمْوَالًا وذلك لأن هذا خطاب لكل واحد فِي إبَاحَةِ
مَا وَرَاءَ ذَلِكَ أَنْ يَبْتَغِيَ الْبُضْعَ بِمَا يُسَمَّى
أَمْوَالًا كَقَوْلِهِ تَعَالَى حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ
أُمَّهاتُكُمْ وَبَناتُكُمْ
خِطَابٌ لِكُلِّ أَحَدٍ فِي تَحْرِيمِ أُمَّهَاتِهِ
وَبَنَاتِهِ عَلَيْهِ وَفِي ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَا
يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَهْرُ الشَّيْءَ التَّافِهَ الَّذِي
لَا يُسَمَّى أَمْوَالًا وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي
مِقْدَارِ الْمَهْرِ
فَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ
لَا مَهْرَ أَقَلُّ مِنْ عَشَرَةِ دَرَاهِمَ
وَهُوَ قَوْلُ الشَّعْبِيِّ وَإِبْرَاهِيمَ فِي آخَرِينَ مِنْ
التَّابِعِينَ وَقَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ
وَمُحَمَّدٍ وَزُفَرَ وَالْحَسَنِ بْنِ زِيَادٍ وَقَالَ أَبُو
سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ وَالْحَسَنُ وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ
وَعَطَاءٌ يَجُوزُ النِّكَاحُ عَلَى قَلِيلِ الْمَهْرِ
وَكَثِيرِهِ وَتَزَوَّجَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ عَلَى
وَزْنِ نَوَاةٍ مِنْ ذَهَبٍ فَقَالَ بَعْضُ الرُّوَاةِ
قِيمَتُهَا ثَلَاثَةُ دَرَاهِمَ وَثُلُثٌ وَقَالَ آخَرُونَ
النَّوَاةُ عَشَرَةٌ أَوْ خَمْسَةٌ وَقَالَ مَالِكٌ أَقَلُّ
الْمَهْرِ رُبْعُ دِينَارٍ وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى
وَاللَّيْثُ وَالثَّوْرِيُّ وَالْحَسَنُ ابن صَالِحٍ
وَالشَّافِعِيُّ يَجُوزُ بِقَلِيلِ الْمَالِ وَكَثِيرِهِ
وَلَوْ دِرْهَمٌ قَالَ أَبُو بَكْرٍ قَوْله تَعَالَى وَأُحِلَّ
لَكُمْ مَا وَراءَ ذلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوالِكُمْ
يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَا لَا يُسَمَّى أَمْوَالًا لَا يَكُونُ
مَهْرًا وَأَنَّ شَرْطَهُ أَنْ يُسَمَّى أَمْوَالًا هَذَا
مُقْتَضَى الْآيَةِ وَظَاهِرُهَا وَمَنْ كَانَ لَهُ دِرْهَمٌ
أَوْ
(3/86)
دِرْهَمَانِ لَا يُقَالُ عِنْدَهُ
أَمْوَالٌ فَلَمْ يَصِحَّ أَنْ يَكُونَ مَهْرًا بِمُقْتَضَى
الظَّاهِرِ فَإِنْ قِيلَ وَمَنْ عِنْدَهُ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ
لَا يُقَالُ عِنْدَهُ أموال وقد أجزأها مَهْرًا قِيلَ لَهُ
كَذَلِكَ يَقْتَضِي الظَّاهِرُ لَكِنْ أَجَزْنَاهَا
بِالِاتِّفَاقِ وَجَائِزٌ تَخْصِيصُ الْآيَةِ بِالْإِجْمَاعِ
وَأَيْضًا
قد روى حرام بن عثمان عن ابن جَابِرٍ عَنْ أَبِيهِمَا أَنَّ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَا
مَهْرَ أَقَلَّ مِنْ عَشَرَةِ دَرَاهِمَ
وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ لَا مَهْرَ أَقَلَّ مِنْ
عَشَرَةِ دَرَاهِمَ
وَلَا سَبِيلَ إلَى مَعْرِفَةِ هَذَا الضَّرْبِ مِنْ
الْمَقَادِيرِ الَّتِي هِيَ حُقُوقُ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ
طَرِيقِ الِاجْتِهَادِ وَالرَّأْيِ وَإِنَّمَا طَرِيقُهَا
التَّوْقِيفُ أَوْ الِاتِّفَاقُ وَتَقْدِيرُهُ الْعَشَرَةَ
مَهْرًا دُونَ مَا هُوَ أَقَلُّ مِنْهَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ
قَالَهُ تَوْقِيفًا وَهُوَ نَظِيرُ مَا رُوِيَ عَنْ أَنَسٍ فِي
أَقَلِّ الْحَيْضِ أَنَّهُ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ وَأَكْثَرُهُ
عَشَرَةٌ وَعَنْ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي الْعَاصِ الثَّقَفِيِّ
فِي أَكْثَرِ النِّفَاسِ أَنَّهُ أَرْبَعُونَ يَوْمًا أَنَّ
ذَلِكَ تَوْقِيفٌ إذْ لَا يُقَالُ فِي مِثْلِهِ مِنْ طَرِيقِ
الرَّأْيِ وَكَذَلِكَ مَا
رُوِيَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
أَنَّهُ إذَا قعد في آخر صلاته مقدار التشهيد فَقَدْ تَمَّتْ
صَلَاتُهُ
فَدَلَّ تَقْدِيرُهُ لِلْفَرْضِ بِمِقْدَارِ التشهيد أَنَّهُ
قَالَهُ مِنْ طَرِيقِ التَّوْقِيفِ وَقَدْ احْتَجَّ بَعْضُ
أَصْحَابِنَا لِاعْتِبَارِ الْعَشَرَةِ أَنَّ الْبُضْعَ عُضْوٌ
لَا تَجُوزُ اسْتِبَاحَتُهُ إلَّا بِمَالٍ فَأَشْبَهَ
الْقَطْعَ فِي السَّرِقَةِ فَلَمَّا كَانَتْ الْيَدُ عُضْوًا
لَا تَجُوزُ اسْتِبَاحَتُهُ إلَّا بِمَالٍ وَكَانَ
الْمِقْدَارُ الَّذِي يُسْتَبَاحُ بِهِ عَشَرَةٌ عَلَى
أَصْلِهِمْ فَكَذَلِكَ الْمَهْرُ يُعْتَبَرُ بِهِ وَأَيْضًا
لَمَّا اتَّفَقَ الْجَمِيعُ عَلَى أَنَّهُ لَا تَجُوزُ
اسْتِبَاحَةُ الْبُضْعِ بِغَيْرِ بَدَلٍ وَاخْتَلَفُوا فِيمَا
تَجُوزُ اسْتِبَاحَتُهُ بِهِ مِنْ الْمِقْدَارِ وَجَبَ أَنْ
يَكُونَ بَاقِيًا عَلَى الْحَظْرِ فِي مَنْعِ اسْتِبَاحَتِهِ
إلَّا بِمَا قَامَ دَلِيلُ جَوَازِهِ وَهُوَ الْعَشَرَةُ
الْمُتَّفَقُ عَلَيْهَا وَمَا دُونَهَا مُخْتَلَفٌ فِيهِ
فَالْبُضْعُ بَاقٍ عَلَى حُكْمِ الْحَظْرِ وَأَيْضًا لِمَا
لَمْ تَجُزْ اسْتِبَاحَتُهُ إلَّا بِبَدَلٍ كَانَ الْوَاجِبُ
أَنْ يَكُونَ الْبَدَلُ الَّذِي بِهِ يَصِحُّ قِيمَةُ
الْبُضْعِ هُوَ مَهْرُ الْمِثْلِ وَأَنْ لَا يُحَطَّ عَنْهُ
شَيْءٌ إلَّا بِدَلَالَةٍ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ
تَزَوَّجَهَا عَلَى غَيْرِ مَهْرٍ لَكَانَ الْوَاجِبُ لَهَا
مَهْرُ مِثْلِهَا وَفِي ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ عَقْدَ
النِّكَاحِ يُوجِبُ مَهْرَ الْمِثْلِ فَغَيْرُ جَائِزٍ
إسْقَاطُ شَيْءٍ مِنْ مُوجِبِهِ إلَّا بِدَلَالَةٍ وَقَدْ
قَامَتْ دَلَالَةُ الْإِجْمَاعِ عَلَى جَوَازِ إسْقَاطِ مَا
زَادَ عَلَى الْعَشَرَةِ وَاخْتَلَفُوا فِيمَا دونه أن يكون
واجبا بإيجاب العقد له إذا لَمْ تَقُمْ الدَّلَالَةُ عَلَى
إسْقَاطِهِ فَإِنْ قِيلَ لَمَّا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى وَإِنْ
طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ
فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ ما فَرَضْتُمْ اقْتَضَى
ذَلِكَ إيجَابَ نِصْفِ الْفَرْضِ قَلِيلًا كَانَ أَوْ كَثِيرًا
قِيلَ لَهُ لَمَّا ثَبَتَ بِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْمَهْرَ لَا
يَكُونُ أَقَلَّ مِنْ عَشَرَةِ دَرَاهِمَ كَانَتْ تَسْمِيتَةُ
لِبَعْضِ الْعَشَرَةِ تَسْمِيَةً لها
(3/87)
كَسَائِرِ الْأَشْيَاءِ الَّتِي لَا
تَتَبَعَّضُ تَكُونُ تَسْمِيَتُهُ لِبَعْضِهَا تَسْمِيَةً
لَجَمِيعِهَا كَالطَّلَاقِ وَالنِّكَاحِ وَنَحْوِهِمَا وَإِذَا
كَانَتْ الْعَشَرَةُ لَا تَتَبَعَّضُ فِي الْعَقْدِ صَارَتْ
تَسْمِيَتُهُ لَبَعْضِهَا تَسْمِيَةً لَجَمِيعِهَا فَإِذَا
طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ وَجَبَ لَهَا نِصْفُ الْعَشَرَةِ
لِأَنَّ الْعَشَرَةَ هِيَ الْفَرْضُ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ
طَلَّقَ امْرَأَتَهُ نِصْفَ تَطْلِيقَةٍ كَانَ مُطَلِّقًا
لَهَا تَطْلِيقَةً كاملة ولو طلق نصفها كان مطلقا كذلك
لِجَمِيعِهَا وَكَذَلِكَ لَوْ عَفَا عَنْ نِصْفِ دَمٍ عَمْدٍ
كَانَ عَافِيًا عَنْ جَمِيعِهِ فَلَمَّا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ
وَجَبَ أَنْ تَكُونَ تَسْمِيَتُهُ لَخَمْسَةٍ تَسْمِيَةً
لِلْعَشَرَةِ لِقِيَامِ الدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ الْعَشَرَةَ
لَا تَتَبَعَّضُ فِي عَقْدِ النِّكَاحِ فَمَتَى أَوْجَبْنَا
بَعْدَ الطَّلَاقِ خَمْسَةً كَانَ ذَلِكَ نِصْفَ الْفَرْضِ
وَأَيْضًا فَإِنَّا نُوجِبُ نِصْفَ الْمَفْرُوضِ فَلَسْنَا
مُخَالِفِينَ لِحُكْمِ الْآيَةِ وَنُوجِبُ الزِّيَادَةَ إلَى
تَمَامِ الْخَمْسَةِ بِدَلَالَةٍ أُخْرَى وَإِنَّمَا كَانَ
يَكُونُ مَذْهَبُنَا خِلَافَ الْآيَةِ لَوْ لَمْ نُوجِبْ
نِصْفَ الْفَرْضِ فَأَمَّا إذَا أَوْجَبْنَاهُ وَأَوْجَبْنَا
زِيَادَةً عَلَيْهِ بِدَلَالَةٍ أُخْرَى فَلَيْسَ فِي ذَلِكَ
مُخَالَفَةٌ لِلْآيَةِ وَاحْتَجَّ مَنْ أَجَازَ أَنْ يَكُونَ
الْمَهْرُ أَقَلَّ مِنْ عَشَرَةٍ
بِحَدِيثِ عَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ أَنَّ امْرَأَةً جِيءَ بها
إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ
تَزَوَّجَتْ رَجُلًا عَلَى نَعْلَيْنِ فَقَالَ لَهَا رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَضِيت مِنْ
نَفْسِك وَمَالِك بِنَعْلَيْنِ قَالَتْ نَعَمْ فَأَجَازَهُ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَبِحَدِيثِ أَبِي الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ عَنْ النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ مَنْ أَعْطَى
امْرَأَةً فِي نِكَاحٍ كَفَّ دَقِيقٍ أَوْ سَوِيقٍ أَوْ طعاما
فقد استحل
وبحديث الحجاج ابن أَرْطَاةَ عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ
الْمُغِيرَةِ الطَّائِفِيِّ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ
السَّلْمَانِيِّ قَالَ خَطَبَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ أَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ
فَقَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا الْعَلَائِقُ بَيْنَهُمَا
قَالَ مَا تَرَاضَى بِهِ الْأَهْلُونَ
وَبِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ مَنْ اسْتَحَلَّ بِدِرْهَمَيْنِ
فَقَدْ اسْتَحَلَّ
وَأَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ تَزَوَّجَ عَلَى
وَزْنِ نَوَاةٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَخْبَرَ النبي صلّى الله عليه
وسلّم فقال أو لم وَلَوْ بِشَاةٍ وَلَمْ يُنْكِرْ ذَلِكَ
عَلَيْهِ
وَبِحَدِيثِ أَبِي حَازِمٍ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ فِي
قِصَّةِ الْمَرْأَةِ الَّتِي قَالَتْ لِلنَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ وَهَبْت نَفْسِي لَك يَا
رَسُولَ اللَّهِ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وسلّم مالي بِالنِّسَاءِ مِنْ حَاجَةٍ فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ
زَوِّجْنِيهَا فَقَالَ هَلْ عِنْدَك مِنْ شَيْءٍ تُصْدِقُهَا
إيَّاهُ فَقَالَ إزَارِي هَذَا فَقَالَ إنْ أَعْطَيْتهَا
إزَارَك جَلَسْت وَلَا إزَارَ لَك إلَى أَنْ قَالَ الْتَمِسْ
وَلَوْ خَاتَمًا مِنْ حَدِيدٍ
فَأَجَازَ أَنْ يَكُونَ الْمَهْرُ خَاتَمًا مِنْ حَدِيدٍ
وَخَاتَمٌ مِنْ حَدِيدٍ لَا يُسَاوِي عَشَرَةً وَالْجَوَابُ
عَنْ إجَازَتِهِ النِّكَاحَ عَلَى نَعْلَيْنِ أَنَّ
النَّعْلَيْنِ قَدْ يَجُوزُ أَنْ تُسَاوِيَا عَشَرَةَ
دَرَاهِمَ أَوْ أَكْثَرَ فَلَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى مَوْضِعِ
الْخِلَافِ لِأَنَّهُ تَزَوَّجَهَا عَلَى نَعْلَيْنِ ثُمَّ
أَخْبَرَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ قِيمَتُهَا عَشَرَةً أو أكثر
(3/88)
وَلَيْسَ بِعُمُومِ لَفْظٍ فِي إبَاحَةِ
التَّزْوِيجِ عَلَى نَعْلَيْنِ أَيُّ نَعْلَيْنِ كَانَتَا
فَلَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى قَوْلِ الْمُخَالِفِ وَأَيْضًا
فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
أَخْبَرَ بِجَوَازِ النِّكَاحِ وَجَوَازُ النِّكَاحِ لَا
يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ هُوَ الْمَهْرُ لَا غَيْرُهُ لِأَنَّهُ
لَوْ تَزَوَّجَهَا عَلَى غَيْرِ مَهْرٍ لَكَانَ النِّكَاحُ
جَائِزًا وَلَمْ يَدُلَّ جَوَازُ النِّكَاحِ عَلَى أَنْ لَا
شَيْءَ لَهَا كَذَلِكَ جَوَازُ النِّكَاحِ عَلَى نَعْلَيْنِ
قِيمَتُهُمَا أَقَلُّ مِنْ عَشَرَةِ دَرَاهِمَ لَا دَلَالَةَ
فِيهِ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجِبُ غَيْرُهُمَا وَأَمَّا قَوْلُهُ
مَنْ اسْتَحَلَّ بِدِرْهَمَيْنِ أَوْ بِكَفِّ دَقِيقٍ فَقَدْ
اسْتَحَلَّ فَإِنَّهُ أخبار عن ملك البضع ولا دَلَالَةَ فِيهِ
عَلَى أَنَّهُ لَا يَجِبُ غَيْرُهُ وَكَذَلِكَ حَدِيثُ عَبْدِ
الرَّحْمَنِ فِي تَزَوُّجِهِ عَلَى وَزْنِ نَوَاةٍ مِنْ ذَهَبٍ
وَعَلَى أَنَّهُ قَدْ رُوِيَ فِي الْخَبَرِ أَنَّ قِيمَتَهَا
كَانَتْ خَمْسَةً أَوْ عَشَرَةً وَأَمَّا قَوْلُهُ
الْعَلَائِقُ مَا تَرَاضَى بِهِ الْأَهْلُونَ فَإِنَّهُ
مَحْمُولٌ عَلَى مَا يَجُوزُ مِثْلُهُ فِي الشَّرْعِ أَلَا
تَرَى أَنَّهُمْ لَوْ تَرَاضَوْا بِخَمْرٍ أَوْ خِنْزِيرٍ أَوْ
شَغَارٍ لَمَا جَازَ تَرَاضِيهِمَا كَذَلِكَ فِي حُكْمِ
التَّسْمِيَةِ يَكُونُ مُرَتَّبًا عَلَى مَا ثَبَتَ حُكْمُهُ
فِي الشَّرْعِ مِنْ تَسْمِيَةِ الْعَشَرَةِ وَأَمَّا
حَدِيثُ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَهُ بِتَعْجِيلِ شَيْءٍ لَهَا
وَعَلَى ذَلِكَ كَانَ مَخْرَجُ كَلَامِهِ لِأَنَّهُ لَوْ
أَرَادَ مَا يَصِحُّ بِهِ الْعَقْدُ مِنْ التَّسْمِيَةِ
لَاكْتَفَى بِإِثْبَاتِهِ فِي ذِمَّتِهِ مَا يَجُوزُ بِهِ
الْعَقْدُ عَنْ السُّؤَالِ عَمَّا يُعَجَّلُ فَدَلَّ ذَلِكَ
عَلَى أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ بِهِ مَا يَصِحُّ مَهْرًا أَلَا
تَرَى أَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَجِدْ شَيْئًا قَالَ زَوَّجْتُكهَا
بِمَا مَعَك مِنْ الْقُرْآنِ وَمَا مَعَهُ مِنْ الْقُرْآنِ لَا
يَكُونُ مَهْرًا فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى صِحَّةِ مَا ذَكَرْنَا
وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيمَنْ تَزَوَّجَ امْرَأَةً عَلَى
خِدْمَتِهِ سَنَةً فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ
إذَا تَزَوَّجَ امْرَأَةً عَلَى خِدْمَتِهِ سَنَةً فَإِنْ
كَانَ حُرًّا فَلَهَا مَهْرُ مِثْلِهَا وَإِنْ كَانَ عَبْدًا
فَلَهَا خِدْمَتُهُ سَنَةً وَقَالَ مُحَمَّدٌ لَهَا قِيمَةُ
خِدْمَتِهِ إنْ كَانَ حُرًّا وَقَالَ مَالِكٌ إذَا
تَزَوَّجَهَا عَلَى أَنْ يُؤَاجِرَهَا نَفْسَهُ سَنَةً أَوْ
أَكْثَرَ أَوْ أَقَلَّ وَيَكُونُ ذَلِكَ صَدَاقَهَا فَإِنَّهُ
يَفْسَخُ النِّكَاحَ إنْ لَمْ يَدْخُلْ بِهَا وَإِنْ دَخَلَ
بِهَا ثَبَتَ النِّكَاحُ وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ إذَا
تَزَوَّجَهَا عَلَى أَنْ يُحِجَّهَا ثُمَّ طَلَّقَهَا قَبْلَ
أَنْ يَدْخُلَ بِهَا فَهُوَ ضَامِنٌ لِنِصْفِ حَجِّهَا مِنْ
الْحِمْلَانِ وَالْكِسْوَةِ وَالنَّفَقَةِ وَقَالَ الْحَسَنُ
بْنُ صَالِحٍ وَالشَّافِعِيُّ النِّكَاحُ جَائِزٌ عَلَى
خِدْمَتِهِ إذَا كَانَ وَقْتًا مَعْلُومًا وَقَالَ أَبُو
حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ إذَا تَزَوَّجَهَا
عَلَى تَعْلِيمِ سُورَةٍ مِنْ الْقُرْآنِ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ
مَهْرًا وَلَهَا مَهْرُ مِثْلِهَا وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ
وَاللَّيْثِ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ يَكُونُ ذَلِكَ مَهْرًا
لَهَا فَإِنْ طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ رَجَعَ عَلَيْهَا
بِنِصْفِ أُجْرَةِ التَّعْلِيمِ إنْ كَانَ قَدْ عَلَّمَهَا
وَهِيَ رِوَايَةُ الْمُزَنِيّ وَحَكَى الرَّبِيعُ عَنْهُ
أَنَّهُ يَرْجِعُ عَلَيْهَا بِنِصْفِ مَهْرِ مِثْلِهَا قَالَ
أَبُو بَكْرٍ قَوْله تَعَالَى وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَراءَ
ذلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوالِكُمْ قد
(3/89)
اقْتَضَى أَنْ يَكُونَ بَدَلُ الْبُضْعِ
مَا يَسْتَحِقُّ بِهِ تَسْلِيمُ مَالٍ لِأَنَّ قَوْلَهُ أَنْ
تَبْتَغُوا بِأَمْوالِكُمْ يَحْتَمِلُ مَعْنَيَيْنِ
أَحَدُهُمَا تَمْلِيكُ الْمَالِ بَدَلًا مِنْ الْبُضْعِ
وَالْآخَرُ تَسْلِيمُهُ لِاسْتِيفَاءِ مَنَافِعِهِ فَدَلَّ
ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْمَهْرَ الَّذِي يَمْلِكُ بِهِ الْبُضْعَ
إمَّا أَنْ يَكُونَ مَالًا أَوْ مَنَافِعَ فِي مَالٍ
يَسْتَحِقُّ بِهَا تَسْلِيمُهُ إلَيْهَا إذْ كَانَ قوله أَنْ
تَبْتَغُوا بِأَمْوالِكُمْ يَشْتَمِلَ عَلَيْهِمَا
وَيَقْتَضِيهِمَا وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمَهْرَ حُكْمُهُ
أَنْ يَكُونَ مَالًا قَوْله تَعَالَى وَآتُوا النِّساءَ
صَدُقاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ
مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً وَذَلِكَ لِأَنَّ
قَوْلَهُ وَآتُوا النِّساءَ صَدُقاتِهِنَّ نِحْلَةً أَمْرٌ
يَقْتَضِي ظَاهِرُهُ الْإِيجَابَ وَدَلَّ بِفَحْوَاهُ عَلَى
أَنَّ الْمَهْرَ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مَالًا مِنْ وجهين
أحدهما قوله وَآتُوا مَعْنَاهُ أَعْطُوا وَالْإِعْطَاءُ
إنَّمَا يَكُونُ فِي الْأَعْيَانِ دُونَ الْمَنَافِعِ إذْ
الْمَنَافِعُ لَا يَتَأَتَّى فِيهَا الْإِعْطَاءُ عَلَى
الْحَقِيقَةِ وَالثَّانِي قَوْلُهُ فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ
شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً وَذَلِكَ
لَا يَكُونُ فِي الْمَنَافِعِ وَإِنَّمَا هُوَ فِي
الْمَأْكُولِ أَوْ فِيمَا يُمْكِنُ صَرْفُهُ بَعْدَ
الْإِعْطَاءِ إلَى الْمَأْكُولِ فَدَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ
عَلَى أَنَّ الْمَنَافِعَ لَا تَكُونُ مَهْرًا فَإِنْ قِيلَ
فَهَذَا يُوجِبُ أَنْ لَا تَكُونَ خِدْمَةُ الْعَبْدِ مَهْرًا
قِيلَ لَهُ كَذَلِكَ اقْتَضَى ظَاهِرُ الْآيَةِ وَلَوْلَا
قِيَامُ الدَّلَالَةِ لَمَا جَازَ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ
نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن نِكَاحِ الشِّغَارِ
وَهُوَ أَنْ يُزَوِّجَهُ أُخْتَهُ عَلَى أَنْ يُزَوِّجَهُ
أُخْتَهُ أَوْ يُزَوِّجَهُ أَمَتَهُ عَلَى أَنْ يُزَوِّجَهُ
أَمَتَهُ وَلَيْسَ بَيْنَهُمَا مَهْرٌ وَهَذَا أَصْلٌ فِي
أَنَّ الْمَهْرَ لَا يَصِحُّ إلَّا أَنْ يَسْتَحِقَّ بِهِ
تَسْلِيمُ مَالٍ فَلَمَّا أَبْطَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ تَكُونَ مَنَافِعُ الْبُضْعِ مَهْرًا
