أحكام القرآن للجصاص ت قمحاوي سُورَةُ بَرَاءَةٌ
قَالَ اللَّه تَعَالَى بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ
إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَالَ أَبُو
بَكْرٍ الْبَرَاءَةُ هِيَ قَطْعُ الْمُوَالَاةِ وَارْتِفَاعُ
الْعِصْمَةِ وَزَوَالُ الْأَمَانِ وَقِيلَ إنَّ مَعْنَاهُ
هَذِهِ بَرَاءَةٌ مِنْ اللَّه وَرَسُولِهِ وَلِذَلِكَ
ارْتَفَعَ وَقِيلَ هُوَ ابْتِدَاءٌ وَخَبَرُهُ الظَّرْفُ فِي
إلَى فَاقْتَضَى قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ بَرَاءَةٌ مِنَ
اللَّهِ ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين نَقْضَ الْعَهْدِ
الَّذِي كَانَ بَيْنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عليه وآله
وَسَلَّمَ وَبَيْنَهُمْ وَرَفْعَ الْأَمَانِ وَإِعْلَامَ
نَصْبِ الْحَرْبِ وَالْقِتَالِ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ وَهُوَ
عَلَى نَحْوِ قَوْله تَعَالَى وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ
خِيَانَةً فَانْبِذْ إليهم على سواء فَكَانَ مَا ذُكِرَ فِي
هَذِهِ الْآيَةِ مِنْ الْبَرَاءَةِ نَبْذًا إلَيْهِمْ
وَرَفْعًا لِلْعَهْدِ وَقِيلَ إنَّ ذَلِكَ كَانَ خَاصًّا
فِيمَنْ أَضْمَرُوا الْخِيَانَةَ وَهَمُّوا بِالْغَدْرِ
وَكَانَ حُكْمُ هَذَا اللَّفْظِ أَنْ يُرْفَعَ الْعَهْدُ فِي
حَالِ ذِكْرِ ذَلِكَ لَهُمْ إلَّا أَنَّهُ لَمَّا عَقَّبَهُ
بِقَوْلِهِ تَعَالَى فَسِيحُوا فِي الأرض أربعة أشهر بَيَّنَ
بِهِ أَنَّ هَذِهِ الْبَرَاءَةَ وَهَذَا النَّبْذَ إلَيْهِمْ
إنَّمَا هِيَ بَعْدَ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَأَنَّ عَهْدَ ذَوِي
الْعَهْدِ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ مِنْهُمْ بَاقٍ إلَى آخِرِ
هَذِهِ الْمُدَّةِ قَالَ الْحَسَنُ فَمَنْ كَانَ مِنْهُمْ
عَهْدُهُ أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ حُطَّ إلَيْهَا
وَمَنْ كَانَ مِنْهُمْ عَهْدُهُ أَقَلَّ رُفِعَ إلَيْهَا
وَقِيلَ إنَّ هَذِهِ الْأَرْبَعَةَ الْأَشْهُرِ الَّتِي هِيَ
أَشْهُرُ الْعَهْدِ أَوَّلُهَا مِنْ عِشْرِينَ مِنْ ذِي
الْقَعْدَةِ وَذُو الْحِجَّةِ وَالْمُحَرَّمُ وَصَفَرٌ
وَعَشَرَةُ أَيَّامٍ مِنْ شَهْرِ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ لِأَنَّ
الْحَجَّ فِي تِلْكَ السَّنَةِ الَّتِي حَجَّ فِيهَا أَبُو
بَكْرٍ
وَقَرَأَ فِيهَا عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ سُورَةَ بَرَاءَةٌ
عَلَى النَّاسِ بِمَكَّةَ بأمر النبي صلّى اللَّه عليه وآله
وَسَلَّمَ كَانَ فِي ذِي الْقَعْدَةِ
ثُمَّ صَارَ الْحَجُّ فِي السَّنَةِ الثَّانِيَةِ وَهِيَ
السَّنَةُ الَّتِي حج فيها النبي صلّى اللَّه عليه وآله وسلم
في فِي ذِي الْحِجَّةِ وَهُوَ الْوَقْتُ الَّذِي وَقَّتَهُ
اللَّه تَعَالَى لِلْحَجِّ لِأَنَّ الْمُشْرِكِينَ كَانُوا
يُنْسِئُونَ الشُّهُورَ فَاتَّفَقَ عَوْدُ الْحَجِّ فِي
السَّنَةِ الَّتِي حج فيها النبي صلّى اللَّه عليه وآله
وَسَلَّمَ إلَى الْوَقْتِ الَّذِي فَرَضَهُ اللَّه تَعَالَى
فِيهِ بَدِيًّا عَلَى إبْرَاهِيمِ وَأَمَرَهُ فِيهِ بِدُعَاءِ
النَّاسِ إلَيْهِ بِقَوْلِهِ وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ
بِالْحَجِّ يأتوك رجالا
(4/264)
ولذلك
قال النبي صلّى اللَّه عليه وآله وَسَلَّمَ وَهُوَ وَاقِفٌ
بِعَرَفَاتٍ أَلَا إنَّ الزَّمَانَ قد استدار كهيئة يَوْمَ
خَلَقَ اللَّه السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ
فَثَبَتَ الْحَجُّ فِي الْيَوْمِ التَّاسِعِ مِنْ ذِي
الْحِجَّةِ وَهُوَ يوم عرفة والنحر وهو الْيَوْمُ الْعَاشِرُ
مِنْهُ فَهَذَا قَوْلُ مَنْ يَقُولُ إنَّ الْأَرْبَعَةَ
الْأَشْهُرِ الَّتِي جَعَلَهَا لِلسِّيَاحَةِ وَقَطَعَ
بِمُضِيِّهَا عِصْمَةَ الْمُشْرِكِينَ وَعَهْدَهُمْ وَقَدْ
قِيلَ فِي جَوَازِ نَقْضِ الْعَهْدِ قَبْلَ مُضِيِّ مُدَّتِهِ
عَلَى جِهَةِ النَّبْذِ إلَيْهِمْ وَإِعْلَامِهِمْ نَصْبَ
الْحَرْبِ وَزَوَالَ الْأَمَانِ وُجُوهٌ أَحَدُهَا أَنْ
يَخَافَ غَدْرَهُمْ وَخِيَانَتَهُمْ وَالْآخَرُ أَنْ يَثْبُتَ
غَدْرُهُمْ سِرًّا فَيَنْبِذَ إلَيْهِمْ ظَاهِرًا وَالْآخَرُ
أَنْ يَكُونَ فِي شَرْطِ الْعَهْدِ أَنْ يُقِرَّهُمْ عَلَى
الْأَمَانِ مَا يَشَاءُ وَيَنْقُضَهُ متى شاء كما
قال النبي صلّى اللَّه عليه وآله وسلم لأهل خيبر أقركم ما
أقركم اللَّه
والآخر أَنَّ الْعَهْدَ الْمَشْرُوطَ إلَى مُدَّةٍ مَعْلُومَةٍ
فِيهِ ثُبُوتُ الْأَمَانِ مِنْ حَرْبِهِمْ وَقِتَالِهِمْ مِنْ
غَيْرِ عِلْمِهِمْ وَأَنْ لَا يُقْصَدُوا وَهُمْ غَارُّونَ
وَأَنَّهُ مَتَى أَعْلَمَهُمْ رَفْعَ الْأَمَانِ مِنْ
حَرْبِهِمْ فَذَلِكَ جَائِزٌ لَهُمْ وَذَلِكَ مَعْلُومٌ فِي
مَضْمُونِ الْعَهْدِ وسواء خاف غدرهم أو لم يخف وكان في شرط
العهد أن لناقضه مَتَى شِئْنَا أَوْ لَمْ يَكُنْ فَإِنَّ لَنَا
متى رأينا ذلك خطا لِلْإِسْلَامِ أَنْ نَنْبِذَ إلَيْهِمْ
وَلَيْسَ ذَلِكَ بِغَدْرٍ مِنَّا وَلَا خِيَانَةٍ وَلَا خَفْرٍ
لِلْعَهْدِ لِأَنَّ خَفْرَ الْأَمَانِ وَالْعَهْدِ أَنْ
يَأْتِيَهُمْ بَعْدَ الْأَمَانِ وَهُمْ غَارُّونَ بِأَمَانِنَا
فَأَمَّا مَتَى نَبَذْنَا إلَيْهِمْ فَقَدْ زَالَ الْأَمَانُ
وَعَادُوا حَرْبًا وَلَا يُحْتَاجُ إلَى رِضَاهُمْ فِي نَبْذِ
الْأَمَانِ إلَيْهِمْ وَلِذَلِكَ قَالَ أَصْحَابُنَا إنَّ
لِلْإِمَامِ أَنْ يُهَادِنَ الْعَدُوَّ إذَا لَمْ تَكُنْ
بِالْمُسْلِمِينَ قُوَّةٌ عَلَى قِتَالِهِمْ فَإِنْ قَوِيَ
الْمُسْلِمُونَ وَأَطَاقُوا قِتَالَهُمْ كَانَ لَهُ أَنْ
يَنْبِذَ إلَيْهِمْ وَيُقَاتِلَهُمْ وَكَذَلِكَ كُلُّ مَا
كَانَ فِيهِ صَلَاحٌ لِلْمُسْلِمِينَ فَلِلْإِمَامِ أَنْ
يَفْعَلَهُ وَلَيْسَ جَوَازُ رَفْعِ الْأَمَانِ مَوْقُوفًا
عَلَى خَوْفِ الْغَدْرِ وَالْخِيَانَةِ مِنْ قِبَلِهِمْ وَقَدْ
رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ هَذِهِ الْأَرْبَعَةَ
الْأَشْهُرِ الْحُرُمَ هِيَ رَجَبٌ وَذُو الْقَعْدَةِ وَذُو
الْحِجَّةِ إلَى آخِرِ الْمُحَرَّمِ وَقَدْ كَانَتْ سُورَةُ
بَرَاءَةٌ نَزَلَتْ حين بعث النبي صلّى اللَّه عليه وآله
وَسَلَّمَ أَبَا بَكْرٍ عَلَى الْحَجِّ وَكَانَ الْحَجُّ فِي
تِلْكَ السَّنَةِ فِي ذِي الْقَعْدَةِ فَكَأَنَّهُمْ عَلَى
هَذَا الْقَوْلِ إنَّمَا بَقِيَ عَهْدُهُمْ إلَى آخِرِ
الْأَرْبَعَةِ الْأَشْهُرِ الَّتِي هِيَ أَشْهُرُ الْحُرُمِ
وقد روى جرير بن عَنْ مُغِيرَةَ عَنْ الشَّعْبِيِّ عَنْ
الْمُحَرَّرِ بْن أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ كُنْت
مَعَ عَلِيٍّ حِينَ بَعَثَهُ رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّه
عليه وآله وَسَلَّمَ بِبَرَاءَةٌ إلَى الْمُشْرِكِينَ فَكُنْت
أُنَادِي حَتَّى صَحِلَ صَوْتِي وَكَانَ أَمَرَنَا أَنْ
نَقُولَ لَا يَحُجَّنَّ بَعْدَ الْعَامِ مُشْرِكٌ وَلَا
يَطُوفُ بِالْبَيْتِ عُرْيَانٌ وَلَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ
إلَّا مُؤْمِنٌ وَمَنْ كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَسُولِ اللَّه
عَهْدٌ فَأَجَلُهُ إلَى أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِذَا مَضَتْ
الْأَرْبَعَةُ الْأَشْهُرِ فَإِنَّ اللَّه بَرِيءٌ مِنْ
الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ
وَجَائِزٌ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْأَرْبَعَةُ الْأَشْهُرِ مِنْ
وَقْتِ
(4/265)
وَأَذَانٌ مِنَ
اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ
الْأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ
وَرَسُولُهُ فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ
تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ
وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (3)
نِدَائِهِ وَإِعْلَامِهِمْ إيَّاهُ
وَجَائِزٌ أَنْ يُرِيدَ بِهَا تَمَامَ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ
مِنْ الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ
وَقَدْ رَوَى سُفْيَانُ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ زَيْدِ بْنِ
يَثِيعَ عَنْ عَلِيٍّ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ
وآله وَسَلَّمَ بَعَثَهُ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنْ لَا
يَطُوفَ أَحَدٌ بِالْبَيْتِ عُرْيَانًا وَلَا يَدْخُلَ
الْجَنَّةَ إلَّا نَفْسٌ مُسْلِمَةٌ وَلَا يَحُجَّ مُشْرِكٌ
بَعْدَ عَامِهِ هَذَا وَمَنْ كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ
النَّبِيِّ صلّى اللَّه عليه وآله وسلم عهد فاجعله إلى مدته
فجمل
فِي حَدِيثِ عَلِيٍّ مَنْ لَهُ عَهْدٌ عَهْدُهُ إلَى أَجَلِهِ
وَلَمْ يُخَصِّصْ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ مِنْ غَيْرِهِ
وَقَالَ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ فَعَهْدُهُ إلَى
أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَيَانِ
صَحِيحَيْنِ وَأَنْ يَكُونَ جَعَلَ أَجَلَ بَعْضِهِمْ
أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ أَوْ تَمَامَ أَرْبَعَةٍ أَشْهُرٍ الَّتِي
هِيَ أَشْهُرُ الْحُرُمِ وَجَعَلَ أَجَلَ بَعْضِهِمْ إلَى
مُدَّتِهِ طَالَتْ الْمُدَّةُ أَوْ قَصُرَتْ وَذِكْرُ
الْأَرْبَعَةِ الْأَشْهُرِ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ
مُوَافِقٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى فسيحوا في الأرض أربعة أشهر
وَذِكْرُ إثْبَاتِ الْمُدَّةِ الَّتِي أَجَّلَهَا فِي حَدِيثِ
عَلِيٍّ مُوَافِقٌ
لِقَوْلِهِ تَعَالَى إِلا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ
الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ
يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ
عَهْدَهُمْ إِلَى مدتهم فكان أجل بعضهم وهم الذين خِيفَ
غَدْرُهُمْ وَخِيَانَتُهُمْ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَأَجَلُ مَنْ
لَمْ يُخْشَ غَدْرُهُمْ إلَى مُدَّتِهِ وَقَدْ رَوَى يُونُسُ
عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ قَالَ بَعَثَ النَّبِيُّ صلّى اللَّه
عليه وآله وسلم أميرا على الحج من سَنَةِ تِسْعٍ فَخَرَجَ
أَبُو بَكْرٍ وَنَزَلَتْ بَرَاءَةٌ فِي نَقْضِ مَا بَيْنَ
رَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عليه وآله وسلم والمشركين من
العهد الذي كَانُوا عَلَيْهِ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ
أَنْ لَا يُصَدَّ عَنْ الْبَيْتِ أَحَدٌ وَلَا يَخَافُ أَحَدٌ
فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ وَكَانَ ذَلِكَ عَهْدًا عَامًّا
بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَهْلِ الشِّرْكِ وَكَانَتْ بَيْنَ ذَلِكَ
عُهُودٌ بَيْنَ رَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وآله
وَسَلَّمَ وَبَيْنَ قَبَائِلِ الْعَرَبِ خَصَائِصُ إلَى آجَالٍ
مُسَمَّاةٍ فَنَزَلَتْ بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ
إِلَى الذين عاهدتم من المشركين أَهْلُ الْعَهْدِ الْعَامِّ
مِنْ أَهْلِ الشِّرْكِ مِنْ العرب فسيحوا في الارض اربعة أشهر
أن اللَّه برىء من المشركين بعده هَذِهِ الْحَجَّةِ وَقَوْلُهُ
إِلا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ المشركين يَعْنِي الْعَهْدُ
الْخَاصُّ إلَى الْأَجَلِ الْمُسَمَّى
فَإِذَا انسلخ الأشهر الحرم يَعْنِي الْأَرْبَعَةَ الَّتِي
ضَرَبَهُ لَهُمْ أَجَلًا
وَقَوْلُهُ إلا الذين عاهدتم عند المسجد الحرام مِنْ قَبَائِلِ
بَنِي بَكْرٍ الَّذِينَ كَانُوا دَخَلُوا فِي عَهْدِ قُرَيْشٍ
يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةَ إلَى الْمُدَّةِ الَّتِي كَانَتْ
بَيْنَ رَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عليه وآله وَسَلَّمَ
وَبَيْنَ قُرَيْشٍ فَلَمْ يَكُنْ نَقَضَهَا إلَّا هَذَا
الْحَيُّ مِنْ قُرَيْشٍ وَبَنُو الدِّئْلِ
فَأَمَرَ رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وآله وَسَلَّمَ
بِإِتْمَامِ الْعَهْدِ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ نَقَضَهُ مِنْ بَنِي
بَكْرٍ إلَى مُدَّتِهِ
فَمَا اسْتَقَامُوا لكم فاستقيموا لهم وَرَوَى مُعَاوِيَةُ
بْنُ صَالِحٍ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ عَنْ ابْنِ
عَبَّاسٍ في قوله فسيحوا في الأرض أربعة أشهر قَالَ جَعَلَ
اللَّه لِلَّذِينَ عَاهَدُوا رَسُولَ
(4/266)
اللَّه صلّى اللَّه عليه وآله وَسَلَّمَ
أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ يَسِيحُونَ فِيهَا حَيْثُ شَاءُوا
وَأَجَّلَ مَنْ لَيْسَ لَهُ عَهْدٌ انْسِلَاخَ الْأَشْهُرِ
الْحُرُمِ خَمْسِينَ لَيْلَةً وَأَمَرَهُ إذَا انْسَلَخَ
الْأَشْهُرُ الْحُرُمِ أَنْ يَضَعَ السَّيْفَ فِيمَنْ
عَاهَدُوا وَلَمْ يَدْخُلُوا فِي الْإِسْلَامِ وَنَقَضَ مَا
سَمَّى لَهُمْ مِنْ الْعَهْدِ وَالْمِيثَاقِ قَالَ أَبُو
بَكْرٍ جَعَلَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي هَذَا الْحَدِيثِ
الْأَرْبَعَةَ الْأَشْهُرِ الَّتِي هِيَ أَشْهُرُ الْعَهْدِ
لِمَنْ كَانَ لَهُ منهم عهد ومن لم يكن مِنْهُمْ عَهْدٌ جَعَلَ
أَجَلَهُ انْسِلَاخَ الْمُحَرَّمِ وَهُوَ تَمَامُ خَمْسِينَ
لَيْلَةً مِنْ وَقْتِ الْحَجِّ وَهُوَ الْعَشْرُ مِنْ ذِي
الْحِجَّةِ وَذَلِكَ آخِرُ وَقْتِ أَشْهُرِ الْحُرُمِ
وَرَوَى ابْنُ جُرَيْجٍ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ بَرَاءَةٌ
مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الذين عاهدتم من المشركين إلَى
أَهْلِ الْعَهْدِ مِنْ خُزَاعَةَ وَمُدْلِجَ وَمَنْ كَانَ لَهُ
عَهْدٌ مِنْ غَيْرِهِمْ قَالَ ثُمَّ بعث رسول اللَّه صلّى
اللَّه عليه وآله وسلم أَبَا بَكْرٍ وَعَلِيًّا فَأَذِنُوا
أَصْحَابَ الْعُهُودِ أَنْ يَأْمَنُوا أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ
وَهِيَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ الْمُتَوَالِيَاتُ مِنْ عَشْرٍ
مِنْ ذِي الْحِجَّةِ إلَى عَشْرٍ يخلو مِنْ شَهْرِ رَبِيعٍ
الْآخِرِ ثُمَّ لَا عَهْدَ لَهُمْ قَالَ وَهِيَ الْحُرُمُ مِنْ
أَجْلِ أَنَّهُمْ آمَنُوا فِيهَا
قَالَ أَبُو بَكْرٍ فَجَعَلَ مُجَاهِدٌ الْأَشْهُرَ الْحُرُمَ
فِي أَشْهُرِ الْعَهْدِ وَذَهَبَ إلَى أَنَّهَا إنَّمَا
سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِتَحْرِيمِ الْقِتَالِ فِيهَا وَلَيْسَتْ
هِيَ الْأَشْهُرُ الَّتِي قَالَ اللَّه فِيهَا أربعة حرم وقال
يسئلونك عن الشهر الحرام قتال فيه لِأَنَّهُ لَا خِلَافَ
أَنَّ هَذِهِ الْأَشْهُرَ هِيَ ذُو الْقَعْدَةِ وَذُو
الْحِجَّةِ وَالْمُحَرَّمُ وَرَجَبٌ وَكَذَلِكَ قال النبي صلّى
اللَّه عليه وآله وَسَلَّمَ
وَاَلَّذِي قَالَهُ مُجَاهِدٌ فِي ذَلِكَ مُحْتَمَلٌ وَقَالَ
السُّدِّيُّ فَسِيحُوا فِي الأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ قَالَ
عِشْرُونَ يَبْقَى مِنْ ذِي الْحِجَّةِ إلَى عَشْرٍ مِنْ
رَبِيعٍ الْآخِرِ ثُمَّ لَا أَمَانَ لِأَحَدٍ وَلَا عَهْدَ
إلَّا الْإِسْلَامُ أَوْ السَّيْفُ وَحَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّه
بْنُ إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ حَدَّثَنَا الحسن بْنُ أَبِي
الرَّبِيعِ الْجُرْجَانِيُّ أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ
أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ فِي قَوْلِهِ
فَسِيحُوا فِي الأَرْضِ أَرْبَعَةَ أشهر قَالَ نَزَلَتْ فِي
شَوَّالٍ وَهِيَ أَرْبَعَةٌ أَشْهُرٍ شوال وذو القعدة وذو
الحجة والمحرم وقال قَتَادَةُ عِشْرُونَ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ
وَالْمُحْرَمَ وَصَفَرَ وَرَبِيعَ الْأَوَّلَ وَعَشْرٌ مِنْ
رَبِيعٍ الْآخِرِ كَانَ ذَلِكَ فِي الْعَهْدُ الَّذِي
بَيْنَهُمْ قَالَ أَبُو بَكْرٍ قَوْلُ قَتَادَةَ مُوَافِقٌ
لِقَوْلِ مُجَاهِدٍ الَّذِي حكيناه أما قَوْلُ الزُّهْرِيِّ
فَأَظُنُّهُ وَهْمًا لِأَنَّ الرُّوَاةَ لَمْ يَخْتَلِفُوا
أَنَّ سُورَةَ بَرَاءَةٌ نَزَلَتْ فِي ذِي الْحِجَّةِ فِي
الْوَقْتِ الَّذِي بَعَثَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّه عليه وآله
وَسَلَّمَ أَبَا بَكْرٍ عَلَى الْحَجِّ ثُمَّ نَزَلَتْ بعد
خروجه سورة براءة فثبت بها مع على ليقرأها على الناس فَثَبَتَ
بِمَا ذَكَرْنَا مِنْ هَذِهِ الْأَخْبَارِ أَنَّهُ قَدْ كَانَ
بَيْنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ
وَبَيْنَ الْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عَامٌّ وَهُوَ أَنْ لَا
يَصُدَّ أَحَدًا مِنْهُمْ عَنْ الْبَيْتِ وَلَا يَخَافُ أَحَدٌ
فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ فَجَعَلَ اللَّه تَعَالَى عَهْدَهُمْ
أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ بِقَوْلِهِ تَعَالَى فَسِيحُوا في الأرض
(4/267)
أربعة أشهر
وَكَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ خَوَاصَّ مِنْهُمْ عُهُودٌ إلَى
آجال مسماة وأم بِالْوَفَاءِ لَهُمْ وَإِتْمَامِ عُهُودِهِمْ
إلَى مُدَّتِهِمْ إذَا لَمْ يَخْشَ غَدْرَهُمْ وَخِيَانَتَهُمْ
وَهُوَ قَوْله تَعَالَى إِلا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ
الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ
يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّوا إليهم عهدهم إلى
مدتهم وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مُدَّتَهُمْ إمَّا أَنْ
تَكُونَ إلَى آخِرِ الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ الَّتِي قَدْ كَانَ
اللَّه تَعَالَى حَرَّمَ الْقِتَالَ فِيهَا وَجَائِزٌ أَنْ
تَكُونَ مُدَّتُهُمْ إلَى آخِرِ الْأَرْبَعَةِ الْأَشْهُرِ
مِنْ وَقْتِ النَّبْذِ إلَيْهِمْ وَهُوَ يَوْمُ النَّحْرِ
وَآخِرُهُ عَشْرٌ مَضَيْنَ مِنْ شَهْرِ رَبِيعٍ الْآخِرِ
فَسَمَّاهَا الْأَشْهُرَ الْحُرُمَ عَلَى مَا ذَكَرَهُ
مُجَاهِدٌ لِتَحْرِيمِ الْقِتَالِ فِيهَا فَلَمْ يَكُنْ
لِأَحَدٍ مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ عَهْدٌ وَأَوْجَبَ بِمُضِيِّ
هَذِهِ الْمُدَّةِ دَفْعَ الْعُهُودِ كُلِّهَا سَوَاءٌ مَنْ
كَانَ لَهُ منهم عهد خاص أو سائر الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ
عَمَّهُمْ عَهْدُهُ فِي تَرْكِ مَنْعِهِمْ من البيت وحظره
قَتْلِهِمْ فِي أَشْهُرِ الْحُرُمِ وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ
مُرَادُهُ انْسِلَاخَ الْمُحَرَّمِ الَّذِي هُوَ آخِرُ
الْأَشْهُرِ الحرم التي كان اللَّه تعالى حظره الْقِتَالَ
فِيهَا وَقَدْ رَوَيْنَاهُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْله
تَعَالَى وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الناس يوم
الحج الأكبر يَعْنِي إعْلَامٌ مِنْ اللَّه وَرَسُولِهِ يُقَالُ
آذَنَنِي بِكَذَا أَيْ أَعْلَمَنِي فَعَلِمْت وَاخْتُلِفَ فِي
يَوْمِ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ
فَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عليه وآله وَسَلَّمَ
فِي بَعْضِ الْأَخْبَارِ أَنَّهُ يَوْمُ عَرَفَةَ وعن على
وعمرو ابن عَبَّاسٍ وَعَطَاءٍ وَمُجَاهِدٍ نَحْوُ ذَلِكَ عَلَى
اخْتِلَافٍ مِنْ الرِّوَايَةِ فِيهِ
وَرُوِيَ أَيْضًا عَنْ النَّبِيِّ صلّى اللَّه عليه وآله
وَسَلَّمَ أَنَّهُ يَوْمُ النَّحْرِ
وَعَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَعَبْدِ اللَّه بْنِ
مَسْعُودٍ وَعَبْدِ اللَّه بن أبى أو في وَإِبْرَاهِيمَ
وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَلَى اخْتِلَافٍ فِيهِ مِنْ
الرُّوَاةِ وَعَنْ مُجَاهِدٍ وَسُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ
أَيَّامُ الْحَجِّ كُلُّهَا وَهَذَا شَائِعٌ كَمَا يُقَالُ
يَوْمُ صِفِّينَ وَقَدْ كَانَ الْقِتَالُ فِي أَيَّامٍ
كَثِيرَةٍ وَرَوَى حَمَّادٌ عَنْ مُجَاهِدٍ أَيْضًا قَالَ
الْحَجُّ الْأَكْبَرُ الْقِرَانُ وَالْحَجُّ الْأَصْغَرُ
الْإِفْرَادُ وَقَدْ ضُعِّفَ هَذَا التَّأْوِيلُ مِنْ قِبَلِ
أَنَّهُ يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ لِلْإِفْرَادِ يَوْمٌ بِعَيْنِهِ
وَلِلْقِرَانِ يَوْمٌ بِعَيْنِهِ وَقَدْ عُلِمَ أَنَّ يَوْمَ
الْقِرَانِ هُوَ يَوْمُ الإفراد للحج فتبطل فائدة تفضيل اليوم
الحج الْأَكْبَرِ فَكَانَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ النِّدَاءُ
بِذَلِكَ فِي يَوْمِ الْقِرَانِ وقَوْله تَعَالَى يَوْمَ
الْحَجِّ الأكبر لَمَّا كَانَ يَوْمَ عَرَفَةَ أَوْ يَوْمَ
النَّحْرِ وَكَانَ الْحَجُّ الْأَصْغَرُ الْعُمْرَةَ وَجَبَ
أَنْ يَكُونَ أَيَّامُ الْحَجِّ غَيْرَ أَيَّامِ الْعُمْرَةِ
فَلَا تُفْعَلُ الْعُمْرَةُ فِي أَيَّامِ الْحَجِّ وَقَدْ
رُوِيَ عَنْ ابْنِ سِيرِينَ أَنَّهُ قَالَ إنَّمَا قَالَ
يَوْمَ الحج الأكبر لِأَنَّ أَعْيَادَ الْمِلَلِ اجْتَمَعَتْ
فِيهِ وَهُوَ الْعَامُ الَّذِي حَجَّ فِيهِ النَّبِيُّ صَلَّى
اللَّه عَلَيْهِ وآله وسلم فقيل هذا غلط لأن الإذن بِذَلِكَ
كَانَتْ فِي السَّنَةِ الَّتِي حَجَّ فِيهَا أَبُو بَكْرٍ
وَلِأَنَّهُ فِي السَّنَةِ الَّتِي حَجَّ فيها النبي صلّى
اللَّه عليه وآله وَسَلَّمَ لَمْ يَحُجَّ فِيهَا
الْمُشْرِكُونَ لِتَقَدُّمِ النَّهْيِ عَنْ ذَلِكَ فِي
السَّنَةِ
(4/268)
الْأُولَى وَقَالَ عَبْدُ اللَّه بْنِ
شَدَّادٍ الْحَجُّ الْأَكْبَرُ يَوْمُ النَّحْرِ وَالْحَجُّ
الْأَصْغَرُ الْعُمْرَةُ وَعَنْ ابن عباس العمر هِيَ
الْحَجَّةُ الصُّغْرَى وَعَنْ عَبْدِ اللَّه بْنِ مَسْعُودٍ
مِثْلُهُ قَالَ أَبُو بَكْرٍ قَوْلُهُ الْحَجِّ الأكبر قَدْ
اقْتَضَى أَنْ يَكُونَ هُنَاكَ حَجٌّ أَصْغَرُ وَهُوَ
الْعُمْرَةُ عَلَى مَا رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّه بْنِ
شَدَّادٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وآله
وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ الْعُمْرَةُ الْحَجَّةُ الصُّغْرَى
وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ اسْمَ الْحَجِّ يَقَعُ عَلَى الْعُمْرَةِ
ثم
قال النبي صلّى اللَّه عليه وآله وَسَلَّمَ لِلْأَقْرَعِ بْنِ
حَابِسٍ حِينَ سَأَلَهُ فَقَالَ الْحَجُّ فِي كُلِّ عَامٍ أَوْ
حَجَّةٌ وَاحِدَةٌ فقال النبي صلّى اللَّه عليه وآله وَسَلَّمَ
لَا بَلْ حَجَّةٌ وَاحِدَةٌ
وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى نَفْيِ وُجُوبِ الْعُمْرَةِ لِنَفْيِ
النَّبِيِّ الْوُجُوبَ إلَّا فِي حِجَّةِ وَاحِدَةٍ
وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّه عليه وآله وَسَلَّمَ
الْحَجُّ عَرَفَةَ
وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ هُوَ
يَوْمُ عَرَفَةَ وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ يَوْمَ النَّحْرِ
لِأَنَّ فِيهِ تَمَامَ قَضَاءِ الْمَنَاسِكِ وَالتَّفَثَ
وَيَحْتَمِلُ أَيَّامَ مِنًى عَلَى مَا رُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ
وَخَصَّهُ بِالْأَكْبَرِ لِأَنَّهُ مَخْصُوصٌ بِفِعْلِ
الْحَجِّ فِيهِ دُونَ الْعُمْرَةِ وَقَدْ قِيلَ إنَّ يَوْمَ
النَّحْرِ أَوْلَى بِأَنْ يَكُونَ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ
مِنْ يَوْمِ عَرَفَةَ لِأَنَّهُ الْيَوْمُ الَّذِي يَجْتَمِعُ
فِيهِ الْحَجُّ لِقَضَاءِ الْمَنَاسِكِ وَعَرَفَةُ قَدْ
يَأْتِيهَا بَعْضُهُمْ لَيْلًا وَبَعْضُهُمْ نَهَارًا وَأَمَّا
النِّدَاءُ بِسُورَةِ بَرَاءَةٌ فَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ يَوْمَ
عَرَفَةَ وَجَائِزٌ يَوْمَ النَّحْرِ قَالَ اللَّه تَعَالَى
فَإِذَا انْسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا
الْمُشْرِكِينَ حيث وجدتموهم رَوَى مُعَاوِيَةُ بْنُ صَالِحٍ
عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ في قوله
لست عليهم بمصيطر وقوله وما أنت عليهم بجبار وقوله تعالى فاعف
عنهم واصفح وَقَوْلِهِ قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا
لِلَّذِينَ لا يرجون أيام الله قَالَ نَسَخَ هَذَا كُلَّهُ
قَوْله تَعَالَى فَاقْتُلُوا المشركين حيث وجدتموهم وقَوْله
تَعَالَى قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ولا
باليوم الآخر الْآيَةَ وَقَالَ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ قَدْ
كَانَ النبي صلّى اللَّه عليه وآله وسلم قَبْلَ ذَلِكَ يَكُفُّ
عَمَّنْ لَمْ يُقَاتِلْهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى وَأَلْقَوْا
إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لكم عليهم سبيلا
ثُمَّ نُسِخَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ ورسوله
ثُمَّ قَالَ فَإِذَا انْسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ
فَاقْتُلُوا المشركين قَالَ أَبُو بَكْرٍ عُمُومُهُ يَقْتَضِي
قَتْلَ سَائِرِ الْمُشْرِكِينَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ
وَغَيْرِهِمْ وَأَنْ لَا يَقْبَلَ مِنْهُمْ إلَّا الْإِسْلَامَ
أَوْ السَّيْفُ إلَّا أَنَّهُ تَعَالَى خَصَّ أَهْلَ
الْكِتَابِ بِإِقْرَارِهِمْ عَلَى الجزية بقوله تَعَالَى
قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا باليوم
الآخر الآية وأخذ
النبي صلّى اللَّه عليه وآله وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَانَ إذَا
بَعَثَ سَرِيَّةً قَالَ إذَا لَقِيتُمْ الْمُشْرِكِينَ
فَادْعُوهُمْ إلَى الْإِسْلَامِ فَإِنْ أَبَوْا فَادْعُوهُمْ
إلَى أَدَاءِ الْجِزْيَةِ فَإِنْ فَعَلُوا فخذوه مِنْهُمْ
وَكُفُّوا عَنْهُمْ
وَذَلِكَ عُمُومٌ فِي سَائِرِ المشركين
(4/269)
فحصصنا منه لَمْ يَكُنْ مِنْ مُشْرِكِي
الْعَرَبِ بِالْآيَةِ وَصَارَ قوله تعالى فاقتلوا المشركين حيث
وجدتموهم خَاصًّا فِي مُشْرِكِي الْعَرَبِ دُونَ غَيْرِهِمْ
وقَوْله تعالى وخذوهم واحصروهم يدل على حبسهم بعد الأخذ
والاستبقاء بِقَتْلِهِمْ انْتِظَارًا لِإِسْلَامِهِمْ لِأَنَّ
الْحَصْرَ هُوَ الْحَبْسُ وَيَدُلُّ أَيْضًا عَلَى جَوَازِ
حَصْرِ الْكُفَّارِ فِي حُصُونِهِمْ وَمُدُنِهِمْ إنْ كَانَ
فِيهِمْ مَنْ لَا يَجُوزُ قَتْلُهُ مِنْ النِّسَاءِ
وَالصِّبْيَانِ وَأَنْ يُلْقَوْا بالحصار قوله تعالى فاقتلوا
المشركين يَقْتَضِي عُمُومُهُ جَوَازَ قَتْلِهِمْ عَلَى
سَائِرِ وُجُوهِ الْقَتْلِ إلَّا أَنَّ السُّنَّةَ قَدْ
وَرَدَتْ بِالنَّهْيِ عَنْ الْمُثْلَةِ وَعَنْ قَتْلِ
الصَّبْرِ بِالنَّبْلِ وَنَحْوِهِ
وقال النبي صلّى اللَّه عليه وآله وَسَلَّمَ أَعَفُّ النَّاسِ
قِتْلَةً أَهْلُ الْإِيمَانِ
وَقَالَ إذَا قَتَلْتُمْ فَأَحْسِنُوا الْقِتْلَةَ
وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ رَضِيَ
اللَّه عَنْهُ حِينَ قَتَلَ أَهْلَ الرِّدَّةِ بِالْإِحْرَاقِ
وَالْحِجَارَةِ وَالرَّمْيِ مِنْ رُءُوسِ الْجِبَالِ
وَالتَّنْكِيسِ فِي الْآبَارِ إنَّمَا ذَهَبَ فِيهِ إلَى
ظَاهِرِ الْآيَةِ وَكَذَلِكَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ
رَضِيَ اللَّه عَنْهُ حِينَ أَحْرَقَ قَوْمًا مُرْتَدِّينَ
جَائِزٌ أَنْ يَكُونَ اعْتَبَرَ عُمُومَ الْآيَةِ.
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصلاة
وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم لا يخلوا قَوْله تَعَالَى فَإِنْ
تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزكاة مِنْ أَنْ
يَكُونَ وُجُودُ هَذِهِ الْأَفْعَالِ مِنْهُمْ شَرْطًا فِي
زَوَالِ الْقَتْلِ عَنْهُمْ وَيَكُونَ قَبُولُ ذَلِكَ
وَالِانْقِيَادُ لِأَمْرِ اللَّه تَعَالَى فِيهِ هُوَ
الشَّرْطَ دُونَ وُجُودِ الْفِعْلِ وَمَعْلُومٌ أَنَّ وُجُودَ
التَّوْبَةِ مِنْ الشِّرْكِ شَرْطٌ لَا مَحَالَةَ فِي زَوَالِ
الْقَتْلِ وَلَا خِلَافَ أَنَّهُمْ لَوْ قَبِلُوا أَمْرَ
اللَّه فِي فِعْلِ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَلَمْ يَكُنْ
الْوَقْتُ وَقْتَ صَلَاةٍ أَنَّهُمْ مُسْلِمُونَ وَأَنَّ
دمائهم مَحْظُورَةٌ فَعَلِمْنَا أَنَّ شَرْطَ زَوَالِ
الْقَتْلِ عَنْهُمْ هُوَ قَبُولُ أَوَامِرِ اللَّه
وَالِاعْتِرَافُ بِلُزُومِهَا دُونَ فِعْلِ الصَّلَاةِ
وَالزَّكَاةِ وَلِأَنَّ إخْرَاجَ الزَّكَاةِ لَا يَلْزَمُ
بِنَفْسِ الْإِسْلَامِ إلَّا بَعْدَ حَوْلٍ فَغَيْرُ جَائِزٍ
أَنْ يَكُونَ إخْرَاجُ الزَّكَاةِ شَرْطًا فِي زَوَالِ
الْقَتْلِ وَكَذَلِكَ فِعْلُ الصَّلَاةِ لَيْسَ بِشَرْطٍ فِيهِ
وَإِنَّمَا شَرْطُهُ قَبُولُ هَذِهِ الْفَرَائِضِ
وَالْتِزَامُهَا وَالِاعْتِرَافُ بِوُجُوبِهَا فَإِنْ قِيلَ
لَمَّا قَالَ اللَّه تَعَالَى فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا
الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فشرط مع التوبة قبل الصَّلَاةِ
وَالزَّكَاةِ وَمَعْلُومٌ أَنَّ التَّوْبَةَ إنَّمَا هِيَ
الْإِقْلَاعُ عَنْ الْكُفْرِ وَالرُّجُوعُ إلَى الْإِيمَانِ
فَقَدْ عُقِلَ بِذِكْرِهِ التَّوْبَةَ الْتِزَامُ هَذِهِ
الْفَرَائِضِ وَالِاعْتِرَافُ بِهَا إذْ لَا تَصِحُّ
التَّوْبَةُ إلَّا بِهِ ثُمَّ لَمَّا شَرَطَ مَعَ التَّوْبَةِ
الصَّلَاةَ وَالزَّكَاةَ دَلَّ عَلَى أَنَّ الْمَعْنَى
الْمُزِيلَ لِلْقَتْلِ هُوَ اعْتِقَادُ الْإِيمَانِ
بِشَرَائِطِهِ وَفِعْلُ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ فَأَوْجَبَ
ذَلِكَ قَتْلَ تَارِكِ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ فِي وَقْتِ
وجوبهما
(4/270)
وَإِنْ كَانَ مُعْتَقِدًا لِلْإِيمَانِ
مُعْتَرِفًا بِلُزُومِ شَرَائِعِهِ قِيلَ لَهُ لَوْ كَانَ
فِعْلُ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مِنْ شَرَائِطِ زَوَالِ
الْقَتْلِ لَمَا زَالَ الْقَتْلُ عمن أسلم في غير وقت الصلاة
وعم لَمْ يُؤَدِّ زَكَاتَهُ مَعَ إسْلَامِهِ فَلَمَّا اتَّفَقَ
الْجَمِيعُ عَلَى زَوَالِ الْقَتْلِ عَمَّنْ وَصَفْنَا
أَمْرَهُ بَعْدَ اعْتِقَادِهِ لِلْإِيمَانِ لِلُزُومِ
شَرَائِعِهِ ثَبَتَ بِذَلِكَ أَنَّ فِعْلَ الصَّلَاةِ
وَالزَّكَاةِ لَيْسَ مِنْ شَرَائِطِ زَوَالِ الْقَتْلِ وَأَنَّ
شَرْطَهُ إظْهَارُ الْإِيمَانِ وَقَبُولُ شَرَائِعِهِ أَلَا
تَرَى أَنَّ قَبُولَ الْإِيمَانِ وَالْتِزَامَ شَرَائِعِهِ
لَمَّا كَانَ شَرْطًا فِي ذَلِكَ لَمْ يزل عنه القتل عند
إخلاصه بِبَعْضِ ذَلِكَ وَقَدْ كَانَتْ الصَّحَابَةُ سَبَتْ
ذَرَارِيَّ مَانِعِي الزَّكَاةِ وَقَتَلَتْ مُقَاتِلَتَهُمْ
وَسَمَّوْهُمْ أَهْلَ الرِّدَّةِ لِأَنَّهُمْ امْتَنَعُوا مِنْ
الْتِزَامِ الزَّكَاةِ وَقَبُولِ وُجُوبِهَا فَكَانُوا
مُرْتَدِّينَ بِذَلِكَ لِأَنَّ مِنْ كَفَرَ بِآيَةٍ مِنْ
الْقُرْآنِ فَقَدْ كَفَرَ بِهِ كُلِّهِ وَعَلَى ذَلِكَ أَجْرَى
حُكْمَهُمْ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ مَعَ سَائِرِ
الصَّحَابَةِ حِينَ قَاتَلُوهُمْ وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ
مُرْتَدُّونَ بِامْتِنَاعِهِمْ مِنْ قَبُولِ فَرْضِ الزَّكَاةِ
مَا
رَوَى مَعْمَرٍ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ أَنَسٍ قَالَ لَمَّا
تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وآله
وَسَلَّمَ ارْتَدَّتْ الْعَرَبُ كَافَّةً فَقَالَ عُمَرُ يَا
أَبَا بَكْرٍ أَتُرِيدُ أَنْ تُقَاتِلَ الْعَرَبَ كَافَّةً
فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ إنَّمَا قَالَ رَسُولُ اللَّه صلّى
اللَّه عليه وآله وَسَلَّمَ إذَا شَهِدُوا أَنْ لَا إلَهَ
إلَّا اللَّه وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّه وَأَقَامُوا
الصَّلَاةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ مَنَعُونِي دِمَاءَهُمْ
وَأَمْوَالَهُمْ واللَّه لَوْ مَنَعُونِي عِقَالًا مِمَّا
كَانُوا يُعْطُونَ إلَى رَسُولِ اللَّه صلّى اللَّه عليه وآله
وَسَلَّمَ لَقَاتَلْتُهُمْ عَلَيْهِ
وَرَوَى مُبَارَكُ بْنُ فَضَالَةَ عن الحسن قال ما قبض رسول
اللَّه صلّى اللَّه عليه وآله وَسَلَّمَ ارْتَدَّتْ الْعَرَبُ
عَنْ الْإِسْلَامِ إلَّا أَهْلَ الْمَدِينَةِ فَنَصَبَ أَبُو
بَكْرٍ لَهُمْ الْحَرْبَ فَقَالُوا فإذا تشهد أَنْ لَا إلَهَ
إلَّا اللَّه وَنُصَلِّي وَلَا نُزَكِّي فَمَشَى عُمَرُ
وَالْبَدْرِيُّونَ إلَى أَبِي بَكْرٍ وَقَالُوا دَعْهُمْ
فَإِنَّهُمْ إذَا اسْتَقَرَّ الْإِسْلَامُ فِي قُلُوبِهِمْ
وَثَبَتَ أَدَّوْا فَقَالَ واللَّه لَوْ مَنَعُونِي عِقَالًا
مِمَّا أَخَذَ رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّه عليه وآله وسلم
لقتالتهم عَلَيْهِ وَقَاتَلَ رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّه
عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ عَلَى ثَلَاثٍ شَهَادَةِ أَنْ لَا
إلَهَ إلَّا اللَّه وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ
الزَّكَاةِ
وَقَالَ اللَّه تَعَالَى فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ
وَآتَوُا الزكاة فخلوا سبيلهم واللَّه لا أسئل فَوْقَهُنَّ
وَلَا أُقَصِّرُ دُونَهُنَّ فَقَالُوا لَهُ يَا أَبَا بَكْرٍ
نَحْنُ نُزَكِّي وَلَا نَدْفَعُهَا إلَيْك فَقَالَ لَا واللَّه
حَتَّى آخُذَهَا كَمَا أَخَذَهَا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه
وآله وَسَلَّمَ وَأَضَعَهَا مَوَاضِعَهَا وَرَوَى حَمَّادُ
بْنُ زَيْدٍ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ
مِثْلَهُ
وَرَوَى الزُّهْرِيُّ عَنْ عُبَيْدِ اللَّه بْنِ عَبْدِ اللَّه
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ لَمَّا قُبِضَ رسول اللَّه صلّى
اللَّه عليه وآله وَسَلَّمَ وَاسْتُخْلِفَ أَبُو بَكْرٍ
وَارْتَدَّ مَنْ ارْتَدَّ مِنْ الْعَرَبِ بَعَثَ أَبُو بَكْرٍ
لِقِتَالِ مَنْ ارْتَدَّ عَنْ الْإِسْلَامِ فَقَالَ لَهُ
عُمَرُ يَا أَبَا بَكْرٍ أَلَمْ تَسْمَعْ رَسُولَ اللَّه
صَلَّى اللَّه عليه وآله وَسَلَّمَ يَقُولُ أُمِرْت أَنْ
أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا لَا إلَهَ إلَّا اللَّه
فَإِذَا فَعَلُوا ذلك عصموا
(4/271)
مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إلَّا
بِحَقِّهَا وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللَّه فَقَالَ لَوْ
مَنَعُونِي عِقَالًا مِمَّا كَانُوا يُؤَدُّونَهُ إلَى رَسُولِ
اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ لَقَاتَلْتهمْ
عَلَيْهِ
فَأَخْبَرَ جَمِيعُ هَؤُلَاءِ الرُّوَاةِ أَنَّ الَّذِينَ
ارْتَدُّوا مِنْ الْعَرَبِ إنَّمَا كَانَ رِدَّتُهُمْ مِنْ
جِهَةِ امْتِنَاعِهِمْ مِنْ أَدَاءِ الزَّكَاةِ وَذَلِكَ
عِنْدَنَا عَلَى أَنَّهُمْ امْتَنَعُوا مِنْ أَدَاءِ
الزَّكَاةِ عَلَى جِهَةِ الرَّدِّ لَهَا وَتَرْكِ قَبُولِهَا
فَسُمُّوا مُرْتَدِّينَ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ وَقَدْ أَخْبَرَ
أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ أَيْضًا فِي حَدِيثِ الْحَسَنِ أنه
يقاتلهم على تَرْكِ الْتِزَامِهَا وَالِاعْتِرَافِ
بِوُجُوبِهَا مُرْتَدٌّ وَأَنَّ مَانِعَهَا مِنْ الْإِمَامِ
بَعْدَ الِاعْتِرَافِ بِهَا يَسْتَحِقُّ الْقِتَالَ فَثَبَتَ
أَنَّ مَنْ أَدَّى صَدَقَةَ مَوَاشِيهِ إلَى الْفُقَرَاءِ
أَنَّ الْإِمَامَ لَا يَحْتَسِبُ لَهُ بِهَا وَأَنَّهُ مَتَى
امْتَنَعَ مِنْ دَفْعِهَا إلَى الْإِمَامِ قَاتَلَهُ عَلَيْهَا
وَكَذَلِكَ قَالَ أَصْحَابُنَا فِي صَدَقَاتِ الْمَوَاشِي
وَأَمَّا زَكَاةُ الْأَمْوَالِ فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى
اللَّه عليه وآله وَسَلَّمَ وَأَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ قَدْ
كَانُوا يَأْخُذُونَهَا كَمَا يَأْخُذُونَ صَدَقَاتِ
الْمَوَاشِي فَلَمَّا كَانَ أَيَّامُ عُثْمَانَ خَطَبَ
النَّاسَ فَقَالَ هَذَا شَهْرُ زَكَاتِكُمْ فَمَنْ كَانَ
عَلَيْهِ دَيْنٌ فَلْيُؤَدِّهِ ثُمَّ لِيُزَكِّ بَقِيَّةَ
مَالِهِ فَجَعَلَ الْأَدَاءَ إلَى أَرْبَابِ الْأَمْوَالِ
وَصَارُوا بِمَنْزِلَةِ الْوُكَلَاءِ لِلْإِمَامِ فِي
أَدَائِهَا وَهَذَا الَّذِي فَعَلَهُ أَبُو بَكْرٍ فِي
مَانِعِي الزَّكَاةِ بِمُوَافَقَةِ الصَّحَابَةِ إيَّاهُ كَانَ
مِنْ غَيْرِ خِلَافٍ منهم بعد ما تَبَيَّنُوا صِحَّةَ رَأْيِهِ
وَاجْتِهَادِهِ فِي ذَلِكَ وَيَحْتَجُّ مَنْ أَوْجَبَ قَتْلَ
تَارِكِ الصَّلَاةِ وَمَانِعِ الزَّكَاةِ عَامِدًا بِهَذِهِ
الْآيَةِ وَزَعَمَ أَنَّهَا تُوجِبُ قَتْلَ الْمُشْرِكِ إلَّا
أَنْ يُؤْمِنَ وَيُقِيمَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتِيَ الزَّكَاةَ
وَقَدْ بَيَّنَّا الْمَعْنَى فِي قَوْله تَعَالَى وأقاموا
الصلاة وآتوا الزكاة وَأَنَّ الْمُرَادَ قَبُولُ لُزُومِهِمَا
وَالْتِزَامُ فَرْضِهِمَا دُونَ فِعْلِهِمَا وَأَيْضًا
فَلَيْسَ فِي الْآيَةِ مَا ادَّعَوْا مِنْ الدَّلَالَةِ عَلَى
مَا ذَهَبُوا إلَيْهِ مِنْ قِبَلِ أَنَّهَا إنَّمَا أَوْجَبَتْ
قَتْلَ الْمُشْرِكِينَ وَمَنْ تَابَ مِنْ الشِّرْكِ وَدَخَلَ
فِي الْإِسْلَامِ وَالْتَزَمَ فروضه وأقربها فَهُوَ غَيْرُ
مُشْرِكٍ بِاتِّفَاقٍ فَلَمْ تَقْتَضِ الْآيَةُ قَتْلَهُ إذْ
كَانَ حُكْمُهَا مَقْصُورًا فِي إيجَابِ الْقَتْلِ عَلَى مَنْ
كَانَ مُشْرِكًا وَتَارِكُ الصَّلَاةِ وَمَانِعُ الزَّكَاةِ
لَيْسَ بِمُشْرِكٍ فَإِنْ قَالُوا إنَّمَا أَزَالَ الْقَتْلَ
عَنْهُ بِشَرْطَيْنِ أَحَدُهُمَا التَّوْبَةُ وَهِيَ
الْإِيمَانُ وَقَبُولُ شَرَائِعِهِ وَالْوَجْهُ الثَّانِي
فِعْلُ الصَّلَاةِ وَأَدَاءُ الزَّكَاةِ قِيلَ لَهُ إنَّمَا
أَوْجَبَ بَدِيًّا قتل المشركين بقوله تعالى فاقتلوا المشركين
فَمَتَى زَالَتْ عَنْهُمْ سِمَةُ الشِّرْكِ فَقَدْ وَجَبَ
زَوَالُ الْقَتْلِ وَيَحْتَاجُ فِي إيجَابِهِ إلَى دَلَالَةٍ
أُخْرَى مِنْ غَيْرِهِ فَإِنْ قَالَ هَذَا يُؤَدِّي إلَى
إبْطَالِ فَائِدَةِ ذِكْرِ الشَّرْطَيْنِ فِي الْآيَةِ قِيلَ
لَهُ لَيْسَ الْأَمْرُ عَلَى مَا ظَنَنْت وذلك
(4/272)
لِأَنَّ اللَّه تَعَالَى إنَّمَا جَعَلَ
هَذَيْنِ الْقُرْبَيْنِ مِنْ فِعْلِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ
الزَّكَاةِ شَرْطًا فِي وُجُوبِ تَخْلِيَةِ سَبِيلِهِمْ
لِأَنَّهُ قَالَ فَإِنْ تَابُوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة
فخلوا سبيلهم وَذَلِكَ بَعْدَ ذِكْرِهِ الْقَتْلَ
لِلْمُشْرِكِينَ بِالْحَصْرِ فَإِذَا زَالَ الْقَتْلُ
بِزَوَالِ سِمَةِ الشِّرْكِ فَالْحَصْرُ وَالْحَبْسُ بَاقٍ
لِتَرْكِ الصَّلَاةِ وَمَنْعِ الزَّكَاةِ لِأَنَّ مَنْ تَرَكَ
الصَّلَاةَ عَامِدًا وَأَصَرَّ عَلَيْهِ وَمَنَعَ الزَّكَاةَ
جَازَ لِلْإِمَامِ حَبْسُهُ فَحِينَئِذٍ لَا يَجِبُ
تَخْلِيَتُهُ إلَّا بَعْدَ فِعْلِ الصَّلَاةِ وَأَدَاءِ
الزَّكَاةِ فَانْتَظَمَتْ الْآيَةُ حُكْمَ إيجَابِ قَتْلِ
الْمُشْرِكِ وَحَبْسَ تَارِكِ الصَّلَاةِ وَمَانِعِ الزَّكَاةِ
بَعْدَ الْإِسْلَامِ حَتَّى يَفْعَلَهُمَا قَوْله تَعَالَى
وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فأجره حتى
يسمع كلام الله قَدْ اقْتَضَتْ هَذِهِ الْآيَةُ جَوَازَ
أَمَانِ الْحَرْبِيِّ إذَا طَلَبَ ذَلِكَ مِنَّا لِيَسْمَعَ
دَلَالَةَ صِحَّةِ الإسلام لأن قوله تعالى استجارك معناه
استأمنك وقوله تعالى فأجره مَعْنَاهُ فَأَمِّنْهُ حَتَّى
يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّه الَّذِي فِيهِ الدَّلَالَةُ عَلَى
صِحَّةِ التَّوْحِيدِ وَعَلَى صِحَّةِ نبوة النبي صلّى اللَّه
عليه وآله وَسَلَّمَ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْكَافِرَ
إذَا طَلَبَ مِنَّا إقَامَةَ الْحُجَّةِ عَلَيْهِ وَبَيَانَ
دَلَائِلِ التَّوْحِيدِ وَالرِّسَالَةِ حَتَّى يَعْتَقِدَهُمَا
لِحُجَّةٍ وَدَلَالَةٍ كَانَ عَلَيْنَا إقَامَةُ الْحُجَّةِ
وَبَيَانُ تَوْحِيدِ اللَّه وَصِحَّةِ نبوة النبي صلّى اللَّه
عليه وآله وَسَلَّمَ وَأَنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ لَنَا قَتْلُهُ
إذَا طَلَبَ ذَلِكَ مِنَّا إلَّا بَعْدَ بَيَانِ الدَّلَالَةِ
وَإِقَامَةِ الْحُجَّةِ لِأَنَّ اللَّه قَدْ أَمَرَنَا
بِإِعْطَائِهِ الْأَمَانِ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّه
وَفِيهِ الدَّلَالَةُ أَيْضًا عَلَى أَنَّ عَلَيْنَا تَعْلِيمَ
كُلِّ مَنْ الْتَمَسَ مِنَّا تَعْرِيفَهُ شَيْئَا مِنْ أُمُورِ
الدِّينِ لِأَنَّ الْكَافِرَ الَّذِي اسْتَجَارَنَا لِيَسْمَعَ
كَلَامَ اللَّه إنَّمَا قَصَدَ الْتِمَاسَ مَعْرِفَةِ صِحَّةِ
الدِّينِ وقَوْله تعالى ثم أبلغه مأمنه يَدُلُّ عَلَى أَنَّ
عَلَى الْإِمَامِ حِفْظَ هَذَا الْحَرْبِيِّ الْمُسْتَجِيرِ
وَحِيَاطَتَهُ وَمَنْعَ النَّاسِ مِنْ تَنَاوُلِهِ بشر لقوله
فأجره وقوله ثم أبلغه مأمنه وَفِي هَذَا دَلِيلٌ أَيْضًا عَلَى
أَنَّ عَلَى الْإِمَامِ حِفْظَ أَهْلِ الذِّمَّةِ وَالْمَنْعَ
مِنْ أَذِيَّتِهِمْ وَالتَّخَطِّي إلَى ظُلْمِهِمْ وَفِيهِ
الدَّلَالَةُ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ إقْرَارُ الْحَرْبِيِّ
فِي دَارِ الْإِسْلَامِ مُدَّةً طَوِيلَةً وَأَنَّهُ لَا
يُتْرَكُ فِيهَا إلَّا بِمِقْدَارِ قَضَاءِ حَاجَتِهِ
لِقَوْلِهِ تَعَالَى حَتَّى يَسْمَعَ كلام الله ثم أبلغه مأمنه
فَأَمَرَ
بِرَدِّهِ إلَى دَارِ الْحَرْبِ بَعْدَ سَمَاعِهِ كَلَامَ
اللَّه وَكَذَلِكَ قَالَ أَصْحَابُنَا لَا يَنْبَغِي
لِلْإِمَامِ أَنْ يَتْرُكَ الْحَرْبِيَّ فِي دَارِ
الْإِسْلَامِ مُقِيمًا بِغَيْرِ عُذْرٍ وَلَا سَبَبٍ يُوجِبُ
إقَامَتَهُ وَأَنَّ عَلَيْهِ أَنْ يَتَقَدَّمَ إلَيْهِ
بِالْخُرُوجِ إلَى دَارِهِ فَإِنْ أَقَامَ بَعْدَ التَّقَدُّمِ
إلَيْهِ سَنَةً فِي دَارِ الْإِسْلَامِ صَارَ ذِمِّيًّا
وَوُضِعَ عَلَيْهِ الْخَرَاجُ قَوْله تَعَالَى كَيْفَ يَكُونُ
لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ
إِلا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عند المسجد الحرام قَالَ أَبُو
بَكْرٍ ابْتِدَاءُ السُّورَةِ يَذْكُرُ قَطْعَ العهد بين النبي
صلّى اللَّه عليه وآله وَسَلَّمَ وَبَيْنَ الْمُشْرِكِينَ
بِقَوْلِهِ بَرَاءَةٌ مِنَ
(4/273)
وَإِنْ نَكَثُوا
أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي
دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَا
أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ (12)
اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ
عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ
وَقَدْ قِيلَ إنَّ هَؤُلَاءِ قَدْ كَانَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ
النَّبِيِّ عَهْدٌ فَغَدَرُوا وَأَسَرُّوا وَهَمُّوا بِهِ فأمر
اللَّه نبيه بالنبذ إليهم ظاهرا وفسح لَهُمْ فِي مُدَّةٍ
أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ بِقَوْلِهِ فَسِيحُوا في الأرض أربعة أشهر
وَقِيلَ إنَّهُ أَرَادَ الْعَهْدَ الَّذِي كَانَ بَيْنَهُ
وَبَيْنَ الْمُشْرِكِينَ عَامَّةً فِي أَنْ لَا يُمْنَعَ
أَحَدٌ مِنْ الْمُشْرِكِينَ مِنْ دُخُولِهِ مَكَّةَ لِلْحَجِّ
وأو لَا يُقَاتِلُوا وَلَا يَقْتُلُوا فِي الشَّهْرِ
الْحَرَامِ فكان قول براءة من الله ورسوله فِي أَحَدِ هَذَيْنِ
الْفَرِيقَيْنِ ثُمَّ اسْتَثْنَى مِنْ هَؤُلَاءِ قَوْمًا كَانَ
بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ رَسُولِ اللَّه عَهْدٌ خَاصٌّ وَلَمْ
يَغْدِرُوا وَلَمْ يَهُمُّوا بِهِ فَقَالَ إِلا الَّذِينَ
عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ
شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا فأتموا إليهم
عهدهم إلى مدتهم فَفَرَّقَ بَيْنَ حُكْمِ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ
ثَبَتُوا عَلَى عهدهم ولم ينقصوكم وَلَمْ يُعَاوِنُوا
أَعْدَاءَهُمْ عَلَيْهِمْ وَأَمَرَ بِإِتْمَامِ عَهْدِهِمْ
إلَى مُدَّتِهِمْ وَأَمَرَ بِالنَّبْذِ إلَى الْأَوَّلِينَ
وَهُمْ أَحَدُ فَرِيقَيْنِ مَنْ غَادَرَ قَاصِدًا إلَيْهِ أَوْ
لم يكن بينه وبين النبي صلّى اللَّه عليه وآله وسلم عَهْدٌ
خَاصٌّ فِي سَائِرِ أَحْوَالِهِ بَلْ فِي دخول مكة الحج
وَالْأَمَانِ فِي الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ الَّذِي كَانَ
يَأْمَنُ فِيهِ جَمِيعُ النَّاسُ وقَوْله تَعَالَى وَلَمْ
يُظَاهِرُوا عليكم أحدا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُعَاهَدَ
مَتَى عَاوَنَ عَلَيْنَا عَدُوًّا لَنَا فَقَدْ نَقَضَ
عَهْدَهُ ثُمَّ قَالَ تَعَالَى فَإِذَا انْسَلَخَ الأَشْهُرُ
الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ فَرَفَعَ بَعْدَ
انْقِضَاءِ أَشْهُرِ الْحُرُمِ عَهْدَ كُلِّ ذِي عَهْدٍ مِنْ
خَاصٍّ وَمِنْ عَامٍّ ثُمَّ قَالَ تَعَالَى كَيْفَ يَكُونُ
لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ الله وعند رسوله لِأَنَّهُمْ
غَدَرُوا وَلَمْ يَسْتَقِيمُوا ثُمَّ اسْتَثْنَى مِنْهُمْ
الَّذِينَ عَاهَدُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ قَالَ
أَبُو إِسْحَاقَ هُمْ قَوْمٌ مِنْ بَنِي كِنَانَةَ وَقَالَ
ابْنِ عَبَّاسٍ هُمْ مِنْ قُرَيْشٍ وَقَالَ مُجَاهِدٌ هم من
خُزَاعَةُ فَأَمَرَ الْمُسْلِمِينَ بِالْوَفَاءِ بِعَهْدِهِمْ
مَا اسْتَقَامُوا لَهُمْ فِي الْوَفَاءِ بِهِ وَجَائِزٌ أَنْ
تَكُونَ مُدَّةُ هَؤُلَاءِ فِي الْعَهْدِ دُونَ مُضِيِّ
أَشْهُرِ الْحُرُمِ لِأَنَّهُ قَالَ فَإِذَا انْسَلَخَ
الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ
وجدتموهم وَعُمُومُهُ يَقْتَضِي رَفْعَ سَائِرِ الْعُهُودِ
الَّتِي كَانَتْ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَالْكُفَّارِ
وَجَائِزٌ أَنْ تَكُونَ مُدَّةُ عَهْدِهِمْ بَعْدَ انْقِضَاءِ
الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ وَكَانُوا مَخْصُوصِينَ مِمَّنْ
أُمِرُوا بِقَتْلِهِمْ بَعْدَ انْسِلَاخِ الْأَشْهُرِ
الْحُرُمِ وَأَنَّ ذَلِكَ إنَّمَا كَانَ خَاصًّا فِي قَوْمٍ
مِنْهُمْ كَانُوا أَهْلَ غَدْرٍ وَخِيَانَةٍ لِأَنَّهُ قَالَ
فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَنْ
أَظْهَرَ لَنَا الْإِيمَانَ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى
الزَّكَاةَ فَعَلَيْنَا مُوَالَاتُهُ فِي الدِّينِ عَلَى
ظَاهِرِ أَمْرِهِ مَعَ وُجُودِ أَنْ يَكُونَ اعْتِقَادُهُ فِي
الْمَغِيبِ خِلَافَهُ
قَوْله تَعَالَى وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ
عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا في دينكم
(4/274)
فقاتلوا أئمة الكفر
فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ أَهْلَ الْعَهْدِ مَتَى خَالَفُوا
شَيْئًا مِمَّا عُوهِدُوا عَلَيْهِ وَطَعَنُوا فِي دِينِنَا
فَقَدْ نَقَضُوا الْعَهْدَ وَذَلِكَ لِأَنَّ نَكْثَ
الْأَيْمَانِ يَكُونُ بِمُخَالَفَةِ بَعْضِ الْمَحْلُوفِ
عَلَيْهِ إذَا كَانَتْ الْيَمِينُ فِيهِ عَلَى وَجْهِ
النَّفْيِ كَقَوْلِهِ واللَّه لا كلمت زيدا ولا عمرو وَلَا
دَخَلْت هَذِهِ الدَّارَ وَلَا هَذِهِ أَيَّهمَا فَعَلَ حَنِثَ
وَنَكَثَ يَمِينَهُ ثُمَّ لَمَّا ضَمَّ إلَى ذَلِكَ الطَّعْنَ
فِي الدِّينِ دَلَّ عَلَى أَنَّ أَهْلَ الْعَهْدِ مِنْ شُرُوطِ
بَقَاءِ عَهْدِهِمْ تَرْكُهُمْ لِلطَّعْنِ فِي دِينِنَا
وَأَنَّ أَهْلَ الذِّمَّةِ مَمْنُوعُونَ مِنْ إظْهَارِ
الطَّعْنِ فِي دَيْنِ الْمُسْلِمِينَ وَهُوَ يَشْهَدُ لِقَوْلِ
مَنْ يَقُولُ مِنْ الْفُقَهَاءِ إنَّ مَنْ أَظْهَرَ شَتْمَ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عليه وآله وَسَلَّمَ مِنْ أَهْلِ
الذِّمَّةِ فَقَدْ نَقَضَ عَهْدَهُ وَوَجَبَ قَتْلُهُ وَقَدْ
اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي ذَلِكَ فَقَالَ أَصْحَابُنَا
يُعَزَّرُ وَلَا يُقْتَلُ وَهُوَ قَوْلُ الثَّوْرِيِّ وَرَوَى
ابْنُ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ فِيمَنْ شتم النبي صلّى اللَّه
عليه وآله وَسَلَّمَ مِنْ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى قُتِلَ
إلَّا أَنْ يُسْلِمَ وَرَوَى الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ عَنْ
الْأَوْزَاعِيُّ وَمَالِكٍ فِيمَنْ سَبَّ رَسُولَ اللَّه
صَلَّى اللَّه عليه وآله وَسَلَّمَ قَالَا هِيَ رِدَّةٌ
يُسْتَتَابُ فَإِنْ تَابَ نَكَلَ وَإِنْ لَمْ يَتُبْ قُتِلَ
قَالَ يُضْرَبُ مائة ثم يترك حتى إذا هن برىء ضُرِبَ مِائَةً
وَلَمْ يَذْكُرْ فَرْقًا بَيْنَ الْمُسْلِمِ وَالذِّمِّيِّ
وَقَالَ اللَّيْثُ فِي الْمُسْلِمِ يَسُبُّ النَّبِيَّ صلّى
اللَّه عليه وآله وَسَلَّمَ إنَّهُ لَا يُنَاظَرُ وَلَا
يُسْتَتَابُ وَيُقْتَلُ مكانه وكذلك اليهود والنصارى وَقَالَ
الشَّافِعِيُّ وَيُشْتَرَطُ عَلَى الْمُصَالِحِينَ مِنْ
الْكُفَّارِ أَنَّ مَنْ ذَكَرَ كِتَابَ اللَّه أَوْ مُحَمَّدًا
رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وآله وَسَلَّمَ بِمَا لَا
يَنْبَغِي أَوْ زَنَى بِمُسْلِمَةٍ أَوْ أَصَابَهَا بِاسْمِ
نِكَاحٍ أَوْ فَتَنَ مُسْلِمًا عَنْ دِينِهِ أَوْ قَطَعَ
عَلَيْهِ طَرِيقًا أَوْ أَعَانَ أَهْلَ الْحَرْبِ بِدَلَالَةٍ
عَلَى الْمُسْلِمِينَ أَوْ آوَى عَيْنًا لَهُمْ فَقَدْ نَقَضَ
عَهْدَهُ وَأُحِلَّ دَمُهُ وَبَرِئَتْ مِنْهُ ذِمَّةُ اللَّه
وَذِمَّةُ رَسُولِهِ وَظَاهِرُ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ
مَنْ أَظْهَرَ سب النبي صلّى اللَّه عليه وآله وَسَلَّمَ مِنْ
أَهْلِ الْعَهْدِ فَقَدْ نَقَضَ عَهْدَهُ لِأَنَّهُ قَالَ
تَعَالَى وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ
عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ
الكفر فَجَعَلَ الطَّعْنَ فِي دِينِنَا بِمَنْزِلَةِ نَكْثِ
الْأَيْمَانِ إذْ مَعْلُومٌ أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ أَنْ يَجْعَلَ
نَكْثَ الْأَيْمَانِ وَالطَّعْنَ فِي الدِّينِ
بِمَجْمُوعِهِمَا شَرْطًا فِي نَقْضِ الْعَهْدِ لِأَنَّهُمْ
لَوْ نَكَثُوا الْأَيْمَانَ بِقِتَالِ الْمُسْلِمِينَ وَلَمْ
يُظْهِرُوا الطَّعْنَ فِي الدِّينِ لَكَانُوا نَاقِضِينَ
لِلْعَهْدِ وَقَدْ جَعَلَ رَسُولُ اللَّه صلّى اللَّه عليه
وآله وسلم مُعَاوَنَةَ قُرَيْشٍ بَنِي بَكْرٍ عَلَى خُزَاعَةَ
وَهُمْ حلفاء النبي صلّى اللَّه عليه وآله وَسَلَّمَ نَقْضًا
لِلْعَهْدِ وَكَانُوا يَفْعَلُونَ ذَلِكَ سِرًّا وَلَمْ يَكُنْ
مِنْهُمْ إظْهَارُ طَعْنٍ فِي الدِّينِ فَثَبَتَ بِذَلِكَ
أَنَّ مَعْنَى الْآيَةِ وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ
بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا
أَئِمَّةَ الْكُفْرِ فَإِذَا ثَبَتَ ذَلِكَ كَانَ مَنْ
أَظْهَرَ سَبَّ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وآله
وَسَلَّمَ مِنْ أَهْلِ الْعَهْدِ نَاقِضًا لِلْعَهْدِ إذْ سب
رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وآله وسلم من أكثر فِي الدِّينِ
فَهَذَا وَجْهٌ يَحْتَجُّ بِهِ الْقَائِلُونَ
(4/275)
بِمَا وَصَفْنَا وَمِمَّا يُحْتَجُّ بِهِ
لِذَلِكَ مَا رَوَى أَبُو يُوسُفَ عَنْ حُصَيْنِ بْنِ عَبْدِ
الرَّحْمَنِ عَنْ رِجْلٍ عَنْ أَبِي عِمْرَانَ أَنَّ رَجُلًا
قَالَ لَهُ إنِّي سَمِعْت رَاهِبًا سَبَّ النبي صلّى اللَّه
عليه وآله وسلم فقال لو سمعته لقتله إنَّا لَمْ نُعْطِهِمْ
الْعَهْدَ عَلَى هَذَا وَهُوَ إسْنَادٌ ضَعِيفٌ وَجَائِزٌ أَنْ
يَكُونَ قَدْ شَرَطَ عَلَيْهِمْ أَنْ لَا يُظْهِرُوا سَبَّ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عليه وآله وَسَلَّمَ
وَقَدْ رَوَى سَعِيدٌ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أنس يَهُودِيًّا
مَرَّ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ
فَقَالَ السَّامُ عَلَيْك فَقَالَ رَسُولُ اللَّه صلّى اللَّه
عليه وآله وسلم أتدرون ما قال فقالوا نَعَمْ ثُمَّ رَجَعَ
فَقَالَ مِثْلَ ذَلِكَ فَقَالَ رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه
وآله وَسَلَّمَ إذَا سَلَّمَ عَلَيْكُمْ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ
الْكِتَابِ فَقُولُوا عَلَيْك
وَرَوَى الزُّهْرِيُّ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ
دَخَلَ رَهْطٌ مِنْ الْيَهُودِ على النبي صلّى اللَّه عليه
وآله وسلم فقالوا السام عليكم قالت ففهمتها فقالت وعليكم السام
واللعنة فقال النبي صلّى اللَّه عليه وآله وسلم مَهْلًا يَا
عَائِشَةُ فَإِنَّ اللَّه يُحِبُّ الرِّفْقَ فِي الْأَمْرِ
كُلِّهِ فَقُلْت يَا رَسُولَ اللَّه أَلَمْ تَسْمَعْ مَا
قَالُوا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّه عليه وآله وَسَلَّمَ
قُلْت عَلَيْكُمْ
وَمَعْلُومٌ أَنَّ مِثْلَهُ لَوْ كَانَ مِنْ مُسْلِمٍ لَصَارَ
بِهِ مُرْتَدًّا مُسْتَحِقًّا لِلْقَتْلِ وَلَمْ يَقْتُلْهُمْ
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ بِذَلِكَ
وَرَوَى شُعْبَةُ عَنْ هِشَامِ بْنِ يَزِيدَ عَنْ أَنَسِ بْنِ
مَالِكٍ أَنَّ امْرَأَةً يهودية أتت النبي صلّى اللَّه عليه
وآله وَسَلَّمَ بِشَاةٍ مَسْمُومَةٍ فَأَكَلَ مِنْهَا فَجِيءَ
بِهَا فَقَالُوا أَلَا تَقْتُلُهَا قَالَ لَا
قَالَ فَمَا زِلْت أَعْرِفُهَا فِي سَهَوَاتِ رَسُولِ اللَّه
صَلَّى اللَّه عليه وآله وَسَلَّمَ وَلَا خِلَافَ بَيْنَ
الْمُسْلِمِينَ أَنَّ مَنْ قصد النبي صلّى اللَّه عليه وآله
وَسَلَّمَ بِذَلِكَ فَهُوَ مِمَّنْ يَنْتَحِلُ الْإِسْلَامَ
أَنَّهُ مُرْتَدٌّ يَسْتَحِقُّ الْقَتْلَ وَلَمْ يَجْعَلْ
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّه عليه وآله وَسَلَّمَ مُبِيحَةً
لِدَمِهَا بِمَا فَعَلَتْ فَكَذَلِكَ إظْهَارُ سب النبي صلّى
اللَّه عليه وآله وَسَلَّمَ مِنْ الذِّمِّيِّ مُخَالِفٌ
لِإِظْهَارِ الْمُسْلِمِ لَهُ وقوله فقاتلوا أئمة الكفر رَوَى
ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ أَنَّهُمْ رُؤَسَاءُ قُرَيْشٍ
وَقَالَ قَتَادَةُ أَبُو جَهْلٍ وَأُمَيَّةُ بْنُ خَلَفٍ
وَعُتْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ وَسُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو وَهُمْ
الَّذِينَ هَمُّوا بِإِخْرَاجِهِ
قَالَ أَبُو بَكْرٍ وَلَمْ يُخْتَلَفْ فِي أَنَّ سُورَةَ
بَرَاءَةٌ نَزَلَتْ بَعْدَ فَتْحِ مَكَّةَ وَأَنَّ النَّبِيَّ
صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ بَعَثَ بِهَا مَعَ
عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ لِيَقْرَأَهَا عَلَى النَّاسِ فِي
سَنَةِ تِسْعٍ
وَهِيَ السَّنَةُ الَّتِي حَجَّ فِيهَا أَبُو بَكْرٍ وَقَدْ
كَانَ أَبُو جَهْلٍ وَأُمَيَّةُ بْنُ خَلَفٍ وَعُتْبَةُ بْنُ
رَبِيعَةَ قَدْ كَانُوا قُتِلُوا يَوْمَ بَدْرٍ وَلَمْ يَكُنْ
بَقِيَ مِنْ رُؤَسَاءِ قُرَيْشٍ أَحَدٌ يُظْهِرُ الْكُفْرَ فِي
وَقْتِ نُزُولِ بَرَاءَةٌ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ
رِوَايَةَ مَنْ رَوَى ذَلِكَ فِي رُؤَسَاءِ قُرَيْشٍ وَهُمْ
اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ قَوْمًا مِنْ
قُرَيْشٍ قَدْ كَانُوا أَظْهَرُوا الْإِسْلَامَ وَهُمْ
الطُّلَقَاءُ مِنْ نَحْوِ أَبِي سُفْيَانَ وَأَحْزَابِهِ
مِمَّنْ لَمْ يَنْقَ قَلْبُهُ مِنْ الْكُفْرِ فَيَكُونُ
مُرَادُ الْآيَةِ هَؤُلَاءِ دُونَ أَهْلِ الْعَهْدِ مِنْ
الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ لَمْ يُظْهِرُوا الْإِسْلَامَ وَهُمْ
الَّذِينَ كَانُوا هَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ مِنْ
مَكَّةَ وَبَدَرَهُمْ بِالْقِتَالِ وَالْحَرْبِ بَعْدَ
الْهِجْرَةِ وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ مُرَادُهُ هَؤُلَاءِ
الَّذِينَ ذَكَرْنَا وَسَائِرَ رُؤَسَاءِ الْعَرَبِ الَّذِينَ
كَانُوا
(4/276)
أَلَا تُقَاتِلُونَ
قَوْمًا نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ
الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ
أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ
كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (13)
مُعَاضِدِينَ لِقُرَيْشٍ عَلَى حَرْبِ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عليه وآله وَسَلَّمَ وَقِتَالِ
الْمُسْلِمِينَ فَأَمَرَ اللَّه تَعَالَى بِقِتَالِهِمْ
وَقَتْلِهِمْ إنْ هُمْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَطَعَنُوا فِي
دِينِ الْمُسْلِمِينَ وقَوْله تَعَالَى إِنَّهُمْ لا أَيْمَانَ
لهم مَعْنَاهُ لَا أَيْمَانَ لَهُمْ وَافِيَةً مَوْثُوقًا
بِهَا وَلَمْ يَنْفِ بِهِ وُجُودَ الْأَيْمَانِ مِنْهُمْ
لِأَنَّهُ قَدْ قَالَ بَدِيًّا وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ
مِنْ بعد عهدهم
وَعَطَفَ عَلَى ذَلِكَ أَيْضًا قَوْلَهُ أَلا تُقَاتِلُونَ
قوما نكثوا أيمانهم فثبت أنه لم برد بقوله لا أيمان لهم نَفْيَ
الْأَيْمَانِ أَصْلًا وَإِنَّمَا أَرَادَ بِهِ نَفْيَ
الْوَفَاءِ بِهَا وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ إطْلَاقِ لَا
وَالْمُرَادُ نَفْيُ الْفَضْلِ دُونَ نَفْيِ الْأَصْلِ
وَلِذَلِكَ نَظَائِرُ مَوْجُودَةٌ فِي السُّنَنِ وَفِي كَلَامِ
الناس
كقوله صلّى اللَّه عليه وآله وَسَلَّمَ لَا صَلَاةَ لِجَارِ
الْمَسْجِدِ إلَّا فِي الْمَسْجِدِ
وليس بِمُؤْمِنٍ مَنْ لَا يَأْمَنُ جَارُهُ بَوَائِقَهُ
وَلَا وُضُوءَ لِمَنْ لَمْ يَذْكُرْ اسْمَ اللَّه
وَنَحْوُ ذَلِكَ فَأَطْلَقَ الْإِمَامَةَ فِي الْكُفْرِ
لِأَنَّ الْإِمَامَ هُوَ الْمُقْتَدَى بِهِ الْمُتَّبَعُ فِي
الْخَيْرِ وَالشَّرِّ قَالَ اللَّه تَعَالَى وَجَعَلْنَاهُمْ
أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النار وَقَالَ فِي الْخَيْرِ
وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا فَالْإِمَامُ
فِي الْخَيْرِ هَادٍ مُهْتَدٍ وَالْإِمَامُ فِي الشر ضال مضل
قد قِيلَ إنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي الْيَهُودِ
الَّذِينَ كَانُوا غَدَرُوا بِرَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه
عليه وآله وَسَلَّمَ وَنَكَثُوا مَا كَانُوا أَعْطَوْا مِنْ
الْعُهُودِ وَالْأَيْمَانِ عَلَى أَنْ لَا يُعِينُوا عَلَيْهِ
أَعْدَاءَهُ مِنْ الْمُشْرِكِينَ وَهَمُّوا بِمُعَاوَنَةِ
الْمُنَافِقِينَ وَالْكُفَّارِ عَلَى إخراج النبي صلّى اللَّه
عليه وآله وَسَلَّمَ مِنْ الْمَدِينَةِ وَأَخْبَرَ أَنَّهُمْ
بَدَءُوا بِالْغَدْرِ وَنَكْثِ الْعَهْدِ
وَأَمَرَ بِقِتَالِهِمْ بِقَوْلِهِ قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ
الله بأيديكم وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ جَمِيعُ ذَلِكَ
مُرَتَّبًا عَلَى قَوْلِهِ وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ
بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ قَدْ كَانُوا
نَقَضُوا الْعَهْدَ بقوله ألا تقاتلون قوما نكثوا أيمانهم
قَوْله تَعَالَى أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا
يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ
يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلا رَسُولِهِ وَلا
الْمُؤْمِنِينَ وليجة فَإِنَّ مَعْنَاهُ أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ
تُتْرَكُوا وَلَمْ تُجَاهِدُوا لِأَنَّهُمْ إذَا جَاهَدُوا
عَلِمَ اللَّه ذَلِكَ مِنْهُمْ فَأَطْلَقَ اسْمَ الْعِلْمِ
وَأَرَادَ بِهِ قِيَامَهُمْ بِفَرْضِ الْجِهَادِ حَتَّى
يَعْلَمَ اللَّه وُجُودَ ذَلِكَ منهم وَقَوْلِهِ وَلَمْ
يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلا رسوله ولا المؤمنين وليجة
يَقْتَضِي لُزُومَ اتِّبَاعِ الْمُؤْمِنِينَ وَتَرْكَ
الْعُدُولِ عَنْهُمْ كَمَا يَلْزَمُ اتِّبَاعُ النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى
لُزُومِ حُجَّةِ الْإِجْمَاعِ وَهُوَ كَقَوْلِهِ وَمَنْ
يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى
وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ المؤمنين نوله ما تولى
وَالْوَلِيجَةُ الْمَدْخَلُ يُقَالُ وَلَجَ إذَا دَخَلَ
كَأَنَّهُ قَالَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لَهُ مَدْخَلٌ
غَيْرُ مَدْخَلِ الْمُؤْمِنِينَ وَيُقَالُ إنَّ الْوَلِيجَةَ
بِمَعْنَى الدَّخِيلَةِ وَالْبِطَانَةِ وَهِيَ مِنْ
الْمُدَاخَلَةِ وَالْمُخَالَطَةِ وَالْمُؤَانَسَةِ فَإِنْ
كَانَ الْمَعْنَى هَذَا فَقَدْ دَلَّ عَلَى النَّهْيِ عَنْ
مُخَالَطَةِ غَيْرِ الْمُؤْمِنِينَ وَمُدَاخَلَتِهِمْ
(4/277)
مَا كَانَ
لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ
عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُولَئِكَ حَبِطَتْ
أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ (17)
وَتَرْكِ الِاسْتِعَانَةِ بِهِمْ فِي
أُمُورِ الدِّينِ كَمَا قال لا تتخذوا بطانة من دونكم.