لِأَنَّهَا لَيْسَتْ بِمَالٍ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنْ كُلَّ
مَا شُرِطَ مِنْ بَدَلِ الْبُضْعِ مِمَّا لَا يَسْتَحِقُّ بِهِ
تَسْلِيمُ مَالٍ لَا يَكُونُ مَهْرًا وَكَذَلِكَ قَالَ
أَصْحَابُنَا لو تزوجها على عفو من دم عمدا وعلى طَلَاقِ
فُلَانَةَ أَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِمَهْرِ مِثْلِ مَنَافِعِ
الْبُضْعِ إذَا جَعَلَهَا مَهْرًا وَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ
إنَّهُ إذَا سَمَّى فِي الشِّغَارِ لِإِحْدَاهُمَا مَهْرًا
أَنَّ النِّكَاحَ جَائِزٌ وَلِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا
مَهْرُ مِثْلِهَا وَلَمْ يَجْعَلْ الْبُضْعَ مَهْرًا فِي
الْحَالِ الَّتِي أَجَازَ النِّكَاحَ فِيهَا وَنَهَى
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ نِكَاحِ
الشِّغَارِ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى مَعْنَيَيْنِ أَحَدُهُمَا
أَنَّهُ إذَا كَانَ الشِّغَارُ فِي الْأَمَتَيْنِ كَانَ
الْمَهْرُ مَنَافِعَ الْبُضْعِ بَدَلًا فِي النِّكَاحِ
وَالثَّانِي إذَا كَانَ الشِّغَارُ فِي الْحُرَّتَيْنِ وَهُوَ
أَنْ يَقُولَ أُزَوِّجُك أُخْتِي عَلَى أَنْ تُزَوِّجَنِي
أُخْتَك أَوْ أُزَوِّجُك بِنْتِي عَلَى أَنْ تُزَوِّجَنِي
بِنْتَك فَيَكُونُ هَذَا عَقْدًا عَارِيًّا مِنْ ذِكْرِ
الْمَهْرِ لِوَاحِدَةٍ مِنْ الْمَرْأَتَيْنِ لِأَنَّهُ شَرَطَ
الْمَنَافِعَ لِغَيْرِ الْمَنْكُوحَةِ وَهُوَ الْوَلِيُّ
فَالشِّغَارُ فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ يَكُونُ عَقْدَ نِكَاحٍ
عَارِيًّا عَنْ تَسْمِيَةِ بَدَلٍ لِلْمَنْكُوحَةِ وَفِي الوجه
الآخر يكون بدل البضع بُضْعٍ آخَرَ فَأَبْطَلَ النَّبِيُّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَلِكَ أَنْ
(3/90)
يَكُونَ بَدَلًا فَصَارَ أَصْلًا فِي أَنَّ
بَدَلَ الْبُضْعِ شَرْطُهُ أَنْ يَسْتَحِقَّ بِهِ تَسْلِيمُ
مَالٍ فَإِنْ قِيلَ إنَّ مَنَافِعَ بُضْعِ الْأَمَةِ حَقٌّ فِي
مَالٍ فَهَلَّا كَانَتْ كَالتَّزْوِيجِ عَلَى خِدْمَةِ
الْعَبْدِ قِيلَ لَهُ لِأَنَّ خِدْمَةَ الْعَبْدِ يَسْتَحِقُّ
بِهَا تَسْلِيمُ مَالٍ وَهُوَ رَقَبَةُ الْعَبْدِ
كَالْمُسْتَأْجَرِ لَهُ يَسْتَحِقُّ تَسْلِيمُ الْعَبْدِ
إلَيْهِ لِلْخِدْمَةِ وَزَوْجُ الْأَمَةِ لَا يَسْتَحِقُّ
تَسْلِيمُهَا إلَيْهِ بِعَقْدِ النِّكَاحِ لِأَنَّ لِلْمَوْلَى
أَنْ لَا يُبَوِّئَهَا بَيْتًا وقَوْله تعالى أَنْ تَبْتَغُوا
بِأَمْوالِكُمْ قَدْ اقْتَضَى أَنْ يَسْتَحِقَّ عَلَيْهِ
بِعَقْدِ النِّكَاحِ تَسْلِيمُ مَالٍ بَدَلًا مِنْ الْبُضْعِ
وَأَمَّا التَّزْوِيجُ عَلَى تَعْلِيمِ سُورَةٍ مِنْ
الْقُرْآنِ فَإِنَّهُ لَا يَصِحُّ مَهْرًا مِنْ وَجْهَيْنِ
أَحَدُهُمَا مَا ذَكَرْنَا مِنْ أَنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ بِهِ
تَسْلِيمُ مَالٍ كَخِدْمَةِ الْحُرِّ وَالْوَجْهُ الْآخَرُ
أَنَّ تَعْلِيمَ الْقُرْآنِ فَرْضٌ عَلَى الْكِفَايَةِ فَكُلُّ
مَنْ عَلَّمَ إنْسَانًا شَيْئًا مِنْ الْقُرْآنِ فَإِنَّمَا
قَامَ بِفَرْضٍ
وَقَدْ رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ عَنْ النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ بَلِّغُوا
عَنِّي وَلَوْ آيَةً
فَكَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يُجْعَلَ عِوَضًا لِلْبُضْعِ وَلَوْ
جَازَ ذَلِكَ لَجَازَ التَّزْوِيجُ عَلَى تَعْلِيمِ
الْإِسْلَامِ وَهَذَا بَاطِلٌ لِأَنَّ مَا أَوْجَبَ اللَّهُ
تَعَالَى عَلَى الْإِنْسَانِ فِعْلَهُ فَهُوَ متى فعله
فَعَلَهُ فَرْضًا فَلَا يَسْتَحِقُّ أَنْ يَأْخُذَ عَلَيْهِ
شَيْئًا مِنْ أَعْرَاضِ الدُّنْيَا وَلَوْ جَازَ ذَلِكَ
لَجَازَ لِلْحُكَّامِ أَخْذُ الرُّشَى عَلَى الْحُكْمِ وَقَدْ
جَعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ سُحْتًا مُحَرَّمًا فَإِنْ احْتَجَّ
مُحْتَجٌّ
بِحَدِيثِ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ فِي قِصَّةِ الْمَرْأَةِ الَّتِي
قَالَتْ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ
وَهَبْت نَفْسِي لَك فَقَالَ رَجُلٌ زَوِّجْنِيهَا إلَى أَنْ
قَالَ هَلْ مَعَك مِنْ الْقُرْآنِ شَيْءٌ قَالَ نَعَمْ سُورَةُ
كَذَا فَقَالَ صلّى الله عليه وسلّم قَدْ زَوَّجْتُكهَا بِمَا
مَعَك مِنْ الْقُرْآنِ
وَبِمَا
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو
دَاوُد قَالَ حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ حَفْصِ بْنِ عَبْدِ
اللَّهِ قَالَ حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ حَدَّثَنِي إبْرَاهِيمُ
بْنُ طَهْمَانَ عَنْ الْحَجَّاجِ الْبَاهِلِيِّ عَنْ عَسَلٍ
عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ
بِنَحْوِ قِصَّةِ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ فِي أَمْرِ الْمَرْأَةِ
وَقَالَ فِيهِ مَا تَحْفَظُ مِنْ الْقُرْآنِ قَالَ سُورَةَ
الْبَقَرَةِ أَوْ الَّتِي تَلِيهَا قَالَ قُمْ فَعَلِّمْهَا
عِشْرِينَ آيَةً وَهِيَ امْرَأَتُك
قِيلَ لَهُ مَعْنَاهُ لِمَا مَعَك مِنْ الْقُرْآنِ كَمَا قَالَ
تَعَالَى ذلِكُمْ بِما كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ
بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِما كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ وَمَعْنَاهُ
لِمَا كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ وَأَيْضًا كَوْنُ الْقُرْآنِ
مَعَهُ لَا يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ بَدَلًا وَالتَّعْلِيمُ
لَيْسَ لَهُ ذِكْرٌ فِي هَذَا الْخَبَرِ فَعَلِمْنَا أَنَّ
مُرَادَهُ أَنِّي زَوَّجْتُك تَعْظِيمًا لِلْقُرْآنِ
وَلِأَجْلِ مَا مَعَك مِنْ الْقُرْآنِ وَهُوَ كَمَا رَوَى
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ عَنْ
أَنَسٍ قَالَ خَطَبَ أَبُو طَلْحَةَ أُمَّ سُلَيْمٍ فَقَالَتْ
إنِّي آمَنْت بِهَذَا الرَّجُلِ وَشَهِدْت أَنَّهُ رَسُولُ
اللَّهِ فَإِنْ تَابَعْتنِي تَزَوَّجْتُك قَالَ فَأَنَا عَلَى
مَا أَنْتِ عَلَيْهِ فَتَزَوَّجَتْهُ فَكَانَ صَدَاقُهَا
الْإِسْلَامَ وَمَعْنَاهُ أَنَّهَا تَزَوَّجَتْهُ لِأَجْلِ
إسْلَامِهِ لِأَنَّ الْإِسْلَامَ لَا يَكُونُ صَدَاقًا
لِأَحَدٍ في
(3/91)
وَمَنْ لَمْ
يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ
الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ
فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ
بِإِيمَانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَانْكِحُوهُنَّ
بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ
مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلَا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ
فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ
نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ ذَلِكَ
لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ
لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (25)
الْحَقِيقَةِ وَأَمَّا حَدِيثُ إبْرَاهِيمَ
بْنِ طَهْمَانَ فَإِنَّهُ ضَعِيفُ السَّنَدِ وَقَدْ رَوَى
هَذِهِ الْقِصَّةَ مَالِكٌ عن أبي حازم عن سهل بن سعد فَلَمْ
يَذْكُرْ أَنَّهُ قَالَ عَلِّمْهَا وَلَمْ يُعَارَضْ بِحَدِيثِ
إبْرَاهِيمَ بْنِ طَهْمَانَ وَلَوْ صَحَّ هَذَا الْحَدِيثُ
لَمْ يَكُنْ فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهُ جَعَلَ تَعْلِيمَ
الْقُرْآنِ مَهْرًا لِأَنَّهُ جَائِزٌ أَنْ يَكُونَ أَمَرَهُ
بِتَعْلِيمِهَا الْقُرْآنَ وَيَكُونُ الْمَهْرُ ثَابِتًا فِي
ذِمَّتِهِ إذْ لَمْ يَقُلْ إنَّ تَعْلِيمَ الْقُرْآنِ مَهْرٌ
لَهَا فَإِنْ قِيلَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى إِنِّي أُرِيدُ
أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هاتَيْنِ عَلى أَنْ
تَأْجُرَنِي ثَمانِيَ حِجَجٍ فَجَعَلَ مَنَافِعَ الْحُرِّ
بَدَلًا مِنْ الْبُضْعِ قِيلَ لَهُ لَمْ يَشْرِطْ الْمَنَافِعَ
لِلْمَرْأَةِ وَإِنَّمَا شَرَطَهَا لِشُعَيْبٍ النَّبِيِّ
عَلَيْهِ السَّلَامُ وَمَا شُرِطَ لِلْأَبِ لَا يَكُونُ
مَهْرًا فَالِاحْتِجَاجُ بِهِ بَاطِلٌ فِي مَسْأَلَتِنَا
وَأَيْضًا لَوْ صَحَّ أَنَّهَا كَانَتْ مَشْرُوطَةً لَهَا
وَأَنَّهُ إنَّمَا أَضَافَهَا إلَى نَفْسِهِ لِأَنَّهُ هُوَ
الْمُتَوَلِّي لِلْعَقْدِ أَوْ لِأَنَّ مَالَ الْوَلَدِ
مَنْسُوبٌ إلَى الْوَالِدِ
كَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْتَ وَمَالُك
لِأَبِيك
فَهُوَ مَنْسُوخٌ بِالنَّهْيِ عَنْ الشِّغَارِ.
وقَوْله تَعَالَى أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوالِكُمْ يَدُلُّ
عَلَى أَنَّ عِتْقَ الْأَمَةِ لَا يَكُونُ صَدَاقًا لَهَا إذْ
كَانَتْ الْآيَةُ مُقْتَضِيَةً لِكَوْنِ بدل البضع ما يستحق به
تسليم مال إلَيْهَا وَلَيْسَ فِي الْعِتْقِ تَسْلِيمُ مَالٍ
وَإِنَّمَا فِيهِ إسْقَاطُ الْمِلْكِ مِنْ غَيْرِ أَنْ
اسْتَحَقَّتْ بِهِ تَسْلِيمَ مَالٍ إلَيْهَا أَلَا تَرَى أَنَّ
الرِّقَّ الَّذِي كَانَ الْمَوْلَى يَمْلِكُهُ لَا يَنْتَقِلُ
إلَيْهَا وَإِنَّمَا يُتْلَفُ بِهِ مِلْكُهُ فَإِذَا لَمْ
يَحْصُلْ لَهَا بِهِ مَالٌ أَوْ لَمْ تَسْتَحِقَّ بِهِ
تَسْلِيمَ مَالٍ إلَيْهَا لَمْ يَكُنْ مَهْرًا وَمَا
رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
أَعْتَقَ صَفِيَّةَ وَجَعَلَ عِتْقَهَا صَدَاقَهَا
فَلِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ
لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ بِغَيْرِ مَهْرٍ وَكَانَ مَخْصُوصًا
بِهِ دُونَ الْأُمَّةِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى وَامْرَأَةً
مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَها لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرادَ
النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَها خالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ
الْمُؤْمِنِينَ فَكَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
مَخْصُوصًا بِجَوَازِ مِلْكِ الْبُضْعِ بِغَيْرِ بَدَلٍ كَمَا
كَانَ مَخْصُوصًا بِجَوَازِ تَزْوِيجِ التِّسْعِ دُونَ
الْأُمَّةِ قَوْله تَعَالَى وَآتُوا النِّساءَ صَدُقاتِهِنَّ
نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً
فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً يَدُلُّ أَيْضًا عَلَى أَنَّ
الْعِتْقَ لَا يَكُونُ صَدَاقًا مِنْ وُجُوهٍ أَحَدُهَا
أَنَّهُ
قَالَ وَآتُوهُنَّ وَذَلِكَ أَمْرٌ يَقْتَضِي الْإِيجَابَ
وَإِعْطَاءُ الْعِتْقِ لَا يَصِحُّ وَالثَّانِي قَوْله
تَعَالَى فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً
وَالْعِتْقُ لَا يَصِحُّ فَسْخُهُ بِطِيبِ نَفْسِهَا عَنْ
شَيْءٍ مِنْهُ وَالثَّالِثُ قَوْله تَعَالَى فَكُلُوهُ
هَنِيئاً مَرِيئاً وَذَلِكَ مُحَالٌ فِي الْعِتْقِ قَوْله
تَعَالَى مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ قَالَ أَبُو بَكْرٍ
يَحْتَمِلُ قَوْله تَعَالَى مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ
وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا الْحُكْمُ بِكَوْنِهِمْ مُحْصِنِينَ
بِعَقْدِ النِّكَاحِ وَالْإِخْبَارُ عَنْ حَالِهِمْ إذَا
نَكَحُوا
(3/92)
وَالثَّانِي أَنْ يَكُونَ الْإِحْصَانُ
شَرْطًا فِي الْإِبَاحَةِ الْمَذْكُورَةِ فِي قَوْله تَعَالَى
وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَراءَ ذلِكُمْ فَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ
الْوَجْهَ الْأَوَّلَ فَإِطْلَاقُ الْإِبَاحَةِ عُمُومٌ
يَصِحُّ اعْتِبَارُهُ فِيمَا انْتَظَمَهُ إلَّا مَا قَامَ
دَلِيلُهُ وَإِنْ أَرَادَ الْوَجْهَ الثَّانِيَ كَانَ إطْلَاقُ
الْإِبَاحَةِ مُجْمَلًا لِأَنَّهُ مَعْقُودٌ بِشَرِيطَةِ
حُصُولِ الْإِحْصَانِ بِهِ وَالْإِحْصَانُ لَفْظٌ مُجْمَلٌ
مُفْتَقِرٌ إلَى الْبَيَانِ فَلَا يَصِحُّ حِينَئِذٍ
الِاحْتِجَاجُ بِهِ وَالْأَوْلَى حَمْلُهُ عَلَى الْإِخْبَارِ
عَنْ حُصُولِ الْإِحْصَانِ بِالتَّزْوِيجِ لِإِمْكَانِ
اسْتِعْمَالِهِ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ مَتَى وَرَدَ لَفْظٌ
يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ عُمُومًا يُمْكِنُنَا اسْتِعْمَالُ
ظَاهِرِهِ وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مُجْمَلًا مَوْقُوفَ
الْحُكْمِ عَلَى الْبَيَانِ فَالْوَاجِبُ حَمْلُهُ عَلَى
مَعْنَى الْعُمُومِ دُونَ الْإِجْمَالِ لِمَا فِيهِ مِنْ
اسْتِعْمَالِ حُكْمِهِ عِنْدَ وُرُودِهِ فَعَلَيْنَا
الْمَصِيرُ إلَيْهِ وَغَيْرُ جَائِزٍ حَمْلُهُ عَلَى وَجْهٍ
يُسْقِطُ عَنَّا اسْتِعْمَالَهُ إلَّا بِوُرُودِ بَيَانٍ مِنْ
غَيْرِهِ وَفِي نَسَقِ التِّلَاوَةِ وَفَحْوَى الْآيَةِ مَا
يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ ذِكْرُ الْإِحْصَانِ إخْبَارًا عَنْ
كَوْنِهِ مُحْصَنًا بِالنِّكَاحِ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ قال
مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ وَالسِّفَاحُ هُوَ الزِّنَا
فَأَخْبَرَ أَنَّ الْإِحْصَانَ الْمَذْكُورَ هُوَ ضِدُّ
الزِّنَا وَهُوَ الْعِفَّةُ وَإِذَا كَانَ الْمُرَادُ
بِالْإِحْصَانِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ الْعَفَافَ فَقَدْ
حَصَلَ عَلَى وَجْهٍ لَا يَكُونُ مُجْمَلًا لِأَنَّ
تَقْدِيرَهُ وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ
تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ عِفَّةً غَيْرَ زِنًا وَهَذَا
لَفْظٌ ظَاهِرُ الْمَعْنَى بَيِّنُ الْمُرَادِ فَيُوجِبُ
ذَلِكَ مَعْنَيَيْنِ أَحَدُهُمَا إطْلَاقُ لَفْظِ الْإِبَاحَةِ
وَكَوْنُهُ عُمُومًا وَالْآخَرُ الْإِخْبَارُ بِأَنَّهُمْ إذَا
فَعَلُوا ذَلِكَ كَانُوا مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ
وَالْإِحْصَانُ لَفْظٌ مُشْتَرَكٌ مَتَى أُطْلِقَ لَمْ يَكُنْ
عُمُومًا كَسَائِرِ الْأَلْفَاظِ الْمُشْتَرَكَةِ وَذَلِكَ
لِأَنَّهُ اسْمٌ يَقَعُ عَلَى مَعَانٍ مُخْتَلِفَةٍ وَأَصِلُهُ
الْمَنْعُ وَمِنْهُ سُمِّيَ الْحِصْنُ لِمَنْعِهِ مَنْ صَارَ
فِيهِ مِنْ أَعْدَائِهِ وَمِنْهُ الدِّرْعُ الْحَصِينَةُ أَيُّ
المنيعة والحصان بالكثر الْفَحْلُ مِنْ الْأَفْرَاسِ
لِمَنْعِهِ رَاكِبَهُ مِنْ الْهَلَاكِ وَالْحَصَانُ
بِالنَّصْبِ الْعَفِيفَةُ مِنْ النِّسَاءِ لِمَنْعِهَا
فَرْجَهَا مِنْ الْفَسَادِ قَالَ حَسَّانُ فِي عَائِشَةَ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا.
حَصَانٌ رَزَانٌ مَا تُزَنُّ بِرِيبَةٍ ... وَتُصْبِحُ غَرْثَى
مِنْ لُحُومِ الْغَوَافِلِ
وَقَالَ اللَّهُ تعالى إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ
الْمُحْصَناتِ الْغافِلاتِ يَعْنِي الْعَفَائِفَ
وَالْإِحْصَانُ فِي الشَّرْعِ اسْمٌ يَقَعُ عَلَى مَعَانٍ
مُخْتَلِفَةٍ غَيْرِ مَا كَانَ الِاسْمُ لَهَا فِي اللُّغَةِ
فَمِنْهَا الْإِسْلَامُ قَالَ اللَّهُ تعالى فَإِذا أُحْصِنَّ
رُوِيَ فَإِذَا أَسْلَمْنَ وَيَقَعُ عَلَى التَّزْوِيجِ
لِأَنَّهُ قَدْ رُوِيَ فِي التَّفْسِيرِ أَيْضًا أَنَّ
مَعْنَاهُ فَإِذَا تَزَوَّجْنَ وَقَالَ تَعَالَى
وَالْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ
أَيْمانُكُمْ وَمَعْنَاهُ ذَوَاتُ الْأَزْوَاجِ وَيَقَعُ عَلَى
الْعِفَّةِ فِي قوله تعالى وَالَّذِينَ يَرْمُونَ
الْمُحْصَناتِ ويقع
(3/93)
عَلَى الْوَطْءِ بِنِكَاحٍ صَحِيحٍ فِي
إحْصَانِ الرَّجْمِ وَالْإِحْصَانُ فِي الشَّرْعِ يَتَعَلَّقُ
بِهِ حُكْمَانِ أَحَدُهُمَا فِي إيجَابِ الْحَدِّ عَلَى
قَاذِفِهِ فِي قَوْله تعالى وَالَّذِينَ يَرْمُونَ
الْمُحْصَناتِ فَهَذَا يُعْتَبَرُ فِيهِ الْعَفَافُ
وَالْحُرِّيَّةُ وَالْإِسْلَامُ وَالْعَقْلُ وَالْبُلُوغُ
فَمَا لَمْ يَكُنْ عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ لم يجب على قاذفه
الحد لأنه لاحد على قاذف المجنون والصبى والزاني وَالْكَافِرِ
وَالْعَبْدِ فَهَذِهِ الْوُجُوهُ مِنْ الْإِحْصَانِ
مُعْتَبَرَةٌ فِي إيجَابِ الْحَدِّ عَلَى الْقَاذِفِ
وَالْحُكْمُ الْآخَرُ هُوَ الْإِحْصَانُ الَّذِي يَتَعَلَّقُ
بِهِ إيجَابُ الرَّجْمِ إذا زنا وَهَذَا الْإِحْصَانُ
يَشْتَمِلُ عَلَى الْإِسْلَامِ وَالْعَقْلِ وَالْبُلُوغِ
وَالْحُرِّيَّةِ وَالنِّكَاحِ الصَّحِيحِ مَعَ الدُّخُولِ
بِهَا وَهُمَا عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ فَإِنْ عُدِمَ شَيْءٌ
مِنْ هَذِهِ الْخِلَالِ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ الرَّجْمُ إذَا
زنا وَالسِّفَاحُ هُوَ الزِّنَا
قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَا
مِنْ نِكَاحٍ وَلَسْت مِنْ سِفَاحٍ
وَقَالَ مُجَاهِدُ وَالسُّدِّيُّ فِي قَوْله تَعَالَى غَيْرَ
مُسافِحِينَ قَالَا غَيْرُ زَانِينَ وَيُقَالُ إنَّ أَصْلَهُ
مِنْ سَفْحِ الْمَاءِ وَهُوَ صَبُّهُ وَيُقَالُ سَفَحَ
دَمْعُهُ وَسَفَحَ دَمُ فُلَانٍ وَسَفَحَ الْجَبَلُ أَسْفَلَهُ
لِأَنَّهُ موضع مصب الماء وسافح الرجل إذا زنا لِأَنَّهُ صَبَّ
مَاءَهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَلْحَقَهُ حُكْمُ مَائِهِ فِي
ثُبُوتِ النَّسَبِ وَوُجُوبِ الْعِدَّةِ وَسَائِرِ أَحْكَامِ
النِّكَاحِ فَسُمِّيَ مُسَافِحًا لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ
مِنْ فِعْلِهِ هَذَا غَيْرُ صَبِّ الْمَاءِ وَقَدْ أَفَادَ
ذَلِكَ نَفْيَ نَسَبِ الْوَلَدِ الْمَخْلُوقِ مِنْ مَائِهِ
مِنْهُ وَأَنَّهُ لَا يَلْحَقُ بِهِ وَلَا تَجِبُ عَلَى
الْمَرْأَةِ الْعِدَّةُ مِنْهُ وَلَا تَصِيرُ فِرَاشًا وَلَا
يَجِبُ عَلَيْهِ مَهْرٌ وَلَا يَتَعَلَّقُ بِذَلِكَ الْوَطْءِ
شَيْءٌ مِنْ أَحْكَامِ النِّكَاحِ هَذِهِ الْمَعَانِي كُلُّهَا
فِي مَضْمُونِ هَذَا اللفظ والله أعلم بالصواب.