قَوْله تَعَالَى مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا
مساجد الله عمارة المسجد تكون بمعنيين أحدهما زيارته والسكون
فِيهِ وَالْآخَرُ بِبِنَائِهِ وَتَجْدِيدِ مَا اسْتَرَمَّ
مِنْهُ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ يُقَالُ اعْتَمَرَ إذَا زَارَ
وَمِنْهُ الْعُمْرَةُ لِأَنَّهَا زِيَارَةُ الْبَيْتِ
وَفُلَانٌ مِنْ عَمَّارِ الْمَسَاجِدِ إذَا كَانَ كَثِيرَ
الْمُضِيِّ إلَيْهَا وَالسُّكُونِ فِيهَا وَفُلَانٌ يَعْمُرُ
مَجْلِسَ فُلَانٍ إذَا أَكْثَرَ غَشَيَانَهُ لَهُ فَاقْتَضَتْ
الْآيَةُ مَنْعَ الْكُفَّارِ مِنْ دُخُولِ الْمَسَاجِدِ وَمِنْ
بِنَائِهَا وَتُوَلِّي مَصَالِحِهَا وَالْقِيَامِ بِهَا
لِانْتِظَامِ اللَّفْظِ لِلْأَمْرَيْنِ
قَوْله تَعَالَى يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا
تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أولياء إن استحبوا
الكفر على الإيمان فِيهِ نَهْيٌ لِلْمُؤْمِنِينَ عَنْ
مُوَالَاةِ الْكُفَّارِ وَنُصْرَتِهِمْ وَالِاسْتِنْصَارِ
بِهِمْ وَتَفْوِيضِ أُمُورِهِمْ إلَيْهِمْ وَإِيجَابِ
التَّبَرِّي مِنْهُمْ وَتَرْكِ تَعْظِيمِهِمْ وَإِكْرَامِهِمْ
وَسَوَاءٌ بَيْنَ الْآبَاءِ وَالْإِخْوَانِ فِي ذَلِكَ إلَّا
أَنَّهُ قَدْ أَمَرَ مَعَ ذَلِكَ بِالْإِحْسَانِ إلَى الْأَبِ
الْكَافِرِ وَصُحْبَتِهِ بالمعروف بقوله تعالى ووصينا الإنسان
بوالديه- إلَى قَوْلِهِ- وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ
تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تطعهما
وصاحبهما في الدنيا معروفا وإنما أمر المؤمنين بذلك يتميزوا من
المنافقين إذا كَانَ الْمُنَافِقُونَ يَتَوَلَّوْنَ
الْكُفَّارَ وَيُظْهِرُونَ إكْرَامَهُمْ وَتَعْظِيمَهُمْ إذَا
لَقُوهُمْ وَيُظْهِرُونَ لَهُمْ الْوِلَايَةَ وَالْحِيَاطَةَ
فَجَعَلَ اللَّه تَعَالَى مَا أَمَرَ بِهِ الْمُؤْمِنَ فِي
هَذِهِ الْآيَةِ عَلَمًا يَتَمَيَّزُ بِهِ الْمُؤْمِنُ مِنْ
الْمُنَافِقِ وَأَخْبَرَ أَنَّ مَنْ لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ
فَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ مُسْتَحِقٌّ لِلْعُقُوبَةِ مِنْ
رَبِّهِ
قَوْله تَعَالَى إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا
يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الحرام بعد عامهم هذا إطْلَاقُ اسْمِ
النَّجَسِ عَلَى الْمُشْرِكِ مِنْ جِهَةِ أَنَّ الشِّرْكَ
الَّذِي يَعْتَقِدُهُ يَجِبُ اجْتِنَابُهُ كَمَا يَجِبُ
اجْتِنَابُ النَّجَاسَاتِ وَالْأَقْذَارِ فَلِذَلِكَ
سَمَّاهُمْ نَجَسًا وَالنَّجَاسَةُ فِي الشَّرْعِ تَنْصَرِفُ
عَلَى وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا نَجَاسَةُ الْأَعْيَانِ
وَالْآخَرُ نَجَاسَةُ الذُّنُوبِ وَكَذَلِكَ الرِّجْسُ
وَالرِّجْزُ يَنْصَرِفُ عَلَى هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ فِي
الشَّرْعِ قَالَ اللَّه تَعَالَى إِنَّمَا الْخَمْرُ
وَالْمَيْسِرُ وَالأَنْصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ من عمل
الشيطان وَقَالَ فِي وَصْفِ الْمُنَافِقِينَ سَيَحْلِفُونَ
بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا
عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إنهم رجس فَسَمَّاهُمْ رِجْسًا
كَمَا سَمَّى الْمُشْرِكِينَ نَجَسًا وَقَدْ أفاد قوله إنما
المشركون نجس مَنْعَهُمْ عَنْ دُخُولِ الْمَسْجِدِ إلَّا
لِعُذْرٍ إذْ كَانَ عَلَيْنَا تَطْهِيرُ الْمَسَاجِدِ مِنْ
الْأَنْجَاسِ وقَوْله تَعَالَى فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ
الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا قَدْ تَنَازَعَ مَعْنَاهُ
أَهْلُ الْعِلْمِ فَقَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ لَا
يَدْخُلُ الْمُشْرِكُ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ قَالَ مالك
(4/278)
وَلَا غَيْرَهُ مِنْ الْمَسَاجِدِ إلَّا
لِحَاجَةٍ مِنْ نَحْوِ الذِّمِّيِّ يَدْخُلُ إلَى الْحَاكِمِ
فِي الْمَسْجِدِ لِلْخُصُومَةِ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ يَدْخُلُ
كُلَّ مَسْجِدٍ إلَّا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ خَاصَّةً وَقَالَ
أَصْحَابُنَا يَجُوزُ لِلذِّمِّيِّ دُخُولُ سَائِرِ
الْمَسَاجِدِ وَإِنَّمَا مَعْنَى الْآيَةِ عَلَى أَحَدِ
وَجْهَيْنِ إمَّا أَنْ يَكُونَ النَّهْيُ خَاصًّا فِي
الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ كَانُوا مَمْنُوعِينَ مِنْ دُخُولِ
مَكَّةَ وَسَائِرِ الْمَسَاجِدِ لِأَنَّهُمْ لَمْ تَكُنْ
لَهُمْ ذِمَّةٌ وَكَانَ لَا يُقْبَلُ مِنْهُمْ إلَّا
الْإِسْلَامُ أو السيف وهم مشركوا الْعَرَبِ أَوْ أَنْ يَكُونَ
الْمُرَادُ مَنْعَهُمْ مِنْ دُخُولِ مَكَّةَ لِلْحَجِّ
وَلِذَلِكَ أَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ بِالنِّدَاءِ يَوْمَ النَّحْرِ فِي السَّنَةِ
الَّتِي حَجَّ فِيهَا أَبُو بَكْرٍ فِيمَا رَوَى الزُّهْرِيِّ
عَنْ حُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ
أَنَّ أَبَا بَكْرٍ بَعَثَهُ فِيمَنْ يُؤَذِّنُ يَوْمَ
النَّحْرِ بِمِنًى أَنْ لَا يحج بعد العام مشرك فنبذ أبو بكر
إلى الناس فلم يحج في الْعَامُ الَّذِي حَجَّ فِيهِ النَّبِيُّ
صَلَّى اللَّهُ عليه وسلّم مُشْرِكٌ فَأَنْزَلَ اللَّهُ
تَعَالَى فِي الْعَامِ الَّذِي نَبَذَ فِيهِ أَبُو بَكْرٍ إلَى
الْمُشْرِكِينَ يَا أيها الذين آمنوا إنما المشركون نجس
الْآيَةَ
وَفِي حَدِيثِ عَلِيٍّ حِينَ أَمَرَهُ النَّبِيُّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنْ يُبَلِّغَ عَنْهُ سُورَةَ
بَرَاءَةٌ نَادَى وَلَا يَحُجُّ بَعْدَ الْعَامِ مُشْرِكٌ
وَفِي ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى الْمُرَادِ بِقَوْلِهِ فلا يقربوا
المسجد الحرام وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْله تَعَالَى فِي نَسَقِ
التِّلَاوَةِ وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ
اللَّهُ مِنْ فضله إن شاء وَإِنَّمَا كَانَتْ خَشْيَةُ
الْعَيْلَةِ لِانْقِطَاعِ تِلْكَ الْمَوَاسِمِ بِمَنْعِهِمْ
مِنْ الْحَجِّ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَنْتَفِعُونَ
بِالتِّجَارَاتِ الَّتِي كَانَتْ تَكُونُ فِي مَوَاسِمِ
الْحَجِّ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ مُرَادَ الْآيَةِ
الْحَجُّ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ اتِّفَاقُ الْمُسْلِمِينَ عَلَى
مَنْعِ الْمُشْرِكِينَ مِنْ الْحَجِّ وَالْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ
وَالْمُزْدَلِفَةِ وَسَائِرِ أَفْعَالِ الْحَجِّ وَإِنْ لَمْ
يَكُنْ فِي الْمَسْجِدِ وَلَمْ يَكُنْ أَهْلُ الذِّمَّةِ
مَمْنُوعِينَ مِنْ هَذِهِ الْمَوَاضِعِ ثَبَتَ أَنَّ مُرَادَ
الْآيَةِ هُوَ الْحَجُّ دُونَ قُرْبِ الْمَسْجِدِ لِغَيْرِ
الْحَجِّ لِأَنَّهُ إذَا حُمِلَ عَلَى ذَلِكَ كَانَ عُمُومًا
فِي سَائِرِ الْمُشْرِكِينَ وَإِذَا حُمِلَ عَلَى دُخُولِ
الْمَسْجِدِ كَانَ خَاصًّا فِي ذلك دون ما قُرْبِ الْمَسْجِدِ
وَاَلَّذِي فِي الْآيَةِ النَّهْيُ عَنْ قُرْبِ الْمَسْجِدِ
فَغَيْرُ جَائِزٍ تَخْصِيصُ الْمَسْجِدِ بِهِ دُونَ مَا
يَقْرُبُ مِنْهُ
وَقَدْ رَوَى حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ عَنْ حُمَيْدٍ عَنْ
الْحَسَنِ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي الْعَاصِ أَنَّ وَفْدَ
ثَقِيفٍ لَمَّا قَدِمُوا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ضَرَبَ لَهُمْ قُبَّةً فِي الْمَسْجِدِ
فَقَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ قَوْمٌ أَنْجَاسٌ فَقَالَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه ليس
على الأرض من أنجاس الناس شَيْءٌ إنَّمَا أَنْجَاسُ النَّاسِ
عَلَى أَنْفُسِهِمْ
وَرَوَى يُونُسُ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ
الْمُسَيِّبِ أَنَّ أَبَا سُفْيَانَ كَانَ يَدْخُلُ مَسْجِدَ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ كَافِرٌ
غَيْرَ أَنَّ ذَلِكَ لَا يَحِلُّ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ
لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ
الْحَرَامَ قَالَ أَبُو بَكْرٍ فَأَمَّا وَفْدُ ثَقِيفٍ
فَإِنَّهُمْ جَاءُوا بَعْدَ فَتْحِ مَكَّةَ
(4/279)
إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ
وَالْآيَةُ نَزَلَتْ فِي السَّنَةِ الَّتِي حَجَّ فِيهَا أَبُو
بَكْرٍ وَهِيَ سَنَةُ تِسْعٍ فَأَنْزَلَهُمْ النَّبِيُّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمَسْجِدِ وَأَخْبَرَ أَنَّ
كَوْنَهُمْ أَنْجَاسًا لَا يَمْنَعُ دُخُولَهُمْ الْمَسْجِدَ
وَفِي ذَلِكَ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ نَجَاسَةَ الْكُفْرِ لَا
يَمْنَعُ الْكَافِرَ مِنْ دُخُولِ الْمَسْجِدِ وَأَمَّا أَبُو
سفيان بأنه جَاءَ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ لِتَجْدِيدِ الْهُدْنَةِ وَذَلِكَ قَبْلَ الْفَتْحِ
وَكَانَ أَبُو سُفْيَانَ مُشْرِكًا حِينَئِذٍ وَالْآيَةُ
وَإِنْ كَانَ نُزُولُهَا بَعْدَ ذَلِكَ فَإِنَّمَا اقْتَضَتْ
النَّهْيَ عَنْ قُرْبِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَلَمْ تَقْتَضِ
الْمَنْعَ مِنْ دُخُولِ الْكُفَّارِ سَائِرَ الْمَسَاجِدِ
فَإِنْ قِيلَ لَا يَجُوزُ لِلْكَافِرِ دُخُولُ الْحَرَمِ إلَّا
أَنْ يَكُونَ عَبْدًا أَوْ صَبِيًّا أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ
لِقَوْلِهِ تَعَالَى فلا يقربوا المسجد الحرام وَلِمَا
رَوَى زَيْدُ بْنُ يُثَيِّعٍ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ أَنَّهُ نَادَى بِأَمْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَدْخُلُ الْحَرَمَ مُشْرِكٌ
قِيلَ لَهُ إنْ صَحَّ هَذَا اللَّفْظُ فَالْمُرَادُ أَنْ لَا
يَدْخُلَهُ لِلْحَجِّ
وَقَدْ رُوِيَ فِي أَخْبَارٍ عَنْ عَلِيٍّ أَنَّهُ نَادَى أَنْ
لَا يَحُجَّ بَعْدَ الْعَامِ مُشْرِكٌ
وَكَذَلِكَ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ فَثَبَتَ أَنَّ
الْمُرَادَ دُخُولُ الْحَرَمِ لِلْحَجِّ
وَقَدْ رَوَى شَرِيكٌ عَنْ أَشْعَثَ عَنْ الْحَسَنِ عَنْ
جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَا يَقْرَبْ الْمُشْرِكُونَ
الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا إلَّا أَنْ
يَكُونَ عَبْدًا أَوْ أَمَةً يَدْخُلُهُ لِحَاجَةٍ
فَأَبَاحَ دُخُولَ الْعَبْدِ وَالْأَمَةِ لِلْحَاجَةِ لَا
لِلْحَجِّ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْحُرَّ الذِّمِّيَّ
لَهُ دُخُولُهُ لِحَاجَةٍ إذْ لَمْ يُفَرِّقْ أَحَدٌ بَيْنَ
الْعَبْدِ وَالْحُرِّ وَإِنَّمَا خَصَّ الْعَبْدَ وَالْأَمَةَ
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالذِّكْرِ لِأَنَّهُمَا لَا
يَدْخُلَانِهِ فِي الْأَغْلَبِ الْأَعَمِّ لِلْحَجِّ وَقَدْ
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ
الْمَرْوَزِيِّ قَالَ حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ أَبِي
الرَّبِيعِ الجرجاني قال أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ
أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ أَخْبَرَنِي أَبُو الزُّبَيْرِ
أَنَّهُ سَمِعَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ فِي
قَوْله تَعَالَى إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا
يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الحرام إلَّا أَنْ يَكُونَ عَبْدًا
أَوْ وَاحِدًا مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ فَوَقَفَهُ أَبُو
الزُّبَيْرِ عَلَى جَابِرٍ وجائز أن يكون صَحِيحَيْنِ
فَيَكُونَ جَابِرٌ قَدْ رَفَعَهُ تَارَةً وَأَفْتَى بِهَا
أُخْرَى وَرَوَى ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ عَطَاءٍ قال لا يدخل
المشرك وَتَلَا قَوْله تَعَالَى فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ
الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا قَالَ عَطَاءٌ الْمَسْجِدُ
الْحَرَامُ الْحَرَمُ كُلُّهُ قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ وَقَالَ
لِي عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ مِثْلَ ذَلِكَ قَالَ أَبُو بَكْرٍ
وَالْحَرَمُ كُلُّهُ يُعَبَّرُ عَنْهُ بِالْمَسْجِدِ إذْ
كَانَتْ حُرْمَتُهُ مُتَعَلِّقَةً بِالْمَسْجِدِ وَقَالَ
اللَّهُ تَعَالَى وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي
جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً العاكف فيه والباد وَالْحَرَمُ
كُلُّهُ مُرَادٌ بِهِ وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى ثم محلها إلى
البيت العتيق قَدْ أُرِيدَ بِهِ الْحَرَمُ كُلُّهُ لِأَنَّهُ
فِي أَيِّ الْحَرَمِ نَحَرَ الْبُدْنَ أَجْزَأَهُ فَجَائِزٌ
عَلَى هَذَا أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى فَلا
يقربوا المسجد الحرام الْحَرَمَ كُلَّهُ لِلْحَجِّ إذْ
(4/280)
قَاتِلُوا الَّذِينَ
لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا
يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا
يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ
حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ (29)
كان أكثر أفعال المناسك متعلقا بالحرم
كُلُّهُ فِي حُكْمِ الْمَسْجِدِ لِمَا وَصَفْنَا فَعَبَّرَ
عَنْ الْحَرَمِ بِالْمَسْجِدِ وَعَبَّرَ عَنْ الْحَجِّ
بِالْحَرَمِ ويدل على أن المراد بالمسجد هاهنا الْحَرَمُ
قَوْله تَعَالَى إِلا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِنْدَ
الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ
فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ وَمَعْلُومٌ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ
بِالْحُدَيْبِيَةِ وَهِيَ عَلَى شَفِيرِ الْحَرَمِ وَذَكَرَ
الْمِسْوَرُ بْنُ مَخْرَمَةَ وَمَرْوَانُ بْنُ الْحَكَمِ أَنَّ
بَعْضَهَا مِنْ الْحِلِّ وَبَعْضَهَا مِنْ الْحَرَمِ
فَأَطْلَقَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهَا أَنَّهَا عِنْدَ
الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِنَّمَا هِيَ عِنْدَ الْحَرَمِ
وَإِطْلَاقُهُ تَعَالَى اسْمَ النَّجَسِ عَلَى الْمُشْرِكِينَ
يَقْتَضِي اجتنابهم وترك مخالطتهم إذ كانوا مَأْمُورِينَ
بِاجْتِنَابِ الْأَنْجَاسِ وقَوْله تَعَالَى بَعْدَ عَامِهِمْ
هذا فَإِنَّ قَتَادَةَ ذَكَرَ أَنَّ الْمُرَادَ الْعَامُ
الَّذِي حَجَّ فِيهِ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ فَتَلَا عَلِيٌّ
سُورَةَ بَرَاءَةٌ وَهُوَ لِتِسْعٍ مَضَيْنَ مِنْ الْهِجْرَةِ
وَكَانَ بَعْدَهُ حَجَّةُ الْوَدَاعِ سَنَةَ عَشْرٍ قَوْله
تَعَالَى وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ
اللَّهُ من فضله إن شاء فَإِنَّ الْعَيْلَةَ الْفَقْرُ يُقَالُ
عَالَ يَعِيلُ إذَا افْتَقَرَ قَالَ الشَّاعِرُ:
وَمَا يَدْرِي الْفَقِيرُ مَتَى غِنَاهُ ... وَمَا يَدْرِي
الْغَنِيُّ مَتَى يَعِيلُ
وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ كَانُوا خَافُوا انْقِطَاعَ
الْمَتَاجِرِ بِمَنْعِ الْمُشْرِكِينَ فَأَخْبَرَ اللَّهُ
تَعَالَى أَنَّهُ يُغْنِيهِمْ مِنْ فَضْلِهِ فَقِيلَ إنَّهُ
أَرَادَ الْجِزْيَةَ الْمَأْخُوذَةَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ
وَقِيلَ أَرَادَ الْإِخْبَارَ بِإِبْقَاءِ الْمَتَاجِرِ مِنْ
جِهَةِ الْمُسْلِمِينَ لِأَنَّهُ كَانَ عَالِمًا أَنَّ
الْعَرَبَ وَأَهْلَ بُلْدَانِ الْعَجَمِ سَيُسْلِمُونَ
وَيَحُجُّونَ فَيَسْتَغْنُونَ بِمَا ينالون من منافع متاجرهم
من حُضُورِ الْمُشْرِكِينَ وَهُوَ نَظِيرُ قَوْله تَعَالَى
جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا
لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الحرام والهدى والقلائد الْآيَةَ
فَأَخْبَرَ تَعَالَى عَمَّا فِي حَجِّ الْبَيْتِ وَالْهَدْيِ
وَالْقَلَائِدِ مِنْ مَنَافِعِ النَّاسِ وَمَصَالِحِهِمْ فِي
دُنْيَاهُمْ وَدِينِهِمْ وَأَخْبَرَ فِي قَوْلِهِ وَإِنْ
خِفْتُمْ عيلة فسوف يغنيكم الله من فضله عَمَّا يَنَالُونَ
مِنْ الْغِنَى بِحَجِّ الْمُسْلِمِينَ وَإِنْ كَانُوا
قَلِيلِينَ فِي وَقْتِ نُزُولِ الْآيَةِ وَإِنَّمَا علق الغنى
بالمشيئة المعنيين كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا جَائِزٌ أَنْ
يَكُونَ مُرَادًا أَحَدُهُمَا أَنَّهُ لَمَّا كَانَ مِنْهُمْ
مَنْ يَمُوتُ وَلَا يَبْلُغُ هَذَا الْغِنَى الْمَوْعُودَ بِهِ
عَلَّقَهُ بِشَرْطِ الْمَشِيئَةِ وَالثَّانِي لِيَنْقَطِعَ
الْآمَالُ إلَى اللَّهِ فِي إصْلَاحِ أُمُورِ الدُّنْيَا
وَالدِّينِ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى لَتَدْخُلُنَّ
الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمنين.
بَابُ أَخْذُ الْجِزْيَةِ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ
قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ قَاتِلُوا الَّذِينَ لا
يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلا
يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ
(4/281)
اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ
الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا
الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ
أَخْبَرَ تَعَالَى عَنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أَنَّهُمْ لَا
يُؤْمِنُونَ بِاَللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ مَعَ
إظْهَارِهِمْ الْإِيمَانَ بِالنُّشُورِ وَالْبَعْثِ وَذَلِكَ
يَحْتَمِلُ وُجُوهًا أَحَدُهَا أَنْ يَكُونَ مُرَادُهُ لَا
يُؤْمِنُونَ بِالْيَوْمِ الْآخِرِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي
يَجْرِي حُكْمُ اللَّهِ فِيهِ مِنْ تَخْلِيدِ أَهْلِ
الْكِتَابِ فِي النَّارِ وَتَخْلِيدِ الْمُؤْمِنِينَ فِي
الْجَنَّةِ فَلَمَّا كَانُوا غَيْرَ مُؤْمِنِينَ بِذَلِكَ
أَطْلَقَ الْقَوْلَ فِيهِمْ بِأَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ
بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمُرَادُهُ حُكْمُ يَوْمِ الْآخِرِ
وَقَضَاؤُهُ فِيهِ كَمَا تَقُولُ أَهْلُ الْكِتَابِ غَيْرُ
مُؤْمِنِينَ بِالنَّبِيِّ وَالْمُرَادُ بِنُبُوَّةِ النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقِيلَ فِيهِ إنَّهُ
أَطْلَقَ ذَلِكَ فِيهِمْ عَلَى طَرِيقِ الذَّمِّ لِأَنَّهُمْ
بِمَنْزِلَةِ مَنْ لَا يقربه في عظم الحرم كَمَا إنَّهُمْ
بِمَنْزِلَةِ الْمُشْرِكِينَ فِي عِبَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى
بِكُفْرِهِمْ الَّذِي اعْتَقَدُوهُ وَقِيلَ أَيْضًا لَمَّا
كَانَ إقْرَارُهُمْ عَنْ غَيْرِ مَعْرِفَةٍ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ
إيمَانًا وَأَكْثَرُهُمْ بِهَذِهِ الصِّفَةِ وقَوْله تَعَالَى
ولا يدينون دين الحق فإن دين الحق هو الإسلام قال اللَّهُ
تَعَالَى إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ وَهُوَ
التَّسْلِيمُ لِأَمْرِ اللَّهِ وَمَا جَاءَتْ بِهِ رُسُلُهُ
وَالِانْقِيَادُ لَهُ وَالْعَمَلُ بِهِ وَالدِّينُ يَنْصَرِفُ
عَلَى وُجُوهٍ مِنْهَا الطَّاعَةُ وَمِنْهَا الْقَهْرُ
وَمِنْهَا الْجَزَاءُ قَالَ الْأَعْشَى:
هُوَ دَانَ الرَّبَابَ اُذْكُرْ هو الد ... دين دراكا بغزوة
وصيال
يعنى قهر الرباب أذكر هو إطاعته وَأَبَوْا الِانْقِيَادَ لَهُ
وقَوْله تَعَالَى مَالِكِ يَوْمِ الدين قِيلَ إنَّهُ يَوْمُ
الْجَزَاءِ وَمِنْهُ كَمَا تَدِينُ تدان وَدِينُ الْيَهُودِ
وَالنَّصَارَى غَيْرُ دِينِ الْحَقِّ لِأَنَّهُمْ غَيْرُ
مُنْقَادِينَ لِأَمْرِ اللَّهِ وَلَا طَائِعِينَ لَهُ
لِجُحُودِهِمْ نُبُوَّةَ نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فَإِنْ قِيلَ فَهُمْ يَدِينُونَ بِدِينِ
التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ معترفون بِهِ مُنْقَادِينَ لَهُ
قِيلَ لَهُ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ ذُكِرَ نَبِيُّنَا
وَأُمِرْنَا بِالْإِيمَانِ وَاتِّبَاعِ شَرَائِعِهِ وَهُمْ
غَيْرُ عَامِلِينَ بِذَلِكَ بَلْ تَارِكُونَ لَهُ فَهُمْ
غَيْرُ مُتَّبِعِينَ دِينَ الْحَقِّ وَأَيْضًا فَإِنَّ
شَرِيعَةَ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ قَدْ نُسِخَتْ
وَالْعَمَلُ بِهَا بَعْدَ النَّسْخِ ضَلَالٌ فَلَيْسَ هُوَ
إذًا دِينَ الْحَقِّ وَأَيْضًا فَهُمْ قَدْ غَيَّرُوا
الْمَعَانِيَ وَحَرَّفُوهَا عَنْ مَوَاضِعِهَا وَأَزَالُوهَا
إلَى مَا تَهْوَاهُ أَنْفُسُهُمْ دون ما أوجبه عليهم كتاب
اللَّهِ تَعَالَى فَهُمْ غَيْرُ دَائِنِينَ دِينَ الْحَقِّ
قوله تعالى من الذين أوتوا الكتاب فَإِنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ
مِنْ الْكُفَّارِ هُمْ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى لِقَوْلِهِ
تَعَالَى أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنْزِلَ الكتاب على طائفتين
من قبلنا فَلَوْ كَانَ الْمَجُوسُ أَوْ غَيْرُهُمْ مِنْ أَهْلِ
الشِّرْكِ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَكَانُوا ثَلَاثَ طَوَائِفَ
وَقَدْ اقْتَضَتْ الْآيَةُ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ
طَائِفَتَانِ وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِيمَا سَلَفَ وَتَقَدَّمَ
الْكَلَامُ أَيْضًا فِي حُكْمِ الصَّابِئِينَ وَهَلْ هُمْ
أَهْلُ الْكِتَابِ
(4/282)
أم لا وهم فريقان أحدهما بنوا حي كَسْكَرَ
وَالْبَطَائِحَ وَهُمْ فِيمَا بَلَغْنَا صِنْفٌ مِنْ
النَّصَارَى.
وَإِنْ كَانُوا مُخَالِفِينَ لَهُمْ فِي كَثِيرٍ من ديانتهم
لِأَنَّ النَّصَارَى فِرَقٌ كَثِيرَةٌ مِنْهُمْ
الْمَرْقُونِيَّةُ والْآرْيُوسِيَّةُ وَالْمَارُونِيَّةُ
وَالْفِرَقُ الثَّلَاثُ مِنْ النَّسْطُورِيَّةِ
وَالْمَلْكِيَّةِ وَالْيَعْقُوبِيَّةِ يبرءون منهم ويحرمون
وَهُمْ يَنْتَمُونَ إلَى يَحْيَى بْنِ زَكَرِيَّا وَشِيثٌ
وَيَنْتَحِلُونَ كُتُبًا يَزْعُمُونَ أَنَّهَا كُتُبُ اللَّهِ
الَّتِي أَنْزَلَهَا عَلَى شِيثِ بْنِ آدَمَ وَيَحْيَى بْنِ
زكريا والنصارى تسميهم يوحنا سية فَهَذِهِ الْفِرْقَةُ
يَجْعَلُهَا أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ مِنْ أَهْلِ
الْكِتَابِ وَيُبِيحُ أَكْلَ ذَبَائِحِهِمْ وَمُنَاكَحَةَ
نِسَائِهِمْ وَفِرْقَةٌ أُخْرَى قَدْ تَسَمَّتْ
بِالصَّابِئِينَ وَهُمْ الْحَرَّانِيُّونَ الَّذِينَ
بِنَاحِيَةِ حَرَّانَ وَهُمْ عَبَدَةُ الْأَوْثَانِ وَلَا
يَنْتَمُونَ إلَى أَحَدٍ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ وَلَا ينحلون
شَيْئًا مِنْ كُتُبِ اللَّهِ فَهَؤُلَاءِ لَيْسُوا أَهْلَ
الْكِتَابِ وَلَا خِلَافَ أَنَّ هَذِهِ النِّحْلَةَ لَا
تُؤْكَلُ ذَبَائِحُهُمْ وَلَا تُنْكَحُ نِسَاؤُهُمْ فَمَذْهَبُ
أَبِي حَنِيفَةَ فِي جَعْلِهِ الصَّابِئِينَ مِنْ أَهْلِ
الْكِتَابِ مَحْمُولٌ عَلَى مُرَادِهِ الْفِرْقَةَ الْأُولَى
وَأَمَّا أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ فَقَالَا إنَّ
الصَّابِئِينَ لَيْسُوا أَهْلَ الْكِتَابِ وَلَمْ يُفَصِّلُوا
بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ وَقَدْ رُوِيَ فِي ذَلِكَ اخْتِلَافٌ
بَيْنَ التَّابِعِينَ وَرَوَى هُشَيْمٌ أَخْبَرَنَا مُطَرِّفٌ
قَالَ كُنَّا عِنْدَ الْحَكَمِ بْنِ عُيَيْنَةَ فَحَدَّثَهُ
رَجُلٌ عَنْ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ فِي
الصَّابِئِينَ هُمْ بِمَنْزِلَةِ الْمَجُوسِ فَقَالَ الْحَسَنُ
أَلَيْسَ قَدْ كُنْت أَخْبَرْتُكُمْ بِذَلِكَ وَرَوَى عَبَّادُ
بْنُ الْعَوَّامِ عَنْ الْحَجَّاجِ عَنْ الْقَاسِمِ بْن أَبِي
بَزَّةَ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ الصابئون قوم من المشركين
وَالنَّصَارَى لَيْسَ لَهُمْ كِتَابٌ وَكَذَلِكَ قَوْلُ
الْأَوْزَاعِيِّ ومالك ابن أَنَسٍ وَرَوَى يَزِيدُ بْنُ
هَارُونَ عَنْ حَبِيبِ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ
هَرِمٍ عن جابر ابن زَيْدٍ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ الصَّابِئِينَ
أَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ هُمْ وَطَعَامُهُمْ وَنِسَاؤُهُمْ
حِلٌّ لِلْمُسْلِمِينَ فَقَالَ نَعَمْ وَأَمَّا الْمَجُوسُ
فَلَيْسُوا أَهْلَ كِتَابٍ بِدَلَالَةِ الْآيَةِ وَلِمَا
رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
أَنَّهُ قَالَ سُنُّوا بِهِمْ سُنَّةَ أَهْلِ الْكِتَابِ
وَفِي ذَلِكَ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهُمْ لَيْسُوا أَهْلَ
كِتَابٍ وَقَدْ اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِيمَنْ تُؤْخَذُ
مِنْهُمْ الْجِزْيَةُ مِنْ الْكُفَّارِ بَعْدَ اتِّفَاقِهِمْ
عَلَى جَوَازِ إقْرَارِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى
بِالْجِزْيَةِ فَقَالَ أَصْحَابُنَا لَا يَقْبَلْ مِنْ
مُشْرِكِي الْعَرَبِ إلَّا الْإِسْلَامَ أَوْ السَّيْفُ
وَتُقْبَلُ مِنْ أَهْلِ الكتاب من العرب من سَائِرِ كُفَّارِ
الْعَجَمِ الْجِزْيَةُ وَذَكَرَ ابْنُ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ
أَنَّهُ تُقْبَلُ مِنْ الْجَمِيعِ الْجِزْيَةُ إلَّا مِنْ
مُشْرِكِي الْعَرَبِ وَقَالَ مَالِكٌ فِي الزِّنْجِ
وَنَحْوِهِمْ إذَا سُبُوا يُجْبَرُونَ عَلَى الْإِسْلَامِ
وَرُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ أَنَّهُ قَالَ يُقَاتَلُ أَهْلُ
الْكِتَابِ عَلَى الْجِزْيَةِ وَأَهْلُ الْأَوْثَانِ عَلَى
الصَّلَاةِ وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدَ بِهِ أَهْلَ
الْأَوْثَانِ مِنْ العرب وقال الثوري العرب لا يسبون وهو إذا
سبوا ثم
(4/283)
تَرَكَهُمْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ لَا تُقْبَلُ
الْجِزْيَةُ إلَّا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ عَرَبًا كَانُوا
أَوْ عَجَمًا قَالَ أَبُو بَكْرٍ قَوْله تَعَالَى فَاقْتُلُوا
الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ يَقْتَضِي قَتْلَ
سَائِرِ الْمُشْرِكِينَ فَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ إنَّ
عُمُومَهُ مَقْصُورٌ عَلَى عَبَدَةِ الْأَوْثَانِ دُونَ أَهْلِ
الْكِتَابِ وَالْمَجُوسِ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ
فَرَّقَ فِي اللَّفْظِ بَيْنَ الْمُشْرِكِينَ وَبَيْنَ أَهْلِ
الْكِتَابِ وَالْمَجُوسِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى إِنَّ الَّذِينَ
آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى
وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أشركوا فَعَطَفَ بِالْمُشْرِكِينَ
عَلَى هَذِهِ الْأَصْنَافِ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ
إطْلَاقَ هَذَا اللَّفْظِ يَخْتَصُّ بِعَبَدَةِ الْأَوْثَانِ
وَإِنْ كَانَ الْجَمِيعُ مِنْ النَّصَارَى وَالْمَجُوسِ
والصابئين المشركين وَذَلِكَ لِأَنَّ النَّصَارَى قَدْ
أَشْرَكَتْ بِعِبَادَةِ اللَّهِ وعبادة الْمَسِيحِ
وَالْمَجُوسُ مُشْرِكُونَ مِنْ حَيْثُ جَعَلُوا لِلَّهِ نِدًّا
مُغَالِبًا وَالصَّابِئُونَ فَرِيقَانِ أَحَدُهُمَا عَبَدَةُ
الْأَوْثَانِ وَالْآخَرُ لَا يَعْبُدُونَ الْأَوْثَانَ
وَلَكِنَّهُمْ مُشْرِكُونَ فِي وُجُوهٍ أُخَرُ إلَّا أَنَّ
إطْلَاقَ لَفْظِ الْمُشْرِكِ يَتَنَاوَلُ عَبَدَةَ
الْأَوْثَانِ فَلَمْ يُوجِبْ قَوْله تَعَالَى فاقتلوا المشركين
إلَّا قَتْلَ عَبَدَةِ الْأَوْثَانِ دُونَ غَيْرِهِمْ وَقَالَ
آخَرُونَ لَمَّا كَانَ مَعْنَى الشِّرْكِ مَوْجُودًا فِي
مَقَالَاتِ هَذِهِ الْفِرَقِ مِنْ النَّصَارَى وَالْمَجُوسِ
وَالصَّابِئِينَ فَقَدْ انْتَظَمَهُمْ اللَّفْظُ وَلَوْلَا
وُرُودُ آيَةِ التَّخْصِيصِ فِي أَهْلِ الْكِتَابِ خُصُّوا
مِنْ الْجُمْلَةِ وَمَنْ عَدَاهُمْ مَحْمُولُونَ عَلَى حُكْمِ
الْآيَةِ عَرَبًا كَانُوا أَوْ عَجَمًا وَلَمْ يَخْتَلِفُوا
فِي جَوَازِ إقْرَارِ الْمَجُوسِ بِالْجِزْيَةِ وَقَدْ رُوِيَ
عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ذَلِكَ
أَخْبَارٌ وَرَوَى سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ عَمْرٍو
أَنَّهُ سَمِعَ مُجَالِدًا يَقُولُ لَمْ يَكُنْ عُمَرُ بْنُ
الْخَطَّابِ يَأْخُذُ الْجِزْيَةَ مِنْ الْمَجُوسِ حَتَّى
شَهِدَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخَذَ الْجِزْيَةَ مِنْ
مَجُوسِ هَجَرَ
وَرَوَى مَالِكٌ عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِيهِ
أَنَّ عُمَرَ ذَكَرَ الْمَجُوسَ فَقَالَ مَا أَدْرِي كَيْفَ
أَصْنَعُ فِي أَمْرِهِمْ فَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ
عَوْفٍ أَشْهَدُ لَسَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ سُنُّوا بِهِمْ سُنَّةَ أَهْلِ
الْكِتَابِ
وَرَوَى يَحْيَى بْنُ آدَمَ عَنْ الْمَسْعُودِيِّ عَنْ
قَتَادَةَ عَنْ أَبِي مِجْلَزَ قَالَ كَتَبَ النَّبِيُّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى الْمُنْذِرِ أَنَّهُ مَنْ
اسْتَقْبَلَ قِبْلَتَنَا وَصَلَّى صَلَاتَنَا وَأَكَلَ
ذَبِيحَتِنَا فَذَلِكَ الْمُسْلِمُ الَّذِي لَهُ ذِمَّةُ
اللَّهِ وَذِمَّةُ رَسُولِهِ وَمَنْ أَحَبَّ ذَلِكَ مِنْ
الْمَجُوسِ فَهُوَ آمِنٌ وَمَنْ أَبَى فَعَلَيْهِ الْجِزْيَةُ
وَرَوَى قَيْسُ بْنُ مُسْلِمٍ عَنْ الحسن بن محمد أَنَّ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَتَبَ إلَى
مَجُوسِ الْبَحْرَيْنِ يَدْعُوهُمْ إلَى الْإِسْلَامِ فَمَنْ
أَسْلَمَ مِنْهُمْ قَبِلَ مِنْهُ وَمَنْ أَبَى ضُرِبَتْ
عَلَيْهِ الْجِزْيَةُ وَلَا تُؤْكَلُ لَهُمْ ذَبِيحَةٌ وَلَا
تُنْكَحُ لَهُمْ امْرَأَةٌ
وَرَوَى الطَّحَاوِيُّ عَنْ بَكَّارَ بْنِ قُتَيْبَةَ قَالَ
حَدَّثَنَا عبد الرحمن ابن عمران قال حدثنا عوف كَتَبَ عُمَرُ
بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ إلَى عَدِيِّ بن أرطاة أما بعد فاسئل
(4/284)
الحسن ما يقع مَنْ قَبْلَنَا مِنْ
الْأَئِمَّةِ أَنْ يَحُولُوا بَيْنَ الْمَجُوسِ وَبَيْنَ مَا
يَجْمَعُونَ مِنْ النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا يَجْمَعُهُنَّ
أَحَدٌ غَيْرُهُمْ فَسَأَلَهُ فَأَخْبَرَهُ أَنَّ رَسُولَ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبِلَ مِنْ
مَجُوسِ الْبَحْرَيْنِ الْجِزْيَةَ وَأَقَرَّهُمْ عَلَى
مَجُوسِيَّتِهِمْ وَعَامِلُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَئِذٍ عَلَى الْبَحْرَيْنِ الْعَلَاءُ
بْنُ الْحَضْرَمِيِّ وَفَعَلَهُ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَعُثْمَانُ
وَرَوَى مَعْمَرُ عَنْ الزُّهْرِيِّ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَالَحَ أَهْلَ الْأَوْثَانِ عَلَى
الْجِزْيَةِ إلَّا مَنْ كَانَ مِنْهُمْ مِنْ الْعَرَبِ
وَرَوَى الزُّهْرِيِّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ أَنَّ
رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخَذَ
الْجِزْيَةَ مِنْ مَجُوسِ هَجَرَ
وَأَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ أَخَذَهَا مِنْ مَجُوسِ
السَّوَادِ وَأَنَّ عُثْمَانَ أَخَذَهَا مِنْ بَرْبَرَ وَفِي
هَذِهِ الْأَخْبَارِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَخَذَ الْجِزْيَةَ مِنْ الْمَجُوسِ وَفِي بَعْضِهَا
أَنَّهُ أَخَذَهَا مِنْ عَبَدَةِ الْأَوْثَانِ مِنْ غَيْرِ
الْعَرَبِ وَلَا نَعْلَمُ خِلَافًا بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي
جَوَازِ أَخْذِ الْجِزْيَةِ مِنْ الْمَجُوسِ وَقَدْ نَقَلَتْ
الْأُمَّةُ أَخْذَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ الْجِزْيَةَ مِنْ
مَجُوسِ السَّوَادِ فَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ إنَّمَا
أَخَذَهَا لِأَنَّ الْمَجُوسَ أَهْلُ كِتَابٍ وَيَحْتَجُّ فِي
ذَلِكَ بِمَا
رَوَى سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ عَنْ
نَصْرِ بْنِ عَاصِمٍ عَنْ عَلَى أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ
وَعُثْمَانَ أَخَذُوا الْجِزْيَةَ مِنْ الْمَجُوسِ
وَقَالَ عَلِيٌّ أَنَا أَعْلَمُ النَّاسِ بِهِمْ كَانُوا
أَهْلَ كِتَابٍ يَقْرَءُونَهُ وَأَهْلَ عِلْمٍ يَدْرُسُونَهُ
فَنُزِعَ ذَلِكَ مِنْ صُدُورِهِمْ
وَقَدْ ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ مِنْ الدَّلَالَةِ عَلَى
أَنَّهُمْ لَيْسُوا أَهْلَ كِتَابٍ مِنْ جِهَةِ الْكِتَابِ
وَالسُّنَّةِ وَأَمَّا مَا
رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ فِي ذَلِكَ أَنَّهُمْ كَانُوا أَهْلَ
كِتَابٍ
فَإِنَّهُ إنْ صَحَّتْ الرِّوَايَةُ فَإِنَّ الْمُرَادَ أَنَّ
أَسْلَافَهُمْ كَانُوا أَهْلَ كِتَابٍ لِإِخْبَارِهِ بِأَنَّ
ذَلِكَ نُزِعَ مِنْ صُدُورِهِمْ فَإِذًا لَيْسُوا أَهْلَ
كِتَابٍ فِي هَذَا الْكِتَابِ وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ
لَيْسُوا أَهْلَ كِتَابٍ مَا
رُوِيَ فِي حَدِيثِ الْحَسَنِ بْن مُحَمَّدٍ أَنَّ النَّبِيَّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فِي مَجُوسِ
الْبَحْرَيْنِ إنَّ مَنْ أَبَى مِنْهُمْ الْإِسْلَامَ ضُرِبَتْ
عَلَيْهِ الْجِزْيَةُ وَلَا تُؤْكَلُ لَهُمْ ذَبِيحَةٌ وَلَا
تُنْكَحُ لَهُمْ امْرَأَةٌ
وَلَوْ كَانُوا أَهْلَ كِتَابٍ لَجَازَ أَكْلُ ذَبَائِحِهِمْ
وَمُنَاكَحَةُ نِسَائِهِمْ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ
أَبَاحَ ذَلِكَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ
وَلَمَّا ثَبَتَ أَخْذُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ الْجِزْيَةَ مِنْ الْمَجُوسِ
وَلَيْسُوا أَهْلَ كِتَابٍ ثَبَتَ جَوَازُ أَخْذِهَا مِنْ
سَائِرِ الْكُفَّارِ أَهْلَ كِتَابٍ كَانُوا أَوْ غَيْرَ
أَهْلِ كِتَابٍ إلَّا عَبَدَةَ الْأَوْثَانِ مِنْ الْعَرَبِ
لِأَنَّ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَقْبَلْ
مِنْهُمْ إلَّا الْإِسْلَامَ أَوْ السَّيْفَ
وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حيث
وجدتموهم وَهَذَا فِي عَبَدَةِ الْأَوْثَانِ مِنْ الْعَرَبِ
وَيَدُلُّ عَلَى جَوَازِ أَخْذِ الْجِزْيَةِ مِنْ سَائِرِ
الْمُشْرِكِينَ سِوَى مُشْرِكِي الْعَرَبِ
حَدِيثُ عَلْقَمَةَ بْنِ مَرْثَدٍ عَنْ ابْنِ بُرَيْدَةَ عَنْ
أَبِيهِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
كَانَ إذَا بَعَثَ سَرِيَّةً قَالَ إذَا لَقِيتُمْ عَدُوَّكُمْ
مِنْ الْمُشْرِكِينَ فَادْعُوهُمْ إلَى شَهَادَةِ أَنْ لَا
إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا
(4/285)
رَسُولُ اللَّهِ فَإِنْ أَبَوْا
فَادْعُوهُمْ إلَى إعْطَاءِ الْجِزْيَةِ
وَذَلِكَ عَامٌّ فِي سَائِرِ الْمُشْرِكِينَ وَخَصَّصْنَا
مِنْهُمْ مُشْرِكِي الْعَرَبِ بِالْآيَةِ وَسِيرَةِ النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهِمْ.
بَابُ حُكْمِ نَصَارَى بَنِي تَغْلِبَ
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ
بِاللَّهِ وَلا باليوم الآخر- إلى قوله- من الذين أوتوا الكتاب
وَنَصَارَى بَنِي تَغْلِبَ مِنْهُمْ لِأَنَّهُمْ يَنْتَحِلُونَ
نِحْلَتَهُمْ وَإِنْ لَمْ يَكُونُوا مُتَمَسِّكِينَ بِجَمِيعِ
شَرَائِعِهِمْ وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ
مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ فَجَعَلَ اللَّهُ تَعَالَى مَنْ
يَتَوَلَّى قَوْمًا مِنْهُمْ فهو فِي حُكْمِهِمْ وَلِذَلِكَ
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي نَصَارَى بَنِي تَغْلِبَ إنَّهُمْ
لَوْ لَمْ يَكُونُوا مِنْهُمْ إلَّا بِالْوِلَايَةِ لَكَانُوا
مِنْهُمْ لِقَوْلِهِ تَعَالَى ومن يتولهم منكم فإنه منهم
وَذَلِكَ حِينَ
قَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إنَّهُمْ لَمْ
يَتَعَلَّقُوا مِنْ النَّصْرَانِيَّةِ إلَّا بِشُرْبِ الخمر
قال ابن عباس ذَلِكَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ لِعَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ حِينَ جَاءَهُ فَقَالَ لَهُ
أَمَا تَقُولُ إلَّا أَنْ يُقَالَ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ
فَقَالَ إنَّ لِي دِينًا فَقَالَ النَّبِيُّ صلّى الله عليه
وسلّم أبا أَعْلَمُ بِهِ مِنْك أَلَسْت رَكُوسِيًّا قَالَ
نَعَمْ قَالَ أَلَسْت تَأْخُذُ الْمِرْبَاعَ قَالَ نَعَمْ
قَالَ فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يَحِلُّ لَك فِي دِينِك
فَنَسَبَهُ إلَى صِنْفٍ مِنْ النَّصَارَى مَعَ إخْبَارِهِ بأنه
غير متمسك به فأخذه المرباع وهو ربع الغنيمة غَيْرُ مُبَاحَةٍ
فِي دِينِ النَّصَارَى فَثَبَتَ بِذَلِكَ أَنَّ انْتِحَالَ
بَنِي تَغْلِبَ لِدِينِ النَّصَارَى يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ
حُكْمُهُمْ حُكْمَهُمْ وَأَنْ يَكُونُوا أَهْلَ كِتَابٍ
وَإِذَا كَانُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَجَبَ أخذ الجزية
منهم والجزاء والجزية وَاحِدٌ وَهُوَ أَخْذُ الْمَالِ مِنْهُمْ
عُقُوبَةً وَجَزَاءً عَلَى إقَامَتِهِمْ عَلَى الْكُفْرِ
وَلَمْ يَذْكُرْ فِي الْآيَةِ لَهَا مِقْدَارًا مَعْلُومًا
وَمَهْمَا أُخِذَ مِنْهُمْ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ فَإِنَّ
اسْمَ الْجِزْيَةِ يَتَنَاوَلُهُ وَقَدْ وَرَدَتْ أَخْبَارٌ
مُتَوَاتِرَةٌ عَنْ أَئِمَّةِ السَّلَفِ فِي تَضْعِيفِ
الصَّدَقَةِ فِي أَمْوَالِهِمْ عَلَى مَا يأخذ مِنْ
الْمُسْلِمِينَ وَهُوَ قَوْلُ أَهْلِ الْعِرَاقِ وَأَبِي
حَنِيفَةَ وَأَصْحَابِهِ وَالثَّوْرِيِّ وَهُوَ قَوْلُ
الشَّافِعِيِّ وَقَالَ مَالِكٌ فِي النَّصْرَانِيِّ إذَا
أَعْتَقَهُ الْمُسْلِمُ فَلَا جِزْيَةَ عَلَيْهِ وَلَوْ
جُعِلَتْ عَلَيْهِ الْجِزْيَةُ لَكَانَ العتق قد أضربه ولم
ينفعه شيئا ولا تحفظ عَنْ مَالِكٍ فِي بَنِي تَغْلِبَ شَيْئًا
وَرَوَى يَحْيَى بْنُ آدَمَ قَالَ حَدَّثَنَا عَبْدُ
السَّلَامِ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ الشَّيْبَانِيِّ عَنْ
السَّفَّاحِ عَنْ دَاوُد بْنِ كُرْدُوسٍ عَنْ عُمَارَةَ بْنِ
النُّعْمَانِ أَنَّهُ قَالَ لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ يَا
أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إنَّ بَنِي تَغْلِبَ قَدْ عَلِمْت
شَوْكَتَهُمْ وَأَنَّهُمْ بِإِزَاءِ الْعَدُوِّ فَإِنْ
ظَاهَرُوا عَلَيْك الْعَدُوَّ اشْتَدَّتْ مُؤْنَتُهُمْ فَإِنْ
رَأَيْت أَنْ تُعْطِيَهُمْ شَيْئًا فافعل فصالحهم على أن لا
يقسموا أَوْلَادَهُمْ فِي النَّصْرَانِيَّةِ وَتُضَاعَفُ
عَلَيْهِمْ الصَّدَقَةُ قَالَ وَكَانَ عُمَارَةُ يَقُولُ قَدْ
فَعَلُوا فَلَا عَهْدَ لهم وهذا
(4/286)
خبر مستفيض عند أهل الكوفة وقد وَرَدَتْ
بِهِ الرِّوَايَةُ وَالنَّقْلُ الشَّائِعُ عَمَلًا وَهُوَ
مِثْلُ أَخْذِ الْجِزْيَةِ مِنْ أَهْلِ السَّوَادِ عَلَى
الطَّبَقَاتِ الثَّلَاثِ وَوَضْعِ الْخَرَاجِ عَلَى
الْأَرْضِينَ وَنَحْوِهَا مِنْ الْعُقُودِ الَّتِي عَقَدَهَا
عَلَى كَافَّةِ الْأُمَّةِ فَلَمْ يَخْتَلِفُوا فِي نَفَاذِهَا
وَجَوَازِهَا
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ أَنَّهُ قَالَ لَئِنْ بَقِيَتْ
لِنَصَارَى بَنِي تَغْلِبَ لَأَقْتُلَنَّ الْمُقَاتِلَةَ
وَلَأَسْبِيَنَّ الذُّرِّيَّةَ وَذَلِكَ أَنِّي كَتَبْت
الْكِتَابَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ لَا يُنَصِّرُوا أولادهم
ولم يخالف عمر فِي ذَلِكَ أَحَدٌ مِنْ الصَّحَابَةِ
فَانْعَقَدَ بِهِ إجْمَاعُهُمْ وَثَبَتَ بِهِ اتِّفَاقُهُمْ
وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي
حَدِيثُ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ
الْمُسْلِمُونَ تَتَكَافَأُ دماؤهم ويسعى بذمتهم أدناهم ويعتقد
عليهم أو لهم
ومعناه والله يعلم جَوَازُ عُقُودِ أَئِمَّةِ الْعَدْلِ عَلَى
الْأُمَّةِ فَإِنْ قِيلَ أَمَرَ اللَّهُ بِأَخْذِ الْجِزْيَةِ
مِنْهُمْ فَلَا يَجُوزُ لَنَا الِاقْتِصَارُ بِهِمْ عَلَى
أَخْذِ الصَّدَقَةِ مِنْهُمْ وَإِعْفَاؤُهُمْ مِنْ الْجِزْيَةِ
قِيلَ لَهُ الْجِزْيَةُ لَيْسَ لَهَا مِقْدَارٌ مَعْلُومٌ
فِيمَا يَقْتَضِيهِ ظَاهِرُ لَفْظِهَا وَإِنَّمَا هِيَ جَزَاءٌ
وَعُقُوبَةٌ عَلَى إقَامَتِهِمْ عَلَى الْكُفْرِ وَالْجَزَاءُ
لَا يَخْتَصُّ بِمِقْدَارٍ دُونَ غَيْرِهِ وَلَا بِنَوْعٍ مِنْ
الْمَالِ دُونَ مَا سِوَاهُ وَالْمَأْخُوذُ مِنْ بَنِي
تَغْلِبَ هُوَ عِنْدَنَا جزية ليست بصدقة وتوضع موضع الْفَيْءِ
لِأَنَّهُ لَا صَدَقَةَ لَهُمْ إذْ كَانَ سَبِيلُ الصَّدَقَةِ
وُقُوعَهَا عَلَى وَجْهِ الْقُرْبَةِ وَلَا قُرْبَةَ لَهُمْ
وَقَدْ قَالَ بَنُو تَغْلِبَ نُؤَدِّي الصدقة ومضاعفة وَلَا
نَقْبَلُ أَدَاءَ الْجِزْيَةِ فَقَالَ عُمَرُ هُوَ عِنْدَنَا
جِزْيَةٌ وَسَمُّوهَا أَنْتُمْ مَا شِئْتُمْ فَأَخْبَرَ عُمَرُ
أَنَّهَا جِزْيَةٌ وَإِنْ كَانَتْ حَقًّا مَأْخُوذًا مِنْ
مَوَاشِيهِمْ وَزَرْعِهِمْ فَإِنْ قِيلَ لَوْ كَانَتْ جِزْيَةً
لَمَا أُخِذَتْ مِنْ نِسَائِهِمْ لِأَنَّ النِّسَاءَ لَا
جِزْيَةَ عَلَيْهِنَّ قِيلَ لَهُ يَجُوزُ أَخْذُ الْجِزْيَةِ
مِنْ النِّسَاءِ عَلَى وَجْهِ الصُّلْحِ كَمَا
رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم أَنَّهُ
أَمَرَ بَعْضَ أُمَرَائِهِ عَلَى بَعْضِ بُلْدَانِ الْيَمَنِ
أَنْ يَأْخُذَ مِنْ كُلِّ حَالِمٍ أَوْ حَالِمَةٍ دِينَارًا
أَوْ عَدْلَهُ مِنْ الْمَعَافِرِ
وَقَالَ أصحابنا تؤخذ من موالي بنى تغلب إذا كَانُوا كُفَّارًا
الْجِزْيَةُ وَلَا تُضَاعَفُ عَلَيْهِمْ الْحُقُوقُ في
أَمْوَالِهِمْ لِأَنَّ عُمَرَ إنَّمَا صَالَحَ بَنِي تَغْلِبَ
عَلَى ذَلِكَ وَلَمْ يَذْكُرْ فِيهِ الْمَوَالِيَ
فَمَوَالِيهِمْ بَاقُونَ عَلَى حُكْمِ سَائِرِ أَهْلِ
الذِّمَّةِ فِي أَخْذِ جِزْيَةِ الرُّءُوسِ مِنْهُمْ عَلَى
الطَّبَقَاتِ الْمَعْلُومَةِ وَلَيْسَ بِوَاجِبٍ أَنْ
يَكُونُوا فِي حُكْمِ مَوَالِيهِمْ كما أن المسلم إذا أعتق
عبدا نصرنيا لَا يَكُونُ فِي حُكْمِ مَوْلَاهُ فِي بَابِ
سُقُوطِ الْجِزْيَةِ عَنْهُ فَإِنْ قِيلَ
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
مَوَالِي الْقَوْمِ مِنْ أَنْفُسِهِمْ
قِيلَ لَهُ مُرَادُهُ أَنَّهُ مِنْهُمْ فِي الِانْتِسَابِ
إلَيْهِمْ نَحْوُ مَوْلَى بَنِي هَاشِمٍ يُسَمَّى هَاشِمِيًّا
وَمَوْلَى بَنِي تَمِيمٍ يُسَمَّى تَمِيمِيًّا وفي النصرة
والعقل كما يعقل عنه ذوى الْأَنْسَابِ فَهَذَا مَعْنَى
قَوْلِهِ مَوَالِي الْقَوْمِ مِنْهُمْ وَلَا دَلَالَةَ فِيهِ
عَلَى أَنَّ حُكْمَهُ
(4/287)
حُكْمُهُمْ فِي إيجَابِ الْجِزْيَةِ
وَسُقُوطِهَا وَأَمَّا شَرْطُ عُمَرَ عَلَيْهِمْ أَنْ لَا
يَغْمِسُوا أَوْلَادَهُمْ فِي النَّصْرَانِيَّةِ فَإِنَّهُ
قَدْ رُوِيَ فِي بَعْضِ الْأَخْبَارِ أَنَّهُ شَرَطَ أَنْ لَا
يَصْبُغُوا أَوْلَادَهُمْ فِي النَّصْرَانِيَّةِ إذَا
أَرَادُوا الْإِسْلَامَ
فَإِنَّمَا شَرَطَ عَلَيْهِمْ بِذَلِكَ أَنَّهُ لَيْسَ لَهُمْ
أَنْ يَمْنَعُوا أَوْلَادَهُمْ الْإِسْلَامَ إذَا أَرَادُوهُ
وَقَدْ حَدَّثَنَا مَكْرَمُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ مَكْرَمٍ قَالَ
حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَطِيَّةَ الْكُوفِيُّ قَالَ سَمِعْت
أَبَا عُبَيْدٍ يَقُولُ كُنَّا مَعَ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ
إذْ أَقْبَلَ الرَّشِيدُ فَقَامَ النَّاسُ كُلُّهُمْ إلَّا
مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ فَإِنَّهُ لَمْ يَقُمْ وَكَانَ
الْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ مُعْتَلَّ الْقَلْبِ عَلَى مُحَمَّدِ
بْنِ الْحَسَنِ فَقَامَ وَدَخَلَ وَدَخَلَ النَّاسُ مِنْ
أَصْحَابِ الْخَلِيفَةِ فَأَمْهَلَ الرَّشِيدُ يَسِيرًا ثُمَّ
خَرَجَ الْإِذْنُ فَقَامَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ فَجَزِعَ
أَصْحَابُهُ لَهُ فَأُدْخِلَ فَأُمْهِلَ ثُمَّ خَرَجَ طَيِّبَ
النَّفْسِ مَسْرُورًا قَالَ قال لي مالك لَمْ تَقُمْ مَعَ
النَّاسِ قَالَ كَرِهْت أَنْ أَخْرُجَ عَنْ الطَّبَقَةِ
الَّتِي جَعَلْتنِي فِيهَا إنَّك أَهَّلَتْنِي لِلْعِلْمِ
فَكَرِهْت أَنْ أَخْرُجَ إلَى طَبَقَةِ الْخِدْمَةِ الَّتِي
هِيَ خَارِجَةٌ مِنْهُ وَإِنَّ ابْنَ عَمِّك صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ مَنْ أَحَبَّ أَنْ يَمِيلَ لَهُ
الرِّجَالُ قِيَامًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنْ النَّارِ
وَإِنَّهُ إنَّمَا أَرَادَ بِذَلِكَ الْعُلَمَاءَ فَمَنْ قَامَ
بِحَقِّ الْخِدْمَةِ وَإِعْزَازِ الْمَلِكِ فهو هبة
لِلْعَدُوِّ وَمَنْ قَعَدَ اتِّبَاعًا لِلسُّنَّةِ الَّتِي
عَنْكُمْ أُخِذَتْ فَهُوَ زَيْنٌ لَكُمْ قَالَ صَدَقْت يَا
مُحَمَّدُ
ثُمَّ شَاوَرَنِي فَقَالَ إنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ
صَالَحَ بَنِي تَغْلِبَ عَلَى أَنْ لَا يَنْصُرُوا
أَوْلَادَهُمْ وَقَدْ نَصَرُوا أَبْنَاءَهُمْ وَحَلَّتْ
بِذَلِكَ دماءهم فَمَا تَرَى قَالَ قُلْت إنَّ عُمَرَ
أَمَرَهُمْ بِذَلِكَ وَقَدْ نَصَرُوا أَوْلَادَهُمْ بَعْدَ
عُمَرَ وَاحْتَمَلَ ذَلِكَ عُثْمَانُ وَابْنُ عَمِّك وَكَانَ
مِنْ الْعِلْمِ بما لا خفا به عليك وجرت بذلك السنن فهم أصلح
مِنْ الْخُلَفَاءِ بَعْدَهُ وَلَا شَيْءَ يَلْحَقُك فِي ذَلِكَ
وَقَدْ كَشَفْت لَك الْعِلْمَ وَرَأْيُك أَعْلَى قَالَ لَا
وَلَكِنَّا نُجْرِيهِ عَلَى مَا أَجْرَوْهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ
إنَّ اللَّه جَلَّ اسْمُهُ أمر نبيه بالمشهور تمام المائة
الَّتِي جَعَلَهَا اللَّهُ لَهُ فَكَانَ يُشَاوِرُ فِي
أَمْرِهِ فَيَأْتِيهِ جِبْرِيلُ بِتَوْفِيقِ اللَّهِ وَلَكِنْ
عَلَيْك بِالدُّعَاءِ لِمَنْ وَلَّاهُ اللَّهُ أَمْرَك وَمُرْ
أَصْحَابَك بِذَلِكَ وَقَدْ أَمَرْت لَك بِشَيْءٍ تُفَرِّقُهُ
عَلَى أَصْحَابِك قَالَ فَخَرَجَ لَهُ مَالٌ كَثِيرٌ
فَفَرَّقَهُ قَالَ أَبُو بَكْرٍ فَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ
مُحَمَّدٌ فِي إقْرَارِ الْخُلَفَاءِ بَنِي تَغْلِبَ عَلَى مَا
هُمْ عَلَيْهِ مِنْ صَبْغِهِمْ أَوْلَادِهِمْ فِي
النَّصْرَانِيَّةِ حُجَّةٌ فِي تَرْكِهِمْ عَلَى مَا هُمْ
عَلَيْهِ وأنهم بمنزلة سائر النصارى فلا تخلوا مُصَالَحَةُ
عُمَرَ إيَّاهُمْ أَنْ لَا يَصْبِغُوا أَوْلَادَهُمْ فِي
النَّصْرَانِيَّةِ مِنْ أَحَدِ مَعْنَيَيْنِ إمَّا أَنْ يكون
مراده وأن لَا يُكْرِهُوهُمْ عَلَى الْكُفْرِ إذَا أَرَادُوا
الْإِسْلَامَ وأن يُنْشِئُوهُمْ عَلَى الْكُفْرِ مِنْ
صِغَرِهِمْ فَإِنْ أَرَادَ الْأَوَّلَ فَإِنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ
أَنَّهُمْ مَنَعُوا أَحَدًا مِنْ أَوْلَادِهِمْ التَّابِعِينَ
مِنْ الْإِسْلَامِ وَأَكْرَهُوهُمْ عَلَى الْكُفْرِ
فَيَصِيرُوا بِهِ نَاقِضِينَ لِلْعَهْدِ وَخَالِعِينَ
لِلذِّمَّةِ وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ
(4/288)
الْوَجْهَ الثَّانِي فَإِنَّ عَلِيًّا
وَعُثْمَانَ لَمْ يَعْتَرِضُوا عَلَيْهِمْ وَلَمْ
يَقْتُلُوهُمْ وَأَمَّا قَوْلُ مَالِكٍ فِي الْعَبْدِ
النَّصْرَانِيِّ إذَا أَعْتَقَهُ الْمُسْلِمُ أَنَّهُ لَا
جِزْيَةَ عَلَيْهِ فَتَرْكٌ لِظَاهِرِ الْآيَةِ بِغَيْرِ
دَلَالَةٍ إذْ لَا فَرْقَ بَيْنَ مَنْ أَعْتَقَهُ مُسْلِمٌ
وَبَيْنَ سَائِرِ الْكُفَّارِ الَّذِينَ لَمْ يُعْتَقُوا
وَأَمَّا قَوْلُهُ لَوْ جُعِلَتْ عَلَيْهِ الْجِزْيَةُ لَكَانَ
الْعِتْقُ قد أضربه وَلَمْ يَنْفَعْهُ شَيْئَا فَلَيْسَ
كَذَلِكَ لِأَنَّهُ فِي حَالِ الرِّقِّ إنَّمَا لَمْ
تَلْزَمْهُ الْجِزْيَةُ لِأَنَّ مَالَهُ لِمَوْلَاهُ
وَالْمَوْلَى الْمُسْلِمُ لَا يَجُوزُ أَخْذُ الْجِزْيَةِ
مِنْهُ وَالْجِزْيَةُ إنَّمَا تُؤْخَذُ مِنْ مَالِ الْكُفَّارِ
عُقُوبَةً لَهُمْ عَلَى إقَامَتِهِمْ عَلَى الْكُفْرِ
وَالْعَبْدُ لَا مَالَ لَهُ فَتُؤْخَذُ مِنْهُ فَإِذَا عَتَقَ
وَمَلَكَ الْمَالَ وَجَبَتْ الْجِزْيَةُ وَأَخَذْنَا
الْجِزْيَةَ مِنْهُ لَمْ يَسْلُبْهُ مَنَافِعَ الْعِتْقِ فِي
جَوَازِ التَّصَرُّفِ عَلَى نَفْسِهِ وَزَوَالِ مِلْكِ
الْمَوْلَى وَأَمْرِهِ عَنْهُ وَتَمْلِيكِهِ سَائِرَ
أَمْوَالِهِ وَإِنَّمَا الْجِزْيَةُ جُزْءٌ يَسِيرٌ مِنْ
مَالِهِ قَدْ حَقَنَ بِهَا دَمَهُ فَمَنْفَعَةُ الْعِتْقِ
حَاصِلَةٌ لَهُ.
بَابُ مَنْ تُؤْخَذُ مِنْهُ الْجِزْيَةُ
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ
بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا
حَرَّمَ اللَّهُ ورسوله- إلَى قَوْلِهِ- حَتَّى يُعْطُوا
الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وهم صاغرون فَكَانَ مَعْقُولًا مِنْ
فَحَوَى الْآيَةِ وَمَضْمُونِهَا أَنَّ الْجِزْيَةَ
مَأْخُوذَةٌ مِمَّنْ كَانَ مِنْهُمْ مِنْ أَهْلِ الْقِتَالِ
لِاسْتِحَالَةِ الْخِطَابِ بِالْأَمْرِ بِقِتَالِ مَنْ لَيْسَ
مِنْ أَهْلِ الْقِتَالِ إذْ الْقِتَالُ لَا يَكُونُ إلَّا
بَيْنَ اثْنَيْنِ وَيَكُونُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا
مُقَاتِلًا لِصَاحِبِهِ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ ثَبَتَ أَنَّ
الْجِزْيَةَ مَأْخُوذَةٌ مِمَّنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْقِتَالِ
وَمَنْ يُمْكِنْهُ أَدَاؤُهُ مِنْ الْمُحْتَرِفِينَ وَلِذَلِكَ
قَالَ أَصْحَابُنَا إنَّ مَنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِ
الْقِتَالِ فَلَا جِزْيَةَ عَلَيْهِ فَقَالُوا مَنْ كَانَ
أَعْمَى أَوْ زَمِنًا أَوْ مَفْلُوجًا أَوْ شَيْخًا كَبِيرًا
فَانِيًا وَهُوَ مُوسِرٌ فَلَا جِزْيَةَ عَلَيْهِ وَهُوَ
قَوْلُهُمْ جَمِيعًا فِي الرِّوَايَةِ الْمَشْهُورَةِ وَرُوِيَ
عَنْ أَبِي يُوسُفَ فِي الْأَعْمَى وَالزَّمِنِ وَالشَّيْخِ
الْكَبِيرِ أَنَّ عَلَيْهِمْ الْجِزْيَةَ إذَا كَانُوا
مُوسِرِينَ وَرُوِيَ عَنْهُ مِثْلُ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ
وَرَوَى ابْنُ رُسْتُمَ عَنْ مُحَمَّدٍ فِي نَوَادِرِهِ قَالَ
قُلْت أَرَأَيْت أَهْلَ الذِّمَّةِ مِنْ بَنِي تَغْلِبَ
وَغَيْرِهِمْ لَيْسَ لَهُمْ حِرْفَةٌ وَلَا مَالٌ وَلَا
يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ قَالَ لَا شَيْءَ عَلَيْهِمْ قَالَ
مُحَمَّدٌ وَإِنَّمَا يُوضَعُ الْخَرَاجُ عَلَى الْغَنِيِّ
وَالْمُعْتَمِلِ مِنْهُمْ وَقَالَ مُحَمَّدٌ فِي
النَّصْرَانِيِّ يَكْتَسِبُ وَلَا يَفْضُلُ لَهُ شَيْءٌ عَنْ
عِيَالِهِ إنَّهُ لَا يُؤْخَذُ بِخَرَاجِ رَأْسِهِ وَقَالُوا
فِي أَصْحَابِ الصَّوَامِعِ وَالسَّيَّاحِينَ إذَا كَانُوا لَا
يُخَالِطُونَ النَّاسَ فَعَلَيْهِمْ الْجِزْيَةُ وَكَذَلِكَ
النِّسَاءُ وَالصِّبْيَانُ لَا جِزْيَةَ عَلَيْهِمْ إذْ
لَيْسُوا مِنْ أَهْلِ
(4/289)
الْقِتَالِ وَرَوَى أَيُّوبُ وَغَيْرُهُ
عَنْ نَافِعٍ عَنْ أَسْلَمَ قَالَ كَتَبَ عُمَرُ إلَى
أُمَرَاءِ الْجُيُوشِ أَنْ لَا يُقَاتِلُوا إلَّا مَنْ
قَاتَلَهُمْ وَلَا يَقْتُلُوا النِّسَاءَ وَالصِّبْيَانَ وَلَا
يَقْتُلُوا إلَّا مَنْ جَرَتْ عَلَيْهِ الْمَوَاسِي وَكَتَبَ
إلَى أُمَرَاءِ الْأَجْنَادِ أَنْ يَضْرِبُوا الْجِزْيَةَ
وَلَا يَضْرِبُوهَا عَلَى النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ وَلَا
يَضْرِبُوهَا إلَّا عَلَى مَنْ جَرَتْ عَلَيْهِ الْمَوَاسِي
وَرَوَى عَاصِمٌ عَنْ أَبِي وَائِلٍ عَنْ مَسْرُوقٍ عَنْ
مُعَاذٍ بْنِ جَبَلٍ قَالَ بَعَثَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى الْيَمَنِ وَأَمَرَنِي أَنْ
آخُذَ مِنْ كُلِّ حالم دينارا أو عدله من المعافر
وَأَمَّا مِقْدَارُ الْجِزْيَةِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى حَتَّى
يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ فَلَمْ
تَكُنْ فِي ظَاهِرِ الْآيَةِ دَلَالَةٌ عَلَى مِقْدَارٍ
مِنْهَا بِعَيْنِهِ وَقَدْ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي
مِقْدَارِهَا فَقَالَ أَصْحَابُنَا عَلَى الْمُوسِرِ مِنْهُمْ
ثَمَانِيَةٌ وَأَرْبَعُونَ دِرْهَمًا وَعَلَى الْوَسَطِ
أَرْبَعَةٌ وَعِشْرُونَ دِرْهَمًا وَعَلَى الْفَقِيرِ
الْمُعْتَمِلِ اثْنَا عَشَرَ دِرْهَمًا وَهُوَ قَوْلُ
الْحَسَنِ بْنِ صَالِحٍ وَقَالَ مَالِكٌ أَرْبَعَةُ دَنَانِيرَ
عَلَى أَهْلِ الذَّهَبِ وَأَرْبَعُونَ دِرْهَمًا عَلَى أَهْلِ
الْوَرِقِ الْغَنِيِّ وَالْفَقِيرِ سَوَاءٌ لَا يُزَادُ وَلَا
يُنْقَصُ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ دِينَارٌ عَلَى الْغَنِيِّ
وَالْفَقِيرِ وَرَوَى أَبُو إِسْحَاقَ عَنْ حَارِثَةَ بْنِ
مُضَرِّبٍ قَالَ بَعَثَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ عُثْمَانَ
بْنَ حُنَيْفٍ فَوَضَعَ عَلَى أَهْلِ السَّوَادِ الْخَرَاجَ
ثَمَانِيَةً وَأَرْبَعِينَ دِرْهَمًا وَأَرْبَعَةً وَعِشْرِينَ
دِرْهَمًا وَاثْنَيْ عَشَرَ دِرْهَمًا وَرَوَى الْأَعْمَشُ
عَنْ إبْرَاهِيمَ بْنِ مُهَاجِرٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ
قَالَ بَعَثَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ حُذَيْفَةَ بْنَ
الْيَمَانِ عَلَى مَا وَرَاءِ دِجْلَةَ وَبَعَثَ عُثْمَانَ
بْنَ حُنَيْفٍ عَلَى مَا دُونَ دِجْلَةَ فَأَتَيَاهُ
فَسَأَلَهُمَا كَيْفَ وَضَعْتُمَا عَلَى أَهْلِ الْأَرْضِ
قَالَا وَضَعْنَا عَلَى كُلِّ رِجْلٍ أَرْبَعَةَ دَرَاهِمَ فِي
كُلِّ شَهْرٍ قَالَ وَمَنْ يُطِيقُ هَذَا قَالَا إنَّ لَهُمْ
فضولا فذكر عمرو بن ميمون ثمانية وأربعون دِرْهَمًا وَلَمْ
يُفَصِّلْ الطَّبَقَاتِ وَذَكَرَ حَارِثَةُ بْنُ مُضَرِّبٍ
تَفْصِيلَ الطَّبَقَاتِ الثَّلَاثِ فَالْوَاجِبُ أَنْ يُحْمَلَ
مَا فِي حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ عَلَى أَنَّ مُرَادَهُ
أَكْثَرُ مَا وَضَعَ مِنْ الْجِزْيَةِ وَهُوَ مَا عَلَى
الطَّبَقَةِ الْعُلْيَا دُونَ الْوُسْطَى وَالسُّفْلَى وَرَوَى
مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ عَنْ أَسْلَمَ أَنَّ عُمَرَ ضَرَبَ
الْجِزْيَةَ عَلَى أَهْلِ الذَّهَبِ أَرْبَعَةَ دَنَانِيرَ
وَعَلَى أَهْلِ الْوَرِقِ أَرْبَعِينَ دِرْهَمًا مَعَ
أَرْزَاقِ الْمُسْلِمِينَ وَضِيَافَةِ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ
وَهَذَا نحو رواية عمر بْنِ مَيْمُونٍ لِأَنَّ أَرْزَاقَ
الْمُسْلِمِينَ وَضِيَافَةَ ثَلَاثَةَ أيام مع الأربعين يفي
ثمانية وأربعون دِرْهَمًا فَكَانَ الْخَبَرُ الَّذِي فِيهِ
تَفْصِيلُ الطَّبَقَاتِ الثَّلَاثِ أَوْلَى بِالِاسْتِعْمَالِ
لِمَا فِيهِ مِنْ الزِّيَادَةِ وَبَيَانِ حُكْمِ كُلِّ
طَبَقَةٍ وَلِأَنَّ مَنْ وَضَعَهَا عَلَى الطَّبَقَاتِ فَهُوَ
قَائِلٌ بِخَبَرِ الثَّمَانِيَةِ وَالْأَرْبَعِينَ وَمَنْ
اقْتَصَرَ عَلَى الثَّمَانِيَةِ وَالْأَرْبَعِينَ فَهُوَ
تَارِكٌ لِلْخَبَرِ الَّذِي فِيهِ ذِكْرُ تَمْيِيزِ
الطَّبَقَاتِ وَتَخْصِيصِ كُلِّ وَاحِدٍ بِمِقْدَارٍ مِنْهَا
وَاحْتَجَّ مَنْ قَالَ
(4/290)
بدينار على الغنى والفقير بما
روى مُعَاذٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ حِينَ بَعَثَهُ إلَى الْيَمَنِ أَمَرَهُ أَنْ
يَأْخُذَ مِنْ كُلِّ حَالِمٍ دِينَارًا أَوْ عِدْلَهُ مِنْ
الْمَعَافِرِ
وَهَذَا عِنْدَنَا فِيمَا كَانَ مِنْهُ عَلَى وَجْهِ الصُّلْحِ
أَوْ يَكُونُ ذَلِكَ جِزْيَةُ الْفُقَرَاءِ مِنْهُمْ وَذَلِكَ
عِنْدَنَا جَائِزٌ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ ما
روى في بعض أخبار معاد أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ كُلِّ حَالِمٍ
أَوْ حَالِمَةٍ دينارا
ولا خلاف أن المرأة لا تأخذ مِنْهَا الْجِزْيَةُ إلَّا أَنْ
يَقَعَ الصُّلْحُ عَلَيْهِ
وَرَوَى أَبُو عُبَيْدُ عَنْ جَرِيرٍ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ
الْحَكَمِ قَالَ كَتَبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى مُعَاذٍ وَهُوَ بِالْيَمَنِ إنَّ فِي
الْحَالِمِ وَالْحَالِمَةِ دِينَارًا أَوْ عِدْلَهُ مِنْ
الْمَعَافِرِ
قَالَ أَبُو عُبَيْدُ وَحَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ صَالِحٍ
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ لَهِيعَةَ عَنْ أَبِي الْأَسْوَدِ
عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ قَالَ كَتَبَ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى أَهْلِ الْيَمَنِ
إنَّهُ مَنْ كَانَ عَلَى يَهُودِيَّةٍ أَوْ نَصْرَانِيَّةٍ
فَإِنَّهُ لَا يُنْقَلُ عَنْهَا وَعَلَيْهِ الْجِزْيَةُ
وَعَلَى كُلِّ حَالِمٍ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى عَبْدٍ أَوْ أَمَةٍ
دِينَارٌ أَوْ قِيمَتُهُ مِنْ الْمَعَافِرِ
وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْجِزْيَةَ عَلَى الطَّبَقَاتِ
الثَّلَاثِ أَنَّ خَرَاجَ الْأَرَضِينَ جُعِلَ عَلَى مِقْدَارِ
الطَّاقَةِ وَاخْتَلَفَ بِحَسَبِ اخْتِلَافِهَا فِي الْأَرْضِ
وَغَلَّتِهَا فَجَعَلَ عَلَى بَعْضِهَا قَفِيزًا وَدِرْهَمًا
وَعَلَى بَعْضِهَا خَمْسَةَ دَرَاهِمَ وَعَلَى بَعْضِهَا
عَشَرَةَ دَرَاهِمَ فَوَجَبَ عَلَى ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ
كَذَلِكَ حُكْمُ خَرَاجِ الرُّءُوسِ عَلَى قَدْرِ الْإِمْكَانِ
وَالطَّاقَةِ وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُ عُمَرَ
لِحُذَيْفَةَ وَعُثْمَانَ بْنِ حُنَيْفٍ لَعَلَّكُمَا
حَمَّلْتُمَا أَهْلَ الْأَرْضِ مَا لَا يُطِيقُونَ فَقَالَا
بَلْ تَرَكْنَا لَهُمْ فَضْلًا وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ
الِاعْتِبَارَ بِمِقْدَارِ الطَّاقَةِ وَذَلِكَ يُوجِبُ
اعْتِبَارَ حَالَيْ الْإِعْسَارِ وَالْيَسَارِ وَذَكَرَ يحيى
ابن آدَمَ أَنَّ الْجِزْيَةَ عَلَى مِقْدَارِ الِاحْتِمَالِ
بِغَيْرِ تَوْقِيتٍ وَهُوَ خِلَافُ الْإِجْمَاعِ وَحُكِيَ عَنْ
الْحَسَنِ بْنِ صَالِحٍ أَنَّهُ لَا تَجُوزُ الزِّيَادَةُ فِي
الجزية على وظيفة عمر ويجوز النقصان عَلَى حَسَبِ الطَّاقَةِ
وَقَدْ رَوَى الْحَكَمُ عَنْ عَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ أَنَّهُ
شَهِدَ عُمَرَ يَقُولُ لعثمان بن حنيف والله لئن وضعت على
كُلِّ جَرِيبٍ مِنْ الْأَرْضِ قَفِيزًا وَدِرْهَمًا وَعَلَى
كُلِّ رَأْسٍ دِرْهَمَيْنِ لَا يَشُقُّ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ
وَلَا يُجْهِدُهُمْ قَالَ وَكَانَتْ ثَمَانِيَةً وَأَرْبَعِينَ
فَجَعَلَهَا خَمْسِينَ وَاحْتَجَّ مَنْ قَالَ بِجَوَازِ
الزِّيَادَةِ بِهَذَا الْحَدِيثِ وَهَذَا لَيْسَ بِمَشْهُورٍ
وَلَمْ تَثْبُتْ بِهِ رِوَايَةٌ وَاحْتَجُّوا أَيْضًا بِمَا
رَوَى أَبُو الْيَمَانِ عَنْ صَفْوَانَ بْنِ عَمْرٍو عَنْ
عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ أَنَّهُ فَرَضَ عَلَى رُهْبَانِ
الدِّيَارَاتِ عَلَى كُلٍّ رَاهِبٍ دِينَارَيْنِ وَهَذَا
عِنْدَنَا عَلَى أَنَّهُ ذَاهِبٌ مِنْ الطَّبَقَةِ الْوُسْطَى
فَأَوْجَبَ ذَلِكَ عليهم على مَا رَأَى مِنْ احْتِمَالِهِمْ
لَهُ كَمَا رَوَى سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ ابْنِ أَبِي
نَجِيحٍ قَالَ سَأَلْت مُجَاهِدًا لِمَ وَضَعَ عُمَرُ عَلَى
أَهْلِ الشَّامِ مِنْ الْجِزْيَةِ أَكْثَرَ مِمَّا وَضَعَ
عَلَى أَهْلِ الْيَمَنِ قَالَ لِلْيَسَارِ.
(4/291)
فِي تَمْيِيزِ الطَّبَقَاتِ
قَالَ أَبُو يُوسُفَ فِي كِتَابِ الْخَرَاجِ تُؤْخَذُ مِنْهُمْ
عَلَى الطَّبَقَاتِ عَلَى مَا وَصَفْت ثَمَانِيَةً
وَأَرْبَعِينَ عَلَى الْمُوسِرِ مِثْلُ الصَّيْرَفِيِّ
وَالْبَزَّازِ وَصَاحِبِ الصَّنْعَةِ وَالتَّاجِرِ
وَالْمُعَالِجِ وَالطَّبِيبِ وَكُلِّ مَنْ كَانَ فِي يَدِهِ
مِنْهُمْ صَنْعَةٌ وَتِجَارَةٌ يَحْتَرِفُ بِهَا أُخِذَ مِنْ
أَهْلِ كُلِّ صِنَاعَةٍ وَتِجَارَةٍ عَلَى قَدْرِ
صِنَاعَتِهِمْ وَتِجَارَتِهِمْ ثَمَانِيَةٌ وَأَرْبَعُونَ
عَلَى الْمُوسِرِ وَأَرْبَعَةٌ وَعِشْرُونَ مِنْ
الْمُتَوَسِّطِ من احتملت صناعته ثمانية وأربعون أُخِذَ مِنْهُ
ذَلِكَ وَمَنْ احْتَمَلَتْ أَرْبَعَةً وَعِشْرِينَ أُخِذَ
ذَلِكَ مِنْهُ وَاثْنَا عَشَرَ عَلَى الْعَامِلِ بِيَدِهِ
مِثْلُ الْخَيَّاطِ وَالصَّبَّاغِ وَالْجَزَّارِ
وَالْإِسْكَافِ وَمَنْ أشبههم فلم يعتبر الملك واعتبر الصنعات
وَالتِّجَارَاتِ عَلَى مَا جَرَتْ بِهِ عَادَةُ النَّاسِ فِي
الْمُوسِرِ وَالْمُعْسِرِ مِنْهُمْ وَذَكَرَ عَلِيٌّ بْنُ
مُوسَى الْقُمِّيُّ مِنْ غَيْرِ أَنْ عَزَى ذَلِكَ إلَى أَحَدٍ
مِنْ أَصْحَابِنَا أَنَّ الطَّبَقَةَ الْأُولَى مَنْ
يَحْتَرِفُ وَلَيْسَ لَهُ مَا يَجِبُ فِي مِثْلِهِ الزَّكَاةُ
عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَهُمْ الْفُقَرَاءُ الْمُحْتَرِفُونَ
فَمَنْ كَانَ لَهُ أَقَلُّ مِنْ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ فَهُمْ
مِنْ أَهْلِ هَذِهِ الطَّبَقَةِ قَالَ وَالطَّبَقَةُ الثانية
أن يبلغ مال الرجل مِائَتَيْ دِرْهَمٍ فَمَا زَادَ إلَى
أَرْبَعَةِ آلَافِ دِرْهَمٍ لِأَنَّ مَنْ لَهُ مِائَتَا
دِرْهَمٍ غَنِيٌّ تَجِبُ عَلَيْهِ الزَّكَاةُ لَوْ كَانَ
مُسْلِمًا فَهُوَ خَارِجٌ عَنْ طِبْقَةِ الْفُقَرَاءِ قَالَ
وَإِنَّمَا أَخَذْنَا اعْتِبَارَ الْأَرْبَعَةِ الْآلَافِ مِنْ
قَوْلِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَابْنِ عُمَرَ
أَرْبَعَةُ آلَافٍ فَمَا دُونَهَا نَفَقَةٌ وَمَا فَوْقَ
ذَلِكَ فَهُوَ كَثِيرٌ قَالَ وَقَدْ يَجُوزُ أَنْ تُجْعَلَ
الطَّبَقَةُ الثَّانِيَةُ مَنْ مَلَكَ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ إلَى
عَشَرَةِ آلَافِ دِرْهَمٍ وَمَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ فَهُوَ
مِنْ الطَّبَقَةِ الثَّالِثَةِ لِمَا
رَوَى حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ عَنْ طَلْحَةَ بْنِ عَبْدِ
اللَّهِ بْنِ كُرَيْزٍ عَنْ أَبِي الضَّيْفِ عَنْ أَبِي
هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قال من تَرَكَ عَشَرَةَ آلَافِ دِرْهَمٍ جُعِلَتْ
صَفَائِحُ يُعَذَّبُ بِهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ
وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ عَلِيُّ بْنُ مُوسَى الْقُمِّيُّ
هُوَ اجْتِهَادٌ يَسُوغُ الْقَوْلُ بِهِ لِمَنْ غَلَبَ فِي
ظَنِّهِ صَوَابُهُ وقَوْله تعالى عن يد قَالَ قَتَادَةُ عَنْ
قَهْرٍ كَأَنَّهُ ذَهَبَ فِي الْيَدِ إلَى الْقُوَّةِ
وَالْقُدْرَةِ وَالِاسْتِعْلَاءِ فَكَأَنَّهُ قَالَ عَلَى
اسْتِعْلَاءٍ مِنْكُمْ عَلَيْهِمْ وَقَهْرِهِمْ وَقِيلَ عَنْ
يد يَعْنِي عَنْ يَدِ الْكَافِرِ وَإِنَّمَا ذَكَرَ الْيَدَ
ليفارق حال الغضب لِأَنَّهُ يُعْطِيهَا بِيَدِهِ رَاضِيًا
بِهَا حَاقِنًا بِهَا دَمَهُ فَكَأَنَّهُ قَالَ حَتَّى
يُعْطِيَهَا وَهُوَ رَاضٍ بها ويحتمل عن يد عَنْ نِعْمَةٍ
فَيَكُونُ تَقْدِيرُهُ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عن اعتراف
منهم بالنعمة فيها بقبولها منهم وقال بعضهم عن يد يَعْنِي عَنْ
نَقْدٍ مِنْ قَوْلِهِمْ يَدًا بِيَدٍ وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ
مَعْمَرُ بْنُ الْمُثَنَّى كُلُّ من أطاع لقاهر بِشَيْءٍ
أَعْطَاهُ عَنْ طِيبِ نَفْسٍ وَقَهْرٍ لَهُ مِنْ يَدٍ فِي
يَدِهِ فَقَدْ أَعْطَاهُ عَنْ يَدٍ قَالَ وَالصَّاغِرُ
الذَّلِيلُ الْحَقِيرُ وَقَوْلُهُ وَهُمْ صاغرون قَالَ ابْنُ
عَبَّاسٍ يَمْشُونَ
(4/292)
بِهَا مُلَبِّبِينَ وَقَالَ سَلْمَانُ
مَذْمُومِينَ غَيْرَ مَحْمُودِينَ وَقِيلَ إنَّمَا كَانَ
صَغَارًا لِأَنَّهَا مُسْتَحَقَّةٌ عَلَيْهِمْ يُؤْخَذُونَ
بِهَا وَلَا يُثَابُونَ عَلَيْهَا وَقَالَ عِكْرِمَةُ الصغار
إعطاء الجزية قائما والآخذ جالس وَقِيلَ الصَّغَارُ الذُّلُّ
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهِ الذِّلَّةُ الَّتِي
ضَرَبَهَا اللَّهُ عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ
الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلا بحبل من الله وحبل من
الناس وَالْحَبْلُ الذِّمَّةُ الَّتِي عَهِدَهَا اللَّهُ
لَهُمْ وَأَمَرَ الْمُسْلِمِينَ بِهَا فِيهِمْ وَرَوَى عَبْدُ
الْكَرِيمِ الْجَزَرِيُّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ
أَنَّهُ كَانَ يَسْتَحِبُّ أَنْ يُتْعِبَ الْأَنْبَاطَ فِي
الْجِزْيَةِ إذَا أُخِذَتْ مِنْهُمْ قَالَ أَبُو بَكْرٍ وَلَمْ
يُرِدْ بِذَلِكَ تَعْذِيبَهُمْ وَلَا تَكْلِيفَهُمْ فَوْقَ
طَاقَتِهِمْ وَإِنَّمَا أَرَادَ الاستخفاف بهم وإذ لا لهم
وَحَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي بْنُ قَانِعٍ قَالَ حَدَّثَنَا
إِسْحَاقُ بْنُ الْحَسَنِ حَدَّثَنَا أَبُو حُذَيْفَةَ قَالَ
حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ سُهَيْلٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي
هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا لَقِيتُمْ الْمُشْرِكِينَ فِي
الطَّرِيقِ فَلَا تَبْدَءُوهُمْ بالسلام واضطروهم إلى أضيقه
وَحَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي قَالَ حَدَّثَنَا مُطَيْرٌ
قَالَ حَدَّثَنَا يُوسُفُ الصَّفَّارُ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو
بَكْرٍ ابن عَيَّاشٍ عَنْ سُهَيْلٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي
هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا تُصَافِحُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى
فَهَذَا كُلُّهُ مِنْ الصَّغَارِ الَّذِي أَلْبَسَ اللَّهُ
الْكُفَّارَ بِكُفْرِهِمْ وَنَحْوُهُ قَوْله تَعَالَى يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تتخذوا بطانة من دونكم الْآيَةَ
وَقَالَ لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ
بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ
فَإِنَّهُ منهم فَنَهَى فِي هَذِهِ الْآيَاتِ عَنْ مُوَالَاةِ
الْكُفَّارِ وإكرامهم وأمر بإهانتهم وإذ لا لهم وَنَهَى عَنْ
الِاسْتِعَانَةِ بِهِمْ فِي أُمُورِ الْمُسْلِمِينَ لِمَا
فِيهِ مِنْ الْعِزِّ وَعُلُوِّ الْيَدِ وَكَذَلِكَ كَتَبَ
عُمَرُ إلَى أَبِي مُوسَى يَنْهَاهُ أَنْ يَسْتَعِينَ بِأَحَدٍ
مِنْ أَهْلِ الشِّرْكِ فِي كِتَابَتِهِ وَتَلَا قَوْله
تَعَالَى لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يألونكم
خبالا وَقَالَ لَا تَرُدُّوهُمْ إلَى الْعِزِّ بَعْدَ
إذْلَالِهِمْ اللَّهِ وقَوْله تَعَالَى حَتَّى يُعْطُوا
الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ قَدْ اقْتَضَى
وُجُوبَ قَتْلِهِمْ إلَى أَنْ تُؤْخَذَ مِنْهُمْ الْجِزْيَةُ
عَلَى وَجْهِ الصَّغَارِ وَالذِّلَّةِ فَغَيْرُ جَائِزٍ عَلَى
هَذِهِ الْقَضِيَّةِ أَنْ تَكُونَ لَهُمْ ذِمَّةٌ إذَا
تَسَلَّطُوا عَلَى الْمُسْلِمِينَ بِالْوِلَايَاتِ وَنَفَاذِ
الْأَمْرِ وَالنَّهْي إذْ كَانَ اللَّهُ إنَّمَا جَعَلَ لَهُمْ
الذِّمَّةَ وَحَقَنَ دِمَاءَهُمْ بِإِعْطَاءِ الْجِزْيَةِ
وَكَوْنِهِمْ صَاغِرِينَ فَوَاجِبٌ عَلَى هَذَا قَتْلُ مَنْ
تَسَلَّطَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ بِالْغُصُوبِ وَأَخْذِ
الضَّرَائِبِ وَالظُّلْمِ سَوَاءٌ كَانَ السُّلْطَانُ وَلَّاهُ
ذَلِكَ أَوْ فَعَلَهُ بِغَيْرِ أَمْرِ السُّلْطَانِ وَهَذَا
يَدُلُّ عَلَى أَنَّ هَؤُلَاءِ النَّصَارَى الَّذِينَ
يَتَوَلَّوْنَ أَعْمَالَ السُّلْطَانِ وَظَهَرَ مِنْهُمْ
ظُلْمٌ وَاسْتِعْلَاءٌ عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَأَخْذُ
الضَّرَائِبِ لَا ذِمَّةَ لَهُمْ وَأَنَّ دِمَاءَهُمْ
مُبَاحَةٌ وَإِنْ كَانَ آخذ الضرائب ممن ينتحل الإسلام والقعود
على المراصيد لأخذ أموال
(4/293)
النَّاسِ يُوجِبُ إبَاحَةَ دِمَائِهِمْ إذْ
كَانُوا بِمَنْزِلَةِ قُطَّاعِ الطَّرِيقِ وَمَنْ قَصَدَ
إنْسَانًا لِأَخْذِ مَالِهِ فَلَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ
أَنَّ لَهُ قَتْلَهُ وَكَذَلِكَ
قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ
طَلَبَ مَالَهُ فَقَاتَلَ فَقُتِلَ فَهُوَ شَهِيدٌ
وَفِي خَبَرٍ آخَرَ مَنْ قُتِلَ دُونَ مَالِهِ فهو شهيد ومن
قتل دون أهله فهو شَهِيدٌ وَمَنْ قُتِلَ دُونَ دَمِهِ فَهُوَ
شَهِيدٌ
فَإِذَا كَانَ هَذَا حُكْمُ مَنْ طَلَبَ أَخْذَ مَالِ غَيْرِهِ
غَصْبًا وَهُوَ مِمَّنْ يَنْتَحِلُ الْإِسْلَامَ فَالذِّمِّيُّ
إذَا فَعَلَ ذَلِكَ اسْتَحَقَّ الْقَتْلَ مِنْ وَجْهَيْنِ
أَحَدُهُمَا مَا اقْتَضَاهُ ظَاهِرُ الْآيَةِ مِنْ وُجُوبِ
قَتْلِهِ وَالْآخَرُ قَصْدُهُ الْمُسْلِمَ بِأَخْذِ مَالِهِ
ظلما.
بَابُ وَقْتُ وُجُوبِ الْجِزْيَةِ
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يؤمنون بالله-
إلَى قَوْلِهِ- حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وهم
صاغرون فَأَوْجَبَ قِتَالَهُمْ وَجَعَلَ إعْطَاءَ الْجِزْيَةِ
غَايَةً لِرَفْعِهِ عَنْهُمْ لِأَنَّ حَتَّى غَايَةٌ هَذَا
حَقِيقَةُ اللَّفْظِ وَالْمَفْهُومُ مِنْ ظَاهِرِهِ أَلَا
تَرَى أَنَّ قَوْلَهُ ولا تقربوهن حتى يطهرن قَدْ حَظَرَ
إبَاحَةَ قُرْبِهِنَّ إلَّا بَعْدَ وُجُودِ طُهْرِهِنَّ
وَكَذَلِكَ الْمَفْهُومُ مِنْ قَوْلِ الْقَائِلِ لَا تُعْطِ
زَيْدًا شَيْئًا حَتَّى يَدْخُلَ الدَّارَ مَنَعَ الْإِعْطَاءَ
إلَّا بَعْدَ دُخُولِهِ فَثَبَتَ بِذَلِكَ أَنَّ الْآيَةَ
مُوجِبَةٌ لِقِتَالِ أَهْلِ الْكِتَابِ مُزِيلَةٌ ذَلِكَ
عَنْهُمْ بِإِعْطَاءِ الْجِزْيَةِ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ
الْجِزْيَةَ قَدْ وَجَبَتْ بِعَقْدِ الذِّمَّةِ وَكَذَلِكَ
كَانَ يَقُولُ أَبُو الْحَسَنِ الْكَرْخِيُّ وَذَكَرَ ابْنُ
سِمَاعَةَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ قَالَ لَا تُؤْخَذُ مِنْ
الذِّمِّيِّ الْجِزْيَةُ حَتَّى تَدْخُلَ السَّنَةُ وَيَمْضِيَ
شَهْرَانِ مِنْهَا بَعْضُ مَا عَلَيْهِ بِشَهْرَيْنِ وَنَحْوُ
ذَلِكَ يُعَامَلُ فِي الْجِزْيَةِ بِمَنْزِلَةِ الضَّرِيبَةِ
كُلَّمَا كَانَ يَمْضِي شَهْرَانِ أَوْ نَحْوُ ذَلِكَ أُخِذَتْ
مِنْهُ قَالَ أَبُو بَكْرٍ يَعْنِي بِالضَّرِيبَةِ الْأُجْرَةَ
فِي الْإِجَارَاتِ قَالَ أَبُو يُوسُفَ وَلَا يُؤْخَذُ ذَلِكَ
مِنْهُ حِينَ تَدْخُلُ السَّنَةُ وَلَا يُؤْخَذُ ذَلِكَ مِنْهُ
حَتَّى تَتِمَّ السَّنَةُ وَلَكِنْ يُعَامَلُ ذَلِكَ على
سَنَتِهِ قَالَ أَبُو بَكْرٍ ذِكْرُهُ لِلشَّهْرَيْنِ إنَّمَا
هو توفية وهي واجبة بإقرارنا إياها عَلَى الذِّمَّةِ لِمَا
تَضَمَّنَهُ ظَاهِرُ الْآيَةِ وَذَكَرَ ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ
أَبِي يُوسُفَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ قَالَ فِي
الذِّمِّيِّ يُؤْخَذُ مِنْهُ خراج رأسه في سنته مادام فِيهَا
فَإِذَا انْقَضَتْ السَّنَةُ لَمْ يُؤْخَذْ مِنْهُ وَهَذَا
يَدُلُّ مِنْ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَة عَلَى أَنَّهُ رَآهَا
وَاجِبَةً بِعَقْدِ الذِّمَّةِ لَهُمْ وَأَنَّ تأخيرها بَعْضَ
السَّنَةِ إنَّمَا هُوَ تَوْفِيَةٌ لِلْوَاجِبِ وَتَوْسِعَةٌ
أَلَا تَرَى أَنَّهُ قَالَ فَإِذَا انْقَضَتْ السَّنَةُ لم
يؤخذ مِنْهُ لِأَنَّ دُخُولَ السَّنَةِ الثَّانِيَةِ يُوجِبُ
جِزْيَةً أُخْرَى فَإِذَا اجْتَمَعَتَا سَقَطَتْ إحْدَاهُمَا
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ اجْتِمَاعُهُمَا لَا
يُسْقِطُ إحْدَاهُمَا وَجْهُ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ
الْجِزْيَةَ وَاجِبَةٌ عَلَى وَجْهِ الْعُقُوبَةِ
لِإِقَامَتِهِمْ عَلَى الْكُفْرِ مَعَ
(4/294)
كَوْنِهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقِتَالِ وَحَقُّ
الْأَخْذِ فِيهَا إلَى الْإِمَامِ فَأَشْبَهَتْ الْحُدُودَ إذْ
كَانَتْ مُسْتَحَقَّةً فِي الْأَصْلِ عَلَى وَجْهِ
الْعُقُوبَةِ وَحَقُّ الْأَخْذِ إلَى الْإِمَامِ فَلَمَّا
كَانَ اجْتِمَاعُ الْحُدُودِ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ يُوجِبُ
الِاقْتِصَارَ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِثْلَ أَنْ يَزْنِيَ
مِرَارًا أَوْ يَسْرِقَ مِرَارًا ثُمَّ يُرْفَعُ إلَى
الْإِمَامِ فَلَا يَجِبُ إلَّا حَدٌّ وَاحِدٌ بِجَمِيعِ
الْأَفْعَالِ كَذَلِكَ حُكْمُ الْجِزْيَةِ إذْ كَانَتْ
مُسْتَحَقَّةً عَلَى وَجْهِ الْعُقُوبَةِ بَلْ هِيَ أَخَفُّ
أَمْرًا وَأَضْعَفُ حَالًا مِنْ الْحُدُودِ لِأَنَّهُ لَا
خِلَافَ بَيْنَ أَصْحَابِنَا أَنَّ إسْلَامَهُ يُسْقِطُهَا
وَلَا تَسْقُطُ الْحُدُودُ بِالْإِسْلَامِ فَإِنْ قِيلَ لَمَّا
كَانَ ذَلِكَ دَيْنًا وَحَقًّا فِي مَالِ الْمُسْلِمِينَ لَمْ
يُسْقِطْهُ اجْتِمَاعُهُ كَالدُّيُونِ وَخَرَاجِ الْأَرَضِينَ
قِيلَ لَهُ خَرَاجُ الْأَرَضِينَ لَيْسَ بِصَغَارٍ وَلَا
عُقُوبَةٍ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ يُؤْخَذُ مِنْ
الْمُسْلِمِينَ وَالْجِزْيَةُ لَا تُؤْخَذُ مِنْ مُسْلِمٍ
وَقَدْ رُوِيَ نَحْوِ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ عَنْ طَاوُسٍ
وَرَوَى ابْنُ جُرَيْجٍ عَنْ سُلَيْمَانَ الْأَحْوَلِ عَنْ
طَاوُسٍ قَالَ إذَا تَدَارَكَتْ صَدَقَاتٌ فَلَا تُؤْخَذُ
الْأُولَى كَالْجِزْيَةِ وَقَدْ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي
الذِّمِّيِّ إذَا أَسْلَمَ وَقَدْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ جِزْيَةٌ
هَلْ يُؤْخَذُ بِهَا فَقَالَ أَصْحَابُنَا لَا يُؤْخَذُ وَهُوَ
قَوْلُ مَالِك وَعُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَسَنِ وَقَالَ
ابْنُ شُبْرُمَةَ وَالشَّافِعِيُّ إذَا أَسْلَمَ فِي بَعْضِ
السَّنَةِ أُخِذَ مِنْهُ بِحِسَابِ ذَلِكَ وَالدَّلِيلُ عَلَى
أَنَّ الْإِسْلَامَ يُسْقِطُ مَا وَجَبَ مِنْ الْجِزْيَةِ
قَوْله تعالى قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله- إلَى قَوْلِهِ-
حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وهم صاغرون
فَانْتَظَمَتْ هَذِهِ الْآيَةِ الدَّلَالَةُ مِنْ وَجْهَيْنِ
عَلَى صِحَّةِ مَا قُلْنَا أَحَدُهُمَا الْأَمْرُ بِأَخْذِ
الْجِزْيَةِ مِمَّنْ يَجِبُ قِتَالُهُ لِإِقَامَتِهِ عَلَى
الْكُفْرِ إنْ لَمْ يُؤَدِّهَا وَمَتَى أَسْلَمَ لَمْ يَجِبْ
قِتَالُهُ فَلَا جِزْيَةَ عَلَيْهِ وَالْوَجْهُ الثَّانِي
قَوْله تَعَالَى عن يد وهم صاغرون فَأَمَرَ بِأَخْذِهَا
مِنْهُمْ عَلَى وَجْهِ الصَّغَارِ وَالذِّلَّةِ وَهَذَا
الْمَعْنَى مَعْدُومٌ بَعْدَ الْإِسْلَامِ إذْ غَيْرُ مُمْكِنٍ
أَخْذُهَا عَلَى هَذَا الْوَجْهِ وَمَتَى أَخَذْنَاهَا عَلَى
غَيْرِ هَذَا الْوَجْهِ لَمْ تَكُنْ جِزْيَةٌ لِأَنَّ
الْجِزْيَةَ هِيَ مَا أُخِذَ عَلَى وَجْهِ الصَّغَارِ وَقَدْ
رَوَى الثَّوْرِيُّ عَنْ قَابُوسَ بْنِ أَبِي ظَبْيَانَ عَنْ
أَبِيهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
لَيْسَ عَلَى مُسْلِمٍ جِزْيَةٌ
فَنَفَى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخْذَهَا مِنْ
الْمُسْلِمِ وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ مَا وَجَبَ عَلَيْهِ فِي
حَالِ الْكُفْرِ وَبَيْنَ مَا لَمْ يَجِبْ بَعْدَ الْإِسْلَامِ
فَوَجَبَ بِظَاهِرِ ذَلِكَ إسْقَاطُ الْجِزْيَةِ عَنْهُ
بِالْإِسْلَامِ وَيَدُلُّ عَلَى سُقُوطِهَا أَنَّ الْجِزْيَةَ
وَالْجَزَاءَ وَاحِدٌ وَمَعْنَاهُ جَزَاءُ الْإِقَامَةِ عَلَى
الْكُفْرِ مِمَّنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْقِتَالِ فَمَتَى
أَسْلَمَ سَقَطَ عَنْهُ بِالْإِسْلَامِ الْمُجَازَاةُ عَلَى
الْكُفْرِ إذْ غَيْرُ جَائِزٍ عِقَابُ التَّائِبِ فِي حَالِ
الْمُهْلَةِ وَبَقَاءِ التَّكْلِيفِ وَلِهَذَا الِاعْتِبَارِ
أَسْقَطَهَا أَصْحَابُنَا بِالْمَوْتِ لِفَوَاتِ أَخْذِهَا
مِنْهُ عَلَى وَجْهِ الصَّغَارِ بَعْدَ مَوْتِهِ فَلَا يَكُونُ
مَا يَأْخُذُهُ جِزْيَةٌ وَعَلَى هَذَا قَالُوا فيمن وجبت
(4/295)
عَلَيْهِ زَكَاةُ مَالِهِ وَمَوَاشِيهِ
فَمَاتَ إنَّهَا تَسْقُطُ وَلَا يَأْخُذُهَا الْإِمَامُ مِنْهُ
لِأَنَّ سَبِيلَ أَخْذِهَا وَمَوْضُوعِهَا فِي الْأَصْلِ
سَبِيلُ الْعِبَادَاتِ يُسْقِطُهَا الْمَوْتُ وَقَالُوا
فِيمَنْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ نَفَقَةُ امْرَأَتِهِ بِفَرْضِ
الْقَاضِي فَمَاتَ أَوْ مَاتَتْ إنَّهَا تَسْقُطُ لِأَنَّ
مَوْضُوعَهَا عِنْدَهُمْ مَوْضُوعُ الصِّلَةِ إذْ لَيْسَتْ
بَدَلًا عَنْ شَيْءٍ وَمَعْنَى الصِّلَةِ لَا يَتَأَتَّى
بَعْدَ الْمَوْتِ فَأَسْقَطُوهَا لِهَذِهِ الْعِلَّةِ فَإِنْ
قِيلَ الْحُدُودُ وَاجِبَةٌ عَلَى وَجْهِ الْعُقُوبَةِ
وَالتَّوْبَةُ لَا تُسْقِطُهَا وَكَذَلِكَ لَوْ أَنَّ
ذِمِّيًّا أَسْلَمَ وَقَدْ زَنَى أَوْ سَرَقَ فِي حَالِ
كُفْرِهِ لَمْ يَكُنْ إسْلَامُهُ وَتَوْبَتُهُ مُسْقِطَيْنِ
لِحَدِّهِ وَإِنْ كَانَ وُجُوبُ الْحَدِّ فِي الْأَصْلِ عَلَى
وَجْهِ الْعُقُوبَةِ وَالتَّائِبُ لَا يَسْتَحِقُّ الْعِقَابَ
عَلَى فِعْلٍ قَدْ صَحَّتْ مِنْهُ تَوْبَتُهُ قِيلَ لَهُ
أَمَّا الْحَدُّ الَّذِي كَانَ وَاجِبًا عَلَى وَجْهِ
الْعُقُوبَةِ فَقَدْ سَقَطَ بالتوبة وما توجبه بَعْدَهَا
لَيْسَ هُوَ الْحَدُّ الْمُسْتَحَقُّ عَلَى وَجْهِ العقوبة بل
هو حج وَاجِبٌ عَلَى وَجْهِ الْمِحْنَةِ بِدَلَالَةٍ قَامَتْ
لَنَا عَلَى وُجُوبِهِ غَيْرَ الدَّلَالَةِ الْمُوجِبَةِ
لِلْحَدِّ الْأَوَّلِ عَلَى وَجْهِ الْعُقُوبَةِ فَإِنْ
قَامَتْ دَلَالَةٌ عَلَى وُجُوبِ أَخْذِ الْمَالِ مِنْهُ
بَعْدَ إسْلَامِهِ لَا على وجه الجزية والعقوبة لما نَأْبَ
إيجَابَهُ إلَّا أَنَّهُ لَا يَكُونُ جِزْيَةٌ لِأَنَّ اسْمَ
الْجِزْيَةِ يَتَضَمَّنُ كَوْنَهَا عُقُوبَةً وَأَنْتَ
فَإِنَّمَا تَزْعُمُ أَنَّهُ تُؤْخَذُ مِنْهُ الْجِزْيَةُ
بَعْدَ إسْلَامِهِ فَإِنْ اعْتَرَفْت بِأَنَّ الْمَأْخُوذَ
مِنْهُ غَيْرُ جِزْيَةٍ وَأَنَّ الْجِزْيَةَ الَّتِي كَانَتْ
وَاجِبَةٌ قَدْ سَقَطَتْ وَإِنَّمَا يَجِبُ مَالٌ آخَرُ غَيْرَ
الْجِزْيَةِ فَإِنَّمَا أَنْتَ رِجْلٌ سُمْتنَا إيجَابَ مَالٍ
عَلَى مُسْلِمٍ مِنْ غَيْرِ سَبَبٍ يَقْتَضِي إيجَابَهُ
وَهَذَا لا نسلم لك به إلَّا بِدَلَالَةٍ وَقَدْ رَوَى
الْمَسْعُودِيُّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ
الثَّقَفِيِّ أَنَّ دِهْقَانًا أَسْلَمَ فَقَامَ إلَى عَلِيٍّ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقَالَ لَهُ عَلِيٌّ أَمَّا أَنْتَ
فَلَا جِزْيَةَ عَلَيْك وَأَمَّا أَرْضُك فَلَنَا وَفِي لَفْظٍ
آخَرَ إنْ تَحَوَّلْت عَنْهَا فَنَحْنُ أَحَقُّ بِهَا وَرَوَى
مَعْمَرٌ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ مُحَمَّدٍ قَالَ أَسْلَمَ رَجُلٌ
فأخذ بالخراج وقيل له إنك متعود بِالْإِسْلَامِ فَقَالَ إنَّ
فِي الْإِسْلَامِ لَمُعَاذًا إنْ فَعَلْت فَقَالَ عُمَرُ
أَجَلْ وَاَللَّهِ إنَّ فِي الْإِسْلَامِ مُعَاذًا إنْ فَعَلَ
فَرَفَعَ عَنْهُ الْجِزْيَةَ وروى حماد ابن سَلَمَةَ عَنْ
حُمَيْدٍ قَالَ كَتَبَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ مَنْ
شَهِدَ شَهَادَتَنَا وَاسْتَقْبَلَ قِبْلَتَنَا وَاخْتَتَنَ
فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ الْجِزْيَةَ فَلَمْ يُفَرِّقْ
هَؤُلَاءِ السَّلَفُ بَيْنَ الْجِزْيَةِ الْوَاجِبَةِ قَبْلَ
الْإِسْلَامِ وَبَيْنَ حَالِهِ بَعْدَ الْإِسْلَامِ فِي
نَفْيهَا عَنْ كُلِّ مُسْلِمٍ وَقَدْ كَانَ آلُ مَرْوَانَ
يَأْخُذُونَ الْجِزْيَةَ مِمَّنْ أَسْلَمَ مِنْ أَهْلِ
الذِّمَّةِ وَيَذْهَبُونَ إلَى أَنَّ الْجِزْيَةَ بِمَنْزِلَةِ
ضَرِيبَةِ الْعَبْدِ فَلَا يَسْقُطُ إسْلَامُ الْعَبْدِ
ضَرِيبَتَهُ وَهَذَا خَلَلٌ فِي جَنْبٍ مَا ارْتَكَبُوهُ مِنْ
الْمُسْلِمِينَ وَنَقْضُ الْإِسْلَامِ عُرْوَةً عُرْوَةً إلَى
أَنْ وَلِيَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ فَكَتَبَ إلَى
عَامِلِهِ بِالْعِرَاقِ عَبْدِ الْحَمِيدِ بْنِ عَبْدِ
الرَّحْمَنِ أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّ الله
(4/296)
بَعَثَ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ دَاعِيًا وَلَمْ يَبْعَثْهُ جَابِيًا فَإِذَا أَتَاك
كِتَابِي هَذَا فَارْفَعْ الْجِزْيَةَ عَمَّنْ أَسْلَمَ مِنْ
أَهْلِ الذِّمَّةِ فَلَمَّا وَلِيَ هِشَامُ بْنُ عَبْدِ
الْمَلِكِ أَعَادَهَا عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَكَانَ أَحَدَ
الْأَسْبَابِ الَّتِي لَهَا اسْتَجَازَ الْقُرَّاءُ
وَالْفُقَهَاءُ قِتَالَ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ
وَالْحَجَّاجِ لَعَنَهُمَا اللَّهُ أَخْذُهُمْ الْجِزْيَةَ
مِنْ الْمُسْلِمِينَ ثُمَّ صَارَ ذَلِكَ أَيْضًا أَحَدَ
أَسْبَابِ زَوَالِ دَوْلَتِهِمْ وَسَلْبِ نِعْمَتِهِمْ وَرَوَى
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ قَالَ حَدَّثَنَا حَرْمَلَةُ بْنُ
عِمْرَانَ عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ قَالَ أَعْظَمُ مَا
أَتَتْ هَذِهِ الْأُمَّةُ بَعْدَ نَبِيِّهَا ثَلَاثُ خِصَالٍ
قَتْلُهُمْ عُثْمَانَ وَإِحْرَاقُهُمْ الْكَعْبَةَ
وَأَخْذُهُمْ الْجِزْيَةَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَأَمَّا
قَوْلُهُمْ إنَّ الْجِزْيَةَ بِمَنْزِلَةِ ضَرِيبَةِ الْعَبْدِ
فَلَيْسَ بِبِدْعٍ هَذَا مِنْ جَهْلِهِمْ إذْ قَدْ جَهِلُوا
مِنْ أُمُورِ الْإِسْلَامِ مَا هُوَ أَعْظَمُ مِنْهُ وَذَلِكَ
لِأَنَّ أَهْلَ الذِّمَّةِ لَيْسُوا عَبِيدًا وَلَوْ كَانُوا
عَبِيدًا لَمَا زَالَ عَنْهُمْ الرِّقُّ بِإِسْلَامِهِمْ
لِأَنَّ إسْلَامَ الْعَبْدِ لَا يُزِيلُ رِقَّهُ وَإِنَّمَا
الْجِزْيَةُ عُقُوبَةٌ عُوقِبُوا بِهَا لِإِقَامَتِهِمْ عَلَى
الْكُفْرِ فَمَتَى أَسْلَمُوا لَمْ يَجُزْ أَنْ يُعَاقَبُوا
بِأَخْذِهَا مِنْهُمْ أَلَا تَرَى أَنَّ الْعَبْدَ
النَّصْرَانِيَّ لَا تُؤْخَذُ مِنْهُ الْجِزْيَةُ فَلَوْ كَانَ
أَهْلُ الذِّمَّةِ عَبِيدًا لَمَا أُخِذَ مِنْهُمْ الجزية
. فِي خَرَاجِ الْأَرْضِ هَلْ هُوَ جِزْيَةٌ
قَالَ أَبُو بَكْرٍ اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي خَرَاجِ
الْأَرْضِينَ هَلْ هُوَ صَغَارٌ وَهَلْ يُكْرَهُ لِلْمُسْلِمِ
أَنْ يَمْلِكَ أَرْضَ الْخَرَاجِ فَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ
وَابْنِ عُمَرَ وَجَمَاعَةٍ مِنْ التَّابِعِينَ كَرَاهَتُهُ
ورواه دَاخِلًا فِي آيَةِ الْجِزْيَةِ وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ
بْنِ حَيٍّ وَشَرِيكٍ وَقَالَ آخَرُونَ الْجِزْيَةُ إنَّمَا
هِيَ خَرَاجُ الرُّءُوسِ وَلَا يُكْرَهُ لِلْمُسْلِمِ أَنْ
يَشْتَرِيَ أَرْضَ خَرَاجٍ وَلَيْسَ ذَلِكَ بِصَغَارٍ وَهُوَ
قَوْلُ أَصْحَابِنَا وَابْنِ أَبِي لَيْلَى وَرُوِيَ عَنْ
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ
يَكْرَهْهُ وَهُوَ مَا
رَوَى شُعْبَةُ عَنْ الْأَعْمَشِ عَنْ شِمْرِ بْنِ عَطِيَّةَ
عَنْ رجل من طيئ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
مَسْعُودٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا تَتَّخِذُوا الضَّيْعَةَ فَتَرْغَبُوا
فِي الدُّنْيَا
قَالَ عَبْدُ اللَّهِ وبراذان مَا بِرَاذَانَ وَبِالْمَدِينَةِ
مَا بِالْمَدِينَةِ يَعْنِي أَنَّ لَهُ ضَيْعَةً بِرَاذَانَ
وَضَيْعَةً بِالْمَدِينَةِ وَمَعْلُومٌ أَنَّ راذان من الأرض
الْخَرَاجِ فَلَمْ يَكْرَهْ عَبْدُ اللَّهِ مِلْكَ أَرْضِ
الْخَرَاجِ وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فِي
دِهْقَانَةِ نَهْرِ الْمَلِكِ حِينَ أَسْلَمَتْ إنْ أَقَامَتْ
عَلَى أَرْضِهَا أَخَذْنَا مِنْهَا الْخَرَاجَ وَرُوِيَ أَنَّ
ابْنَ الرُّفَيْلِ أَسْلَمَ فَقَالَ مِثْلَ ذَلِكَ
وَعَنْ عَلِيٍّ فِي رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ الْأَرْضِ أَسْلَمَ
فَقَالَ إنْ أَقَمْت عَلَى أَرْضِك أَخَذْنَا مِنْك الْخَرَاجَ
وَإِلَّا فَنَحْنُ أَوْلَى بِهَا
وَرُوِيَ عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ وَسَعِيدِ بْنِ
زَيْدٍ مِثْلُ ذَلِكَ
وَرَوَى سُهَيْلُ بْنُ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي
هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
قَالَ مَنَعَتْ
(4/297)
العراق قفيزها ودرهمها ومنعت الشام مداها
وَدِينَارَهَا وَمَنَعَتْ مِصْرُ إرْدَبَّهَا وَعُدْتُمْ كَمَا
بَدَأْتُمْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ يَشْهَدُ عَلَى ذَلِكَ لَحْمُ
أَبِي هريرة رضى الله تعالى عنه وَدَمُهُ
وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ خَرَاجَ الْأَرْضِ لَيْسَ
بِصَغَارٍ مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ لَمْ يَكْرَهْ
لَهُمْ مِلْكَ أَرْضِ الْخَرَاجِ الَّتِي عَلَيْهَا قَفِيزٌ
وَدِرْهَمٌ وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ مَكْرُوهَا لَذَكَرَهُ
وَالثَّانِي أَنَّهُ أَخْبَرَ عَنْ مَنْعِهِمْ لِحَقِّ اللَّهِ
الْمُفْتَرَضِ عَلَيْهِمْ بِالْإِسْلَامِ وَهُوَ مَعْنَى
قَوْلِهِ عُدْتُمْ كَمَا بَدَأْتُمْ يَعْنِي فِي مَنْعِ حَقِّ
اللَّهِ فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ كَسَائِرِ الْحُقُوقِ
اللَّازِمَةِ لِلَّهِ تَعَالَى مِثْلُ الزَّكَوَاتِ
وَالْكَفَّارَاتِ لَا عَلَى وَجْهِ الصَّغَارِ وَالذِّلَّةِ
وَأَيْضًا لَمْ يَخْتَلِفُوا أَنَّ الْإِسْلَامَ يسقط جزية
الرءوس ولا يسقط عن الْأَرْضِ فَلَوْ كَانَ صَغَارًا
لَأَسْقَطَهُ الْإِسْلَامُ فَإِنْ قيل لما كان خراج الأرضين
فيا وَكَذَلِكَ جِزْيَةُ الرُّءُوسِ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ
صَغَارٌ قِيلَ لَهُ لَيْسَ كَذَلِكَ لِأَنَّ مِنْ الْفَيْءِ
مَا يُصْرَفُ إلَى الْغَانِمِينَ وَمِنْهُ مَا يُصْرَفُ إلَى
الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَهُوَ الْخُمُسُ وَهَذَا
كَلَامٌ فِي الْوَجْهِ الَّذِي يُصْرَفُ فِيهِ وَلَيْسَ
يُوجِبُ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ صَغَارًا لِأَنَّ الصَّغَارَ فِي
الْفَيْءِ هُوَ مَا يُبْتَدَأُ بِهِ الَّذِي يَجِبُ عَلَيْهِ
فَأَمَّا مَا قَدْ وَجَبَ فِي الْأَرْضِ مِنْ الْحَقِّ ثُمَّ
مَلَكَهَا مُسْلِمٌ فَإِنَّ مِلْكَ الْمُسْلِمِ لَهُ لَا
يُزِيلُهُ إذْ كَانَ وُجُوبُهُ فيها متقدم لِمِلْكِهِ وَهُوَ
حَقٌّ لِكَافَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَلَمْ تَكُنْ الجزية صغارا
من حيث كانت فيا وإنما كَانَتْ عُقُوبَةً وَلَيْسَ خَرَاجُ
الْأَرَضِينَ عَلَى وَجْهِ الْعُقُوبَةِ أَلَا تَرَى أَنَّ
أَرْضَ الصَّبِيِّ وَالْمَعْتُوهِ يَجِبُ فِيهِمَا الْخَرَاجُ
وَلَا تُؤْخَذُ مِنْهُمَا الْجِزْيَةُ لِأَنَّ الْجِزْيَةَ
عُقُوبَةٌ وَخَرَاجُ الْأَرَضِينَ لَيْسَ كَذَلِكَ.