بَابٌ الْمُتْعَةُ
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ
فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً قَالَ أَبُو بَكْرٍ هُوَ
عَطْفٌ عَلَى مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنْ إبَاحَةِ نِكَاحِ
مَا وَرَاءَ الْمُحَرَّمَاتِ فِي قَوْله تَعَالَى وَأُحِلَّ
لَكُمْ مَا وَراءَ ذلِكُمْ ثم قال فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ
مِنْهُنَّ يعنى دخلتم بهن فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ كَامِلَةً
وَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى وَآتُوا النِّساءَ صَدُقاتِهِنَّ
نِحْلَةً وقوله تعالى فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً
والاستمتاع هو الانتفاع وهو هاهنا كِنَايَةٌ عَنْ الدُّخُولِ
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ فِي
حَياتِكُمُ الدُّنْيا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِها يَعْنِي
تَعَجَّلْتُمْ الِانْتِفَاعَ بِهَا وَقَالَ فَاسْتَمْتَعْتُمْ
بِخَلاقِكُمْ يَعْنِي بِحَظِّكُمْ وَنَصِيبِكُمْ مِنْ
الدُّنْيَا فَلَمَّا حَرَّمَ اللَّهُ تَعَالَى مَنْ ذُكِرَ
تَحْرِيمُهُ فِي قَوْلِهِ حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ
وَعَنَى بِهِ نِكَاحَ الْأُمَّهَاتِ وَمَنْ ذُكِرَ مَعَهُنَّ
ثُمَّ عَطَفَ عَلَيْهِ
(3/94)
قوله وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ
اقْتَضَى ذَلِكَ إبَاحَةَ النِّكَاحِ فِيمَنْ عَدَا
الْمُحَرَّمَاتِ الْمَذْكُورَةِ ثُمَّ قَالَ أَنْ تَبْتَغُوا
بِأَمْوالِكُمْ مُحْصِنِينَ يعنى والله أعلم نكاحا تكونون به
محصنين عفائف غير مسافحين ثُمَّ عَطَفَ عَلَيْهِ حُكْمَ
النِّكَاحِ إذَا اتَّصَلَ بِهِ الدُّخُولُ بِقَوْلِهِ فَمَا
اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ
فَأَوْجَبَ عَلَى الزَّوْجِ كَمَالَ الْمَهْرِ وَقَدْ سَمَّى
اللَّهُ الْمَهْرَ أَجْرًا فِي قَوْلِهِ فَانْكِحُوهُنَّ
بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَسَمَّى
الْمَهْرَ أَجْرًا وَكَذَلِكَ الْأُجُورُ الْمَذْكُورَةُ فِي
هَذِهِ الْآيَةِ هِيَ الْمُهُورُ وَإِنَّمَا سُمِّيَ الْمَهْرُ
أَجْرًا لِأَنَّهُ بَدَلُ الْمَنَافِعِ وَلَيْسَ بِبَدَلٍ عَنْ
الْأَعْيَانِ كَمَا سُمِّيَ بَدَلُ مَنَافِعِ الدَّارِ
وَالدَّابَّةِ أَجْرًا وَفِي تَسْمِيَةِ اللَّهِ الْمَهْرَ
أَجْرًا دَلِيلٌ عَلَى صِحَّةِ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ فِيمَنْ
اسْتَأْجَرَ امرأة فزنا بها أنه لاحد عَلَيْهِ لِأَنَّ اللَّهَ
تَعَالَى قَدْ سَمَّى الْمَهْرَ أَجْرًا فَهُوَ كَمَنْ قَالَ
أُمْهِرُك كَذَا وَقَدْ رُوِيَ نَحْوُهُ عَنْ عُمَرَ بْنِ
الْخَطَّابِ وَمِثْلُ هَذَا يَكُونُ نِكَاحًا فَاسِدًا
لِأَنَّهُ بِغَيْرِ شُهُودٍ وَقَالَ تَعَالَى فِي آيَةٍ
أُخْرَى وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذا
آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَقَدْ كَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ
يَتَأَوَّلُ قَوْله تَعَالَى فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ
مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ عَلَى مُتْعَةِ النِّسَاءِ
وَرُوِيَ عَنْهُ فِيهَا أَقَاوِيلُ رُوِيَ أَنَّهُ كَانَ
يَتَأَوَّلُ الْآيَةَ عَلَى إبَاحَةِ الْمُتْعَةِ وَيُرْوَى
أَنَّ فِي قِرَاءَةِ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ فَمَا
اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ إلَى أَجَلٍ مُسَمًّى
فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ لَمَّا
قِيلَ لَهُ إنَّهُ قَدْ قِيلَ فِيهَا الْأَشْعَارُ قَالَ هِيَ
كَالْمُضْطَرِّ إلَى الْمَيْتَةِ وَالدَّمِ وَلَحْمِ
الْخِنْزِيرِ فَأَبَاحَهَا فِي هَذَا الْقَوْلِ عِنْدَ
الضَّرُورَةِ وَرُوِيَ عَنْ جَابِرِ بْنِ زَيْدٍ أَنَّ ابْنَ
عَبَّاسٍ نَزَلَ عَنْ قَوْلِهِ فِي الصَّرْفِ وَقَوْلِهِ فِي
الْمُتْعَةِ وَحَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ
الْوَاسِطِيِّ قَالَ حَدَّثَنَا جعفر بن محمد بن اليمان قَالَ
حَدَّثَنَا أَبُو عُبَيْدٍ قَالَ حَدَّثَنَا ابْنُ بُكَيْر
عَنْ اللَّيْثِ عَنْ بُكَيْر بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
الْأَشَجِّ عَنْ عَمَّارٍ مَوْلَى الشَّرِيدِ قَالَ سَأَلْت
ابْنَ عَبَّاسٍ عَنْ الْمُتْعَةِ أَسِفَاحٌ هِيَ أَمْ نِكَاحٌ
فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ لَا سِفَاحٌ وَلَا نِكَاحٌ قُلْت فَمَا
هِيَ قَالَ الْمُتْعَةُ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى قُلْت
لَهُ هَلْ لَهَا مِنْ عِدَّةٍ قَالَ نَعَمْ عِدَّتُهَا
حَيْضَةٌ قُلْت هَلْ يَتَوَارَثَانِ قَالَ لَا وَحَدَّثَنَا
جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَ حَدَّثَنَا حَجَّاجٌ عَنْ ابن
جريج وعثمان بن عطاء عن عطاء الخرسانى عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي
قَوْله تَعَالَى فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ قَالَ
نَسَخَتْهَا يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ
النِّساءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَهَذَا يَدُلُّ
عَلَى رُجُوعِهِ عَنْ الْقَوْلِ بِالْمُتْعَةِ وَقَدْ رُوِيَ
عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ السَّلَفِ أَنَّهَا زِنًا حَدَّثَنَا
جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَ حَدَّثَنَا جَعْفَرُ ابن محمد
بن اليمان قال حدثنا أبو عبيد قال حدثنا عبد الله بن صالح عن
اللَّيْثِ عَنْ عُقَيْلٍ
(3/95)
ويونس عن أبن شهاب عن ابن عبد الملك مغيرة
بْنِ نَوْفَلٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ
الْمُتْعَةِ فَقَالَ ذَلِكَ السِّفَاحُ وَرُوِيَ عَنْ هِشَامِ
بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ كَانَ نِكَاحُ الْمُتْعَةِ
بِمَنْزِلَةِ الزِّنَا فَإِنْ قِيلَ لَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ
الْمُتْعَةُ زِنًا لِأَنَّهُ لَمْ يَخْتَلِفْ أَهْلُ النَّقْلِ
أَنَّ الْمُتْعَةَ قَدْ كَانَتْ مُبَاحَةً فِي بَعْضِ
الْأَوْقَاتِ أَبَاحَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يُبِحْ اللَّهُ تَعَالَى الزِّنَا
قَطُّ قِيلَ لَهُ لَمْ تَكُنْ زِنًا فِي وَقْتِ الْإِبَاحَةِ
فَلَمَّا حَرَّمَهَا اللَّهُ تَعَالَى جَازَ إطْلَاقُ اسْمِ
الزِّنَا عَلَيْهَا كَمَا
رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم أَنَّهُ
قَالَ الزَّانِيَةُ هِيَ الَّتِي تُنْكِحُ نَفْسَهَا بِغَيْرِ
بَيِّنَةٍ وَأَيُّمَا عَبْدٍ تَزَوَّجَ بِغَيْرِ إذْنِ
مَوْلَاهُ فَهُوَ عَاهِرٌ
وَإِنَّمَا مَعْنَاهُ التَّحْرِيمُ لَا حَقِيقَةُ الزِّنَا
وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
الْعَيْنَانِ تَزْنِيَانِ وَالرِّجْلَانِ تَزْنِيَانِ فَزِنَا
الْعَيْنِ النَّظَرُ وَزِنَا الرِّجْلَيْنِ الْمَشْيُ
وَيُصَدِّقُ ذَلِكَ كله الفرج أو كذبه فَأَطْلَقَ اسْمَ
الزِّنَا فِي هَذِهِ الْوُجُوهِ عَلَى وجه المجاز إذا كَانَ
مُحَرَّمًا فَكَذَلِكَ مَنْ أَطْلَقَ اسْمَ الزِّنَا عَلَى
الْمُتْعَةِ فَإِنَّمَا أَطْلَقَهُ عَلَى وَجْهِ الْمَجَازِ
وَتَأْكِيدِ التَّحْرِيمِ وَحَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ
مُحَمَّدٍ قَالَ حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بن محمد بن اليمان قال
حَدَّثَنَا أَبُو عُبَيْدٍ قَالَ حَدَّثَنَا حَجَّاجٌ عَنْ
شُعْبَةَ عَنْ قَتَادَةَ قَالَ سَمِعْت أَبَا نَضْرَةَ يَقُولُ
كَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَأْمُرُ بِالْمُتْعَةِ وَكَانَ ابْنُ
الزُّبَيْرِ يَنْهَى عَنْهَا قَالَ فَذَكَرْت ذَلِكَ لِجَابِرِ
بْنِ عَبْدِ اللَّهِ فَقَالَ عَلَى يَدَيَّ دَارَ الْحَدِيثُ
تَمَتَّعْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فَلَمَّا قَامَ عُمَرُ قَالَ إن الله كان يحل لرسوله
ما شاء بِمَا شَاءَ فَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ كَمَا
أَمَرَ اللَّهُ وَانْتَهُوا عَنْ نِكَاحِ هَذِهِ النِّسَاءِ
لَا أُوتَى بِرَجُلٍ نَكَحَ امْرَأَةً إلَى أَجَلٍ إلَّا
رَجَمْته فَذَكَرَ عُمَرُ الرَّجْمَ فِي الْمُتْعَةِ وَجَائِزٌ
أَنْ يَكُونَ عَلَى جِهَةِ الْوَعِيدِ وَالتَّهْدِيدِ
لِيَنْزَجِرَ النَّاسُ عَنْهَا وَقَالَ وَحَدَّثَنَا أَبُو
عُبَيْدٍ قَالَ حَدَّثَنَا حَجَّاجٌ عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ
أَخْبَرَنِي عَطَاءٌ قَالَ سَمِعْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ يَقُولُ
رَحِمَ اللَّهُ عُمَرَ مَا كَانَتْ الْمُتْعَةُ إلَّا رَحْمَةً
مِنْ اللَّهِ تَعَالَى رَحِمَ اللَّهُ بِهَا أُمَّةَ مُحَمَّدٍ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَوْلَا نَهْيُهُ لما
احتاج إلى الزنا إلا شفا «1» فَاَلَّذِي حُصِّلَ مِنْ
أَقَاوِيلِ ابْنِ عَبَّاسٍ الْقَوْلُ بِإِبَاحَةِ الْمُتْعَةُ
فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ مِنْ غَيْرِ تَقْيِيدٍ لَهَا
بِضَرُورَةٍ وَلَا غَيْرِهَا وَالثَّانِي أَنَّهَا
كَالْمَيْتَةِ تَحِلُّ بِالضَّرُورَةِ وَالثَّالِثُ أَنَّهَا
مُحَرَّمَةٌ وَقَدْ قَدَّمْنَا ذِكْرَ سَنَدِهِ وَقَوْلُهُ
أَيْضًا إنَّهَا مَنْسُوخَةٌ وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى رُجُوعِهِ
عَنْ إبَاحَتِهَا مَا رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ وَهْبٍ قَالَ
أَخْبَرَنِي عَمْرُو بن الحرث أَنَّ بُكَيْر بْنَ الْأَشَجِّ
حَدَّثَهُ أَنَّ أَبَا إِسْحَاقَ مَوْلَى بَنِي هَاشِمٍ
حَدَّثَهُ أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ ابْنَ عَبَّاسٍ فَقَالَ كُنْت
فِي سَفَرٍ وَمَعِي جَارِيَةٌ لِي وَلِي أَصْحَابٌ فَأَحْلَلْت
جَارِيَتِي لأصحابى يستمتعون منها فقال
__________
(1) قوله إلا شفا أى إلا قليل من الناس من قولهم غابت الشمس
إلا شفا أى إلا قليلا من ضوئها عند غروبها.
(3/96)
ذَاكَ السِّفَاحُ فَهَذَا أَيْضًا يَدُلُّ
عَلَى رُجُوعِهِ وَأَمَّا احْتِجَاجُ مَنْ احْتَجَّ فِيهَا
بِقَوْلِهِ تَعَالَى فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ
فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأَنَّ فِي قِرَاءَةِ أُبَيٍّ إلَى
أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ إثْبَاتُ الْأَجَلِ فِي
التِّلَاوَةِ عِنْدَ أَحَدٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ فَالْأَجَلُ
إذًا غَيْرُ ثَابِتٍ فِي الْقُرْآنِ وَلَوْ كَانَ فِيهِ ذِكْرُ
الْأَجَلِ لَمَا دَلَّ أَيْضًا عَلَى مُتْعَةِ النِّسَاءِ
لِأَنَّ الْأَجَلَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ دَاخِلًا عَلَى
الْمَهْرِ فَيَكُونُ تَقْدِيرُهُ فَمَا دَخَلْتُمْ بِهِ
مِنْهُنَّ بِمَهْرٍ إلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَآتُوهُنَّ
مُهُورَهُنَّ عِنْدَ حُلُولِ الْأَجَلِ وَفِي فَحَوَى الْآيَةِ
مِنْ الدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ النِّكَاحُ دُونَ
الْمُتْعَةِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ أَحَدُهَا أَنَّهُ عَطْفٌ
عَلَى إبَاحَةِ النِّكَاحِ فِي قَوْله تَعَالَى وَأُحِلَّ
لَكُمْ مَا وَراءَ ذلِكُمْ وَذَلِكَ إبَاحَةٌ لِنِكَاحِ مَنْ
عَدَا الْمُحَرَّمَاتِ لَا مَحَالَةَ لِأَنَّهُمْ لَا
يَخْتَلِفُونَ أَنَّ النِّكَاحَ مُرَادٌ بِذَلك فَوَجَبَ أَنْ
يَكُونَ ذِكْرُ الِاسْتِمْتَاعِ بَيَانًا لِحُكْمِ
الْمَدْخُولِ بِهَا بِالنِّكَاحِ فِي اسْتِحْقَاقِهَا
لِجَمِيعِ الصداق والثاني قوله تعالى مُحْصِنِينَ
وَالْإِحْصَانُ لَا يَكُونُ إلَّا فِي نِكَاحٍ صَحِيحٍ لأن
الوطء بِالْمُتْعَةِ لَا يَكُونُ مُحْصَنًا وَلَا
يَتَنَاوَلُهُ هَذَا الِاسْمُ فَعَلِمْنَا أَنَّهُ أَرَادَ
النِّكَاحَ وَالثَّالِثُ قَوْله تعالى غَيْرَ مُسافِحِينَ
فَسَمَّى الزِّنَا سِفَاحًا لِانْتِفَاءِ أَحْكَامِ النِّكَاحِ
عَنْهُ مِنْ ثُبُوتِ النَّسَبِ وَوُجُوبِ الْعِدَّةِ وَبَقَاءِ
الْفِرَاشِ إلَى أَنْ يُحْدِثَ لَهُ قَطْعًا وَلَمَّا كَانَتْ
هَذِهِ الْمَعَانِي مَوْجُودَةً فِي الْمُتْعَةِ كَانَتْ فِي
مَعْنَى الزِّنَا وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ مَنْ سَمَّاهَا
سفاحا ذهب إلى هذا المعنى إذا كَانَ الزَّانِي إنَّمَا سُمِّيَ
مُسَافِحًا لِأَنَّهُ لَمْ يَحْصُلْ لَهُ مِنْ وَطْئِهَا
فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِحُكْمِهِ إلَّا عَلَى سَفْحِ الْمَاءِ
بَاطِلًا مِنْ غَيْرِ اسْتِلْحَاقِ نَسَبٍ بِهِ فَمِنْ حَيْثُ
نَفَى اللَّهُ تَعَالَى بِمَا أَحَلَّ مِنْ ذَلِكَ وَأَثْبَتَ
بِهِ الإحصان اسم السفاح وجب أن يَكُونَ الْمُرَادُ
بِالِاسْتِمْتَاعِ هُوَ الْمُتْعَةُ إذْ كَانَتْ فِي مَعْنَى
السِّفَاحِ بَلْ الْمُرَادُ بِهِ النِّكَاحُ وقوله تعالى
غَيْرَ مُسافِحِينَ شَرْطٌ فِي الْإِبَاحَةِ الْمَذْكُورَةِ
وَفِي ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى النَّهْيِ عَنْ الْمُتْعَةِ إذْ
كَانَتْ الْمُتْعَةُ فِي مَعْنَى السِّفَاحِ مِنْ الْوَجْهِ
الَّذِي ذَكَرْنَا قَالَ أَبُو بَكْرٍ فَكَانَ الَّذِي شُهِرَ
عَنْهُ إبَاحَةُ الْمُتْعَةِ مِنْ الصَّحَابَةِ عَبْدَ اللَّهِ
بْنَ عَبَّاسٍ وَاخْتَلَفَتْ الرِّوَايَاتُ عَنْهُ مَعَ ذَلِكَ
فَرُوِيَ عنه إباحتها بتأويل الآية له قد بَيَّنَّا أَنَّهُ
لَا دَلَالَةَ فِي الْآيَةِ عَلَى إبَاحَتِهَا بَلْ دِلَالَاتُ
الْآيَةِ ظَاهِرَةٌ فِي حَظْرِهَا وَتَحْرِيمِهَا مِنْ
الْوُجُوهِ الَّتِي ذَكَرْنَا ثُمَّ رُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ
جَعَلَهَا بِمَنْزِلَةِ الْمَيْتَةِ وَلَحْمِ الْخِنْزِيرِ
وَالدَّمِ وَأَنَّهَا لَا تَحِلُّ إلَّا لِمُضْطَرٍّ وَهَذَا
مُحَالٌ لِأَنَّ الضَّرُورَةَ الْمُبِيحَةَ لِلْمُحَرَّمَاتِ
لَا تُوجَدُ فِي الْمُتْعَةِ وَذَلِكَ لِأَنَّ الضَّرُورَةَ
الْمُبِيحَةَ لِلْمَيْتَةِ وَالدَّمِ هِيَ الَّتِي يَخَافُ
مَعَهَا تَلَفَ النَّفْسِ إنْ لَمْ يَأْكُلْ وَقَدْ عَلِمْنَا
أَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَخَافُ عَلَى نَفْسِهِ وَلَا عَلَى
شَيْءٍ «7- أحكام لث»
(3/97)
مِنْ أَعْضَائِهِ التَّلَفَ بِتَرْكِ
الْجِمَاعِ وَفَقْدِهِ وَإِذَا لَمْ تَحِلَّ فِي حَالِ
الرَّفَاهِيَةِ وَالضَّرُورَةِ لَا تَقَعُ إلَيْهَا فَقَدْ
ثَبَتَ حَظْرُهَا وَاسْتَحَالَ قَوْلُ الْقَائِلِ إنَّهَا
تَحِلُّ عِنْدَ الضَّرُورَةِ كَالْمَيْتَةِ وَالدَّمِ فَهَذَا
قَوْلٌ مُتَنَاقِضٌ مُسْتَحِيلٌ وَأَخْلِقْ بِأَنْ تَكُونَ
هَذِهِ الرِّوَايَةُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَهْمًا مِنْ
رُوَاتِهَا لِأَنَّهُ كَانَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَفْقَهَ مِنْ
أَنْ يَخْفَى عَلَيْهِ مِثْلُهُ فَالصَّحِيحُ إذَا مَا رُوِيَ
عَنْهُ مِنْ حَظْرِهَا وَتَحْرِيمِهَا وَحِكَايَةُ مَنْ حَكَى
عَنْهُ الرُّجُوعَ عَنْهَا وَالدَّلِيلُ عَلَى تَحْرِيمِهَا
قوله تعالى وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ إِلَّا
عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ
غَيْرُ مَلُومِينَ فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ فَأُولئِكَ
هُمُ العادُونَ فَقَصَرَ إبَاحَةَ الْوَطْءِ عَلَى أَحَدِ
هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ وَحَظَرَ مَا عَدَاهُمَا بِقَوْلِهِ
تَعَالَى فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ
العادُونَ وَالْمُتْعَةُ خَارِجَةٌ عَنْهُمَا فَهِيَ إذًا
مُحَرَّمَةٌ فَإِنْ قِيلَ مَا أَنْكَرْت أَنْ تَكُونَ
الْمَرْأَةُ الْمُسْتَمْتَعُ بِهَا زَوْجَةً وَأَنَّ
الْمُتْعَةَ غَيْرُ خَارِجَةٍ عَنْ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ
اللَّذَيْنِ قُصِرَ الْإِبَاحَةُ عَلَيْهِمَا قِيلَ لَهُ هَذَا
غَلَطٌ لِأَنَّ اسْمَ الزَّوْجَةِ إنَّمَا يَقَعُ عَلَيْهَا
وَيَتَنَاوَلُهَا إذَا كَانَتْ مَنْكُوحَةً بِعَقْدِ النكاح
وَإِذَا لَمْ تَكُنْ الْمُتْعَةُ نِكَاحًا لَمْ تَكُنْ هَذِهِ
زَوْجَةً فَإِنْ قِيلَ مَا الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْمُتْعَةَ
لَيْسَتْ بِنِكَاحٍ قِيلَ لَهُ الدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ
النِّكَاحَ اسْمٌ يَقَعُ عَلَى أَحَدِ مَعْنَيَيْنِ وَهُوَ
الْوَطْءُ وَالْعَقْدُ وَقَدْ بَيَّنَّا فِيمَا سَلَفَ أَنَّهُ
حَقِيقَةٌ فِي الْوَطْءِ مَجَازٌ في العقد وإذ كَانَ الِاسْمُ
مَقْصُورًا فِي إطْلَاقِهِ عَلَى أَحَدِ هَذَيْنِ
الْمَعْنَيَيْنِ وَكَانَ إطْلَاقُهُ فِي الْعَقْدِ مَجَازًا
عَلَى مَا ذَكَرْنَا وَوَجَدْنَاهُمْ أَطْلَقُوا الِاسْمَ
عَلَى عَقْدِ تَزْوِيجٍ مُطْلَقٍ أَنَّهُ نِكَاحٌ وَلَمْ
نَجِدِهِمْ أَطْلَقُوا اسْمَ النِّكَاحِ عَلَى الْمُتْعَةِ
فَلَا يَقُولُونَ إن فلانا تزويج فُلَانَةَ إذَا شَرَطَ
التَّمَتُّعَ بِهَا لَمْ يَجُزْ لَنَا إطْلَاقُ اسْمِ
النِّكَاحِ عَلَى الْمُتْعَةِ إذْ الْمَجَازُ لَا يَجُوزُ
إطْلَاقُهُ إلَّا أَنْ يَكُونَ مَسْمُوعًا مِنْ الْعَرَبِ أَوْ
يَرِدُ بِهِ الشَّرْعُ فَلَمَّا
عَدِمْنَا إطْلَاقَ اسْمِ النِّكَاحِ عَلَى الْمُتْعَةِ فِي
الشَّرْعِ وَاللُّغَةِ جَمِيعًا وَجَبَ أَنْ تَكُونَ
الْمُتْعَةُ مَا عَدَا مَا أَبَاحَهُ اللَّهُ وَأَنْ يَكُونَ
فَاعِلُهَا عَادِيًا ظَالِمًا لَنَفْسِهِ مُرْتَكِبًا لِمَا
حَرَّمَهُ اللَّهُ وَأَيْضًا فَإِنَّ النِّكَاحَ لَهُ
شَرَائِطُ قَدْ اُخْتُصَّ بِهَا مَتَى فُقِدَتْ لَمْ يَكُنْ
نِكَاحًا مِنْهَا أَنَّ مُضِيَّ الْوَقْتِ لَا يُؤَثِّرُ فِي
عَقْدِ النِّكَاحِ وَلَا يُوجِبُ رَفْعَهُ وَالْمُتْعَةُ
عِنْدَ الْقَائِلِينَ بِهَا تُوجِبُ رَفْعَ النِّكَاحِ
بِمُضِيِّ الْمُدَّةِ وَمِنْهَا أَنَّ النِّكَاحَ فِرَاشٌ
يَثْبُتُ بِهِ النَّسَبُ مِنْ غَيْرِ دَعْوَةٍ بَلْ لَا
يَنْتَفِي الْوَلَدُ الْمَوْلُودُ عَلَى فِرَاشِ النِّكَاحِ
إلَّا بِاللِّعَانِ وَالْقَائِلُونَ بِالْمُتْعَةِ لَا
يُثْبِتُونَ النَّسَبَ مِنْهُ فَعَلِمْنَا أَنَّهَا لَيْسَتْ
بِنِكَاحٍ وَلَا فِرَاشٍ وَمِنْهَا أَنَّ الدُّخُولَ بِهَا
عَلَى النِّكَاحِ يُوجِبُ الْعِدَّةَ عِنْدَ الْفُرْقَةِ
وَالْمَوْتُ يُوجِبُ الْعِدَّةَ دَخَلَ بِهَا أَوْ لَمْ
يَدْخُلْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى وَالَّذِينَ
(3/98)
يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ
أَزْواجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ
وَعَشْراً
وَالْمُتْعَةُ لَا تُوجِبُ عِدَّةَ الْوَفَاةِ وَقَالَ
تَعَالَى وَلَكُمْ نِصْفُ ما تَرَكَ أَزْواجُكُمْ وَلَا
تَوَارُثَ عِنْدَهُمْ فِي الْمُتْعَةِ فَهَذِهِ هِيَ أَحْكَامُ
النِّكَاحِ الَّتِي يُخْتَصُّ بِهَا إلَّا أَنْ يَكُونَ
هُنَاكَ رِقٌّ أَوْ كُفْرٌ يَمْنَعُ التَّوَارُثَ فَلَمَّا
لَمْ يَكُنْ فِي الْمُتْعَةِ مَانِعٌ مِنْ الْمِيرَاثِ مِنْ
أَحَدِهِمَا بِكُفْرٍ أَوْ رِقٍّ وَلَا سَبَبَ يُوجِبُ
الْفُرْقَةَ وَلَا مَانِعَ مِنْ ثُبُوتِ النَّسَبِ مَعَ كَوْنِ
الرَّجُلِ مِمَّنْ يَسْتَفْرِشُ وَيَلْحَقُهُ الْأَنْسَابُ
لَفِرَاشِهِ ثَبَتَ بِذَلِكَ أَنَّهَا لَيْسَتْ بِنِكَاحٍ
فَإِذَا خَرَجَتْ عَنْ أَنْ تَكُونَ نِكَاحًا أَوْ مِلْكَ
يَمِينٍ كَانَتْ مُحَرَّمَةً بِتَحْرِيمِ اللَّهِ إيَّاهَا فِي