(فَصْلٌ) إنْ قَالَ قَائِلٌ مِنْ الْمُلْحِدِينَ كَيْفَ جَازَ
إقْرَارُ الْكُفَّارِ عَلَى كُفْرِهِمْ بِأَدَاءِ الْجِزْيَةِ
بَدَلًا مِنْ الْإِسْلَامِ قِيلَ لَهُ لَيْسَ أَخْذُ
الْجِزْيَةِ مِنْهُمْ رِضًا بِكُفْرِهِمْ وَلَا إبَاحَةً
لِبَقَائِهِمْ عَلَى شِرْكِهِمْ وَإِنَّمَا الْجِزْيَةُ
عُقُوبَةٌ لَهُمْ لِإِقَامَتِهِمْ عَلَى الْكُفْرِ
وَتَبْقِيَتِهِمْ عَلَى كُفْرِهِمْ بِالْجِزْيَةِ كَهِيَ لَوْ
تَرَكْنَاهُمْ بِغَيْرِ جِزْيَةٍ تُؤْخَذُ مِنْهُمْ إذْ لَيْسَ
فِي الْعَقْلِ إيجَابُ قَتْلِهِمْ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ
كَذَلِكَ لَمَا جَازَ أَنْ يُبْقِيَ اللَّهُ كَافِرًا طَرْفَةَ
عَيْنٍ فَإِذَا بَقَّاهُمْ لِعُقُوبَةٍ يُعَاقِبُهُمْ بِهَا
مَعَ التَّبْقِيَةِ اسْتِدْعَاءً لَهُمْ إلَى التَّوْبَةِ مِنْ
كُفْرِهِمْ وَاسْتِمَالَةً لَهُمْ إلَى الْإِيمَانِ لَمْ
يَكُنْ مُمْتَنِعًا إمْهَالُهُ إيَّاهُمْ إذْ كَانَ فِي عِلْمِ
اللَّهِ أَنَّ مِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ
مِنْ نَسْلِهِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ فَكَانَ فِي ذَلِكَ
أَعْظَمُ الْمَصْلَحَةِ مَعَ مَا للمسلمين فيها من المرفق
وَالْمَنْفَعَةِ فَلَيْسَ إذًا فِي إقْرَارِهِمْ عَلَى
الْكُفْرِ وَتَرْكِ قَتْلِهِمْ بِغَيْرِ جِزْيَةٍ مَا يُوجِبُ
الرِّضَا بِكُفْرِهِمْ وَلَا الْإِبَاحَةَ لِاعْتِقَادِهِمْ
وَشِرْكِهِمْ فَكَذَلِكَ إمْهَالُهُمْ بِالْجِزْيَةِ جَائِزٌ
فِي الْعَقْلِ إذْ لَيْسَ فِيهِ أَكْثَرُ مِنْ تَعْجِيلِ
بَعْضِ عِقَابِهِمْ الْمُسْتَحَقِّ بِكُفْرِهِمْ وَهُوَ مَا
يَلْحَقُهُمْ مِنْ
(4/298)
وَقَالَتِ الْيَهُودُ
عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ
ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ
قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ
أَنَّى يُؤْفَكُونَ (30)
الذُّلِّ وَالصَّغَارِ بِأَدَائِهَا
قَوْله تَعَالَى وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ
وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ الله قِيلَ إنَّهُ
أَرَادَ فِرْقَةً مِنْ الْيَهُودِ قَالَتْ ذَلِكَ وَالدَّلِيلُ
عَلَى ذَلِكَ أَنَّ الْيَهُودَ قَدْ سَمِعَتْ ذَلِكَ فِي
عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمْ
تُنْكِرْهُ وَهُوَ كَقَوْلِ الْقَائِلِ الْخَوَارِجُ تَرَى
الِاسْتِعْرَاضَ وَقَتْلَ الْأَطْفَالَ وَالْمُرَادُ فِرْقَةٌ
مِنْهُمْ لَا جَمِيعُهُمْ وَكَقَوْلِك جَاءَنِي بَنُو تَمِيمٍ
وَالْمُرَادُ بَعْضُهُمْ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ قَالَ ذَلِكَ
جَمَاعَةٌ مِنْ الْيَهُودِ جَاءُوا إلَى النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالُوا ذَلِكَ وَهُمْ سَلَامُ
بْنُ مِشْكَمٍ وَنُعْمَانُ بْنُ أَوْفَى وَشَاسُ بْنُ قَيْسٍ
وَمَالِكُ بْنُ الصَّيْفِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ
الْآيَةَ وَلَيْسَ فِي الْيَهُودِ مَنْ يَقُولُ ذَلِكَ الْآنَ
فِيمَا نَعْلَمُ وَإِنَّمَا كَانَتْ فِرْقَةٌ منهم قالت ذلك
فانقرضت قوله تعالى يضاهؤن قول الذين كفروا من قبل يَعْنِي
يُشَابِهُونَهُمْ وَمِنْهُ امْرَأَةٌ ضَهْيَاءُ لِلَّتِي لَا
تَحِيضُ لِأَنَّهَا أَشْبَهَتْ الرِّجَالَ مِنْ هَذَا
الْوَجْهِ فَسَاوَى الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ جَعَلُوا
الْأَصْنَامَ شُرَكَاءَ لِلَّهِ سبحانه وتعالى لأن هؤلاء جعلوا
المسيح وعزيزا اللَّذَيْنِ هُمَا خَلْقَانِ لِلَّهِ وَلَدَيْنِ
لَهُ وَشَرِيكَيْنِ كَمَا جَعَلَ أُولَئِكَ الْأَصْنَامَ
الْمَخْلُوقَةَ شُرَكَاءَ لِلَّهِ تَعَالَى قَالَ ابْنُ
عَبَّاسٍ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قبل يَعْنِي بِهِ عَبَدَةَ
الْأَوْثَانِ الَّذِينَ عَبَدُوا اللَّاتَ وَالْعُزَّى
وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى وَقِيلَ إنَّهُمْ
يُضَاهِئُونَهُمْ لِأَنَّ أُولَئِكَ قَالُوا الْمَلَائِكَةُ
بَنَاتُ اللَّهِ وَقَالَ هؤلاء عزيز وَمَسِيحٌ ابْنَا اللَّهِ
وَقِيلَ يُضَاهِئُونَهُمْ فِي تَقْلِيدِ أسلافهم وقوله تعالى
ذلك قولهم بأفواههم يَعْنِي أَنَّهُ لَا يَرْجِعُ إلَى مَعْنًى
صَحِيحٍ وَلَا حَقِيقَةَ لَهُ وَلَا مَحْصُولَ أَكْثَرَ مِنْ
وجوده في أفواههم وقوله قاتلهم الله قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ
لَعَنَهُمْ اللَّهُ وَقِيلَ إنَّ مَعْنَاهُ قَتَلَهُمْ اللَّهُ
كَقَوْلِهِمْ عَافَاهُ اللَّهُ أَيْ أَعْفَاهُ اللَّهُ مِنْ
السُّوءِ وَقِيلَ إنَّهُ جُعِلَ كَالْقَاتِلِ لِغَيْرِهِ فِي
عَدَاوَةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ
قَوْله تَعَالَى اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ
أَرْبَابًا مِنْ دون الله والمسيح ابن مريم قِيلَ إنَّ
الْحَبْرَ الْعَالِمُ الَّذِي صِنَاعَتُهُ تَحْبِيرُ
الْمَعَانِي بِحُسْنِ الْبَيَانِ عَنْهَا يُقَالُ فِيهِ حَبْرٌ
وَحَبِيرٌ وَالرَّاهِبُ الْخَاشِي الَّذِي يَظْهَرُ عَلَيْهِ
لِبَاسُ الْخَشْيَةِ يُقَالُ رَاهِبٌ وَرُهْبَانٌ وَقَدْ صَارَ
مُسْتَعْمَلًا فِي مُتَنَسِّكِي النَّصَارَى وَقَوْلُهُ
أَرْبَابًا مِنْ دُونِ الله قِيلَ فِيهِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا
أَنَّهُمْ كَانُوا إذَا حَرَّمُوا عَلَيْهِمْ شَيْئًا
حَرَّمُوهُ وَإِذَا أَحَلُّوا لَهُمْ شَيْئًا اسْتَحَلُّوهُ
وَرُوِيَ فِي حَدِيثِ عَدِيِّ بْنِ حاتم لما أتى النبي صلّى
الله عليه وسلّم قَالَ فَتَلَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ
أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ قُلْت يَا رَسُولَ
اللَّهِ إنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا يَعْبُدُونَهُمْ قَالَ
أَلَيْسَ كَانُوا إذَا حَرَّمُوا عَلَيْهِمْ شَيْئًا
حَرَّمُوهُ وَإِذَا أَحَلُّوا لَهُمْ شَيْئًا أَحَلُّوهُ قَالَ
قُلْت نَعَمْ قَالَ فَتِلْكَ عِبَادَتُهُمْ إيَّاهُمْ
وَلَمَّا كَانَ التَّحْلِيلُ وَالتَّحْرِيمُ لَا يَجُوزُ إلَّا
مِنْ جِهَةِ الْعَالِمِ
(4/299)
هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ
رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى
الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (33)
بالمصالح ثم قلدوا أحبارهم هَؤُلَاءِ
أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ فِي التَّحْلِيلِ
وَالتَّحْرِيمِ وَقَبِلُوهُ مِنْهُمْ وَتَرَكُوا أَمْرَ
اللَّهِ تَعَالَى فِيمَا حَرَّمَ وَحَلَّلَ صَارُوا
مُتَّخِذِينَ لَهُمْ أَرْبَابًا إذْ نَزَّلُوهُمْ فِي قَبُولِ
ذَلِكَ مِنْهُمْ مَنْزِلَةَ الْأَرْبَابِ وَقِيلَ إنَّ
مَعْنَاهُ أَنَّهُمْ عَظَّمُوهُمْ كَتَعْظِيمِ الرَّبِّ
لِأَنَّهُمْ يَسْجُدُونَ لَهُمْ إذَا رَأَوْهُمْ وَهَذَا
الضَّرْبُ مِنْ التَّعْظِيمِ لَا يَسْتَحِقُّهُ غَيْرُ اللَّهِ
تَعَالَى فَلَمَّا فَعَلُوا ذَلِكَ فَهُمْ كَانُوا
مُتَّخِذِينَ لَهُمْ أَرْبَابًا
قَوْله تَعَالَى هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى
وَدِينِ الْحَقِّ ليظهره على الدين كله فِيهِ بِشَارَةٌ
لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَلِلْمُؤْمِنِينَ بِنَصْرِهِمْ وَإِظْهَارِ دِينِهِمْ عَلَى
سَائِرِ الْأَدْيَانِ وَهُوَ إعْلَاؤُهُ بِالْحُجَّةِ
وَالْغَلَبَةِ وَقَهْرِ أُمَّتِهِ لِسَائِرِ الْأُمَمِ وَقَدْ
وَجَدَ مُخْبِرَهُ عَلَى مَا أَخْبَرَ بِهِ بِظُهُورِ
أُمَّتِهِ وَعُلُوِّهَا عَلَى سَائِرِ الْأُمَمِ
الْمُخَالِفَةِ لِدِينِ الْإِسْلَامِ وَفِيهِ الدَّلَالَةُ
عَلَى صِحَّةِ نُبُوَّةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ وَعَلَى أَنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُ اللَّهِ وَمِنْ
عِنْدِهِ وَذَلِكَ لِأَنَّ مِثْلَهُ لَا يَتَّفِقُ
لِلْمُتَخَرِّصِينَ وَالْكَذَّابِينَ مَعَ كَثْرَةِ مَا فِي
الْقُرْآنِ مِنْ الْأَخْبَارِ عَنْ الْغُيُوبِ إذْ لَا
يَعْلَمُ الْغَيْبَ إلَّا اللَّهُ فَهُوَ إذًا كَلَامُهُ
وَخَبَرُهُ وَلَا يُنْزِلُ اللَّهُ كَلَامَهُ إلَّا عَلَى
رَسُولِهِ
قَوْله تَعَالَى يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ
كَثِيرًا مِنَ الأَحْبَارِ والرهبان ليأكلون أموال الناس
بالباطل أَكْلُ الْمَالِ بِالْبَاطِلِ هُوَ تَمَلُّكُهُ مِنْ
الْجِهَةِ الْمَحْظُورَةِ وَرُوِيَ عَنْ الْحَسَنِ أَنَّهُمْ
كَانُوا يَأْخُذُونَ الرشى في الحكم وذكر الأكل والمراد
وُجُوهِ الْمَنَافِعِ وَالتَّصَرُّفِ إذْ كَانَ أَعْظَمُ
مَنَافِعِهِ الْأَكْلَ وَالشُّرْبَ وَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى
لا تَأْكُلُوا أموالكم بينكم بالباطل وَالْمُرَادُ سَائِرُ
وُجُوهِ الْمَنَافِعِ وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى وَلا تأكلوا
أموالهم- وإن الذين يأكلون أموال اليتامى قَوْله تَعَالَى
وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا
يُنْفِقُونَهَا فِي سبيل الله الْآيَةَ يَقْتَضِي ظَاهِرُهُ
إيجَابُ إنْفَاقِ جَمِيعِ الْمَالِ لأن الوعيد لا حق بتارك
إنفاق الجميع لقوله ولا ينفقونها وَلَمْ يَقُلْ وَلَا
يُنْفِقُونَ مِنْهَا فَإِنْ قِيلَ لَوْ كَانَ الْمُرَادُ
الْجَمِيعَ لَقَالَ وَلَا يُنْفِقُونَهُمَا قِيلَ لَهُ لِأَنَّ
الْكَلَامَ رَجَعَ إلَى مَدْلُولٍ عليه كأنه قال ولا ينفقون
الكنوز والآخر أن يُكْتَفَى بِأَحَدِهِمَا عَنْ الْآخَرِ
لِلْإِيجَازِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً
أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا قَالَ الشَّاعِرُ:
نَحْنُ بِمَا عِنْدَنَا وَأَنْتَ بِمَا ... عِنْدَك رَاضٍ
وَالرَّأْيُ مُخْتَلِفُ
وَالْمَعْنَى رَاضُونَ وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ رَاجِعٌ
إلَيْهِمَا جَمِيعًا أَنَّهُ لَوْ رَجَعَ إلَى أَحَدِهِمَا
دُونَ الْآخَرِ لَبَقِيَ أَحَدُهُمَا عَارِيًّا مِنْ خَبَرِهِ
فَيَكُونُ كَلَامَا مُنْقَطِعًا لَا مَعْنَى لَهُ إذْ كَانَ
قَوْلُهُ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذهب والفضة مُفْتَقِرًا
إلَى خَبَرٍ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الِاقْتِصَارُ
عَلَيْهِ وَقَدْ رُوِيَ فِي مَعْنَى
(4/300)
ظَاهِرِ الْآيَةِ أَخْبَارٌ
رَوَى مُوسَى بْنُ عُبَيْدَةَ قَالَ حَدَّثَنِي عِمْرَانُ بْنُ
أَبِي أَنَسٍ عَنْ مَالِكٍ بْنِ أَوْسِ بْنِ الْحِدْثَانِ عَنْ
أَبِي ذَرٍّ قَالَ سَمِعْت النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ يَقُولُ فِي الْإِبِلِ صَدَقَتُهَا مِنْ جَمْعٍ
دِينَارًا أَوْ دِرْهَمًا أَوْ تِبْرًا أَوْ فِضَّةً لَا
يُعِدُّهُ لِغَرِيمٍ وَلَا يُنْفِقُهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ
فَهِيَ كَيٌّ يُكْوَى بِهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ قَالَ قُلْت
اُنْظُرْ مَا يَجِيءُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّ هَذِهِ الْأَمْوَالَ قَدْ فَشَتْ
فِي النَّاسِ فَقَالَ أَمَا تقرأ القرآن والذين يكنزون الذهب
والفضة
الْآيَةَ فَاقْتَضَى ظَاهِرُهُ أَنَّ فِي الْإِبِلِ
صَدَقَتُهَا لَا جَمِيعُهَا وَهِيَ الصَّدَقَةُ الْمَفْرُوضَةُ
وَفِي الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ إخْرَاجُ جَمِيعِهِمَا
وَكَذَلِكَ كَانَ مَذْهَبُ أَبِي ذَرٍّ رَحْمَةُ اللَّهِ
عَلَيْهِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ ادخار الذهب والفضة
وروى محمد ابن عُمَرَ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي
هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وسلم قَالَ
مَا أُحِبُّ أَنَّ لِي مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا يَمُرُّ عَلَيَّ
ثَلَاثَةٌ وَعِنْدِي مِنْهُ شَيْءٌ أَنْ لَا أَجِدَ أَحَدًا
يَقْبَلُهُ مِنِّي صَدَقَةً إلَّا أَنْ أَرْصُدَهُ لِدَيْنٍ
عَلَيَّ
فَذَكَرَ فِي هذا الحديث أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يُحِبَّ ذَلِكَ لِنَفْسِهِ وَاخْتَارَ
إنْفَاقَهُ وَلَمْ يَذْكُرْ وَعِيدَ تَارِكِ إنْفَاقِهِ
وَرَوَى قَتَادَةُ عَنْ شَهْرِ بْنِ حَوْشَبٍ عَنْ أَبِي
أُمَامَةَ قَالَ تُوُفِّيَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الصُّفَّةِ
فَوُجِدَ مَعَهُ دِينَارٌ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وسلّم كية وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ النَّبِيُّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلِمَ أَنَّهُ أَخَذَ الدِّينَارَ
مِنْ غَيْرِ حِلِّهِ أَوْ مَنَعَهُ مِنْ حَقِّهِ أَوْ سَأَلَهُ
غَيْرَهُ بِإِظْهَارِ الْفَاقَةِ مَعَ غِنَاهُ عَنْهُ
كَمَا
رُوِيَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ سَأَلَ
عَنْ ظَهْرِ غِنًى فَإِنَّمَا يَسْتَكْثِرُ مِنْ جَمْرِ
جَهَنَّمَ فَقُلْنَا وَمَا غِنَاهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ
أَنْ يَكُونَ عِنْدَ أَهْلِهِ مَا يُغَدِّيهِمْ وَيُعَشِّيهِمْ
وَكَانَ ذَلِكَ فِي وَقْتِ شِدَّةِ الْحَاجَةِ وضيق العيش
ووجوب المواساة من بعضها لِبَعْضِ
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ أَنَّهَا
مَنْسُوخَةٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى خُذْ مِنْ أموالهم صدقة
تطهرهم
قَالَ أَبُو بَكْرٍ قَدْ ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالنَّقْلِ الْمُسْتَفِيضِ
إيجَابُهُ فِي مِائَتَيْ دِرْهَمٍ خَمْسَةُ دَرَاهِمَ وَفِي
عِشْرِينَ دِينَارًا نِصْفُ دِينَارٍ كَمَا أَوْجَبَ فَرَائِضَ
الْمَوَاشِي وَلَمْ يُوجِبْ الْكُلَّ
فَلَوْ كَانَ إخْرَاجُ الْكُلِّ وَاجِبًا مِنْ الذَّهَبِ
وَالْفِضَّةِ لَمَا كَانَ لِلتَّقْدِيرِ وَجْهٌ وَأَيْضًا
فَقَدْ كَانَ فِي الصَّحَابَةِ قَوْمٌ ذَوُو يَسَارٍ ظَاهِرٍ
وَأَمْوَالٍ جَمَّةٍ مِثْلُ عُثْمَانُ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ
بْنُ عَوْفٍ وَعَلِمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ ذَلِكَ مِنْهُمْ فَلَمْ يَأْمُرْهُمْ بإخراج الجميع
فثبت أن إخراج الجميع الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ غَيْرُ وَاجِبٍ
وَأَنَّ الْمَفْرُوضَ إخْرَاجُهُ هُوَ الزَّكَاةُ إلَّا أَنْ
تَحْدُثَ أُمُورٌ تُوجِبُ الْمُوَاسَاةَ وَالْإِعْطَاءَ نَحْوِ
الْجَائِعِ الْمُضْطَرِّ وَالْعَارِي الْمُضْطَرِّ أَوْ
مَيِّتٍ لَيْسَ لَهُ مَنْ يُكَفِّنُهُ أَوْ يُوَارِيهِ
وَقَدْ رَوَى شَرِيكٌ عَنْ أَبِي حَمْزَةَ عَنْ عَامِرٍ عَنْ
فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ فِي الْمَالِ حَقٌّ سِوَى
الزَّكَاةِ وَتَلَا قَوْله تَعَالَى لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ
تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ
(4/301)
المشرق والمغرب
الْآيَةَ وقَوْله تَعَالَى وَلا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ
الله يَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدَ بِهِ وَلَا يُنْفِقُونَ مِنْهَا
فَحَذَفَ مِنْ وَهُوَ يُرِيدُهَا وَقَدْ بَيَّنَهُ بِقَوْلِهِ
خذ من أموالهم صدقة فَأَمَرَ بِأَخْذِ بَعْضِ الْمَالِ لَا
جَمِيعِهِ وَلَيْسَ فِي ذَلِكَ مَا يُوجِبُ نَسْخَ الْأَوَّلِ
إذْ جَائِزٌ أَنْ يَكُونَ مُرَادُهُ وَلَا يُنْفِقُونَ مِنْهَا
وَأَمَّا الْكَنْزُ فَهُوَ فِي اللُّغَةِ كَبْسُ الشَّيْءِ
بَعْضُهُ عَلَى بَعْضٍ قَالَ الْهُذَلِيُّ:
لَا دَرَّ دَرِّي إنْ أَطْعَمْت نَازِلَكُمْ ... قَرْفَ
الْحَتِيِّ وَعِنْدِي الْبُرُّ مَكْنُوزُ
وَيُقَالُ كَنَزْت التَّمْرَ إذَا كَبَسْته فِي الْقَوْصَرَةِ
وَهُوَ فِي الشَّرْعِ لِمَا لَمْ يُؤَدَّ زَكَاتُهُ وَرُوِيَ
عَنْ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ عُمَرَ وَالْحَسَنِ
وَعَامِرٍ وَالسُّدِّيِّ قَالُوا مَا لَمْ يُؤَدَّ زَكَاتُهُ
فَهُوَ كَنْزٌ فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ وَإِنْ كَانَ ظَاهِرًا
وَمَا أُدِّيَ زَكَاتُهُ فَلَيْسَ بِكَنْزٍ وَإِنْ كَانَ
مَدْفُونًا وَمَعْلُومٌ أَنَّ أَسْمَاءَ الشَّرْعِ لَا
تُؤْخَذُ إلَّا تَوْقِيفًا فَثَبَتَ أَنَّ الْكَنْزَ اسْمٌ
لِمَا لَمْ يُؤَدَّ زَكَاتُهُ الْمَفْرُوضَةُ وَإِذَا كَانَ
كَذَلِكَ كَانَ تَقْدِيرُ قَوْلِهِ والذين يكنزون الذهب والفضة
الَّذِينَ لَا يُؤَدُّونَ زَكَاةَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَلا
ينفقونها يَعْنِي الزَّكَاةَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَمْ
تَقْتَضِ الْآيَةُ إلَّا وُجُوبَ الزَّكَاةِ فَحَسْبُ
وَقَدْ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قَالَ حَدَّثَنَا
أَبُو دَاوُد قَالَ حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ
حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَعْلَى الْمُحَارِبِيُّ حَدَّثَنَا
أَبِي حَدَّثَنَا غَيْلَانُ عَنْ جَعْفَرِ بْنِ إيَاسٍ عَنْ
مُجَاهِدٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ
الآية والذين يكنزون الذهب والفضة كَبُرَ ذَلِكَ عَلَى
الْمُسْلِمِينَ فَقَالَ عُمَرُ أَنَا أُفَرِّجُ عَنْكُمْ
فَانْطَلَقَ فَقَالَ يَا نَبِيَّ اللَّهِ إنَّهُ كَبُرَ عَلَى
أَصْحَابِك هَذِهِ الْآيَةُ فَقَالَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّ اللَّهَ لَمْ يَفْرِضْ الزَّكَاةَ
إلَّا لِيُطَيِّبَ مَا بَقِيَ من أموالكم وإنما فَرَضَ
الْمَوَارِيثَ لِتَكُونَ لِمَنْ بَعْدَكُمْ قَالَ فَكَبَّرَ
عُمَرُ ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِخَيْرِ مَا يَكْنِزُ الْمَرْءُ
الْمَرْأَةُ الصَّالِحَةُ إذَا نَظَرَ إلَيْهَا سَرَّتْهُ
وَإِذَا أَمَرَهَا أَطَاعَتْهُ وَإِذَا غَابَ عَنْهَا
حَفِظَتْهُ
فَأَخْبَرَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ الْمُرَادَ إنْفَاقُ
بَعْضِ الْمَالِ لَا جَمِيعِهِ وَأَنَّ قَوْلَهُ وَالَّذِينَ
يكنزون الْمُرَادُ بِهِ مَنْعُ الزَّكَاةِ
وَرَوَى ابْنُ لَهِيعَةَ قَالَ حَدَّثَنَا دَرَّاجٌ عَنْ أَبِي
الْهَيْثَمِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا أَدَّيْت زَكَاةَ
مَالِكَ فَقَدْ قَضَيْت الْحَقَّ الَّذِي يَجِبُ عَلَيْك
فَأَخْبَرَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ أَيْضًا أَنَّ الْحَقَّ
الْوَاجِبَ فِي الْمَالِ هُوَ الزَّكَاةُ
وَرَوَى سُهَيْلُ بْنُ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي
هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا مِنْ صَاحِبِ كَنْزٍ لَا يُؤَدِّي
زَكَاةَ كَنْزِهِ إلَّا جِيءَ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وبكنزه
فيحمى به جَنْبُهُ وَجَبِينُهُ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهِ بَيْنَ
عِبَادِهِ
فَأَخْبَرَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ الْحَقَّ الْوَاجِبَ
فِي الْكَنْزِ هُوَ الزَّكَاةُ دُونَ غَيْرِهِ وَأَنَّهُ لَا
يَجِبُ جَمِيعُهُ وَقَوْلُهُ فَيُحْمَى بِهَا جَنْبُهُ
وَجَبْهَتُهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ أَرَادَ مَعْنَى قَوْلِهِ
(4/302)
يَوْمَ يُحْمَى
عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ
وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ
لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ (35)
والذين يكنزون الذهب والفضة- إلَى
قَوْلِهِ- فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ
وَظُهُورُهُمْ هذا ما كنزتم لأنفسكم يَعْنِي لَمْ تُؤَدُّوا
زَكَاتَهُ
وَحَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُوسَى
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ
الْعَزِيزِ بْنُ أَبِي سَلَمَةَ الْمَاجِشُونُ عَنْ عَبْدِ
اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ قَالَ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّ الَّذِي لَا
يُؤَدِّي زَكَاتَهُ يُمَثَّلُ لَهُ شُجَاعٌ أَقْرَعُ لَهُ
زَبِيبَتَانِ يَلْزَمُهُ أَوْ يُطَوِّقُهُ فَيَقُولُ أَنَا
كَنْزُك أَنَا كَنْزُك
فَأَخْبَرَ أَنَّ الْمَالَ الَّذِي لَا تُؤَدَّى زَكَاتُهُ
هُوَ الْكَنْزُ وَلَمَّا ثَبَتَ بِمَا وَصَفْنَا أَنَّ
قَوْلَهُ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا
يُنْفِقُونَهَا فِي سبيل الله مُرَادُهُ مَنْعُ الزَّكَاةِ
أَوْجَبَ عُمُومَهُ إيجَابَ الزَّكَاةِ فِي سَائِرِ الذَّهَبِ
وَالْفِضَّةِ إذْ كَانَ اللَّهُ إنَّمَا عَلَّقَ الْحُكْمَ
فِيهِمَا بِالِاسْمِ فَاقْتَضَى إيجَابَ الزَّكَاةِ فِيهِمَا
بِوُجُودِ الِاسْمِ دُونَ الصَّنْعَةِ فَمَنْ كَانَ عِنْدَهُ
ذَهَبٌ مَصُوغٌ أَوْ مَضْرُوبٌ أَوْ تِبْرٌ أَوْ فِضَّةٌ
كَذَلِكَ فَعَلَيْهِ زَكَاتُهُ بِعُمُومِ اللَّفْظِ وَيَدُلُّ
أَيْضًا عَلَى وُجُوبِ ضَمِّ الذَّهَبِ إلَى الْفِضَّةِ
لِإِيجَابِهِ الْحَقَّ فِيهِمَا مَجْمُوعَيْنِ فِي قوله
وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا
يُنْفِقُونَهَا فِي سبيل الله وَقَدْ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ
فِي زَكَاةِ الْحُلِيِّ فَأَوْجَبَ أصحابنا فيه الزكاة وروى
مثله عن عمرو ابن مَسْعُودٍ رَوَاهُ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ
عَنْ حَمَّادٍ عَنْ إبْرَاهِيمَ عَنْ عَلْقَمَةَ عَنْ ابْنِ
مَسْعُودٍ وَرُوِيَ عَنْ جَابِرٍ وَابْنِ عُمَرَ وَعَائِشَةَ
لَا زَكَاةَ فِي الْحُلِيِّ وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ
وَالشَّافِعِيِّ وَرُوِيَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ
الْحُلِيَّ تُزَكَّى مَرَّةً وَاحِدَةً وَلَا تُزَكَّى بَعْدَ
ذَلِكَ وَقَدْ ذَكَرْنَا وَجْهَ دَلَالَةِ الْآيَةِ عَلَى
وُجُوبِهَا فِي الْحُلِيِّ لِشُمُولِ الِاسْمِ لَهُ وَقَدْ
رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
آثَارٌ فِي إيجَابِ زَكَاةِ الْحُلِيِّ مِنْهَا
حَدِيثُ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ
أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى
امْرَأَتَيْنِ فِي أَيْدِيهِمَا سِوَارَانِ مِنْ ذَهَبٍ
فَقَالَ أَتُعْطِينَ زَكَاةَ هَذَا قَالَتْ لَا قَالَ
أَيَسُرُّك أَنْ يُسَوِّرَك اللَّهُ بِهِمَا يَوْمَ
الْقِيَامَةِ سِوَارَيْنِ مِنْ نَارٍ
فَأَوْجَبَ الزَّكَاةَ فِي السِّوَارِ
وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو
دَاوُد قَالَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عِيسَى قَالَ حدثنا
عتاب عن ثَابِتِ بْنِ عَجْلَانَ عَنْ عَطَاءٍ عَنْ أُمِّ
سَلَمَةَ قَالَتْ كُنْت أَلْبِسُ أَوْضَاحًا مِنْ ذَهَبٍ
فَقُلْت يَا رَسُولَ اللَّهِ أَكَنْزٌ هُوَ فَقَالَ مَا بَلَغَ
أَنْ تُؤَدِّيَ زَكَاتَهُ فَزُكِّيَ فَلَيْسَ بِكَنْزٍ
وَقَدْ حَوَى هَذَا الْخَبَرُ مَعْنَيَيْنِ أَحَدُهُمَا
وُجُوبُ زَكَاةِ الْحُلِيِّ وَالْآخَرُ أَنَّ الْكَنْزَ مَا
لَمْ تُؤَدَّ زَكَاتُهُ
وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو
دَاوُد قَالَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إدْرِيسَ الرَّازِيّ
حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ الرَّبِيعِ بْنِ طَارِقٍ حَدَّثَنَا
يَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي
جَعْفَرٍ أَنَّ مُحَمَّدَ بْنَ عَمْرِو بْنِ عَطَاءٍ
أَخْبَرَهُ عَنْ عَبْدِ الله ابن شَدَّادِ بْنِ الْهَادِ
أَنَّهُ قَالَ دَخَلْنَا عَلَى عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ دَخَلَ عَلَى
رَسُولِ اللَّهِ
(4/303)
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرَأَى
فِي يَدَيَّ فتحات مِنْ وَرِقٍ فَقَالَ مَا هَذَا يَا
عَائِشَةُ فَقُلْت صَنَعْتهنَّ أَتَزَّيَّنُ لَك يَا رَسُولَ
اللَّهِ قَالَ أَتُؤَدِّينَ زَكَاتَهُنَّ قُلْت لَا أَوْ مَا
شَاءَ اللَّهُ قَالَ هُوَ حَسْبُك مِنْ النَّارِ
فَانْتَظَمَ هَذَا الْخَبَرُ مَعْنَيَيْنِ أَحَدُهُمَا وُجُوبُ
زَكَاةِ الْحُلِيِّ وَالْآخَرُ أَنَّ الْمَصُوغَ يُسَمَّى
وَرِقًا لِأَنَّهَا قالت فتحات مِنْ وَرَقٍ فَاقْتَضَى ظَاهِرُ
قَوْلِهِ فِي الرِّقَةِ رُبْعُ الْعُشْرِ
إيجَابُ الزَّكَاةِ فِي الْحُلِيِّ لِأَنَّ الرِّقَةَ
وَالْوَرِقَ وَاحِدٌ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ مِنْ جِهَةِ النَّظَرِ
أَنَّ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ يَتَعَلَّقُ وُجُوبُ الزَّكَاةِ
فِيهِمَا بِأَعْيَانِهِمَا فِي مِلْكِ مَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ
الزَّكَاةِ لَا بِمَعْنَى يَنْضَمَّ إلَيْهِمَا وَالدَّلِيلُ
عَلَيْهِ أَنَّ النُّقَرَ وَالسَّبَائِكَ تَجِبُ فِيهِمَا
الزَّكَاةُ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ مُرْصَدَةً لِلنَّمَاءِ
وَفَارَقَا بِهَذَا غَيْرَهُمَا مِنْ الْأَمْوَالِ لِأَنَّ
غَيْرَهُمَا لَا تَجِبُ الزَّكَاةُ فِيهِمَا بِوُجُودِ
الْمِلْكِ إلَّا أَنْ تَكُونَ مُرْصَدَةً لِلنَّمَاءِ فَوَجَبَ
أَنْ لَا يَخْتَلِفَ حُكْمُ الْمَصُوغِ وَالْمَضْرُوبِ
وَأَيْضًا لَمْ يَخْتَلِفُوا أَنَّ الْحُلِيَّ إذَا كَانَ فِي
مِلْكِ الرَّجُلِ تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ فَكَذَلِكَ إذَا
كَانَ فِي مِلْكِ الْمَرْأَةِ كَالدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ
وَأَيْضًا لَا يَخْتَلِفُ حُكْمُ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ
فِيمَا يَلْزَمُهُمَا مِنْ الزَّكَاةِ فَوَجَبَ أَنْ لَا
يَخْتَلِفَا فِي الْحُلِيِّ فَإِنْ قِيلَ الْحُلِيُّ
كَالنُّقُرِ الْعَوَامِلِ وَثِيَابِ الْبِذْلَةِ قِيلَ لَهُ
قَدْ بَيَّنَّا أَنَّ مَا عَدَاهُمَا يَتَعَلَّقُ وُجُوبُ
الزَّكَاةِ فِيهِمَا بِأَنْ يَكُونَ مُرْصَدًا لِلنَّمَاءِ
فَمَا لَمْ يُوجَدْ هَذَا الْمَعْنَى لَمْ تَجِبْ وَالذَّهَبُ
وَالْفِضَّةُ لِأَعْيَانِهِمَا بِدَلَالَةِ الدَّرَاهِمِ
وَالدَّنَانِيرِ وَالنُّقَرُ وَالسَّبَائِكُ إذَا أَرَادَ
بِهِمَا الْقُنْيَةَ وَالتَّبْقِيَةَ لَا طَلَبَ النَّمَاءِ
وَأَيْضًا لَمَّا لَمْ يَكُنْ لِلصَّنْعَةِ تَأْثِيرٌ فِيهِمَا
وَلَمْ يُغَيِّرْ حُكْمَهُمَا فِي حَالٍ وَجَبَ أَنْ لَا
يَخْتَلِفَ الْحُكْمُ بِوُجُودِ الصَّنْعَةِ وَعَدَمِهَا
فَإِنْ قِيلَ زَكَاةُ الْحُلِيِّ عَارِيَّتُهُ قِيلَ لَهُ
هَذَا غَلَطٌ لِأَنَّ الْعَارِيَّةَ غَيْرُ وَاجِبَةٍ
وَالزَّكَاةُ وَاجِبَةٌ فَبَطَلِ أَنْ تَكُونَ الْعَارِيَّةُ
زَكَاةً وَأَمَّا قَوْلُ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ إنَّ الزَّكَاةَ
تَجِبُ فِي الْحُلِيِّ مَرَّةً وَاحِدَةً فَلَا وَجْهَ لَهُ
لِأَنَّهُ إذَا كَانَ مِنْ جِنْسِ مَا تَجِبُ فِيهِ الزكاة
وجبت في كل حول.
(فَصْلٌ) وَقَدْ دَلَّتْ الْآيَةُ عَلَى وُجُوبِ الزَّكَاةِ
فِي الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ بِمَجْمُوعِهِمَا فَاقْتَضَى
ذَلِكَ وُجُوبَ ضَمِّ بَعْضِهَا إلَى بَعْضٍ وَقَدْ اخْتَلَفَ
الْفُقَهَاءُ فِي ذَلِكَ فَقَالَ أَصْحَابُنَا يُضَمُّ
أَحَدُهُمَا إلَى الْآخَرِ فَإِذَا كَمُلَ النِّصَابُ بِهَا
زُكِّيَ وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي كَيْفِيَّتِهِ فَقَالَ
أَبُو حَنِيفَةَ يُضَمُّ بِالْقِيمَةِ كَالْعُرُوضِ وَقَالَ
أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ يُضَمُّ بِالْأَجْزَاءِ وَقَالَ
ابْنُ أَبِي لَيْلَى وَالشَّافِعِيُّ لَا يُضَمَّانِ وَرُوِيَ
الضَّمُّ عَنْ الْحَسَنِ وَبُكَيْرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
الْأَشَجِّ وَقَتَادَةَ وَالدَّلِيلُ عَلَى وُجُوبِ الزَّكَاةِ
فِيهِمَا مَجْمُوعِينَ قَوْله تَعَالَى وَالَّذِينَ
يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَهَا فِي
سَبِيلِ الله فَأَوْجَبَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِمَا الزَّكَاةَ
مَجْمُوعِينَ لِأَنَّ قوله ولا ينفقونها قد
(4/304)
إِنَّ عِدَّةَ
الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ
اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا
أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا
تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ
كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ
اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (36)
أَرَادَ بِهِ إنْفَاقَهُمَا جَمِيعًا
وَيَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ الضَّمِّ أَنَّهُمَا مُتَّفِقَانِ فِي
وُجُوبِ الْحَقِّ فِيهِمَا وَهُوَ رُبْعُ الْعُشْرِ فَكَانَا
بِمَنْزِلَةِ الْعُرُوضِ الْمُخْتَلِفَةِ إذَا كَانَتْ
لِلتِّجَارَةِ لَمَّا كَانَ الْوَاجِبُ فِيهَا رُبْعَ
الْعُشْرِ ضُمَّ بَعْضُهَا إلَى بَعْضٍ مَعَ اخْتِلَافِ
أَجْنَاسِهَا وَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ فِيمَنْ لَهُ مِائَةُ
دِرْهَمٍ وَعَرْضٌ لِلتِّجَارَةِ يُسَاوِي مِائَةَ دِرْهَمٍ
إنَّ الزَّكَاةَ وَاجِبَةٌ عَلَيْهِ فَضَمَّ الْعَرْضَ إلَى
الْمِائَةِ مَعَ اخْتِلَافِ الْجِنْسَيْنِ لِاتِّفَاقِهِمَا
فِي وُجُوبِ رُبْعِ الْعُشْرِ وَلَيْسَ الذَّهَبُ وَالْفِضَّةُ
كَالْجِنْسَيْنِ مِنْ الْإِبِلِ وَالْغَنَمِ لِأَنَّ
زَكَاتَهُمَا مُخْتَلِفَةٌ فَإِنْ قِيلَ زَكَاةُ خَمْسٍ مِنْ
الْإِبِلِ مِثْلُ زَكَاةِ أَرْبَعِينَ شَاةً وَلَمْ يَكُنْ
اتِّفَاقُهُمَا فِي الْحَقِّ الْوَاجِبِ مُوجِبًا لِضَمِّ
أَحَدِهِمَا إلَى الْآخَرِ قِيلَ لَهُ لَمْ نَقُلْ إنَّ
اتِّفَاقَهُمَا فِي الْمِقْدَارِ الْوَاجِبِ يُوجِبُ ضَمَّ
أَحَدِهِمَا إلَى الْآخَرِ وَإِنَّمَا قُلْنَا إنَّ
اتِّفَاقَهُمَا فِي وُجُوبِ رُبْعِ الْعُشْرِ فِيهِمَا هُوَ
الْمَعْنَى الْمُوجِبُ لِلضَّمِّ كَعُرُوضِ التِّجَارَةِ
عِنْدَ اتفاقهما فِي وُجُوبِ رُبْعِ الْعُشْرِ وَقْتَ الضَّمِّ
وَالْإِبِلُ وَالْغَنَمُ لَيْسَ الْوَاجِبُ فِيهِمَا رُبْعَ
الْعُشْرِ لِأَنَّ الشَّاةَ لَيْسَتْ رُبْعَ الْعُشْرِ مِنْ
خَمْسٍ مِنْ الإبل ولا ربع العشر من أربعين شاتا أَيْضًا
لِأَنَّهُ جَائِزٌ أَنْ يَكُونَ الْغَنَمُ خِيَارًا وَيَكُونَ
الْوَاجِبُ فِيهَا شَاةً وَسَطًا فَيَكُونَ أَقَلَّ مِنْ
رُبْعِ عُشُرِهَا فَهَذَا إلْزَامٌ سَاقِطٌ فَإِنْ احْتَجُّوا
بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْسَ فِيمَا
دُونَ خَمْسِ أَوَاقٍ صَدَقَةٌ
وَذَلِكَ يُوجِبُ الزَّكَاةَ فِيهَا سَوَاءٌ كَانَ مَعَهَا
ذَهَبٌ أَوْ لَمْ يَكُنْ قِيلَ لَهُ كَمَا لَمْ يَمْنَعْ
قَوْلُهُ لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسِ أَوَاقٍ صَدَقَةٌ وُجُوبُ
ضَمِّ الْمِائَةِ إلَى الْعُرُوضِ وَكَانَ مَعْنَاهُ عِنْدَك
إذَا لَمْ يَكُنْ مَعَهُ غَيْرُهُ مِنْ الْعُرُوضِ كَذَلِكَ
نَقُولُ نَحْنُ فِي ضَمِّهِ إلَى الذَّهَبِ
قَوْله تَعَالَى إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ
اثْنَا عَشَرَ شهرا- إلى قوله- حرم لَمَّا قَالَ تَعَالَى فِي
مَوَاضِعَ أُخَرَ الْحَجُّ أشهر معلومات وقال يسئلونك عَنِ
الأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ
فَعَلَّقَ بِالشُّهُورِ كَثِيرًا مِنْ مَصَالِحِ الدُّنْيَا
وَالدِّينِ وَبَيَّنَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ هَذِهِ الشُّهُورَ
وَإِنَّمَا تُجْرَى عَلَى مِنْهَاجٍ وَاحِدٍ لَا يُقَدَّمُ
الْمُؤَخَّرُ مِنْهَا وَلَا يُؤَخَّرُ الْمُقَدَّمُ وَقَالَ
إِنَّ عِدَّةَ الشهور عند الله وذلك يحتمل وجهين أحدهما أن
الله وضم هَذِهِ الشُّهُورَ وَسَمَّاهَا بِأَسْمَائِهَا عَلَى
مَا رَتَّبَهَا عَلَيْهِ يَوْمَ خَلْقَ السَّمَوَاتِ
وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ ذَلِكَ عَلَى أَنْبِيَائِهِ فِي
كُتُبِهِ الْمُنَزَّلَةِ وَهُوَ مَعْنَى قوله إن عدة الشهور
عند الله وَحُكْمُهَا بَاقٍ عَلَى مَا كَانَتْ عَلَيْهِ لَمْ
يُزِلْهَا عَنْ تَرْتِيبِهَا تَغْيِيرُ الْمُشْرِكِينَ
لِأَسْمَائِهَا وَتَقْدِيمُ الْمُؤَخَّرِ وَتَأْخِيرُ
الْمُقَدَّمِ فِي الْأَسْمَاءِ مِنْهَا وَذَكَرَ ذَلِكَ لَنَا
لِنَتَّبِعَ أَمْرَ اللَّهِ فِيهَا وَنَرْفُضَ مَا كَانَ
عَلَيْهِ أَمْرُ الْجَاهِلِيَّةِ مِنْ تَأْخِيرِ أَسْمَاءِ
الشُّهُورِ وَتَقْدِيمِهَا وَتَعْلِيقِ الْأَحْكَامِ عَلَى
الْأَسْمَاءِ الَّتِي رَتَّبُوهَا عَلَيْهَا وَلِذَلِكَ
قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
(4/305)
فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ مَا رَوَاهُ ابْنُ
عُمَرَ وأبو بكر أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قَالَ في خطبته بالعقبة أَيُّهَا النَّاسُ إنَّ
الزَّمَانَ قَدْ اسْتَدَارَ قَالَ ابْنُ عُمَرَ فَهُوَ
الْيَوْمَ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ خَلَقَ اللَّهُ السَّمَوَاتِ
وَالْأَرْضَ وَقَالَ أَبُو بَكْرَةَ قَدْ اسْتَدَارَ
كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ خَلَقَ اللَّهُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ
وَإِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ
شَهْرًا مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ثَلَاثٌ مُتَوَالِيَاتٌ ذُو
الْقِعْدَةِ وَذُو الْحِجَّةِ وَالْمُحَرَّمُ وَرَجَبُ مُضَرَ
الَّذِي بَيْنَ جُمَادَى وَشَعْبَانَ وَإِنَّ النَّسِيءَ
زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ
الْآيَةَ قَالَ ابْنُ عُمَرَ وَذَلِكَ أَنَّهُمْ كَانُوا
يَجْعَلُونَ صَفَرَ عَامًا حَرَامًا وَعَامًا حَلَالًا
وَيَجْعَلُونَ الْمُحَرَّمَ عَامًا حَلَالًا وَعَامًا حَرَامًا
وَكَانَ النَّسِيءُ مِنْ الشَّيْطَانِ فَأَخْبَرَ النَّبِيُّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ الزَّمَانَ يَعْنِي
زَمَانَ الشُّهُورِ قَدْ اسْتَدَارَ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ
خَلَقَ اللَّهُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنَّ كُلَّ شَهْرٍ
قَدْ عَادَ إلَى الْمَوْضِعِ الَّذِي وَضَعَهُ اللَّهُ بِهِ
عَلَى تَرْتِيبِهِ وَنِظَامِهِ وَقَدْ ذَكَرَ لِي بَعْضُ
أَوْلَادِ بَنِي الْمُنَجِّمِ أَنَّ جَدَّهُ وَهُوَ أَحْسَبُ
مُحَمَّدُ بْنُ مُوسَى الْمُنَجِّمُ الَّذِي يَنْتَمُونَ
إلَيْهِ حَسَبَ شُهُورِ الْأَهِلَّةِ مُنْذُ ابْتِدَاءِ خَلْقِ
اللَّهِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ فَوَجَدَهَا قَدْ عَادَتْ
فِي مَوْقِعِ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ إلَى الْوَقْتِ الَّذِي
ذَكَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ
قَدْ عَادَ إلَيْهِ يَوْمَ النَّحْر مِنْ حَجَّةِ الْوَدَاعِ
لِأَنَّ خُطْبَتَهُ هَذِهِ كَانَتْ بِمِنًى يَوْمَ النَّحْرِ
عِنْدَ الْعَقَبَةِ وَأَنَّهُ حَسَبَ ذَلِكَ فِي ثَمَانِي
سِنِينَ فَكَانَ ذَلِكَ الْيَوْمَ الْعَاشِرَ مِنْ ذِي
الْحِجَّةِ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ يَوْمَ ابْتِدَاءِ
الشُّهُورِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ فِي
الْمَوْضِعِ الَّذِي
ذَكَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ
قَدْ عَادَ الزَّمَانُ إلَيْهِ مَعَ النَّسِيءِ بِاَلَّذِي
قَدْ كَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ يُنْسِئُونَ وَتَغْيِيرُ
أَسْمَاءِ الشُّهُورِ
وَلِذَلِكَ لَمْ تَكُنْ السَّنَةُ الَّتِي حَجِّ فِيهَا أَبُو
بَكْرٍ الصِّدِّيقُ هِيَ الْوَقْتُ الَّذِي وُضِعَ الْحَجُّ
فِيهِ وَإِنَّمَا قَالَ رَجَبُ مُضَرَ بَيْنَ جُمَادَى
وَشَعْبَانَ دُونَ رَمَضَانَ الَّذِي يُسَمِّيهِ رَبِيعَةُ
رَجَبَ وَأَمَّا الْوَجْهُ الْآخِرُ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ
إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شهرا
في كتاب الله فَهُوَ أَنَّ اللَّه قَسَمَ الزَّمَانَ اثْنَيْ
عَشَرَ قِسْمًا فَجَعَلَ نُزُولَ الشَّمْسِ فِي كُلِّ بُرْجٍ
مِنْ الْبُرُوجِ الِاثْنَيْ عَشَرَ قِسْمًا مِنْهَا فَيَكُونُ
قطعها للفلك في ثلاثمائة وَخَمْسَةٍ وَسِتِّينَ يَوْمًا
وَرُبْعِ يَوْمٍ فَيَجِيءُ نَصِيبُ كُلِّ قِسْمٍ مِنْهَا
بِالْأَيَّامِ ثَلَاثِينَ يَوْمًا وَكَسْرٍ قسم الْأَزْمِنَةَ
أَيْضًا عَلَى مَسِيرِ الْقَمَرِ فَصَارَ الْقَمَرُ يَقْطَعُ
الْفَلَكَ فِي تِسْعَةٍ وَعِشْرِينَ يَوْمًا وَنِصْفِ يوم وجعل
السنة القمرية ثلاثمائة وَأَرْبَعَةً وَخَمْسِينَ يَوْمًا
وَرُبْعَ يَوْمٍ فَكَانَ قَطْعُ الشَّمْسِ لِلْبُرْجِ
مُقَارِبًا لِقَطْعِ الْقَمَرِ لِلْفَلَكِ كُلِّهِ وَهَذَا
مَعْنَى قَوْله تَعَالَى الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ
وَقَالَ تَعَالَى وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ
آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ
النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلا مِنْ رَبِّكُمْ
وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ فلما
(4/306)
كَانَتْ السَّنَةُ مَقْسُومَةً عَلَى
نُزُولِ الشَّمْسِ فِي الْبُرُوجِ الِاثْنَيْ عَشَرَ وَكَانَ
شُهُورُهَا اثْنَيْ عَشَرَ وَاخْتَلَفَتْ السَّنَةُ
الشَّمْسِيَّةُ وَالْقَمَرِيَّةُ فِي الْبُرُوجِ الِاثْنَيْ
عَشَرَ وَكَانَتْ شُهُورُهَا اثْنَيْ عَشَرَ وَاخْتَلَفَتْ
السَّنَةُ الشَّمْسِيَّةُ وَالْقَمَرِيَّةُ فِي الْكَسْرِ
الَّذِي بَيْنَهُمَا وَهُوَ أَحَدَ عَشَرَ يَوْمًا
بِالتَّقْرِيبِ وَكَانَتْ شُهُورُ الْقَمَرِ ثَلَاثِينَ
وَتِسْعَةً وَعِشْرِينَ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِهَا مِنْ
أَحْكَامِ الشَّرْعِ وَلَمْ يَكُنْ لِنِصْفِ الْيَوْمِ الَّذِي
هُوَ زِيَادَةٌ عَلَى تِسْعَةٍ وَعِشْرِينَ يَوْمًا حُكْمٌ
فَكَانَ ذَلِكَ هُوَ الْقِسْمَةُ الَّتِي قَسَمَ اللَّهُ تعالى
السَّنَةَ فِي ابْتِدَاءِ وَضْعِ الْخَلْقِ ثُمَّ غَيَّرَتْ
الْأُمَمُ الْعَادِلَةُ عَنْ كَثِيرٍ مِنْ شَرَائِعِ
الْأَنْبِيَاءِ هَذَا التَّرْتِيبَ فَكَانَتْ شُهُورُ الرُّومِ
بَعْضُهَا ثَمَانِيَةً وَعِشْرِينَ وَبَعْضُهَا ثَمَانِيَةً
وَعِشْرِينَ وَنِصْفًا وَبَعْضُهَا وَاحِدًا وَثَلَاثِينَ
وَذَلِكَ عَلَى خِلَافِ مَا أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ
اعْتِبَارِ الشُّهُورِ فِي الْأَحْكَامِ الَّتِي تَتَعَلَّقُ
بِهَا ثُمَّ كَانَتْ الْفُرْسُ شُهُورُهَا ثَلَاثِينَ إلَّا
شَهْرًا وَاحِدًا وَهُوَ بادماه فَإِنَّهُ خَمْسَةٌ
وَثَلَاثُونَ ثُمَّ كَانَتْ تَكْبِسُ فِي كُلِّ مِائَةٍ
وَعِشْرِينَ سَنَةً شَهْرًا كَامِلًا فَتَصِيرُ السَّنَةُ
ثَلَاثَةَ عَشَرَ أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ عِدَّةَ
شُهُورِ السَّنَةِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا لَا زِيَادَةَ فِيهَا
وَلَا نُقْصَانَ وَهِيَ الشُّهُورُ الْقَمَرِيَّةُ الَّتِي
إمَّا أَنْ تَكُونَ تِسْعَةً وَعِشْرِينَ وَإِمَّا أَنْ
تَكُونَ ثَلَاثِينَ وَلِذَلِكَ
قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الشَّهْرُ
تِسْعٌ وَعِشْرُونَ وَالشَّهْرُ ثَلَاثُونَ وَقَالَ صُومُوا
لِرُؤْيَتِهِ وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ فَإِنْ غُمَّ
عَلَيْكُمْ فَعُدُّوا ثَلَاثِينَ
فَجَعَلَ الشَّهْرَ بِرُؤْيَةِ الْهِلَالِ فَإِنْ اشْتَبَهَ
لِغَمَامٍ أَوْ قَتَرَةٍ فَثَلَاثُونَ فَأَعْلَمَنَا اللَّهُ
بِقَوْلِهِ إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا
عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ
السَّمَاوَاتِ والأرض يَعْنِي أَنَّ عِدَّةَ شُهُورِ السَّنَةِ
اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا لَا زِيَادَةَ عَلَيْهَا وَأَبْطَلَ
بِهِ الْكَبِيسَةَ الَّتِي كَانَتْ تَكْبِسُهَا الْفُرْسُ
فَتَجْعَلُهَا ثَلَاثَةَ عَشَرَ شَهْرًا فِي بَعْضِ السَّنَةِ
وَأَخْبَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
أَنَّ انْقِضَاءَ الشُّهُورِ بِرُؤْيَةِ الْهِلَالِ فَتَارَةً
تِسْعَةٌ وَعِشْرُونَ وَتَارَةً ثَلَاثُونَ فَأَعْلَمَنَا
اللَّهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّهُ كَذَلِكَ وَضَعَ الشهور
والسنين في ابتداء الخلق أخبر النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَوْدَ الزَّمَانِ إلى ما كان عليه وأبطل
به مَا غَيَّرَهُ الْمُشْرِكُونَ مِنْ تَرْتِيبِ الشُّهُورِ
وَنِظَامِهَا وَمَا زَادَ بِهِ فِي السِّنِينَ وَالشُّهُورِ
وَأَنَّ الْأَمْرَ قَدْ اسْتَقَرَّ عَلَى مَا وَضَعَهُ اللَّهُ
تَعَالَى فِي الْأَصْلِ لِمَا عَلِمَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى من
تعلق مصالح الناس في عبادتهم وشرائعهم بكون الشهور
وَالسِّنِينَ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ فَيَكُونُ الصَّوْمُ
تَارَةً فِي الرَّبِيعِ وَتَارَةً فِي الصَّيْفِ وَأُخْرَى فِي
الْخَرِيفِ وَأُخْرَى فِي الشِّتَاءِ وَكَذَلِكَ الْحَجُّ
لِعِلْمِهِ بِالْمَصْلَحَةِ فِي ذَلِكَ وَقَدْ رُوِيَ فِي
الْخَبَرِ أَنَّ صَوْمَ النَّصَارَى كَانَ كَذَلِكَ فَلَمَّا
رَأَوْهُ يَدُورُ فِي بَعْضِ السِّنِينَ إلَى الصَّيْفِ
اجْتَمَعُوا إلَى أَنْ نَقَلُوهُ إلَى زَمَانِ الرَّبِيعِ
وَزَادُوا في
(4/307)
الْعَدَدِ وَتَرَكُوا مَا تَعَبَّدُوا بِهِ
مِنْ اعْتِبَارِ شُهُورِ الْقَمَرِ مُطْلَقَةً عَلَى مَا
يَتَّفِقُ مِنْ وُقُوعِهَا فِي الْأَزْمَانِ وَهَذَا
وَنَحْوُهُ مِمَّا ذَمَّهُمْ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ وَأَخْبَرَ
أَنَّهُمْ اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ
أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فِي اتِّبَاعِهِمْ
أَوَامِرَهُمْ وَاعْتِقَادِهِمْ وُجُوبَهَا دُونَ أَوَامِرِ
اللَّهِ تَعَالَى فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا وقَوْله تَعَالَى
مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ وَهِيَ الَّتِي بَيَّنَهَا
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنَّهَا ذُو
الْقِعْدَةِ وَذُو الْحِجَّةِ وَالْمُحَرَّمُ وَرَجَبُ
وَالْعَرَبُ تَقُولُ ثَلَاثَةٌ سَرْدٌ وَوَاحِدٌ فَرْدٌ
وَإِنَّمَا سَمَّاهَا حُرُمًا لِمَعْنَيَيْنِ أَحَدُهُمَا
تَحْرِيمُ الْقِتَالِ فِيهَا وَقَدْ كَانَ أَهْلُ
الْجَاهِلِيَّةِ أَيْضًا يَعْتَقِدُونَ تحريم القتال فيها وقال
الله تعالى يسئلونك عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ
قُلْ قِتَالٌ فيه كبير وَالثَّانِي تَعْظِيمُ انْتِهَاكِ
الْمَحَارِمِ فِيهَا بِأَشَدَّ مِنْ تَعْظِيمِهِ فِي غَيْرِهَا
وَتَعْظِيمِ الطَّاعَاتِ فِيهَا أَيْضًا وَإِنَّمَا فَعَلَ
اللَّهُ تَعَالَى ذَلِكَ لِمَا فِيهِ مِنْ الْمَصْلَحَةِ فِي
تَرْكِ الظُّلْمِ فِيهَا لِعِظَمِ مَنْزِلَتِهَا فِي حُكْمِ
اللَّهِ وَالْمُبَادَرَةِ إلَى الطَّاعَاتِ من الاعتمار
وَالصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ وَغَيْرِهَا كَمَا فَرَضَ صَلَاةَ
الْجُمُعَةِ فِي يَوْمٍ بِعَيْنِهِ وَصَوْمَ رَمَضَانَ فِي
وَقْتٍ مُعَيَّنٍ وَجَعَلَ بَعْضَ الْأَمَاكِنِ فِي حُكْمِ
الطَّاعَاتِ وَمُوَاقَعَةُ الْمَحْظُورَاتِ أَعْظَمُ مِنْ
حُرْمَةِ غَيْرِهِ نَحْوَ بَيْتِ اللَّهِ الْحَرَامِ
وَمَسْجِدِ الْمَدِينَةِ فَيَكُونُ تَرْكُ الظُّلْمِ
وَالْقَبَائِحِ فِي هَذِهِ الشُّهُورِ وَالْمَوَاضِعِ دَاعِيًا
إلى تركها في غيره ويصير فِعْلِ الطَّاعَاتِ وَالْمُوَاظَبَةِ
عَلَيْهَا فِي هَذِهِ الشُّهُورِ وَهَذِهِ الْمَوَاضِعِ
الشَّرِيفَةِ دَاعِيًا إلَى فِعْلِ أَمْثَالِهَا فِي غَيْرِهَا
لِلْمُرُورِ وَالِاعْتِيَادِ وَمَا يَصْحَبُ اللَّهُ الْعَبْدَ
مِنْ تَوْفِيقِهِ عِنْدَ إقْبَالِهِ إلَى طَاعَتِهِ وَمَا
يَلْحَقُ الْعَبْدَ مِنْ الْخِذْلَانِ عِنْدَ إكْبَابِهِ عَلَى
الْمَعَاصِي وَاشْتِهَارِهِ وَأُنْسِهِ بِهَا فَكَانَ فِي
تَعْظِيمِ بَعْضِ الشُّهُورِ وَبَعْضِ الْأَمَاكِنِ أَعْظَمُ
الْمَصَالِحِ فِي الِاسْتِدْعَاءِ إلَى الطَّاعَاتِ وَتَرْكِ
الْقَبَائِحِ وَلِأَنَّ الْأَشْيَاءَ تَجُرُّ إلَى
أَشْكَالِهَا وَتُبَاعِدُ مِنْ أَضْدَادِهَا فَالِاسْتِكْثَارُ
مِنْ الطَّاعَةِ يَدْعُو إلَى أَمْثَالِهَا وَالِاسْتِكْثَارُ
مِنْ الْمَعْصِيَةِ يَدْعُو إلَى أَمْثَالِهَا قَوْله تَعَالَى
فلا تظلموا فيهن أنفسكم الضمير في قوله فيهن عِنْدَ ابْنِ
عَبَّاسٍ رَاجِعٌ إلَى الشُّهُورِ وَقَالَ قَتَادَةُ هُوَ
عَائِدٌ إلَى الْأَرْبَعَةِ الْحُرُمِ وَقَوْلُهُ وقاتلوا
المشركين كافة يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا الْأَمْرُ
بِقِتَالِ سَائِرِ أَصْنَافِ أَهْلِ الشِّرْكِ إلَّا مَنْ
اعْتَصَمَ مِنْهُمْ بِالذِّمَّةِ وَأَدَاءِ الْجِزْيَةِ عَلَى
مَا بَيَّنَهُ فِي غَيْرِ هذه الآية والآخر الأمر بأن تقاتلهم
مُجْتَمِعِينَ مُتَعَاضِدِينَ غَيْرَ مُتَفَرِّقِينَ وَلِمَا
احْتَمَلَ الْوَجْهَيْنِ كَانَ عَلَيْهِمَا إذْ لَيْسَا
مُتَنَافِيَيْنِ فَتَضَمَّنَ ذَلِكَ الْأَمْرُ بِالْقِتَالِ
لِجَمِيعِ الْمُشْرِكِينَ وَأَنْ يَكُونُوا مُجْتَمِعِينَ
مُتَعَاضِدِينَ عَلَى الْقِتَالِ وَقَوْلُهُ كَمَا
يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً يَعْنِي أَنَّ جَمَاعَتَهُمْ
يَرَوْنَ ذَلِكَ فِيكُمْ وَيَعْتَقِدُونَهُ وَيَحْتَمِلُ كَمَا
يُقَاتِلُونَكُمْ مُجْتَمِعِينَ وَهَذِهِ الْآيَةُ فِي
(4/308)
إِنَّمَا النَّسِيءُ
زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا
يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِيُوَاطِئُوا
عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ
زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي
الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (37)
معنى قوله فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم
مُتَضَمِّنَةٌ لِرَفْعِ الْعُهُودِ وَالذِّمَمِ الَّتِي
كَانَتْ بَيْنَ النبي صلّى اللَّه عليه وآله وَسَلَّمَ
وَبَيْنَ الْمُشْرِكِينَ وَفِيهَا زِيَادَةُ مَعْنًى وَهُوَ
الْأَمْرُ بِأَنْ نَكُونَ مُجْتَمِعِينَ فِي حَالِ قِتَالِنَا
إيَّاهُمْ
قَوْله تَعَالَى إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ
فَالنَّسِيءُ التَّأْخِيرُ وَمِنْهُ الْبَيْعُ بِنَسِيئَةٍ
وَأَنْسَأْت الْبَيْعَ أخرته وما ننسخ من آية أو ننسها أَيْ
نُؤَخِّرْهَا وَنُسِئَتْ الْمَرْأَةُ إذَا حَبِلَتْ
لِتَأَخُّرِ حيضها ونسأت الناقة إذ دَفَعْتهَا فِي السَّيْرِ
لِأَنَّك زَجَرْتهَا عَنْ التَّأَخُّرِ والمنسأة العصا فِي
هَذَا الْمَوْضِعِ مَا كَانَتْ الْعَرَبُ تَفْعَلُهُ مِنْ
تَأْخِيرِ الشُّهُورِ فَكَانَ يَقَعُ الْحَجُّ فِي غَيْرِ
وَقْتِهِ وَاعْتِقَادِ حُرْمَةِ الشُّهُورِ فِي غَيْرِ
زَمَانِهِ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ كَانُوا يَجْعَلُونَ
الْمُحَرَّمَ صَفَرًا وَقَالَ ابْنُ أَبِي نَجِيحٍ وَغَيْرُهُ
كَانَتْ قُرَيْشٌ تُدْخِلُ فِي كُلِّ سِتَّةِ أَشْهُرٍ
أَيَّامًا يوافقون ذا الحجة في كل ثلاث عشر سنة فوفق اللَّه
تعالى لرسوله فِي حَجَّتِهِ اسْتِدَارَةَ زَمَانِهِمْ
كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ خَلَقَ اللَّه السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ
فَاسْتَقَامَ الْإِسْلَامُ عَلَى عَدَدِ الشُّهُورِ وَوَقَفَ
الْحَجُّ عَلَى ذِي الْحِجَّةِ وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ كَانَ
مَلِكٌ مِنْ الْعَرَبِ يُقَالُ لَهُ الْقَلَمَّسُ وَاسْمُهُ
حُذَيْفَةُ أَوَّلَ مَنْ أَنْسَأَ النَّسِيءَ أَنْسَأَ
الْمُحَرَّمَ فَكَانَ يُحِلُّهُ عَامًا وَيُحَرِّمُهُ عَامًا
فَكَانَ إذَا حَرَّمَهُ كَانَتْ ثَلَاثَ حُرُمَاتٍ
مُتَوَالِيَاتٍ وَهِيَ الْعِدَّةُ الَّتِي حَرَّمَ اللَّه فِي
عَهْدِ إبْرَاهِيمَ صَلَوَاتُ اللَّه عَلَيْه فَإِذَا
أَحَلَّهُ دَخَلَ مَكَانَهُ صَفَرٌ فِي الْمُحَرَّمِ
لِتُوَاطِئَ الْعِدَّةُ يَقُولُ قَدْ أَكْمَلْت الْأَرْبَعَةَ
كَمَا كَانَتْ لِأَنِّي لَمْ أُحِلَّ شَهْرًا إلَّا قَدْ
حَرَّمْت مَكَانَهُ شهرا فحج النبي صلّى اللَّه عليه وآله
وَسَلَّمَ وَقَدْ عَادَ الْمُحَرَّمُ إلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ
فِي الْأَصْلِ فَأَنْزَلَ اللَّه تَعَالَى إِنَّ عِدَّةَ
الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فَأَخْبَرَ
اللَّه أَنَّ النَّسِيءَ الَّذِي كَانُوا يَفْعَلُونَهُ كفر
لِأَنَّ الزِّيَادَةَ فِي الْكُفْرِ لَا تَكُونُ إلَّا كُفْرًا
لِاسْتِحْلَالِهِمْ مَا حَرَّمَ اللَّه وَتَحْرِيمِهِمْ مَا
أَحَلَّ اللَّه فَكَانَ الْقَوْمُ كُفَّارًا بِاعْتِقَادِهِمْ
الشِّرْكَ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا بِالنَّسِيءِ.