قَوْلِهِ فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ
العادُونَ فَإِنْ قِيلَ انْقِضَاءُ الْمُدَّةِ الْمُوجِبَةِ
لِلْبَيْنُونَةِ هُوَ الطَّلَاقُ قِيلَ لَهُ إنَّ الطَّلَاقَ
لَا يَقَعُ إلَّا بِصَرِيحِ لَفْظٍ أَوْ كِنَايَةٍ وَلَمْ
يَكُنْ مِنْهُ وَاحِدٌ مِنْهُمَا فَكَيْفَ يَكُونُ طَلَاقًا
وَمَعَ ذَلِكَ فَيَجِبُ عَلَى أَصْلِ هَذَا الْقَائِلِ أَنْ
لَا تَبِينَ لَوْ انْقَضَتْ الْمُدَّةُ وَهِيَ حَائِضٌ لِأَنَّ
الْقَائِلِينَ بِإِبَاحَةِ الْمُتْعَةِ لَا يَرَوْنَ طَلَاقَ
الْحَائِضِ جَائِزًا فَلَوْ كَانَتْ الْبَيْنُونَةُ
الْوَاقِعَةُ بِمُضِيِّ الْمُدَّةِ طَلَاقًا لَوَجَبَ أَنْ لَا
يَقَعَ فِي حَالِ الْحَيْضِ فَلَمَّا أَوْقَعُوا
الْبَيْنُونَةَ الْوَاقِعَةَ بِمُضِيِّ الْوَقْتِ وَهِيَ
حَائِضٌ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِطَلَاقٍ وَإِنْ
كَانَتْ تَبِينُ بِغَيْرِ طَلَاقٍ وَلَا سَبَبٍ مِنْ قِبَلِ
الزَّوْجِ يُوجِبُ الْفُرْقَةَ ثَبَتَ أَنَّهَا لَيْسَتْ
بِنِكَاحٍ فَإِنْ قِيلَ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ نَفْيِ
النَّسَبِ وَالْعِدَّةِ وَالْمِيرَاثِ لَيْسَ انْتِفَاءُ
هَذِهِ الْأَحْكَامِ بِمَانِعٍ مِنْ أَنْ تَكُونَ نِكَاحًا
لِأَنَّ الصَّغِيرَ لَا يَلْحَقُ بِهِ نَسَبٌ وَيَكُونُ
نِكَاحُهُ صَحِيحًا وَالْعَبْدُ لَا يَرِثُ وَالْمُسْلِمُ لَا
يَرِثُ الْكَافِرَ وَلَمْ يُخْرِجْهُ انْتِفَاءُ هَذِهِ
الْأَحْكَامِ عَنْهُ مِنْ أَنْ يَكُونَ نِكَاحًا قِيلَ لَهُ
إنَّ نِكَاحَ الصَّغِيرِ قَدْ تَعَلَّقَ به ثبوت النسب إذا صار
في مِمَّنْ يَسْتَفْرِشُ وَيَتَمَتَّعُ وَأَنْتَ لَا
تُلْحِقُهُ نَسَبَ وَلَدِهَا مَعَ الْوَطْءِ الَّذِي يَجُوزُ
أَنْ يَلْحَقَ بِهِ النَّسَبُ فِي النِّكَاحِ وَالْعَبْدُ
وَالْكَافِرُ إنَّمَا لَمْ يَرِثَا لِلرِّقِّ وَالْكُفْرِ
وَهُمَا يَمْنَعَانِ التَّوَارُثَ بَيْنَهُمَا وَذَلِكَ غَيْرُ
مَوْجُودٍ فِي الْمُتْعَةِ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا
مِنْ أَهْلِ الْمِيرَاثِ مِنْ صَاحِبِهِ فَإِذَا لَمْ يَكُنْ
بَيْنَهُمَا مَا يَقْطَعُ الْمِيرَاثَ ثُمَّ لَمْ يَرِثْ مَعَ
وُجُودِ الْمُتْعَةِ عَلِمْنَا أَنَّ الْمُتْعَةَ لَيْسَتْ
بِنِكَاحٍ لِأَنَّهَا لَوْ كَانَتْ نِكَاحًا لَأَوْجَبَتْ
الْمِيرَاثَ مَعَ وُجُودِ سَبَبِهِ مِنْ غَيْرِ مَانِعٍ لَهُ
مِنْ قِبَلِهِمَا وَأَيْضًا قد قال ابن عباس إنها ليست
بِنِكَاحٍ وَلَا سِفَاحٍ فَإِذَا كَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ قَدْ
نَفَى عَنْهَا اسْمَ النِّكَاحِ وَجَبَ أَنْ لَا تَكُونَ
نِكَاحًا لِأَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ لَمْ يَكُنْ مِمَّنْ يَخْفَى
عَلَيْهِ أَحْكَامُ الْأَسْمَاءِ فِي الشَّرْعِ وَاللُّغَةِ
فَإِذَا كَانَ هُوَ الْقَائِلَ بِالْمُتْعَةِ مِنْ
الصَّحَابَةِ وَلَمْ يَرَهَا نِكَاحًا وَنَفَى عَنْهَا
الِاسْمَ ثَبَتَ أَنَّهَا لَيْسَتْ بِنِكَاحٍ
(3/99)
وَمِمَّا يُوجِبُ تَحْرِيمَهَا مِنْ جِهَةِ
السُّنَّةِ مَا
حَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي قَالَ حَدَّثَنَا مُعَاذُ بْنُ
الْمُثَنَّى قَالَ حَدَّثَنَا الْقَعْنَبِيُّ قَالَ حَدَّثَنَا
مَالِكٌ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ وَالْحَسَنِ
ابْنَيْ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ عَنْ أَبِيهِمَا عَنْ عَلِيٍّ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ مُتْعَةِ النِّسَاءِ وَعَنْ
أَكْلِ لُحُومِ الْحُمُرِ الْإِنْسِيَّةِ
وَقَالَ فِيهِ غَيْرُ مَالِكٍ إنَّ عَلِيًّا قَالَ لِابْنِ
عَبَّاسٍ إنَّك امْرُؤٌ تَيَّاهٌ
إنَّمَا الْمُتْعَةُ إنَّمَا كَانَتْ رُخْصَةً فِي أَوَّلِ
الْإِسْلَامِ نَهَى عَنْهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زَمَنَ خيبر وعن لحوم الْإِنْسِيَّةِ
وَرُوِيَ هَذَا الْحَدِيثُ مِنْ طُرُقٍ عَنْ الزُّهْرِيِّ
رَوَاهُ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ وَعُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ
عُمَرَ فِي آخَرِينَ
وَرَوَى عِكْرِمَةُ بْنُ عَمَّارٍ عَنْ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ إنَّ اللَّهَ
تَعَالَى حَرَّمَ الْمُتْعَةَ بِالطَّلَاقِ وَالنِّكَاحِ
وَالْعِدَّةِ وَالْمِيرَاثِ
وَرَوَى عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ زِيَادٍ قَالَ حَدَّثَنَا
أَبُو عُمَيْسٍ عَنْ إيَاسِ بْنِ سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ
عَنْ أَبِيهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أذن في متعة النساء عام أو طاس ثُمَّ نَهَى عَنْهَا
وَحَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي بْنُ قَانِعٍ قَالَ حَدَّثَنَا
إسْمَاعِيلُ بْنُ الْفَضْلِ الْبَلْخِيّ قَالَ حَدَّثَنَا
مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ مُوسَى قَالَ حَدَّثَنَا
مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو حَنِيفَةَ
عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ نَهَى رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ خَيْبَرَ عَنْ
مُتْعَةِ النِّسَاءِ
وَمَا كُنَّا مُسَافِحِينَ قَالَ أَبُو بَكْرٍ قَوْلُهُ وَمَا
كُنَّا مُسَافِحِينَ يَحْتَمِلُ وُجُوهًا أَحَدُهَا أَنَّهُمْ
لَمْ يَكُونُوا مُسَافِحِينَ حِينَ أُبِيحَتْ لَهُمْ
الْمُتْعَةُ يَعْنِي أَنَّهَا لَوْ لَمْ تُبَحْ لَمْ يَكُونُوا
لِيُسَافِحُوا أو نفى بِذَلِكَ قَوْلَ مَنْ قَالَ إنَّهَا
أُبِيحَتْ لِلضَّرُورَةِ كَالْمِيتَةِ وَالدَّمِ ثُمَّ نُهِيَ
عَنْهَا بَعْدُ وَالثَّانِي أَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا
لِيَفْعَلُوا ذَلِكَ بَعْدَ النَّهْيِ فَيَكُونُوا
مُسَافِحِينَ وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا فِي حَالِ
الْإِبَاحَةِ مُسَافِحِينَ بِالتَّمَتُّعِ إذْ كَانَتْ
مُبَاحَةً وَقَدْ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قَالَ
حَدَّثَنَا أَبُو داود قال حدثنا مسدد قال حدثنا عَبْدُ
الْوَارِثِ عَنْ إسْمَاعِيلَ بْنِ أُمَيَّةَ عَنْ الزُّهْرِيِّ
قَالَ كُنَّا عِنْدَ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ
فَتَذَاكَرْنَا مُتْعَةَ النِّسَاءِ فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ
يُقَالُ لَهُ رَبِيعُ بْنُ سَبْرَةَ أَشْهَدُ عَلَى أَبِي
أَنَّهُ حَدَّثَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْهَا فِي حَجَّةِ الوداع وروى عبد
العزيز بن ربيع بْنِ سَبْرَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ
ذَلِكَ كَانَ عَامَ الْفَتْحِ وَرَوَاهُ إسْمَاعِيلُ بْنُ
عَيَّاشٍ عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ
الْعَزِيزِ عَنْ الرَّبِيعِ بْنِ سَبْرَةَ عَنْ أَبِيهِ
مِثْلَهُ وَذَكَرَ أَنَّهُ كَانَ عَامَ الْفَتْحِ ورواه أنس بن
عوض اللَّيْثِيِّ عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ عُمَرَ بْنِ
عَبْدِ الْعَزِيزِ عَنْ الرَّبِيعِ بْنِ سَبْرَةَ عَنْ أَبِيهِ
مِثْلَهُ وَقَالَ كَانَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ فَلَمْ
تَخْتَلِفْ الرُّوَاةُ فِي التَّحْرِيمِ وَاخْتَلَفُوا فِي
التَّارِيخِ فَسَقَطَ التَّارِيخُ كَأَنَّهُ وَرَدَ غَيْرَ
مُؤَرَّخٍ وَثَبَتَ التَّحْرِيمُ لِاتِّفَاقِ الرُّوَاةِ
عَلَيْهِ
وَرَوَاهُ أَبُو حَنِيفَةَ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ مُحَمَّدِ
بْنِ عَبْدِ
(3/100)
اللَّهِ عَنْ سَبْرَةَ الْجُهَنِيِّ أَنَّ
رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ
مُتْعَةِ النِّسَاءِ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ
وَحَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي بن قانع قال حدثنا ابن ناحية
قَالَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُسْلِمٍ الرَّازِيّ قَالَ
حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ أَبِي سَلَمَةَ قَالَ حَدَّثَنَا
صَدَقَةُ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَلِيٍّ عَنْ إسْمَاعِيلَ
بْنِ أُمَيَّةَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ عَنْ
جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ خَرَجَ النِّسَاءُ
اللَّاتِي اسْتَمْتَعْنَا بِهِنَّ مَعَنَا فَقَالَ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُنَّ حَرَامٌ إلَى
يَوْمِ الْقِيَامَةِ
فَإِنْ قِيلَ هَذِهِ الْأَخْبَارُ مُتَضَادَّةٌ لِأَنَّ فِي
حَدِيثِ سَبْرَةَ الْجُهَنِيِّ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَبَاحَهَا لَهُمْ فِي حَجَّةِ
الْوَدَاعِ وَقَالَ بَعْضُهُمْ عَامَ الْفَتْحِ وَفِي حَدِيثِ
عَلِيٍّ وَابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَرَّمَهَا يَوْمَ خَيْبَرَ وَخَيْبَرُ
كَانَتْ قَبْلَ الْفَتْحِ وَقَبْلَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ
فَكَيْفَ تَكُونُ مُبَاحَةً عَامَ الْفَتْحِ أَوْ فِي حَجَّةِ
الْوَدَاعِ وَقَدْ حُرِّمَتْ قَبْلَ ذَلِكَ عَامَ خَيْبَرَ
قِيلَ لَهُ الْجَوَابُ عَنْ هَذَا مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا
أَنَّ حَدِيثَ سَبْرَةَ مُخْتَلَفٌ فِي تاريخه فقال بَعْضُهُمْ
فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ وَفِي كِلَا الْحَدِيثَيْنِ أَنَّ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَبَاحَهَا فِي
تِلْكَ السَّفْرَةِ ثُمَّ حَرَّمَهَا فَلَمَّا اخْتَلَفَتْ
الرُّوَاةُ فِي تَارِيخِهِ سَقَطَ التَّارِيخُ وَحَصَلَ
الْخَبَرُ غَيْرَ مُؤَرَّخٍ فَلَا يُضَادُّ حَدِيثَ عَلِيٍّ
وَابْنِ عُمَرَ الَّذِي اتَّفَقَا عَلَى تَارِيخِهِ أَنَّهُ
حَرَّمَهَا يَوْمَ خَيْبَرَ وَالْوَجْهُ الْآخَرُ أَنَّهُ
جَائِزٌ أَنْ يَكُونَ حَرَّمَهَا يَوْمَ خَيْبَرَ ثُمَّ
أَحَلَّهَا فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ أَوْ فِي فَتْحِ مَكَّةَ
ثُمَّ حَرَّمَهَا فَيَكُونُ التَّحْرِيمُ الْمَذْكُورُ فِي
حَدِيثِ عَلِيٍّ وَابْنِ عُمَرَ مَنْسُوخًا بِحَدِيثِ سَبْرَةَ
الْجُهَنِيِّ ثُمَّ تكون الإباحة بِمَا فِي حَدِيثِ سَبْرَةَ
أَيْضًا لِأَنَّ ذَلِكَ غَيْرُ مُمْتَنِعٍ فَإِنْ قِيلَ
رَوَى إسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي خَالِدٍ عَنْ قَيْسِ بْنِ أبي
حازم عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ كُنَّا نَغْزُو مَعَ رَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وليس لَنَا نِسَاءٌ
فَقُلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلَا نَسْتَخْصِي فَنَهَانَا
عَنْ ذَلِكَ وَرَخَّصَ لَنَا أَنْ نَنْكِحَ بِالثَّوْبِ إلَى
أَجَلٍ ثُمَّ قَالَ لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ مَا أَحَلَّ
اللَّهُ لَكُمْ
الْآيَةَ قِيلَ لَهُ هَذِهِ الْمُتْعَةُ هِيَ الَّتِي
حَرَّمَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فِي سَائِرِ الْأَخْبَارِ الَّتِي ذَكَرْنَا وَلَمْ نُنْكِرْ
نَحْنُ أَنَّهَا قَدْ كَانَتْ أُبِيحَتْ فِي وَقْتٍ ثُمَّ
حُرِّمَتْ وَلَيْسَ فِي حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ ذِكْرُ
التَّارِيخِ فَأَخْبَارُ الْحَظْرِ قَاضِيَةٌ عَلَيْهَا
لِأَنَّ فِيهَا ذِكْرَ الْحَظْرِ بَعْدَ الْإِبَاحَةِ
وَأَيْضًا لَوْ تَسَاوَيَا لَكَانَ الْحَظْرُ أُولَى لِمَا
بَيَّنَّاهُ فِي مَوَاضِعَ وَأَمَّا تِلَاوَةُ النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْآيَةَ عِنْدَ إبَاحَةِ
الْمُتْعَةِ وَهُوَ قَوْله تَعَالَى لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ
مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ فَإِنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدَ
بِهِ النَّهْيَ عَنْ الِاسْتِخْصَاءِ وَتَحْرِيمَ النِّكَاحِ
الْمُبَاحِ وَيَحْتَمِلُ الْمُتْعَةَ فِي حَالِ مَا كَانَتْ
مُبَاحَةً وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّه أَنَّهَا
مَنْسُوخَةٌ بِالطَّلَاقِ وَالْعِدَّةِ وَالْمِيرَاثِ
وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّهُ قَدْ عَلِمَ أَنَّهَا قَدْ كَانَتْ
مُبَاحَةً فِي وَقْتٍ فَلَوْ كَانَتْ الْإِبَاحَةُ بَاقِيَةً
لَوَرَدَ النَّقْلُ بِهَا مُسْتَفِيضًا مُتَوَاتِرًا لِعُمُومِ
الحاجة
(3/101)
إلَيْهِ وَلَعَرَفَتْهَا الْكَافَّةُ كَمَا
عَرَفَتْهَا بَدِيًّا وَلَمَا اجْتَمَعَتْ الصَّحَابَةُ عَلَى
تَحْرِيمِهَا لَوْ كَانَتْ الْإِبَاحَةُ بَاقِيَةً فَلَمَّا
وَجَدْنَا الصَّحَابَةَ مُنْكَرِينَ لِإِبَاحَتِهَا مُوجِبِينَ
لَحَظْرِهَا مَعَ عِلْمِهِمْ بَدِيًّا بِإِبَاحَتِهَا دَلَّ
ذَلِكَ عَلَى حَظْرِهَا بَعْدَ الْإِبَاحَةِ أَلَا تَرَى أَنَّ
النِّكَاحَ لَمَّا كَانَ مُبَاحًا لَمْ يَخْتَلِفُوا فِي
إبَاحَتِهِ وَمَعْلُومٌ أَنَّ بَلْوَاهُمْ بِالْمُتْعَةِ لَوْ
كَانَتْ مُبَاحَةً كَبَلْوَاهُمْ بِالنِّكَاحِ فَالْوَاجِبُ
إذًا أَنْ يَكُونَ وُرُودُ النَّقْلِ فِي بَقَاءِ إبَاحَتِهَا
مِنْ طَرِيقِ الِاسْتِفَاضَةِ وَلَا نَعْلَمُ أَحَدًا مِنْ
الصَّحَابَةِ رُوِيَ عَنْهُ تَجْرِيدُ الْقَوْلِ فِي إبَاحَةِ
الْمُتْعَةِ غَيْرَ ابْنِ عَبَّاسٍ وَقَدْ رَجَعَ عَنْهُ حِينَ
اسْتَقَرَّ عِنْدَهُ تَحْرِيمُهَا بِتَوَاتُرِ الْأَخْبَارِ
مِنْ جِهَةِ الصَّحَابَةِ وَهَذَا كَقَوْلِهِ فِي الصَّرْفِ
وَإِبَاحَتِهِ الدِّرْهَمَ بِالدِّرْهَمَيْنِ يَدًا بِيَدٍ
فَلَمَّا اسْتَقَرَّ عِنْدَهُ تَحْرِيمُ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إيَّاهُ وَتَوَاتَرَتْ عِنْدَهُ
الْأَخْبَارُ فِيهِ مِنْ كُلِّ نَاحِيَةٍ رَجَعَ عَنْ قَوْلِهِ
وَصَارَ إلَى قَوْلِ الْجَمَاعَةِ فَكَذَلِكَ كَانَ سَبِيلُهُ
فِي الْمُتْعَةِ وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ الصَّحَابَةَ قَدْ
عَرَفَتْ نَسْخَ إبَاحَةِ الْمُتْعَةِ مَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ
أَنَّهُ قَالَ فِي خُطْبَتِهِ مُتْعَتَانِ كَانَتَا عَلَى
عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
أَنَا أَنْهَى عَنْهُمَا وَأُعَاقِبُ عَلَيْهِمَا وَقَالَ فِي
خَبَرٍ آخَرَ لَوْ تَقَدَّمْت فِيهَا لَرَجَمْت فَلَمْ
يُنْكِرْ هَذَا الْقَوْلَ عَلَيْهِ مُنْكِرٌ لَا سِيَّمَا فِي
شَيْءٍ قَدْ عَلِمُوا إبَاحَتَهُ وَأَخْبَارَهُ بِأَنَّهُمَا
كَانَتَا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَا يَخْلُو ذَلِكَ مِنْ أَحَدِ
وَجْهَيْنِ إمَّا أَنْ يَكُونُوا قَدْ عَلِمُوا بَقَاءَ
إبَاحَتِهَا فَاتَّفَقُوا مَعَهُ عَلَى حَظْرِهَا وَحَاشَاهُمْ
مِنْ ذَلِكَ لِأَنَّ ذَلِكَ يُوجِبُ أَنْ يَكُونُوا
مُخَالِفِينَ لِأَمْرٍ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ عِيَانًا وَقَدْ وَصَفَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى
بِأَنَّهُمْ خَيْرُ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ يَأْمُرُونَ
بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ فَغَيْرُ
جَائِزٍ مِنْهُمْ التَّوَاطُؤُ عَلَى مُخَالَفَةِ أَمْرِ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلِأَنَّ
ذَلِكَ يُؤَدِّي إلَى الْكُفْرِ وَإِلَى الِانْسِلَاخِ مِنْ
الْإِسْلَامِ لِأَنَّ مَنْ عَلِمَ إبَاحَةَ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْمُتْعَةِ ثُمَّ قَالَ هِيَ
مَحْظُورَةٌ مِنْ غَيْرِ نَسْخٍ لَهَا فَهُوَ خَارِجٌ مِنْ
الْمِلَّةِ فَإِذَا لَمْ يَجُزْ ذَلِكَ عَلِمْنَا أَنَّهُمْ
قَدْ عَلِمُوا حَظْرَهَا بَعْدَ الْإِبَاحَةِ وَلِذَلِكَ لَمْ
يُنْكِرُوهُ وَلَوْ كَانَ مَا قَالَ عُمَرُ مُنْكَرًا وَلَمْ
يَكُنْ النَّسْخُ عِنْدَهُمْ ثَابِتًا لما جاز أن يقروه عَلَى
تَرْكِ النَّكِيرِ عَلَيْهِ وَفِي ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى
إجْمَاعِهِمْ عَلَى نَسْخِ الْمُتْعَةِ إذْ غَيْرُ جَائِزٍ
حَظْرُ مَا أَبَاحَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ إلَّا مِنْ طَرِيقِ النَّسْخِ وَمِمَّا يَدُلُّ
عَلَى تَحْرِيمِ الْمُتْعَةِ مِنْ طَرِيقِ النَّظَرِ أَنَّا
قَدْ عَلِمْنَا أَنَّ عَقْدَ النِّكَاحِ وَإِنْ كَانَ وَاقِعًا
عَلَى اسْتِبَاحَةِ مَنَافِعِ الْبُضْعِ فَإِنَّ اسْتِحْقَاقَ
تِلْكَ الْمَنَافِعِ بِعَقْدِ النِّكَاحِ بِمَنْزِلَةِ
الْعُقُودِ عَلَى الْمَمْلُوكَاتِ مِنْ الْأَعْيَانِ وَأَنَّهُ
مُخَالِفٌ لِعُقُودِ الْإِجَارَاتِ الْوَاقِعَةِ عَلَى
مَنَافِعِ الْأَعْيَانِ أَلَا تَرَى أَنَّ عَقْدَ النِّكَاحِ
يَصِحُّ مُطْلَقًا مِنْ غَيْرِ شَرْطِ مُدَّةٍ مَذْكُورَةٍ
لَهُ وَأَنَّ عُقُودَ الْإِجَارَاتِ لَا تَصِحُّ إلَّا عَلَى
مُدَدٍ مَعْلُومَةٍ أَوْ على
(3/102)
عَمَلٍ مَعْلُومٍ فَلَمَّا كَانَ ذَلِكَ
حُكْمَ الْعَقْدِ عَلَى مَنَافِعِ الْبُضْعِ أَشْبَهَ عُقُودَ
الْبِيَاعَاتِ وَمَا جَرَى مَجْرَاهَا إذَا عُقِدَتْ عَلَى
الْأَعْيَانِ فَلَا يَصِحُّ وُقُوعُهُ مُوَقَّتًا كَمَا لَا
يَصِحُّ وُقُوعُ التَّمْلِيكَاتِ فِي الْأَعْيَانِ
الْمَمْلُوكَةِ مُوَقَّتَةً وَمَتَى شُرِطَ فِيهِ التَّوْقِيتُ
لَمْ يَكُنْ نِكَاحًا فَلَا تَصِحُّ استباحة البضع به كَمَا
لَا يَصِحُّ الْبَيْعُ إذَا شُرِطَ فِيهِ تَوْقِيتُ الْمِلْكِ
وَكَذَلِكَ الْهِبَاتُ وَالصَّدَقَاتُ وَلَا يَمْلِكُهُ
بِشَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الْعُقُودِ مِلِكًا مُوَقَّتًا
وَكَذَلِكَ مَنَافِعُ الْبُضْعِ لِمَا جَرَتْ مَجْرَى
الْأَعْيَانِ الْمَمْلُوكَةِ لَمْ يَصِحَّ فِيهَا التَّوْقِيتُ
وَمِمَّا يَحْتَجُّ بِهِ الْقَائِلُونَ بِإِبَاحَةِ
الْمُتْعَةِ اتِّفَاقُ الْجَمِيعِ عَلَى أَنَّهَا كَانَتْ
مُبَاحَةً فِي وَقْتٍ مِنْ الزَّمَانِ ثُمَّ اخْتَلَفْنَا فِي
الْحَظْرِ فَنَحْنُ ثَابِتُونَ عَلَى مَا حَصَلَ الِاتِّفَاقُ
عَلَيْهِ وَلَا نُزُولَ عَنْهُ بِالِاخْتِلَافِ فَيُقَالُ
لَهُمْ الْأَخْبَارُ الَّتِي بِهَا تَثْبُتُ
الْإِبَاحَةُ بها يثبت الحظر ذلك لِأَنَّ كُلَّ خَبَرٍ ذُكِرَ
فِيهِ إبَاحَةُ الْمُتْعَةِ ذكر فيه حظرها فمن حيث يثبت
الْإِبَاحَةُ وَجَبَ أَنْ يَثْبُتَ الْحَظْرُ وَإِنْ لَمْ يثبت
الإباحة إذا كَانَتْ الْجِهَةُ الَّتِي بِهَا تَثْبُتُ
الْإِبَاحَةُ بِهَا وَرَدَ الْحَظْرُ وَأَيْضًا فَإِنَّ قَوْلَ
الْقَائِلِ إنَّا لَمَّا اتَّفَقْنَا عَلَى كَذَا ثُمَّ
اخْتَلَفْنَا فِيهِ لم ينزل عَنْ الْإِجْمَاعِ بِالِاخْتِلَافِ
قَوْلٌ فَاسِدٌ لِأَنَّ الْمَوْضِعَ الَّذِي فِيهِ الْخِلَافُ
لَيْسَ هُوَ مَوْضِعُ الْإِجْمَاعِ فَإِذَا لَمْ يَكُنْ
إجْمَاعًا فَلَا بُدَّ مِنْ دَلَالَةٍ يُقِيمُهَا عَلَى
صِحَّةِ دَعْوَاهُ وَأَيْضًا فَإِنَّ كَوْنَ الشَّيْءِ
مُبَاحًا فِي وَقْتٍ غَيْرُ مُوجِبٍ بَقَاءَ إبَاحَتِهِ فِيمَا
يَجُوزُ فِيهِ النَّسْخُ وَقَدْ دَلَّلْنَا عَلَى ثُبُوتِ
الْحَظْرِ بَعْدَ الْإِبَاحَةِ مِنْ ظَاهِرِ الْكِتَابِ
وَالسُّنَّةِ وَإِجْمَاعِ السَّلَفِ قَالَ أَبُو بَكْرٍ قَدْ
ذَكَرْنَا فِي الْمُتْعَةِ وَحُكْمِهَا فِي التَّحْرِيمِ مَا
فِيهِ بَلَاغٌ لِمَنْ نَصَحَ نَفْسَهُ وَلَا خِلَافَ فِيهَا
بَيْنَ الصَّدْرِ الْأَوَّلِ عَلَى مَا بَيَّنَّا وَقَدْ
اتَّفَقَ فُقَهَاءُ الْأَمْصَارِ مَعَ ذَلِكَ عَلَى
تَحْرِيمِهَا وَلَا يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَاخْتَلَفَ
الْفُقَهَاءُ فِيمَنْ تَزَوَّجَ امْرَأَةً أَيَّامًا
مَعْلُومَةً فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ
وَمُحَمَّدُ وَمَالِكُ بْنُ أَنَسٍ وَالثَّوْرِيُّ
وَالْأَوْزَاعِيُّ وَالشَّافِعِيُّ إذَا تَزَوَّجَ امْرَأَةً
عَشْرَةَ أَيَّامٍ فَهُوَ بَاطِلٌ وَلَا نِكَاحَ بَيْنَهُمَا
وَقَالَ زُفَرُ النِّكَاحُ جَائِزٌ وَالشَّرْطُ بَاطِلٌ
وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ إذَا تَزَوَّجَ امْرَأَةً وَمِنْ
نِيَّتِهِ أَنْ يُطَلِّقَهَا وَلَيْسَ ثَمَّ شَرْطٌ فَلَا
خَيْرَ فِي هَذَا هَذَا مُتْعَةٌ قَالَ أَبُو بَكْرٍ لَا
خِلَافَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ زُفَرَ أَنَّ عَقْدَ النِّكَاحِ
لَا يَصِحُّ بِلَفْظِ الْمُتْعَةِ وَأَنَّهُ لَوْ قَالَ
أَتَمَتَّعُ بِك عَشْرَةَ أَيَّامٍ أَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ
بِنِكَاحٍ وَإِنَّمَا الْخِلَافُ إذَا عَقَدَهُ بِلَفْظِ
النِّكَاحِ فَقَالَ أَتَزَوَّجُك عَشْرَةَ أَيَّامٍ فَجَعَلَهُ
زُفَرُ نِكَاحًا صَحِيحًا وَأَبْطَلَ الشَّرْطَ فِيهِ لِأَنَّ
النِّكَاحَ لَا تُفْسِدُهُ الشُّرُوطُ الْفَاسِدَةُ كَمَا لَوْ
قَالَ أَتَزَوَّجُك عَلَى أَنْ أُطَلِّقَك بَعْدَ عَشْرَةِ
أَيَّامٍ كَانَ النِّكَاحُ جَائِزًا وَالشَّرْطُ بَاطِلًا
وَإِنَّمَا الْخِلَافُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ زُفَرَ فِي أَنَّ
(3/103)
هَذَا نِكَاحٌ أَوْ مُتْعَةٌ فَقَالَ
الْجُمْهُورُ هَذَا مُتْعَةٌ وَلَيْسَ بِنِكَاحٍ وَالدَّلِيلُ
عَلَى صِحَّةِ هَذَا الْقَوْلِ أَنَّ النِّكَاحَ إلَى أَجَلٍ
هُوَ مُتْعَةٌ وَإِنْ لَمْ يَلْفِظْ بِالْمُتْعَةِ مَا
حَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي بْنُ قَانِعٍ قَالَ حَدَّثَنَا
إسحاق ابن الْحَسَنِ بْنُ مَيْمُونِ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو
نُعَيْمٍ قَالَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عُمَرَ بْنِ
عَبْدِ الْعَزِيزِ عَنْ الرَّبِيعِ بْنِ سَبْرَةَ الْجُهَنِيِّ
أَنَّ أَبَاهُ أَخْبَرَهُ أَنَّهُمْ خَرَجُوا مَعَ رَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَجَّةِ
الْوَدَاعِ حَتَّى نَزَلُوا عُسْفَانَ وَذَكَرَ قِصَّةَ أَمْرِ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إيَّاهُمْ
بِالْإِحْلَالِ بِالطَّوَافِ إلَّا مَنْ كَانَ مَعَهُ هَدْيٌ
قَالَ فَلَمَّا أَحْلَلْنَا قَالَ اسْتَمْتِعُوا مِنْ هَذِهِ
النِّسَاءِ وَالِاسْتِمْتَاعُ التَّزْوِيجُ عِنْدَنَا
فَعَرْضنَا ذَلِكَ عَلَى النِّسَاءِ فَأَبَيْنَ إلَّا أَنْ
نَضْرِبَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُنَّ أَجَلًا فَذَكَرْنَا ذَلِكَ
لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ
افْعَلُوا فَخَرَجْت أَنَا وَابْنُ عَمِّي وَأَنَا أَشَبُّ
مِنْهُ وَمَعِي بُرْدٌ وَمَعَهُ بُرْدٌ فَأَتَيْنَا امْرَأَةً
فَأَعْجَبَهَا بُرْدُهُ وَأَعْجَبَهَا شَبَابِي فَقَالَتْ
بُرْدٌ كَبُرْدٍ وَهَذَا أَشَبُّ وَكَانَ بَيْنِي وَبَيْنَهَا
عَشْرٌ فَبِتّ عِنْدَهَا لَيْلَةً ثُمَّ أَصْبَحْت فَخَرَجْت
إلَى الْمَسْجِدِ فَإِذَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ الرُّكْنِ وَالْمَقَامِ يَقُولُ يَا
أَيُّهَا النَّاسُ إنِّي كُنْت أَذِنْت لَكُمْ فِي
الِاسْتِمْتَاعِ مِنْ هَذِهِ النِّسَاءِ أَلَا وَإِنَّ اللَّهَ
قَدْ حَرَّمَ ذَلِكَ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ فَمَنْ بَقِيَ
عِنْدَهُ مِنْهُنَّ شَيْءٌ فَلْيُخَلِّ سَبِيلَهَا وَلَا
تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا
فَأَخْبَرَ سَبْرَةُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ
الِاسْتِمْتَاعَ كَانَ التَّزْوِيجَ وَأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ رَخَّصَ لَهُمْ فِي
تَوْقِيتِ الْمُدَّةِ فِيهِ ثُمَّ نَهَى عَنْهُ بَعْدَ
الْإِبَاحَةِ فَثَبَتَ بِذَلِكَ أَنَّ النِّكَاحَ إلَى أَجَلٍ
هُوَ مُتْعَةٌ وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَيْضًا
حَدِيثُ إسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ عَنْ قَيْسِ بْنِ
أَبِي حَازِمٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ
كُنَّا نَغْزُو مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ وَلَيْسَ لَنَا نِسَاءٌ فَقُلْنَا يَا رَسُولَ
اللَّهِ أَلَا نَسْتَخْصِي فَنَهَانَا عَنْ ذَلِكَ وَرَخَّصَ
لَنَا أَنْ نَنْكِحَ بِالثَّوْبِ إلَى أَجَلٍ ثُمَّ قَرَأَ لا
تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ
فَأَخْبَرَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ أَنَّ الْمُتْعَةَ
كَانَتْ نِكَاحًا إلَى أَجَلٍ وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ حَدِيثُ
جَابِرٍ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَقَدْ تَقَدَّمَ
سَنَدُهُ فِي بَابِ الْمُتْعَةِ أَنَّهُ قَالَ إن الله كان يحل
لرسوله ما شاء فَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ كَمَا
أَمَرَ اللَّهُ وَاتَّقُوا نكاح هذه النساء ألا أُوتَى
بِرَجُلٍ نَكَحَ امْرَأَةً إلَى أَجَلٍ إلَّا رَجَمْته
فَأَخْبَرَ عُمَرُ أَنَّ النِّكَاحَ إلَى أَجَلٍ هُوَ مُتْعَةٌ
وَإِذَا ثَبَتَ لَهُ هَذَا الِاسْمُ وَقَدْ نَهَى النَّبِيُّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الْمُتْعَةِ انْتَظَمَ
ذَلِكَ تَحْرِيمَ النِّكَاحِ إلَى أَجَلٍ لَدُخُولِهِ تَحْتَ
الِاسْمِ وَأَيْضًا لَمَّا كَانَتْ الْمُتْعَةُ اسْمًا
لِلنَّفْعِ الْقَلِيلِ كَمَا قَالَ تَعَالَى إِنَّما هذِهِ
الْحَياةُ الدُّنْيا مَتاعٌ يَعْنِي نَفْعًا قَلِيلًا وَسَمَّى
الْوَاجِبَ بَعْدَ الطَّلَاقِ متعة بقوله فَمَتِّعُوهُنَّ وقال
وَلِلْمُطَلَّقاتِ مَتاعٌ بِالْمَعْرُوفِ لِأَنَّهُ أَقَلُّ
مِنْ الْمَهْرِ عَلِمْنَا أَنَّ مَا أطلق عليه اسم المتعة أو
متاع فقد أريد
(3/104)
بِهِ التَّقْلِيلُ وَأَنَّهُ نَزْرٌ
يَسِيرٌ بِالْإِضَافَةِ إلَى مَا يَقْتَضِيهِ الْعَقْدُ
وَيُوجِبُهُ فَسُمِّي مَا يُعْطَى بَعْدَ الطَّلَاقِ مِمَّا
لَا يُوجَبُ بِنَفْسِ الْعَقْدِ مَتَاعًا وَمُتْعَةً
لَقِلَّتِهِ بِالْإِضَافَةِ إلَى الْمَهْرِ الْمُسْتَحَقِّ
بالعقد وَسُمِّيَ النِّكَاحُ الْمُوَقَّتُ مُتْعَةً لِقِصَرِ
مُدَّتِهِ وَقِلَّةِ الِانْتِفَاعِ بِهِ بِالْإِضَافَةِ إلَى
مَا يَقْتَضِيهِ الْعَقْدُ مِنْ بَقَائِهِ مُؤَبَّدًا إلَى
أَنْ يُفَرِّقَ بَيْنَهُمَا الْمَوْتُ أَوْ سَبَبٌ حَادِثٌ
يُوجِبُ التَّفْرِيقَ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَخْتَلِفَ عَلَى
ذَلِكَ فِي إطْلَاقِ اسْمِ الْمُتْعَةِ أَنْ يَكُونَ بِلَفْظِ
الْمُتْعَةِ أَوْ بِلَفْظِ النِّكَاحِ بَعْدَ أَنْ يَكُونَ
مُوَقَّتًا لِأَنَّ اسْمَ الْمُتْعَةِ يَتَنَاوَلُهُمَا مِنْ
الْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرْنَا وَأَيْضًا لَا يَخْلُو الْعَاقِدُ
عَقْدَ النِّكَاحِ عَلَى عَشْرَةٍ أَيَّامٍ مِنْ أَنْ
يَجْعَلَهُ مُوَقَّتًا عَلَى مَا شَرَطَ أَوْ يُبْطِلَ
الشَّرْطَ وَيَجْعَلَهُ مُؤَبَّدًا لَمْ يَصِحَّ ذَلِكَ مِنْ
قِبَلِ أَنَّ مَا بَعْدَ الْوَقْتِ لَيْسَ عَلَيْهِ عَقْدٌ
فَلَا يَجُوزُ له أن يستبح بُضْعَهَا بِلَا عَقْدٍ أَلَا تَرَى
أَنَّ مَنْ اشْتَرَى صُبْرَةً مِنْ طَعَامٍ عَلَى أَنَّهَا
عَشْرَةُ أَقْفِزَةٍ أَوْ قَالَ قَدْ اشْتَرَيْت مِنْك
عَشْرَةَ أَقْفِزَةٍ مِنْ هَذِهِ الصُّبْرَةِ أَنَّ الْعَقْدَ
وَاقِعٌ عَلَى عَشْرَةِ أَقْفِزَةٍ دُونَ مَا عَدَاهَا
فَكَذَلِكَ إذَا عَقَدَ النِّكَاحَ عَلَى عَشْرَةِ أَيَّامٍ
فَمَا بعد العشرة ليس عليه عقد النكاح فَغَيْرُ جَائِزٍ
اسْتِبَاحَةُ بُضْعِهَا فِيهِ بِالْعَقْدِ وَلَا يَجُوزُ أَنْ
يَجْعَلَهُ مُوَقَّتًا فَيَكُونُ صَرِيحَ الْمُتْعَةِ فَوَجَبَ
بِذَلِكَ إفْسَادُ الْعَقْدِ وَلَيْسَ هَذَا بِمَنْزِلَةِ
قَوْلِهِ قَدْ تَزَوَّجْتُك عَلَى أَنْ أُطَلِّقَك بَعْدَ
عَشْرَةِ أَيَّامٍ فَيَجُوزُ النِّكَاحُ وَيَبْطُلُ الشَّرْطُ
لِأَنَّهُ عَقَدَ النِّكَاحَ مُؤَبَّدًا وَشَرَطَ فِيهِ
قَطْعَهُ بِالطَّلَاقِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ إذَا لَمْ
يُطَلِّقْ كَانَ النِّكَاحُ بَاقِيًا فَعَلِمْت أَنَّ
النِّكَاحَ قَدْ وَقَعَ عَلَى وَجْهِ التَّأْبِيدِ وَإِنَّمَا
شَرَطَ قَطْعَهُ بِالطَّلَاقِ وَذَلِكَ شَرْطٌ فَاسِدٌ
وَالنِّكَاحُ لَا تُفْسِدُهُ الشُّرُوطُ فَيَبْطُلُ الشَّرْطُ
وَيَجُوزُ الْعَقْدُ وَلَيْسَ كَذَلِكَ إذَا تَزَوَّجَهَا
عَشْرَةَ أَيَّامٍ لِأَنَّ مَا بَعْدَ الْعَشَرَةِ لَيْسَ
عَلَيْهِ عَقْدٌ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ اسْتَأْجَرَ دَارًا
عَشْرَةَ أَيَّامٍ كَانَ الْعَقْدُ وَاقِعًا عَلَى عَشْرَةِ
أَيَّامٍ وَمَا بَعْدَهَا لَيْسَ عَلَيْهَا عَقْدٌ وَلَوْ
سَكَنَهَا بَعْدَ الْعَشَرَةِ كَانَ غَاصِبًا سَاكِنًا لَهَا
عَلَى غَيْرِ وَجْهِ الْعَقْدِ وَلَا أَجْرَ عَلَيْهِ وَلَوْ
قَالَ آجَرْتُك هَذِهِ الدَّارَ عَلَى أَنْ أَفْسَخَ الْعَقْدَ
بَعْدَ عَشْرَةِ أَيَّامٍ كَانَتْ إجَارَةً فَاسِدَةً
مُؤَبَّدَةً مَا سَكَنَ مِنْهَا من المدة في العشرة وبعدها
يَلْزَمُهُ أَجْرُ الْمِثْلِ فَكَذَلِكَ النِّكَاحُ إذَا
عُقِدَ عَلَى عَشْرَةٍ فَلَيْسَ عَلَى مَا بَعْدَ الْعَشَرَةِ
عَقْدٌ فَإِنْ قِيلَ فَلَوْ قَالَ قَدْ تَزَوَّجْتُك عَلَى
أَنَّك طَالِقٌ بَعْدَ عَشْرَةِ أَيَّامٍ كَانَ النِّكَاحُ
مُوَقَّتًا لِأَنَّهُ يَبْطُلُ بَعْدَ مُضِيِّ الْعَشَرَةِ
قِيلَ لَهُ لَيْسَ هَذَا نِكَاحًا مُوَقَّتًا بَلْ هو مؤبدا
وَإِنَّمَا قَطَعَهُ بِالطَّلَاقِ وَلَا فَرْقَ بَيْنَ ذِكْرِ
الطَّلَاقِ مَعَ الْعَقْدِ وَإِيقَاعِهِ بَعْدَ الْمُدَّةِ
لِأَنَّ النِّكَاحَ قَدْ وَقَعَ بَدِيًّا مُؤَبَّدًا
وَإِنَّمَا أَوْقَعَ طَلَاقًا لَوَقْتٍ مُسْتَقْبِلٍ فَلَا
يُوجِبُ ذَلِكَ تَوْقِيتَ العقد قوله
(3/105)
تعالى فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً
مَعْنَاهُ الْمُهُورُ فَسَمَّى الْمَهْرَ أَجْرًا لِأَنَّهُ
بَدَلُ مَنَافِعِ الْبُضْعِ وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ
الْمَهْرُ أَنَّهُ ذَكَرَهُ لِمَنْ كَانَ مُحْصَنًا
بِالنِّكَاحِ فِي قَوْلِهِ وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَراءَ
ذلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ
مُسافِحِينَ وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ
أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ
مُحْصَناتٍ غَيْرَ مُسافِحاتٍ فَذَكَرَ الْإِحْصَانَ عَقِيبَ
ذِكْرِ النِّكَاحِ وَسَمَّى الْمَهْرَ أجرا وقوله فَرِيضَةً
تَأْكِيدٌ لَوُجُوبِهِ وَإِسْقَاطٌ لِلظَّنِّ وَتَوَهُّمِ
التَّأْوِيلِ فِيهِ إذْ كَانَ الْفَرْضُ مَا هُوَ فِي أَعْلَى
مَرَاتِبِ الْإِيجَابِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.
بَابٌ الزِّيَادَةُ فِي الْمُهُورِ
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى بَعْدَ ذِكْرِ الْمَهْرِ وَلا جُناحَ
عَلَيْكُمْ فِيما تَراضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ
والفريضة هي التَّسْمِيَةُ وَالتَّقْدِيرُ كَفَرَائِضِ
الْمَوَارِيثِ وَالصَّدَقَاتِ وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِيمَا
سَلَفَ وَرُوِيَ عَنْ الْحَسَنِ فِي قَوْله تَعَالَى وَلا
جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما تَراضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ
الْفَرِيضَةِ أَنَّهُ مَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ حَطِّ
بَعْضِ الصَّدَاقِ أَوْ تَأْخِيرِهِ أَوْ هِبَةِ جَمِيعِهِ
وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلَالَةٌ عَلَى جَوَازِ الزِّيَادَةِ
فِي الْمَهْرِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى فِيما تَراضَيْتُمْ بِهِ
مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ وَهُوَ عُمُومٌ فِي الزِّيَادَةِ
وَالنُّقْصَانِ وَالتَّأْخِيرِ وَالْإِبْرَاءِ وَهُوَ
بِالزِّيَادَةِ أَخَصُّ مِنْهُ بِغَيْرِهَا لِأَنَّهُ
عَلَّقَهُ بِتَرَاضِيهِمَا وَالْبَرَاءَةُ وَالْحَطُّ
وَالتَّأْخِيرُ لَا يُحْتَاجُ فِي وُقُوعِهِ إلَى رِضَى
الرَّجُلِ وَالزِّيَادَةُ لَا تَصِحُّ إلَّا بِقَبُولِهِمَا
فَلَمَّا عُلِّقَ ذَلِكَ بِتَرَاضِيهِمَا جَمِيعًا دَلَّ عَلَى
أَنَّ الْمُرَادَ الزِّيَادَةُ وَلَا يَجُوزُ الِاقْتِصَارُ
بِهِ عَلَى الْبَرَاءَةِ وَالْحَطِّ وَالتَّأْجِيلِ لِأَنَّ
عُمُومَ اللَّفْظِ يَقْتَضِي جَوَازَ الْجَمِيعِ فَلَا يُخَصُّ
بِغَيْرِ دَلَالَةٍ وَلِأَنَّ الِاقْتِصَارَ بِهِ عَلَى مَا
ذَكَرْت يُسْقِطُ فَائِدَةَ ذِكْرِ تَرَاضِيهِمَا جَمِيعًا
وَإِضَافَةِ ذَلِكَ إلَيْهِمَا وَغَيْرُ جَائِزٍ إسْقَاطُ
حُكْمِ اللَّفْظِ وَالِاقْتِصَارُ بِهِ عَلَى مَا يَجْعَلُ
وُجُودَهُ وَعَدَمَهُ سَوَاءً وَقَدْ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ
فِي الزِّيَادَةِ فِي الْمَهْرِ فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ
وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ الزِّيَادَةُ فِي الصَّدَاقِ
بَعْدَ النِّكَاحِ جَائِزَةٌ وَهِيَ ثَابِتَةٌ إنْ دَخَلَ
بِهَا أَوْ مَاتَ عَنْهَا وَإِنْ طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ
بَطَلَتْ الزِّيَادَةُ وَكَانَ لَهَا نِصْفُ الْمُسَمَّى فِي
الْعَقْدِ وَقَالَ زُفَرُ بن الهزيل وَالشَّافِعِيُّ
الزِّيَادَةُ بِمَنْزِلَةِ هِبَةٍ مُسْتَقْبَلَةٍ إذَا
قَبَضَتْهَا جَازَتْ فِي قَوْلِهِمَا جَمِيعًا وَإِنْ لَمْ
تَقْبِضْهَا بَطَلَتْ وَقَالَ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ تَصِحُّ
الزِّيَادَةُ فَإِنْ طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ رَجَعَ
نِصْفُ مَا زَادَهَا إلَيْهِ وَهِيَ بِمَنْزِلَةِ مَالٍ
وَهَبَهُ لَهَا يُقَوَّمُ بِهِ عَلَيْهِ وَإِنْ مَاتَ عَنْهَا
قَبْلَ أَنْ تَقْبِضَ فَلَا شَيْءَ لَهَا مِنْهُ لِأَنَّهَا
عَطِيَّةٌ لَمْ تُقْبَضْ قَالَ أَبُو بَكْرٍ قَدْ ذَكَرْنَا
وَجْهَ دَلَالَةِ الْآيَةِ عَلَى جَوَازِ الزِّيَادَةِ
وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ الزِّيَادَةِ
(3/106)
أَنَّ عَقْدَ النِّكَاحِ فِي مِلْكِهِمَا
وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ أَنَّهُ جَائِزٌ لَهُ أَنْ
يَخْلَعَهَا عَلَى البضع فيأخذ منها بدله فهما ما لكان
لِلتَّصَرُّفِ فِي الْبُضْعِ فَلَمَّا كَانَ الْعَقْدُ فِي
مِلْكِهِمَا وَجَبَ أَنْ تَجُوزَ الزِّيَادَةُ فِيهِ كَمَا
جَازَتْ فِي ابْتِدَاءِ عَقْدِ النِّكَاحِ مِنْ حَيْثُ كانا
مالكين للعقد إذا كَانَ الْمِلْكُ هُوَ التَّصَرُّفُ
وَتَصَرُّفُهُمَا جَائِزٌ فِيهِ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ اتِّفَاقُ
الْجَمِيعِ عَلَى أَنَّهُ إذَا قَبَضَهَا جَازَ فَلَا يَخْلُو
بَعْدَ الْإِقْبَاضِ مِنْ أَنْ تَكُونَ هِبَةً مُسْتَقْبَلَةً
عَلَى مَا قَالَ زفر والشافعى أو زيادة في المهر لا حقه
بِالْعَقْدِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا وَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ
تَكُونَ هِبَةً مُسْتَقْبَلَةً لِأَنَّهُمَا لَمْ يَدْخُلَا
فِيهَا على أنها هبة وإنما أوجبناها عَلَى أَنَّهَا بَدَلٌ
مِنْ الْبُضْعِ لَاحِقَةٌ بِالْعَقْدِ ولا يَجُوزُ لَنَا أَنْ
نُلْزِمَهُمَا عَقْدًا لَمْ يَعْقِدَاهُ على أنفسهما لقوله
تعالى أَوْفُوا بِالْعُقُودِ
وَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُسْلِمُونَ
عِنْدَ شُرُوطِهِمْ
فَإِذَا عَقَدَا عَلَى أَنْفُسِهِمَا عَقْدًا لَمْ يَجُزْ
لَنَا إلْزَامُهُمَا عَقْدًا غَيْرَهُ بِظَاهِرِ الْآيَةِ
وَالسُّنَّةِ إذْ كَانَتْ الْآيَةُ إنَّمَا اقْتَضَتْ إيجَابَ
الْوَفَاءِ بِنَفْسِ الْعَقْدِ الَّذِي عَقَدَهُ لَا
بِغَيْرِهِ لِأَنَّ إلْزَامَهُ عَقْدًا غَيْرَهُ لَا يَكُونُ
وَفَاءً بِالْعَقْدِ الَّذِي عَقَدَهُ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ
الْمُسْلِمُونَ عِنْدَ شُرُوطِهِمْ يَقْتَضِي الْوَفَاءَ
بِالشَّرْطِ وَلَيْسَ فِي إسْقَاطِ الشَّرْطِ وَإِلْزَامِهِمَا
مَعْنًى غَيْرَهُ الْوَفَاءُ بِالشَّرْطِ فَدَلَّتْ الْآيَةُ
وَالسُّنَّةُ مَعًا عَلَى بُطْلَانِ قَوْلِ الْمُخَالِفِ مِنْ
وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا اقْتِضَاءُ عُمُومِهِمَا لِإِيجَابِ
الْوَفَاءِ بالعقد والشرط والآخر ما انتظمتا مِنْ امْتِنَاعِ
إلْزَامِ عَقْدٍ أَوْ شَرْطٍ غَيْرِ مَا عَقَدَاهُ وَلَمَّا
بَطَلَ إلْزَامُهُمَا الْهِبَةَ بَعْدَ الْقَبْضِ وَصَحَّ
التَّمْلِيكُ دَلَّ عَلَى أَنَّهَا مُلِكَتْ مِنْ جِهَةِ
الزِّيَادَةِ وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ أَنْ
يَجْعَلَهَا هِبَةً أَنَّهَا مَتَى كَانَتْ زِيَادَةً كَانَتْ
مَضْمُونَةً عَلَى الْمَرْأَةِ بِالْقَبْضِ لِأَنَّهَا بَدَلٌ
مِنْ الْبُضْعِ وَإِذَا كَانَتْ هِبَةً لَمْ تكن مضمومة
عَلَيْهَا وَإِذَا كَانَتْ زِيَادَةً سَقَطَتْ بِالطَّلَاقِ
قَبْلَ الدُّخُولِ وَإِذَا كَانَتْ هِبَةً لَمْ يُؤَثِّرْ
الطَّلَاقُ فِيهَا وَإِذَا دَخَلَا فِيهَا عَلَى عَقْدٍ
يُوجِبُ الضَّمَانَ لَمْ يَجُزْ لَنَا إلْزَامُهُمَا عَقْدًا
لَا ضَمَانَ فِيهِ أَلَا تَرَى أَنَّهُمَا إذَا تَعَاقَدَا
عَقْدَ بَيْعٍ لَمْ يَجُزْ إلْزَامُهُمَا عَقْدَ هِبَةٍ وَلَوْ
تَعَاقَدَا عَقْدَ إقَالَةٍ لَمْ يَلْزَمْهُمَا عَقْدُ بَيْعٍ
مُسْتَقْبَلٍ وَفِي ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ غير جائز
إثبات الهبة بعقد الزيادة إذا لَمْ تَكُنْ هِبَةً وَقَدْ صَحَّ
التَّمْلِيكُ كَانَتْ زِيَادَةً لَاحِقَةً بِالْعَقْدِ بَدَلًا
مِنْ الْبُضْعِ مَعَ التَّسْمِيَةِ وَأَمَّا قَوْلُ مَالِكٍ
فِي جَعْلِهِ إيَّاهَا هِبَةً ثُمَّ قَوْلِهِ إنَّهُ إذَا
طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ رَجَعَ إلَيْهِ نِصْفُ
الزِّيَادَةِ فَإِنَّهُ قَوْلٌ غَيْرُ مُنْتَظِمٍ لِأَنَّهَا
إنْ كَانَتْ هِبَةً فَلَا تَعَلُّقَ لَهَا بِعَقْدِ النِّكَاحِ
وَلَا بِالْمَهْرِ وَلَا تَأْثِيرَ لِلطَّلَاقِ فِي رُجُوعِ
شَيْءٍ مِنْهَا إلَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ زِيَادَةً فِي
الْمَهْرِ فَغَيْرُ جَائِزٍ بُطْلَانُهَا بِالْمَوْتِ
وَإِنَّمَا
(3/107)
قَالَ أَصْحَابُنَا إنَّهُ إذَا طَلَّقَهَا
قَبْلَ الدُّخُولِ بَطَلَتْ الزِّيَادَةُ كُلُّهَا مِنْ قِبَلِ
أَنَّ الزِّيَادَةَ لَمَّا لَمْ تَكُنْ مَوْجُودَةً فِي
الْعَقْدِ وَإِنَّمَا كَانَتْ مُلْحَقَةً بِهِ وَجَبَ أَنْ
يَكُونَ بَقَاؤُهَا مَوْقُوفًا عَلَى سَلَامَةِ الْعَقْدِ أَوْ
الدُّخُولِ بِالْمَرْأَةِ أَلَا تَرَى أَنَّ الزِّيَادَةَ فِي
الْبَيْعِ إنَّمَا تَلْحَقُ بِهِ عَلَى شَرْطِ بَقَاءِ
الْعَقْدِ وَأَنَّهُ مَتَى بَطَلَ الْعَقْدُ بَطَلَتْ
الزِّيَادَةُ فَكَذَلِكَ الزِّيَادَةُ فِي الْمَهْرِ فَإِنْ
قِيلَ التَّسْمِيَةُ الْمَوْجُودَةُ فِي الْعَقْدِ إنَّمَا
يَبْطُلُ بَعْضُهَا بِوُرُودِ الطَّلَاقِ عَلَيْهَا قَبْلَ
الدُّخُولِ فَهَلَّا كَانَتْ الزِّيَادَةُ كَذَلِكَ إذْ
كَانَتْ إذَا صَحَّتْ وَلَحِقَتْ بِهِ كَانَتْ بِمَنْزِلَةِ
وُجُودِهَا فِيهِ فَلَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ
الْمُسَمَّى فِيهِ قِيلَ لَهُ عِنْدَنَا أَنَّ الْمُسَمَّى فِي
العقد يبطله كُلُّهُ أَيْضًا إذَا طَلَّقَ قَبْلَ الدُّخُولِ