بَابُ فَرْضِ النَّفِيرِ وَالْجِهَادِ
قَالَ اللَّه تَعَالَى يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا
لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا في سبيل الله اثاقلتم إلى
الأرض- إلَى قَوْلِهِ- إِلا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا
أَلِيمًا ويستبدل قوما غيركم اقْتَضَى ظَاهِرُ الْآيَةِ
وُجُوبَ النَّفِيرِ عَلَى مَنْ يَسْتَنْفِرْ
وَقَالَ فِي آيَةٍ بَعْدَهَا انْفِرُوا خِفَافًا وثقالا
فَأَوْجَبَ النَّفِيرَ مُطْلَقًا غَيْرَ مُقَيَّدٍ بِشَرْطِ
الِاسْتِنْفَارِ فَاقْتَضَى ظَاهِرُهُ وُجُوبَ الْجِهَادِ
عَلَى كُلِّ مُسْتَطِيعٍ لَهُ وَحَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ
مُحَمَّدٍ الْوَاسِطِيُّ قَالَ حدثنا جعفر بن محمد بن اليمان
قال حَدَّثَنَا أَبُو عُبَيْدٍ
(4/309)
قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ
وَحَجَّاجٌ كِلَاهُمَا عَنْ جَرِيرِ بْنِ عُثْمَانَ عَنْ
عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ ميسرة وابن أبى بلال عن رَاشِدٍ
الْحُبْرَانِيِّ أَنَّهُ وَافَى الْمِقْدَادَ بْنَ الْأَسْوَدِ
وَهُوَ يُجَهِّزُ قَالَ فَقُلْت يَا أَبَا الْأَسْوَدِ قَدْ
أَعْذَرَ اللَّه إلَيْك أَوْ قَالَ قَدْ عَذَرَك اللَّه
يَعْنِي فِي الْقُعُودِ عَنْ الْغَزْوِ فَقَالَ أَتَتْ
عَلَيْنَا سُورَةُ بَرَاءَةٌ انْفِرُوا خِفَافًا وثقالا قال
أَبُو عُبَيْدٍ حَدَّثَنَا إسْمَاعِيلُ بْنُ إبْرَاهِيمَ عَنْ
أَيُّوبَ عَنْ ابْنِ سِيرِينَ أَنَّ أَبَا أَيُّوبَ شَهِدَ
بَدْرًا مَعَ رَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عليه وآله
وَسَلَّمَ ثُمَّ لَمْ يَتَخَلَّفْ عَنْ غَزَاةِ الْمُسْلِمِينَ
إلَّا عَامًا وَاحِدًا فَإِنَّهُ اُسْتُعْمِلَ عَلَى الْجَيْشِ
رَجُلٌ شَابٌّ ثُمَّ قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ وَمَا عَلَيَّ مَنْ
اُسْتُعْمِلَ عَلَيَّ فَكَانَ يَقُولُ قَالَ اللَّه انفروا
خفافا وثقالا فَلَا أَجِدُنِي إلَّا خَفِيفًا أَوْ ثَقِيلًا
وَبِإِسْنَادِهِ قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ حَدَّثَنَا يَزِيدُ عَنْ
حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ زيد عن أَنَسِ بْنِ
مَالِكٍ أَنَّ أَبَا طَلْحَةَ قَرَأَ هذه الآية انفروا خفافا
وثقالا قَالَ مَا أَرَى اللَّه إلَّا يَسْتَنْفِرُنَا
شُبَّانًا وَشُيُوخًا جَهِّزُونِي فَجَهَّزْنَاهُ فَرَكِبَ
الْبَحْرَ وَمَاتَ فِي غزاته تلك فما وجدنا له جزيرة تدفنه
فيها أو قال يدفنونى فِيهَا إلَّا بَعْدَ سَابِعِهِ قَالَ
أَبُو عُبَيْدٍ حدثنا حجاج عن أبى جُرَيْجٍ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي
هَذِهِ الْآيَةِ قَالَ قَالُوا فِينَا الثَّقِيلُ وَذُو
الْحَاجَةِ وَالصَّنْعَةِ وَالْمُنْتَشِرُ عَلَيْهِ أَمْرُهُ
قَالَ اللَّه تَعَالَى انْفِرُوا خِفَافًا وثقالا فَتَأَوَّلَ
هَؤُلَاءِ هَذِهِ الْآيَةَ عَلَى فَرْضِ النَّفِيرِ ابْتِدَاءً
وَإِنْ لَمْ يَسْتَنْفِرُوا وَالْآيَةُ الْأُولَى يَقْتَضِي
ظَاهِرُهَا وُجُوبَ فَرْضِ النَّفِيرِ إذَا اُسْتُنْفِرُوا
وَقَدْ ذُكِرَ فِي تَأْوِيلِهِ وُجُوهٌ أَحَدُهَا أَنَّ ذَلِكَ
كَانَ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ لَمَّا نَدَبَ إلَيْهِ النبي صلّى
اللَّه عليه وآله وَسَلَّمَ النَّاسَ إلَيْهَا فَكَانَ
النَّفِيرُ مَعَ رَسُولِ اللَّه صلّى اللَّه عليه وآله وسلم
فَرْضًا عَلَى مَنْ اسْتَنْفَرَ وَهُوَ مِثْلُ قَوْلِهِ مَا
كَانَ لأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ
الأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلا
يرغبوا بأنفسهم عن نفسه قَالُوا وَلَيْسَ كَذَلِكَ حُكْمُ
النَّفِيرِ مَعَ غَيْرِهِ وَقِيلَ إنَّ هَذِهِ الْآيَةَ
مَنْسُوخَةٌ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قَالَ
حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُد قَالَ حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ
مُحَمَّدٍ الْمَرْوَزِيِّ قَالَ حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ
الْحُسَيْنِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ يَزِيدَ النَّحْوِيِّ عَنْ
عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ إِلا تَنْفِرُوا
يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غيركم
وما كَانَ لأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ
الأَعْرَابِ أن يتخلفوا عن رسول الله نَسَخَتْهَا الْآيَةُ
الَّتِي تَلِيهَا وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لينفروا كافة
وَقَالَ آخَرُونَ لَيْسَ فِي وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا نَسْخٌ
وَحُكْمُهُمَا ثَابِتٌ فِي حَالَيْنِ فَمَتَى لَمْ يُقَاوِمْ
أَهْلُ الثُّغُورِ الْعَدُوَّ وَاسْتُنْفِرُوا فَفُرِضَ عَلَى
النَّاسِ النفير إليهم حتى يسيحوا الثُّغُورَ وَإِنْ
اُسْتُغْنِيَ عَنْهُمْ بِاكْتِفَائِهِمْ بِمَنْ هُنَاكَ
سَوَاءٌ اُسْتُنْفِرُوا أَوْ لَمْ يُسْتَنْفَرُوا وَمَتَى
قَامَ الَّذِينَ فِي وَجْهِ الْعَدُوِّ بِفَرْضِ الْجِهَادِ
وَاسْتَغْنَوْا بأنفسهم عمن
(4/310)
وَرَاءَهُمْ فَلَيْسَ عَلَى مَنْ
وَرَاءَهُمْ فَرْضُ الْجِهَادِ إلَّا أَنْ يَشَاءَ مَنْ شَاءَ
مِنْهُمْ الْخُرُوجَ لِلْقِتَالِ فَيَكُونَ فَاعِلًا
لِلْفَرْضِ وَإِنْ كَانَ مَعْذُورًا فِي الْقُعُودِ بَدِيَّا
لِأَنَّ الْجِهَادَ فَرْضٌ عَلَى الْكِفَايَةِ وَمَتَى قَامَ
بِهِ بَعْضُهُمْ سَقَطَ عَنْ الْبَاقِينَ
وَقَدْ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قَالَ حَدَّثَنَا
أَبُو دَاوُد قَالَ حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ
قال حدثنا جرير بن مَنْصُورٍ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنْ طَاوُسٍ عَنْ
ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّه عليه
وآله وسلم يوم الفتح مَكَّةَ لَا هِجْرَةَ وَلَكِنْ جِهَادٌ
وَنِيَّةٌ وَإِنَّ اُسْتُنْفِرْتُمْ فَانْفِرُوا
فَأَمَرَ بِالنَّفِيرِ عِنْدَ الِاسْتِنْفَارِ وَهُوَ
مُوَافِقٌ لِظَاهِرِ قَوْله تَعَالَى يَا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا في سبيل الله
اثاقلتم إلى الأرض وَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ
الِاسْتِنْفَارِ لِلْحَاجَةِ إلَيْهِمْ لِأَنَّ أَهْلَ
الثُّغُورِ مَتَى اكْتَفَوْا بِأَنْفُسِهِمْ وَلَمْ تَكُنْ
لَهُمْ حَاجَةٌ إلَى غَيْرِهِمْ فَلَيْسَ يَكَادُونَ
يُسْتَنْفَرُونَ وَلَكِنْ لَوْ اسْتَنْفَرَهُمْ الْإِمَامُ
مَعَ كِفَايَةِ مَنْ فِي وَجْهِ الْعَدُوِّ مِنْ أَهْلِ
الثُّغُورِ وَجُيُوشِ الْمُسْلِمِينَ لِأَنَّهُ يُرِيدُ أَنْ
يَغْزُوَ أَهْلَ الْحَرْبِ وَيَطَأَ دِيَارَهُمْ فَعَلَى مِنْ
استنفر من المسلمين أن ينفروا وهذ هُوَ مَوْضِعُ الْخِلَافِ
بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي فَرْضِ الْجِهَادِ فَحُكِيَ عَنْ
ابْنِ شُبْرُمَةَ وَالثَّوْرِيِّ فِي آخَرِينَ أَنَّ
الْجِهَادَ تَطَوُّعٌ وَلَيْسَ بِفَرْضٍ وَقَالُوا كتب عليكم
القتال لَيْسَ عَلَى الْوُجُوبِ بَلْ عَلَى النَّدْبِ
كَقَوْلِهِ تَعَالَى كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ
أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إن ترك خيرا الوصية للوالدين والأقربين
وَقَدْ رُوِيَ فِيهِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ نَحْوُ ذَلِكَ وَإِنْ
كَانَ مُخْتَلَفًا فِي صِحَّةِ الرِّوَايَةِ عَنْهُ وَهُوَ مَا
حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدِ بن الحكم قال حدثنا جعفر
ابن محمد بن اليمان قال حدثنا أبو عبيد قَالَ حَدَّثَنَا
عَلِيُّ بْنُ مَعْبَدٍ عَنْ أَبِي الْمَلِيحِ الرَّقِّيِّ عَنْ
مَيْمُونِ بْنِ مِهْرَانَ قَالَ كُنْت عِنْدَ ابْنِ عُمَرَ
فَجَاءَ رَجُلٌ إلَى عَبْدِ اللَّه بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ
فَسَأَلَهُ عَنْ الْفَرَائِضِ وَابْنُ عُمَرَ جَالِسٌ حَيْثُ
يَسْمَعُ كَلَامَهُ فَقَالَ الْفَرَائِضُ شَهَادَةُ أَنْ لَا
إلَهَ إلَّا اللَّه وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّه
وَإِقَامُ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءُ الزَّكَاةِ وَحَجُّ الْبَيْتِ
وَصِيَامُ رَمَضَانَ وَالْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّه قَالَ
فَكَأَنَّ ابْنَ عُمَرَ غَضِبَ مِنْ ذَلِكَ ثُمَّ قَالَ
الْفَرَائِضُ شهادة أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّه وَأَنَّ
مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّه وَإِقَامُ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءُ
الزَّكَاةِ وحج البيت وصيام رمضان قال ابن الْيَمَانِ قَالَ
حَدَّثَنَا أَبُو عُبَيْدٍ حَدَّثَنَا حَجَّاجٌ عن ابى
جُرَيْجٍ قَالَ قُلْت لِعَطَاءٍ أَوَاجِبٌ الْغَزْوُ عَلَى
النَّاسِ فَقَالَ هُوَ وَعَمْرُو بْنُ دِينَارٍ مَا
عَلِمْنَاهُ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ
وَمُحَمَّدٌ وَمَالِكٌ وَسَائِرُ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ إنَّ
الْجِهَادَ فَرْضٌ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ إلَّا أَنَّهُ
فَرْضٌ عَلَى الْكِفَايَةِ إذَا
(4/311)
قَامَ بِهِ بَعْضُهُمْ كَانَ الْبَاقُونَ
فِي سَعَةٍ مِنْ تَرْكِهِ وَقَدْ ذَكَرَ أَبُو عُبَيْدٍ أَنَّ
سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ كَانَ يَقُولُ لَيْسَ بِفَرْضٍ
وَلَكِنْ لَا يَسَعُ النَّاسَ أَنْ يُجْمِعُوا عَلَى تَرْكِهِ
وَيَجْزِي فِيهِ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ فَإِنْ كَانَ هَذَا
قَوْلَ سُفْيَانَ فَإِنَّ مَذْهَبَهُ أَنَّهُ فَرْضٌ عَلَى
الْكِفَايَةِ وَهُوَ مُوَافِقٌ لِمَذْهَبِ أَصْحَابِنَا
الَّذِي ذَكَرْنَاهُ وَمَعْلُومٌ فِي اعْتِقَادِ جَمِيعِ
الْمُسْلِمِينَ أَنَّهُ إذَا خَافَ أَهْلُ الثُّغُورِ مِنْ
الْعَدُوِّ وَلَمْ تَكُنْ فِيهِمْ مُقَاوِمَةٌ لَهُمْ
فَخَافُوا عَلَى بِلَادِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَذَرَارِيِّهِمْ
أَنَّ الْفَرْضَ عَلَى كَافَّةِ الْأُمَّةِ أَنْ يَنْفِرُ
إلَيْهِمْ مَنْ يَكُفُّ عَادِيَتَهُمْ عَنْ الْمُسْلِمِينَ
وَهَذَا لَا خِلَافَ فِيهِ بَيْنَ الْأُمَّةِ إذا لَيْسَ مِنْ
قَوْلِ أَحَدٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ إبَاحَةُ القعود عنهم حين
يَسْتَبِيحُوا دِمَاءَ الْمُسْلِمِينَ وَسَبْيَ ذَرَارِيِّهِمْ
وَلَكِنَّ مَوْضِعَ الْخِلَافِ بَيْنَهُمْ أَنَّهُ مَتَى كَانَ
بِإِزَاءِ الْعَدُوِّ مُقَاوِمِينَ لَهُ وَلَا يَخَافُونَ
غَلَبَةَ الْعَدُوِّ عَلَيْهِمْ هَلْ يَجُوزُ لِلْمُسْلِمِينَ
تَرْكُ جِهَادِهِمْ حَتَّى يُسْلِمُوا أَوْ يُؤَدُّوا
الْجِزْيَةَ فَكَانَ مِنْ قَوْلِ ابْنِ عُمَرَ وَعَطَاءٍ
وَعَمْرِو بْنِ دِينَارٍ وَابْنِ شُبْرُمَةَ أَنَّهُ جَائِزٌ
لِلْإِمَامِ وَالْمُسْلِمِينَ أَنْ لَا يَغْزُوهُمْ وَأَنْ
يَقْعُدُوا عَنْهُمْ وَقَالَ آخَرُونَ عَلَى الْإِمَامِ
وَالْمُسْلِمِينَ أَنْ يَغْزُوَهُمْ أَبَدًا حَتَّى يُسْلِمُوا
أَوْ يُؤَدُّوا الْجِزْيَةَ وَهُوَ مَذْهَبُ أَصْحَابِنَا
وَمَنْ ذَكَرْنَا مِنْ السَّلَفِ الْمِقْدَادُ بْنُ
الْأَسْوَدِ وَأَبُو طَلْحَةَ فِي آخَرِينَ مِنْ الصَّحَابَةِ
وَالتَّابِعِينَ وَقَالَ حُذَيْفَةُ بْنُ الْيَمَانِ
الْإِسْلَامُ ثَمَانِيَةُ أَسْهُمٍ وَذَكَرَ سَهْمًا منها
الجهاد وَحَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَ حَدَّثَنَا
جَعْفَرُ بن اليمان قال حدثنا أبو عبيد قال حَدَّثَنَا
حَجَّاجٌ عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ قَالَ مَعْمَرٌ كَانَ
مَكْحُولٌ يَسْتَقْبِلُ الْقِبْلَةَ ثُمَّ يَحْلِفُ عَشْرَ
أَيْمَانٍ أَنَّ الْغَزْوَ وَاجِبٌ ثُمَّ يَقُولُ إنْ شِئْتُمْ
زِدْتُكُمْ وَحَدَّثَنَا جَعْفَرٌ قَالَ حَدَّثَنَا جعفر حدثنا
أبو عبيد حدثنا عن عبد اللَّه بن صالح عن معاوية بن صَالِحٍ
عَنْ الْعَلَاءِ بْنِ الْحَارِثِ أَوْ غَيْرِهِ عَنْ ابْنِ
شِهَابٍ قَالَ كَتَبَ اللَّه الْجِهَادَ على الناس غزوا أو
قعودا فَمَنْ قَعَدَ فَهُوَ عِدَّةٌ إنْ اُسْتُعِينَ بِهِ
أَعَانَ وَإِنْ اُسْتُنْفِرَ نَفَرَ وَإِنْ اسْتَغْنَى عَنْهُ
قَعَدَ وَهَذَا مِثْلُ قَوْلِ مَنْ يَرَاهُ فَرْضًا عَلَى
الْكِفَايَةِ وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ قَوْلَ ابْنِ عُمَرَ
وَعَطَاءٍ وَعَمْرِو بْنِ دِينَارٍ فِي أَنَّ الْجِهَادَ
لَيْسَ بِفَرْضٍ يَعْنُونَ بِهِ أَنَّهُ لَيْسَ فَرْضُهُ
مُتَعَيَّنًا عَلَى كُلِّ أَحَدٍ كَالصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ
وَأَنَّهُ فُرِضَ عَلَى الْكِفَايَةِ وَالْآيَاتُ الْمُوجِبَةُ
لِفَرْضِ الْجِهَادِ كَثِيرَةٌ فَمِنْهَا قَوْله تَعَالَى
وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدين
لله فَاقْتَضَى
ذَلِكَ وُجُوبَ قِتَالِهِمْ حَتَّى يُجِيبُوا إلَى
الْإِسْلَامِ وَقَالَ قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ
بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ الْآيَةَ وَقَالَ قَاتِلُوا
الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخر
الْآيَةَ وَقَالَ فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ
وأنتم الأعلون والله معكم وقال فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم
(4/312)
وو قاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونكم
كافة وَقَالَ انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالا وَجَاهِدُوا
بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ في سبيل الله وَقَالَ إِلا
تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ
قوما غيركم
وقال فانفروا ثبات أو انفروا جميعا وَقَالَ يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ
تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ
وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ
بِأَمْوَالِكُمْ وأنفسكم فَأَخْبَرَ أَنَّ النَّجَاةَ مِنْ
عَذَابِهِ إنَّمَا هِيَ بِالْإِيمَانِ باللَّه وَرَسُولِهِ
وَبِالْجِهَادِ فِي سَبِيلِهِ بِالنَّفْسِ وَالْمَالِ
فَتَضَمَّنَتْ الْآيَةُ الدَّلَالَةَ عَلَى فَرْضِ الْجِهَادِ
مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ قَرَنَهُ إلَى فَرْضِ
الْإِيمَانِ وَالْآخَرُ الْإِخْبَارُ بِأَنَّ النَّجَاةَ مِنْ
عَذَابِ اللَّه بِهِ وَبِالْإِيمَانِ وَالْعَذَابُ لَا
يُسْتَحَقُّ إلَّا بِتَرْكِ الْوَاجِبَاتِ وَقَالَ كُتِبَ
عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كره لكم ومعناه فرض كقوله كتب
عليكم الصيام فَإِنْ قِيلَ هُوَ كَقَوْلِهِ كُتِبَ عَلَيْكُمْ
إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا
الْوَصِيَّةُ للوالدين والأقربين وَإِنَّمَا هِيَ نَدْبٌ
لَيْسَتْ بِفَرْضٍ قِيلَ لَهُ قَدْ كَانَتْ الْوَصِيَّةُ
وَاجِبَةً بِهَذِهِ الْآيَةِ وَذَلِكَ قَبْلَ فَرْضِ اللَّه
الْمَوَارِيثَ ثُمَّ نُسِخَتْ بَعْدَ الميراث ومع ذلك فإن
حُكْمِ اللَّفْظِ الْإِيجَابَ إلَّا أَنْ تَقُومَ دَلَالَةٌ
لِلنَّدْبِ وَلَمْ تَقُمْ الدَّلَالَةُ فِي الْجِهَادِ أَنَّهُ
نَدْبٌ قَالَ أَبُو بَكْرٍ فَأَكَّدَ اللَّه تَعَالَى فَرْضَ
الْجِهَادِ عَلَى سَائِرِ الْمُكَلَّفِينَ بِهَذِهِ الْآيَةِ
وَبِغَيْرِهَا عَلَى حَسَبِ الْإِمْكَانِ فَقَالَ لِنَبِيِّهِ
صَلَّى اللَّه عليه وآله وَسَلَّمَ فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ
اللَّهِ لا تُكَلَّفُ إلا نفسك وحرض المؤمنين فَأَوْجَبَ
عَلَيْهِ فَرَضَ الْجِهَادِ مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا
بِنَفْسِهِ وَمُبَاشَرَةِ الْقِتَالِ وَحُضُورِهِ وَالْآخَرُ
بِالتَّحْرِيضِ وَالْحَثِّ والبيان لأنه صلّى اللَّه عليه وآله
وَسَلَّمَ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ فَلَمْ يَذْكُرْ فِيمَا
فَرَضَهُ عَلَيْهِ إنْفَاقَ الْمَالِ وَقَالَ لِغَيْرِهِ
انفروا خفافا وثقالا وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم فَأَلْزَمَ مَنْ
كَانَ مِنْ أَهْلِ الْقِتَالِ وَلَهُ مَالٌ فَرْضَ الْجِهَادِ
بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ ثُمَّ قَالَ فِي آيَةٍ أُخْرَى وَجَاءَ
الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الأَعْرَابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ وَقَعَدَ
الَّذِينَ كَذَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ سيصيب الذين كفروا
منهم عذاب أليم لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلا عَلَى
الْمَرْضَى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ
حَرَجٌ إذا نصحوا لله ورسوله فَلَمْ يَخْلُ مَنْ أَسْقَطَ
عَنْهُ فَرْضَ الْجِهَادِ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ لِلْعَجْزِ
وَالْعُدْمِ مِنْ إيجَابِ فَرْضِهِ بِالنُّصْحِ للَّه
وَرَسُولِهِ فَلَيْسَ أَحَدٌ مِنْ الْمُكَلَّفِينَ إلا وعليه
فرض الجهاد عن مَرَاتِبِهِ الَّتِي وَصَفْنَا وَقَدْ رُوِيَ
فِي تَأْكِيدِ فَرْضِهِ أَخْبَارٌ كَثِيرَةٌ فَمِنْهَا مَا
حُدِّثْنَا عَنْ عَمْرِو بْنِ حَفْصٍ السَّدُوسِيِّ قَالَ
حَدَّثَنَا عَاصِمُ بْنُ عَلِيٍّ قَالَ حَدَّثَنَا قَيْسُ بْنُ
الرَّبِيعِ عَنْ جَبَلَةَ بْنِ سُحَيْمٍ عَنْ مُؤْثِرِ بْنِ
عفازة عن بشير بن الْخَصَاصِيَةِ قَالَ أَتَيْت النَّبِيَّ
صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ أُبَايِعُهُ فَقُلْت
لَهُ عَلَامَ
(4/313)
تُبَايِعُنِي يَا رَسُولَ اللَّه فَمَدَّ
رَسُولُ اللَّه يَدَهُ فَقَالَ عَلَى أَنْ تَشْهَدَ أَنْ لَا
إلَهَ إلَّا اللَّه وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ
وَتُصَلِّيَ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ الْمَكْتُوبَاتِ
لِوَقْتِهِنَّ وَتُؤَدِّيَ الزَّكَاةَ الْمَفْرُوضَةَ
وَتَصُومَ رَمَضَانَ وَتَحُجَّ الْبَيْتَ وَتُجَاهِدَ فِي
سَبِيلِ اللَّه فَقُلْت يَا رَسُولَ اللَّه كَلًّا لا أطيق إلا
اثنتين إيتاء الزكاء فَمَا لِي إلَّا حُمُولَةَ أَهْلِي وَمَا
يَقُومُونَ بِهِ وَأَمَّا الْجِهَادُ فَإِنِّي رَجُلٌ جَبَانٌ
فَأَخَافُ أَنْ تَخْشَعَ نَفْسِي فَأَفِرَّ فَأَبُوءَ بِغَضَبٍ
مِنْ اللَّه فَقَبَضَ رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ
وآله وَسَلَّمَ يَدَهُ وَقَالَ يَا بَشِيرُ لَا جِهَادَ ولا
صدقة فبم تَدْخُلُ الْجَنَّةَ فَقُلْت يَا رَسُولَ اللَّه
اُبْسُطْ يَدَك فَبَسَطَ يَدَهُ فَبَايَعْته عَلَيْهِنَّ
وَحَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي بْنُ قَانِعٍ قَالَ حَدَّثَنَا
إبراهيم بن عَبْدِ اللَّه قَالَ حَدَّثَنَا حَجَّاجٌ قَالَ
حَدَّثَنَا حَمَّادٌ أَخْبَرَنَا حُمَيْدٌ عَنْ أَنَسِ بْنِ
مَالِكٍ أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وآله وَسَلَّمَ قَالَ
جَاهِدُوا الْمُشْرِكِينَ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ
وَأَلْسِنَتِكُمْ
فَأَوْجَبَ الْجِهَادَ بِكُلِّ مَا أَمْكَنَ الْجِهَادُ بِهِ
وَلَيْسَ بَعْدَ الْإِيمَانِ باللَّه وَرَسُولِهِ فَرْضٌ آكَدُ
وَلَا أَوْلَى بِالْإِيجَابِ مِنْ الْجِهَادِ وَذَلِكَ أَنَّهُ
بِالْجِهَادِ يُمْكِنُ إظْهَارُ الْإِسْلَامِ وَأَدَاءُ
الْفَرَائِضِ وَفِي تَرْكِ الْجِهَادِ غَلَبَةُ الْعَدُوِّ
وَدُرُوسُ الدِّينِ وَذَهَابُ الْإِسْلَامِ إلَّا أَنَّ
فَرْضَهُ عَلَى الْكِفَايَةِ عَلَى مَا بَيَّنَّا فَإِنْ
احْتَجَّ مُحْتَجٌّ بِمَا
رَوَى عاصم بْنِ زَيْدِ بْنِ عَبْدِ اللَّه بْنِ عُمَرَ عَنْ
وَاقِدِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ ابْنِ عُمَرُ قَالَ
قَالَ رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّه عليه وآله وَسَلَّمَ
بُنِيَ الْإِسْلَامُ عَلَى خَمْسٍ فَذَكَرَ الشَّهَادَتَيْنِ
وَالصَّلَاةَ وَالزَّكَاةَ وَالْحَجَّ وَصَوْمَ رَمَضَانَ
فَذَكَرَ هَذِهِ الْخَمْسَ وَلَمْ يَذْكُرْ فِيهِ الْجِهَادَ
وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِفَرْضٍ قَالَ أَبُو
بَكْرٍ وَهَذَا حَدِيثٌ فِي الْأَصْلِ مَوْقُوفٌ عَلَى ابْنِ
عُمَرَ رَوَاهُ وَهْبٌ عَنْ عُمَرَ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ زَيْدٍ
عَنْ أَبِيهِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ وَجَدْت
الْإِسْلَامَ بُنِيَ عَلَى خَمْسٍ وقوله وجدت دليل على أنه
قاله مِنْ رَأْيِهِ وَجَائِزٌ أَنْ يَجِدَ غَيْرُهُ مَا هُوَ
أَكْثَرَ مِنْهُ وَقَوْلُ حُذَيْفَةَ بُنِيَ الْإِسْلَامُ
عَلَى ثَمَانِيَةِ أَسْهُمٍ أَحَدُهَا الْجِهَادُ يُعَارِضُ
قَوْلَ ابْنِ عُمَرَ فَإِنْ قِيلَ
فَقَدْ رَوَى عُبَيْدُ اللَّه بْنُ مُوسَى قَالَ أَخْبَرَنَا
حَنْظَلَةُ بْنُ أبى سفيان قال سمعت عكرمة ابن خافد يُحَدِّثُ
طَاوُسًا قَالَ جَاءَ رَجُلٌ إلَى ابْنِ عُمَرَ فَقَالَ يا أبا
عبد الرحمن لا تغزوا فَقَالَ إنِّي سَمِعْت رَسُولَ اللَّه
صَلَّى اللَّه عليه وآله وَسَلَّمَ يَقُولُ بُنِيَ
الْإِسْلَامُ عَلَى خَمْسَةٍ
فَهَذَا حَدِيثٌ مُسْتَقِيمُ السَّنَدِ مَرْفُوعٌ إلَى
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عليه وآله وَسَلَّمَ قِيلَ لَهُ
جَائِزٌ أَنْ يَكُونَ إنَّمَا اقْتَصَرَ عَلَى خَمْسَةٍ
لِأَنَّهُ قَصَدَ إلَى ذِكْرِ مَا يَلْزَمُ الْإِنْسَانُ فِي
نَفْسِهِ دُونَ مَا يَكُونُ مِنْهُ فَرْضًا عَلَى الْكِفَايَةِ
أَلَا تَرَى أَنَّ الْأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيَ عَنْ
الْمُنْكَرِ وَإِقَامَةَ الْحُدُودِ وَتَعَلُّمَ عُلُومِ
الدِّينِ وَغَسْلَ الْمَوْتَى وَتَكْفِينَهُمْ وَدَفْنَهُمْ
كُلُّهَا فُرُوضٌ وَلَمْ يَذْكُرْهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّه
عليه وآله وَسَلَّمَ فِيمَا بُنِيَ عَلَيْهِ الْإِسْلَامُ
وَلَمْ يُخْرِجْهُ تَرْكُ ذِكْرِهِ مِنْ أَنْ يَكُونَ
(4/314)
فرضا لأنه صلّى اللَّه عليه وآله وَسَلَّمَ
إنَّمَا قَصَدَ إلَى بَيَانِ ذِكْرِ الْفُرُوضِ اللَّازِمَةِ
لِلْإِنْسَانِ فِي خَاصَّةِ نَفْسِهِ فِي أَوْقَاتٍ
مُرَتَّبَةٍ وَلَا يَنُوبُ غَيْرُهُ عَنْهَا فِيهِ
وَالْجِهَادُ فَرْضٌ عَلَى الْكِفَايَةِ عَلَى الْحَدِّ
الَّذِي بَيَّنَّا فَلِذَلِكَ لَمْ يَذْكُرْهُ وَقَدْ رَوَى
ابْنُ عُمَرَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عليه وآله وسلم ما
يدل على وجوبه وهو مما
حدثنا عن عبد اللَّه بن شيروبه قَالَ حَدَّثَنِي إِسْحَاقُ
بْنُ رَاهْوَيْهِ قَالَ أَخْبَرَنَا جَرِيرٌ عَنْ لَيْثِ بْنِ
أَبِي سُلَيْمٍ عَنْ عَطَاءٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ لَقَدْ
أَتَى عَلَيْنَا زَمَانٌ وَمَا نَرَى أَنَّ أَحَدًا مِنَّا
أَحَقَّ بِالدِّينَارِ وَالدِّرْهَمِ مِنْ أَخِيهِ الْمُسْلِمِ
حَتَّى إنَّ الدِّينَارَ وَالدِّرْهَمَ الْيَوْمَ أَحَبُّ إلَى
أَحَدِنَا مِنْ أَخِيهِ الْمُسْلِمِ وَقَدْ سَمِعْت رَسُولَ
اللَّه صلّى اللَّه عليه وآله وَسَلَّمَ يَقُولُ إذَا ضَنَّ
النَّاسُ بِالدِّينَارِ وَالدِّرْهَمِ وَتَبَايَعُوا
بِالْعِينَةِ وَاتَّبَعُوا أَذْنَابَ الْبَقَرِ وَتَرَكُوا
الْجِهَادَ أَدْخَلَ اللَّه عَلَيْهِمْ ذُلًّا لَا يَنْزِعُهُ
عَنْهُمْ حَتَّى يُرَاجِعُوا دِينَهُمْ
وَحُدِّثْنَا عَنْ خَلَفِ بْنِ عَمْرٍو الْعُكْبَرِيِّ قَالَ
حَدَّثَنَا الْمُعَلَّى بْنُ مَهْدِيٍّ حَدَّثَنَا عَبْدُ
الْوَارِثِ حَدَّثَنَا لَيْثٌ عَنْ عَبْدِ الملك بن أبي سليمان
عن عطاء عَنْ ابْنِ عُمَرَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عليه
وآله وَسَلَّمَ نَحْوُهُ فَقَدْ اقْتَضَى هَذَا اللَّفْظُ
وُجُوبَ الْجِهَادِ لِإِخْبَارِهِ بِإِدْخَالِ اللَّه الذُّلَّ
عَلَيْهِمْ بِذِكْرِ عُقُوبَةٍ عَلَى الْجِهَادِ
وَالْعُقُوبَاتُ لَا تُسْتَحَقُّ إلَّا عَلَى تَرْكِ
الْوَاجِبَاتِ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَذْهَبَ ابْنِ
عُمَرَ فِي الْجِهَادِ فَرْضٌ عَلَى الْكِفَايَةِ وَأَنَّ
الرِّوَايَةَ الَّتِي رُوِيَتْ عَنْهُ فِي نَفْيِ فَرْضِ
الْجِهَادِ إنَّمَا هِيَ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرْنَا
مِنْ أَنَّهُ غَيْرُ مُتَعَيَّنٍ عَلَى كُلِّ حَالٍ فِي كُلِّ
زَمَانٍ وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ فَرْضٌ عَلَى الْكِفَايَةِ
قَوْله تَعَالَى وَمَا كان المؤمنون لينفروا كافة وقوله
فانفروا ثبات أو انفروا جميعا وَقَوْلُهُ لا يَسْتَوِي
الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ
وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ
وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ
بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى القاعدين درجة وكلا وعد
الله الحسنى فَلَوْ كَانَ الْجِهَادُ فَرْضًا عَلَى كُلِّ
أَحَدٍ فِي نَفْسِهِ لَمَا كَانَ الْقَاعِدُونَ مَوْعُودِينَ
بِالْحُسْنَى بل كانوا يكونوا مَذْمُومِينَ مُسْتَحِقِّينَ
لِلْعِقَابِ بِتَرْكِهِ وَحَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ
قَالَ حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بن محمد بن الْيَمَانِ حَدَّثَنَا
أَبُو عُبَيْدٍ حَدَّثَنَا حَجَّاجٌ عَنْ ابن جريج وعثمان بن
عَطَاءٍ عَنْ عَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيِّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ
فِي قَوْلِهِ عَزَّ وجل فانفروا ثبات أو انفروا جميعا وفي قوله
انفروا خفافا وثقالا قَالَ نَسَخَتْهَا وَمَا كَانَ
الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ
كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي
الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إليهم
لعلهم يحذرون قَالَ تَنْفِرُ طَائِفَةٌ وَتَمْكُثُ طَائِفَةٌ
مَعَ النَّبِيِّ صلّى اللَّه عليه وآله وَسَلَّمَ قَالَ
فَالْمَاكِثُونَ هُمْ الَّذِينَ يَتَفَقَّهُونَ فِي الدِّينِ
وَيُنْذِرُونَ إخْوَانَهُمْ إذَا رَجَعُوا إلَيْهِمْ مِنْ
الْغَزْوِ بِمَا نَزَلَ مِنْ قَضَاءِ اللَّه وَكِتَابِهِ
وَحُدُودِهِ وَحَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَ
أَخْبَرَنَا جعفر
(4/315)
لَوْ كَانَ عَرَضًا
قَرِيبًا وَسَفَرًا قَاصِدًا لَاتَّبَعُوكَ وَلَكِنْ بَعُدَتْ
عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ
اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ
وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (42)
ابْنُ الْيَمَانِ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو
عُبَيْدٍ قَالَ حَدَّثَنَا عبد اللَّه بن صالح عن معاية بن
صالح عن عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي
هَذِهِ الْآيَةِ قَالَ يَعْنِي مِنْ السَّرَايَا كَانَتْ
تَرْجِعُ وَقَدْ نَزَلَ بَعْدَهُمْ قُرْآنٌ تَعَلَّمَهُ
الْقَاعِدُونَ مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عليه وآله
وَسَلَّمَ فَتَمْكُثُ السَّرَايَا يَتَعَلَّمُونَ مَا أَنْزَلَ
اللَّه على النبي صلّى اللَّه عليه وآله وَسَلَّمَ بَعْدَهُمْ
وَيَبْعَثُ سَرَايَا أُخَرَ قَالَ فَذَلِكَ قَوْلُهُ
لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا
رَجَعُوا إليهم فَثَبَتَ بِمَا قَدَّمْنَا لُزُومُ فَرْضِ
الْجِهَادِ وَأَنَّهُ فَرْضٌ عَلَى الْكِفَايَةِ وَلَيْسَ
بِلَازِمٍ لِكُلِّ أَحَدٍ فِي خَاصَّةِ نَفْسِهِ وَمَالِهِ
إذَا كَفَاهُ ذَلِكَ غَيْرُهُ قَوْله تَعَالَى انْفِرُوا
خِفَافًا وَثِقَالا وَجَاهِدُوا بأموالكم الْآيَةَ رُوِيَ عَنْ
الْحَسَنِ وَمُجَاهِدٍ وَالضَّحَّاكِ شُبَّانًا وَشُيُوخًا
وَعَنْ أَبِي صَالِحٍ أَغْنِيَاءَ وَفُقَرَاءَ وَعَنْ
الْحَسَنِ مَشَاغِيلَ وَغَيْرَ مَشَاغِيلَ وَعَنْ ابْنِ
عَبَّاسٍ وقتادة نِشَاطًا وَغَيْرَ نِشَاطٍ وَعَنْ ابْنِ
عُمَرَ رُكْبَانًا وَمُشَاةً وَقِيلَ ذَا صَنْعَةٍ وَغَيْرَ
ذِي صَنْعَةٍ قَالَ أَبُو بَكْرٍ كُلُّ هَذِهِ الْوُجُوهِ
يَحْتَمِلُهُ اللفظ فالواجب يَعُمَّهَا إذْ لَمْ تَقُمْ
دَلَالَةُ التَّخْصِيصِ وَقَوْلُهُ وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم
في سبيل الله فَأَوْجَبَ فَرْضَ الْجِهَادِ بِالْمَالِ
وَالنَّفْسِ جَمِيعًا فَمَنْ كَانَ لَهُ مَالٌ وَهُوَ مَرِيضٌ
أَوْ مُقْعَدٌ أَوْ ضَعِيفٌ لَا يَصْلُحُ لِلْقِتَالِ
فَعَلَيْهِ الْجِهَادُ بِمَالِهِ بِأَنْ يُعْطِيَهُ غَيْرَهُ
فَيَغْزُو بِهِ كَمَا أَنَّ مَنْ لَهُ قُوَّةٌ وَجَلَدٌ
وَأَمْكَنَهُ الْجِهَادُ بِنَفْسِهِ كَانَ عَلَيْهِ الْجِهَادُ
بِنَفْسِهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ذَا مَالٍ وَيَسَارٍ بَعْدَ
أَنْ يَجِدَ مَا يَبْلُغُهُ وَمَنْ قَوِيَ عَلَى الْقِتَالِ
وَلَهُ مَالٌ فَعَلَيْهِ الْجِهَادُ بِالنَّفْسِ وَالْمَالِ
وَمَنْ كَانَ عَاجِزًا بِنَفْسِهِ مُعْدَمًا فَعَلَيْهِ
الْجِهَادُ بِالنُّصْحِ للَّه وَلِرَسُولِهِ بِقَوْلِهِ لَيْسَ
عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضَى وَلا عَلَى
الَّذِينَ لا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حرج إذا نصحوا لله
ورسوله وقوله تعالى ذلكم خير لكم مَعَ أَنَّهُ لَا خَيْرَ فِي
تَرْكِ الْجِهَادِ قِيلَ فِيهِ وَجْهَانِ أَحَدِهِمَا خَيْرٌ
مِنْ تَرْكِهِ إلَى الْمُبَاحِ فِي الْحَالِ الَّتِي لَا
يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ فَرْضُ الْجِهَادِ وَالْآخَرِ أَنَّ
الْخَيْرَ فِيهِ لا في تركه وقوله تعالى إن كنتم تعلمون قِيلَ
فِيهِ إنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ الْخَيْرَ فِي الْجُمْلَةِ
فَاعْلَمُوا أَنَّ هَذَا خَيْرٌ وَقِيلَ إنْ كُنْتُمْ
تَعْلَمُونَ صِدْقَ اللَّه فِيمَا وَعَدَ بِهِ من ثوابه وجنته
قوله تعالى سيحلفون بالله لو استطعنا لخرجنا معكم الْآيَةَ
لَمَّا أَكْذَبَهُمْ اللَّه فِي قَوْلِهِ لَوِ استطعنا لخرجنا
معكم دَلَّ عَلَى أَنَّهُمْ كَانُوا مُسْتَطِيعِينَ وَلَمْ
يَخْرُجُوا وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى بُطْلَانِ مَذْهَبِ
الْجَبْرِ فِي أَنَّ الْمُكَلَّفِينَ غَيْرُ مُسْتَطِيعِينَ
لِمَا كُلِّفُوا فِي حَالِ التَّكْلِيفِ قَبْلَ وُقُوعِ
الْفِعْلِ مِنْهُمْ لِأَنَّ اللَّه تَعَالَى قَدْ أَكْذَبَهُمْ
فِي نَفْيِهِمْ الِاسْتِطَاعَةَ عَنْ أَنْفُسِهِمْ قَبْلَ
الْخُرُوجِ وَفِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى صِحَّةِ نُبُوَّةِ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عليه وآله وسلم لأنه أخبر أنهم
سيحلفون فجاؤا فَحَلَفُوا كَمَا أَخْبَرَ أَنَّهُ سَيَكُونُ
مِنْهُمْ
قَوْله تعالى عفا
(4/316)
لَا يَسْتَأْذِنُكَ
الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ
يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ
بِالْمُتَّقِينَ (44)
اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ
حَتَّى يَتَبَيَّنَ لك الذين صدقوا
العفو ينصرف عن وُجُوهٍ أَحَدِهَا التَّسْهِيلُ
وَالتَّوْسِعَةُ
كَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّه عليه وآله وَسَلَّمَ أَوَّلُ
الْوَقْتِ رِضْوَانُ اللَّه وَآخِرُهُ عَفْوُ اللَّه
وَالْعَفْوُ التَّرْكُ
كَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ أَحْفُوا
الشَّوَارِبَ وَأَعْفُوا اللِّحَى وَالْعَفْوُ الْكَثْرَةُ
كقوله تعالى حتى عفوا يَعْنِي كَثُرُوا وَأَعْفَيْت فُلَانًا
مِنْ كَذَا وَكَذَا إذَا سَهَّلْت لَهُ تَرْكَهُ وَالْعَفْوُ
الصَّفْحُ عَنْ الذَّنْبِ وَهُوَ إعْفَاؤُهُ مِنْ تَبِعَتِهِ
وَتَرْكِ الْعِقَابِ عَلَيْهِ وَهُوَ مِثْلُ الْغُفْرَانِ فِي
هَذَا الْمَوْضِعِ وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ أَصْلُهُ
التَّسْهِيلَ فَإِذَا عَفَا عَنْ ذَنْبِهِ فَلَمْ يَسْتَقْصِ
عَلَيْهِ وَسَهَّلَ عَلَيْهِ الْأَمْرَ وَكَذَلِكَ سَائِرُ
الْوُجُوهِ الَّتِي تَنْصَرِفُ عَلَيْهَا هَذِهِ الْكَلِمَةُ
يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أَصْلُهَا التَّرْكَ والتوسعة ومن الناس
من يقول إنه كان من النبي صلّى اللَّه عليه وآله وَسَلَّمَ
ذَنْبٌ صَغِيرٌ فِي إذْنِهِ لَهُمْ وَلِهَذَا قال اللَّه
تَعَالَى عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ إذْ لَا
يَجُوزُ أَنْ تَقُولَ لِمَ فَعَلْت مَا جَعَلْت لَك فِعْلَهُ
كَمَا لَا يَجُوزُ أَنْ تَقُولَ لِمَ فَعَلْت مَا أَمَرْتُك
بِفِعْلِهِ قَالُوا فَغَيْرُ جَائِزٍ إطْلَاقُ الْعَفْوِ
عَمَّا قَدْ جَعَلَ لَهُ فِعْلَهُ كَمَا لَا يَجُوزُ أَنْ
يَعْفُوَ عَنْهُ مَا أَمَرَهُ بِهِ وَقِيلَ إنَّهُ جَائِزٌ
أَنْ لَا تَكُونَ مِنْهُ مَعْصِيَةٌ فِي الْإِذْنِ لَهُمْ لَا
صَغِيرَةٌ وَلَا كَبِيرَةٌ وَإِنَّمَا عَاتَبَهُ بِأَنْ قَالَ
لِمَ فَعَلْت مَا جَعَلْت لَك فِعْلَهُ مِمَّا غَيْرُهُ
أَوْلَى مِنْهُ إذْ جَائِزٌ أَنْ يَكُونَ مُخَيَّرًا بَيْنَ
فِعْلَيْنِ وَأَحَدُهُمَا أَوْلَى مِنْ الْآخَرِ قَالَ اللَّه
تَعَالَى فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ
ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بزينة وأن يستعففن خير لهن
فَأَبَاحَ الْأَمْرَيْنِ وَجَعَلَ أَحَدَهُمَا أَوْلَى وَقَدْ
رَوَى شُعْبَةُ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ عَفَا اللَّهُ عنك
لم أذنت لهم كَانَتْ كَمَا تَسْمَعُونَ ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّه
فِي سُورَةِ النُّورِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ
جامع لم يذهبوا حتى يستأذنوه- إلى قوله- فأذن لمن شئت منهم
فَجَعَلَهُ اللَّه تَعَالَى رُخْصَةً فِي ذَلِكَ
وَرَوَى عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ عَنْ ابْنِ عباس فِي
قَوْلِهِ إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ
بالله- إلى قوله- يترددون هَذَا بِعَيْنِهِ لِلْمُنَافِقِينَ
حِينَ اسْتَأْذَنُوهُ لِلْقُعُودِ عَنْ الْجِهَادِ مِنْ غَيْرِ
عُذْرٍ وَعَذَرَ اللَّه الْمُؤْمِنِينَ فَقَالَ وَإِذَا
كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لم يذهبوا حتى يستأذنوه
وَرَوَى عَطَاءٌ الْخُرَاسَانِيُّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ
قَوْلَهُ إنما يستاذنك الذين لا يؤمنون بالله قَالَ نَسَخَهَا
قَوْلُهُ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى امر جامع لم يذهبوا حتى
يستأذنوه- إلى قوله- فأذن لمن شئت منهم فَجَعَلَ اللَّه
تَعَالَى رَسُولَهُ بِأَعْلَى النَّظَرَيْنِ قَالَ أَبُو
بَكْرٍ جَائِزٌ أَنْ يَكُونَ قَوْله تَعَالَى عفا الله عنك لم
أذنت لهم فِي قَوْمٍ مِنْ الْمُنَافِقِينَ لَحِقَتْهُمْ
تُهْمَةٌ فَكَانَ يمكن النبي صلّى اللَّه عليه وآله وسلم
استبراء أمرهم بترك الإذن لهم فينظر نِفَاقُهُمْ إذَا لَمْ
يَخْرُجُوا بَعْدَ الْأَمْرِ بِالْخُرُوجِ وَيَكُونُ ذَلِكَ
حُكْمًا ثَابِتًا فِي أُولَئِكَ وَيَدُلُّ عليه
(4/317)
قَوْلُهُ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ
الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الكاذبين وَيَكُونُ قَوْلُهُ
وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جامع لم يذهبوا حتى
يستأذنوه وقوله فأذن لمن شئت منهم فِي الْمُؤْمِنِينَ
الَّذِينَ لَوْ لَمْ يَأْذَنْ لَهُمْ لَمْ يَذْهَبُوا فَلَا
تَكُونُ إحْدَى الْآيَتَيْنِ نَاسِخَةً لِلْأُخْرَى قَوْله
تَعَالَى لا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بالله
واليوم الآخر- إلى قوله- بأموالهم الْآيَةَ يَعْنِي لَا
يَسْتَأْذِنُك الْمُؤْمِنُونَ فِي التَّخَلُّفِ عَنْ
الْجِهَادِ لَأَنْ لَا يُجَاهِدُوا وَأَضْمَرَ لَا في قوله أن
يجاهدوا لِدَلَالَةِ الْكَلَامِ عَلَيْهِ وَهَذَا يَدُلُّ
عَلَى أَنَّ الاستيذان فِي التَّخَلُّفِ كَانَ مَحْظُورًا
عَلَيْهِمْ وَيَدُلُّ عَلَى صحة تأويل قوله أن يجاهدوا أَنَّهُ
عَلَى تَقْدِيرِ كَرَاهَةِ أَنْ يُجَاهِدُوا وَهُوَ يئول إلَى
الْمَعْنَى الْأَوَّلِ لِأَنَّ إضْمَارَ لَا فِيهِ وَإِضْمَارَ
الْكَرَاهَةِ سَوَاءٌ وَهَذِهِ الْآيَةُ أَيْضًا تَدُلُّ عَلَى
وُجُوبِ فَرْضِ الْجِهَادِ بِالْمَالِ وَالنَّفْسِ جَمِيعًا
لِأَنَّهُ قَالَ تَعَالَى أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ
وَأَنْفُسِهِمْ فذمنهم عَلَى الِاسْتِئْذَانِ فِي تَرْكِ
الْجِهَادِ بِهِمَا وَالْجِهَادُ بِالْمَالِ يَكُونُ عَلَى
وَجْهَيْنِ أَحَدِهِمَا إنْفَاقُ الْمَالِ فِي إعْدَادِ
الْكُرَاعِ وَالسِّلَاحِ وَالْآلَةِ وَالرَّاحِلَةِ وَالزَّادِ
وَمَا جَرَى مَجْرَاهُ مِمَّا يَحْتَاجُ إلَيْهِ لِنَفْسِهِ
وَالثَّانِي إنْفَاقُ الْمَالِ عَلَى غَيْرِهِ مِمَّا
يُجَاهِدُ وَمَعُونَتُهُ بِالزَّادِ وَالْعُدَّةِ وَنَحْوِهَا
وَالْجِهَادُ بِالنَّفْسِ عَلَى ضُرُوبٍ مِنْهَا الْخُرُوجُ
بِنَفْسِهِ وَمُبَاشَرَةُ الْقِتَالِ وَمِنْهَا بَيَانُ مَا
افْتَرَضَ اللَّه مِنْ الْجِهَادِ وَذِكْرُ الثواب الجزيل لمن
قال بِهِ وَالْعِقَابِ لِمَنْ قَعَدَ عَنْهُ وَمِنْهَا
التَّحْرِيضُ وَالْأَمْرُ وَمِنْهَا الْإِخْبَارُ بِعَوْرَاتِ
الْعَدُوِّ وَمَا يَعْلَمُهُ مِنْ مَكَايِدِ الْحَرْبِ
وَسَدَادِ الرَّأْيِ وَإِرْشَادِ الْمُسْلِمِينَ إلَى
الْأَوْلَى وَالْأَصْلَحِ فِي أَمْرِ الْحُرُوبِ كَمَا
قال الحباب بْنُ الْمُنْذِرِ حِينَ نَزَلَ النَّبِيُّ صَلَّى
اللَّه عليه وآله وَسَلَّمَ بِبَدْرٍ فَقَالَ يَا رَسُولَ
اللَّه أَهَذَا رَأْيٌ رَأَيْته أَمْ وَحْيٌ فَقَالَ بَلْ
رَأْيٌ رَأَيْته قَالَ فَإِنِّي أَرَى أَنْ تَنْزِلَ عَلَى
الماء وتجعله خلف ظهرك وتعور الْآبَارَ الَّتِي فِي نَاحِيَةِ
الْعَدُوِّ
فَفَعَلَ النَّبِيُّ صلّى اللَّه عليه وآله وَسَلَّمَ ذَلِكَ
وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنْ كُلِّ قَوْلٍ يُقَوِّي أَمْرَ
الْمُسْلِمِينَ وَيُوهِنُ أَمْرَ الْعَدُوِّ فَإِنْ قِيلَ
فَأَيُّ الْجِهَادَيْنِ أَفْضَلُ أَجِهَادُ النَّفْسِ
وَالْمَالِ أَمْ جِهَادُ الْعِلْمِ قِيلَ لَهُ الْجِهَادُ
بِالسَّيْفِ مَبْنِيٌّ عَلَى جِهَادِ الْعِلْمِ وَفُرِّعَ
عَلَيْهِ لِأَنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَعُدُّوا فِي جِهَادِ
السَّيْفِ مَا يُوجِبُهُ الْعِلْمُ فَجِهَادُ الْعِلْمِ أَصْلٌ
وَجِهَادُ النفس فرع والأصل أولى بالتفضيل عن الْفَرْعِ فَإِنْ
قِيلَ تَعَلُّمُ الْعِلْمِ أَفْضَلُ أَمْ جِهَادُ
الْمُشْرِكِينَ قِيلَ لَهُ إذَا خِيفَ مَعَرَّةُ الْعَدُوِّ
وَإِقْدَامُهُمْ عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَلَمْ يَكُنْ
بِإِزَائِهِ مَنْ يَدْفَعُهُ فَقَدْ تَعَيَّنَ فَرْضُ
الْجِهَادِ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ فَالِاشْتِغَالُ فِي هَذِهِ
الْحَالِ بِالْجِهَادِ أَفْضَلُ مِنْ تَعَلُّمِ الْعِلْمِ
لِأَنَّ ضَرَرَ الْعَدُوِّ إذا وقع
(4/318)
وَلَوْ أَرَادُوا
الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ
انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ
الْقَاعِدِينَ (46)
بِالْمُسْلِمِينَ لَمْ يُمْكِنْ تَلَافِيهِ
وَتَعَلُّمُ الْعِلْمِ مُمْكِنٌ فِي سَائِرِ الْأَحْوَالِ
وَلِأَنَّ تَعَلُّمَ الْعِلْمِ فَرْضٌ عَلَى الْكِفَايَةِ لَا
عَلَى كُلِّ أَحَدٍ فِي خَاصَّةِ نَفْسِهِ وَمَتَى لَمْ يَكُنْ
بِإِزَاءِ الْعَدُوِّ مَنْ يَدْفَعُهُ عَنْ الْمُسْلِمِينَ
فَقَدْ تَعَيَّنَ فَرْضُ الْجِهَادِ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ وَمَا
كَانَ فَرْضًا معينا على الإنسان غير موضع عَلَيْهِ فِي
التَّأْخِيرِ فَهُوَ أَوْلَى مِنْ الْفَرْضِ الَّذِي قَامَ
بِهِ غَيْرُهُ وَسَقَطَ عَنْهُ بِعَيْنِهِ وَذَلِكَ مِثْلُ
الِاشْتِغَالِ بِصَلَاةِ الظُّهْرِ فِي آخِرِ وَقْتِهَا هُوَ
أَوْلَى مِنْ تَعَلُّمِ عِلْمِ الدِّينِ فِي تِلْكَ الْحَالِ
إذْ كَانَ الْفَرْضُ قَدْ تَعَيَّنَ عَلَيْهِ فِي هَذَا
الْوَقْتِ فَإِنْ قَامَ بِفَرْضِ الْجِهَادِ مَنْ فِيهِ
كِفَايَةٌ وَغِنًى فَقَدْ عَادَ فَرْضُ الْجِهَادِ إلَى حُكْمِ
الْكِفَايَةِ كَتَعَلُّمِ الْعِلْمِ إلَّا أَنَّ الِاشْتِغَالَ
بِالْعِلْمِ فِي هَذِهِ الْحَالِ أَوْلَى وَأَفْضَلُ مِنْ
الْجِهَادِ لِمَا قَدَّمْنَا مِنْ عُلُوِّ مَرْتَبَةِ
الْعِلْمِ عَلَى مَرْتَبَةِ الْجِهَادِ فَإِنَّ ثَبَاتَ
الْجِهَادِ بِثَبَاتِ الْعِلْمِ وَإِنَّهُ فَرْعٌ لَهُ
وَمَبْنِيٌّ عَلَيْهِ فَإِنْ قِيلَ هَلْ يَجُوزُ الْجِهَادُ
مَعَ الْفُسَّاقِ قِيلَ لَهُ إنَّ كُلَّ أَحَدٍ مِنْ
الْمُجَاهِدِينَ فَإِنَّمَا يَقُومُ بِفَرْضِ نَفْسِهِ
فَجَائِزٌ لَهُ أَنْ يُجَاهِدَ الْكُفَّارَ وَإِنْ كَانَ أمير
الجيش وجنوده فساقا وَقَدْ كَانَ أَصْحَابُ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّه عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ يَغْزُونَ بَعْدَ الْخُلَفَاءِ
الْأَرْبَعَةِ مَعَ الْأُمَرَاءِ الْفُسَّاقِ وَغَزَا أَبُو
أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيُّ مَعَ يَزِيدَ اللعين وقد ذكرنا
حَدِيثَ أَبِي أَيُّوبَ أَنَّهُ لَمْ يَتَخَلَّفْ عَنْ غَزَاةٍ
لِلْمُسْلِمِينَ إلَّا عَامًا وَاحِدًا فَإِنَّهُ اُسْتُعْمِلَ
عَلَى الْجَيْشِ رَجُلٌ شَابٌّ ثُمَّ قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ
وَمَا عَلَيَّ مَنْ اُسْتُعْمِلَ عَلَيَّ فَكَانَ يَقُولُ
قَالَ اللَّه تَعَالَى انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالا فَلَا
أَجِدُنِي إلَّا خَفِيفًا أَوْ ثَقِيلًا فَدَلَّ عَلَى أَنَّ
الْجِهَادَ وَاجِبٌ مَعَ الْفُسَّاقِ كَوُجُوبِهِ مَعَ
الْعُدُولِ وَسَائِرُ الْآيِ الْمُوجِبَةِ لِفَرْضِ الْجِهَادِ
لَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ فِعْلِهِ مَعَ الْفُسَّاقِ وَمَعَ
الْعُدُولِ الصَّالِحِينَ وَأَيْضًا فَإِنَّ الْفُسَّاقَ إذَا
جَاهَدُوا فَهُمْ مُطِيعُونَ فِي ذَلِكَ كَمَا هُمْ مُطِيعُونَ
للَّه فِي الصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ
شَرَائِعِ الْإِسْلَامِ وَأَيْضًا فَإِنَّ الْجِهَادَ ضَرْبٌ
مِنْ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ
وَلَوْ رَأَيْنَا فَاسِقًا يَأْمُرُ بِمَعْرُوفٍ وَيَنْهَى
عَنْ مُنْكَرٍ كَانَ عَلَيْنَا مُعَاوَنَتُهُ عَلَى ذَلِكَ
فَكَذَلِكَ الْجِهَادُ فاللَّه تَعَالَى لَمْ يَخُصَّ بِفَرْضِ
الْجِهَادِ الْعُدُولَ دُونَ الْفُسَّاقِ فَإِذَا كَانَ
الْفَرْضُ عَلَيْهِمْ وَاحِدًا لَمْ يَخْتَلِفْ حُكْمُ
الْجِهَادِ مَعَ الْعُدُولِ وَمَعَ الْفُسَّاقِ
قَوْله تَعَالَى وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لأَعَدُّوا لَهُ
عدة والعدة مَا يُعِدُّهُ الْإِنْسَانُ وَيُهَيِّئُهُ لِمَا
يَفْعَلُهُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ وَهُوَ نَظِيرُ الْأُهْبَةِ
وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ الِاسْتِعْدَادِ لِلْجِهَادِ
قَبْلَ وَقْتِ وُقُوعِهِ وَهُوَ كَقَوْلِهِ وَأَعِدُّوا لَهُمْ
مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ ومن رباط الخيل وقوله تعالى
ولكن كره الله انبعاثهم يعنى خُرُوجَهُمْ كَانَ يَقَعُ عَلَى
وَجْهِ الْفَسَادِ وَتَخْذِيلِ الْمُسْلِمِينَ وَتَخْوِيفِهِمْ
مِنْ الْعَدُوِّ وَالتَّضْرِيبِ بَيْنَهُمْ وَالْخُرُوجُ
(4/319)
لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ
مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ
يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ
وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (47)
عَلَى هَذَا الْوَجْهِ مَعْصِيَةٌ وَكُفْرٌ
فَكَرِهَهُ اللَّه تَعَالَى وَثَبَّطَهُمْ عَنْهُ إذْ كَانَ
مَعْصِيَةً واللَّه لا يجب الْفَسَادَ وقَوْله تَعَالَى
وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ أَيْ مَعَ النِّسَاءِ
وَالصِّبْيَانِ وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ النَّبِيُّ صَلَّى
اللَّه عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ قَالَ لَهُمْ اُقْعُدُوا مَعَ
الْقَاعِدِينَ وَجَائِزٌ أن يكون قال بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ
قَوْله تَعَالَى لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ ما زادوكم إلا خبالا
الْآيَةَ فِيهِ بَيَانُ وَجْهِ خُرُوجِهِمْ لَوْ خَرَجُوا
وَإِخْبَارٌ أَنَّ الْمَصْلَحَةَ لِلْمُسْلِمِينَ كَانَتْ فِي
تَخَلُّفِهِمْ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مُعَاتَبَةَ اللَّه
لِنَبِيِّهِ صلّى اللَّه عليه وآله وسلم في قوله لم أذنت لهم
أَنَّ اللَّه عَلِمَ أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَأْذَنْ لَهُمْ لَمْ
يَخْرُجُوا أَيْضًا فَيَظْهَرُ لِلْمُسْلِمِينَ كِذْبُهُمْ
ونفاقهم وقد أخبر اللَّه تعالى أو خُرُوجَهُمْ لَوْ خَرَجُوا
عَلَى هَذَا الْوَجْهِ كَانَ يَكُونُ مَعْصِيَةً وَفَسَادًا
عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَقَوْلُهُ مَا زادوكم إلا خبالا
وَالْخَبَالُ الِاضْطِرَابُ فِي الرَّأْيِ فَأَخْبَرَ اللَّه
تَعَالَى أَنَّهُمْ لَوْ خَرَجُوا لَسَعَوْا بَيْنَ
الْمُؤْمِنِينَ فِي التَّضْرِيبِ وَإِفْسَادِ الْقُلُوبِ
وَالتَّخْذِيلِ عَنْ الْعَدُوِّ فَكَانَ ذَلِكَ يُوجِبُ
اضْطِرَابَ آرَائِهِمْ فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ لم قال ما زادوكم
إلا خبالا وَلَمْ يَكُونُوا عَلَى خَبَالٍ يُزَادُ فِيهِ قِيلَ
لَهُ يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ أَحَدِهِمَا أَنَّهُ اسْتِثْنَاءٌ
مُنْقَطِعٌ تَقْدِيرُهُ مَا زَادُوكُمْ قُوَّةً لَكِنْ
طَلَبُوا لَكُمْ الْخَبَالَ وَالْآخَرُ أَنَّهُ يَحْتَمِلُ
أَنْ يَكُونَ قَوْمٌ مِنْهُمْ قَدْ كَانُوا عَلَى خَبَالٍ فِي
الرَّأْيِ لِمَا يَعْرِضُ فِي النُّفُوسِ مِنْ التَّلَوُّنِ
إلَى أَنْ اسْتَقَرَّ عَلَى الصَّوَابِ فَيُقَوِّيهِ هَؤُلَاءِ
حَتَّى يَصِيرَ خَبَالًا مَعْدُولًا بِهِ عَنْ صَوَابِ
الرَّأْيِ قوله تعالى ولأوضعوا خلالكم قَالَ الْحَسَنُ
وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ بِالنَّمِيمَةِ لِإِفْسَادِ ذَاتِ
بينكم وقوله تعالى يبغونكم الفتنة فإن الفتنة هاهنا
الْمِحْنَةُ بِاخْتِلَافِ الْكَلِمَةِ وَالْفُرْقَةِ وَيَجُوزُ
أَنْ يُرِيدَ بِهِ الْكُفْرَ لِأَنَّهُ يُسَمَّى بِهَذَا
الِاسْمِ لِقَوْلِهِ تعالى وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة وقوله
والفتنة أشد من القتل وقوله وفيكم سماعون لهم قَالَ الْحَسَنُ
وَمُجَاهِدٌ عُيُونٌ مِنْهُمْ يَنْقُلُونَ إلَيْهِمْ مَا
يَسْمَعُونَ مِنْكُمْ وَقَالَ قَتَادَةُ وَابْنُ إِسْحَاقَ
قَابِلُونَ مِنْهُمْ عِنْدَ سَمَاعِ قَوْلِهِمْ
قَوْله تَعَالَى لقد ابتغوا الفتنة من قبل يعنى طلبوا الفتنة
وهي هاهنا الِاخْتِلَافُ الْمُوجِبُ لِلْفُرْقَةِ بَعْدَ
الْأُلْفَةِ وقَوْله تَعَالَى وقلبوا لك الأمور يَعْنِي بِهِ
تَصْرِيفُ الْأُمُورِ وَتَقْلِيبُهَا ظَهْرًا لِبَطْنٍ طَلَبًا
لِوَجْهِ الْحِيلَةِ وَالْمَكِيدَةِ فِي إطْفَاءِ نُورِهِ
وَإِبْطَالِ أَمْرِهِ فَأَبَى اللَّه تَعَالَى إلَّا إظْهَارَ
دِينِهِ وَإِعْزَازَ نَبِيِّهِ وَعَصَمَهُ مِنْ كَيَدِهِمْ
وَحِيَلِهِمْ
قَوْله تَعَالَى وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي ولا
تفتنى قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ نَزَلَتْ فِي الْجَدِّ
بْنِ قَيْسٍ قَالَ ائْذَنْ لِي وَلَا تَفْتِنِّي بِبَنَاتِ
بَنِي الْأَصْفَرِ فَإِنِّي مُسْتَهْتِرٌ بِالنِّسَاءِ وَكَانَ
ذَلِكَ حِينَ دَعَاهُمْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ
وآله وسلم إلى غزوة تَبُوكَ وَقَالَ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ
وَأَبُو عُبَيْدَةَ لَا تؤثمنى بالعصيان
(4/320)
قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا
إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا وَعَلَى
اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (51)
فِي الْمُخَالَفَةِ الَّتِي تُوجِبُ
الْفُرْقَةَ
قَوْله تَعَالَى قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلا مَا كَتَبَ اللَّهُ
لنا هو مولانا رُوِيَ عَنْ الْحَسَنِ كُلُّ مَا يُصِيبُنَا
مِنْ خير وشر فهو مما كتبه فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ
فَلَيْسَ عَلَى مَا يَتَوَهَّمُهُ الْكُفَّارُ مِنْ
إهْمَالِنَا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَرْجِعَ أَمْرُنَا إلَى
تَدْبِيرِ رَبِّنَا وَقِيلَ لَنْ يُصِيبَنَا فِي عَاقِبَةِ
أَمْرِنَا إلَّا مَا كَتَبَ اللَّه لَنَا مِنْ النَّصْرِ
الَّذِي وَعَدَنَا
قَوْله تَعَالَى قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا لَنْ
يُتَقَبَّلَ منكم صيغته الأمر والمراد البيان عن التمكن مِنْ
الطَّاعَةِ وَالْمَعْصِيَةِ كَقَوْلِهِ فَمَنْ شَاءَ
فَلْيُؤْمِنْ ومن شاء فليكفر وَقِيلَ مَعْنَاهُ الْخَبَرُ
الَّذِي يَدْخُلُ فِيهِ إنْ الجزاء كما قال كثير:
أسيء بِنَا أَوْ أَحْسِنِي لَا مَلُومَةً لَدَيْنَا وَلَا
مَقْلِيَّةً إنْ تَقَلَّتْ وَمَعْنَاهُ إنْ أَحْسَنْت أَوْ
أسأت لم تلام
قَوْله تَعَالَى فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلا
أَوْلادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا
فِي الْحَيَاةِ الدنيا قِيلَ فِيهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ قَالَ
ابْنُ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةُ فَلَا تُعْجِبْك أَمْوَالُهُمْ
وَلَا أَوْلَادُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا إنَّمَا
يُرِيدُ اللَّه لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْآخِرَةِ فَكَانَ
ذَلِكَ عِنْدَهُمَا عَلَى تَقْدِيمِ الْكَلَامِ وَتَأْخِيرِهِ
وَقَالَ الْحَسَنُ لِيُعَذِّبَهُمْ فِي الزَّكَاةِ
بِالْإِنْفَاقِ فِي سَبِيلِ اللَّه وَقَالَ آخَرُونَ
يُعَذِّبُهُمْ بِهَا بِالْمَصَائِبِ وَقِيلَ قَدْ يَكُونُ
صِفَةُ الْكُفَّارِ بِالسَّبْيِ وَغَنِيمَةِ الْأَمْوَالِ
وَهَذِهِ اللَّامُ الَّتِي فِي قوله ليعذبهم هِيَ لَامُ
الْعَاقِبَةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا
وَحَزَنًا
قوله تعالى ويحلفون بالله إنهم لمنكم الْحَلْفُ تَأْكِيدُ
الْخَبَرِ بِذِكْرِ الْمُعَظَّمِ عَلَى مِنْهَاجٍ واللَّه
وباللَّه والحروف الموضوعة للقسم وَالْيَمِينُ إلَّا أَنَّ
الْحَلِفَ مِنْ إضَافَةِ الْخَبَرِ إلى المعظم وقوله ويحلفون
بالله إخبار عنهم باليمين بالله هو يمين بمنزلة لو حذف عَنْ
الْمُسْتَقْبَلِ فِي أَنَّهُمْ سَيَحْلِفُونَ بِاَللَّهِ
وَقَوْلُ الْقَائِلِ أَحَلِفُ بِاَللَّهِ هُوَ يَمِينٌ
بِمَنْزِلَتِهِ لَوْ حَذَفَ ذِكْرَ الْحَلِفِ وَقَالَ
بِاَللَّهِ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ أَنَا حَالِفٌ
بِاَللَّهِ إلَّا أَنْ يُرِيدَ بِهِ الْعِدَّةَ فَلَا يَكُونُ
يَمِينًا فَهُوَ يَنْصَرِفُ عَلَى الْمَعْنَى وَالظَّاهِرُ
مِنْهُ إيقَاعُ الْحَلِفِ بِهَذَا الْقَوْلِ كَقَوْلِك أَنَا
أَعْتَقِدُ الْإِسْلَامَ وَيَحْتَمِلُ الْعِدَّةَ وَأَمَّا
قَوْلُهُ باللَّه فَهُوَ إيقَاعٌ لِلْيَمِينِ وَإِنْ كَانَ
فِيهِ إضْمَارُ أَحْلِفُ بِاَللَّهِ أَوْ قَدْ حَلَفْت
بِاَللَّهِ وَقِيلَ إنَّمَا حَذَفَ ذِكْرَ الْحَلِفِ ليدل على
وقع الْحَلِفِ وَيَزُولَ احْتِمَالُ الْعِدَّةِ كَمَا حَذَفَ
فِي والله لأفعلن ليدل على أن القائل حلف لا وأعد وقوله تعالى
إنهم لمنكم مَعْنَاهُ فِي الْإِيمَانِ وَالطَّاعَةِ وَالدِّينِ
وَالْمِلَّةِ فَأَكْذَبَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى وَالْإِضَافَةُ
مِنْهُمْ جَائِزَةٌ إذَا كَانَ عَلَى دِينِهِمْ كَمَا قَالَ
وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أولياء بعض-
والمنافقون والمنافقات
(4/321)
وَمِنْهُمْ مَنْ
يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا
وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ (58)
بعضهم من بعض
فَنَسَبَ بَعْضَهُمْ إلَى بَعْضٍ لِاتِّفَاقِهِمْ فِي الدِّينِ
وَالْمِلَّةِ
قَوْله تَعَالَى وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصدقات قَالَ
الْحَسَنُ يَعِيبُكَ وَقِيلَ اللَّمْزُ الْعَيْبُ سِرًّا
والهمز العيب بكثرة العيب وَقَالَ قَتَادَةُ يَطْعَنُ عَلَيْك
وَيُقَالُ إنَّ هَؤُلَاءِ كَانُوا قَوْمًا مُنَافِقِينَ
أَرَادُوا أَنْ يُعْطِيَهُمْ رَسُولُ اللَّه مِنْ الصَّدَقَاتِ
وَلَمْ يَكُنْ جَائِزًا أَنْ يُعْطِيَهُمْ مِنْهَا لِأَنَّهُمْ
لَيْسُوا مِنْ أَهْلِهَا فَطَعَنُوا على رسول اللَّه صلّى
اللَّه عليه وآله وَسَلَّمَ فِي قِسْمَةِ الصَّدَقَاتِ
وَقَالُوا يُؤْثِرُ بِهَا أَقْرِبَاءَهُ وَأَهْلَ مَوَدَّتِهِ
وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْله تَعَالَى فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا
رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا منها إذا هم يسخطون وَأَخْبَرَ
أَنَّهُ لَا حَظَّ لِهَؤُلَاءِ فِي الصَّدَقَاتِ وَإِنَّمَا
هِيَ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَمَنْ ذُكِرَ
قَوْله تَعَالَى وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ
وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ
مِنْ فضله ورسوله فِيهِ ضَمِيرُ جَوَابِ لَوْ تَقْدِيرُهُ
وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمْ اللَّه وَرَسُولُهُ
لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ أَوْ أَعْوَدَ عَلَيْهِمْ وَحَذْفُ
الْجَوَابِ فِي مِثْلِهِ أَبْلَغُ لِأَنَّهُ لِتَأْكِيدِ
الْخَبَرِ بِهِ اسْتَغْنَى عَنْ ذِكْرِهِ مَعَ أَنَّ النَّفْسَ
تَذْهَبُ إلَى كُلِّ نَوْعٍ مِنْهُ وَالذِّكْرُ يَقْصُرُهُ
عَلَى الْمَذْكُورِ مِنْهُ دُونَ غَيْرِهِ وَفِيهِ إخْبَارٌ
عَلَى أَنَّ الرِّضَا بِفِعْلِ اللَّهِ يُوجِبُ الْمَزِيدَ
مِنْ الْخَيْرِ جزاء للراضى على فعله
قوله تعالى إنما الصدقات للفقراء والمساكين الآية قال الزهري
الفقير الذي لا يسئل والمسكين الذي يسئل وَرَوَى ابْنُ
سِمَاعَةَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فِي حَدِّ
الْفَقِيرِ وَالْمِسْكِينِ مِثْلَ هَذَا وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى
أَنَّهُ رَأَى الْمِسْكِينَ أَضْعَفَ حَالًا وَأَبْلَغَ فِي
جَهْدِ الْفَقْرِ وَالْعُدْمِ مِنْ الْفَقِيرِ وَرُوِيَ عَنْ
ابْنِ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنِ وجابر ابن زَيْدٍ وَالزُّهْرِيِّ
وَمُجَاهِدٍ قَالُوا الْفَقِيرُ الْمُتَعَفِّفُ الَّذِي لَا
يَسْأَلُ وَالْمِسْكِينُ الَّذِي يَسْأَلُ فَكَانَ قَوْلُ
أَبِي حَنِيفَةَ مُوَافِقًا لِقَوْلِ هَؤُلَاءِ السَّلَفِ
وَيَدُلُّ عَلَى هَذَا قَوْله تَعَالَى لِلْفُقَرَاءِ
الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا يَسْتَطِيعُونَ
ضَرْبًا فِي الأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ
مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بسيماهم لا يسئلون الناس
إلحافا فَسَمَّاهُمْ فُقَرَاءَ وَوَصَفَهُمْ بِالتَّعَفُّفِ
وَتَرْكِ الْمَسْأَلَةِ وَرُوِيَ عَنْ قَتَادَةَ قَالَ
الْفَقِيرُ ذُو الزَّمَانَةِ مِنْ أَهْلِ الْحَاجَةِ
وَالْمِسْكِينُ الصَّحِيحُ مِنْهُمْ وَقِيلَ إنَّ الْفَقِيرَ
هُوَ الْمِسْكِينُ إلَّا أَنَّهُ ذُكِرَ بِالصِّفَتَيْنِ
لِتَأْكِيدِ أَمْرِهِ فِي اسْتِحْقَاقِ الصَّدَقَةِ وَكَانَ
شَيْخُنَا أَبُو الْحَسَنِ الْكَرْخِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ
يَقُولُ الْمِسْكِينُ هُوَ الَّذِي لَا شَيْءَ لَهُ
وَالْفَقِيرُ هُوَ الذي له أدنى بلغة وبكى ذَلِكَ عَنْ أَبِي
الْعَبَّاسِ ثَعْلَبٌ قَالَ وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ حُكِيَ
عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّهُ قَالَ قُلْت لِأَعْرَابِيٍّ أَفَقِيرٌ
أَنْتَ قَالَ لَا بَلْ مِسْكِينٌ وَأَنْشَدَ عَنْ ابْنِ
الْأَعْرَابِيِّ:
أَمَّا الْفَقِيرُ الَّذِي كَانَتْ حَلُوبَتُهُ وَفْقَ
الْعِيَالِ فَلَمْ يُتْرَكْ له سبد
(4/322)
فَسَمَّاهُ فَقِيرًا مَعَ وُجُودِ
الْحَلُوبَةِ قَالَ وَحَكَى مُحَمَّدُ بْنُ سَلَّامٍ
الْجُمَحِيُّ عَنْ يُونُسَ النَّحْوِيِّ أَنَّهُ قَالَ
الْفَقِيرُ يَكُونُ لَهُ بَعْضُ مَا يُغْنِيهِ وَالْمِسْكِينُ
الَّذِي لَا شَيْءَ لَهُ قَالَ أَبُو بَكْرٍ قَوْله تَعَالَى
يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ
يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْفَقِيرَ قَدْ يَمْلِكُ بَعْضَ ما يغنيه
لأنه لا يحسبه الْجَاهِلُ بِحَالِهِ غَنِيًّا إلَّا وَلَهُ
ظَاهِرُ جَمِيلٍ وَبَزَّةٌ حَسَنَةٌ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ
مِلْكَهُ لِبَعْضِ مَا يُغْنِيهِ لَا يَسْلُبُهُ صِفَةَ
الْفَقْرِ وَكَانَ أَبُو الْحَسَنِ يَسْتَدِلُّ عَلَى مَا
قَالَ فِي صِفَةِ الْمِسْكِينِ
بِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه
عليه وآله وَسَلَّمَ قَالَ إنَّ الْمِسْكِينَ لَيْسَ
بِالطَّوَّافِ الَّذِي تَرُدُّهُ التَّمْرَةُ وَالتَّمْرَتَانِ
وَالْأَكْلَةُ وَالْأَكْلَتَانِ وَلَكِنَّ الْمِسْكِينَ
الَّذِي لَا يَجِدُ مَا يُغْنِيهِ
قَالَ فَلَمَّا نَفَى الْمُبَالَغَةَ فِي الْمَسْكَنَةِ
عَمَّنْ تَرُدُّهُ التَّمْرَةُ وَالتَّمْرَتَانِ وَأَثْبَتَهَا
لِمَنْ لَا يَجِدُ ذَلِكَ وَسَمَّاهُ مِسْكِينًا دَلَّ ذَلِكَ
عَلَى أَنَّ الْمِسْكِينَ أَضْعَفُ حَالًا مِنْ الْفَقِيرِ
قَالَ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْله تعالى أو مسكينا ذا متربة
رُوِيَ فِي التَّفْسِيرِ أَنَّهُ الَّذِي قَدْ لَزِقَ
بِالتُّرَابِ وَهُوَ جَائِعٌ عَارٍ لَا يُوَارِيهِ عَنْ
التُّرَابِ شَيْءٌ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْمِسْكِينَ
فِي غَايَةِ الْحَاجَةِ وَالْعُدْمِ فَإِنْ قِيلَ قَالَ اللَّه
تَعَالَى أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ
يَعْمَلُونَ في البحر فَأَثْبَتَ لَهُمْ مِلْكَ السَّفِينَةِ
وَسَمَّاهُمْ مَسَاكِينَ قِيلَ لَهُ قَدْ رُوِيَ أَنَّهُمْ
كَانُوا أُجَرَاءَ فِيهَا وَأَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا
مُلَّاكًا لَهَا وَإِنَّمَا نَسَبَهَا إلَيْهِمْ
بِالتَّصَرُّفِ وَالْكَوْنِ فِيهَا كَمَا قَالَ اللَّه تعالى
لا تدخلوا بيوت النبى وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ وَقَرْنَ فِي
بُيُوتِكُنَّ فَأَضَافَ الْبُيُوتَ تَارَةً إلَى النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّه عليه وآله وَسَلَّمَ وَتَارَةً إلَى أَزْوَاجِهِ
وَمَعْلُومٌ أَنَّهَا لَمْ تَخْلُ مِنْ أَنْ تَكُونَ مِلْكًا
لَهُ أَوْ لَهُنَّ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ لَهُنَّ
وَلَهُ فِي حَالٍ وَاحِدَةٍ لِاسْتِحَالَةِ كَوْنِهَا مِلْكًا
لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ عَلَى حِدَةٍ فَثَبَتَ أَنَّ
الْإِضَافَةَ إنَّمَا صَحَّتْ لِأَجْلِ التَّصَرُّفِ
وَالسُّكْنَى كَمَا يُقَالُ هَذَا مَنْزِلُ فُلَانٍ وَإِنْ
كَانَ سَاكِنًا فيه غير مالك له وهذا مَسْجِدُ فُلَانٍ وَلَا
يُرَادُ بِهِ الْمِلْكُ وَكَذَلِكَ قوله أما السفينة فكانت
لمساكين هُوَ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى وَيُقَالُ إنَّ
الْفَقِيرَ إنَّمَا سُمِّيَ بِذَلِكَ لِأَنَّهُ مِنْ ذَوِي
الْحَاجَةِ بِمَنْزِلَةِ مَنْ قَدْ كُسِرَتْ فَقَارُهُ يُقَالُ
مِنْهُ فَقَرَ الرَّجُلُ فَقْرًا وَأَفْقَرَهُ اللَّه
إفْقَارًا وَتَفَاقَرَ تَفَاقُرًا وَالْمِسْكِينُ الَّذِي قَدْ
أَسْكَنَتْهُ الْحَاجَةُ وَرُوِيَ عَنْ إبْرَاهِيمَ
النَّخَعِيِّ وَالضَّحَّاكِ فِي الْفَرْقِ بَيْنَ الْفَقِيرِ
وَالْمِسْكِينِ أَنَّ الْفُقَرَاءَ الْمُهَاجِرُونَ
وَالْمَسَاكِينَ مِنْ غَيْرِ الْمُهَاجِرِينَ كَأَنَّهُمَا
ذَهَبَا إلَى قَوْله تَعَالَى للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا
من ديارهم وَرَوَى سَعِيدٌ عَنْ قَتَادَةَ قَالَ الْفَقِيرُ
الَّذِي بِهِ زَمَانَةٌ وَهُوَ فَقِيرٌ إلَى بَعْضِ جَسَدِهِ
وَبِهِ حَاجَةٌ وَالْمِسْكِينُ الْمُحْتَاجُ الَّذِي لَا
زَمَانَةَ بِهِ وَرَوَى مَعْمَرٌ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ ابْنِ
سِيرِينَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ قَالَ لَيْسَ
الْمِسْكِينُ بِاَلَّذِي لَا مَالَ لَهُ وَلَكِنْ
(4/323)
الْمِسْكِينُ الَّذِي لَا يُصِيبُ
الْمَكْسَبَ وَهَذَا الَّذِي قَدَّمْنَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ
الْفَقِيرَ أَحْسَنُ حَالًا مِنْ الْمِسْكِينِ وَأَنَّ
الْمِسْكِينَ أَضْعَفُ حَالًا مِنْهُ وَقَدْ رَوَى أَبُو
يُوسُفَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فِيمَنْ قَالَ ثُلُثُ مَالِي
لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَلِفُلَانٍ أَنَّ لِفُلَانٍ
الثُّلُثَ وَالثُّلُثَانِ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ
فَهَذَا مُوَافِقٌ لِمَا رُوِيَ عَنْهُ فِي الْفَرْقِ بَيْنَ
الْفَقِيرِ وَالْمِسْكِينِ وَأَنَّهُمَا صِنْفَانِ وَرُوِيَ
عَنْ أَبِي يُوسُفَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ نِصْفَ
الثُّلُثِ لفلان ونصفه للفقراء والمساكين وهذا يَدُلُّ عَلَى
أَنَّهُ جَعَلَ الْفُقَرَاءَ وَالْمَسَاكِينَ صِنْفًا واحدا
وقوله تعالى والعاملين عليها فَإِنَّهُمْ السُّعَاةُ
لِجِبَايَةِ الصَّدَقَةِ رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّه بْنِ
عُمَرَ أَنَّهُمْ يُعْطَوْنَ بِقَدْرِ عِمَالَتِهِمْ وَعَنْ
عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ مِثْلُهُ وَلَا نَعْلَمُ
خِلَافًا بَيْنَ الْفُقَهَاءِ أَنَّهُمْ لَا يُعْطَوْنَ
الثَّمَنَ وَأَنَّهُمْ يَسْتَحِقُّونَ مِنْهَا بِقَدْرِ
عَمَلِهِمْ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى بُطْلَانِ قَوْلِ مَنْ
أَوْجَبَ قِسْمَةَ الصَّدَقَاتِ عَلَى ثَمَانِيَةٍ وَيَدُلُّ
أَيْضًا عَلَى أَنَّ أَخْذَ الصَّدَقَاتِ إلَى الْإِمَامِ
وَأَنَّهُ لَا يَجْزِي أَنْ يُعْطَى رَبُّ الْمَاشِيَةِ
صَدَقَتَهَا الْفُقَرَاءَ فَإِنْ فَعَلَ أَخَذَهَا الْإِمَامُ
ثَانِيًا وَلَمْ يَحْتَسِبْ لَهُ بِمَا أَدَّى وَذَلِكَ
لِأَنَّهُ لَوْ جَازَ لِأَرْبَابِ الْأَمْوَالِ أَدَاؤُهَا
إلَى الْفُقَرَاءِ لَمَا اُحْتِيجَ إلَى عَامِلٍ
لِجِبَايَتِهَا فَيَضُرُّ بِالْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ
فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ أَخْذَهَا إلَى الْإِمَامِ
وَأَنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهُ إعْطَاؤُهَا الْفُقَرَاءَ قَوْله
تَعَالَى وَالْمُؤَلَّفَةِ قلوبهم فَإِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا
يُتَأَلَّفُونَ عَلَى الْإِسْلَامِ بِمَا يُعْطَوْنَ مِنْ
الصَّدَقَاتِ وَكَانُوا يُتَأَلَّفُونَ بِجِهَاتٍ ثَلَاثٍ
إحداها للكبار لِدَفْعِ مَعَرَّتِهِمْ وَكَفِّ أَذِيَّتِهِمْ
عَنْ الْمُسْلِمِينَ وَالِاسْتِعَانَةِ بِهِمْ عَلَى
غَيْرِهِمْ مِنْ الْمُشْرِكِينَ وَالثَّانِيَةِ لِاسْتِمَالَةِ
قُلُوبِهِمْ وَقُلُوبِ غَيْرِهِمْ مِنْ الْكُفَّارِ إلَى
الدُّخُولِ فِي الْإِسْلَامِ وَلِئَلَّا يَمْنَعُوا مَنْ
أَسْلَمَ مِنْ قَوْمِهِمْ مِنْ الثَّبَاتِ عَلَى الْإِسْلَامِ
وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ الْأُمُورِ وَالثَّالِثَةِ إعْطَاءُ
قَوْمٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ حَدِيثِي الْعَهْدِ بِالْكُفْرِ
لِئَلَّا يَرْجِعُوا إلَى الْكُفْرِ
وَقَدْ رَوَى الثَّوْرِيُّ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي نُعَيْمٍ
عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ بَعَثَ عَلِيُّ بْنُ
أَبِي طَالِبٍ بِذَهَبَةٍ فِي أَدِيمٍ مَقْرُوظٍ فَقَسَمَهَا
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ بَيْنَ
زَيْدِ الْخَيْرِ وَالْأَقْرَعِ بْنِ حَابِسٍ وَعُيَيْنَةَ
بْنِ حِصْنٍ وَعَلْقَمَةَ بْنِ عُلَاثَةَ فَغَضِبَتْ قُرَيْشٌ
وَالْأَنْصَارُ وَقَالُوا يُعْطِي صَنَادِيدَ أَهْلِ نَجْدٍ
قال إنما أتألفهم
وروى بن أَبِي ذِئْبٍ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ عَامِرِ بْنِ
سَعْدٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّه عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ إنِّي لَأُعْطِي الرَّجُلَ
الْعَطَاءَ وَغَيْرُهُ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْهُ وَمَا أَفْعَلُ
ذَلِكَ إلَّا مَخَافَةَ أَنْ يَكُبَّهُ اللَّه فِي نَارِ
جَهَنَّمَ عَلَى وَجْهِهِ
وَرَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ
الزُّهْرِيِّ قَالَ أَخْبَرَنِي أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ أَنَّ
نَاسًا مِنْ الْأَنْصَارِ قَالُوا يَوْمَ حُنَيْنٍ حِينَ
أَفَاءَ اللَّه عَلَى رَسُولِهِ أَمْوَالَ هَوَازِنَ وَطَفِقَ
رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وآله وَسَلَّمَ يُعْطَى رِجَالًا
(4/324)
مِنْ قُرَيْشٍ الْمِائَةَ مِنْ الْإِبِلِ
كُلَّ رَجُلٍ مِنْهُمْ فَذَكَرَ حَدِيثًا فِيهِ فَقَالَ
رَسُولُ اللَّه صلّى اللَّه عليه وآله وَسَلَّمَ إنِّي
لَأُعْطِي رِجَالًا حَدِيثِي عَهْدٍ بِكُفْرٍ أَتَأَلَّفُهُمْ
أُصَانِعُهُمْ أَفَلَا تَرْضَوْنَ أَنْ يَذْهَبَ النَّاسُ
بِالْأَمْوَالِ وَتَرْجِعُونَ بِرَسُولِ اللَّه إلَى
رِحَالِكُمْ
وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ قَدْ كَانَ يَتَأَلَّفُ بِمَا
يُعْطِي قَوْمًا مِنْ الْمُسْلِمِينَ حَدِيثِي عَهْدٍ
بِالْإِسْلَامِ لِئَلَّا يَرْجِعُوا كُفَّارًا وَرَوَى
الزُّهْرِيُّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ عَنْ صَفْوَانَ
بْنِ أُمَيَّةَ قَالَ أعطانى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه
وآله وَسَلَّمَ وَإِنَّهُ لَأَبْغَضُ النَّاسِ إلَيَّ فَمَا
زَالَ يُعْطِينِي حَتَّى إنَّهُ لَأَحَبُّ الْخَلْقِ إلَيَّ
وَرَوَى مَحْمُودُ بْنُ لَبِيدٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ
الْخُدْرِيِّ قَالَ لَمَّا أَصَابَ رَسُولُ اللَّه صَلَّى
اللَّه عليه وآله وَسَلَّمَ الْغَنَائِمَ بِحُنَيْنٍ وَقَسَمَ
لِلْمُتَأَلَّفِينَ مِنْ قُرَيْشٍ وَفِي سَائِرِ الْعَرَبِ مَا
قَسَمَ وَجَدَ هَذَا الْحَيُّ مِنْ الْأَنْصَارِ فِي
أَنْفُسِهِمْ وَذَكَرَ الْحَدِيثَ وَقَالَ فِيهِ قَالَ رَسُولُ
اللَّه صَلَّى اللَّه عليه وآله وَسَلَّمَ لَهُمْ أَوَجَدْتُمْ
فِي أَنْفُسِكُمْ يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ فِي لُعَاعَةٍ
مِنْ الدُّنْيَا تَأَلَّفْت بِهَا قوما لِيُسْلِمُوا
وَوَكَلْتُكُمْ إلَى مَا قَسَمَ اللَّه لَكُمْ مِنْ
الْإِسْلَامِ
فَفِي هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّهُ تَأَلَّفَهُمْ لِيُسْلِمُوا
وَفِي الْأَوَّلِ إنِّي لَأُعْطِي رِجَالًا حَدِيثِي عَهْدٍ
بِكُفْرٍ فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ قَدْ كَانَ يَتَأَلَّفُ
بِذَلِكَ الْمُسْلِمِينَ وَالْكُفَّارَ جَمِيعًا وَقَدْ
اُخْتُلِفَ فِي الْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ فَقَالَ
أَصْحَابُنَا إنَّمَا كَانُوا فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّه
صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ فِي أَوَّلِ
الْإِسْلَامِ فِي حَالِ قِلَّةِ عَدَدِ الْمُسْلِمِينَ
وَكَثْرَةِ عَدُوِّهِمْ وَقَدْ أَعَزَّ اللَّه الْإِسْلَامَ
وَأَهْلَهُ وَاسْتَغْنَى بِهِمْ عَنْ تَأَلُّفِ الْكُفَّارِ
فَإِنْ احْتَاجُوا إلَى ذَلِكَ فَإِنَّمَا ذَلِكَ لِتَرْكِهِمْ
الْجِهَادَ وَمَتَى اجْتَمَعُوا وَتَعَاضَدُوا لَمْ
يَحْتَاجُوا إلَى تَأَلُّفِ غَيْرِهِمْ بِمَالٍ يُعْطَوْنَهُ
مِنْ أَمْوَالِ الْمُسْلِمِينَ وَقَدْ رُوِيَ نَحْوُ قَوْلِ
أَصْحَابِنَا عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ السَّلَفِ رَوَى عَبْدُ
الرَّحْمَنِ بْنُ مُحَمَّدٍ الْمُحَارِبِيُّ عَنْ حَجَّاجِ
بْنِ دِينَارٍ عَنْ ابْنِ سِيرِينَ عَنْ عُبَيْدَةَ قَالَ
جَاءَ عُيَيْنَةُ بْنُ حِصْنٍ وَالْأَقْرَعُ بْنُ حَابِسٍ إلَى
أَبِي بَكْرٍ فَقَالَا يَا خَلِيفَةَ رَسُولِ اللَّه إنَّ
عِنْدَنَا أَرْضًا سَبِخَةً لَيْسَ فِيهَا كَلَأٌ وَلَا
مَنْفَعَةٌ فإن رأيت أن تعطيناها فأقطعها إياها وَكَتَبَ
لَهُمَا عَلَيْهَا كِتَابًا وَأَشْهَدَ وَلَيْسَ فِي الْقَوْمِ
عُمَرُ فَانْطَلَقَا إلَى عُمَرَ لِيَشْهَدَ لَهُمَا فَلَمَّا
سَمِعَ عُمَرُ مَا فِي الْكِتَابِ تَنَاوَلَهُ من أيديهما ثم
تفل فمحاه فتذمر او قالا مَقَالَةً سَيِّئَةً فَقَالَ إنَّ
رَسُولَ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ كَانَ
يَتَأَلَّفُكُمَا وَالْإِسْلَامُ يَوْمَئِذٍ قَلِيلٌ وَإِنَّ
اللَّه قد أغنى الإسلام اذهبا فاجهدا جهد كما لَا يَرْعَى
اللَّه عَلَيْكُمَا إنْ رَعَيْتُمَا قَالَ أَبُو بَكْرٍ
رَحِمَهُ اللَّه فَتَرْكُ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ
اللَّه عَنْهُ النَّكِيرَ عَلَى عُمَرَ فِيمَا فَعَلَهُ بَعْدَ
إمْضَائِهِ الْحُكْمَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ عَرَفَ مَذْهَبَ
عُمَرَ فِيهِ حِينَ نَبَّهَهُ عَلَيْهِ وَأَنَّ سَهْمَ
الْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ كَانَ مَقْصُورًا عَلَى الْحَالِ
الَّتِي كَانَ عَلَيْهَا أَهْلُ الْإِسْلَامِ مِنْ قِلَّةِ
الْعَدَدِ وَكَثْرَةِ عَدَدِ الْكُفَّارِ وَأَنَّهُ لَمْ يَرَ
الِاجْتِهَادَ سَائِغًا فِي
(4/325)
ذلك لأنه لوسوغ الِاجْتِهَادَ فِيهِ لَمَا
أَجَازَ فَسْخَ الْحُكْمِ الَّذِي أَمْضَاهُ فَلَمَّا أَجَازَ
لَهُ ذَلِكَ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ عَرَفَ بِتَنْبِيهِ عُمَرَ
إيَّاهُ عَلَى ذَلِكَ امْتِنَاعَ جَوَازِ الِاجْتِهَادِ فِي
مِثْلِهِ وَرَوَى إسْرَائِيلُ عَنْ جَابِرٍ عَنْ أَبِي
جَعْفَرٍ قَالَ لَيْسَ الْيَوْمَ مُؤَلَّفَةٌ قُلُوبُهُمْ
وَرَوَى إسْرَائِيلُ أَيْضًا عَنْ جَابِرِ بْنِ عَامِرٍ فِي
الْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ قَالَ كَانُوا عَلَى عَهْدِ
رَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ
فَلَمَّا اُسْتُخْلِفَ أَبُو بَكْرٍ انْقَطَعَ الرِّشَا
وَرَوَى ابْنُ أَبِي زَائِدَةَ عَنْ مُبَارَكٍ عَنْ الحسن قال
ليس المؤلفة قُلُوبُهُمْ كَانُوا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّه
صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ وَرَوَى مَعْقِلُ بْنُ
عُبَيْدِ اللَّه قَالَ سألت الزهري عن المؤلفة قَالَ مَنْ
أَسْلَمَ مِنْ يَهُودِيٍّ أَوْ نَصْرَانِيٍّ قُلْت وَإِنْ
كَانَ غَنِيًّا قَالَ وَإِنْ كَانَ غنيا قوله تعالى وفي الرقاب
فَإِنَّ أَهْلَ الْعِلْمِ مُخْتَلِفُونَ فِيهِ فَقَالَ
إبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ وَالشَّعْبِيُّ وَسَعِيدُ بْنُ
جُبَيْرٍ وَمُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ لَا يُجْزِي أَنْ تُعْتَقَ
مِنْ الزَّكَاةِ رَقَبَةُ وَهُوَ قَوْلُ أَصْحَابِنَا
وَالشَّافِعِيِّ وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَعْتِقْ مِنْ
زَكَاتِك وَكَانَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ لَا يُعْتِقُ مِنْ
الزَّكَاةِ مَخَافَةَ جَرِّ الولاء وقال فِي الرِّقَابِ
إنَّهَا رِقَابٌ يُبْتَاعُونَ مِنْ الزَّكَاةِ وَيُعْتَقُونَ
فَيَكُونُ وَلَاؤُهُمْ لِجَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ دُونَ
الْمُعْتِقِينَ قَالَ مَالِكٌ وَالْأَوْزَاعِيُّ لَا يُعْطَى
الْمُكَاتَبُ مِنْ الزَّكَاةِ شَيْئًا وَلَا عَبْدًا مُوسِرًا
كَانَ مَوْلَاهُ أَوْ مُعْسِرًا وَلَا يُعْطَوْنَ مِنْ
الْكَفَّارَاتِ أَيْضًا قَالَ مَالِكٌ لَا يُعْتَقُ مِنْ
الزَّكَاةِ إلَّا رَقَبَةٌ مُؤْمِنَةٌ قَالَ أَبُو بَكْرٍ لَا
نَعْلَمُ خِلَافًا بَيْنَ السَّلَفِ فِي جَوَازِ إعْطَاءِ
الْمُكَاتَبِ مِنْ الزَّكَاةِ فَثَبَتَ أَنَّ إعْطَاءَهُ
مُرَادٌ بِالْآيَةِ وَالدَّفْعُ إلَيْهِ صَدَقَةٌ صَحِيحَةٌ
وَقَالَ اللَّه تَعَالَى إنما الصدقات للفقراء- إلى قوله- وفي
الرقاب وَعِتْقُ الرَّقَبَةِ لَا يُسَمَّى صَدَقَةً وَمَا
أُعْطِيَ فِي ثَمَنِ الرَّقَبَةِ فَلَيْسَ بِصَدَقَةٍ لِأَنَّ
بَائِعَهَا أَخَذَهُ ثَمَنًا لِعَبْدِهِ فَلَمْ تَحْصُلْ
بِعِتْقِ الرَّقَبَةِ صَدَقَةٌ واللَّه تَعَالَى إنَّمَا
جَعَلَ الصَّدَقَاتِ فِي الرِّقَابِ فَمَا لَيْسَ بِصَدَقَةٍ
فَهُوَ غَيْرُ مُجْزِئٍ وَأَيْضًا فَإِنَّ الصَّدَقَةَ
تَقْتَضِي تَمْلِيكًا وَالْعَبْدُ لَمْ يَمْلِكْ شَيْئًا
بِالْعِتْقِ وَإِنَّمَا سَقَطَ عَنْ رَقَبَتِهِ وَهُوَ مِلْكٌ
لِلْمَوْلَى وَلَمْ يَحْصُلْ ذَلِكَ الرِّقُّ لِلْعَبْدِ
لِأَنَّهُ لَوْ حَصَلَ لَهُ لَوَجَبَ أَنْ يقوم فيها مَقَامَ
الْمَوْلَى فَيَتَصَرَّفَ فِي رَقَبَتِهِ كَمَا يَتَصَرَّفُ
الْمَوْلَى فَثَبَتَ أَنَّ الَّذِي حَصَلَ لِلْعَبْدِ إنَّمَا
هُوَ سُقُوطُ مِلْكِ الْمَوْلَى وَأَنَّهُ لَمْ يَمْلِكْ
بِذَلِكَ شَيْئَا فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مُجْزِيًا
مِنْ الصَّدَقَةِ إذْ شَرْطُ الصَّدَقَةِ وُقُوعُ الْمِلْكِ
لِلْمُتَصَدَّقِ عَلَيْهِ وَأَيْضًا فَإِنَّ الْعِتْقَ وَاقِعٌ
فِي مِلْكِ الْمَوْلَى غَيْرُ مُنْتَقِلٍ إلَى الْغَيْرِ
وَلِذَلِكَ ثَبَتَ وَلَاؤُهُ مِنْهُ فَغَيْرُ جَائِزٍ
وُقُوعُهُ عَنْ الصَّدَقَةِ وَلَمَّا قَامَتْ الْحُجَّةُ
عَنْ رَسُولِ الله صلّى اللَّه عليه وآله وَسَلَّمَ أَنَّ
الْوَلَاءَ لِمَنْ أَعْتَقَ
وَجَبَ أَنْ لَا يَكُونَ الْوَلَاءُ لِغَيْرِهِ فَإِذَا
انْتَفَى أَنْ يَكُونَ الْوَلَاءُ إلَّا لِمَنْ أَعْتَقَ
ثَبَتَ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْمُكَاتَبُونَ وَأَيْضًا
رَوَى عَبْدُ الرَّحْمَنِ
(4/326)
ابن سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ عَنْ أَبِيهِ
أَنَّ رَسُولَ اللَّه صَلَّى اللَّه عليه وآله وَسَلَّمَ قَالَ
مَنْ أَعَانَ مُكَاتَبًا فِي رَقَبَتِهِ أَوْ غَازِيًا فِي
عُسْرَتِهِ أَوْ مُجَاهِدًا فِي سبيل الله أضله اللَّهُ فِي
ظِلِّهِ يَوْمَ لَا ظِلَّ إلَّا ظِلُّهُ
فَثَبَتَ بِذَلِكَ أَنَّ الصَّدَقَةَ عَلَى الْمُكَاتَبِينَ
مَعُونَةٌ لَهُمْ فِي رِقَابِهِمْ حَتَّى يُعْتَقُوا وَذَلِكَ
موافق لقوله تعالى وفي الرقاب
وَرَوَى طَلْحَةُ الْيَمَانِيُّ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ
عَوْسَجَةَ عَنْ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ قَالَ قَالَ أعرابى
للنبي صلى اللَّه عليه وآله وَسَلَّمَ عَلِّمْنِي عَمَلًا
يُدْخِلُنِي الْجَنَّةَ قَالَ لَئِنْ كُنْت أَقْصَرْت
الْخُطْبَةَ لَقَدْ عَرَضْت الْمَسْأَلَةَ أَعْتِقْ النسمة وفك
الرقبة قال أو ليسا سَوَاءً قَالَ لَا عِتْقُ النَّسْمَةِ أَنْ
تَفُوزَ بعتقها وفك الرقبة أن وَاسْقِ الظَّمْآنَ وَأْمُرْ
بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنْ الْمُنْكَرِ فَإِنْ لَمْ تُطِقْ
ذَلِكَ فَكُفَّ لِسَانَك إلَّا مِنْ خَيْرٍ
فَجَعَلَ عِتْقَ النَّسْمَةِ غَيْرَ فَكِّ الرقبة فلما قال وفي
الرقاب كَانَ الْأَوْلَى أَنْ يَكُونَ فِي مَعُونَتِهَا بِأَنْ
يُعْطَى الْمُكَاتَبُ حَتَّى يَفُكَّ الْعَبْدُ رَقَبَتَهُ
مِنْ الرِّقِّ وَلَيْسَ هُوَ ابْتِيَاعُهَا وَعِتْقُهَا
لِأَنَّ الثَّمَنَ حِينَئِذٍ يَأْخُذُهُ الْبَائِعُ وَلَيْسَ
فِي ذَلِكَ قُرْبَةٌ وَإِنَّمَا الْقُرْبَةُ فِي أَنْ يُعْطَى
الْعَبْدُ نَفْسَهُ حَتَّى يَفُكَّ بِهِ رَقَبَتَهُ وَذَلِكَ
لَا يَكُونُ إلَّا بَعْدَ الْكِتَابَةِ لِأَنَّهُ قَبْلَهَا
يَحْصُلُ لِلْمَوْلَى وَإِذَا كَانَ مُكَاتَبًا فَمَا
يَأْخُذُهُ لَا يَمْلِكُهُ الْمَوْلَى وَإِنَّمَا يَحْصُلُ
لِلْمُكَاتَبِ فَيَجْزِي مِنْ الزَّكَاةِ وَأَيْضًا فَإِنَّ
عِتْقَ الرَّقَبَةِ يُسْقِطُ حَقَّ الْمَوْلَى عَنْ رَقَبَتِهِ
مِنْ غَيْرِ تَمْلِيكٍ وَلَا يَحْتَاجُ فِيهِ إلَى إذْنِ
الْمَوْلَى فَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ مَنْ قَضَى دَيْنَ رَجُلٍ
بِغَيْرِ أَمْرِهِ فَلَا يَجْزِي مِنْ زَكَاتِهِ وَإِنْ
دَفَعَهُ إلَى الْغَارِمِ فَقَضَى بِهِ دَيْنَ نَفْسِهِ جَازَ
كَذَلِكَ إذَا دَفَعَهُ إلَى الْغَارِمِ فَقَضَى بِهِ دَيْنَ
نَفْسِهِ جَازَ كَذَلِكَ إذَا دَفَعَهُ إلَى الْمُكَاتَبِ
فَمَلَكَهُ أَجْزَأَهُ عَنْ الزَّكَاةِ وَإِذَا أَعْتَقَهُ
لَمْ يُجْزِهِ لِأَنَّهُ لَمْ يَمْلِكْهُ وَحَصَلَ الْعِتْقُ
بِغَيْرِ قَبُولِهِ وَلَا إذنه قوله تعالى والغارمين قَالَ
أَبُو بَكْرٍ لَمْ يَخْتَلِفُوا أَنَّهُمْ الْمَدِينُونَ وَفِي
هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ إذَا لَمْ يَمْلِكْ فَضْلًا عَنْ
دَيْنِهِ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ فَإِنَّهُ فَقِيرٌ تَحِلُّ لَهُ
الصَّدَقَةُ لِأَنَّ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّه عليه وآله وَسَلَّمَ قَالَ أُمِرْت
أَنْ آخُذَ الصَّدَقَةَ مِنْ أَغْنِيَائِكُمْ وَأَرُدَّهَا فِي
فُقَرَائِكُمْ
فَحَصَلَ لَنَا بِمَجْمُوعِ الْآيَةِ وَالْخَبَرِ أَنَّ
الْغَارِمَ فَقِيرٌ إذْ كَانَتْ الصَّدَقَةُ لَا تُعْطَى إلَّا
الْفُقَرَاءَ بِقَضِيَّةِ
قَوْلِهِ صلّى اللَّه عليه وآله وَسَلَّمَ وَأَرُدَّهَا فِي
فُقَرَائِكُمْ
وَهَذَا يَدُلُّ أَيْضًا عَلَى أَنَّهُ إذَا كَانَ عَلَيْهِ
دَيْنٌ يُحِيطُ بِمَالِهِ وَلَهُ مَالٌ كَثِيرٌ أَنَّهُ لَا
زَكَاةَ عَلَيْهِ إذْ كَانَ فَقِيرًا يَجُوزُ لَهُ أَخْذُ
الصَّدَقَةِ وَالْآيَةُ خَاصَّةٌ فِي بَعْضِ الْغَارِمِينَ
دُونَ بَعْضٍ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ لَهُ أَلْفُ
دِرْهَمٍ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ مِائَةُ دِرْهَمٍ لَمْ تَحِلَّ
لَهُ الزَّكَاةُ وَلَمْ يُجْزِ مُعْطِيهِ إيَّاهَا وَإِنْ
كَانَ غَارِمًا فَثَبَتَ أَنَّ الْمُرَادَ الْغَرِيمُ الَّذِي
لَا يَفْضُلُ لَهُ عَمَّا فِي يَدِهِ بَعْدَ قضاء دينه
(4/327)
مِقْدَارُ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ أَوْ مَا
يُسَاوِيهَا فَيَجْعَلُ الْمِقْدَارَ الْمُسْتَحَقَّ
بِالدَّيْنِ مِمَّا فِي يَدِهِ كَأَنَّهُ فِي غَيْرِ مِلْكِهِ
وَمَا فَضَلَ عَنْهُ فَهُوَ فِيهِ بِمَنْزِلَةِ مَنْ لَا
دَيْنَ عَلَيْهِ وَفِي جَعْلِهِ الصَّدَقَةَ لِلْغَارِمِينَ
دَلِيلٌ أَيْضًا عَلَى أَنَّ الْغَارِمَ إذَا كَانَ قَوِيًّا
مُكْتَسِبًا فَإِنَّ الصَّدَقَةَ تَحِلُّ لَهُ إذْ لَمْ
تُفَرِّقْ بَيْنَ الْقَادِرِ عَلَى الْكَسْبِ وَالْعَاجِزِ
عَنْهُ وَزَعَمَ الشَّافِعِيُّ أَنَّ مَنْ تَحَمَّلَ حَمَالَةَ
عَشَرَةِ آلَافِ دِرْهَمٍ وَلَهُ مِائَةُ أَلْفِ دِرْهَمٍ
أَنَّ الصَّدَقَةَ تَحِلُّ لَهُ وَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ
مِنْ غَيْرِ الْحَمَالَةِ لَمْ تَحِلَّ لَهُ وَاحْتَجَّ فِيهِ
بِحَدِيثِ قَبِيصَةَ ابن الْمُخَارِقِ أَنَّهُ تَحَمَّلَ
حَمَالَةً فَسَأَلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّه عليه وآله
وَسَلَّمَ فِيهَا فَقَالَ إنَّ الْمَسْأَلَةَ لَا تَحِلُّ
إلَّا لِثَلَاثَةٍ رَجُلٍ تَحَمَّلَ حَمَالَةً فَيَسْأَلُ
فِيهَا حَتَّى يُؤَدِّيَهَا وَرَجُلٍ أَصَابَتْهُ جَائِحَةٌ
فَاجْتَاحَتْ مَالَهُ فَيَسْأَلُ حَتَّى يُصِيبَ قَوَامًا مِنْ
عَيْشٍ وَرَجُلٍ أَصَابَتْهُ فَاقَةٌ وَحَاجَةٌ حَتَّى
يَشْهَدَ ثَلَاثَةٌ مِنْ ذوى الحجى مِنْ قَوْمِهِ
أَنَّ فُلَانًا أَصَابَتْهُ فَاقَةٌ فَحَلَّتْ لَهُ
الْمَسْأَلَةُ حَتَّى يُصِيبَ سَدَادًا مِنْ عَيْشٍ ثُمَّ
يُمْسِكُ وَمَا سِوَى ذَلِكَ فَهُوَ سُحْتٌ وَمَعْلُومٌ أَنَّ
الْحَمَالَةَ وَسَائِرَ الدُّيُونِ سَوَاءٌ لِأَنَّ
الْحَمَالَةَ هِيَ الْكَفَالَةُ وَالْحَمِيلُ هُوَ الْكَفِيلُ
فَإِذَا كان النبي صلّى اللَّه عليه وآله وَسَلَّمَ أَجَازَ
لَهُ الْمَسْأَلَةَ لِأَجْلِ مَا عَلَيْهِ مِنْ دَيْنِ
الْكَفَالَةِ وَقَدْ عَلِمَ مُسَاوَاةَ دَيْنِ الكفالة وقد علم
لِسَائِرِ الدُّيُونِ فَلَا فَرْقَ بَيْنَ شَيْءٍ مِنْهَا
فَيَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ إبَاحَةُ الْمَسْأَلَةِ لِأَجْلِ
الْحَمَالَةِ مَحْمُولَةً عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى
أَدَائِهَا وَكَانَ الْغُرْمُ الَّذِي لَزِمَهُ بِإِزَاءِ مَا
فِي يَدِهِ مِنْ مَالِهِ كَمَا نَقُولُ فِي سَائِرِ الدُّيُونِ
وَرَوَى إسْرَائِيلُ عَنْ جَابِرِ بْنِ أَبِي جعفر في قوله
تعالى والغارمين قَالَ الْمُسْتَدِينُ فِي غَيْرِ سَرَفٍ حَقٌّ
عَلَى الإمام يَقْضِيَ عَنْهُ وَقَالَ سَعِيدٌ فِي قَوْلِهِ
وَالْغَارِمِينَ قَالَ نَاسٌ عَلَيْهِمْ دَيْنٌ مِنْ غَيْرِ
فَسَادٍ وَلَا إتْلَافٍ وَلَا تَبْذِيرٍ فَجَعَلَ اللَّه
لَهُمْ فِيهَا سَهْمًا وَإِنَّمَا ذَكَرَ هَؤُلَاءِ فِي
الدَّيْنِ أَنَّهُ مِنْ غَيْرِ سَرَفٍ وَلَا إفْسَادٍ
لِأَنَّهُ إذَا كَانَ مُبَذِّرًا مُفْسِدًا لَمْ يُؤْمَنْ إذَا
قَضَى دَيْنَهُ أَنْ يَسْتَدِينَ مِثْلَهُ فَيَصْرِفَهُ فِي
الْفَسَادِ فَكَرِهُوا قَضَاءَ دَيْنِ مِثْلِهِ لِئَلَّا
يَجْعَلَهُ ذَرِيعَةً إلَى السَّرَفِ وَالْفَسَادِ وَلَا
خِلَافَ فِي جَوَازِ قَضَاءِ دَيْنِ مِثْلِهِ وَدَفْعِ
الزَّكَاةِ إلَيْهِ وَإِنَّمَا ذَكَرَ هَؤُلَاءِ عَدَمَ
الْفَسَادِ وَالتَّبْذِيرِ فِيمَا استدان على وجه الكراهة لا
على وجه الْإِيجَابِ وَرَوَى عُبَيْدُ اللَّه بْنُ مُوسَى عَنْ
عُثْمَانَ بْنِ الْأَسْوَدِ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ
والغارمين قَالَ الْغَارِمُ مَنْ ذَهَبَ السَّيْلُ بِمَالِهِ
أَوْ أَصَابَهُ حَرِيقٌ فَأَذْهَبَ مَالَهُ أَوْ رَجُلٌ لَهُ
عِيَالٌ لَا يَجِدُ مَا يُنْفِقُ عَلَيْهِمْ فَيَسْتَدِينُ
قَالَ أَبُو بَكْرٍ أَمَّا مَنْ ذَهَبَ مَالُهُ وَلَيْسَ
عَلَيْهِ دَيْنٌ فَلَا يُسَمَّى غَرِيمًا لِأَنَّ الْغُرْمَ
هُوَ اللُّزُومُ وَالْمُطَالَبَةُ فَمَنْ لَزِمَهُ الدَّيْنُ
يُسَمَّى غَرِيمًا وَمَنْ لَهُ الدَّيْنُ أَيْضًا يُسَمَّى
غَرِيمًا لِأَنَّ لَهُ اللُّزُومَ وَالْمُطَالَبَةَ فَأَمَّا
مَنْ ذَهَبَ مَالُهُ فَلَيْسَ بِغَرِيمٍ وَإِنَّمَا يُسَمَّى
(4/328)
فَقِيرًا أَوْ مِسْكِينًا
وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وآله
وسلم كان يستعذ باللَّه مِنْ الْمَأْثَمِ وَالْمَغْرَمِ
فَقِيلَ لَهُ فِي ذَلِكَ فَقَالَ إنَّ الرَّجُلَ إذَا غَرِمَ
حَدَّثَ فَكَذَبَ وَوَعَدَ فَأَخْلَفَ
وَإِنَّمَا أَرَادَ إذَا لَزِمَهُ الدَّيْنُ وَيَجُوزُ أَنْ
يَكُونَ مُجَاهِدٌ أَرَادَ مَنْ ذَهَبَ مَالُهُ وَعَلَيْهِ
دَيْنٌ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ لَهُ مَالٌ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ
أَقَلُّ مِنْ مَالِهِ بِمِقْدَارِ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ فَلَيْسَ
هُوَ مِنْ الْغَارِمِينَ الْمُرَادِينَ بِالْآيَةِ
وَرَوَى أَبُو يُوسُفَ عَنْ عَبْدِ اللَّه بْنِ سُمَيْطٍ عَنْ
أَبِي بَكْرٍ الْحَنَفِيِّ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ عَنْ
رَسُولِ اللَّه صلّى اللَّه عليه وآله وَسَلَّمَ قَالَ إنَّ
الْمَسْأَلَةَ لَا تَحِلُّ وَلَا تَصْلُحُ إلَّا لِأَحَدِ
ثَلَاثَةٍ لِذِي فَقْرٍ مُدْقِعٍ أَوْ لِذِي غُرْمٍ مُفْظِعٍ
أَوْ لِذِي دَمٍ مُوجِعٍ
وَمَعْلُومٌ أَنَّ مُرَادَهُ بِالْغُرْمِ الدَّيْنُ قَوْله
تعالى وفي سبيل الله
رَوَى ابْنُ أَبِي لَيْلَى عَنْ عَطِيَّةَ الْعَوْفِيِّ عَنْ
أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه
عليه وآله وَسَلَّمَ قَالَ لَا تَحِلُّ الصَّدَقَةُ لِغَنِيٍّ
إلَّا فِي سَبِيلِ اللَّه أَوْ ابْنِ السَّبِيلِ أَوْ رَجُلٍ
لَهُ جَارٌ مِسْكِينٌ تَصَدَّقَ عَلَيْهِ فَأَهْدَى لَهُ
وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي ذَلِكَ فَقَالَ قَائِلُونَ هِيَ
لِلْمُجَاهِدِينَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْهُمْ وَالْفُقَرَاءِ
وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ لَا
يُعْطَى مِنْهَا إلَّا الْفُقَرَاءُ مِنْهُمْ وَلَا يُعْطَى
الْأَغْنِيَاءُ مِنْ الْمُجَاهِدِينَ فإن أعطوا ملكوها وأجرأ
الْمُعْطِي وَإِنْ لَمْ يَصْرِفْهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ
لِأَنَّ شَرْطَهَا تَمْلِيكُهُ وَقَدْ حَصَلَ لِمَنْ هَذِهِ
صِفَتُهُ فَأَجْزَأَ
وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ تَصَدَّقَ بِفَرَسٍ فِي سَبِيلِ
اللَّهِ فَوَجَدَهُ يُبَاعُ بَعْدَ ذَلِكَ فَأَرَادَ أَنْ
يَشْتَرِيَهُ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه
عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ لَا تَعُدْ فِي صَدَقَتِك
فَلَمْ يَمْنَعْ النبي صلّى اللَّه عليه وآله وَسَلَّمَ
الْمَحْمُولَ عَلَى الْفَرَسِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ مِنْ
بَيْعِهَا وَإِنْ أَعْطَى حَاجًّا مُنْقَطِعًا بِهِ أَجْزَأَ
أَيْضًا وَقَدْ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَجُلًا
أَوْصَى بِمَالِهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ
إنَّ الْحَجَّ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاجْعَلْهُ فِيهِ وَقَالَ
مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ فِي السِّيَرِ الْكَبِيرِ فِي رَجُلٍ
أَوْصَى بِثُلُثِ مَالِهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ إنَّهُ يَجُوزُ
أَنْ يَجْعَلَ فِي الْحَاجِّ الْمُنْقَطِعِ بِهِ وَهَذَا
يَدُلُّ عَلَى أَنَّ قَوْله تَعَالَى وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ
قَدْ أُرِيدَ بِهِ عِنْدَ مُحَمَّدٍ الْحَاجُّ الْمُنْقَطِعُ
بِهِ
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وآله
وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ الْحَجُّ وَالْعُمْرَةُ مِنْ سَبِيلِ
اللَّهِ
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ فِيمَنْ أَوْصَى بثلث ماله في
سبيل الله أنه الفقراء الْغَزَاةِ فَإِنْ قِيلَ فَقَدْ أَجَازَ
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّه عليه وآله وَسَلَّمَ لِأَغْنِيَاءِ
الْغَزَاةِ أَخْذَ الصَّدَقَةِ
بِقَوْلِهِ لَا تَحِلُّ لِغَنِيٍّ إلَّا فِي سَبِيلِ اللَّهِ
قِيلَ لَهُ قَدْ يَكُونُ الرَّجُلُ غَنِيًّا فِي أَهْلِهِ
وبلده بدار يسكنها وأثاث يتأنث بِهِ فِي بَيْتِهِ وَخَادِمٍ
يَخْدُمُهُ وَفَرَسٍ يَرْكَبُهُ وَلَهُ فَضْلُ مِائَتَيْ
دِرْهَمٍ أَوْ قِيمَتُهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ الصَّدَقَةُ
فَإِذَا عَزَمَ عَلَى الْخُرُوجِ في سفر غزو واحتاج مِنْ
آلَاتِ السَّفَرِ وَالسِّلَاحِ وَالْعُدَّةِ إلَى مَا لَمْ
يَكُنْ مُحْتَاجًا إلَيْهِ فِي حَالِ إقَامَتِهِ فَيُنْفِقُ
الْفَضْلَ عَنْ أَثَاثِهِ وَمَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ في مبصره
عَلَى السِّلَاحِ وَالْآلَةِ وَالْعُدَّةِ فَتَجُوزُ لَهُ
الصَّدَقَةُ وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ الْفَضْلُ عَمَّا
يَحْتَاجُ إلَيْهِ من دابة الأرض
(4/329)
أَوْ سِلَاحًا أَوْ شَيْئًا مِنْ آلَاتِ
السَّفَرِ لَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ فِي الْمِصْرِ فَيَمْنَعُ
ذَلِكَ جَوَازَ إعْطَائِهِ الصَّدَقَةَ إذَا كَانَ ذَلِكَ
يُسَاوِي مِائَتَيْ دِرْهَمٍ وَإِنْ هُوَ خَرَجَ لِلْغَزْوِ
فَاحْتَاجَ إلَى ذَلِكَ جَازَ أَنْ يُعْطَى مِنْ الصَّدَقَةِ
وَهُوَ غَنِيٌّ فِي هَذَا الْوَجْهِ فَهَذَا مَعْنَى
قوله صلّى اللَّه عليه وآله وَسَلَّمَ الصَّدَقَةُ تَحِلُّ
لِلْغَازِي الْغَنِيِّ
قَوْله تَعَالَى وابن السبيل هُوَ الْمُسَافِرُ الْمُنْقَطِعُ
بِهِ يَأْخُذُ مِنْ الصَّدَقَةِ وَإِنْ كَانَ لَهُ مَالٌ فِي
بَلَدِهِ وَكَذَلِكَ رُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ وَقَتَادَةَ
وَأَبِي جَعْفَرٍ وَقَالَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ هُوَ مَنْ
يَعْزِمُ عَلَى السَّفَرِ وليس له ما يحتمل بِهِ وَهَذَا
خَطَأٌ لِأَنَّ السَّبِيلَ هُوَ الطَّرِيقُ فَمَنْ لَمْ
يَحْصُلْ فِي الطَّرِيقِ لَا يَكُونُ ابْنَ السَّبِيلِ وَلَا
يَصِيرُ كَذَلِكَ بِالْعَزِيمَةِ كَمَا لا يكون مسافر
بِالْعَزِيمَةِ وَقَالَ تَعَالَى وَلا جُنُبًا إِلا عَابِرِي
سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ هُوَ
الْمُسَافِرُ لَا يَجِدُ الْمَاءَ فَيَتَيَمَّمُ فَكَذَلِكَ
ابْنُ السَّبِيلِ هُوَ الْمُسَافِرُ وَجَمِيعُ مَنْ يَأْخُذُ
الصَّدَقَةَ مِنْ هَذِهِ الْأَصْنَافِ فإنما يأخذ صَدَقَةً
بِالْفَقْرِ وَالْمُؤَلَّفَةُ قُلُوبُهُمْ وَالْعَامِلُونَ
عَلَيْهَا لَا يَأْخُذُونَهَا صَدَقَةً وَإِنَّمَا تَحْصُلُ
الصَّدَقَةُ فِي يَدِ الْإِمَامِ لِلْفُقَرَاءِ ثُمَّ يُعْطِي
الْإِمَامُ الْمُؤَلَّفَةَ مِنْهَا لِدَفْعِ أَذِيَّتِهِمْ
عَنْ الْفُقَرَاءِ وَسَائِرِ الْمُسْلِمِينَ وَيُعْطِيهَا
الْعَامِلِينَ عِوَضًا مِنْ أَعْمَالِهِمْ لَا عَلَى أَنَّهَا
صَدَقَةٌ عَلَيْهِمْ وَإِنَّمَا قُلْنَا ذَلِكَ
لِقَوْلِ النَّبِيِّ صلّى اللَّه عليه وآله وَسَلَّمَ أُمِرْت
أَنْ آخُذَ الصَّدَقَةَ مِنْ أَغْنِيَائِكُمْ وأردها في
فقرائكم
فبين أَنَّ الصَّدَقَةَ مَصْرُوفَةٌ إلَى الْفُقَرَاءِ فَدَلَّ
ذَلِكَ عَلَى أَنَّ أَحَدًا لَا يَأْخُذُهَا صَدَقَةً إلَّا
بِالْفَقْرِ وَأَنَّ الْأَصْنَافَ الْمَذْكُورِينَ إنَّمَا
ذُكِرُوا بَيَانًا لِأَسْبَابِ الْفَقْرِ.
بَابُ الْفَقِيرِ الَّذِي يَجُوزُ أَنْ يُعْطَى مِنْ
الصَّدَقَةِ
قَالَ أَبُو بَكْرٍ رَحِمَهُ اللَّه اخْتَلَفَ أَهْلُ
الْعِلْمِ فِي الْمِقْدَارِ الَّذِي إذَا مَلَكَهُ الرَّجُلُ
دَخَلَ بِهِ فِي حَدِّ الْغَنِيِّ وَخَرَجَ بِهِ مِنْ حَدِّ
الْفَقِيرِ وَحُرِّمَتْ عَلَيْهِ الصَّدَقَةُ فَقَالَ قَوْمٌ
إذَا كَانَ عِنْدَ أَهْلِهِ مَا يُغَدِّيهِمْ وَيُعَشِّيهِمْ
حُرِّمَتْ عَلَيْهِ الصَّدَقَةُ بِذَلِكَ وَمَنْ كَانَ
عِنْدَهُ دُونَ ذَلِكَ حَلَّتْ لَهُ الصَّدَقَةُ وَاحْتَجُّوا
بِمَا
رَوَاهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ عَنْ يَزِيدَ بْنِ جَابِرٍ قَالَ
حَدَّثَنِي رَبِيعَةُ بْنُ يَزِيدَ عَنْ أَبِي كَبْشَةَ
السَّلُولِيِّ قَالَ حدثني سهيل بن الحنظلة قَالَ سَمِعْت
رَسُولَ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ يَقُولُ
مَنْ سَأَلَ النَّاسَ عَنْ ظَهْرِ غِنًى فَإِنَّمَا
يَسْتَكْثِرُ مِنْ جَمْرِ جَهَنَّمَ قُلْت يا رسول مَا ظَهْرُ
غِنًى قَالَ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ عِنْدَ أَهْلِهِ مَا
يُغَدِّيهِمْ وَيُعَشِّيهِمْ
وَقَالَ آخَرُونَ حتى يملك أربعين درهما أو عدلهما من الذهب
واحتجوا لما
رَوَى مَالِكٌ عَنْ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ عَنْ عَطَاءِ بْنِ
يَسَارٍ عَنْ رَجُلٍ مِنْ بَنِي أَسَدٍ قَالَ أَتَيْت
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ فَسَمِعْته
يَقُولُ لِرَجُلٍ مَنْ سَأَلَ مِنْكُمْ وَعِنْدَهُ أُوقِيَّةٌ
أَوْ عَدْلُهَا فَقَدْ سَأَلَ
(4/330)
إلْحَافًا
وَالْأُوقِيَّةُ يَوْمَئِذٍ أَرْبَعُونَ دِرْهَمًا وَقَالَتْ
طَائِفَةٌ حَتَّى يَمْلِكَ خَمْسِينَ دِرْهَمًا أَوْ عِدْلَهَا
مِنْ الذَّهَبِ وَاحْتَجُّوا فِي ذَلِكَ بِمَا
رَوَى الثَّوْرِيُّ عَنْ حَكِيمِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ مُحَمَّدُ
بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَزِيدَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ ابْنِ
مَسْعُودٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّه عليه وآله
وسلم لا يسئل عَبْدٌ مَسْأَلَةً وَلَهُ مَا يُغْنِيهِ إلَّا
جَاءَتْ شَيْئًا أَوْ كُدُوحًا أَوْ خُدُوشًا فِي وَجْهِهِ
يَوْمَ الْقِيَامَةِ قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّه وَمَا غِنَاهُ
قَالَ خَمْسُونَ دِرْهَمًا أَوْ حِسَابُهَا مِنْ الذَّهَبِ
وَرَوَى الْحَجَّاجُ عَنْ الْحَسَنِ بْنِ سَعْدٍ عَنْ أَبِيهِ
عَنْ عَلِيٍّ وَعَبْدِ اللَّه قَالَا لَا تَحِلُّ الصَّدَقَةُ
لِمَنْ لَهُ خَمْسُونَ دِرْهَمًا أَوْ عِوَضُهَا مِنْ
الذَّهَبِ
وَعَنْ الشَّعْبِيِّ قَالَ لَا يَأْخُذُ الصَّدَقَةَ مَنْ لَهُ
خَمْسُونَ دِرْهَمًا وَلَا نُعْطِي مِنْهَا خَمْسِينَ
دِرْهَمًا وَقَالَ آخَرُونَ حَتَّى يَمْلِكَ مِائَتَيْ
دِرْهَمٍ أَوْ عِدْلَهَا مِنْ عرض أَوْ غَيْرِهِ فَاضِلًا
عَمَّا يَحْتَاجُ إلَيْهِ مِنْ مسكن وخادم وأناث وَفَرَسٍ
وَهُوَ قَوْلُ أَصْحَابِنَا وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ وما
رَوَى أَبُو بَكْرٍ الْحَنَفِيُّ قَالَ حَدَّثَنَا عَبْدُ
اللَّه بْنُ جَعْفَرٍ قَالَ حَدَّثَنِي أَبِي عَنْ رَجُلٍ مِنْ
مُزَيْنَةَ أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّه عليه وآله
وَسَلَّمَ يَقُولُ مَنْ سَأَلَ وَلَهُ عِدْلُ خَمْسِ أواق سأل
إلحافها
وَيَدُلُّ عَلَيْهِ مَا
رَوَى اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ قَالَ حَدَّثَنِي سَعِيدُ بْنُ
أَبِي سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيُّ عَنْ شَرِيكِ بْنِ عَبْدِ اللَّه
بْنِ أَبِي نَمِرٍ أَنَّهُ سَمِعَ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ يَقُولُ
إن رجلا قال للنبي صلى اللَّه عليه وآله وَسَلَّمَ آللَّه
أَمَرَك أَنْ تَأْخُذَ هَذِهِ الصَّدَقَةَ مِنْ أَغْنِيَائِنَا
فَتُقَسِّمَهَا عَلَى فُقَرَائِنَا فَقَالَ اللَّهُمَّ نَعَمْ
وَرَوَى يَحْيَى بْنُ عَبْدِ اللَّه بْنِ صَيْفِي عَنْ أَبِي
مَعْبَدٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّه
عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ حِينَ بَعَثَ مُعَاذًا إلَى الْيَمَنِ
قَالَ لَهُ أَخْبِرْهُمْ أَنَّ اللَّه قَدْ فَرَضَ عَلَيْهِمْ
صَدَقَةً تُؤْخَذُ مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ وَتُرَدُّ إلَى
فُقَرَائِهِمْ
وَرَوَى الْأَشْعَثُ عَنْ ابْنِ أَبِي جُحَيْفَةَ عَنْ أَبِيهِ
أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ
بَعَثَ سَاعِيًا عَلَى الصَّدَقَةِ فَأَمَرَهُ أَنْ يَأْخُذَ
الصَّدَقَةَ مِنْ أَغْنِيَائِنَا فَيُقَسِّمَهَا فِي
فُقَرَائِنَا
فلما جعل النبي صلّى اللَّه عليه وآله وَسَلَّمَ النَّاسَ
صِنْفَيْنِ فُقَرَاءَ وَأَغْنِيَاءَ وَأَوْجَبَ أَخْذَ
الصَّدَقَةِ مِنْ صِنْفِ الْأَغْنِيَاءِ وَرَدَّهَا فِي
الْفُقَرَاءِ لم تبق هاهنا وَاسِطَةٌ بَيْنَهُمَا وَلَمَّا
كَانَ الْغَنِيُّ هُوَ الَّذِي مَلَكَ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ
وَمَا دُونَهَا لَمْ يَكُنْ مَالِكُهَا غَنِيًّا وَجَبَ أَنْ
يَكُونَ دَاخِلًا فِي الْفُقَرَاءِ فَيَجُوزُ لَهُ أَخْذُهَا
وَلَمَّا اتَّفَقَ الْجَمِيعُ عَلَى أَنَّ مَنْ كَانَ لَهُ
دُونَ الْغَدَاءِ وَالْعَشَاءِ تَحِلُّ لَهُ الصَّدَقَةُ
عَلِمْنَا أَنَّهَا لَيْسَتْ إبَاحَتُهَا مَوْقُوفَةً عَلَى
الضَّرُورَةِ الَّتِي تَحِلُّ مَعَهَا الْمَيْتَةُ فَوَجَبَ
اعْتِبَارُ مَا يَدْخُلُ بِهِ فِي حَدِّ الْغِنَى وَهُوَ أَنْ
يَمْلِكَ فَضْلًا عَمَّا يَحْتَاجُ إلَيْهِ مِمَّا وَصَفْنَا
مِائَتَيْ دِرْهَمٍ أَوْ مثلها من غرض أَوْ غَيْرِهِ وَأَمَّا
مِلْكُ الْأَرْبَعِينَ دِرْهَمًا وَالْخَمْسِينَ الدِّرْهَمِ
عَلَى مَا رُوِيَ فِي الْأَخْبَارِ الَّتِي قَدَّمْنَا فَإِنَّ
هَذِهِ الْأَخْبَارَ وَارِدَةٌ فِي كَرَاهَةِ الْمَسْأَلَةِ
لَا فِي تَحْرِيمِهَا وَقَدْ تُكْرَهُ الْمَسْأَلَةُ لمن عنده
ما يعنيه فِي الْوَقْتِ لَا سِيَّمَا فِي أَوَّلِ مَا هاجر
النبي صلّى اللَّه عليه وآله وَسَلَّمَ إلَى الْمَدِينَةِ
(4/331)
مَعَ كَثْرَةِ فُقَرَاءِ الْمُسْلِمِينَ
وَقِلَّةِ ذَاتِ أَيْدِيهِمْ فاستحب النبي صلّى اللَّه عليه
وآله وَسَلَّمَ لِمَنْ عِنْدَهُ مَا يَكْفِيه تَرْكَ
الْمَسْأَلَةِ لِيَأْخُذَهَا مَنْ هُوَ أَوْلَى مِنْهُ مِمَّنْ
لَا يَجِدُ شَيْئًا وَهُوَ نَحْوُ
قَوْلِهِ صَلَّى اللَّه عليه وآله وَسَلَّمَ مَنْ اسْتَغْنَى
أَغْنَاهُ اللَّه وَمَنْ اسْتَعَفَّ أعفه اللَّه ومن لا يسئلنا
أحب إلينا ممن يسئلنا
وقوله صلّى اللَّه عليه وآله وَسَلَّمَ لَأَنْ يَأْخُذَ
أَحَدُكُمْ حَبْلًا فَيَحْتَطِبَ خَيْرٌ له من أن يسئل
النَّاسَ أَعْطَوْهُ أَوْ مَنَعُوهُ
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ فَاطِمَةَ بِنْتِ الْحُسَيْنِ عَنْ
الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّه صَلَّى
اللَّه عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ لِلسَّائِلِ حَقٌّ وَإِنْ
جَاءَ عَلَى فَرَسٍ
فأمر النبي صلى اللَّه عليه وآله وَسَلَّمَ بِإِعْطَاءِ
السَّائِلِ مَعَ مِلْكِهِ لِلْفَرَسِ وَالْفَرَسُ فِي أَكْثَرِ
الْحَالِ تُسَاوِي أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعِينَ دِرْهَمًا أَوْ
خَمْسِينَ دِرْهَمًا
وَقَدْ رَوَى يَحْيَى بْنُ آدَمَ قَالَ حَدَّثَنَا عَلِيُّ
بْنُ هَاشِمٍ عَنْ إبْرَاهِيمَ بْنِ يَزِيدَ الْمَكِّيِّ عَنْ
الْوَلِيدِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّه عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ
سَأَلَ رَجُلٌ رَسُولَ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وآله
وَسَلَّمَ إنَّ لِي أَرْبَعِينَ دِرْهَمًا أَفَمِسْكِينٌ أَنَا
قَالَ نَعَمْ
وَحَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي بْنُ قَانِعٍ قَالَ حَدَّثَنَا
يَعْقُوبُ بْنُ يُوسُفَ الْمُطَّوِّعِيُّ قَالَ حَدَّثَنَا
أَبُو مُوسَى الْهَرَوِيُّ قَالَ حَدَّثَنَا الْمُعَافَى قَالَ
حَدَّثَنَا إبْرَاهِيمُ بْنُ يَزِيدَ الْجَزَرِيُّ قَالَ
حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ بْنُ عَبْدِ اللَّه بْنِ أَبِي مُغِيثٍ
عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ قَالَ رَجُلٌ يَا رَسُولَ اللَّه
عِنْدِي أَرْبَعُونَ دِرْهَمًا أَمِسْكِينٌ أَنَا قَالَ نَعَمْ
فَأَبَاحَ لَهُ الصَّدَقَةَ مَعَ مِلْكِهِ لِأَرْبَعِينَ
دِرْهَمًا حِينَ سَمَّاهُ مِسْكِينًا إذْ كَانَ اللَّه قَدْ
جَعَلَ الصَّدَقَةَ لِلْمَسَاكِينِ وَرَوَى أبو يوسف عن غالب
ابن عُبَيْدِ اللَّه عَنْ الْحَسَنِ قَالَ كَانَ أَصْحَابُ
رَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عليه وآله وَسَلَّمَ يَقْبَلُ
أَحَدُهُمْ الصَّدَقَةَ وَلَهُ مِنْ السِّلَاحِ وَالْكُرَاعِ
وَالْعَقَارِ قِيمَةُ عَشَرَةِ آلَافِ دِرْهَمٍ وَرَوَى
الْأَعْمَشُ عَنْ إبْرَاهِيمَ قَالَ كَانُوا لَا يَمْنَعُونَ
الزكاة من له من الْبَيْتُ وَالْخَادِمُ وَرَوَى شُعْبَةُ عَنْ
قَتَادَةَ عَنْ الْحَسَنِ قَالَ مَنْ لَهُ مَسْكَنٌ وَخَادِمٌ
أُعْطِيَ مِنْ الزَّكَاةِ وَرَوَى جَعْفَرِ بْنِ أَبِي
الْمُغِيرَةِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ يُعْطَى مَنْ
لَهُ دَارٌ وَخَادِمٌ وَفَرَسٌ وَسِلَاحٌ يُعْطَى مَنْ إذا لم
يكن له ذلك الشيء واحتاج إلَيْهِ وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي ذَلِكَ
مِنْ وَجْهٍ آخَرَ فَقَالَ قَائِلُونَ مَنْ كَانَ قَوِيًّا
مُكْتَسِبًا لَمْ تَحِلَّ لَهُ الصَّدَقَةُ وَإِنْ لَمْ
يَمْلِكْ شَيْئًا وَاحْتَجُّوا بِمَا
رَوَى أَبُو بَكْرِ بْنُ عَيَّاشٍ عَنْ أَبِي حُصَيْنٍ عَنْ
سَالِمِ بْنِ أَبِي الْجَعْدِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ
قَالَ رَسُولُ اللَّه صلّى اللَّه عليه وآله وَسَلَّمَ لَا
تَحِلُّ الصَّدَقَةُ لِغَنِيٍّ وَلَا لِذِي مِرَّةٍ سَوِيٍّ
وَرَوَاهُ أَبُو بَكْرِ بْنُ عَيَّاشٍ أَيْضًا عَنْ أَبِي
جَعْفَرٍ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عليه وآله وَسَلَّمَ مِثْلُهُ
وَرَوَى سَعْدُ بْنُ إبْرَاهِيمَ عَنْ رَيْحَانَ بْنِ يَزِيدَ
عَنْ عَبْدِ اللَّه بْنِ عَمْرٍو عَنْ النَّبِيِّ صلّى اللَّه
عليه وآله وَسَلَّمَ قَالَ لَا تَحِلُّ الصَّدَقَةُ لِغَنِيٍّ
وَلَا لِقَوِيٍّ مُكْتَسِبٍ
وَهَذَا عِنْدَنَا عَلَى وَجْهِ الْكَرَاهَةِ لَا عَلَى جِهَةِ
التَّحْرِيمِ عَلَى النَّحْوِ الَّذِي ذَكَرْنَا فِي كَرَاهَةِ
الْمَسْأَلَةِ فَإِنْ قِيلَ قَوْلُهُ لَا تَحِلُّ الصَّدَقَةُ
لِغَنِيٍّ عَلَى
(4/332)
وَجْهِ التَّحْرِيمِ وَامْتِنَاعِ جَوَازِ
إعْطَائِهِ الزَّكَاةَ كَذَلِكَ الْقَوِيُّ الْمُكْتَسِبُ
قِيلَ لَهُ يَجُوزُ أَنْ يُرِيدَ الْغِنَى الَّذِي يَسْتَغْنِي
بِهِ عَنْ الْمَسْأَلَةِ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَقَلُّ
مِنْ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ لَا الْغِنَى الَّذِي يَجْعَلُهُ فِي
حَيِّزِ مَنْ يَمْلِكُ مَا تَجِبُ فِي مِثْلِهِ الزَّكَاةُ إذْ
قَدْ يَجُوزُ أَنْ يُسَمَّى غَنِيًّا لِاسْتِغْنَائِهِ بِمَا
يَمْلِكُهُ عَنْ الْمَسْأَلَةِ وَلَمْ يُرِدْ بِهِ الْغِنَى
الَّذِي يَتَعَلَّقُ بِمِلْكِ مِثْلِهِ وُجُوبُ الْغِنَى
فَكَانَ قوله لا تحل الصدقة لغني ولا لذي مِرَّةٍ سَوِيٍّ
عَلَى وَجْهِ الْكَرَاهَةِ لِلْمَسْأَلَةِ لِمَنْ كَانَ فِي
مِثْلِ حَالِهِ وَعَلَى أَنَّ حَدِيثَ أَبِي هُرَيْرَةَ هَذَا
فِي قَوْلِهِ لَا تَحِلُّ الصَّدَقَةُ لِغَنِيٍّ وَلَا لَذِي
مِرَّةٍ سَوِيٍّ مُخْتَلَفٌ فِي رَفْعِهِ فَرَوَاهُ أَبُو
بَكْرِ بْنُ عَيَّاشٍ مَرْفُوعًا عَلَى مَا قَدَّمْنَا
وَرَوَاهُ أَبُو يُوسُفَ عَنْ حُصَيْنٍ عَنْ أَبِي حَازِمٍ
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مِنْ قَوْلِهِ غَيْرَ مَرْفُوعٍ
وَحَدِيثُ عَبْدِ اللَّه بن عمرو
ورواه شُعْبَةُ وَالْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ عَنْ سَعْدِ بْنِ
إبْرَاهِيمَ عَنْ رَيْحَانَ بْنِ يَزِيدَ عَنْ عَبْدِ اللَّه
بْنِ عَمْرٍو مَوْقُوفًا عَلَيْهِ مِنْ قَوْلِهِ وَقَالَ لَا
تَحِلُّ الصَّدَقَةُ لِغَنِيٍّ وَلَا لِذِي مِرَّةٍ سَوِيٍّ
وَرَوَاهُ سُفْيَانُ عَنْ سَعْدِ بْنِ إبْرَاهِيمَ عَنْ
رَيْحَانَ بْنِ يَزِيدَ عَنْ عَبْدِ اللَّه بْنِ عَمْرٍو عَنْ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عليه وآله وَسَلَّمَ قَالَ لَا
تَحِلُّ الصَّدَقَةُ لِغَنِيٍّ وَلَا لِقَوِيٍّ مُكْتَسِبٍ
فَاخْتَلَفُوا فِي رَفْعِهِ وَظَاهِرُ قَوْله تعالى إنما
الصدقات للفقراء والمساكين عَامٌّ فِي سَائِرِهِمْ مَنْ قَدَرَ
مِنْهُمْ عَلَى الْكَسْبِ وَمَنْ لَمْ يَقْدِرْ وَكَذَلِكَ
قَوْله تَعَالَى فى أموالهم حق معلوم للسائل والمحروم
يَقْتَضِي وُجُوبَ الْحَقِّ لِلسَّائِلِ الْقَوِيِّ
الْمُكْتَسِبِ إذْ لَمْ تُفَرِّقْ الْآيَةُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ
غَيْرِهِ وَيَدُلُّ أَيْضًا قَوْله تَعَالَى لِلْفُقَرَاءِ
الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا يَسْتَطِيعُونَ
ضَرْبًا فِي الأَرْضِ يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف وَلَمْ
يُفَرِّقْ بَيْنَ الْقَوِيِّ الْمُكْتَسِبِ وَبَيْنَ مَنْ لَا
يَكْتَسِبُ مِنْ الضُّعَفَاءِ فَهَذِهِ الْآيَاتُ كُلُّهَا
قاضية ببطلان قوله القائل بأن الزكاة لا تعطى للفقير إذَا
كَانَ قَوِيًّا مُكْتَسِبًا وَلَا يَجُوزُ تَخْصِيصُهَا
بِخَبَرِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَعَبْدِ اللَّه بْنِ عَمْرٍو الذين
ذكرنا لاختلافهم في رفعه واضطرب مَتْنِهِ لِأَنَّ بَعْضَهُمْ
يَقُولُ قَوِيٍّ مُكْتَسِبٍ وَبَعْضُهُمْ لِذِي مِرَّةٍ
سَوِيٍّ وَقَدْ رُوِيَتْ أَخْبَارٌ هِيَ أَشَدُّ اسْتِفَاضَةً
وَأَصَحُّ طُرُقًا مِنْ هَذَيْنِ الْحَدِيثَيْنِ مُعَارَضَةً
لَهُمَا مِنْهَا
حَدِيثُ أَنَسٍ وَقَبِيصَةَ بْنِ الْمُخَارِقِ أَنَّ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ قَالَ إنَّ
الصَّدَقَةَ لَا تَحِلُّ إلَّا فِي إحْدَى ثَلَاثٍ فَذَكَرَ
إحْدَاهُنَّ فَقْرٌ مُدْقِعٌ وَقَالَ أَوْ رَجُلٌ أَصَابَتْهُ
فَاقَةٌ أَوْ رَجُلٌ أَصَابَتْهُ جَائِحَةٌ
وَلَمْ يَشْرُطْ فِي شَيْءٍ مِنْهَا عَدَمَ الْقُوَّةِ
وَالْعَجْزَ عَنْ الِاكْتِسَابِ وَمِنْهَا
حَدِيثُ سُلَيْمَانَ أَنَّهُ حَمَلَ إلَى رَسُولِ اللَّه
صَلَّى اللَّه عليه وآله وَسَلَّمَ صَدَقَةً فَقَالَ
لِأَصْحَابِهِ كُلُوا وَلَمْ يَأْكُلْ
وَمَعْلُومٌ أَنَّ أَصْحَابَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه
عَلَيْهِ وآله وسلم كانوا أقوياء مكتسين ولم يخص النبي صلّى
اللَّه عليه وآله وَسَلَّمَ بِهَا مَنْ كَانَ مِنْهُمْ زَمِنًا
أَوْ عاجزا عن
(4/333)
الِاكْتِسَابِ وَمِنْهَا
حَدِيثُ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ عَنْ عُبَيْدِ اللَّه بْنِ
عَدِيِّ بْنِ الْخِيَارِ أَنَّ رَجُلَيْنِ مِنْ الْعَرَبِ
حَدَّثَاهُ أَنَّهُمَا أَتَيَا النَّبِيَّ صلّى اللَّه عليه
وآله وَسَلَّمَ فَسَأَلَاهُ مِنْ الصَّدَقَةِ فَصَعَّدَ
فِيهِمَا الْبَصَرَ وَصَوَّبَهُ فَرَآهُمَا جَلْدَيْنِ فَقَالَ
إنْ شِئْتُمَا أَعْطَيْتُكُمَا وَلَا حَظَّ فِيهَا لِغَنِيٍّ
وَلَا لِقَوِيٍّ مُكْتَسِبٍ فَلَمَّا قَالَ لَهُمَا إنْ
شِئْتُمَا أَعْطَيْتُكُمَا وَلَوْ كَانَ مُحَرَّمًا مَا
أَعْطَاهُمَا مَعَ مَا ظَهَرَ لَهُ مِنْ جَلَدِهِمَا
وَقُوَّتِهِمَا
وَأَخْبَرَ مَعَ ذَلِكَ أنه لاحظ فِيهَا لِغَنِيٍّ وَلَا
لِقَوِيٍّ مُكْتَسِبٍ فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ أَرَادَ بِذَلِكَ
كَرَاهَةَ الْمَسْأَلَةِ وَمَحَبَّةَ النَّزَاهَةِ لِمَنْ
كَانَ مَعَهُ مَا يُغْنِيهِ أَوْ قَدَرَ عَلَى الْكَسْبِ
فَيَسْتَغْنِي بِهِ عَنْهَا وَقَدْ يُطْلَقُ مِثْلُ هَذَا
عَلَى وَجْهِ التَّغْلِيظِ لَا عَلَى وَجْهِ تَحْقِيقِ
الْمَعْنَى كَمَا
قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّه عليه وآله وَسَلَّمَ لَيْسَ
بِمُؤْمِنٍ مَنْ يَبِيتُ شَبْعَانًا وَجَارُهُ جائع
وقال لَا دِينَ لِمَنْ لَا أَمَانَةَ لَهُ
وَقَالَ لَيْسَ الْمِسْكِينُ بِالطَّوَّافِ الَّذِي تَرُدُّهُ
اللُّقْمَةُ وَاللُّقْمَتَانِ
وَلَمْ يُرِدْ بِهِ نَفْيَ الْمَسْكَنَةِ عَنْهُ رَأْسًا
حَتَّى تَحْرُمَ عَلَيْهِ الصَّدَقَةُ وَإِنَّمَا أَرَادَ
لَيْسَ حكمه كحكم الذي لا يسئل وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ وَلَا
حَقَّ فِيهَا لِغَنِيٍّ وَلَا لِقَوِيٍّ مُكْتَسِبٍ عَلَى
مَعْنَى أَنَّهُ لَيْسَ حَقُّهُ فِيهَا كَحَقِّ الزَّمِنِ
الْعَاجِزِ عَنْ الْكَسْبِ وَيَدُلُّ عليه
قوله صلّى اللَّه عليه وآله وَسَلَّمَ أُمِرْت أَنْ آخُذَ
الصَّدَقَةَ مِنْ أَغْنِيَائِكُمْ وَأَرُدَّهَا فِي
فُقَرَائِكُمْ
فَعَمَّ سَائِرَ الْفُقَرَاءِ الزَّمْنَى منهم والأصحاء وأيضا
قد كانت الصدقات والزكاة تحل إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه
وآله وَسَلَّمَ فَيُعْطِيهَا فُقَرَاءَ الصَّحَابَةِ مِنْ
الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَأَهْلِ الصُّفَّةِ وَكَانُوا
أَقْوِيَاءَ مُكْتَسِبِينَ وَلَمْ يَكُنْ يَخُصُّ بِهَا
الزَّمْنَى دُونَ الْأَصِحَّاءِ وَعَلَى هَذَا أَمْرُ النَّاسِ
مِنْ لَدُنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عليه وآله وَسَلَّمَ
إلَى يَوْمِنَا يُخْرِجُونَ صَدَقَاتِهِمْ إلَى الْفُقَرَاءِ
والأقوياء وَالضُّعَفَاءِ مِنْهُمْ لَا يَعْتَبِرُونَ مِنْهَا
ذَوِي الْعَاهَاتِ وَالزَّمَانَةِ دُونَ الْأَقْوِيَاءِ
الْأَصِحَّاءِ وَلَوْ كَانَتْ الصَّدَقَةُ مُحَرَّمَةً
وَغَيْرَ جَائِزَةٍ عَلَى الْأَقْوِيَاءِ الْمُكْتَسِبِينَ
الْفُرُوضَ مِنْهَا أَوْ النَّوَافِلَ لَكَانَ مِنْ النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّه عليه وآله وَسَلَّمَ تَوْقِيفٌ لِلْكَافَّةِ
عَلَيْهِ لِعُمُومِ الْحَاجَةِ إلَيْهِ فَلَمَّا لَمْ يَكُنْ
مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وآله وسلم توقيف
للكافة على حظر دفع الزكاة إلى الأقوياء من الفقراء والمكتسبين
مِنْ أَهْلِ الْحَاجَةِ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ مِنْهُ تَوْقِيفٌ
لِلْكَافَّةِ لَوَرَدَ النَّقْلُ بِهِ مُسْتَفِيضًا دَلَّ
ذَلِكَ عَلَى جَوَازِ إعْطَائِهَا الْأَقْوِيَاءَ
الْمُتَكَسِّبِينَ مِنْ الْفُقَرَاءِ كَجَوَازِ إعْطَائِهَا
الزَّمْنَى وَالْعَاجِزِينَ عَنْ الِاكْتِسَابِ.