لِبُطْلَانِ الْعَقْدِ الْمُسَمَّى فِيهَا كَهَلَاكِ
الْمَبِيعِ قَبْلَ الْقَبْضِ وَإِنَّمَا يَجِبُ النِّصْفُ
عَلَى جِهَةِ الِاسْتِقْبَالِ كَالْمُتْعَةِ وَقَدْ رُوِيَ
عَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ أَنَّهُ قَالَ فِيمَنْ طَلَّقَ
قَبْلَ الدُّخُولِ وَقَدْ سَمَّى لَهَا إنَّ نِصْفَ
الْمُسَمَّى هُوَ مُتْعَتُهَا وَكَذَلِكَ كَانَ يَقُولُ أَبُو
الْحَسَنِ الْكَرْخِيِّ وَعَلَى هَذَا الْمَعْنَى قَالُوا فِي
شَاهِدَيْنِ شَهِدَا عَلَى رَجُلٍ بِطَلَاقِ امْرَأَتِهِ
قَبْلَ الدُّخُولِ وَهُوَ يَجْحَدُ ثُمَّ رَجَعَا إنَّهُمَا
يَضْمَنَانِ لِلزَّوْجِ نِصْفَ الْمَهْرِ الَّذِي غَرِمَ
لِأَنَّ الطَّلَاقَ قَبْلَ الدُّخُولِ يُسْقِطُ جَمِيعَ
الْمَهْرِ وَالنِّصْفَ الَّذِي يَلْزَمُهُ فِي التَّقْدِيرِ
كَأَنَّهُ دَيْنٌ مُسْتَأْنَفٌ أَلْزَمَاهُ بِشَهَادَتِهِمَا
فَعَلَى هَذَا لَا يَخْتَلِفُ حُكْمُ الزِّيَادَةِ
وَالتَّسْمِيَةِ فِي سُقُوطِهِمَا بِالطَّلَاقِ قَبْلَ
الدُّخُولِ فَإِنْ قِيلَ هَذَا التَّأْوِيلُ يُؤَدِّي إلَى
مُخَالَفَةِ قَوْله تَعَالَى وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ
قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ
فَرِيضَةً فَنِصْفُ ما فَرَضْتُمْ لِأَنَّك قُلْت إنَّ
الْجَمِيعَ يَسْقُطُ وَيَجِبُ النِّصْفُ عَلَى وَجْهِ
الِاسْتِئْنَافِ قِيلَ لَهُ لَيْسَ فِي الْآيَةِ نَفْيٌ لَأَنْ
يَكُونَ النِّصْفُ الْوَاجِبُ بَعْدَ الطلاق مهرا على وجه
الاستيناف وَإِنَّمَا فِيهِ وُجُوبُ نِصْفِ الْمَفْرُوضِ
غَيْرِ مُقَيَّدٍ بِوَصْفٍ وَلَا شَرْطٍ وَنَحْنُ نُوجِبُ
النِّصْفَ أَيْضًا فَلَيْسَ فِيمَا ذَكَرْنَا مِنْ وُجُوبِهِ
فِي التَّقْدِيرِ عَلَى وَجْهِ الِاسْتِئْنَافِ عَلَى أَنَّهُ
مُتْعَتُهَا مُخَالَفَةٌ لِلْآيَةِ وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ
الطَّلَاقَ قَبْلَ الدُّخُولِ يُسْقِطُ جَمِيعَ الزِّيَادَةِ
أَنَّا قَدْ عَلَمِنَا أَنَّ الْعَقْدَ إذَا خَلَا مِنْ
التَّسْمِيَةِ يُوجِبُ مَهْرَ الْمِثْلِ إذْ غَيْرُ جَائِزٍ
أَنْ يَمْلِكَ الْبُضْعَ بِلَا بَدَلٍ ثُمَّ إذَا رَدَّ
الطَّلَاقَ قَبْلَ الدُّخُولِ أَسْقَطَهُ إذْ لَمْ يَكُنْ
مُسَمًّى فِي العقد وكذلك الزِّيَادَةُ لِمَا لَمْ تَكُنْ
مُسَمَّاةً فِي الْعَقْدِ وَجَبَ أَنْ يُسْقِطَهَا الطَّلَاقُ
قَبْلَ الدُّخُولِ وَإِنْ كَانَتْ قَدْ وَجَبَتْ
بِإِلْحَاقِهَا بِالْعَقْدِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
(3/108)
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى وَمَنْ لَمْ
يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَناتِ
الْمُؤْمِناتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ
فَتَياتِكُمُ الْمُؤْمِناتِ قَالَ أَبُو بَكْرٍ الَّذِي
اقْتَضَتْهُ هَذِهِ الْآيَةُ إبَاحَةُ نِكَاحِ الْإِمَاءِ
الْمُؤْمِنَاتِ عِنْدَ عَدَمِ الطَّوْلِ إلَى الْحَرَائِرِ
الْمُؤْمِنَاتِ لِأَنَّهُ لَا خِلَافَ أَنَّ المراد بالمحصنات
هاهنا الْحَرَائِرُ وَلَيْسَ فِيهَا حَظْرٌ لَغَيْرِهِنَّ
لِأَنَّ تَخْصِيصُ هذه الحال بذكر الإباحة فيها لَا يَدُلُّ
عَلَى حَظْرِ مَا
عَدَاهَا كَقَوْلِهِ تعالى وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ
خَشْيَةَ إِمْلاقٍ لَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى إبَاحَةِ
الْقَتْلِ عِنْدَ زَوَالِ هَذِهِ الْحَالِ وقَوْله تَعَالَى لا
تَأْكُلُوا الرِّبَوا أَضْعافاً مُضاعَفَةً لَا يَدُلُّ عَلَى
إبَاحَتِهِ إذَا لَمْ يَكُنْ أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وقَوْله
تَعَالَى وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ لا بُرْهانَ
لَهُ بِهِ لَيْسَ بِدَلَالَةٍ عَلَى أَنَّ أَحَدَنَا يَجُوزُ
أَنْ يَقُومَ لَهُ بُرْهَانٌ عَلَى صِحَّةِ الْقَوْلِ بِأَنَّ
مع الله إلها آخر تعالى الله عن ذَلِكَ وَقَدْ بَيَّنَّا
ذَلِكَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ فَإِذًا لَيْسَ فِي قَوْله
تَعَالَى وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا الْآيَةَ
إلَّا إبَاحَةُ نِكَاحِ الْإِمَاءِ لِمَنْ كَانَتْ هَذِهِ
حَالُهُ وَلَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى حُكْمِ مَنْ وَجَدَ
طَوْلًا إلَى الْحُرَّةِ لَا بِحَظْرٍ ولا إباحة واختلف
السَّلَفُ فِي مَعْنَى الطَّوْلِ فَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ
وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَمُجَاهِدٍ وَقَتَادَةَ
وَالسُّدِّيِّ أَنَّهُمْ قَالُوا هُوَ الْغِنَى وَرُوِيَ عَنْ
عَطَاءٍ وَجَابِرِ بْنِ زَيْدٍ وَإِبْرَاهِيمَ قَالُوا إذَا
هَوِيَ الْأَمَةَ فَلَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا وَإِنْ كَانَ
مُوسِرًا إذَا خَافَ أَنْ يَزْنِيَ بِهَا فَكَانَ مَعْنَى
الطَّوْلِ عِنْدَ هَؤُلَاءِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ أَنْ لَا
يَنْصَرِفَ قَلْبُهُ عَنْهَا بِنِكَاحِ الْحُرَّةِ لِمَيْلِهِ
إلَيْهَا وَمَحَبَّتِهِ لَهَا فَأَبَاحُوا لَهُ فِي هَذِهِ
الْحَالِ نِكَاحَهَا وَالطَّوْلُ يَحْتَمِلُ الْغِنَى
وَالْقُدْرَةَ وَيَحْتَمِلُ الْفَضْلَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى
شَدِيدِ الْعِقابِ ذِي الطَّوْلِ قِيلَ فِيهِ ذُو الْفَضْلِ
وَقِيلَ ذُو الْقُدْرَةِ وَالْفَضْلُ وَالْغِنَى
يَتَقَارَبَانِ فِي الْمَعْنَى فَاحْتَمَلَ الطَّوْلُ
الْمَذْكُورُ فِي الْآيَةِ الْغِنَى وَالْقُدْرَةَ وَاحْتَمَلَ
الْفَضْلَ والسعة فإذا كان معناه الغنى واحتمل وَجْهَيْنِ
أَحَدُهُمَا حُصُولُ الْغِنَى لَهُ بِكَوْنِ الْحُرَّةِ
تَحْتَهُ وَالثَّانِي غِنَى الْمَالِ وَقُدْرَتُهُ عَلَى
تَزَوُّجِ حُرَّةٍ وَإِذَا كَانَ مَعْنَاهُ الْفَضْلَ
احْتَمَلَ إرَادَةَ الْغِنَى لِأَنَّ الْفَضْلَ يُوجِبُ ذَلِكَ
وَالثَّانِي اتِّسَاعُ قَلْبِهِ لِتَزَوُّجِ الْحُرَّةِ
وَالِانْصِرَافِ عَنْ الْأَمَةِ وَأَنَّهُ إنْ لَمْ يَتَّسِعْ
قَلْبُهُ لِذَلِكَ وَخَشِيَ الْإِقْدَامَ مِنْ نَفْسِهِ عَلَى
مَحْظُورٍ جَازَ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا وَإِنْ كَانَ
مُوسِرًا عَلَى مَا رُوِيَ عَنْ عَطَاءٍ وَجَابِرِ بْنِ زَيْدٍ
وَإِبْرَاهِيمَ هَذِهِ الْوُجُوهُ كُلُّهَا تَحْتَمِلُهَا
الْآيَةُ وَقَدْ اخْتَلَفَ السَّلَفُ فِي ذَلِكَ فَرُوِيَ عَنْ
ابْنِ عَبَّاسٍ وَجَابِرٍ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ
وَالشَّعْبِيِّ وَمَكْحُولٍ لَا يَتَزَوَّجْ الْأَمَةَ إلَّا
أَنْ لَا يَجِدَ
(3/109)
طَوْلًا إلَى الْحُرَّةِ وَرُوِيَ عَنْ
مَسْرُوقٍ وَالشَّعْبِيِّ قال نِكَاحُ الْأَمَةِ بِمَنْزِلَةِ
الْمَيْتَةِ وَالدَّمِ وَلَحْمِ الْخِنْزِيرِ لَا يَحِلُّ
إلَّا لِمُضْطَرٍّ وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ وَأَبِي جَعْفَرٍ
وَمُجَاهِدٍ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَسَعِيدِ ابن
الْمُسَيِّبِ رِوَايَةٌ وَإِبْرَاهِيمَ وَالْحَسَنِ رِوَايَةٌ
وَالزُّهْرِيِّ قَالُوا يَنْكِحُ الْأَمَةَ وَإِنْ كَانَ
مُوسِرًا وَعَنْ عَطَاءٍ وَجَابِرِ بْنِ زَيْدٍ أَنَّهُ إنْ
خَشِيَ أَنْ يَزْنِيَ بِهَا تَزَوَّجَهَا وَرُوِيَ عَنْ
عَطَاءٍ أَنَّهُ يَتَزَوَّجُ الْأَمَةَ عَلَى الْحُرَّةِ
وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ لَا يَتَزَوَّجُ
الْأَمَةَ عَلَى الْحُرَّةِ إلَّا الْمَمْلُوكُ وَقَالَ عُمَرُ
وَعَلِيٌّ وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ وَمَكْحُولٌ فِي
آخَرِينَ لَا يَتَزَوَّجُ الْأَمَةَ عَلَى الْحُرَّةِ وَقَالَ
إبْرَاهِيمُ يَتَزَوَّجُ الْأَمَةَ عَلَى الْحُرَّةِ إذَا
كَانَ لَهُ مِنْهَا وَلَدٌ وَقَالَ إذَا تَزَوَّجَ أَمَةً
وَحُرَّةً فِي عَقْدٍ وَاحِدٍ بَطَلَ نِكَاحُهُمَا جَمِيعًا
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمَسْرُوقٌ إذَا تَزَوَّجَ حُرَّةً
فَهُوَ طَلَاقُ الْأَمَةِ وَقَالَ إبْرَاهِيمُ رِوَايَةً
يُفَرَّقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْأَمَةِ إلَّا أَنْ يَكُونَ
لَهُ مِنْهَا وَلَدٌ وَقَالَ الشَّعْبِيُّ إذَا وَجَدَ
الطَّوْلَ إلَى الْحُرَّةِ بَطَلَ نِكَاحُ الْأَمَةِ وَرَوَى
مَالِكٌ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ
الْمُسَيِّبِ قَالَ لَا تُنْكَحُ الْأَمَةُ عَلَى الْحُرَّةِ
إلَّا أَنْ تَشَاءَ الْحُرَّةُ وَيَقْسِمُ لِلْحُرَّةِ
يَوْمَيْنِ وَلَلْأَمَة يَوْمًا قَالَ أَبُو بَكْرٍ وَهَذَا
يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ لَا يَرَى تَزْوِيجَ الْأَمَةِ
عَلَى الْحُرَّةِ جَائِزًا إنْ لَمْ تَرْضَ الْحُرَّةُ
وَاخْتَلَفُوا فِيمَنْ يَجُوزُ أن يتزوج من الإماء فروى ابْنِ
عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ لَا يَتَزَوَّجْ مِنْ الْإِمَاءِ
أَكْثَرَ مِنْ وَاحِدَةٍ وَقَالَ إبْرَاهِيمُ وَمُجَاهِدٌ
وَالزُّهْرِيُّ يَجْمَعُ أَرْبَعَ إمَاءٍ إنْ شَاءَ
فَاخْتَلَفَ السَّلَفُ فِي نِكَاحِ الْأَمَةِ عَلَى هَذِهِ
الْوُجُوهِ وَاخْتَلَفَ فُقَهَاءُ الْأَمْصَارِ فِي ذَلِكَ
أَيْضًا فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ
وَالْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ لِلرَّجُلِ أَنْ يَتَزَوَّجَ أَمَةً
إذَا لَمْ تَكُنْ تَحْتَهُ حُرَّةٌ وَإِنْ وَجَدَ طُولَا إلَى
الْحُرَّةِ وَلَا يَتَزَوَّجُهَا إذَا كَانَتْ تَحْتَهُ
حُرَّةُ وقال سفيان والثوري إذَا خَشِيَ عَلَى نَفْسِهِ فِي
الْمَمْلُوكَةِ فَلَا بأس بأن يتزوجها وإن كان موسرا ومالك
وَاللَّيْثُ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَالشَّافِعِيُّ الطَّوْلُ
الْمَالُ فَإِذَا وَجَدَ طَوْلًا إلَى الْحُرَّةِ لَا
يَتَزَوَّجُ أَمَةً وَإِنْ لَمْ يَجِدْ طَوْلًا لَمْ
يَتَزَوَّجْهَا أَيْضًا حَتَّى يَخْشَى الْعَنَتَ عَلَى
نَفْسِهِ وَاتَّفَقَ أَصْحَابُنَا
وَالثَّوْرِيُّ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَالشَّافِعِيُّ أَنَّهُ لَا
يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ أَمَةً وَتَحْتَهُ حُرَّةٌ
وَلَا يُفَرِّقُونَ بَيْنَ إذْنِ الْحُرَّةِ فِي ذَلِكَ
وَغَيْرِ إذْنِهَا وَقَالَ ابن وهب عن مالك لَا بَأْسَ أَنْ
يَتَزَوَّجَ الرَّجُلُ الْأَمَةَ عَلَى الْحُرَّةِ
وَالْحُرَّةُ بِالْخِيَارِ وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ عَنْهُ
فِي الْأَمَةِ تُنْكَحُ عَلَى الْحُرَّةِ أَرَى أَنْ يُفَرَّقَ
بَيْنَهُمَا ثُمَّ رَجَعَ وَقَالَ تُخَيَّرُ الْحُرَّةُ إنْ
شَاءَتْ أَقَامَتْ وَإِنْ شَاءَتْ فَارَقَتْ قَالَ وَسُئِلَ
مَالِكٌ عَنْ رَجُلٍ تَزَوَّجَ أَمَةً وَهُوَ مِمَّنْ يَجِدُ
طَوْلًا إلَى الْحُرَّةِ قَالَ أَرَى أَنْ يُفَرَّقَ
بَيْنَهُمَا فَقِيلَ لَهُ إنَّهُ يَخَافُ العنت قال
(3/110)
السَّوْطُ يُضْرَبُ بِهِ ثُمَّ خَفَّفَهُ
بَعْدَ ذَلِكَ قَالَ وَقَالَ مَالِكٌ إذَا تَزَوَّجَ الْعَبْدُ
أَمَةً عَلَى حُرَّةٍ فَلَا خِيَارَ لِلْحُرَّةِ لِأَنَّ
الْأَمَةَ مِنْ نِسَائِهِ وَقَالَ عُثْمَانُ الْبَتِّيُّ لَا
بَأْسَ أَنْ يَتَزَوَّجَ الرَّجُلُ الْأَمَةَ عَلَى الْحُرَّةِ
وَالدَّلِيلُ عَلَى جَوَازِ نِكَاحِ الْأَمَةِ وَإِنْ قَدَرَ
عَلَى تَزَوُّجِ الْحُرَّةِ إذَا لَمْ تَكُنْ تَحْتَهُ قَوْلُ
الله تَعَالَى فَانْكِحُوا مَا طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ
مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا
فَواحِدَةً أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ قَدْ حَوَتْ هَذِهِ
الْآيَةُ الدَّلَالَةَ مِنْ وَجْهَيْنِ عَلَى جَوَازِ
تَزْوِيجِ الْأَمَةِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى نِكَاحِ
الْحُرَّةِ أَحَدُهُمَا إبَاحَةُ النِّكَاحِ عَلَى
الْإِطْلَاقِ فِي جَمِيعِ النِّسَاءِ مِنْ الْعَدَدِ
الْمَذْكُورِ مِنْ غَيْرِ تَخْصِيصٍ لِحُرَّةٍ مِنْ أَمَةٍ
وَالثَّانِي قَوْله تَعَالَى فِي نَسَقِ الْخِطَابِ أَوْ مَا
مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ وَمَعْلُومٌ أَنَّ قَوْلَهُ أَوْ مَا
مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ غَيْرُ مُكْتَفٍ بِنَفْسِهِ فِي
إفَادَةِ الْحُكْمِ وَأَنَّهُ مُفْتَقِرٌ إلَى ضَمِيرٍ
وَضَمِيرُهُ هُوَ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مُظْهَرًا فِي
الْخِطَابِ وَهُوَ عَقْدُ النِّكَاحِ فَكَانَ تَقْدِيرُهُ
فَاعْقِدُوا نِكَاحًا عَلَى مَا طَابَ لكم من النساء أو مَا
مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَغَيْرُ جَائِزٍ إضْمَارُ الْوَطْءِ
فِيهِ إذْ لَمْ يَتَقَدَّمْ لَهُ ذِكْرٌ فَثَبَتَ بِدَلَالَةِ
هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّهُ مُخَيَّرٌ بَيْنَ تَزْوِيجِ الْأَمَةِ
أَوْ الْحُرَّةِ فَإِنْ قِيلَ قَوْله تَعَالَى فَانْكِحُوا مَا
طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ إبَاحَةٌ مَعْقُودَةٌ بِشَرْطٍ
وَهِيَ أَنْ تَكُونَ مِمَّا طَابَ لَنَا فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ
مِمَّا طَابَ حَتَّى يَجُوزَ الْعَقْدُ وَهُوَ إذَا كَانَ
كَذَلِكَ كَانَ بِمَنْزِلَةِ الْمُجْمَلِ الْمُفْتَقِرِ إلَى
الْبَيَانِ قِيلَ لَهُ قَوْله تَعَالَى مَا طابَ لَكُمْ
يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ مَا
اسْتَطَبْتُمُوهُ فَيَكُونُ مُفِيدًا لِلتَّخْيِيرِ كَقَوْلِ
الْقَائِلِ اجْلِسْ مَا طَابَ لَك فِي هَذِهِ الدَّارِ وَكُلْ
مَا طَابَ لَك مِنْ هَذَا الطَّعَامِ فَيُفِيدُ تَخْيِيرَهُ
فِي فِعْلِ مَا شَاءَ مِنْهُ وَالْوَجْهُ الْآخَرُ مَا حَلَّ
لَكُمْ فَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ الْوَجْهَ الْأَوَّلَ فَقَدْ
اقْتَضَى تَخْيِيرَهُ فِي نِكَاحِ مَنْ شَاءَ وَذَلِكَ عُمُومٌ
فِي الْحَرَائِرِ وَالْإِمَاءِ وَإِنْ كَانَ مَعْنَاهُ مَا
حَلَّ لَكُمْ فَإِنَّهُ قد عقبه ببيان مَا طَابَ لَكُمْ
مِنْهَا وَهُوَ قَوْله تَعَالَى مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ
فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَواحِدَةً أَوْ ما
مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ فَقَدْ خَرَجَ بِذَلِكَ عَنْ حَيِّزِ
الْإِجْمَالِ إلَى حَيِّزِ الْعُمُومِ وَاسْتِعْمَالُ
الْعُمُومِ وَاجِبٌ كَيْفَ تَصَرَّفَتْ الْحَالُ وَعَلَى
أَنَّهَا لَوْ كَانَتْ مُحْتَمِلَةً لِلْعُمُومِ
وَالْإِجْمَالِ جَمِيعًا لَكَانَ حَمْلُهَا عَلَى مَعْنَى
الْعُمُومِ أَوْلَى لِإِمْكَانِ اسْتِعْمَالِهِ وَمَتَى
أَمْكَنَنَا اسْتِعْمَالُ حُكْمِ اللَّفْظِ عَلَى وَجْهٍ
فَعَلَيْنَا اسْتِعْمَالُهُ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْله
تَعَالَى وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَراءَ ذلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا
بِأَمْوالِكُمْ وَذَلِكَ عُمُومٌ فِي الْحَرَائِرِ
وَالْإِمَاءِ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْله تَعَالَى الْيَوْمَ
أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا
الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ
وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الْمُؤْمِناتِ وَالْمُحْصَناتُ مِنَ
(3/111)
الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ
قَبْلِكُمْ
وَالْإِحْصَانُ اسْمٌ يَقَعُ عَلَى الْإِسْلَامِ وَعَلَى
الْعَقْدِ يدل عليه قوله تعالى فَإِذا أُحْصِنَّ رُوِيَ عَنْ
بَعْضِ السَّلَفِ فَإِذَا أَسْلَمْنَ وَقَالَ بَعْضُهُمْ
فَإِذَا تَزَوَّجْنَ وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ بِهِ
التَّزْوِيجَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ فَثَبَتَ أَنَّهُ أَرَادَ
الْعَفَافَ وَذَلِكَ عُمُومٌ فِي الْحَرَائِرِ وَالْإِمَاءِ
وقَوْله تَعَالَى وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا
الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ هو عموم أيضا في تزويج الإماء
الكتابيات ويدل عليه قَوْله تَعَالَى وَأَنْكِحُوا الْأَيامى
مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبادِكُمْ وَإِمائِكُمْ
وَذَلِكَ عُمُومٌ يُوجِبُ جَوَازَ نِكَاحِ الْإِمَاءِ كَمَا
اقْتَضَى جَوَازَ نِكَاحِ الْحَرَائِرِ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ
أَيْضًا قَوْله تَعَالَى وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ
مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَمُحَالٌ أَنْ يُخَاطَبَ
بِذَلِكَ إلَّا مَنْ قَدَرَ عَلَى نِكَاحِ الْمُشْرِكَةِ
الْحُرَّةِ وَمَنْ وَجَدَ طَوْلًا إلَى الْحُرَّةِ
الْمُشْرِكَةِ فَهُوَ يَجِدُ طَوْلًا إلَى الْحُرَّةِ
الْمُسْلِمَةِ فَاقْتَضَى ذَلِكَ جَوَازَ نِكَاحِ الْأَمَةِ
مَعَ وُجُودِ الطَّوْلِ إلَى الْحُرَّةِ الْمُسْلِمَةِ كَمَا
اقْتَضَاهُ مَعَ وُجُودِهِ إلَى الْحُرَّةِ الْمُشْرِكَةِ
وَيَدُلُّ عَلَيْهِ مِنْ طَرِيقِ النَّظَرِ أَنَّ الْقُدْرَةَ
عَلَى نِكَاحِ امْرَأَةٍ لَا تُحَرِّمُ نِكَاحَ أُخْرَى
كَالْقُدْرَةِ عَلَى تَزْوِيجِ الْبِنْتِ لَا يُحَرِّمُ
تَزْوِيجَ الْأُمِّ وَالْقُدْرَةُ عَلَى نِكَاحِ الْمَرْأَةِ
لَا يُحَرِّمُ
نِكَاحَ أُخْتِهَا فَوَجَبَ عَلَى هَذَا أَنْ لَا تَمْنَعَ
قُدْرَتُهُ عَلَى نِكَاحِ الْحُرَّةِ مِنْ تَزْوِيجِ الْأَمَةِ
بَلْ الْأَمَةُ أَيْسَرُ أَمْرًا فِي ذَلِكَ مِنْ
الْأُخْتَيْنِ وَالْأُمِّ وَالْبِنْتِ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ
جَوَازُ اجْتِمَاعِ الْحُرَّةِ وَالْأَمَةِ تَحْتَهُ عِنْدَ
جَمِيعِ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ وَامْتِنَاعُ اجْتِمَاعِ
الْأُمِّ وَالْبِنْتِ وَالْأُخْتَيْنِ تَحْتَهُ فَلَمَّا لَمْ
يَكُنْ إمْكَانُ تَزْوِيجِ الْبِنْتِ الَّذِي هُوَ أَغْلَظُ
حُكْمًا مَانِعًا مِنْ الْأُمِّ الْحُرَّةِ وَالْأَمَةِ وَجَبَ
أَنْ لَا يَكُونَ لِإِمْكَانِ تَزَوُّجِ الْحُرَّةِ تَأْثِيرٌ
فِي مَنْعِ نِكَاحِ الْأَمَةِ وَاحْتَجَّ مَنْ خَالَفَ فِي
ذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ
طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَناتِ الْمُؤْمِناتِ فَمِنْ مَا
مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ فَتَياتِكُمُ الْمُؤْمِناتِ- إلَى
قَوْله تَعَالَى- ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ
وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ وَأَنَّهُ أَبَاحَ نِكَاحَ
الْأَمَةِ بِشَرْطِ عَدَمِ الطَّوْلِ إلَى الْحُرَّةِ
وَخَشْيَةَ الْعَنَتِ فَلَا تَجُوزُ اسْتِبَاحَتُهُ إلَّا
بِوُجُودِ الشَّرْطَيْنِ جَمِيعًا وَهَذِهِ الْآيَةُ قَاضِيَةٌ
عَلَى مَا تَلَوْت مِنْ الْآيِ لِمَا فِيهَا مِنْ بَيَانِ
حُكْمِ الْأَمَةِ فِي التَّزْوِيجِ قِيلَ لَهُ لَيْسَ فِي
هَذِهِ الْآيَةِ حَظْرُ نِكَاحِ الْأَمَةِ فِي حَالِ وُجُودِ
الطَّوْلِ إلَى الْحُرَّةِ وَإِنَّمَا فِيهَا إبَاحَتُهُ فِي
حَالِ عَدَمِ الطَّوْلِ إلَيْهَا وَسَائِرُ الْآيِ الَّتِي
تَلَوْنَا يَقْتَضِي إبَاحَةَ نِكَاحِهَا فِي سَائِرِ
الْأَحْوَالِ فَلَيْسَ فِي أَحَدِهِمَا مَا يُوجِبُ تَخْصِيصَ
الْأُخْرَى لِوُرُودِهِمَا جَمِيعًا فِي حُكْمِ الْإِبَاحَةِ
وَلَيْسَ فِي وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا حَظْرٌ فَلَا يَجُوزُ أَنْ
يُقَالَ إنَّ هَذِهِ مُخَصِّصَةٌ لَهَا وَالْجَمِيعُ وَارِدٌ