بَابُ ذَوِي الْقُرْبَى الَّذِينَ تَحْرُمُ عَلَيْهِمْ
الصَّدَقَةُ
قَالَ أَصْحَابُنَا مَنْ تَحْرُمُ عَلَيْهِمْ الصَّدَقَةُ
مِنْهُمْ آل عباس وآل علي وآل جعفر وآل عقيل وولد حارث بْنِ
عَبْدِ الْمُطَّلِبِ جَمِيعًا وَحَكَى الطَّحَاوِيُّ عَنْهُمْ
وَوَلَدُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ وَلَمْ أَجِدْ ذَلِكَ عَنْهُمْ
رِوَايَةً وَاَلَّذِي تَحْرُمُ عَلَيْهِمْ مِنْ ذَلِكَ
الصَّدَقَاتُ الْمَفْرُوضَةُ وَأَمَّا التَّطَوُّعُ فَلَا
بَأْسَ
(4/334)
بِهِ وَذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ أَنَّهُ
رُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَلَيْسَ بِالْمَشْهُورِ أَنَّ
فُقَرَاءَ بَنِي هَاشِمٍ يَدْخُلُونَ فِي آيَةِ الصَّدَقَاتِ
ذَكَرَهُ فِي أَحْكَامِ الْقُرْآنِ قَالَ وَقَالَ أَبُو
يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ لَا يَدْخُلُونَ قَالَ أَبُو بَكْرٍ
الْمَشْهُورُ عَنْ أَصْحَابِنَا جميعا من قدمنا ذكره من آل
عباس وآل علي وآل جعفر وآل عقيل وولد الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ
الْمُطَّلِبِ وَأَنَّ تَحْرِيمَ الصَّدَقَةِ عَلَيْهِمْ خَاصٌّ
فِي الْمَفْرُوضِ مِنْهُ دُونَ التَّطَوُّعِ وَرَوَى ابْنُ
سِمَاعَةَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ الزَّكَاةَ مِنْ بَنِي
هَاشِمٍ تَحِلُّ لِبَنِي هَاشِمٍ وَلَا يَحِلُّ ذَلِكَ مِنْ
غَيْرِهِمْ لَهُمْ وَقَالَ مَالِكٌ لَا تَحِلُّ الزَّكَاةُ
لِآلِ مُحَمَّدٍ وَالتَّطَوُّعُ يحل وقال الثوري ولا تَحِلُّ
الصَّدَقَةُ لِبَنِي هَاشِمٍ وَلَمْ يَذْكُرْ فَرْقًا بَيْنَ
النَّفْلِ وَالْفَرْضِ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ تَحْرُمُ
صَدَقَةُ الْفَرْضِ عَلَى بَنِي هَاشِمٍ وَبَنِي عَبْدِ
الْمُطَّلِبِ وَيَجُوزُ صَدَقَةُ التَّطَوُّعِ عَلَى كُلِّ
أَحَدٍ إلَّا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وآله وَسَلَّمَ
فَإِنَّهُ كَانَ لَا يَأْخُذُهَا وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ
الصَّدَقَةَ الْمَفْرُوضَةَ مُحَرَّمَةٌ عَلَى بَنِي هَاشِمٍ
حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ مَا خَصَّنَا رَسُولُ اللَّه
صلّى اللَّه عليه وآله وَسَلَّمَ بِشَيْءٍ دُونَ النَّاسِ
إلَّا بِثَلَاثٍ إسْبَاغِ الْوُضُوءِ وَأَنْ لَا نَأْكُلَ
الصَّدَقَةَ وَأَنْ لَا نُنْزِيَ الْحَمِيرَ عَلَى الْخَيْلِ
وَرُوِيَ أَنَّ الْحَسَنَ بْنَ عَلِيٍّ أَخَذَ تَمْرَةً مِنْ
الصَّدَقَةِ فَجَعَلَهَا فِي فِيهِ فَأَخْرَجَهَا رَسُولُ
اللَّه صَلَّى اللَّه عليه وآله وَسَلَّمَ وَقَالَ إنَّا آلَ
مُحَمَّدٍ لَا تَحِلُّ لَنَا الصَّدَقَةُ
وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو
دَاوُد قَالَ حَدَّثَنَا نَصْرُ بْنُ عَلِيٍّ قَالَ حَدَّثَنَا
أَبِي عَنْ خَالِدِ بْنِ قَيْسٍ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسٍ
أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّه عليه وآله وَسَلَّمَ وَجَدَ
تَمْرَةً فَقَالَ لَوْلَا أَنِّي أَخَافُ أَنْ تَكُونَ
صَدَقَةً لَأَكَلْتهَا
وَرَوَى بَهْزِ بْنِ حَكِيمٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عَنْ
النَّبِيِّ صلّى اللَّه عليه وآله وَسَلَّمَ فِي الْإِبِلِ
السَّائِمَةِ مِنْ كُلِّ أَرْبَعِينَ ابْنَةُ لَبُونٍ مَنْ
أَعْطَاهَا مُؤْتَجِرًا فَلَهُ أَجْرُهَا وَمَنْ مَنَعَهَا
فَإِنَّا آخِذُوهَا وَشَطْرَ مَالِهِ لَا يَحِلُّ لِآلِ
مُحَمَّدٍ مِنْهَا شَيْءٌ
وَرُوِيَ مِنْ وُجُوهٍ كَثِيرَةٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّه عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ إنَّ الصَّدَقَةَ لَا تَحِلُّ
لِآلِ مُحَمَّدٍ إنَّمَا هِيَ أَوْسَاخُ النَّاسِ
فَثَبَتَ بِهَذِهِ الْأَخْبَارِ تَحْرِيمُ الصَّدَقَاتِ
الْمَفْرُوضَاتِ عَلَيْهِمْ فَإِنْ قِيلَ
رَوَى شريك عَنْ سِمَاكِ بْنِ حَرْبٍ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ
ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ قَدِمَ عِيرُ الْمَدِينَةِ فاشترى منها
النبي صلّى اللَّه عليه وآله وَسَلَّمَ مَتَاعًا فَبَاعَهُ
بِرِبْحِ أَوَاقٍ فِضَّةٍ فَتَصَدَّقَ بِهَا عَلَى أَرَامِلِ
بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ ثُمَّ قَالَ لَا أَعُودُ أَنْ
أَشْتَرِيَ بَعْدَهَا شَيْئًا وَلَيْسَ ثَمَنُهُ عِنْدِي
فَقَدْ تَصَدَّقَ عَلَى هَؤُلَاءِ ومن هَاشِمِيَّاتٌ قِيلَ
لَهُ لَيْسَ فِي الْخَبَرِ أَنَّهُنَّ كمن هَاشِمِيَّاتٍ
وَجَائِزٌ أَنْ لَا يَكُنَّ هَاشِمِيَّاتٍ بَلْ زَوْجَاتِ
بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ مِنْ غَيْرِ بَنِي عَبْدِ
الْمُطَّلِبِ بَلْ عَرَبِيَّاتٍ مِنْ غَيْرِهِمْ وَكُنَّ
أَزْوَاجًا لِبَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ فَمَاتُوا عَنْهُنَّ
وَأَيْضًا فَإِنَّ ذَلِكَ كَانَ صَدَقَةَ تَطَوُّعٍ وَجَائِزٌ
أَنْ يَتَصَدَّقَ عَلَيْهِمْ بِصَدَقَةِ التَّطَوُّعِ
وَأَيْضًا فَإِنَّ حَدِيثَ عِكْرِمَةَ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ
أَوْلَى لِأَنَّ حَدِيثَ ابْنِ عباس أخبر
(4/335)
فِيهِ بِحُكْمِهِ فِيهِمْ بَعْدَ رَسُولِ
اللَّه صَلَّى اللَّه عليه وآله وَسَلَّمَ فَالْحَظْرُ
مُتَأَخِّرٌ لِلْإِبَاحَةِ فَهَذَا أَوْلَى وَأَمَّا بنوا
الْمُطَّلِبِ فَلَيْسُوا مِنْ أَهْلِ بَيْتِ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّه عليه وآله وَسَلَّمَ لِأَنَّ قَرَابَتَهُمْ مِنْهُ
كَقَرَابَةِ بَنِي أُمَيَّةَ وَلَا خِلَافَ أَنَّ بَنِي
أُمَيَّةَ لَيْسُوا مِنْ أهل بيت النبي صلّى اللَّه عليه وآله
وسلم وكذلك بنوا الْمُطَّلِبِ فَإِنْ قِيلَ لَمَّا أَعْطَاهُمْ
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّه عليه وآله وَسَلَّمَ مِنْ الْخُمْسِ
سَهْمَ ذَوِي الْقُرْبَى كَمَا أَعْطَى بَنِي هَاشِمٍ وَلَمْ
يُعْطِ بَنِي أُمَيَّةَ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُمْ
بِمَنْزِلَةِ بَنِي هَاشِمٍ فِي تَحْرِيمِ الصَّدَقَةِ قِيلَ
لَهُ
إنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وآله وسلم لم يعطهم
للقربة فَحَسْبُ لِأَنَّهُ لَمَّا قَالَ عُثْمَانُ بْنُ
عَفَّانَ وَجُبَيْرُ بْنُ مُطْعِمٍ يَا رَسُولَ اللَّه أَمَّا
بَنُو هَاشِمٍ فَلَا نُنْكِرُ فَضْلَهُمْ لِقُرْبِهِمْ مِنْك
وأما بنوا المطلب فحن وَهُمْ فِي النَّسَبِ شَيْءٌ وَاحِدٌ
فَأَعْطَيْتهمْ وَلَمْ تعطنا فقال صلّى اللَّه عليه وآله
وَسَلَّمَ إنَّ بَنِي الْمُطَّلِبِ لَمْ تُفَارِقْنِي فِي
جَاهِلِيَّةٍ وَلَا إسْلَامٍ
فَأَخْبَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّه عليه وآله وَسَلَّمَ
أَنَّهُ لَمْ يُعْطِهِمْ بِالْقَرَابَةِ فَحَسْبُ بَلْ
بِالنُّصْرَةِ وَالْقَرَابَةِ وَلَوْ كَانَتْ إجَابَتُهُمْ
إيَّاهُ وَنُصْرَتُهُمْ لَهُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ
وَالْإِسْلَامِ أَصْلًا لِتَحْرِيمِ الصَّدَقَةِ لَوَجَبَ أَنْ
يَخْرُجَ مِنْهَا آلُ أَبِي لَهَبٍ وَبَعْضَ آلِ الْحَارِثِ
بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ لِأَنَّهُمْ
لَمْ يُجِيبُوهُ وَيَنْبَغِي أَنْ لَا تَحْرُمَ عَلَى مَنْ
وُلِدَ فِي الْإِسْلَامِ مِنْ بَنِي أُمَيَّةَ لِأَنَّهُمْ
لَمْ يُخَالِفُوهُ وَهَذَا سَاقِطٌ وَأَيْضًا فَإِنَّ سَهْمَ
الْخُمُسِ إنَّمَا يَسْتَحِقُّهُ خَاصٌّ مِنْهُمْ وَهُوَ
مَوْكُولٌ إلَى اجْتِهَادِ الْإِمَامِ وَرَأْيِهِ وَلَمْ
يَثْبُتْ خُصُوصُ تَحْرِيمِ الصَّدَقَةِ فِي بعض آل النبي صلّى
اللَّه عليه وآله وَسَلَّمَ وَأَيْضًا فَلَيْسَ اسْتِحْقَاقُ
سَهْمٍ مِنْ الْخُمْسِ أَصْلًا لِتَحْرِيمِ الصَّدَقَةِ
لِأَنَّ الْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ
يَسْتَحِقُّونَ سَهْمًا مِنْ الْخُمْسِ وَلَمْ تَحْرُمْ عليهم
الصَّدَقَةِ عَلَى مَوَالِي بَنِي هَاشِمٍ وَهَلْ أُرِيدُوا
بِآيَةِ الصَّدَقَةِ فَقَالَ أَصْحَابُنَا وَالثَّوْرِيُّ
مَوَالِيهمْ بِمَنْزِلَتِهِمْ في تحريم الصدقات والمفروضات
عَلَيْهِمْ وَقَالَ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ لَا بَأْسَ بِأَنْ
يُعْطَى مَوَالِيهمْ وَاَلَّذِي يَدُلُّ عَلَى الْقَوْلِ
الْأَوَّلِ
حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّه
عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ اسْتَعْمَلَ أَرْقَمَ بْنَ أَرْقَمَ
الزُّهْرِيَّ عَلَى الصَّدَقَةِ فَاسْتَتْبَعَ أَبَا رَافِعٍ
فَقَالَ رَسُولُ اللَّه صلّى اللَّه عليه وآله وَسَلَّمَ إنَّ
الصَّدَقَةَ حَرَامٌ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِ مُحَمَّدٍ وَإِنَّ
مَوْلَى الْقَوْمِ مِنْ أَنْفُسِهِمْ
وَرُوِيَ عَنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ عَنْ أُمِّ كُلْثُومٍ
بِنْتِ عَلِيٍّ عَنْ مَوْلًى لَهُمْ يُقَالُ لَهُ هُرْمُزُ
أَوْ كَيْسَانُ أَنَّ رَسُولَ اللَّه صَلَّى اللَّه عليه وآله
وَسَلَّمَ قَالَ لَهُ يَا أَبَا فُلَانٍ إنَّا أَهْلُ بَيْتٍ
لَا نَأْكُلُ الصَّدَقَةَ وَإِنَّ مَوْلَى الْقَوْمِ مِنْ
أَنْفُسِهِمْ فَلَا تَأْكُلْ الصَّدَقَةَ
وَأَيْضًا لما
قال النبي صلّى اللَّه عليه وآله وَسَلَّمَ الْوَلَاءُ
لُحْمَةٌ كَلُحْمَةِ النَّسَبِ
وَكَانَتْ الصَّدَقَةُ مُحَرَّمَةً عَلَى مَنْ قَرُبَ نَسَبُهُ
مِنْ النَّبِيِّ صلّى اللَّه عليه وآله وسلم وهم بنوا هَاشِمٍ
وَجَبَ أَنْ يَكُونَ مَوَالِيهمْ بِمَثَابَتِهِمْ إذْ كان
النبي صلّى اللَّه عليه وآله وَسَلَّمَ قَدْ جَعَلَهُ لُحْمَةً
كَالنَّسَبِ وَاخْتُلِفَ فِي جَوَازِ أَخْذِ بَنِي هَاشِمٍ
(4/336)
لِلْعِمَالَةِ مِنْ الصَّدَقَةِ إذَا
عَمِلُوا عَلَيْهَا فَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ مِنْ
غَيْرِ خِلَافٍ ذَكَرَاهُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ لَا يَجُوزُ
أَنْ يَعْمَلَ عَلَى الصَّدَقَةِ أَحَدٌ مِنْ بَنِي هَاشِمٍ
وَلَا يَأْخُذُ عِمَالَتَهُ مِنْهَا
قَالَ مُحَمَّدٌ وَإِنَّمَا يَصْنَعُ مَا كَانَ يَأْخُذُهُ
عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ فِي
خُرُوجِهِ إلَى الْيَمَنِ عَلَى أَنَّهُ كَانَ يَأْخُذُ مِنْ
غَيْرِ الصَّدَقَةِ
قَالَ أَبُو بَكْرٍ يَعْنِي بِقَوْلِهِ لَا يَعْمَلُ عَلَى
الصَّدَقَةِ عَلَى مَعْنَى أَنَّهُ يَعْمَلُهَا لِيَأْخُذَ
عِمَالَتَهَا فَأَمَّا إذَا عَمِلَ عَلَيْهَا مُتَبَرِّعًا
عَلَى أَنْ لَا يَأْخُذَ شَيْئًا فَهَذَا لَا خِلَافَ بَيْنَ
أَهْلِ الْعِلْمِ فِي جَوَازِهِ وَقَالَ آخَرُونَ لَا بَأْسَ
بِالْعِمَالَةِ لَهُمْ مِنْ الصَّدَقَةِ وَالدَّلِيلُ عَلَى
صِحَّةِ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ
مَا حَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي بْنُ قَانِعٍ قَالَ
حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَ حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ
قَالَ حَدَّثَنَا مَعْمَرٌ قَالَ سَمِعْت أَبِي يُحَدِّثُ عَنْ
جَيْشٍ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ بَعَثَ
نَوْفَلُ بْنُ الْحَارِثِ ابْنَيْهِ إلَى رَسُولِ اللَّه
صَلَّى اللَّه عليه وآله وَسَلَّمَ فَقَالَ انْطَلِقَا إلَى
عَمِّكُمَا لَعَلَّهُ يَسْتَعْمِلُكُمَا عَلَى الصَّدَقَةِ
فَجَاءَا فَحَدَّثَا نَبِيَّ اللَّه صَلَّى اللَّه عليه وآله
وَسَلَّمَ بِحَاجَتِهِمَا فَقَالَ لَهُمَا نَبِيُّ اللَّه
صَلَّى اللَّه عليه وآله وَسَلَّمَ لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَهْلِ
الْبَيْتِ مِنْ الصَّدَقَاتِ شَيْءٌ لِأَنَّهَا غُسَالَةُ
الْأَيْدِي إنَّ لَكُمْ فِي خُمْسِ الْخُمْسِ مَا يُغْنِيكُمَا
أَوْ يَكْفِيكُمَا
وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ أَنَّهُ قَالَ لِلْعَبَّاسِ سَلْ النبي
صلّى اللَّه عليه وآله وَسَلَّمَ أَنْ يَسْتَعْمِلَك عَلَى
الصَّدَقَةِ فَسَأَلَهُ فَقَالَ مَا كُنْت لِأَسْتَعْمِلكَ
عَلَى غُسَالَةِ ذُنُوبِ النَّاسِ
وَرَوَى الْفَضْلُ بْنُ الْعَبَّاسِ وَعَبْدُ الْمُطَّلِبِ
بْنُ رَبِيعَةَ بْنِ الْحَارِثِ سَأَلَا النَّبِيَّ صَلَّى
اللَّه عليه وآله وَسَلَّمَ أَنْ يَسْتَعْمِلَهُمَا عَلَى
الصَّدَقَةِ لِيُصِيبَا مِنْهَا فَقَالَ إنَّ الصَّدَقَةَ لَا
تَحِلُّ لِآلِ مُحَمَّدٍ فَمَنَعَهُمَا أَخْذَ الْعِمَالَةِ
وَمَنَعَ أَبَا رَافِعٍ ذَلِكَ أَيْضًا وَقَالَ مَوْلَى
الْقَوْمِ مِنْهُمْ
وَاحْتَجَّ الْمُبِيحُونَ لذلك بأن
النبي صلّى اللَّه عليه وآله وَسَلَّمَ بَعَثَ عَلِيًّا إلَى
الْيَمَنِ عَلَى الصَّدَقَةِ رَوَاهُ جَابِرٌ وَأَبُو سَعِيدٍ
جَمِيعًا وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ قَدْ كَانَتْ وِلَايَتُهُ عَلَى
الصَّدَقَاتِ وَغَيْرِهَا وَلَا حُجَّةَ فِي هَذَا لَهُمْ
لِأَنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ أَنَّ عَلِيًّا أَخَذَ عِمَالَتَهُ
مِنْهَا وَقَدْ قَالَ اللَّه تعالى لنبيه صلّى اللَّه عليه
وآله وسلم خذ من أموالهم صدقة ومعلوم أنه صلّى اللَّه عليه
وآله وَسَلَّمَ لَمْ يَكُنْ يَأْخُذُ مِنْ الصَّدَقَةِ
عِمَالَةً
وَقَدْ كَانَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ حِينَ خَرَجَ إلَى
الْيَمَنِ فَوَلِيَ الْقَضَاءَ وَالْحَرْبَ بِهَا
فَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ أَخَذَ رِزْقَهُ مِنْ مَالِ الْفَيْءِ
لَا مِنْ جِهَةِ الصَّدَقَةِ فَإِنْ قِيلَ فَقَدْ يَجُوزُ أَنْ
يَأْخُذَ الْغَنِيُّ عِمَالَتَهُ مِنْهَا وإن لم تحل له الصدقة
فكذلك بنوا هَاشِمٍ قِيلَ لَهُ لِأَنَّ الْغَنِيَّ مِنْ أَهْلِ
هَذِهِ الصَّدَقَةِ لَوْ افْتَقَرَ أَخَذَ مِنْهَا
وَالْهَاشِمِيَّ لَا يَأْخُذُ مِنْهَا بِحَالٍ فَإِنْ قِيلَ
إنَّ الْعَامِلَ لَا يَأْخُذُ عِمَالَتَهُ صَدَقَةً وَإِنَّمَا
يَأْخُذُ أُجْرَةً لِعَمَلِهِ كَمَا رُوِيَ أَنَّ بَرِيرَةَ
كَانَتْ تهدى للنبي صلّى اللَّه عليه وآله وَسَلَّمَ مِمَّا
يُتَصَدَّقُ بِهِ عَلَيْهَا
وَيَقُولُ صَلَّى اللَّه عليه وآله وَسَلَّمَ هِيَ لَهَا
صَدَقَةٌ وَلَنَا هَدِيَّةٌ
قِيلَ لَهُ الْفَصْلُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الصَّدَقَةَ كَانَتْ
تَحْصُلُ فِي مِلْكِ بَرِيرَةَ ثُمَّ تُهْدِيهَا لِلنَّبِيِّ
صَلَّى اللَّه عليه وآله وَسَلَّمَ فَكَانَ بَيْنَ مِلْكِ
الْمُتَصَدِّقِ وَبَيْنَ مِلْكِ النبي
(4/337)
صلى اللَّه عليه وآله وَسَلَّمَ وَاسِطَةُ
مِلْكٍ آخَرَ وَلَيْسَ بَيْنَ مِلْكِ الْمَأْخُوذِ مِنْهُ
وَبَيْنَ مِلْكِ الْعَامِلِ وَاسِطَةٌ لِأَنَّهَا لَا تَحْصُلُ
فِي مِلْكِ الْفُقَرَاءِ حَتَّى يَأْخُذَهَا الْعَامِلُ.
بَابُ مَنْ لَا يَجُوزُ أَنْ يُعْطَى مِنْ الزَّكَاةِ مِنْ
الْفُقَرَاءِ
قَالَ اللَّه تَعَالَى إنما الصدقات للفقراء والمساكين
فَاقْتَضَى ظَاهِرُهُ جَوَازَ إعْطَائِهَا لِمَنْ شَمِلَهُ
الِاسْمُ مِنْهُمْ قَرِيبًا كَانَ أَوْ بَعِيدًا لَوْلَا
قِيَامُ الدَّلَالَةِ عَلَى مَنْعِ إعْطَاءِ بَعْضِ
الْأَقْرِبَاءِ وَقَدْ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي ذَلِكَ
فَقَالَ أَصْحَابُنَا جَمِيعًا لا يعطى منها والد وَإِنْ عَلَا
وَلَا وَلَدًا وَإِنْ سَفَلَ وَلَا امْرَأَةً وَقَالَ مَالِكٌ
وَالثَّوْرِيُّ وَالْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ لَا يُعْطَى مَنْ
تَلْزَمُهُ نَفَقَتُهُ وَقَالَ ابْنُ شُبْرُمَةَ لَا يُعْطَى
مِنْ الزَّكَاةِ قَرَابَتُهُ الَّذِينَ يَرِثُونَهُ وَإِنَّمَا
يُعْطَى مَنْ لَا يَرِثُهُ وَلَيْسَ فِي عِيَالِهِ وَقَالَ
الْأَوْزَاعِيُّ لَا يَتَخَطَّى بِزَكَاةِ مَالِهِ فُقَرَاءَ
أَقَارِبِهِ إذَا لَمْ يَكُونُوا مِنْ عِيَالِهِ وَيَتَصَدَّقُ
عَلَى مَوَالِيهِ مِنْ غَيْرِ زَكَاةٍ ماله وَقَالَ اللَّيْثُ
لَا يُعْطَى الصَّدَقَةَ الْوَاجِبَةَ مَنْ يَعُولُ وَقَالَ
الْمُزَنِيّ عَنْ الشَّافِعِيِّ فِي مُخْتَصَرِهِ وَيُعْطَى
الرَّجُلُ مِنْ الزَّكَاةِ مَنْ لَا تَلْزَمُهُ نَفَقَتُهُ
مِنْ قَرَابَتِهِ وَهُمْ مَنْ عَدَا الْوَلَدَ وَالْوَالِدَ
وَالزَّوْجَةَ إذَا كَانُوا أَهْلَ حَاجَةٍ فَهُمْ أَحَقُّ
بِهَا مِنْ غَيْرِهِمْ وَإِنْ كَانَ يُنْفِقُ عَلَيْهِمْ
تَطَوُّعًا قَالَ أَبُو بَكْرٍ فَحَصَلَ مِنْ اتِّفَاقِهِمْ
أَنَّ الْوَلَدَ وَالْوَالِدَ وَالزَّوْجَةَ لَا يُعْطَوْنَ
مِنْ الزَّكَاةِ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَيْضًا
قَوْلُهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ أَنْتَ
وَمَالُك لِأَبِيك
وَقَالَ إنَّ أَطْيَبَ مَا أَكَلَ الرَّجُلُ مِنْ كَسْبِهِ
وَإِنَّ وَلَدَهُ مِنْ كَسْبِهِ فَإِذَا كَانَ مَالُ الرَّجُلِ
مُضَافًا إلَى أَبِيهِ وَمَوْصُوفًا بِأَنَّهُ مِنْ كَسْبِهِ
فَهُوَ مَتَى أَعْطَى ابْنَهُ فَكَأَنَّهُ بَاقٍ فِي مِلْكِهِ
لِأَنَّ مِلْكَ ابْنِهِ مَنْسُوبٌ إلَيْهِ فَلَمْ تَحْصُلْ
صَدَقَةٌ صَحِيحَةٌ وَإِذَا صَحَّ ذَلِكَ فِي الِابْنِ
فَالْأَبُ مِثْلُهُ إذْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَنْسُوبٌ
إلَى الْآخَرِ مِنْ طَرِيقِ الْوِلَادَةِ وَأَيْضًا قَدْ
ثَبَتَ عِنْدَنَا بُطْلَانُ شَهَادَةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا
لِصَاحِبِهِ فَلَمَّا جَعَلَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِيمَا
يُحَصِّلُهُ بِشَهَادَتِهِ لِصَاحِبِهِ كَأَنَّهُ يُحَصِّلُهُ
لِنَفْسِهِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ إعْطَاؤُهُ إيَّاهُ الزَّكَاةَ
كَتَبْقِيَتِهِ فِي مِلْكِهِ وَقَدْ أَخَذَ عَلَيْهِ فِي
الزَّكَاةِ إخْرَاجَهَا إلَى مِلْكِ الْفَقِيرِ إخْرَاجًا
صَحِيحًا وَمَتَى أَخْرَجَهَا إلَى مَنْ لَا تَجُوزُ لَهُ
شَهَادَتُهُ فَلَمْ يَنْقَطِعْ حَقُّهُ عَنْهُ وَهُوَ
بِمَنْزِلَةِ مَا هُوَ بَاقٍ فِي مِلْكِهِ فَلِذَلِكَ لَمْ
يُجْزِهِ وَلِهَذِهِ الْعِلَّةِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُعْطِيَ
زَوْجَتَهُ مِنْهَا وَأَمَّا اعْتِبَارُ النَّفَقَةِ فَلَا
مَعْنَى لَهُ لِأَنَّ النَّفَقَةَ حَقٌّ يَلْزَمُهُ وَلَيْسَتْ
بِآكَدَ مِنْ الدُّيُونِ الَّتِي ثَبَتَتْ لِبَعْضِهِمْ عَلَى
بَعْضٍ فَلَا يَمْنَعُ ثُبُوتُهَا مِنْ جَوَازِ دَفْعِ
الزَّكَاةِ إلَيْهِ وَعُمُومُ الْآيَةِ يَقْتَضِي جَوَازَ
دَفْعِهَا إلَيْهِ بِاسْمِ الْفَقْرِ وَلَمْ تَقُمْ
الدَّلَالَةُ عَلَى تَخْصِيصِهِ فَلَمْ يَجُزْ إخْرَاجُهَا
لِأَجْلِ النَّفَقَةِ مِنْ عُمُومِهَا وَأَيْضًا
قَالَ النبي صلّى اللَّه عليه وآله وَسَلَّمَ خَيْرُ
الصَّدَقَةِ
(4/338)
مَا كَانَ عَنْ ظَهْرِ غِنًى وَابْدَأْ
بِمَنْ تَعُولُ
وَذَلِكَ عُمُومٌ فِي جَوَازِ دَفْعِ سَائِرِ الصَّدَقَاتِ
إلَى مَنْ يَعُولُ وَخَرَجَ الْوَلَدُ وَالْوَالِدُ
وَالزَّوْجَانِ بِدَلَالَةٍ فَإِنْ قِيلَ إنَّمَا لَمْ يَجُزْ
إعْطَاءُ الْوَالِدِ وَالْوَلَدِ لِأَنَّهُ تَلْزَمُهُ
نَفَقَتُهُ قِيلَ لَهُ هَذَا غَلَطٌ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ
الْوَلَدُ وَالْوَالِدُ مُسْتَغْنِيَيْنِ بِقَدْرِ الْكَفَافِ
وَلَمْ تَكُنْ عَلَى صَاحِبِ الْمَالِ نَفَقَتُهُمَا لَمَا
جَازَ أَنْ يُعْطِيَهُمَا مِنْ الزَّكَاةِ لِأَنَّهُمَا
مَمْنُوعَانِ مِنْهَا مَعَ لُزُومِ النَّفَقَةِ وَسُقُوطِهَا
فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْمَانِعَ مِنْ دَفْعِهَا إلَيْهِمَا
أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَنْسُوبٌ إلَى الْآخَرِ
بِالْوِلَادَةِ وَأَنَّ وَاحِدًا مِنْهُمَا لَا يجوز
شَهَادَتُهُ لِلْآخَرِ وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْمَعْنَيَيْنِ
عِلَّةٌ فِي مَنْعِ دَفْعِ الزَّكَاةِ وَاخْتَلَفُوا فِي
إعْطَاءِ الْمَرْأَةِ زَوْجَهَا مِنْ زَكَاةِ الْمَالِ قَالَ
أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ لَا تُعْطِيهِ وَقَالَ أَبُو
يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ وَالثَّوْرِيُّ وَالشَّافِعِيُّ تُعْطِيهِ
وَالْحُجَّةُ لِلْقَوْلِ الْأَوَّلِ أَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ أَنَّ
شَهَادَةَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الزَّوْجَيْنِ لِصَاحِبِهِ
غَيْرُ جَائِزَةٍ فَوَجَبَ أَنْ لَا يُعْطِيَ وَاحِدٌ
مِنْهُمَا صَاحِبَهُ مِنْ زَكَاتِهِ لِوُجُودِ الْعِلَّةِ
الْمَانِعَةِ مِنْ دَفْعِهَا فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا
وَاحْتَجَّ الْمُجِيزُونَ لِدَفْعِ زَكَاتِهَا إلَيْهِ
بِحَدِيثِ زَيْنَبَ امْرَأَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ
حِينَ سَأَلَتْ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
عَنْ الصَّدَقَةِ عَلَى زَوْجِهَا عَبْدِ اللَّهِ وَعَلَى
أَيْتَامٍ لِأَخِيهَا فِي حِجْرِهَا فَقَالَ لَك أَجْرَانِ
أَجْرُ الصَّدَقَةِ وَأَجْرُ الْقَرَابَةِ
قِيلَ لَهُ كَانَتْ صَدَقَةَ تَطَوُّعٍ وَأَلْفَاظُ الْحَدِيثِ
تَدُلُّ عَلَيْهِ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ
ذَكَرَ فِيهِ أَنَّهَا قَالَتْ لَمَّا حَثَّ النَّبِيُّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النِّسَاءَ عَلَى الصَّدَقَةِ
وَقَالَ تَصَدَّقْنَ وَلَوْ بِحُلِيِّكُنَّ جَمَعْت حُلِيًّا
لِي
وَأَرَدْت أَنْ أَتَصَدَّقَ فَسَأَلْت النَّبِيَّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا
كَانَتْ صَدَقَةَ تَطَوُّعٍ فَإِنْ احْتَجُّوا بِمَا
حَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي بْنُ قَانِعٍ قَالَ حَدَّثَنَا
ابْنُ نَاجِيَةٍ قَالَ حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ حَاتِمٍ قَالَ
حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ ثَابِتٍ قَالَ حَدَّثَنِي يَحْيَى
بْنُ أَبِي أُنَيْسَةَ الْجَزَرِيُّ عَنْ حَمَّادِ بْنِ
إبْرَاهِيمَ عَنْ عَلْقَمَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ
زَيْنَبَ الثَّقَفِيَّةَ امْرَأَةَ عَبْدِ اللَّهِ سَأَلَتْ
رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ
إنَّ لِي طَوْقًا فِيهِ عِشْرُونَ مِثْقَالًا أَفَأُؤَدِّي
زَكَاتَهُ قَالَ نَعَمْ نِصْفَ مِثْقَالٍ قَالَتْ فَإِنَّ فِي
حِجْرِي بنى أَخٍ لِي أَيْتَامًا أَفَأَجْعَلُهُ أَوْ أَضَعُهُ
فِيهِمْ قَالَ نَعَمْ
فَبَيَّنَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّهَا كَانَتْ مِنْ
زَكَاتِهَا قِيلَ لَهُ لَيْسَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ ذِكْرُ
إعْطَاءِ الزَّوْجِ وَإِنَّمَا ذَكَرَ فِيهِ إعْطَاءَ بَنِي
أَخِيهَا وَنَحْنُ نُجِيزُ ذَلِكَ وَجَائِزٌ أَنْ تَكُونَ
سَأَلَتْهُ عَنْ صَدَقَةِ التَّطَوُّعِ عَلَى زَوْجِهَا
وَبَنِي أَخِيهَا فَأَجَازَهَا وَسَأَلَتْهُ فِي وَقْتٍ آخَرَ
عَنْ زَكَاةِ الْحُلِيِّ وَدَفْعِهَا إلَى بَنِي أَخِيهَا
فَأَجَازَهَا وَنَحْنُ نُجِيزُ دَفْعَ الزَّكَاةِ إلَى بَنِي
الْأَخِ وَاخْتُلِفَ فِي إعْطَاءِ الذِّمِّيِّ مِنْ الزَّكَاةِ
فَقَالَ أَصْحَابُنَا وَمَالِكٌ وَالثَّوْرِيُّ وَابْنُ
شُبْرُمَةَ وَالشَّافِعِيُّ لَا يُعْطَى الذِّمِّيُّ مِنْ
الزَّكَاةِ وقال أَصْحَابُنَا وَمَالِكٌ وَالثَّوْرِيُّ
وَابْنُ شُبْرُمَةَ وَالشَّافِعِيُّ لَا يعطى
(4/339)
مِنْ الزَّكَاةِ وَقَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ
بْنُ الْحَسَنِ إذَا لَمْ يَجِدْ مُسْلِمًا أَعْطَى
الذِّمِّيَّ فَقِيلَ لَهُ فَإِنَّهُ لَيْسَ بِالْمَكَانِ
الَّذِي هُوَ بِهِ مُسْلِمٌ وَفِي مَوْضِعٍ آخَرَ مُسْلِمٌ
فَكَأَنَّهُ ذَهَبَ إلَى إعْطَائِهَا لِلذِّمِّيِّ الَّذِي
هُوَ بَيْنَ ظَهْرَانَيْهِمْ وَالْحُجَّةُ لِلْقَوْلِ
الْأَوَّلِ
قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُمِرْت
أَنْ آخُذَ الصَّدَقَةَ مِنْ أَغْنِيَائِكُمْ وَأَرُدَّهَا فِي
فُقَرَائِكُمْ
فَاقْتَضَى ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ كُلُّ صَدَقَةٍ أَخَذَهَا إلَى
الْإِمَامِ مَقْصُورَةً على فقراء المسلمين ولا يجوز إعطاؤها
للكفار وَلَمَّا اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ إذَا كَانَ هُنَاكَ
مُسْلِمُونَ لَمْ يُعْطَ الْكُفَّارُ ثَبَتَ أَنَّ الْكُفَّارَ
لاحظ لَهُمْ فِي الزَّكَاةِ إذْ لَوْ جَازَ إعْطَاؤُهَا
إيَّاهُمْ بِحَالٍ لَجَازَ فِي كُلِّ حَالٍ لِوُجُودِ الفقر
كسائر الفقراء الْمُسْلِمِينَ وَاخْتَلَفُوا فِي دَفْعِ
الزَّكَاةِ إلَى رَجُلٍ وَاحِدٍ فَقَالَ أَصْحَابُنَا يَجُوزُ
أَنْ يُعْطِيَ جَمِيعَ زَكَاتِهِ مِسْكِينًا وَاحِدًا وَقَالَ
مَالِكٌ لَا بَأْسَ أَنْ يُعْطِيَ الرَّجُلُ زَكَاةَ الْفِطْرِ
عَنْ نَفْسِهِ وَعِيَالِهِ مِسْكِينًا وَاحِدًا وَقَالَ
الْمُزَنِيّ عَنْ الشَّافِعِيِّ وَأَقَلُّ مَا يُعْطَى أَهْلُ
السَّهْمِ مِنْ سِهَامِ الزَّكَاةِ ثَلَاثَةٌ فَإِنْ أَعْطَى
اثْنَيْنِ وَهُوَ يَجِدُ الثَّالِثَ ضَمِنَ ثُلُثَ سَهْمٍ
قَالَ أَبُو بَكْرٍ قوله تعالى إنما الصدقات للفقراء اسْمٌ
لِلْجِنْسِ فِي الْمَدْفُوعِ وَالْمَدْفُوعِ إلَيْهِمْ
وَأَسْمَاءُ الْأَجْنَاسِ إذَا أُطْلِقَتْ فَإِنَّهَا
تَتَنَاوَلُ الْمُسَمَّيَاتِ بِإِيجَابِ الْحُكْمِ فِيهَا
عَلَى أَحَدِ مَعْنَيَيْنِ إمَّا الْكُلُّ وَإِمَّا أَدْنَاهُ
وَلَا تَخْتَصُّ بِعَدَدٍ دُونَ عَدَدٍ إلَّا بِدَلَالَةٍ إذْ
لَيْسَ فِيهَا ذِكْرُ الْعَدَدِ أَلَا تَرَى إلَى قَوْله
تَعَالَى وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ وقوله الزانية والزانى
وقوله وخلق الإنسان ضعيفا وَنَحْوِهَا مِنْ أَسْمَاءِ
الْأَجْنَاسِ أَنَّهَا تَتَنَاوَلُ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ
آحَادِهَا عَلَى حِيَالِهِ لَا عَلَى طَرِيقِ الْجَمْعِ
وَلِذَلِكَ قَالَ أَصْحَابُنَا فِيمَنْ قَالَ إنْ تَزَوَّجْت
النِّسَاءَ أَوْ اشْتَرَيْت الْعَبِيدَ أَنَّهُ عَلَى
الْوَاحِدِ مِنْهُمْ وَلَوْ قَالَ إنْ شَرِبْت الْمَاءَ أَوْ
أَكَلْت الطَّعَامَ كَانَ عَلَى الْجُزْءِ مِنْهَا لَا عَلَى
اسْتِيعَابِ جَمِيعِ مَا تَحْتَهُ وَقَالُوا لَوْ أَرَادَ
بِيَمِينِهِ اسْتِيعَابَ الْجِنْسِ كَانَ مُصَدَّقًا وَلَمْ
يَحْنَثْ أَبَدًا إذْ كَانَ مُقْتَضَى اللَّفْظِ أَحَدَ
مَعْنَيَيْنِ إمَّا اسْتِيعَابُ الْجَمِيعِ أَوْ أَدْنَى مَا
يَقَعُ عَلَيْهِ الِاسْمُ مِنْهُ وَلَيْسَ لِلْجَمِيعِ حَظٌّ
فِي ذَلِكَ فَلَا مَعْنَى لِاعْتِبَارِ الْعَدَدِ فِيهِ
وَإِذَا ثَبَتَ مَا وَصَفْنَا وَاتَّفَقَ الْجَمِيعُ عَلَى
أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ بِآيَةِ الصَّدَقَاتِ اسْتِيعَابَ
الْجِنْسِ كُلِّهِ حَتَّى لَا يَحْرُمَ وَاحِدٌ مِنْهُمْ
سَقَطَ اعْتِبَارُ الْعَدَدِ فِيهِ فَبَطَلَ قَوْلُ من اعتبر
ثلاثة منهم وأيضا لما يَكُنْ ذَلِكَ حَقًّا لِإِنْسَانٍ
بِعَيْنِهِ وَإِنَّمَا هُوَ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى يُصْرَفُ
فِي هَذَا الْوَجْهِ وَجَبَ أَنْ لَا يَخْتَلِفَ حُكْمُ
الْوَاحِدِ وَالْجَمَاعَةِ فِي جَوَازِ الْإِعْطَاءِ
وَلِأَنَّهُ لَوْ وَجَبَ اعْتِبَارُ الْعَدَدِ لَمْ يَكُنْ
بَعْضُ الْأَعْدَادِ أَوْلَى بِالِاعْتِبَارِ مِنْ بَعْضٍ إذْ
لَا يَخْتَصُّ الِاسْمُ بِعَدَدٍ دُونَ عَدَدٍ وَأَيْضًا
لَمَّا وَجَبَ اعْتِبَارُ الْعَدَدِ وَقَدْ عَلِمْنَا
تَعَذُّرَ اسْتِيفَائِهِ لِأَنَّهُمْ لَا يُحْصَوْنَ دل على
(4/340)
سُقُوطِ اعْتِبَارِهِ إذْ كَانَ فِي
اعْتِبَارِهِ مَا يُؤَدِّيهِ إلَى إسْقَاطِهِ وَقَدْ اخْتَلَفَ
أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ فِيمَنْ أَوْصَى بِثُلُثِ مَالِهِ
لِلْفُقَرَاءِ فَقَالَ أبو يوسف يجزيهم وَضْعُهُ فِي فَقِيرٍ
وَاحِدٍ وَقَالَ مُحَمَّدٌ لَا يَجْزِي إلَّا فِي اثْنَيْنِ
فَصَاعِدًا شَبَّهَهُ أَبُو يُوسُفَ بِالصَّدَقَاتِ وَهُوَ
أَقْيَسُ وَاخْتُلِفَ فِي مَوْضِعِ أَدَاءِ الزَّكَاةِ فَقَالَ
أَصْحَابُنَا أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ
تُقَسَّمُ صَدَقَةُ كُلِّ بَلَدٍ فِي فُقَرَائِهِ وَلَا
يُخْرِجُهَا إلَى غَيْرِهِ وَإِنْ أَخْرَجَهَا إلَى غَيْرِهِ
فَأَعْطَاهَا الْفُقَرَاءَ جَازَ وَيُكْرَهُ وَرَوَى عَلِيٌّ
الرَّازِيّ عَنْ أَبِي سُلَيْمَانَ عَنْ ابْنِ الْمُبَارَكِ
عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ قَالَ لَا بَأْسَ بِأَنْ يَبْعَثَ
الزَّكَاةَ مِنْ بَلَدٍ إلَى بَلَدٍ آخَرَ إلَى ذِي
قَرَابَتِهِ قَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ فَحَدَّثْت بِهِ
مُحَمَّدَ بْنَ الْحَسَنِ فَقَالَ هَذَا حَسَنٌ وَلَيْسَ لَنَا
فِي هَذَا سَمَاعٌ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ قَالَ أَبُو
سُلَيْمَانَ فَكَتَبَهُ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ عَنْ ابْنِ
الْمُبَارَكِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ
عَنْ ابْنِ أَبِي عِمْرَانَ قَالَ أَخْبَرَنَا أَصْحَابُنَا
عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ عَنْ أَبِي سُلَيْمَانَ عَنْ
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ قَالَ
لَا يُخْرِجُ الرَّجُلُ زَكَاتَهُ مِنْ مَدِينَةٍ إلَى
مَدِينَةٍ إلَّا لِذِي قَرَابَتِهِ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ
فِي زَكَاةِ الْفِطْرِ يُؤَدِّيهَا حَيْثُ هُوَ وَعَنْ
أَوْلَادِهِ الصِّغَارِ حَيْثُ هُمْ وَزَكَاةِ الْمَالِ حَيْثُ
الْمَالِ وَقَالَ مَالِكٌ لَا تُنْقَلُ صَدَقَةُ الْمَالِ مِنْ
بَلَدٍ إلَى بَلَدٍ إلَّا أَنْ تَفْضُلَ فَتُنْقَلَ إلَى
أَقْرَبِ الْبُلْدَانِ إلَيْهِمْ قَالَ وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا
مِنْ أَهْلِ مِصْرَ حَلَّتْ زَكَاتُهُ عَلَيْهِ وَمَالُهُ
بِمِصْرَ وَهُوَ بِالْمَدِينَةِ فَإِنَّهُ يُقَسِّمُ زَكَاتَهُ
بِالْمَدِينَةِ وَيُؤَدِّي صَدَقَةَ الْفِطْرِ حَيْثُ هُوَ
وَقَالَ الثَّوْرِيُّ لَا تُنْقَلُ مِنْ بَلَدٍ إلَى بَلَدٍ
إلَّا أَنْ لَا يَجِدَ مَنْ يُعْطِيهِ وَكَرِهَ الْحَسَنُ بْنُ
صَالِحٍ نَقْلَهَا مِنْ بَلَدٍ إلَى بَلَدٍ وَقَالَ اللَّيْثُ
فِيمَنْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ زَكَاةُ مَالِهِ وَهُوَ بِبَلَدٍ
غَيْرِ بَلَدِهِ إنَّهُ إنْ كَانَتْ رَجْعَتُهُ إلَى بَلَدِهِ
قَرِيبَةً فَإِنَّهُ يُؤَخِّرُ ذَلِكَ حَتَّى يَقْدَمَ
بَلَدَهُ فَيُخْرِجَهَا وَلَوْ أَدَّاهَا حَيْثُ هُوَ رَجَوْت
أَنْ تُجْزِيَ وَإِنْ كَانَتْ غَيْبَتُهُ طويلة وأراد المقام
بها فإنه يؤد زَكَاتَهُ حَيْثُ هُوَ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ إنْ
أَخْرَجَهَا إلَى غَيْرِ بَلَدِهِ لَمْ يَبِنْ لِي أَنَّ
عَلَيْهِ
الْإِعَادَةَ قَالَ أَبُو بَكْرٍ ظَاهِرُ قَوْله تعالى إنما
الصدقات للفقراء والمساكين يَقْتَضِي جَوَازَ إعْطَائِهَا فِي
غَيْرِ الْبَلَدِ الَّذِي فِيهِ الْمَالُ وَفِي أَيِّ مَوْضِعٍ
شَاءَ وَلِذَلِكَ قَالَ أَصْحَابُنَا أَيُّ مَوْضِعٍ أَدَّى
فِيهِ أَجْزَأَهُ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّا لَمْ نَرَ فِي
الْأُصُولِ صَدَقَةً مَخْصُوصَةً بِمَوْضِعٍ حَتَّى لَا
يَجُوزَ أَدَاؤُهَا فِي غَيْرِهِ أَلَا تَرَى أَنَّ
كَفَّارَاتِ الْأَيْمَانِ وَالنُّذُورِ وَسَائِرِ الصَّدَقَاتِ
لَا يَخْتَصُّ جَوَازُهَا بِأَدَائِهَا فِي مَكَان دُونَ
غَيْرِهِ وَرُوِيَ عَنْ طَاوُسٍ أَنَّ مُعَاذًا قَالَ لِأَهْلِ
الْيَمَنِ ائْتُونِي بِخَمِيسٍ أَوْ لَبِيسٍ آخُذُهُ مِنْكُمْ
فِي الصَّدَقَةِ مَكَانَ الذُّرَةِ وَالشَّعِيرِ فَإِنَّهُ
أَيْسَرُ عَلَيْكُمْ وَخَيْرٌ لِمَنْ بِالْمَدِينَةِ مِنْ
الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ
كَانَ يَنْقُلُهَا مِنْ الْيَمَنِ
(4/341)
إلَى الْمَدِينَةِ وَذَلِكَ لِأَنَّ أَهْلَ
الْمَدِينَةِ كَانُوا أَحْوَجَ إلَيْهَا مِنْ أَهْلِ الْيَمَنِ
وَرَوَى عَدِيُّ بْنُ حَاتِمٍ أَنَّهُ نَقَلَ صَدَقَةَ طَيِّئٍ
إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَبِلَادُهُمْ بالبعد من المدينة ونقل أيضا عدى ابن حَاتِمٍ
وَالزِّبْرِقَانُ بْنُ بَدْرٍ صَدَقَاتِ قَوْمِهِمَا إلَى أبى
بكر الصديق رضى الله عنه مِنْ بِلَادِ طَيِّئٍ وَبِلَادِ بَنِي
تَمِيمٍ فَاسْتَعَانَ بِهَا عَلَى قِتَالِ أَهْلِ الرِّدَّةِ
وَإِنَّمَا كَرِهُوا نَقْلَهَا إلَى بَلَدِ غَيْرِهِ إذَا
تَسَاوَى أَهْلُ الْبَلَدَيْنِ فِي الْحَاجَةِ لِمَا
رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
قَالَ لِمُعَاذٍ حِينَ بَعَثَهُ إلَى الْيَمَنِ أَعْلِمْهُمْ
أَنَّ اللَّهَ قَدْ فَرَضَ عَلَيْهِمْ حَقًّا فِي
أَمْوَالِهِمْ يُؤْخَذُ مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ وَيُرَدُّ فِي
فُقَرَائِهِمْ
وَذَلِكَ يَقْتَضِي رَدَّهَا فِي فُقَرَاءِ الْمَأْخُوذِينَ
مِنْهُمْ وَإِنَّمَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ إنَّهُ يَجُوزُ
لَهُ نَقْلُهَا إلَى ذِي قَرَابَتِهِ فِي بَلَدٍ آخَرَ لِمَا
حَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي بْنُ قَانِعٍ قَالَ حَدَّثَنَا
عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو سَلَمَةَ قَالَ
حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ عَنْ أَيُّوبَ وَهِشَامٍ
وَحَبِيبٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ عَنْ سَلْمَانَ بْنِ
عَامِرٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
قَالَ صَدَقَةُ الرَّجُلِ عَلَى قَرَابَتِهِ صَدَقَةٌ وَصِلَةٌ
وَحَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي بْنُ قَانِعٍ قَالَ حَدَّثَنَا
مُوسَى بْنُ زَكَرِيَّا قَالَ حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ
مَنْصُورٍ قَالَ حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ صَالِحٍ حَدَّثَنَا
ابْنُ لَهِيعَةَ عَنْ عَطَاءٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ عُمَرَ
بْنِ الْخَطَّابِ أَنَّهُ سَأَلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الصَّدَقَةِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن الصَّدَقَةَ عَلَى ذِي
الْقَرَابَةِ تُضَاعَفُ مَرَّتَيْنِ
وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي
حديث زَيْنَبَ امْرَأَةِ عَبْدِ اللَّهِ حِينَ سَأَلَتْهُ عَنْ
صَدَقَتِهَا عَلَى عَبْدِ اللَّهِ وَأَيْتَامِ بَنِي أَخٍ
لَهَا فِي حِجْرِهَا فَقَالَ لَك أَجْرَانِ أَجْرُ الصَّدَقَةِ
وَأَجْرُ الْقَرَابَةِ
وَحَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي بْنُ قَانِعٍ قَالَ حَدَّثَنَا
على بن الحسين ابن يَزِيدَ الصُّدَائِيُّ قَالَ حَدَّثَنَا
أَبِي قَالَ حَدَّثَنَا ابْنُ نُمَيْرٍ عَنْ حَجَّاجٍ عَنْ
الزُّهْرِيِّ عَنْ أيوب ابن بَشِيرٍ عَنْ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ
قَالَ قُلْت يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ الصَّدَقَةِ أَفْضَلُ
قَالَ عَلَى ذِي الرَّحِمِ الْكَاشِحِ
فَثَبَتَ بِهَذِهِ الْأَخْبَارِ أن الصدقة على ذي الرحم المحرم
وَإِنْ بَعُدَتْ دَارُهُ أَفْضَلُ مِنْهَا عَلَى
الْأَجْنَبِيِّ فَلِذَلِكَ قَالَ يَجُوزُ نَقْلُهَا إلَى
بَلَدٍ آخَرَ إذَا أَعْطَاهَا ذَا قَرَابَتِهِ وَإِنَّمَا
قَالَ أَصْحَابُنَا فِي صَدَقَةِ الْفِطْرِ إنَّهُ يُؤَدِّيهَا
عَنْ نَفْسِهِ حَيْثُ هُوَ وَعَنْ رَفِيقِهِ وَوَلَدِهِ حَيْثُ
هُمْ لِأَنَّهَا مُؤَدَّاةٌ عَنْهُمْ فَكَمَا تُؤَدَّى زَكَاةُ
الْمَالِ حَيْثُ الْمَالُ كَذَلِكَ تُؤَدَّى صَدَقَةُ
الْفِطْرِ حَيْثُ المؤدى عنه.
فِيمَا يُعْطَى مِسْكِينٌ وَاحِدٌ مِنْ الزَّكَاةِ
كَانَ أَبُو حَنِيفَةَ يَكْرَهُ أَنْ يُعْطَى إنْسَانٌ مِنْ
الزَّكَاةِ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ وَإِنْ أَعْطَيْته أَجْزَاك
وَلَا بَأْسَ بِأَنْ تُعْطِيَهُ أَقَلَّ مِنْ مِائَتَيْ
دِرْهَمٍ قَالَ وَأَنْ يُغْنِيَ بِهَا إنْسَانًا أَحَبُّ
إلَيَّ وَرَوَى هِشَامٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ فِي رَجُلٍ لَهُ
مِائَةٌ وَتِسْعَةٌ وَتِسْعُونَ دِرْهَمًا فَتَصَدَّقَ
عَلَيْهِ بِدِرْهَمَيْنِ أَنَّهُ يَقْبَلُ وَاحِدًا
(4/342)
وَيَرُدُّ وَاحِدًا فَقَدْ أَجَازَ لَهُ
أَنْ يَقْبَلَ تَمَامَ الْمِائَتَيْنِ وَكَرِهَ أَنْ يَقْبَلَ
مَا فَوْقَهَا وَأَمَّا مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ فَإِنَّهُ يَرُدُّ
الْأَمْرَ فِيهِ إلَى الِاجْتِهَادِ مِنْ غَيْرِ تَوْقِيفٍ
وَقَوْلُ ابْنِ شُبْرُمَةَ فِيهِ كَقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ
وَقَالَ الثَّوْرِيُّ لَا يُعْطَى مِنْ الزَّكَاةِ أَكْثَرَ
مِنْ خَمْسِينَ دِرْهَمًا إلَّا أَنْ يَكُونَ غَارِمًا وَهُوَ
قَوْلُ الْحَسَنِ بْنِ صَالِحٍ وَقَالَ اللَّيْثُ يُعْطَى
مِقْدَارُ مَا يَبْتَاعُ بِهِ خَادِمًا إذَا كَانَ ذَا عِيَالٍ
وَالزَّكَاةُ كَثِيرَةٌ وَلَمْ يَحُدَّ الشَّافِعِيُّ شَيْئًا
وَاعْتَبَرَ مَا يَرْفَعُ الْحَاجَةَ قَالَ أَبُو بَكْرٍ
قَوْله تَعَالَى إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ
وَالْمَسَاكِينِ لَيْسَ فِيهِ تَحْدِيدُ مِقْدَارِ مَا يُعْطَى
كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ وَقَدْ عَلِمْنَا أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ
بِهِ تَفْرِيقَهَا عَلَى الْفُقَرَاءِ عَلَى عَدَدِ الرُّءُوسِ
لِامْتِنَاعِ ذَلِكَ وَتَعَذُّرِهِ فَثَبَتَ أَنَّ الْمُرَادَ
دَفْعُهَا إلَى بَعْضٍ أَيِّ بَعْضٍ كَانَ وَأَقَلُّهُمْ
وَاحِدٌ وَمَعْلُومٌ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ أَرْبَابِ
الْأَمْوَالِ مُخَاطَبٌ بِذَلِكَ فَاقْتَضَى ذَلِكَ جَوَازَ
دَفْعِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ جَمِيعَ صَدَقَتِهِ إلَى
فَقِيرٍ وَاحِدٍ قَلَّ الْمَدْفُوعُ أَوْ كَثُرَ فَوَجَبَ
بِظَاهِرِ الْآيَةِ جَوَازُ دَفْعِ الْمَالِ الْكَثِيرِ مِنْ
الزَّكَاةِ إلَى وَاحِدٍ مِنْ الْفُقَرَاءِ مِنْ غَيْرِ
تَحْدِيدٍ لِمِقْدَارِهِ وَأَيْضًا فَإِنَّ الدَّفْعَ
وَالتَّمْلِيكَ يُصَادِفَانِهِ وَهُوَ فَقِيرٌ فَلَا فَرْقَ
بَيْنَ دَفْعِ الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ لِحُصُولِ التَّمْلِيكِ
فِي الْحَالَتَيْنِ لِلْفَقِيرِ وَإِنَّمَا كَرِهَ أَبُو حنيفة
أن يعطى إنسانا مِائَتَيْ دِرْهَمٍ لِأَنَّ الْمِائَتَيْنِ
هِيَ النِّصَابُ الْكَامِلُ فَيَكُونُ غَنِيًّا مَعَ تَمَامِ
مِلْكِ الصَّدَقَةِ وَمَعْلُومٌ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى
إنَّمَا أَمَرَ بِدَفْعِ الزَّكَوَاتِ إلَى الْفُقَرَاءِ
لِيَنْتَفِعُوا بِهَا وَيَتَمَلَّكُوهَا فَلَا يَحْصُلُ لَهُ
التَّمْكِينُ مِنْ الِانْتِفَاعِ إلَّا وَهُوَ غَنِيٌّ
فَكَرِهَ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ دَفْعَ نِصَابٍ كَامِلٍ وَمَتَى
دَفَعَ إلَيْهِ أَقَلَّ مِنْ النِّصَابِ فَإِنَّهُ يَمْلِكُهُ
وَيَحْصُلُ لَهُ الِانْتِفَاعُ بِهَا وَهُوَ فَقِيرٌ فَلَمْ
يَكْرَهْهُ إذْ الْقَلِيلُ وَالْكَثِيرُ سَوَاءٌ فِي هَذَا
الْوَجْهِ إذَا لَمْ يَصِرْ غَنِيًّا فَالنِّصَابُ عِنْدَ
وُقُوعِ التَّمْلِيكِ وَالتَّمْكِينِ مِنْ الِانْتِفَاعِ
وَأَمَّا قول أبى حنيفة وأن يغنى بها إنسان أَحَبُّ إلَيَّ
فَإِنَّهُ لَمْ يُرِدْ بِهِ الْغِنَى الَّذِي تَجِبُ عَلَيْهِ
بِهِ الزَّكَاةُ وَإِنَّمَا أَرَادَ أَنْ يُعْطِيَهُ مَا
يَسْتَغْنِي بِهِ عَنْ الْمَسْأَلَةِ وَيَكُفُّ بِهِ وَجْهَهُ
وَيَتَصَرَّفُ بِهِ فِي ضَرْبٍ مِنْ الْمَعَاشِ وَاخْتُلِفَ
فِيمَنْ أَعْطَى زَكَاتَهُ رَجُلًا ظَاهِرُهُ الْفَقْرُ
فَأَعْطَاهُ عَلَى ذَلِكَ ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّهُ غَنِيٌّ
فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ يَجْزِيهِ وَكَذَلِكَ إنْ
دَفَعَهَا إلَى ابْنِهِ أَوْ إلَى ذِمِّيٍّ وَهُوَ لَا
يَعْلَمُ ثُمَّ عَلِمَ أَنَّهُ يجزيه وقال أبو يوسف لا يجزيه
وذهب أَبُو حَنِيفَةَ فِي ذَلِكَ إلَى مَا
رُوِيَ فِي حَدِيثِ مَعْنِ بْنِ يَزِيدَ أَنَّ أَبَاهُ
أَخْرَجَ صَدَقَةً فَدَفَعَهَا إلَيْهِ لَيْلًا وَهُوَ لَا
يَعْرِفُهُ فَلَمَّا أَصْبَحَ وَقَفَ عَلَيْهِ فَقَالَ مَا
إيَّاكَ أَرَدْت وَاخْتَصَمَا إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ لَهُ لَك مَا نَوَيْت يَا يَزِيدُ
وَقَالَ لِمَعْنٍ لَك مَا أَخَذْت
ولم يسئله أَنَوَيْتهَا مِنْ الزَّكَاةِ أَوْ غَيْرِهَا بَلْ
قَالَ لَك مَا نَوَيْت
فَدَلَّ عَلَى جَوَازِهَا إنْ نواها زكاة
(4/343)
وَأَيْضًا فَإِنَّ الصَّدَقَةَ عَلَى
هَؤُلَاءِ قَدْ تَكُونُ صَدَقَةً صَحِيحَةً مِنْ وَجْهٍ فِي
غَيْرِ حَالِ الضَّرُورَةِ وَهُوَ أَنْ يَتَصَدَّقَ عَلَيْهِمْ
صَدَقَةَ التَّطَوُّعِ فَأَشْبَهَتْ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ
الصَّلَاةَ إلَى الْكَعْبَةِ إذَا أَدَّاهَا بِاجْتِهَادٍ
صَحِيحٍ ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّهُ أَخْطَأَهَا كَانَتْ
صَلَاتُهُ مَاضِيَةً إذْ كَانَتْ الصَّلَاةُ إلَى غَيْرِ
جِهَةِ الْكَعْبَةِ قَدْ تَكُونُ صَلَاةً صَحِيحَةً مِنْ
غَيْرِ ضَرُورَةٍ وَهُوَ الْمُصَلِّي تَطَوُّعًا عَلَى
الرَّاحِلَةِ فَكَانَ إعْطَاءُ الزَّكَاةِ بِاجْتِهَادٍ
مُشْبِهًا لِأَدَاءِ الصَّلَاةِ بِاجْتِهَادٍ عَلَى النَّحْوِ
الَّذِي ذَكَرْنَا فَإِنْ قِيلَ إنَّمَا يُشْبِهُ مَسْأَلَةَ
الزَّكَاةِ مَنْ تَوَضَّأَ بِمَاءٍ يَظُنُّهُ طَاهِرًا ثُمَّ
عَلِمَ أَنَّهُ كَانَ نَجِسًا فَلَا تَجْزِيهِ صَلَاتُهُ
لِأَنَّهُ صَارَ مِنْ اجْتِهَادٍ إلَى يَقِينِ كَذَلِكَ
مُؤَدِّي الزَّكَاةِ إلَى غَنِيٍّ أَوْ ابْنِهِ أَوْ ذِمِّيٍّ
إذَا عَلِمَ فَقَدْ صَارَ مِنْ اجْتِهَادٍ إلَى يَقِينٍ
فَبَطَلَ حُكْمُ اجْتِهَادِهِ وَوَجَبَتْ عَلَيْهِ
الْإِعَادَةُ قِيلَ لَهُ لَيْسَ كَذَلِكَ لِأَنَّ الْوُضُوءَ
بِالْمَاءِ النَّجِسِ لَا يَكُونُ طَهَارَةً بِحَالٍ فَلَمْ
يَكُنْ لِلِاجْتِهَادِ تَأْثِيرٌ فِي جَوَازِهِ وَتَرْكُ
الْقِبْلَةِ جَائِزٌ فِي أحوال فمسئلتنا بِمَا ذَكَرْنَاهُ
أَشْبَهُ فَإِنْ قِيلَ الصَّلَاةُ قَدْ تَجُوزُ فِي الثَّوْبِ
النَّجِسِ فِي حَالٍ وَمَعَ ذَلِكَ فَلَوْ أَدَّاهَا
بِاجْتِهَادٍ مِنْهُ فِي طَهَارَةِ الثَّوْبِ ثُمَّ تَبَيَّنَ
النَّجَاسَةَ بَطَلَتْ صَلَاتُهُ وَوَجَبَتْ عَلَيْهِ
الْإِعَادَةُ وَلَمْ يَكُنْ جَوَازُ الصَّلَاةِ فِي الثوب
النجس بحال موجبا لجواز أداءها بِالِاجْتِهَادِ مَتَى صَارَ
إلَى يَقِينِ النَّجَاسَةِ قِيلَ لَهُ أَغْفَلْت مَعْنَى
اعْتِلَالِنَا لِأَنَّا قُلْنَا إنَّ تَرْكَ الْقِبْلَةِ
جَائِزٌ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ كَجَوَازِ إعْطَاءِ هَؤُلَاءِ
مِنْ صَدَقَةِ التَّطَوُّعِ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ فَكَانَا
مُتَسَاوِيَيْنِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا
ضَرُورَةَ بِالْمُصَلِّي عَلَى الرَّاحِلَةِ فِي فِعْلِ
التَّطَوُّعِ كَمَا لَا ضَرُورَةَ بِالْمُتَصَدِّقِ صَدَقَةَ
التَّطَوُّعِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا فَلَمَّا اسْتَوَيَا مِنْ
هَذَا الْوَجْهِ اشْتَبَهَا فِي الْحُكْمِ وَأَمَّا الصَّلَاةُ
فِي الثَّوْبِ النَّجِسِ فَغَيْرُ جَائِزَةٍ إلَّا فِي حَالِ
الضَّرُورَةِ وَيَسْتَوِي فِيهِ حُكْمُ مُصَلِّي الْفَرْضِ
أَوْ مُتَنَفِّلٍ فَلِذَلِكَ اخْتَلَفَا.