فِي حُكْمٍ وَاحِدٍ فَإِنْ قيل
(3/112)
هَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى فَمَنْ لَمْ
يَجِدْ فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ
يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعامُ سِتِّينَ
مِسْكِيناً فَكَانَ مُقْتَضَى جَمِيعِ ذَلِكَ امْتِنَاعُ
جَوَازِهِ مَعَ وُجُودِ مَا قَبْلَهُ قِيلَ لَهُ لِأَنَّهُ
جَعَلَ الفرق بَدِيًّا عِتْقَ رَقَبَةٍ فَاقْتَضَى ذَلِكَ أَنْ
يَكُونَ الْفَرْضُ هُوَ الْعِتْقُ لَا غَيْرُ فَلَمَّا
نَقَلَهُ عِنْدَ عَدَمِ الرَّقَبَةِ إلَى الصِّيَامِ اقْتَضَى
ذَلِكَ أَنْ لَا يُجْزِيَ غَيْرُهُ إذَا عَدِمَ الرَّقَبَةَ
فَلَمَّا قَالَ فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعامُ سِتِّينَ
مِسْكِيناً كَانَ حُكْمُ الْكَفَّارَةِ مَقْصُورًا عَلَى
الْمَذْكُورِ فِي الْآيَةِ عَلَى مَا اقْتَضَتْهُ مِنْ
التَّرْتِيبِ وَلَيْسَ مَعَك آيَةٌ تَحْظُرُ نِكَاحَ
الْإِمَاءِ حَتَّى إذَا ذَكَرْت إبَاحَتَهُنَّ بِشَرْطٍ
وَحَالٍ كَانَ عَدَمُ الشَّرْطِ وَالْحَالُ مُوجِبًا
لَحَظْرِهِنَّ بَلْ سَائِرُ الْآيِ الْوَارِدَةُ فِي إبَاحَةِ
النِّكَاحِ لَيْسَ فِيهَا فَرْقٌ بَيْنَ الْحَرَائِرِ
وَالْإِمَاءِ فَلَيْسَ إذًا فِي قَوْلِهِ وَمَنْ لَمْ
يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَناتِ
الْمُؤْمِناتِ دَلَالَةٌ عَلَى حَظْرِهِنَّ عِنْدَ وُجُودِ
الطَّوْلِ إلَى الحرة وَذَكَرَ إسْمَاعِيلُ بْنُ إِسْحَاقَ
هَذِهِ الْآيَةَ وَذَكَرَ اخْتِلَافَ السَّلَفِ فِيهَا ثُمَّ
ذَكَرَ قَوْلَ أَصْحَابِنَا فِي تَجْوِيزِهِمْ نِكَاحَ
الْأَمَةِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى تَزْوِيجِ الْحُرَّةِ
فَقَالَ وَهَذَا قَوْلٌ تَجَاوَزَ فَسَادُهُ وَلَا يَحْتَمِلُ
التَّأْوِيلَ لِأَنَّهُ مَحْظُورٌ فِي الْكِتَابِ إلَّا مِنْ
الْجِهَةِ الَّتِي أُبِيحَتْ قَالَ أَبُو بَكْرٍ قَوْلُهُ لَا
يَحْتَمِلُ التَّأْوِيلَ خِلَافُ الْإِجْمَاعِ وَذَلِكَ
لِأَنَّ الصَّحَابَةَ قَدْ اخْتَلَفُوا فِيهِ وَقَدْ حَكَيْنَا
أَقَاوِيلَهُمْ وَلَوْلَا خَشْيَةُ الْإِطَالَةِ لَذَكَرْنَا
أَسَانِيدَهَا وَلَوْ كَانَ لَا يَحْتَمِلُ التَّأْوِيلَ لَمَا
قَالَ بِهِ مَنْ قَالَ مِنْ السَّلَفِ إذْ غَيْرُ جَائِزٍ
لِأَحَدٍ تَأْوِيلُ آيَةٍ عَلَى مَعْنًى لَا تَحْتَمِلُهُ
وَقَدْ ظَهَرَ هَذَا الِاخْتِلَافُ فِي السَّلَفِ فَلَمْ
يُنْكِرْ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ فِيهَا عَلَى
الْوُجُوهِ الَّتِي اخْتَلَفُوا فِيهَا وَلَوْ كَانَ هَذَا
الْقَوْلُ غَيْرَ مُحْتَمَلٍ وَلَا يَسُوغُ التَّأْوِيلُ فِيهِ
لَأَنْكَرَهُ مَنْ لَمْ يَقُلْ بِهِ مِنْهُمْ عَلَى قَائِلِيهِ
فَإِذَا كَانَ هَذَا الْقَوْلُ مُسْتَفِيضًا فيهم من نَكِيرٍ
ظَهَرَ مِنْ أَحَدٍ مِنْهُمْ عَلَى قَائِلِيهِ فَقَدْ حَصَلَ
بِإِجْمَاعِهِمْ تَسْوِيغُ الِاجْتِهَادِ فِيهِ وَاحْتِمَالُ
الْآيَةِ لِلتَّأْوِيلِ الَّذِي تَأَوَّلْته فَقَدْ بَانَ
بِمَا وَصَفْنَا أَنَّ إنْكَارَهُ لِاحْتِمَالِ التَّأْوِيلِ
غَيْرُ صَحِيحٍ وَأَمَّا قَوْلُهُ إنَّهُ مَحْظُورٌ فِي
الْكِتَابِ إلَّا مِنْ الْجِهَةِ الَّتِي أُبِيحَتْ فَإِنَّهُ
لَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يُرِيدَ أَنَّهُ مَحْظُورٌ فِيهِ نَصًّا
أَوْ دَلِيلًا فَإِنْ ادَّعَى نَصًّا طُولِبَ بِتِلَاوَتِهِ
وَإِظْهَارِهِ وَلَا سَبِيلَ لَهُ إلَى ذَلِكَ وَإِنْ ادَّعَى
عَلَى ذَلِكَ دَلِيلًا طُولِبَ بِإِيجَادِهِ وَذَلِكَ
مَعْدُومٌ فَلَمْ يَحْصُلْ مِنْ قَوْلِهِ إلَّا عَلَى هَذِهِ
الدَّعْوَى لَنَفْسِهِ وَالتَّعَجُّبِ مِنْ قَوْلِ خَصْمِهِ
اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يَزْعُمَ أَنَّ تَخْصِيصَهُ
الْإِبَاحَةَ بِهَذِهِ الْحَالِ وَالشَّرْطِ دَلِيلٌ عَلَى
حَظْرِ مَا عَدَاهُ فَإِنْ كَانَ إلَى هَذَا ذَهَبَ فَإِنَّ
هَذَا دَلِيلٌ يَحْتَاجُ إلَى دَلِيلٍ وَمَا نَعْلَمُ أَحَدًا
اسْتَدَلَّ بِمِثْلِهِ قَبْلَ الشَّافِعِيِّ وَلَوْ كَانَ هذا
دليلا لكانت «8- أحكام لث»
(3/113)
الصَّحَابَةُ أَوْلَى بِالسَّبْقِ إلَى
الِاسْتِدْلَالِ بِهِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَنَظَائِرِهَا
مِنْ الْمَسَائِلِ مَعَ كَثْرَةِ مَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنْ
أَحْكَامِ الْحَوَادِثِ الَّتِي لَمْ يَخْلُ كَثِيرٌ مِنْهَا
مِنْ إمْكَانِ الِاسْتِدْلَالِ عَلَيْهَا بِهَذَا الضَّرْبِ
كَمَا اسْتَدَلُّوا عَلَيْهَا بِالْقِيَاسِ وَالِاجْتِهَادِ
وَسَائِرِ ضُرُوبِ الدَّلَالَاتِ وَفِي تَرْكِهِمْ
الِاسْتِدْلَالَ بِمِثْلِهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ لَمْ
يَكُنْ عِنْدَهُمْ دَلِيلًا عَلَى شَيْءٍ فَإِذَا لَمْ
يَحْصُلْ إسْمَاعِيلُ مِنْ قَوْلِهِ هُوَ مَحْظُورٌ
فِي الْكِتَابِ عَلَى حُجَّةٍ وَلَا شُبْهَةٍ وَقَدْ حَكَى
دَاوُد الْأَصْبَهَانِيُّ أَنَّ إسْمَاعِيلَ سُئِلَ عَنْ
النَّصِّ مَا هُوَ فَقَالَ النَّصُّ مَا اتَّفَقُوا عَلَيْهِ
فَقِيلَ لَهُ فَكُلُّ مَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنْ الْكِتَابِ
فَلَيْسَ بِنَصٍّ فَقَالَ الْقُرْآنُ كُلُّهُ نَصٌّ فَقِيلَ
لَهُ فَلِمَ اخْتَلَفَ أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْقُرْآنُ كُلُّهُ نَصٌّ
فَقَالَ داود ظلمه السائل ليس مثله يسئل عَنْ هَذِهِ
الْمَسْأَلَةِ هُوَ أَقَلُّ مِنْ أَنْ يَبْلُغَ عِلْمُهُ هَذَا
الْمَوْضِعَ فَإِنْ كَانَتْ حِكَايَةُ دواد عَنْهُ صَحِيحَةً
فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يَلِيقُ بِإِنْكَارِهِ عَلَى الْقَائِلِينَ
بِإِبَاحَةِ نِكَاحِ الْأَمَةِ مَعَ إمْكَانِ تَزَوُّجِ
الْحُرَّةِ لِأَنَّهُ حُكِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ مَرَّةً مَا
اتَّفَقُوا عَلَيْهِ فَهُوَ نَصٌّ وَقَالَ مَرَّةً الْقُرْآنُ
كُلُّهُ نَصٌّ وَلَيْسَ فِي الْقُرْآنِ مَا يُخَالِفُ
قَوْلَنَا وَلَا اتَّفَقَتْ الْأُمَّةُ أَيْضًا عَلَى
خِلَافِهِ وَفِي حِكَايَةِ دَاوُد هَذَا عَنْ إسْمَاعِيلَ
عُهْدَةٌ وَهُوَ غَيْرُ أَمِينٍ وَلَا ثِقَةٍ فِيمَا يَحْكِيهِ
وَغَيْرُ مُصَدَّقٍ عَلَى إسْمَاعِيلَ خَاصَّةً لِأَنَّهُ
كَانَ نَفَاهُ مِنْ بَغْدَادَ وَقَذْفَهُ بِالْعَظَائِمِ وَمَا
أَظُنُّ تَعَجُّبَ إسْمَاعِيلَ مِنْ قَوْلِنَا إلَّا مِنْ
جِهَةِ أَنَّهُ كَانَ يَعْتَقِدُ فِي مِثْلِهِ أَنَّهُ
دَلَالَةً عَلَى حَظْرِ مَا عَدَا الْمَذْكُورِ وَقَدْ
بَيَّنَّا أَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِدَلِيلٍ وَاسْتَقْصَيْنَا
القول فيه أُصُولِ الْفِقْهِ وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ
قَوْلِنَا أَنَّ خَوْفَ الْعَنَتِ وَعَدَمَ الطَّوْلِ لَيْسَا
بِضَرُورَةٍ لِأَنَّ الضَّرُورَةَ مَا يُخَافُ فِيهَا تَلَفُ
النَّفْسِ وَلَيْسَ فِي فَقْدِ الْجِمَاعِ تَلَفُ النَّفْسِ
وَقَدْ أُبِيحَ لَهُ نِكَاحُ الْأَمَةِ فَإِذَا جَازَ نِكَاحُ
الْأَمَةِ فِي غَيْرِ ضَرُورَةٍ فَلَا فَرْقَ بَيْنَ وُجُودِ
الطَّوْلِ وَعَدَمِهِ إذْ عَدَمُ الطَّوْلِ لَيْسَ بِضَرُورَةٍ
فِي التَّزَوُّجِ إذْ لَا تَقَعُ لِأَحَدٍ ضَرُورَةٌ إلَى
التَّزَوُّجِ إلَّا أَنْ يُكْرَهَ عَلَيْهِ بِمَا يُوجِبُ
تَلَفَ النَّفْسِ أَوْ بَعْضِ الْأَعْضَاءِ وَيَدُلُّ عَلَى
أَنَّ الْإِبَاحَةَ الْمَذْكُورَةَ فِي الْآيَةِ غَيْرُ
مَعْقُودَةٍ بِضَرُورَةٍ قَوْلُهُ فِي نَسَقِ الْخِطَابِ أَنْ
تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ وَمَا اُضْطُرَّ إلَيْهِ
الْإِنْسَانُ مِنْ مَيْتَةٍ أَوْ لَحْمِ خِنْزِيرٍ أَوْ
نَحْوِهِ لَا يَكُونُ الصَّبْرُ عَلَيْهِ خَيْرًا لَهُ
لِأَنَّهُ لَوْ صَبَرَ عَلَيْهِ حَتَّى مَاتَ كَانَ عَاصِيًا
وَأَيْضًا فَلَيْسَ النِّكَاحُ بِفَرْضٍ حَتَّى تُعْتَبَرَ
فِيهِ الضَّرُورَةُ وَأَصْلُهُ تَأْدِيبٌ وَنَدْبٌ وَإِذَا
كَانَ كَذَلِكَ وَقَدْ جَازَ فِي غَيْرِ الضَّرُورَةِ وَجَبَ
أَنْ يَجُوزَ فِي حَالِ وجود الطول كما أجاز فِي حَالِ
عَدَمِهِ وقَوْله تَعَالَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فِي نَسَقِ
التِّلَاوَةِ قِيلَ فِيهِ إنَّ كُلَّكُمْ مِنْ آدَمَ وَقِيلَ
فِيهِ كُلُّكُمْ مُؤْمِنُونَ يَدُلُّ على
(3/114)
أَنَّهُ أَرَادَ الْمُسَاوَاةَ بَيْنَهُمْ
فِي النِّكَاحِ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ التَّسْوِيَةِ
بَيْنَ الْحُرَّةِ وَالْأَمَةِ إلَّا فِيمَا تَقُومُ فِيهِ
دَلَالَةُ التَّفْضِيلِ وَأَمَّا مَنْ قَالَ إنَّ نِكَاحَ
الْحُرَّةِ طَلَاقٌ لِلْأَمَةِ فَقَوْلُهُ وَاهٍ ضَعِيفٌ لَا
مَسَاغَ لَهُ فِي النَّظَرِ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ كَمَا ذَكَرَ
لَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الطَّوْلُ إلَى الْحُرَّةِ فَاسِخًا
لِنِكَاحِ الْأَمَةِ كَمَا قَالَ الشَّعْبِيُّ
كَالْمُتَيَمِّمِ إذَا وَجَدَ الْمَاءَ يُنْتَقَضُ تَيَمُّمُهُ
تَوَضَّأَ أَوْ لَمْ يَتَوَضَّأْ وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي
يُوسُفَ أَنَّهُ تَأَوَّلَ قَوْله تَعَالَى وَمَنْ لَمْ
يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا عَلَى عَدَمِ الْحُرَّةِ فِي
مِلْكِهِ وَأَنَّ وُجُودَ الطول هو كون الحرة تحته وهذا
التأويل سَائِغٌ لِأَنَّ مَنْ لَيْسَ عِنْدَهُ حُرَّةٌ فَهُوَ
غَيْرُ مُسْتَطِيعٍ لَلطَّوْلِ إلَيْهَا إذْ لَا يَصِلُ
إلَيْهَا وَلَا يَقْدِرُ عَلَى وَطْئِهَا فَكَانَ وُجُودُ
الطَّوْلِ عِنْدَهُ هُوَ مِلْكُ وَطْءِ الْحُرَّةِ وَهُوَ أولى
بمعنى الآية من تأول مَنْ تَأَوَّلَهُ عَلَى الْقُدْرَةِ عَلَى
تَزَوُّجِهَا لِأَنَّ الْقُدْرَةَ عَلَى الْمَالِ لَا تُوجِبُ
لَهُ مِلْكَ الْوَطْءِ إلَّا بَعْدَ النِّكَاحِ فَوُجُودُ
الطَّوْلِ بِحَالِ مِلْكِ الْوَطْءِ أَخَصُّ مِنْهُ بِوُجُودِ
الْمَالِ الَّذِي بِهِ يَتَوَصَّلُ إلَى النِّكَاحِ وَيَدُلُّ
عَلَيْهِ أَنَّا وَجَدْنَا لِمِلْكِ وَطْءِ الزَّوْجَةِ
تَأْثِيرًا فِي مَنْعِ نِكَاحِ أُخْرَى وَلَمْ نَجِدْ هَذِهِ
الْمَزِيَّةَ لِوُجُودِ الْمَالِ فَإِذًا لَا حَظَّ لِوُجُودِ
الْمَالِ فِي مَنْعِ نِكَاحِ الْأَمَةِ فَتَأْوِيلُ أَبِي
يُوسُفَ الْآيَةَ عَلَى مِلْكِ وَطْءِ الْحُرَّةِ أَصَحُّ مِنْ
تَأْوِيلِ مَنْ تَأَوَّلَهَا عَلَى مِلْكِ الْمَالِ فَإِنْ
قِيلَ وُجُودُ ثَمَنِ رَقَبَةِ الظِّهَارِ كَوُجُودِ
الرَّقَبَةِ فِي مِلْكِهِ فَهَلَّا كَانَ وُجُودُ مَهْرِ
الْحُرَّةِ كَوُجُودِ نِكَاحِهَا قِيلَ لَهُ هَذَا خَطَأٌ
مُنْتَقَضٌ مِنْ وُجُوهٍ أَحَدُهَا أَنَّك لَمْ تَعْقِدْهُ
بِمَعْنًى يُوجِبُ الْجَمْعَ بَيْنَهُمَا وَبِدَلَالَةٍ
يَدُلُّ بِهَا عَلَى صِحَّةِ الْمَعْنَى وَمَا خَلَا مِنْ
ذَلِكَ مِنْ دَعْوَى الْخَصْمِ فَهُوَ سَاقِطٌ غَيْرُ
مَقْبُولٍ وَالثَّانِي أَنَّ ذَلِكَ يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ
وُجُودُ مَهْرِ امْرَأَةٍ فِي مِلْكِهِ كَوُجُودِ نِكَاحِهَا
فِي مَنْعِ تَزْوِيجِ أُمِّهَا أَوْ أُخْتِهَا فَلَمَّا لَمْ
يَكُنْ ذَلِكَ بَانَ بِهِ فَسَادُ مَا ذَكَرْت وَعَلَى أَنَّ
الرَّقَبَةَ لَيْسَتْ عُرُوضًا لِلنِّكَاحِ لِأَنَّ
الرَّقَبَةَ فُرِضَ عَلَيْهِ عِتْقُهَا وَغَيْرُ جَائِزٍ لَهُ
الِانْصِرَافُ عَنْهَا مَعَ وُجُودِهَا وَجَائِزٌ لِلرَّجُلِ
أَنْ لَا يَتَزَوَّجَ مَعَ الْإِمْكَانِ فَلَمَّا كَانَ
كَذَلِكَ كَانَ وُجُودُ ثَمَنِ الرَّقَبَةِ فِي مِلْكِهِ
كَوُجُودِهَا إذْ كَانَتْ فَرْضًا هُوَ مَأْمُورٌ بِعِتْقِهَا
عَلَى
حَسَبِ الْإِمْكَانِ وَلَيْسَ النِّكَاحُ بِفَرْضٍ
فَيَلْزَمُهُ التَّوَصُّلُ إلَيْهِ لِوُجُودِ الْمَهْرِ
فَلَيْسَ إذًا لِوُجُودِ الْمَهْرِ فِي مِلْكِهِ تَأْثِيرٌ فِي
مَنْعِ نِكَاحِ الْأَمَةِ وَكَانَ وَاجِدُهُ بِمَنْزِلَةِ مَنْ
لَمْ يَجِدْ وَإِنَّمَا قَالَ أَصْحَابُنَا إنَّهُ لَا
يَتَزَوَّجُ الْأَمَةَ عَلَى الْحُرَّةِ لِمَا
رَوَى الْحَسَنُ وَمُجَاهِدُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ لَا تُنْكَحُ الْأَمَةُ
عَلَى الْحُرَّةِ
وَلَوْلَا مَا وَرَدَ مِنْ الْأَثَرِ لَمْ يَكُنْ تَزْوِيجُ
الْأَمَةِ عَلَى الْحُرَّةِ مَحْظُورًا إذْ لَيْسَ فِي
الْقُرْآنِ مَا يُوجِبُ حَظْرَهُ وَالْقِيَاسُ يُوجِبُ
إبَاحَتَهُ وَلَكِنَّهُمْ اتَّبَعُوا
(3/115)
الْأَثَرَ فِي ذَلِكَ وَاَللَّهُ تَعَالَى
أَعْلَمُ.
بَابٌ نِكَاحُ الْأَمَةِ الْكِتَابِيَّةِ
قَالَ أَبُو بَكْرٍ اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِيهِ فَرُوِيَ
عَنْ الْحَسَنِ وَمُجَاهِدٍ وَسَعِيدِ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ
وَأَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي مَرْيَمَ
كَرَاهَةَ ذَلِكَ وَهُوَ قَوْلُ الثَّوْرِيِّ وَقَالَ أَبُو
مَيْسَرَةَ فِي آخَرِينَ يَجُوزُ نِكَاحُهَا وَهُوَ قَوْلُ
أَبِي حَنِيفَةَ وأبو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ وَزُفَرٍ وَرُوِيَ
عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ كَرِهَهُ إذَا كَانَ مَوْلَاهَا
كَافِرًا وَالنِّكَاحُ جَائِزٌ وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ ذَهَبَ
إلَى أَنَّ وَلَدَهَا يَكُونُ عَبْدًا لِمَوْلَاهَا وَهُوَ
مُسْلِمٌ بِإِسْلَامِ الْأَبِ كَمَا يَكْرَهُ بَيْعَ الْعَبْدِ
الْمُسْلِمِ مِنْ الْكَافِرِ وَقَالَ مَالِكٌ
وَالْأَوْزَاعِيُّ وَالشَّافِعِيُّ وَاللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ
لَا يَجُوزُ النِّكَاحُ وَالدَّلِيلُ عَلَى جَوَازِهِ جَمِيعُ
مَا ذَكَرْنَا مِنْ عُمُومِ الْآيِ فِي الْبَابِ الَّذِي
قَبْلَهُ الْمُوجِبَةُ لِجَوَازِ نِكَاحِ الْأَمَةِ مَعَ
وُجُودِ الطَّوْلِ إلَى الْحُرَّةِ وَدَلَالَتُهَا عَلَى
جَوَازِ نِكَاحِ الْأَمَةِ الْكِتَابِيَّةِ كَهِيَ عَلَى
إبَاحَةِ نِكَاحِ الْمُسْلِمَةِ وَمِمَّا يُخْتَصُّ مِنْهَا
بِالدَّلَالَةِ عَلَى هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ قَوْلُهُ عَزَّ
وَجَلَّ وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ
مِنْ قَبْلِكُمْ وَرَوَى جَرِيرٌ عَنْ لَيْثٍ عَنْ مُجَاهِدٍ
فِي قَوْلِهِ وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا
الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَالَ الْعَفَائِفُ وَرَوَى
هُشَيْمٌ عَنْ مُطَّرِفٍ عَنْ الشَّعْبِيِّ وَالْمُحْصَناتُ
مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَالَ
إحْصَانُهَا أَنْ تَغْتَسِلَ مِنْ الْجَنَابَةِ وَتُحْصِنُ
فَرْجَهَا مِنْ الزِّنَا فَثَبَتَ بِذَلِكَ أَنَّ اسْمَ
الْإِحْصَانِ قَدْ يَتَنَاوَلُ الْكِتَابِيَّةَ قَالَ تَعَالَى
وَالْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ
أَيْمانُكُمْ فَاسْتَثْنَى مِلْكَ الْيَمِينِ مِنْ
الْمُحْصَنَاتِ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الِاسْمَ يَقَعُ
عَلَيْهِنَّ لَوْلَا ذَلِكَ لَمَا اسْتَثْنَاهُنَّ وَقَالَ
تَعَالَى فَإِذا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفاحِشَةٍ
فَأَطْلَقَ اسْمَ الْإِحْصَانِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ عَلَى
الْإِمَاءِ وَلَمَّا ثَبَتَ أَنَّ اسْمَ الْمُحْصَنَاتِ يَقَعُ
عَلَى الْكِتَابِيَّاتِ مِنْ الْحَرَائِرِ وَالْإِمَاءِ
وَأَطْلَقَ اللَّهُ نِكَاحَ الْكِتَابِيَّاتِ الْمُحْصَنَاتِ
بِقَوْلِهِ وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ
مِنْ قَبْلِكُمْ كَانَ عَامًّا فِي الْحَرَائِرِ وَالْإِمَاءِ
مِنْهُنَّ فَإِنْ احْتَجُّوا بِقَوْلِهِ وَلا تَنْكِحُوا
الْمُشْرِكاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَكَانَتْ هَذِهِ مُشْرِكَةً
وَقَالَ فِي آيَةٍ أُخْرَى وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ
طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَناتِ الْمُؤْمِناتِ فَمِنْ مَا
مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ فَتَياتِكُمُ الْمُؤْمِناتِ
فَكَانَتْ إبَاحَةُ نِكَاحِ الْإِمَاءِ مَقْصُورَةً عَلَى
الْمُسْلِمَاتِ مِنْهُنَّ دُونَ الْكِتَابِيَّاتِ وَجَبَ أَنْ
يَكُونَ نِكَاحُ الإماء الكتابيات باقيا في حُكْمِ الْحَظْرِ
قِيلَ لَهُ إطْلَاقُ اسْمِ الْمُشْرِكَاتِ لَا يَتَنَاوَلُ
الْكِتَابِيَّاتِ وَإِنَّمَا يَقَعُ عَلَى عَبَدَةِ
الْأَوْثَانِ دُونَ غَيْرِهِمْ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى
(3/116)
قَدْ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا فِي قَوْلِهِ
لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ
وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ فَعَطَفَ الْمُشْرِكِينَ عَلَى
أَهْلِ الْكِتَابِ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ إطْلَاقَ
الِاسْمِ إنَّمَا يَتَنَاوَلُ عَبَدَةَ الْأَوْثَانِ دُونَ
غَيْرِهِمْ فَلَمْ يَعُمَّ الْكِتَابِيَّاتِ فَغَيْرُ جَائِزٍ
الِاعْتِرَاضُ بِهِ فِي حَظْرِ نِكَاحِ الْإِمَاءِ
الْكِتَابِيَّاتِ وَأَيْضًا فَلَا خِلَافَ بَيْنَ فُقَهَاءِ
الْأَمْصَارِ أَنَّ قَوْلَهُ وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ
أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ قاض على قوله وَلا
تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ وَذَلِكَ لِأَنَّهُمْ لَا
يَخْتَلِفُونَ فِي جَوَازِ نِكَاحِ الْحَرَائِرِ
الْكِتَابِيَّاتِ فَلَيْسَ يَخْلُو حِينَئِذٍ قَوْلُهُ وَلا
تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ مِنْ أَنْ يَكُونَ عَامًّا فِي
إطْلَاقِهِ لِلْكِتَابِيَّاتِ وَالْوَثَنِيَّاتِ أَوْ أَنْ
يَكُونَ إطْلَاقُهُ مَقْصُورًا عَلَى الْوَثَنِيَّاتِ دُونَ
الْكِتَابِيَّاتِ فَإِنْ كَانَ الْإِطْلَاقُ إنَّمَا يتناول
الوثنيات دون الكتابيات فالسؤال نَازِلًا بَعْدَهُ فَيَكُونُ
مُسْتَعْمَلًا أَيْضًا أَوْ أَنْ يَكُونَ حَظْرُ نِكَاحِ
الْمُشْرِكَاتِ مُتَأَخِّرًا عَنْ إبَاحَةِ سَاقِطٌ فِيهِ إذْ
لَيْسَ بِنَافٍ فِيهِ لِنِكَاحِ الْكِتَابِيَّاتِ وَإِنْ كَانَ
الْإِطْلَاقُ يَنْتَظِمُ الصِّنْفَيْنِ جَمِيعًا لو حملنا
عَلَى ظَاهِرِهِ فَقَدْ اتَّفَقُوا أَنَّهُ مُرَتَّبٌ عَلَى
قوله وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ
قَبْلِكُمْ لِاتِّفَاقِ الْجَمِيعِ عَلَى اسْتِعْمَالِهِ
مَعَهُ فِي الْحَرَائِرِ مِنْهُنَّ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ
لَمْ يَخْلُ مِنْ أَنْ تَكُونَ الْآيَتَانِ نَزَلَتَا مَعًا
أَوْ أَنْ تكون إباحة نكاح الكتابيات متأخرا عَنْ حَظْرِ
نِكَاحِ الْمُشْرِكَاتِ أَوْ أَنْ يَكُونَ حَظْرُ نِكَاحِ
الْمُشْرِكَاتِ مُتَأَخِّرًا عَنْ إبَاحَةِ نِكَاحِ
الْكِتَابِيَّاتِ فَإِنْ كَانَتَا نَزَلَتَا مَعًا فَهُمَا
مُسْتَعْمَلَتَانِ جَمِيعًا عَلَى جِهَةِ تَرْتِيبِ حَظْرِ
نِكَاحِ الْمُشْرِكَاتِ عَلَى إبَاحَةِ نِكَاحِ
الْكِتَابِيَّاتِ أَوْ أَنْ يَكُونَ نكاح الكتابيات نِكَاحِ
الْكِتَابِيَّاتِ فَإِنْ كَانَ كَذَلِكَ فَإِنَّهُ وَرَدَ
مُرَتَّبًا عَلَى إبَاحَةِ نِكَاحِ الْكِتَابِيَّاتِ
فَالْإِبَاحَةُ مُسْتَعْمَلَةٌ في الأحوال كلها كيف تصرفت
الحال على الحال على أنه ولا خِلَافَ أَنَّ قَوْلَهُ
وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ
قَبْلِكُمْ نَزَلَ بَعْدَ تَحْرِيمِهِ نِكَاحَ الْمُشْرِكَاتِ
لِأَنَّ آيَةَ تَحْرِيمِ الْمُشْرِكَاتِ فِي سُورَةِ
الْبَقَرَةِ وَإِبَاحَةِ نِكَاحِ الْكِتَابِيَّاتِ فِي سُورَةِ
الْمَائِدَةِ وَهِيَ نَزَلَتْ بَعْدَهَا فَهِيَ قَاضِيَةٌ
عَلَى تَحْرِيمِ الْمُشْرِكَاتِ إنْ كَانَ إطْلَاقُ اسْمِ
الْمُشْرِكَاتِ يَتَنَاوَلُ الْكِتَابِيَّاتِ ثُمَّ لَمَّا
تُفَرِّقْ الْآيَةُ الْمُبِيحَةُ لِنِكَاحِ الْكِتَابِيَّاتِ
بَيْنَ الْحَرَائِرِ مِنْهُنَّ وَبَيْنَ الْإِمَاءِ وَاقْتَضَى
عُمُومُهَا الْفَرِيقَيْنِ مِنْهُنَّ وَجَبَ اسْتِعْمَالُهَا
فِيهِمَا جَمِيعًا وَأَنْ لَا يُعْتَرَضَ بِتَحْرِيمِ نِكَاحِ
الْمُشْرِكَاتِ عَلَيْهِنَّ كَمَا لَمْ يَجُزْ الِاعْتِرَاضُ
بِهِ عَلَى الْحَرَائِرِ مِنْهُنَّ وَأَمَّا تَخْصِيصُ
اللَّهِ تَعَالَى الْمُؤْمِنَاتِ مِنْ الْإِمَاءِ فِي قَوْلِهِ
مِنْ فَتَياتِكُمُ الْمُؤْمِناتِ فَقَدْ بَيَّنَّا فِي
الْمَسْأَلَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ أَنَّ التَّخْصِيصَ بالذكر
(3/117)
لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَا عَدَا
الْمَخْصُوصَ حُكْمُهُ بِخِلَافِهِ فَإِنْ قِيلَ لَا يَصِحُّ
الِاحْتِجَاجُ بِقَوْلِهِ وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ
أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ فِي إبَاحَةِ النِّكَاحِ
وَذَلِكَ لِأَنَّ الْإِحْصَانَ اسْمٌ مُشْتَرَكٌ يَتَنَاوَلُ
مَعَانِيَ مُخْتَلِفَةً وَلَيْسَ بِعُمُومٍ فَيُجْرَى عَلَى
مُقْتَضَى لَفْظِهِ بَلْ هُوَ مُجْمَلٌ مَوْقُوفُ الْحُكْمِ
عَلَى الْبَيَانِ فَمَا وَرَدَ بِهِ الْبَيَانُ مِنْ تَوْقِيفٍ
أَوْ اتِّفَاقٍ صِرْنَا إلَيْهِ وَكَانَ حُكْمُ الْآيَةِ
مَقْصُورًا عَلَيْهِ وَمَا لَمْ يَرِدْ بِهِ بَيَانٌ فَهُوَ
عَلَى إجْمَالِهِ لَا يَصِحُّ الِاحْتِجَاجُ بِعُمُومِهِ
فَلَمَّا اتَّفَقَ الْجَمِيعُ عَلَى أَنَّ الْحَرَائِرَ مِنْ
الْكِتَابِيَّاتِ مُرَادَاتٌ بِهِ اسْتَعْمَلْنَا حُكْمَ
الْآيَةِ فِيهِنَّ وَلَمَّا لَمْ تَقُمْ الدَّلَالَةُ عَلَى
إرَادَةِ الْإِمَاءِ الْكِتَابِيَّاتِ احْتَجْنَا فِي
إثْبَاتِهَا إلَى دَلِيلٍ مِنْ غَيْرِهَا قِيلَ لَهُ لَمَّا
رُوِيَ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ السَّلَفِ فِي قَوْلِهِ
وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إنهن
العفائف منهن إذا كَانَ اسْمُ الْإِحْصَانِ يَقَعُ عَلَى
الْعِفَّةِ وَجَبَ اعْتِبَارُ عُمُومِ اللَّفْظِ فِي جَمِيعِ
الْعَفَائِفِ إذْ قَدْ ثَبَتَ أَنَّ الْعِفَّةَ مُرَادَةٌ
بِهَذَا الْإِحْصَانِ وَمَا عَدَا ذَلِكَ مِنْ ضُرُوبِ
الْإِحْصَانِ لَمْ تَقُمْ الدَّلَالَةُ عَلَى أَنَّهَا
مُرَادَةٌ وَقَدْ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ شَرْطِ
هَذَا الْإِحْصَانِ اسْتِكْمَالُ شَرَائِطِهِ كُلِّهَا فَمَا
وَقَعَ عَلَيْهِ الِاسْمُ وَاتَّفَقَ الْجَمِيعُ أَنَّهُ
مُرَادٌ أَثْبَتْنَاهُ وَمَا عَدَاهُ يَحْتَاجُ مُثْبِتُهُ
شَرْطًا فِي الْإِبَاحَةِ إلَى دَلَالَةٍ فَإِنْ قِيلَ اسْمُ
الْإِحْصَانِ يَقَعُ عَلَى الْحُرِّيَّةِ فَمَا أَنْكَرْت أَنْ
يَكُونَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ
أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ الْحَرَائِرَ مِنْهُنَّ
قِيلَ لَهُ لَمَّا كَانَ مَعْلُومًا أَنَّهُ لَمْ يَرِدْ
بِذِكْرِ الْإِحْصَانِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ اسْتِيفَاءُ
شَرَائِطِهِ لَمْ يَجُزْ لِأَحَدٍ أَنْ يَقْتَصِرَ بِمَعْنَى
الْإِحْصَانِ فِيهِ عَلَى بَعْضِ مَا يَقَعُ عَلَيْهِ الِاسْمُ
دُونَ بَعْضٍ بَلْ إذَا تَنَاوَلَهُ الِاسْمُ مِنْ وَجْهٍ
وَجَبَ اعْتِبَارُ عُمُومِهِ فِيهِ فَلَمَّا كَانَتْ الْأَمَةُ
قَدْ يَتَنَاوَلُهَا اسْمُ الْإِحْصَانِ عَلَى الْإِطْلَاقِ
فِي بَعْضِ الْوُجُوهِ مِنْ طَرِيقِ الْعِفَّةِ أَوْ غَيْرِهَا
جَازَ اعْتِبَارُ عُمُومِ اللَّفْظِ فِيهِ وَإِذَا جَازَ لَك
أَنْ تَقْتَصِرَ بِاسْمِ الْإِحْصَانِ عَلَى الْحُرِّيَّةِ
دُونَ غَيْرِهَا فَجَائِزٌ لَغَيْرِك أَنْ يَقْتَصِرَ بِهِ
عَلَى الْعَفَافِ دُونَ غَيْرِهِ وَغَيْرُ جَائِزٍ لَنَا
إجْمَالُ حُكْمِ اللَّفْظِ مَعَ إمْكَانِ اسْتِعْمَالِهِ عَلَى
الْعُمُومِ وَقَدْ أَطْلَقَ اللَّهُ اسْمَ الْإِحْصَانِ عَلَى
الْأَمَةِ فَقَالَ تَعَالَى فَإِذا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ
بِفاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ ما عَلَى الْمُحْصَناتِ مِنَ
الْعَذابِ فَقَالَ بَعْضُهُمْ أَرَادَ فَإِذَا أَسْلَمْنَ
وَقَالَ بَعْضُهُمْ فَإِذَا تَزَوَّجْنَ فَكَانَ اعْتِبَارُ
هَذَا الْعُمُومِ سَائِغًا فِي إيجَابِ الْحَدِّ عَلَيْهِنَّ
وَقَدْ قَالَ فِي الآية وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الْمُؤْمِناتِ
وَلَمْ يُرِدْ بِهِ حُصُولَ جَمِيعِ شَرَائِطِ الْإِحْصَانِ
وَإِنَّمَا أَرَادَ بِهِ الْعَفَائِفَ مِنْهُنَّ وَحَرَّمَ
ذَوَاتِ الْأَزْوَاجِ بِقَوْلِهِ وَالْمُحْصَناتُ مِنَ
النِّساءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ فكان عموما في
تحريم الأزواج إلا
(3/118)
مَا اسْتَثْنَاهُنَّ فَكَذَلِكَ قَوْلُهُ
وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ
قَبْلِكُمْ لَا يَمْنَعُ ذِكْرُ الْإِحْصَانِ فِيهِ مِنْ
اعْتِبَارِ عُمُومِهِ فِيمَنْ يَقَعُ عَلَيْهِ الِاسْمُ مِنْ
جِهَةِ الْعَفَافِ عَلَى مَا رُوِيَ عَنْ السَّلَفِ وَمِنْ
جِهَةِ النَّظَرِ أَنَّهُ لَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي
إبَاحَةِ وَطْءِ الْأَمَةِ الْكِتَابِيَّةِ بِمِلْكِ
الْيَمِينِ وَكُلُّ مَنْ جَازَ وَطْؤُهَا بِمِلْكِ الْيَمِينِ
جَازَ وَطْؤُهَا بِمِلْكِ النِّكَاحِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي
يَجُوزُ عَلَيْهِ نِكَاحُ الْحُرَّةِ الْمُنْفَرِدَةِ أَلَا
تَرَى أَنَّ الْمُسْلِمَةَ لَمَّا جَازَ وَطْؤُهَا بِمِلْكِ
الْيَمِينِ جَازَ وَطْؤُهَا بِالنِّكَاحِ وَأَنَّ الْأُخْتَ
مِنْ الرَّضَاعَةِ وَأُمَّ الْمَرْأَةِ وَحَلِيلَةَ الِابْنِ
وَمَا نَكَحَ الْآبَاءُ لَمَّا لَمْ يَجُزْ وَطْؤُهُنَّ
بِمِلْكِ الْيَمِينِ حُرِّمَ وَطْؤُهُنَّ بِالنِّكَاحِ
فَلَمَّا اتَّفَقَ الْجَمِيعُ عَلَى جَوَازِ وَطْءِ الْأَمَةِ
الْكِتَابِيَّةِ بِمِلْكِ الْيَمِينِ وَجَبَ جَوَازُ وَطْئِهَا
بِالنِّكَاحِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يَجُوزُ فِيهِ وَطْءُ
الْحُرَّةِ الْمُنْفَرِدَةِ فَإِنْ قِيلَ قَدْ يَجُوزُ وَطْءُ
الْأَمَةِ الْكِتَابِيَّةِ بِمِلْكِ الْيَمِينِ وَلَا يَجُوزُ
بِالنِّكَاحِ كَمَا إذَا كَانَتْ تَحْتَهُ حُرَّةٌ قِيلَ لَهُ
لَمْ نَجْعَلْ مَا ذَكَرْنَا عِلَّةً لِجَوَازِ نِكَاحِهَا فِي
سَائِرِ الْأَحْوَالِ وَإِنَّمَا جَعَلْنَاهُ عِلَّةً
لِجَوَازِ نِكَاحِهَا مُنْفَرِدَةً غَيْرَ مَجْمُوعَةٍ إلَى
غَيْرِهَا أَلَا ترى أن الأمة المسلمة يجوز نكاحها منفردة ولو
كانت تَحْتَهُ حُرَّةٌ لَمَا جَازَ نِكَاحُهَا لِأَنَّهُ لَمْ
يَجُزْ نِكَاحُهَا مِنْ طَرِيقِ جَمْعِهَا إلَى الْحُرَّةِ
كَمَا لَا يَجُوزُ نِكَاحُهَا لَوْ كَانَتْ أُخْتُهَا تحته وهي
أمة فعلنا صَحِيحَةٌ مُسْتَمِرَّةٌ جَارِيَةٌ فِي
مَعْلُولَاتِهَا غَيْرُ لَازِمٍ عليها ما ذكرت إذ كانت منصوبة
لِجَوَازِ نِكَاحِهَا مُنْفَرِدَةً غَيْرَ مَجْمُوعَةٍ إلَى
غَيْرِهَا وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ.
بَابٌ نِكَاحُ الْأَمَةِ بِغَيْرِ إذْنِ مَوْلَاهَا
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ
قَالَ أَبُو بَكْرٍ قَدْ اقْتَضَى ذَلِكَ بُطْلَانَ نِكَاحِ
الْأَمَةِ إلَّا أَنْ يَأْذَنَ سَيِّدُهَا وَذَلِكَ لأن قوله
تعالى فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ يَدُلُّ عَلَى
كَوْنِ الْإِذْنِ شَرْطًا فِي جَوَازِ النِّكَاحِ وَإِنْ لَمْ
يَكُنْ النِّكَاحُ وَاجِبًا وَهُوَ مِثْلُ
قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ أَسْلَمَ
فَلْيُسْلِمْ فِي كَيْلٍ مَعْلُومٍ وَوَزْنٍ مَعْلُومٍ إلَى
أَجَلٍ مَعْلُومٍ
أَنَّ السَّلَمَ لَيْسَ بِوَاجِبٍ وَلَكِنَّهُ إذَا اخْتَارَ
أَنْ يُسْلِمَ فَعَلَيْهِ اسْتِيفَاءُ هَذِهِ الشَّرَائِطِ
كَذَلِكَ النِّكَاحُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ حَتْمًا فَعَلَيْهِ
إذَا أَرَادَ أَنْ يَتَزَوَّجَ الْأَمَةَ أَنْ لَا
يَتَزَوَّجَهَا إلَّا بِإِذْنِ سَيِّدِهَا وَقَدْ رُوِيَ عَنْ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم
هَذَا الْمَعْنَى فِي نِكَاحِ الْعَبْدِ
حَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي بْنُ قَانِعٍ قَالَ حَدَّثَنَا
محمد بن شَاذَانَ قَالَ أَخْبَرَنَا مُعَلَّى قَالَ حَدَّثَنَا
عَبْدُ الْوَارِثِ قَالَ حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ بْنُ عَبْدِ
الْوَاحِدِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَقِيلٍ
عَنْ جَابِرٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا تَزَوَّجَ الْعَبْدُ بِغَيْرِ إذْنِ
مَوْلَاهُ فَهُوَ عَاهِرٌ
حَدَّثَنَا عَبْدُ
(3/119)
الْبَاقِي قَالَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ
الْخَطَّابِيِّ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ الْفَضْلُ
بْنُ دُكَيْنٍ قَالَ حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ عَنْ
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَقِيلٍ قَالَ سَمِعْت
جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيُّمَا عَبْدٍ تَزَوَّجَ
بِغَيْرِ إذْنِ سَيِّدِهِ زِنًا
وَرَوَى هُشَيْمٌ عَنْ يُونُسَ عَنْ نَافِعٍ أَنَّ مَمْلُوكًا
لِابْنِ عُمَرَ تَزَوَّجَ بِغَيْرِ إذْنِهِ فَضَرَبَهُمَا
وَفَرَّقَ بَيْنَهُمَا وَأَخَذَ كُلَّ شَيْءِ أَعْطَاهَا
وَقَالَ الْحَسَنُ وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ وَإِبْرَاهِيمُ
وَالشَّعْبِيُّ إذَا تَزَوَّجَ الْعَبْدُ بِغَيْرِ إذْنِ
مَوْلَاهُ فَالْأَمْرُ إلَى الْمَوْلَى إنْ شَاءَ أَجَازَ
وَإِنْ شَاءَ رَدَّ وَقَالَ عَطَاءُ نِكَاحُ العبد بغير إذن
سيده ليس بزنا لكنه أَخْطَأَ السُّنَّةَ وَرَوَى قَتَادَةُ
عَنْ خِلَاسٍ أَنَّ غُلَامًا لِأَبِي مُوسَى تَزَوَّجَ
بِغَيْرِ إذْنِهِ فَرُفِعَ ذَلِكَ إلَى عُثْمَانَ فَفَرَّقَ
بَيْنَهُمَا وَأَعْطَاهَا الْخُمُسَيْنِ وَأَخَذَ ثَلَاثَةَ
أَخْمَاسٍ قَالَ أَبُو بَكْرٍ وَاتَّفَقَ من ذكرنا قوله من
السلف أنه لاحد عَلَيْهِمَا وَإِنَّمَا رُوِيَ الْحَدُّ عَنْ
ابْنِ عُمَرَ وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ جَلَدَهُمَا تَعْزِيرًا
لَا حَدًّا فَظَنَّ الرَّاوِي أَنَّهُ حَدٌّ وَاتَّفَقَ
عَلِيٌّ وَعُمَرُ في المتزوجة في العدة أنه لاحد عَلَيْهَا
وَلَا نَعْلَمُ أَحَدًا مِنْ الصَّحَابَةِ خَالَفَهُمَا فِي
ذَلِكَ وَالْعَبْدُ الَّذِي تَزَوَّجَ بِغَيْرِ إذْنِ
مَوْلَاهُ أَيْسَرُ أَمْرًا مِنْ الْمُتَزَوِّجَةِ فِي
الْعِدَّةِ لِأَنَّ ذَلِكَ نِكَاحٌ تَلْحَقُهُ الْإِجَازَةُ
عِنْدَ عَامَّةِ التَّابِعِينَ وَفُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ
وَنِكَاحُ الْمُعْتَدَّةِ لَا تَلْحَقُهُ إجَازَةٌ عِنْدَ
أَحَدٍ وَتَحْرِيمُ نِكَاحِ الْمُعْتَدَّةِ مَنْصُوصٌ عَلَيْهِ
فِي الْكِتَابِ فِي قَوْله تَعَالَى وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ
النِّكاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتابُ أَجَلَهُ وَتَحْرِيمُ
نِكَاحِ الْعَبْدِ مِنْ جِهَةِ خَبَرِ الْوَاحِدِ وَالنَّظَرِ
فَإِنْ قِيلَ
قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي
الْعَبْدِ يَتَزَوَّجُ بِغَيْرِ إذْنِ مولاه فهو عَاهِرٌ
وَقَدْ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلِلْعَاهِرِ
الْحَجَرُ
قِيلَ لَهُ لَا خِلَافَ أَنَّ الْعَبْدَ غَيْرُ مُرَادٍ
بِقَوْلِهِ وَلِلْعَاهِرِ الْحَجَرُ لِأَنَّهُ لَا يُرْجَمُ
إذَا زَنَى وَإِنَّمَا سَمَّاهُ عَاهِرًا على المجاز والتشبيه
بالزاني لإقدامه على وطء محظور
وقال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
الْعَيْنَانِ تَزْنِيَانِ وَالرِّجْلَانِ تَزْنِيَانِ
وَذَلِكَ مَجَازٌ فَكَذَلِكَ قَوْلُهُ فِي الْعَبْدِ وَأَيْضًا
فَقَدْ قَالَ أَيُّمَا عَبْدٍ تَزَوَّجَ بِغَيْرِ إذْنِ
مَوْلَاهُ فَهُوَ عَاهِرٌ
وَلَمْ يَذْكُرْ الْوَطْءَ وَلَا خِلَافَ أَنَّهُ لَا يَكُونُ
عَاهِرًا بِالتَّزَوُّجِ فَدَلَّ أَنَّ إطْلَاقَهُ ذَلِكَ
كَانَ عَلَى وَجْهِ الْمَجَازِ تَشْبِيهًا لَهُ بِالْعَاهِرِ
وقَوْله تَعَالَى فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ
يَدُلُّ عَلَى أَنَّ لِلْمَرْأَةِ أَنْ تُزَوِّجَ أَمَتَهَا
لأن قوله أَهْلِهِنَّ الْمُرَادُ بِهِ الْمَوَالِي لِأَنَّهُ
لَا خِلَافَ أَنَّهُ لا يجوز لها أن تتزوج بغير مَوْلَاهَا
وَأَنَّهُ لَا اعْتِبَارَ بِإِذْنِ غَيْرِ الْمَوْلَى إذَا
كَانَ الْمَوْلَى بَالِغًا عَاقِلًا جَائِزَ التَّصَرُّفِ فِي
مَالِهِ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ لَا يَجُوزُ لِلْمَرْأَةِ أَنْ
تُزَوِّجَ أَمَتَهَا وَإِنَّمَا تُوَكِّلُ غَيْرَهَا
بِالتَّزْوِيجِ وَهُوَ قَوْلٌ يَرُدُّهُ ظَاهِرُ الْكِتَابِ
لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ عَقْدِهَا
التَّزْوِيجَ وَبَيْنَ عَقْدِ غَيْرِهَا بِإِذْنِهَا وَيَدُلُّ
عَلَى أَنَّهَا إذَا أذنت لامرأة أخرى في
(3/120)
تَزْوِيجِهَا أَنَّهُ جَائِزٌ لِأَنَّهَا
تَكُونُ مَنْكُوحَةً بِإِذْنِهَا وَظَاهِرُ الْآيَةِ مُقْتَضٍ
لِجَوَازِ نِكَاحِهَا بِإِذْنِ مَوْلَاهَا فَإِذَا وَكَّلَ
مَوْلَاهَا أَوْ مَوْلَاتُهَا امْرَأَةً بِتَزْوِيجِهَا وَجَبَ
أَنْ يَجُوزَ ذَلِكَ لِأَنَّ ظَاهِرَ الْآيَةِ قَدْ أَجَازَهُ
وَمَنْ مَنَعَ ذَلِكَ فَإِنَّمَا خَصَّ الْآيَةَ بِغَيْرِ
دَلَالَةٍ وَأَيْضًا فَإِنْ كَانَتْ هِيَ لَا تَمْلِكُ عَقْدَ
النِّكَاحِ عَلَيْهَا فَغَيْرُ جَائِزٍ تَوْكِيلُهَا غَيْرَهَا
بِهِ لِأَنَّ تَوْكِيلَ الْإِنْسَانِ إنَّمَا يَجُوزُ فِيمَا
يَمْلِكُهُ فَأَمَّا مَا لَا يَمْلِكُهُ فغير جائز توكيل غيره
فِي الْعُقُودِ الَّتِي تَتَعَلَّقُ أَحْكَامُهَا
بِالْمُوَكَّلِ دُونَ الْوَكِيلِ وَقَدْ يَصِحُّ عِنْدَنَا
تَوْكِيلُ مَنْ لَا يَصِحُّ عَقْدُهُ إذَا عَقَدَ فِي
الْعُقُودِ الَّتِي تَتَعَلَّقُ أَحْكَامُهَا بِالْوَكِيلِ
دُونَ الْمُوَكِّلِ وَهِيَ عُقُودُ الْبِيَاعَاتِ
وَالْإِجَارَاتِ فَأَمَّا عَقْدُ النِّكَاحِ إذَا وُكِّلَ بِهِ
فَإِنَّمَا يَتَعَلَّقُ حُكْمُهُ بِالْمُوَكِّلِ دُونَ
الْوَكِيلِ أَلَا تَرَى أَنَّ الْوَكِيلَ بِالنِّكَاحِ لَا
يَلْزَمُهُ الْمَهْرُ وَلَا تَسْلِيمُهُ الْبُضْعَ فَلَوْ لَمْ
تَكُنْ الْمَرْأَةُ مَالِكَةً لِعَقْدِ النِّكَاحِ لَمَا صَحَّ
تَوْكِيلُهَا بِهِ لَغَيْرِهَا إذْ كَانَتْ أَحْكَامُ
الْعُقُودِ غَيْرَ مُتَعَلِّقَةٍ بِالْوَكِيلِ فَلَمَّا صَحَّ
تَوْكِيلُهَا بِهِ مَعَ تَعَلُّقِ أَحْكَامِهِ بِهَا دُونَ
الْوَكِيلِ دَلَّ عَلَى أَنَّهَا تَمْلِكُ الْعَقْدَ وَهَذَا
أَيْضًا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْحُرَّةَ تَمْلِكُ عَقْدَ
النِّكَاحِ عَلَى نَفْسِهَا كما جاز وتوكيلها عَلَى غَيْرِهَا
بِهِ وَهُوَ وَلِيُّهَا وقَوْله تَعَالَى وَآتُوهُنَّ
أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ مَهْرِهَا
إذَا نَكَحَهَا سَمَّى لَهَا مَهْرًا أَوْ لَمْ يُسَمِّ
لِأَنَّهُ لَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ مَنْ سَمَّى وَبَيْنَ مِنْ
لَمْ يُسَمِّ فِي إيجَابِهِ الْمَهْرَ وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ
قَدْ أُرِيدَ بِهِ مَهْرُ الْمِثْلِ قَوْله تَعَالَى
بِالْمَعْرُوفِ وَهَذَا إنَّمَا يُطْلَقُ فِيمَا كَانَ
مَبْنِيًّا عَلَى الاجتهاد وغالب الظن الْمُعْتَادِ
وَالْمُتَعَارَفِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى وَعَلَى الْمَوْلُودِ
لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ وقوله تعالى
وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ يَقْتَضِي ظَاهِرُهُ وُجُوبَ دَفْعِ
الْمَهْرِ إلَيْهَا وَالْمَهْرُ وَاجِبٌ لِلْمَوْلَى دُونَهَا
لِأَنَّ الْمَوْلَى هُوَ الْمَالِكُ لِلْوَطْءِ الَّذِي
أَبَاحَهُ لِلزَّوْجِ بِعَقْدِ النِّكَاحِ فَهُوَ
الْمُسْتَحِقُّ لَبَدَلِهِ كَمَا لَوْ آجَرَهَا لِلْخِدْمَةِ
كَانَ الْمَوْلَى هُوَ الْمُسْتَحِقُّ لِلْأُجْرَةِ دُونَهَا
كَذَلِكَ الْمَهْرُ وَمَعَ ذَلِكَ فَإِنَّ الْأَمَةَ لَا
تَمْلِكُ شَيْئًا فَلَا تَسْتَحِقُّ قَبْضَ الْمَهْرِ
وَمَعْنَى الْآيَةِ عَلَى أَحَدِ وَجْهَيْنِ إمَّا أَنْ
يَكُونَ المراد إعطاؤهن الْمَهْرَ بِشَرْطِ إذْنِ الْمَوْلَى
فِيهِ فَيَكُونُ الْإِذْنُ الْمَذْكُورُ بَدِيًّا مُضْمَرًا
فِي إعْطَائِهَا الْمَهْرَ كَمَا كَانَ مَشْرُوطًا فِي
التَّزْوِيجِ فَيَكُونُ تَقْدِيرُهُ فَانْكِحُوهُنَّ بإذن
أهلهن وآتوهن أجورهن بإذنهم فَيَدُلُّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ
غَيْرُ جَائِزٍ إعْطَاؤُهُنَّ الْمَهْرَ إلَّا بِإِذْنِ
الْمَوْلَى وَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى وَالْحافِظِينَ
فُرُوجَهُمْ وَالْحافِظاتِ وَالْمَعْنَى وَالْحَافِظَاتُ
فُرُوجَهُنَّ وقَوْله تَعَالَى وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ
كَثِيراً وَالذَّاكِراتِ وَمَعْنَاهُ وَالذَّاكِرَاتُ اللَّهَ
وَتَكُونُ دَلَالَةُ هَذَا الضَّمِيرِ مَا فِي الْآيَةِ مِنْ
نَفْيِ مِلْكِهَا لِتَزْوِيجِهَا نفسها
(3/121)
وَأَنَّ الْمَوْلَى أَمْلَكُ بِذَلِكَ
مِنْهَا وقَوْله تَعَالَى ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْداً
مَمْلُوكاً لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ فَنَفَى مِلْكَهُ نَفْيًا
عَامًا وَفِيهِ الدَّلَالَةُ عَلَى أَنَّ الْأَمَةَ لَا
تَسْتَحِقُّ مَهْرَهَا وَلَا تَمْلِكُهُ وَالْوَجْهُ الْآخَرُ
أَنْ يَكُونَ أَضَافَ الْإِعْطَاءَ إلَيْهِنَّ وَالْمُرَادُ
الْمَوْلَى كَمَا لَوْ تَزَوَّجَ صَبِيَّةً صَغِيرَةً أَوْ
أَمَةً صَغِيرَةً بِإِذْنِ الْأَبِ وَالْمَوْلَى جَازَ أَنْ
يُقَالَ أَعْطِهِمَا مَهْرَيْهِمَا وَيَكُونُ الْمُرَادُ
إعْطَاءَ الْأَبِ أَوْ الْمَوْلَى أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَصِحُّ
أَنْ يُقَالَ لِمَنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ لِيَتِيمٍ قَدْ مَطَلَهُ
بِهِ إنَّهُ مَانِعٌ لِلْيَتِيمِ حَقَّهُ وَإِنْ كَانَ
الْيَتِيمُ لَا يَسْتَحِقُّ قَبْضَهُ وَيُقَالُ أَعْطِ
الْيَتِيمَ حَقَّهُ وَقَالَ تَعَالَى وَآتِ ذَا الْقُرْبى
حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَقَدْ انْتَظَمَ
ذَلِكَ الصِّغَارَ وَالْكِبَارَ مِنْ أَهْلِ هَذِهِ
الْأَصْنَافِ وَإِعْطَاءُ الصِّغَارِ إنَّمَا يَكُونُ
بِإِعْطَاءِ أَوْلِيَائِهِمْ فَكَذَلِكَ جَائِزٌ أَنْ يَكُونَ
الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ وَآتُوهُنَّ إيتَاءَ مَنْ يَسْتَحِقُّ
ذَلِكَ مِنْ مَوَالِيهِنَّ وَزَعَمَ بَعْضُ أَصْحَابِ مَالِكٍ
أَنَّ الْأَمَةَ هِيَ الْمُسْتَحِقَّةُ لِقَبْضِ مَهْرِهَا
وَأَنَّ الْمَوْلَى إذَا آجَرَهَا لِلْخِدْمَةِ كَانَ هُوَ
الْمُسْتَحِقَّ لِلْأَجْرِ دُونَهَا وَاحْتَجَّ لِلْمَهْرِ
بقوله تعالى وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَقَدْ بَيَّنَّا وَجْهَ
ذَلِكَ وَمَعْنَاهُ وَعَلَى أَنَّهُ إنْ كَانَ الْمَهْرُ
يَجِبُ لَهَا لِأَنَّهُ بَدَلُ بُضْعِهَا فَكَذَلِكَ |