بَابُ دَفْعِ الصَّدَقَاتِ إلَى صِنْفٍ وَاحِدٍ
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى إنما الصدقات للفقراء والمساكين
الْآيَةَ
فَرَوَى أَبُو دَاوُد الطَّيَالِسِيُّ قَالَ حَدَّثَنَا
أَشْعَثُ بْنُ سَعِيدٍ عَنْ عَطَاءٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ
جُبَيْرٍ عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ قَالَا إذَا أَعْطَى
الرَّجُلُ الصَّدَقَةَ صِنْفًا وَاحِدًا مِنْ الْأَصْنَافِ
الثَّمَانِيَةِ أَجْزَأَهُ
وَرَوَى مِثْلَ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ
وَحُذَيْفَةَ وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَإِبْرَاهِيمَ
وَعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَأَبِي الْعَالِيَةِ وَلَا
يُرْوَى عَنْ الصَّحَابَةِ خِلَافُهُ فَصَارَ إجْمَاعًا مِنْ
السَّلَفِ لَا يَسَعُ أَحَدًا خِلَافُهُ لِظُهُورِهِ
وَاسْتِفَاضَتِهِ فِيهِمْ مِنْ غَيْرِ خِلَافٍ ظَهَرَ مِنْ
أَحَدٍ مِنْ نُظَرَائِهِمْ عَلَيْهِمْ وَرَوَى الثَّوْرِيُّ
عَنْ إبْرَاهِيمَ بْنِ
(4/344)
مَيْسَرَةَ عَنْ طَاوُسٍ عَنْ مُعَاذِ بْنِ
جَبَلٍ أَنَّهُ كَانَ يَأْخُذُ مِنْ أَهْلِ الْيَمَنِ
الْعُرُوضَ فِي الزَّكَاةِ وَيَجْعَلُهَا فِي صِنْفٍ وَاحِدٍ
مِنْ النَّاسِ وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ
ومحمد وزفر ومالك ابن أَنَسٍ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ تُقَسَّمُ
عَلَى ثَمَانِيَةِ أَصْنَافٍ إلَّا أَنْ يُفْقَدَ صِنْفٌ
فَتُقَسَّمُ فِي الْبَاقِينَ لَا يَجْزِي غَيْرُهُ وَهَذَا
قَوْلٌ مُخَالِفٌ لِقَوْلِ مَنْ قَدَّمْنَا ذِكْرَهُ مِنْ
السَّلَفِ وَمُخَالِفٌ لِلْآثَارِ وَالسُّنَنِ وَظَاهِرِ
الْكِتَابِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ
فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ
فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَذَلِكَ عُمُومٌ فِي جَمِيعِ
الصَّدَقَاتِ لِأَنَّهُ اسْمٌ لِلْجِنْسِ لِدُخُولِ الْأَلِفِ
وَاللَّامِ عَلَيْهِ فَاقْتَضَتْ الْآيَةُ دَفْعَ جَمِيعِ
الصَّدَقَاتِ إلَى صِنْفٍ وَاحِدٍ مِنْ الْمَذْكُورِينَ وَهُمْ
الْفُقَرَاءُ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ مُرَادَ اللَّهِ تَعَالَى
فِي ذِكْرِ الْأَصْنَافِ إنَّمَا هُوَ بَيَانُ أَسْبَابِ
الْفَقْرِ لَا قِسْمَتُهَا عَلَى ثَمَانِيَةٍ وَيَدُلُّ
عَلَيْهِ أَيْضًا قَوْله تَعَالَى فِي أَمْوَالِهِمْ حق معلوم
للسائل والمحروم وَذَلِكَ يَقْتَضِي جَوَازَ إعْطَاءِ
الصَّدَقَةِ هَذَيْنِ دُونَ غَيْرِهِمَا وَذَلِكَ يَنْفِي
وُجُوبَ قِسْمَتِهَا عَلَى ثَمَانِيَةٍ وَأَيْضًا فَإِنَّ
قَوْله تَعَالَى إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ عُمُومٌ
فِي سَائِرِ الصَّدَقَاتِ وَمَا يَحْصُلُ مِنْهَا في كل زمان
وقوله تعالى للفقراء إلَى آخِرِهِ عُمُومٌ أَيْضًا فِي سَائِرِ
الْمَذْكُورِينَ مِنْ الْمَوْجُودِينَ وَمَنْ يَحْدُثُ
مِنْهُمْ وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لم يرد منهم قِسْمَةَ كُلِّ مَا
يَحْصُلُ مِنْ الصَّدَقَةِ فِي الْمَوْجُودِينَ وَمَنْ
يَحْدُثُ مِنْهُمْ لِاسْتِحَالَةِ إمْكَانِ ذَلِكَ إلَى أَنْ
تَقُومَ السَّاعَةُ فَوَجَبَ أَنْ يَجْزِيَ إعْطَاءُ صَدَقَةِ
عَامٍ وَاحِدٍ لِصِنْفٍ وَاحِدٍ وَإِعْطَاءُ صَدَقَةِ عَامٍ
ثَانٍ لِصِنْفٍ آخَرَ ثُمَّ كَذَلِكَ صَدَقَةُ كُلِّ عَامٍ
لِصِنْفٍ مِنْ الْأَصْنَافِ عَلَى مَا يَرَى الْإِمَامُ
قِسْمَتَهُ فَثَبَتَ بِذَلِكَ أَنَّ صَدَقَةَ عَامٍ وَاحِدٍ
أَوْ رَجُلٍ وَاحِدٍ غَيْرُ مَقْسُومَةٍ عَلَى ثَمَانِيَةٍ
وَأَيْضًا لَا خِلَافَ أَنَّ الْفُقَرَاءَ لَا
يَسْتَحِقُّونَهَا بِالشَّرِكَةِ وَأَنَّهُ جَائِزٌ أَنْ
يُحْرَمَ الْبَعْضُ مِنْهُمْ وَيُعْطَى الْبَعْضُ فَثَبَتَ
أَنَّ الْمَقْصِدَ صَرْفُهَا فِي بَعْضِ الْمَذْكُورِينَ
فَوَجَبَ أَنْ يَجُوزَ إعْطَاؤُهَا بَعْضَ الْأَصْنَافِ كَمَا
جَازَ إعْطَاؤُهَا بَعْضَ الْفُقَرَاءِ لِأَنَّ ذَلِكَ لَوْ
كَانَ حَقًّا لَهُمْ جَمِيعًا لَمَا جَازَ حِرْمَانُ الْبَعْضِ
وَإِعْطَاءُ الْبَعْضِ قَالَ أَبُو بَكْرٍ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ
مَا رُوِيَ فِي حَدِيثِ سَلَمَةَ بْنِ صَخْرٍ حِينَ ظَاهَرَ
مِنْ امْرَأَتِهِ وَلَمْ يَجِدْ مَا يُطْعَمُ فَأَمَرَهُ
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَنْطَلِقَ
إلَى صَاحِبِ صَدَقَةِ بَنِي زُرَيْقٍ لِيَدْفَعَ إلَيْهِ
صَدَقَاتِهِمْ
فَأَجَازَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
دَفْعَ صَدَقَاتِهِمْ إلَى سَلَمَةَ وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ
صِنْفٍ وَاحِدٍ
وَفِي حَدِيثِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَدِيِّ بْنِ الْخِيَارِ
فِي الرَّجُلَيْنِ اللَّذَيْنِ سَأَلَا النَّبِيَّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الصَّدَقَةِ فَرَآهُمَا
جَلْدَيْنِ فَقَالَ إنْ شِئْتُمَا أَعْطَيْتُكُمَا
ولم يسئلهما مِنْ أَيِّ الْأَصْنَافِ هُمَا لِيَحْسِبَهُمَا
مِنْ الصِّنْفِ ويدل على أنها مستحقة بالفقر
قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
(4/345)
أُمِرْت أَنْ آخُذَ الصَّدَقَةَ مِنْ
أَغْنِيَائِكُمْ وَأَرُدَّهَا فِي فُقَرَائِكُمْ
وَقَالَ لِمُعَاذٍ حِينَ بَعَثَهُ إلَى الْيَمَنِ أَعْلِمْهُمْ
أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى فَرَضَ عَلَيْهِمْ حَقًّا فِي
أَمْوَالِهِمْ يُؤْخَذُ مِنْ أغنيائهم ويرد فِي فُقَرَائِهِمْ
فَأَخْبَرَ أَنَّ الْمَعْنَى الَّذِي بِهِ يَسْتَحِقُّ جَمِيعُ
الْأَصْنَافِ هُوَ الْفَقْرُ لِأَنَّهُ عَمَّ جَمِيعَ
الصَّدَقَةِ وَأَخْبَرَ أَنَّهَا مَصْرُوفَةٌ إلَى
الْفُقَرَاءِ وَهَذَا اللَّفْظُ مَعَ مَا تَضَمَّنَ مِنْ
الدَّلَالَةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمَعْنَى الْمُسْتَحَقَّ
بِهِ الصَّدَقَةُ هُوَ الْفَقْرُ وَأَنَّ عُمُومَهُ يَقْتَضِي
جَوَازَ دَفْعِ جَمِيعِ الصَّدَقَاتِ إلَى الْفُقَرَاءِ حَتَّى
لَا يُعْطَى غَيْرُهُمْ بَلْ ظَاهِرُ اللَّفْظِ يَقْتَضِي
إيجَابَ ذَلِكَ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
أُمِرْت فَإِنْ قِيلَ الْعَامِلُ يَسْتَحِقُّهُ لَا
بِالْفَقْرِ قِيلَ لَهُ لَمْ يَكُونُوا يَأْخُذُونَهَا
صَدَقَةً وَإِنَّمَا تَحْصُلُ الصَّدَقَةُ لِلْفُقَرَاءِ ثُمَّ
يَأْخُذُهَا الْعَامِلُ عِوَضًا مِنْ عَمَلِهِ لَا صَدَقَةً
كَفَقِيرٍ تَصَدَّقَ عَلَيْهِ فَأَعْطَاهَا عِوَضًا عَنْ
عَمَلٍ عُمِلَ لَهُ وَكَمَا كَانَ يُتَصَدَّقُ عَلَى بَرِيرَةَ
فَتُهْدِيه لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
هَدِيَّةً لِلنَّبِيِّ وَصَدَقَةً لِبَرِيرَةَ فَإِنْ قِيلَ
فَإِنَّ الْمُؤَلَّفَةَ قُلُوبُهُمْ قَدْ كَانُوا
يَأْخُذُونَهَا صَدَقَةً لَا بِالْفَقْرِ قِيلَ لَهُ لَمْ
يَكُونُوا يَأْخُذُونَهَا صَدَقَةً وَإِنَّمَا كَانَتْ
تَحْصُلُ صَدَقَةً لِلْفُقَرَاءِ فَيُدْفَعُ بَعْضُهَا إلَى
الْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ لِدَفْعِ أَذِيَّتِهِمْ عَنْ
فُقَرَاءِ الْمُسْلِمِينَ وَلْيُسْلِمُوا فَيَكُونُوا قُوَّةً
لَهُمْ فَلَمْ يَكُونُوا يَأْخُذُونَهَا صَدَقَةً بَلْ كَانَتْ
تَحْصُلُ صَدَقَةً فَتُصْرَفُ فِي مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ
إذْ كَانَ مَالُ الْفُقَرَاءِ جَائِزًا صَرْفُهُ فِي بَعْضِ
مَصَالِحِهِمْ إذْ كَانَ الْإِمَامُ يَلِي عَلَيْهِمْ
وَيَتَصَرَّفُ فِي مَصَالِحِهِمْ فَأَمَّا ذِكْرُ الْأَصْنَافِ
فَإِنَّمَا جَاءَ بِهِ لِبَيَانِ أَسْبَابِ الْفَقْرِ عَلَى
مَا بَيَّنَّا وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ الْغَارِمَ وَابْنَ
السَّبِيلِ وَالْغَازِي لَا يَسْتَحِقُّونَهَا إلَّا
بِالْحَاجَةِ وَالْفَقْرِ دُونَ غَيْرِهِمَا فَدَلَّ عَلَى
أَنَّ الْمَعْنَى الَّذِي بِهِ يَسْتَحِقُّونَهَا هُوَ
الْفَقْرُ فَإِنْ قِيلَ
رَوَى عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زِيَادِ بن أنعم عَنْ زِيَادِ
بْنِ نُعَيْمٍ أَنَّهُ سَمِعَ زِيَادَ بْنَ الْحَارِثِ
الصُّدَائِيَّ يَقُولُ أَمَرَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى قَوْمٍ فَقُلْت أَعْطِنِي
مِنْ صَدَقَاتِهِمْ فَفَعَلَ وَكَتَبَ لِي بِذَلِكَ كِتَابًا
فَأَتَاهُ رَجُلٌ فَقَالَ أَعْطِنِي مِنْ الصَّدَقَةِ فَقَالَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّ
اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ لَمْ يَرْضَ بِحُكْمِ نَبِيٍّ وَلَا
غَيْرِهِ حَتَّى حَكَمَ فِيهَا مِنْ السَّمَاءِ فَجَزَّأَهَا
ثَمَانِيَةَ أَجْزَاءٍ فَإِنْ كُنْت مِنْ تِلْكَ الْأَجْزَاءِ
أَعْطَيْتُك مِنْهَا قِيلَ لَهُ
هَذَا يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ مَا قُلْنَا لِأَنَّهُ قَالَ إنْ
كُنْت مِنْ تِلْكَ الْأَجْزَاءِ أَعْطَيْتُك فَبَانَ أَنَّهَا
مُسْتَحَقَّةٌ لِمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ هَذِهِ الْأَجْزَاءِ
وَذَكَرَ فِيهِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ كَتَبَ لِلصُّدَائِيِّ بِشَيْءٍ مِنْ صَدَقَةِ قومه
ولم يسئله مِنْ أَيِّ الْأَصْنَافِ هُوَ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى
أَنَّ قَوْلَهُ إنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَزَّأَهَا ثَمَانِيَةَ
أَجْزَاءٍ مَعْنَاهُ لِيُوضَعَ فِي كُلِّ جُزْءٍ مِنْهَا
جميعها إنْ رَأَى ذَلِكَ الْإِمَامُ وَلَا يُخْرِجُهَا عَنْ
جَمِيعِهِمْ وَأَيْضًا فَلَيْسَ تَخْلُو الصَّدَقَةُ مِنْ أَنْ
تَكُونَ مُسْتَحَقَّةً بِالِاسْمِ أَوْ بِالْحَاجَةِ أَوْ
بِهِمَا
(4/346)
وَمِنْهُمُ الَّذِينَ
يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ
خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ
وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ
رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (61)
جَمِيعًا وَفَاسِدٌ أَنْ يُقَالَ هِيَ
مُسْتَحَقَّةٌ بِمُجَرَّدِ الِاسْمِ لِوَجْهَيْنِ أَحَدِهِمَا
أَنَّهُ يُوجِبُ أَنْ يَسْتَحِقَّهَا كُلُّ غَارِمٍ وَكُلُّ
ابْنِ سَبِيلٍ وَإِنْ كَانَ غَنِيًّا وَهَذَا بَاطِلٌ
وَالْوَجْهُ الثَّانِي أَنَّهُ كَانَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ لَوْ
اجْتَمَعَ لَهُ الْفَقْرُ وَابْنُ السَّبِيلِ أَنْ يَسْتَحِقَّ
سَهْمَيْنِ فَلَمَّا بَطَلَ هَذَانِ الْوَجْهَانِ صَحَّ
أَنَّهَا مُسْتَحَقَّةٌ بِالْحَاجَةِ فَإِنْ قِيلَ قَوْله
تَعَالَى إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ
الْآيَةَ يَقْتَضِي إيجَابَ الشَّرِكَةِ فَلَا يَجُوزُ
إخْرَاجُ صِنْفٍ مِنْهَا كَمَا لَوْ أَوْصَى بِثُلُثِ مَالِهِ
لِزَيْدٍ وَعَمْرٍو وَخَالِدٍ لَمْ يُحْرِمْ وَاحِدٌ مِنْهُمْ
قِيلَ لَهُ هَذَا مُقْتَضَى اللَّفْظِ فِي جَمِيعِ
الصَّدَقَاتِ وَكَذَلِكَ نَقُولُ فَيُعْطِي صَدَقَةَ الْعَامِ
صِنْفًا وَاحِدًا وَيُعْطِي صَدَقَةَ عَامٍ آخَرَ صِنْفًا
آخَرَ عَلَى قَدْرِ اجْتِهَادِ الْإِمَامِ وَمَجْرَى
الْمَصْلَحَةِ فِيهِ وَإِنَّمَا الْخِلَافُ بَيْنَنَا
وَبَيْنَكُمْ فِي صَدَقَةٍ وَاحِدَةٍ هَلْ يَسْتَحِقُّهَا
الْأَصْنَافُ كُلُّهَا وَلَيْسَ فِي الْآيَةِ بَيَانُ حُكْمِ
صَدَقَةٍ وَاحِدَةٍ وَإِنَّمَا فِيهَا حُكْمُ الصَّدَقَاتِ
كُلِّهَا فَنُقَسِّمُ الصَّدَقَاتِ كُلَّهَا عَلَى مَا
ذَكَرْنَا فَنَكُونُ قَدْ وَفَّيْنَا الْآيَةَ حَقَّهَا مِنْ
مُقْتَضَاهَا وَاسْتَعْمَلْنَا سَائِرَ الْآيِ الَّتِي
قَدَّمْنَا ذِكْرَهَا وَالْآثَارَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَوْلَ السَّلَفِ فَذَلِكَ
أَوْلَى مِنْ إيجَابِ قِسْمَةِ صَدَقَةٍ وَاحِدَةٍ عَلَى
ثَمَانِيَةٍ وَرَدِّ أَحْكَامِ سَائِرِ الْآيِ وَالسُّنَنِ
الَّتِي قَدَّمْنَا وَبِهَذَا الْمَعْنَى الَّذِي ذَكَرْنَا
انْفَصَلَتْ الصَّدَقَاتُ مِنْ الْوَصِيَّةِ بِالثُّلُثِ
لِأَعْيَانٍ لأن المسلمين لهم محصورون وكذلك والثلث فِي مَالٍ
مُعَيَّنٍ فَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَسْتَحِقُّوهُ بِالشَّرِكَةِ
وَأَيْضًا فَلَا خِلَافَ أَنَّ الصَّدَقَاتِ غير مستحقة على
وجه الشركة للمسلمين لِاتِّفَاقِهِمْ عَلَى جَوَازِ إعْطَاءِ
بَعْضِ الْفُقَرَاءِ دُونَ بَعْضٍ وَلَا جَائِزٌ إخْرَاجُ
بَعْضِ الْمُوصَى لَهُمْ وَأَيْضًا لَمَا جَازَ التَّفْضِيلُ
فِي الصَّدَقَاتِ لِبَعْضٍ عَلَى بَعْضٍ وَلَمْ يَجُزْ ذَلِكَ
فِي الْوَصَايَا المطلقة كذلك جاز بَعْضِ الْأَصْنَافِ كَمَا
جَازَ حِرْمَانُ بَعْضِ الْفُقَرَاءِ فَفَارَقَ الْوَصَايَا
مِنْ هَذَا الْوَجْهِ وَأَيْضًا لَمَّا كَانَتْ الصَّدَقَةُ
حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى لَا لِآدَمِيٍّ بِدَلَالَةِ أَنَّهُ
لَا مُطَالَبَةَ لِآدَمِيٍّ يَسْتَحِقُّهَا لِنَفْسِهِ فَأَيُّ
صِنْفٍ أُعْطِيَ فَقَدْ وَضَعَهَا مَوْضِعَهَا وَالْوَصِيَّةُ
لِأَعْيَانٍ حَقٌّ لِآدَمِيٍّ لَا مُطَالَبَةَ لِغَيْرِهِمْ
بِهَا فاستحقوها كلهم كسائر الحقوق التي للآدميين وَيَدُلُّ
عَلَى ذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ أَوْجَبَ فِي الْكَفَّارَةِ
إطْعَامَ مَسَاكِين وَلَوْ أَعْطَى الْفُقَرَاءَ جَازَ
فَكَذَلِكَ جَائِزٌ أَنْ يُعْطِيَ مَا سَمَّى لِلْمَسَاكِينِ
فِي آيَةِ الصَّدَقَاتِ لِلْفُقَرَاءِ وَالْوَصِيَّةُ
مُخَالِفَةٌ لِذَلِكَ لِأَنَّهُ لَوْ أَوْصَى لِزَيْدٍ لَمْ
يُعْطَ عَمْرٌو.
قَوْله تَعَالَى وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ
وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ
بالله ويؤمن للمؤمنين قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةُ
وَمُجَاهِدٌ وَالضَّحَّاكُ يَقُولُونَ هُوَ صَاحِبُ أُذُنٍ
يُصْغِي إلَى كُلِّ أَحَدٍ وَقِيلَ إنَّ أَصْلَهُ مِنْ أَذَنَ
يَأْذِنُ إذَا سمع قول الشاعر:
(4/347)
يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ
لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ
يُرْضُوهُ إِنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ (62)
فِي سَمَاعٍ يَأْذِنُ الشَّيْخُ لَهُ ...
وَحَدِيثٍ مِثْلِ ما ذي مُشَارِ
وَمَعْنَاهُ أُذُنُ صَلَاحٍ لَكُمْ لَا أُذُنُ شر وقوله يؤمن
للمؤمنين قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ يُصَدِّقُ الْمُؤْمِنِينَ
وَدُخُولُ اللَّامِ هاهنا كَدُخُولِهِ فِي قَوْلِهِ قُلْ عَسَى
أَنْ يَكُونَ ردف لكم وَمَعْنَاهُ رَدِفَكُمْ وَقِيلَ إنَّمَا
أُدْخِلَتْ اللَّامُ لِلْفَرْقِ بَيْنَ إيمَانِ التَّصْدِيقِ
وَإِيمَانِ الْأَمَانِ فَإِذَا قِيلَ ويؤمن للمؤمنين لَمْ
يُعْقَلْ بِهِ غَيْرُ التَّصْدِيقِ وَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى
قُلْ لا تَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ أَيْ لَنْ
نُصَدِّقَكُمْ وَكَقَوْلِهِ وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لنا
وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَحْتَجُّ بِذَلِكَ فِي قَبُولِ خَبَرِ
الْوَاحِدِ لِإِخْبَارِ اللَّهِ تَعَالَى عَنْ نَبِيِّهِ
أَنَّهُ يُصَدِّقُ الْمُؤْمِنِينَ فِيمَا يُخْبِرُونَهُ بِهِ
وَهَذَا لَعَمْرِي يَدُلُّ عَلَى قَبُولِهِ فِي أَخْبَارِ
الْمُعَامَلَاتِ فَأَمَّا أَخْبَارُ الدِّيَانَاتِ وَأَحْكَامُ
الشَّرْعِ فَلَمْ يَكُنْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ مُحْتَاجًا إلَى أَنْ يَسْمَعَهَا مِنْ أَحَدٍ إذْ
كَانَ الْجَمِيعُ عَنْهُ يَأْخُذُونَ وَبِهِ يَقْتَدُونَ
فِيهَا
قَوْله تَعَالَى والله ورسوله أحق أن يرضوه قِيلَ إنَّهُ
إنَّمَا رَدَّ ضَمِيرَ الْوَاحِدِ فِي قَوْلِهِ يُرْضُوهُ
لِأَنَّ رِضَا اللَّهِ يَنْتَظِمُ رِضَا الرَّسُولِ إذْ كُلُّ
مَا رَضِيَ اللَّهُ فَقَدْ رَضِيَهُ الرَّسُولُ فَتَرَكَ
ذِكْرَ ضَمِيرِ الرَّسُولِ لِدَلَالَةِ الْحَالِ عَلَيْهِ
وَقِيلَ إنَّ اسْمَ اللَّهِ تَعَالَى لَا يُجْمَعُ مَعَ اسْمِ
غَيْرِهِ فِي الْكِنَايَةِ تَعْظِيمًا بِإِفْرَادِ الذِّكْرِ
وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ رَجُلًا خَطَبَ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ مَنْ
يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ رَشَدَ وَمَنْ يَعْصِهِمَا
فَقَدْ غَوَى فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قُمْ فَبِئْسَ الْخَطِيبُ أَنْتَ فَأَنْكَرَ
الْجَمْعَ بَيْنَ اسْمِ اللَّهِ وَبَيْنَ اسْمِهِ فِي
الْكِنَايَةِ
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ النَّهْيُ عَنْ جَمْعِ اسْمِ غَيْرِ اللَّهِ إلَى
اسْمِهِ بِحَرْفِ الْجَمْعِ فَقَالَ لَا تَقُولُوا إنْ شَاءَ
اللَّهُ وَشَاءَ فُلَانٌ وَلَكِنْ قُولُوا إنْ شَاءَ اللَّهُ
ثُمَّ شَاءَ فُلَانٌ
قَوْله تَعَالَى يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أن تنزل عليهم قَالَ
الْحَسَنُ وَمُجَاهِدٌ كَانُوا يَحْذَرُونَ فَحَمَلَاهُ عَلَى
مَعْنَى الْإِخْبَارِ عَنْهُمْ بِأَنَّهُمْ يَحْذَرُونَ
وَقَالَ غَيْرُهُمَا صُورَتُهُ صُورَةُ الْخَبَرِ وَمَعْنَاهُ
الْأَمْرُ تَقْدِيرُهُ لِيَحْذَرْ الْمُنَافِقُونَ وقَوْله
تَعَالَى إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَا تحذرون إخْبَارٌ مِنْ
اللَّهِ بِإِخْرَاجِ إضْمَارِ السُّوءِ وَإِظْهَارِهِ وَهَتْكِ
صَاحِبِهِ بِمَا يَخْذُلُهُ اللَّهُ بِهِ وَيَفْضَحُهُ
وَذَلِكَ إخْبَارٌ عَنْ الْمُنَافِقِينَ وَتَحْذِيرٌ
لِغَيْرِهِمْ مِنْ سَائِرِ مُضْمِرِي السُّوءِ وَكَاتِمِيهِ
وَهُوَ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ وَاَللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ
تَكْتُمُونَ
قَوْله تَعَالَى وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا
كُنَّا نَخُوضُ ونلعب- إلى قوله- إن نعف فِيهِ الدَّلَالَةُ
عَلَى أَنَّ اللَّاعِبَ وَالْجَادَّ سَوَاءٌ فِي إظْهَارِ
كَلِمَةِ الْكُفْرِ عَلَى غَيْرِ وَجْهِ الْإِكْرَاهِ لِأَنَّ
هَؤُلَاءِ الْمُنَافِقِينَ ذَكَرُوا أَنَّهُمْ قَالُوا ما
قالوا لَعِبًا فَأَخْبَرَ اللَّهُ عَنْ كُفْرِهِمْ بِاللَّعِبِ
بِذَلِكَ وَرُوِيَ عَنْ الْحَسَنِ وَقَتَادَةَ أَنَّهُمْ
قَالُوا فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ أَيَرْجُو هَذَا الرَّجُلُ أَنْ
(4/348)
الْمُنَافِقُونَ
وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ
بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ
أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ
الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (67)
يَفْتَحَ قُصُورَ الشَّامِّ وَحُصُونَهَا
هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ فَأَطْلَعَ اللَّهُ نَبِيَّهُ عَلَى
ذَلِكَ فَأَخْبَرَ أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ كُفْرٌ مِنْهُمْ
عَلَى أَيِّ وَجْهٍ قَالُوهُ من جد أو هزل فدل عَلَى
اسْتِوَاءِ حُكْمِ الْجَادِّ وَالْهَازِلِ فِي إظْهَارِ
كَلِمَةِ الْكُفْرِ وَدَلَّ أَيْضًا عَلَى أَنَّ
الِاسْتِهْزَاءَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَبِشَيْءٍ مِنْ شَرَائِعِ
دِينِهِ كُفْرٌ فَاعِلِهِ
قَوْله تَعَالَى الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ
مِنْ بعض أَضَافَ بَعْضَهُمْ إلَى بَعْضٍ بِاجْتِمَاعِهِمْ
عَلَى النِّفَاقِ فَهُمْ مُتَشَاكِلُونَ مُتَشَابِهُونَ فِي
تَعَاضُدِهِمْ عَلَى النِّفَاقِ وَالْأَمْرِ بِالْمُنْكَرِ
وَالنَّهْيِ عَنْ الْمَعْرُوفِ كَمَا يُضَافُ بَعْضُ الشَّيْءِ
إلَيْهِ لِمُشَاكَلَتِهِ لِلْجُمْلَةِ قَوْله تَعَالَى ويقبضون
أيديهم فَإِنَّهُ رُوِيَ عَنْ الْحَسَنِ وَمُجَاهِدٍ عَنْ
الْإِنْفَاقِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَالَ قَتَادَةُ عَنْ
كُلِّ خَيْرٍ وَقَالَ غَيْرُهُ عَنْ الْجِهَادِ فِي سَبِيلِ
اللَّهِ وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونُوا قَبَضُوا أَيْدِيَهُمْ عَنْ
جَمِيعِ ذَلِكَ فَيَكُونُ الْمُرَادُ جَمِيعَ مَا احْتَمَلَهُ
اللَّفْظُ مِنْهُ وَقَوْلُهُ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ
فَإِنَّ مَعْنَاهُ أَنَّهُمْ تَرَكُوا أَمْرَهُ وَالْقِيَامَ
بِطَاعَتِهِ حَتَّى صَارَ ذَلِكَ عِنْدَهُمْ بِمَنْزِلَةِ
الْمَنْسِيِّ إذْ لَمْ يَسْتَعْمِلُوا مِنْهُ شَيْئًا كَمَا
لَا يُعْمَلُ بِالْمَنْسِيِّ وَقَوْلُهُ فَنَسِيَهُمْ
مَعْنَاهُ أَنَّهُ تَرَكَهُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَسَمَّاهُ
بِاسْمِ الذَّنْبِ لِمُقَابَلَتِهِ لِأَنَّهُ عُقُوبَةٌ
وَجَزَاءٌ عَلَى الْفِعْلِ وَهُوَ مَجَازٌ كَقَوْلِهِمْ
الْجَزَاءُ بِالْجَزَاءِ وَقَوْلِهِ وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ
سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا
وَنَحْوِ ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ
جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ واغلظ عليهم رَوَى
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ قَالَ جَاهِدْهُمْ بِيَدِك
فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِك وَقَلْبِك فَإِنْ لَمْ
تَسْتَطِعْ فَاكْفَهَرَّ فِي وُجُوهِهِمْ وَقَالَ ابْنُ
عَبَّاسٍ جَاهِدْ الْكُفَّارَ بِالسَّيْفِ وَالْمُنَافِقِينَ
بِاللِّسَانِ وَقَالَ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ جَاهِدْ
الْكُفَّارَ بِالسَّيْفِ وَالْمُنَافِقِينَ بِإِقَامَةِ
الْحُدُودِ وَكَانُوا أَكْثَرَ مَنْ يُصِيبُ الْحُدُودَ
قَوْله تَعَالَى يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ
قَالُوا كلمة الكفر وكفروا بعد إسلامهم فِيهِ إخْبَارٌ عَنْ
كُفَّارِ الْمُنَافِقِينَ وَكَلِمَةُ الْكُفْرِ كُلُّ كَلِمَةٍ
فِيهَا جَحْدٌ لِنِعْمَةِ اللَّهِ أَوْ بَلَغَتْ مَنْزِلَتَهَا
فِي الْعِظَمِ وَكَانُوا يَطْعَنُونَ فِي النُّبُوَّةِ
وَالْإِسْلَامِ وَيُقَالُ إنَّ الْقَائِلَ لِكَلِمَةِ الْكُفْر
الْجُلَاسُ بْنُ سُوَيْد بْنِ الصَّامِتِ قَالَ إنْ كَانَ مَا
جَاءَ بِهِ مُحَمَّدٌ حَقًّا لَنَحْنُ شَرٌّ مِنْ الْحَمِيرِ
ثُمَّ حَلَفَ بِاَللَّهِ مَا قَالَ رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ
مُجَاهِدٍ وَعُرْوَةَ وَابْنِ إِسْحَاقَ وَقَالَ قَتَادَةُ
نَزَلَتْ فِي عَبْدِ اللَّهِ بن أبى بن سَلُولَ حِينَ قَالَ
لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ ليخرجن الأعز منها الأذل
وَقَالَ الْحَسَنُ كَانَ جَمَاعَةٌ مِنْ الْمُنَافِقِينَ
قَالُوا ذَلِكَ وَفِيمَا قَصَّ اللَّهُ عَلَيْنَا مِنْ شَأْنِ
الْمُنَافِقِينَ وَإِخْبَارِهِ عَنْهُمْ بِاعْتِقَادِ
الْكُفْرِ وَقَوْلِهِ ثُمَّ تَبْقِيَتِهِ إيَّاهُمْ
وَاسْتِحْيَاؤُهُمْ لِمَا كَانُوا يُظْهِرُونَ لِلنَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُسْلِمِينَ مِنْ
الْإِسْلَامِ دَلَالَةٌ عَلَى قَبُولِ تَوْبَةِ الزِّنْدِيقِ
الْمُسِرِّ لِلْكُفْرِ وَالْمُظْهِرِ لِلْإِيمَانِ
قَوْله تَعَالَى وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ الله لئن آتانا من
(4/349)
فَلَمَّا آتَاهُمْ
مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ
(76)
فضله لنصدقن
إلَى آخِرِ الْآيَتَيْنِ فِيهِ الدَّلَالَةُ عَلَى أَنَّ مَنْ
نَذَرَ نَذْرًا فِيهِ قُرْبَةٌ لَزِمَهُ الْوَفَاءُ به لِأَنَّ
الْعَهْدَ هُوَ النَّذْرُ وَالْإِيجَابُ نَحْوُ قَوْلِهِ إنْ
رَزَقَنِي اللَّهُ أَلْفَ دِرْهَمٍ فَعَلَيَّ أَنْ أتصدق منها
بخمس مائة وَنَحْوِ ذَلِكَ
فَانْتَظَمَتْ هَذِهِ الْآيَةُ أَحْكَامًا مِنْهَا أَنَّ مَنْ
نَذَرَ نَذْرًا لَزِمَهُ الْوَفَاءُ بِنَفْسِ المنذر
لِقَوْلِهِ تَعَالَى فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا
به فَعَنَّفَهُمْ عَلَى تَرْكِ الْوَفَاءِ بِالْمَنْذُورِ
بِعَيْنِهِ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى بُطْلَانِ قَوْلِ مَنْ
أَوْجَبَ فِي شَيْءٍ بِعَيْنِهِ كَفَّارَةَ يَمِينٍ وَأَبْطَلَ
إيجَابَ إخْرَاجِ الْمَنْذُورِ بِعَيْنِهِ وَيَدُلُّ أَيْضًا
عَلَى جَوَازِ تَعْلِيقِ النَّذْرِ بِشَرْطٍ مِثْلُ أَنْ
يَقُولَ إنْ قَدَمَ فُلَانٌ فَلِلَّهِ عَلَيَّ صَدَقَةٌ أَوْ
صِيَامٌ وَيَدُلُّ أَيْضًا عَلَى أَنَّ النَّذْرَ الْمُضَافَ
إلَى الْمِلْكِ إيجَابٌ فِي الْمِلْكِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ
الْمِلْكُ مَوْجُودًا فِي الْحَالِ
وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
لَا نَذْرَ فِيمَا لَا يَمْلِكُ ابْنُ آدَمَ وَجَعَلَهُ
اللَّهُ تَعَالَى نَذْرًا فِي الْمِلْكِ وَأَلْزَمَهُ
الْوَفَاءَ بِهِ
فَثَبَتَ بِذَلِكَ أَنَّ النَّذْرَ فِي غَيْرِ مِلْكٍ أَنْ
يَقُولَ لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَتَصَدَّقَ بِثَوْبِ زَيْدٍ
أَوْ نَحْوِهِ وَهُوَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَنْ قَالَ
لِأَجْنَبِيَّةٍ إنْ تَزَوَّجْتُك فَأَنْتِ طَالِقٌ أَنَّهُ
مُطَلِّقٌ فِي نِكَاحٍ لَا قَبْلَ النِّكَاحِ كَمَا كَانَ
الْمُضِيفُ لِلنَّذْرِ إلَى الْمِلْكِ نَاذِرًا فِي الْمِلْكِ
وَنَظِيرُ ذَلِكَ فِي إيجَابِ نَفْسِ الْمَنْذُورِ عَلَى
مُوجِبِهِ قَوْله تَعَالَى يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
لِمَ تَقُولُونَ ما لا تفعلون كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ
أَنْ تَقُولُوا مَا لا تفعلون فَاقْتَضَى ذَلِكَ فِعْلَ
الْمَقُولِ بِعَيْنِهِ وَإِخْرَاجُ كَفَّارَةِ يَمِينٍ لَيْسَ
هُوَ الْمَقُولَ بِعَيْنِهِ وَنَحْوُهُ قَوْله تعالى وأوفوا
بعهد الله إذا عاهدتم وَالْوَفَاءُ بِالْعَهْدِ إنَّمَا هُوَ
فِعْلُ الْمَعْهُودِ بِعَيْنِهِ لَا غَيْرُ وَقَوْلُهُ
وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وقوله يوفون بالنذر
فَمَدَحَهُمْ عَلَى فِعْلِ الْمَنْذُورِ بِعَيْنِهِ وَمِنْ
نَظَائِرِهِ قَوْله تَعَالَى وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ
الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً
ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلا ابْتِغَاءَ
رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رعايتها
وَالِابْتِدَاعُ قَدْ يَكُونُ بِالْقَوْلِ وَبِالْفِعْلِ
فَاقْتَضَى ذَلِكَ إيجَابَ كُلِّ مَا ابْتَدَعَهُ الْإِنْسَانُ
مِنْ قُرْبَةٍ قولا أو فعلا لذم الله تَارِكَ مَا ابْتَدَعَ
مِنْ الْقُرْبَةِ وَقَدْ رُوِيَ نَحْوُ ذَلِكَ عَنْ النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي النَّذْرِ وَهُوَ
قَوْلُهُ مَنْ نَذَرَ نَذْرًا وَسَمَّاهُ فَعَلَيْهِ
الْوَفَاءُ بِهِ وَمَنْ نَذَرَ نَذْرًا وَلَمْ يُسَمِّهِ
فَعَلَيْهِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ
قَوْله تعالى فأعقبهم نفاقا في قلوبهم قَالَ الْحَسَنُ
بُخْلُهُمْ بِمَا نَذَرُوهُ أَعْقَبَهُمْ النِّفَاقَ وَقَالَ
مُجَاهِدٌ أَعْقَبَهُمْ اللَّهُ ذَلِكَ بِحِرْمَانِ
التَّوْبَةِ كَمَا حَرَمَ إبْلِيسَ وَمَعْنَاهُ نَصْبُ
الدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّهُ لَا يَتُوبُ أَبَدًا ذَمًّا لَهُ
عَلَى مَا كَسَبَتْهُ يَدُهُ وَقَوْلُهُ إِلَى يَوْمِ
يَلْقَوْنَهُ قِيلَ فِيهِ يَلْقَوْنَ جَزَاءَ بُخْلِهِمْ
وَمَنْ ذَهَبَ إلَى أَنَّ اللَّهَ أَعْقَبَهُمْ رَدَّ
الضَّمِيرَ إلَى اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى
قَوْله تَعَالَى اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ
لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سبعين مرة فلن يغفر الله لهم
(4/350)
وَلَا تُصَلِّ عَلَى
أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ
إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ
فَاسِقُونَ (84)
فِيهِ إخْبَارٌ بِأَنَّ اسْتِغْفَارَ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهُمْ لَا
يُوجِبُ لَهُمْ الْمَغْفِرَةَ ثُمَّ قَالَ إِنْ تَسْتَغْفِرْ
لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فلن يغفر الله لهم ذَكَرَ
السَّبْعِينَ عَلَى وَجْهِ الْمُبَالَغَةِ فِي الْيَأْسِ مِنْ
الْمَغْفِرَةِ وَقَدْ رُوِيَ فِي بَعْضِ الْأَخْبَارِ أَنَّ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا نَزَلَتْ
هَذِهِ الْآيَةُ قَالَ لَأَزِيدَنَّ عَلَى السَّبْعِينَ
وَهَذَا خَطَأٌ مِنْ رَاوِيهِ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ
أَخْبَرَ أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ فَلَمْ
يكن النبي صلّى الله عليه وسلّم ليسئل اللَّهَ مَغْفِرَةَ
الْكُفَّارِ مَعَ عِلْمِهِ بِأَنَّهُ لَا يَغْفِرُ لَهُمْ
وَإِنَّمَا الرِّوَايَةُ الصَّحِيحَةُ فِيهِ مَا
رُوِيَ أَنَّهُ قَالَ لَوْ عَلِمْت أَنِّي لَوْ زِدْت عَلَى
السَّبْعِينَ غُفِرَ لَهُمْ لَزِدْت عَلَيْهَا
وَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
اسْتَغْفَرَ لِقَوْمٍ مِنْهُمْ عَلَى ظَاهِرِ إسْلَامِهِمْ
مِنْ غَيْرِ عِلْمٍ مِنْهُ بِنِفَاقِهِمْ فَكَانُوا إذَا مَاتَ
الميت منهم يسئلون رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ الدُّعَاءَ وَالِاسْتِغْفَارَ لَهُ فَكَانَ
يَسْتَغْفِرُ لَهُمْ عَلَى أَنَّهُمْ مُسْلِمُونَ فَأَعْلَمَهُ
اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُمْ مَاتُوا مُنَافِقِينَ وَأَخْبَرَ
مَعَ ذَلِكَ أَنَّ اسْتِغْفَارَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهُمْ لَا يَنْفَعُهُمْ
قَوْله تَعَالَى وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ
أبدا ولا تقم على قبره فِيهِ الدَّلَالَةُ عَلَى مَعَانٍ
أَحَدُهَا فِعْلُ الصَّلَاةِ عَلَى مَوْتَى الْمُسْلِمِينَ
وَحَظْرُهَا عَلَى مَوْتَى الْكُفَّارِ وَيَدُلُّ أَيْضًا
عَلَى الْقِيَامِ عَلَى الْقَبْرِ إلَى أَنْ يُدْفَنَ وَعَلَى
أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ
كَانَ يَفْعَلُهُ
وَقَدْ رَوَى وَكِيعٌ عَنْ قَيْسِ بْنِ مُسْلِمٍ عَنْ عُمَيْرِ
بْنِ سَعْدٍ أَنَّ عَلِيًّا قَامَ عَلَى قَبْرٍ حَتَّى دُفِنَ
وَرَوَى سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ عَنْ أَبِي قَيْسٍ قَالَ
شَهِدْت عَلْقَمَةَ قَامَ عَلَى قَبْرٍ حَتَّى دُفِنَ وَرَوَى
جَرِيرُ بْنُ حَازِمٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُبَيْدِ بْنِ
عُمَيْرٍ أَنَّ ابْنَ الزُّبَيْرِ كَانَ إذَا مَاتَ لَهُ
مَيِّتٌ لَمْ يَزَلْ قَائِمًا حَتَّى نَدْفِنَهُ فَهَذَا
يَدُلُّ عَلَى أَنَّ السُّنَّةَ لِمَنْ حَضَرَ عِنْدَ
الْقَبْرِ أَنْ يَقُومَ عَلَيْهِ حَتَّى يُدْفَنَ وَمِنْ
النَّاسِ مَنْ يَسْتَدِلُّ بِذَلِكَ عَلَى جَوَازِ الصَّلَاةِ
عَلَى الْقَبْرِ وَجَعَلَ قَوْلَهُ وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ
قِيَامَ الصَّلَاةِ عَلَى الْقَبْرِ وَهَذَا خَطَأٌ مِنْ
التَّأْوِيلِ لِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ وَلا تُصَلِّ عَلَى أحد
منهم مات أبدا ولا تقم على قبره فَنَهَى عَنْ الْقِيَامِ عَلَى
الْقَبْرِ كَنَهْيِهِ عَنْ الصَّلَاةِ عَلَى الْمَيِّتِ
عَطْفًا عَلَيْهِ فَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَكُونَ الْمَعْطُوفُ
هُوَ الْمَعْطُوفَ عَلَيْهِ بِعَيْنِهِ وَأَيْضًا فَإِنَّ
الْقِيَامَ لَيْسَ هُوَ عِبَارَةً عَنْ الصَّلَاةِ وَإِنَّمَا
يُرِيدُ هَذَا الْقَائِلُ أَنْ يَجْعَلَهُ كِنَايَةً عَنْهَا
وَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ تُذْكَرَ الصَّلَاةُ بِصَرِيحِ اسْمِهَا
ثُمَّ يُعْطَفُ عَلَيْهَا الْقِيَامُ فَيَجْعَلُهُ كِنَايَةً
عَنْهَا فَثَبَتَ بِذَلِكَ أَنَّ الْقِيَامَ عَلَى الْقَبْرِ
غَيْرُ الصَّلَاةِ وَأَيْضًا
رَوَى الزُّهْرِيُّ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الله عن
ابن عَبَّاسٍ قَالَ سَمِعْت عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ يَقُولُ
لَمَّا تُوُفِّيَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ جَاءَ ابْنُهُ
إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فَقَالَ هَذَا أَبِي يَا رَسُولَ اللَّهِ قَدْ وَضَعْنَاهُ
عَلَى شَفِيرِ قَبْرِهِ فَقُمْ فَصَلِّ عَلَيْهِ فَوَثَبَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَوَثَبْت
مَعَهُ فَلَمَّا قَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَامَ النَّاسُ خَلْفَهُ تَحَوَّلْت
وَقُمْت فِي صَدْرِهِ وَقُلْت يَا رَسُولَ الله
(4/351)
لَكِنِ الرَّسُولُ
وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ
وَأَنْفُسِهِمْ وَأُولَئِكَ لَهُمُ الْخَيْرَاتُ وَأُولَئِكَ
هُمُ الْمُفْلِحُونَ (88)
عَلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ عَدُوِّ
اللَّهِ الْقَائِلِ يَوْمَ كَذَا كَذَا وَكَذَا أَعُدُّ
أَيَّامَهُ الْخَبِيثَةَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِتَدَعْنِي يَا عُمَرُ إنَّ
اللَّهَ خَيَّرَنِي فَاخْتَرْت فَقَالَ اسْتَغْفِرْ لَهُمْ
أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لهم الآية فو الله لَوْ أَعْلَمُ يَا
عُمَرُ أَنِّي لَوْ زِدْت عَلَى سَبْعِينَ مَرَّةً أَنْ
يُغْفَرَ لَهُ لَزِدْت ثُمَّ مَشَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَهُ وَقَامَ عَلَى قَبْرِهِ
حَتَّى دُفِنَ
ثم لم يلبث إلا قليلا حتى أنزل اللَّهُ وَلا تُصَلِّ عَلَى
أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أبدا ولا تقم على قبره فو الله مَا
صَلَّى رَسُولٌ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
عَلَى أَحَدٍ مِنْ الْمُنَافِقِينَ وَلَا قَامَ عَلَى قَبْرِهِ
بَعْدَهُ فَذَكَرَ عُمَرُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ الصَّلَاةَ
وَالْقِيَامَ عَلَى الْقَبْرِ جَمِيعًا فَدَلَّ عَلَى مَا
وَصَفْنَا
وَرُوِيَ عَنْ أَنَسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرَادَ أَنْ يُصَلِّيَ عَلَى عَبْدِ
اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ فَأَخَذَ جِبْرِيلُ بِثَوْبِهِ فَقَالَ
لَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ منهم مات أبدا ولا تقم على قبره
قَوْله تَعَالَى لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلا عَلَى
الْمَرْضَى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ
حَرَجٌ إذا نصحوا لله ورسوله هَذَا عَطْفٌ عَلَى مَا تَقَدَّمَ
مِنْ ذِكْرِ الْجِهَادِ فِي قَوْلِهِ لَكِنِ الرَّسُولُ
وَالَّذِينَ آمَنُوا معه جاهدوا بأموالهم وأنفسهم ثُمَّ عَطَفَ
عَلَيْهِ قَوْلَهُ وَجَاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الأعراب ليؤذن
لهم فَذَمَّهُمْ عَلَى الِاسْتِئْذَانِ فِي التَّخَلُّفِ عَنْ
الْجِهَادِ من غير عذر ثم ذكر المعذورون مِنْ الْمُؤْمِنِينَ
فَذَكَرَ الضُّعَفَاءَ وَهُمْ الَّذِينَ يَضْعُفُونَ عَنْ
الْجِهَادِ بِأَنْفُسِهِمْ لِزَمَانَةٍ أَوْ عَمًى أَوْ سِنٍّ
أَوْ ضَعْفٍ فِي الْجِسْمِ وَذَكَرَ الْمَرْضَى وَهُمْ
الَّذِينَ بِهِمْ أَعْلَالٌ مَانِعَةٌ مِنْ النُّهُوضِ
وَالْخُرُوجِ لِلْقِتَالِ وَعَذَرَ الْفُقَرَاءَ الَّذِينَ لَا
يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ وَكَانَ عُذْرُ هَؤُلَاءِ
وَمَدْحُهُمْ بِشَرِيطَةِ النُّصْحِ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ
لِأَنَّ مَنْ تَخَلَّفَ مِنْهُمْ وَهُوَ غَيْرُ نَاصِحٍ
لِلَّهِ وَرَسُولِهِ بَلْ يُرِيدُ التَّضْرِيبَ وَالسَّعْيَ
فِي إفْسَادِ قُلُوبِ مَنْ بِالْمَدِينَةِ لَكَانَ مَذْمُومًا
مُسْتَحِقًّا لِلْعِقَابِ وَمِنْ النُّصْحِ لِلَّهِ تَعَالَى
حَثُّ الْمُسْلِمِينَ عَلَى الْجِهَادِ وَتَرْغِيبُهُمْ فِيهِ
وَالسَّعْيُ فِي إصْلَاحِ ذَاتِ بَيْنِهِمْ وَنَحْوِهِ مِمَّا
يَعُودُ بِالنَّفْعِ عَلَى الدِّين وَيَكُونُ مَعَ ذَلِكَ
مُخَلِّصًا لِعَمَلِهِ مِنْ الْغِشِّ لِأَنَّ ذَلِكَ هُوَ
النصح ومنه التوبة النصوح قوله ما على المحسنين من سبيل
عُمُومٌ فِي أَنَّ كُلَّ مَنْ كَانَ مُحْسِنًا فِي شَيْءٍ
فَلَا سَبِيلَ عَلَيْهِ فِيهِ وَيُحْتَجُّ بِهِ فِي مَسَائِلَ
مِمَّا قَدْ اُخْتُلِفَ فِيهِ نَحْوُ مَنْ اسْتَعَارَ ثَوْبًا
لِيُصَلِّيَ فِيهِ أَوْ دَابَّةً لِيَحُجَّ عَلَيْهَا
فَتَهْلَكُ فَلَا سَبِيلَ عَلَيْهِ فِي تَضْمِينِهِ لِأَنَّهُ
مُحْسِنٌ وَقَدْ نَفَى اللَّهُ تَعَالَى السَّبِيلَ عَلَيْهِ
نَفْيًا عَامًّا وَنَظَائِرُ ذَلِكَ مِمَّا يَخْتَلِفُ فِي
وُجُوبِ الضَّمَانِ عَلَيْهِ بَعْدَ حُصُولِ صِفَةِ
الْإِحْسَانِ لَهُ فَيَحْتَجُّ بِهِ نَافُو الضَّمَانِ
وَيَحْتَجُّ مُخَالِفُنَا فِي إسْقَاطِ ضَمَانِ الْجَمَلِ
الصَّئُولِ إذَا قَتَلَهُ مَنْ خَشِيَ أَنْ يَقْتُلَهُ
بِأَنَّهُ مُحْسِنٌ فِي قَتْلِهِ لِلْجَمَلِ وَقَالَ اللَّهُ
تعالى ما على المحسنين من سبيل
(4/352)
يَحْلِفُونَ لَكُمْ
لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ
اللَّهَ لَا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (96)
وَنَظَائِرُهُ كَثِيرَةٌ قَوْله تَعَالَى
فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رجس هو كقوله إنما المشركون
نجس لِأَنَّ الرِّجْسَ يُعَبَّرُ بِهِ عَنْ النَّجَسِ
وَيُقَالُ رِجْسٌ نَجَسٌ عَلَى الْإِتْبَاعِ وَهَذَا يَدُلُّ
عَلَى وُجُوبِ مُجَانَبَةِ الْكُفَّارِ وَتَرْكِ
مُوَالَاتِهِمْ وَمُخَالَطَتِهِمْ وَإِينَاسِهِمْ
وَتَقْوِيَتِهِمْ
وقَوْله تَعَالَى يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ
فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يَرْضَى عن
القوم الفاسقين يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْحَلِفَ عَلَى
الِاعْتِذَارِ مِمَّنْ كَانَ مُتَّهَمًا لَا يُوجِبُ الرِّضَا
عَنْهُ وَقَبُولَ عُذْرِهِ لِأَنَّ الْآيَةَ قَدْ اقْتَضَتْ
النَّهْيَ عَنْ الرِّضَا عَنْ هَؤُلَاءِ مَعَ أَيْمَانِهِمْ
وَقَالَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ يَحْلِفُونَ وَلَمْ يَقُلْ
بِاَللَّهِ وَقَالَ في الآية الأولى سيحلفون بالله فَذَكَرَ
اسْمَ اللَّهِ فِي الْحَلِفِ فِي الْأُولَى وَاقْتَصَرَ فِي
الْآيَةِ الثَّانِيَةِ عَلَى ذِكْرِ الْحَلِفِ فَدَلَّ عَلَى
أَنَّهُمَا سَوَاءٌ وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخر يحلفون على الكذب
وهم يعلمون وَكَذَلِكَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْقَسَمِ
فَقَالَ في موضع وأقسموا بالله جهد أيمانهم وَقَالَ فِي
مَوْضِعٍ آخَرَ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مصبحين
فَاكْتَفَى بِذِكْرِ الْحَلِفِ عَنْ ذِكْرِ اسْمِ اللَّهِ
تَعَالَى وَفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ
قَوْلِ الْقَائِلِ أَحْلِفُ وَبَيْنَ قَوْلِهِ أحلف بالله
وكذلك قوله أقسم وأقسم بِاَللَّهِ
قَوْله تَعَالَى الأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا
وَأَجْدَرُ أَلا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ على
رسوله أُطْلِقَ هَذَا الْخَبَرُ عَنْ الْأَعْرَابِ وَمُرَادُهُ
الْأَعَمُّ الأكثر منهم وهم الذين كانوا يواطئون
الْمُنَافِقِينَ عَلَى الْكُفْرِ وَالنِّفَاقِ وَأَخْبَرَ
أَنَّهُمْ أَجْدَرُ أَنْ لَا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ
اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ وَذَلِكَ لِقِلَّةِ سَمَاعِهِمْ
لِلْقُرْآنِ وَمُجَالَسَتِهِمْ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهُمْ أَجْهَلُ مِنْ الْمُنَافِقِينَ
الَّذِينَ كَانُوا بِحَضْرَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَنَّهُمْ قَدْ كَانُوا يَسْمَعُونَ
الْقُرْآنَ وَالْأَحْكَامَ فَكَانَ الْأَعْرَابُ أَجْهَلَ
بِحُدُودِ الشَّرَائِعِ مِنْ أُولَئِكَ وَكَذَلِكَ هُمْ الْآنَ
فِي الْجَهْلِ بِالْأَحْكَامِ وَالسُّنَنِ وَفِي سَائِرِ
الْأَعْصَارِ وَإِنْ كَانُوا مُسْلِمِينَ لِأَنَّ مَنْ بَعُدَ
مِنْ الْأَمْصَارِ وَنَاءَ عَنْ حَضْرَةِ الْعُلَمَاءِ كَانَ
أَجْهَلَ بِالْأَحْكَامِ وَالسُّنَنِ مِمَّنْ جَالَسَهُمْ
وَسَمِعَ مِنْهُمْ وَلِذَلِكَ كَرِهَ أَصْحَابُنَا إمَامَةَ
الْأَعْرَابِيِّ فِي الصَّلَاةِ وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ
إطْلَاقَ اسْمِ الْكُفْرِ وَالنِّفَاقِ عَلَى الْأَعْرَابِ
خَاصٌّ فِي بَعْضِهِمْ دُونَ بَعْضٍ قَوْله تَعَالَى فِي
نَسَقِ التِّلَاوَةِ
وَمِنَ الأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ
الآخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ قُرُبَاتٍ عِنْدَ اللَّهِ
وَصَلَوَاتِ الرسول الْآيَةَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنُ
صَلَوَاتِ الرَّسُولِ اسْتِغْفَارُهُ لَهُمْ وَقَالَ قَتَادَةُ
دُعَاؤُهُ لَهُمْ بِالْخَيْرِ وَالْبَرَكَةِ
وقَوْله تَعَالَى وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ
الْمُهَاجِرِينَ والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان فِيهِ
الدَّلَالَةُ عَلَى تَفْضِيلِ السَّابِقِ إلَى الْخَيْرِ على
التالي لأنه داع إليه بسبقه وَالتَّالِي تَابِعٌ لَهُ فَهُوَ
إمَامٌ لَهُ وَلَهُ
(4/353)
وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ
مِنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ
مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لَا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ
نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ
إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ (101)
مِثْلُ أَجْرِهِ كَمَا
قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ
سَنَّ سُنَّةً حَسَنَةً فَلَهُ أَجْرُهَا وَأَجْرُ مَنْ عَمِلَ
بِهَا إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَمَنْ سَنَّ سُنَّةً
سَيِّئَةً فَعَلَيْهِ وِزْرُهَا وَوِزْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا
إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ
وَكَذَلِكَ السَّابِقُ إلَى الشَّرِّ أَسْوَأُ حَالًا مِنْ
التَّابِعِ لَهُ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى مَنْ سَنَّهُ وَقَالَ
اللَّهُ تَعَالَى وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالا
مَعَ أثقالهم يَعْنِي أَثْقَالَ مَنْ اقْتَدَى بِهِمْ فِي
الشَّرِّ وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ
كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ
نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ
فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جميعا
وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا
مِنْ قَتِيلٍ ظُلْمًا إلَّا وَعَلَى ابْنِ آدَمَ الْقَاتِلِ
كِفْلٌ مِنْ دَمِهِ لِأَنَّهُ أَوَّلُ مَنْ سَنَّ الْقَتْلَ
وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِيمَنْ نَزَلَتْ الْآيَةُ فَرُوِيَ عَنْ
أَبِي مُوسَى وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ وَابْنِ سِيرِينَ
وَقَتَادَةَ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي الَّذِينَ صَلَّوْا إلَى
الْقِبْلَتَيْنِ وَقَالَ الشَّعْبِيُّ فِيمَنْ بَايَعَ
بَيْعَةَ الرِّضْوَانِ وَقَالَ غَيْرُهُمْ فِيمَنْ أَسْلَمَ
قَبْلَ الْهِجْرَةِ
وقَوْله تَعَالَى وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الأَعْرَابِ
منافقون- الآية إلى قوله- سنعذبهم مرتين قَالَ الْحَسَنُ
وَقَتَادَةُ فِي الدُّنْيَا وَفِي الْقَبْرِ ثم يردون إلى عذاب
عظيم وَهُوَ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي
الدُّنْيَا بِالْفَضِيحَةِ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَكَرَ رِجَالًا مِنْهُمْ بِأَعْيَانِهِمْ
وَالْأُخْرَى فِي الْقَبْرِ وَقَالَ مُجَاهِدٌ بِالْقَتْلِ
وَالسَّبْيِ وَالْجُوعِ
وقَوْله تَعَالَى وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ
خَلَطُوا عَمَلا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَنْ
يَتُوبَ عَلَيْهِمْ وَالِاعْتِرَافُ الْإِقْرَارُ بِالشَّيْءِ
عَنْ مَعْرِفَةٍ لِأَنَّ الْإِقْرَارَ مِنْ قَرَّ الشَّيْءُ
إذَا ثَبَتَ وَالِاعْتِرَافُ مِنْ الْمَعْرِفَةِ وَإِنَّمَا
ذَكَرَ الِاعْتِرَافَ بِالْخَطِيئَةِ عِنْدَ التَّوْبَةِ
لِأَنَّ تَذَكُّرَ قُبْحِ الذَّنْبِ أَدْعَى إلَى إخْلَاصِ
التوبة منه وأبعد من حال ما يُدْعَى إلَى التَّوْبَةِ مِمَّنْ
لَا يَدْرِي مَا هُوَ وَلَا يَعْرِفُ مَوْقِعَهُ مِنْ
الضَّرَرِ فَأَصَحُّ مَا يَكُونُ مِنْ التَّوْبَةِ أَنْ تَقَع
مَعَ الِاعْتِرَافِ بِالذَّنْبِ وَلِذَلِكَ حَكَى اللَّهُ
تَعَالَى عَنْ آدَمَ وَحَوَّاءَ عِنْدَ تَوْبَتِهِمَا رَبَّنَا
ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا
وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الخاسرين وَإِنَّمَا قَالَ
عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ لِيَكُونُوا بَيْنَ
الطَّمَعِ وَالْإِشْفَاقِ فَيَكُونُوا أَبْعَدَ مِنْ
الِاتِّكَالِ وَالْإِهْمَالِ وَقَالَ الْحَسَنُ عَسَى مِنْ
اللَّهِ وَاجِبٌ وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ
الْمُذْنِبَ لَا يَجُوزُ لَهُ الْيَأْسُ مِنْ التَّوْبَةِ
وَإِنَّمَا يَعْرُضُ مَا دَامَ يَعْمَلُ مَعَ الشَّرِّ خير
لِقَوْلِهِ تَعَالَى خَلَطُوا عَمَلا صَالِحًا وَآخَرَ
سَيِّئًا وَأَنَّهُ مَتَى كَانَ لِلْمُذْنِبِ رُجُوعٌ إلَى
اللَّهِ فِي فِعْلِ الْخَيْرِ وَإِنْ كَانَ مُقِيمًا عَلَى
الذَّنْبِ أَنَّهُ مَرْجُوُّ الصَّلَاحِ مَأْمُونُ خَيْرِ
الْعَاقِبَةِ وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى وَلا تَيْأَسُوا مِنْ
رَوْحِ الله إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون
فَالْعَبْدُ وَإِنْ عَظُمَتْ ذُنُوبُهُ فَغَيْرُ جَائِزٍ لَهُ
الِانْصِرَافُ عَنْ الْخَيْرِ يَائِسًا مِنْ قَبُولِ
تَوْبَتِهِ لأن التوبة
(4/354)
خُذْ مِنْ
أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا
وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ
سَمِيعٌ عَلِيمٌ (103)
مَقْبُولَةٌ مَا بَقِيَ فِي حَالِ
التَّكْلِيفِ فَأَمَّا مَنْ عَظُمَتْ ذُنُوبُهُ وَكَثُرَتْ
مَظَالِمُهُ وَمُوبِقَاتُهُ فَأَعْرَضَ عَنْ فِعْلِ الْخَيْرِ
وَالرُّجُوعِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى يَائِسًا مِنْ قَبُولِ
تَوْبَتِهِ فَإِنَّهُ يُوشِكُ أَنْ يَكُونَ مِمَّنْ قَالَ
اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ كَلا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا
كَانُوا يَكْسِبُونَ.
وَرُوِيَ أَنَّ الْحَسَنَ بْنَ عَلِيٍّ قَالَ لِحَبِيبِ بْنِ
مَسْلَمَةَ الْفِهْرِيِّ وَكَانَ مِنْ أَصْحَابِ مُعَاوِيَةَ
رُبَّ مَسِيرٍ لَك فِي غَيْرِ طَاعَةِ اللَّهِ فَقَالَ أَمَّا
مَسِيرِي إلَى أَبِيك فَلَا فَقَالَ الْحَسَنُ بَلَى
وَلَكِنَّك اتَّبَعْت مُعَاوِيَةَ عَلَى عَرَضٍ مِنْ
الدُّنْيَا يَسِيرٍ وَاَللَّهِ لَئِنْ قَامَ بِك معاوية في
دنياك لقد قَعَدَ بِك فِي دِينِك وَلَوْ كُنْت إذْ فَعَلْت
شَرًّا قُلْت خَيْرًا كُنْت مِمَّنْ قَالَ اللَّهُ خَلَطُوا
عَمَلا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى الله أن يتوب عليهم
وَلَكِنَّك أَنْتَ مِمَّنْ قَالَ اللَّهُ كَلا بَلْ رَانَ
عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يكسبون
وَهَذِهِ الْآيَةُ نَزَلَتْ فِي نَفَرٍ تَخَلَّفُوا عَنْ
تَبُوكَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ كَانُوا عَشَرَةً فِيهِمْ أَبُو
لُبَابَةَ بْنُ عَبْدِ الْمُنْذِرِ فَرَبَطَ سَبْعَةٌ مِنْهُمْ
أَنْفُسَهُمْ بِسِوَارِي الْمَسْجِدِ إلَى أَنْ نَزَلَتْ
توبتهم وقيل سَبْعَةً فِيهِمْ أَبُو لُبَابَةَ
قَوْله تَعَالَى خُذْ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها
ظَاهِرُهُ رُجُوعُ الْكِنَايَةِ إلَى الْمَذْكُورِينَ قَبْلَهُ
وَهُمْ الَّذِينَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ لِأَنَّ
الْكِنَايَةَ لَا تَسْتَغْنِي عَنْ مَظْهَرٍ مَذْكُورٍ قَدْ
تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ فِي الْخِطَابِ فَهَذَا هُوَ ظَاهِرُ
الْكَلَامِ وَمُقْتَضَى اللَّفْظِ وَجَائِزٌ أَنْ يُرِيدَ بِهِ
جَمِيعَ الْمُؤْمِنِينَ وَتَكُونَ الكناية جَمِيعًا
لِدَلَالَةِ الْحَالِ عَلَيْهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى إِنَّا
أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ القدر يَعْنِي الْقُرْآنَ
وَقَوْلُهُ مَا تَرَكَ عَلَى ظهرها من دابة وَهُوَ يَعْنِي
الْأَرْضَ وَقَوْلُهُ حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ يَعْنِي
الشَّمْسَ فَكَنَّى عَنْ هَذِهِ الْأُمُورِ مِنْ غَيْرِ
ذِكْرِهَا مُظْهَرَةً فِي الْخِطَابِ لِدَلَالَةِ الْحَالِ
عَلَيْهَا كَذَلِكَ قَوْلُهُ خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً
يُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ بِهِ أَمْوَالَ الْمُؤْمِنِينَ
وَقَوْلُهُ تطهرهم وتزكيهم بها يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ فَإِنْ
كَانَتْ الْكِنَايَةُ عَنْ الْمَذْكُورِينَ فِي الْخِطَابِ
مِنْ الْمُعْتَرِفِينَ بِذُنُوبِهِمْ فَإِنَّ دَلَالَتَهُ
ظَاهِرَةٌ عَلَى وُجُوبِ الْأَخْذِ مِنْ سَائِرِ
الْمُسْلِمِينَ لِاسْتِوَاءِ الْجَمِيعِ فِي أَحْكَامِ
الدِّينِ إلَّا مَا خَصَّهُ الدَّلِيلُ وَذَلِكَ لِأَنَّ كُلَّ
حُكْمٍ حَكَمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ بِهِ فِي شَخْصٍ أَوْ عَلَى
شَخْصٍ مِنْ عِبَادِهِ أَوْ غَيْرِهَا فَذَلِكَ الحكم لازم في
سائر الأشخاص إلا قَامَ دَلِيلُ التَّخْصِيصِ فِيهِ وقَوْله
تَعَالَى تُطَهِّرُهُمْ يَعْنِي إزَالَةَ نَجَسِ الذُّنُوبِ
بِمَا يُعْطِي مِنْ الصَّدَقَةِ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَمَّا
أَطْلَقَ اسْمَ النَّجَسِ عَلَى الْكُفْرِ تَشْبِيهًا لَهُ
بِنَجَاسَةِ الْأَعْيَانِ أَطْلَقَ فِي مُقَابَلَتِهِ
وَإِزَالَتِهِ اسْمَ التَّطْهِيرِ كَتَطْهِيرِ نَجَاسَةِ
الْأَعْيَانِ بِإِزَالَتِهَا وَكَذَلِكَ حُكْمُ الذُّنُوبِ فِي
إطْلَاقِ اسْمِ النَّجَسِ عَلَيْهَا وَأَطْلَقَ اسْمَ
التَّطْهِيرِ عَلَى إزَالَتِهَا بِفِعْلِ مَا يُوجِبُ
تَكْفِيرَهَا
(4/355)
فَأَطْلَقَ اسْمَ التَّطْهِيرِ عَلَيْهِمْ
بِمَا يَأْخُذُهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ مِنْ صَدَقَاتِهِمْ وَمَعْنَاهُ أَنَّهُمْ
يَسْتَحِقُّونَ ذَلِكَ بِأَدَائِهَا إلَى النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ إلَّا
فِعْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي
الْأَخْذِ لَمَا اسْتَحَقُّوا التَّطْهِيرَ لِأَنَّ ذَلِكَ
ثَوَابٌ لَهُمْ عَلَى طَاعَتِهِمْ وَإِعْطَائِهِمْ الصَّدَقَةَ
وَهُمْ لَا يَسْتَحِقُّونَ التَّطْهِيرَ وَلَا يَصِيرُونَ
أَزْكِيَاءَ بِفِعْلِ غَيْرِهِمْ فَعَلِمْنَا أَنَّ فِي
مَضْمُونِهِ إعْطَاءَ هَؤُلَاءِ الصَّدَقَةَ إلَى النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلِذَلِكَ صَارُوا بِهَا
أَزْكِيَاءَ مُتَطَهِّرِينَ وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي مُرَادِ
الْآيَةِ هَلْ هِيَ الزَّكَاةُ الْمَفْرُوضَةُ أو هي كفارة
الذُّنُوبِ الَّتِي أَصَابُوهَا فَرُوِيَ عَنْ الْحَسَنِ
أَنَّهَا لَيْسَتْ بِالزَّكَاةِ الْمَفْرُوضَةِ وَإِنَّمَا
هِيَ كَفَّارَةُ الذُّنُوبِ الَّتِي أَصَابُوهَا وَقَالَ
غَيْرُهُ هِيَ الزَّكَاةُ الْمَفْرُوضَةُ وَالصَّحِيحُ
أَنَّهَا الزَّكَوَاتُ الْمَفْرُوضَاتُ إذْ لَمْ يَثْبُتْ
أَنَّ هَؤُلَاءِ الْقَوْمَ أَوْجَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ
صَدَقَةً دُونَ سَائِرِ النَّاسِ سِوَى زَكَوَاتِ الْأَمْوَالِ
وَإِذَا لَمْ يَثْبُتْ بِذَلِكَ خَبَرٌ فَالظَّاهِرُ أَنَّهُمْ
وَسَائِرَ النَّاسِ سَوَاءٌ فِي الْأَحْكَامِ وَالْعِبَادَاتِ
وَأَنَّهُمْ غَيْرُ مَخْصُوصِينَ بِهَا دُونَ غَيْرِهِمْ مِنْ
النَّاسِ وَلِأَنَّهُ إذَا كَانَ مُقْتَضَى الْآيَةِ وُجُوبُ
هَذِهِ الصَّدَقَةِ عَلَى سَائِرِ النَّاسِ لِتَسَاوِي
النَّاسِ فِي الْأَحْكَامِ إلَّا مَنْ خَصَّهُ دَلِيلٌ
فَالْوَاجِبُ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الصَّدَقَةُ وَاجِبَةً عَلَى
جَمِيعِ النَّاسِ غَيْرَ مَخْصُوصٍ بِهَا قَوْمٌ دُونَ قَوْمٍ
وَإِذَا ثَبَتَ ذَلِكَ كَانَتْ هِيَ الزَّكَاةَ الْمَفْرُوضَةَ
إذْ لَيْسَ فِي أَمْوَالِ سَائِرِ النَّاسِ حَقٌّ سِوَى
الصَّدَقَاتِ المفروضة وقوله تطهرهم وتزكيهم بها لَا دَلَالَةَ
فِيهِ عَلَى أَنَّهَا صَدَقَةٌ مُكَفِّرَةٌ للذنوب غير الزكاة
المفروضة لأن الزكاة أَيْضًا تُطَهِّرُ وَتُزَكِّي
مُؤَدِّيَهَا وَسَائِرُ النَّاسِ مِنْ الْمُكَلَّفِينَ
مُحْتَاجُونَ إلَى مَا يُطَهِّرُهُمْ وَيُزَكِّيهِمْ
وَقَوْلُهُ خذ من أموالهم عموم في سائر الأصناف ومقتض لأجل
الْبَعْضِ مِنْهَا إذْ كَانَتْ مِنْ مُقْتَضَى التَّبْعِيضِ
وَقَدْ دَخَلَتْ عَلَى عُمُومِ الْأَمْوَالِ فَاقْتَضَتْ
إيجَابَ الْأَخْذِ مِنْ سَائِرِ أَصْنَافِ الْأَمْوَالِ
بَعْضَهَا وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ إنَّهُ مَتَى أَخَذَ
مِنْ صِنْفٍ وَاحِدٍ فَقَدْ قَضَى عُهْدَةَ الْآيَةِ
وَالصَّحِيحُ عِنْدَنَا هُوَ الْأَوَّلُ وَكَذَلِكَ كَانَ
يَقُولُ شَيْخُنَا أَبُو الْحَسَنِ الْكَرْخِيُّ قَالَ أَبُو
بَكْرٍ وَقَدْ ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى إيجَابَ فَرْضِ
الزَّكَاةِ فِي مَوَاضِعَ مِنْ كِتَابِهِ بِلَفْظٍ مُجْمَلٍ
مُفْتَقِرٍ إلَى الْبَيَانِ فِي الْمَأْخُوذِ وَالْمَأْخُوذِ
مِنْهُ وَمَقَادِيرِ الْوَاجِبِ وَالْمُوجِبِ فِيهِ وَوَقْتِهِ
وَمَا يَسْتَحِقُّهُ وَمَا يَنْصَرِفُ فيه فكان لفظ الزكاة
مجمل فِي هَذِهِ الْوُجُوهِ كُلِّهَا وَقَالَ تَعَالَى خُذْ من
أموالهم صدقة فَكَانَ الْإِجْمَالُ فِي لَفْظِ الصَّدَقَةِ
دُونَ لَفْظِ الْأَمْوَالِ لِأَنَّ الْأَمْوَالَ اسْمُ عُمُومٍ
فِي مُسَمَّيَاتِهِ إلَّا أَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ أَنَّ
الْمُرَادَ خَاصٌّ فِي بَعْضِ الْأَمْوَالِ دُونَ جَمِيعِهَا
وَالْوُجُوبَ فِي وَقْتٍ مِنْ الزَّمَانِ دُونَ سَائِرِهِ
وَنَظِيرُهُ قَوْله تعالى فى أموالهم حق معلوم للسائل والمحروم
(4/356)
وَكَانَ مُرَادُ اللَّهِ تَعَالَى فِي
جَمِيعِ ذَلِكَ مَوْكُولًا إلَى بَيَانِ الرَّسُولِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ تَعَالَى وَمَا آتَاكُمُ
الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وما نهاكم عنه فانتهوا حَدَّثَنَا
مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُد قَالَ
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ قَالَ حَدَّثَنِي
مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْأَنْصَارِيِّ قَالَ
حَدَّثَنَا صُرَدُ بْنُ أَبِي الْمَنَازِلِ قَالَ
سَمِعْت حَبِيبًا الْمَالِكِيَّ قَالَ قَالَ رَجُلٌ
لِعِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ يَا أَبَا نُجَيْدٍ إنَّكُمْ
لَتُحَدِّثُونَنَا بِأَحَادِيثَ مَا نَجِدُ لَهَا أَصْلًا فِي
الْقُرْآنِ فَغَضِبَ عِمْرَانُ وَقَالَ لِلرَّجُلِ
أَوَجَدْتُمْ فِي كُلِّ أَرْبَعِينَ دِرْهَمًا دِرْهَمًا
وَمِنْ كُلِّ كَذَا وَكَذَا شَاةً شَاةً وَمِنْ كَذَا وَكَذَا
بَعِيرًا كَذَا وَكَذَا أَوَجَدْتُمْ هَذَا فِي الْقُرْآنِ
قَالَ لَا قَالَ فَعَمَّنْ أَخَذْتُمْ هَذَا أَخَذْتُمُوهُ
عَنَّا وَأَخَذْنَاهُ عَنْ نَبِيِّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَذَكَرَ أَشْيَاءَ نَحْوَ هَذَا فَمِمَّا
نَصَّ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ مِنْ أَصْنَافِ الْأَمْوَالِ
الَّتِي تَجِبُ فِيهَا الزَّكَاةُ الذَّهَبُ وَالْفِضَّةُ
بِقَوْلِهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ
وَلا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بعذاب
أليم فنص على وجوب الحق فيهما بأخص أسمائها تَأْكِيدًا
وَتَبْيِينًا وَمِمَّا نَصَّ عَلَيْهِ زَكَاةُ الزَّرْعِ
وَالثِّمَارِ فِي قَوْلِهِ وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ
معروشات- إلَى قَوْلِهِ- كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ
وآتوا حقه يوم حصاده فَالْأَمْوَالُ الَّتِي تَجِبُ فِيهَا
الزَّكَاةُ الذَّهَبُ وَالْفِضَّةُ وَعَرُوضُ التِّجَارَةِ
وَالْإِبِلُ وَالْبَقَرُ وَالْغَنَمُ السَّائِمَةُ وَالزَّرْعُ
وَالثَّمَرُ عَلَى اخْتِلَافٍ مِنْ الْفُقَهَاءِ فِي بَعْضِ
ذَلِكَ وَقَدْ ذَكَرَ بَعْضٌ صَدَقَةَ الزَّرْعِ وَالثَّمَرِ
فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ وَأَمَّا الْمِقْدَارُ فَإِنَّ
نِصَابَ الْوَرِقِ مِائَتَا دِرْهَمٍ وَنِصَابَ الذَّهَبِ
عِشْرُونَ دِينَارًا
وَقَدْ رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ وَأَمَّا الْإِبِلُ فَإِنَّ نِصَابَهَا خَمْسٌ
مِنْهَا وَنِصَابُ الْغَنَمِ أَرْبَعُونَ شَاةً وَنِصَابُ
الْبَقَرِ ثَلَاثُونَ وَأَمَّا الْمِقْدَارُ الْوَاجِبُ فَفِي
الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَعَرُوضِ التِّجَارَةِ رُبْعُ
الْعُشْرِ إذَا بَلَغَ النِّصَابَ وَفِي خَمْسٍ مِنْ الْإِبِلِ
شَاةٌ وَفِي أَرْبَعِينَ شَاةً شَاةٌ وَفِي ثَلَاثِينَ
بَقَرَةً تَبِيعٌ
وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي صَدَقَةِ الْخَيْلِ وَسَنَذْكُرُهُ
بَعْدَ هَذَا إنْ شَاءَ اللَّهُ وَأَمَّا الْوَقْتُ فَهُوَ
حَوَلُ الْحَوْلِ عَلَى الْمَالِ مَعَ كَمَالِ النِّصَابِ فِي
ابْتِدَاءِ الْحَوْلِ وَآخِرِهِ وَأَمَّا مَنْ تَجِبُ عَلَيْهِ
فَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْمَالِكُ حُرًّا بَالِغًا عَاقِلًا
مُسْلِمًا صَحِيحَ الْمِلْكِ لَا دَيْنَ عَلَيْهِ يُحِيطُ
بِمَالِهِ أَوْ بِمَا لَا يَفْضُلُ عَنْهُ مِائَتَا دِرْهَمٍ
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو
دَاوُد قَالَ حَدَّثَنَا الْقَعْنَبِيُّ قَالَ قَرَأْت عَلَى
مَالِك بْنِ أَنَسٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ يَحْيَى الْمَازِنِيِّ
عَنْ أَبِيهِ قَالَ سَمِعْت أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ
يَقُولُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسِ ذَوْدٍ صَدَقَةٌ
وَلَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسِ أَوَاقٍ صَدَقَةٌ وَلَيْسَ
فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ صَدَقَةٌ
وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو
دَاوُد قَالَ حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُد الْمُهْرِيُّ
قَالَ أَخْبَرَنَا ابْنُ
(4/357)
وَهْبٍ قَالَ أَخْبَرَنِي جَرِيرُ بْنُ
حَازِمٍ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ عَاصِمِ بْنِ ضَمْرَةَ
وَالْحَارِثُ الْأَعْوَرُ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ
عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ
فَإِذَا كَانَتْ لَك مِائَتَا دِرْهَمٍ وَحَالَ عَلَيْهَا
الْحَوْلُ فَفِيهَا خَمْسَةُ دَرَاهِمَ وَلَيْسَ عَلَيْك
شَيْءٌ فِي الذَّهَبِ حَتَّى يَكُونَ لَك عِشْرُونَ دِينَارًا
فَإِذَا كَانَتْ لَك عِشْرُونَ دِينَارًا وَحَالَ عَلَيْهَا
الْحَوْلُ فَفِيهَا نِصْفُ دِينَارٍ
وَلَيْسَ فِي مَالٍ زَكَاةٌ حَتَّى يَحُولَ عَلَيْهِ الْحَوْلُ
وَهَذَا الْخَبَرُ فِي الْحَوْلِ وَإِنْ كَانَ مِنْ أَخْبَارِ
الْآحَادِ فَإِنَّ الْفُقَهَاءَ قَدْ تَلَقَّتْهُ بِالْقَبُولِ
وَاسْتَعْمَلُوهُ فَصَارَ فِي حيز المتواتر المواجب لِلْعِلْمِ
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي رَجُلٍ مَلَكَ نِصَابًا
أَنَّهُ يُزَكِّيهِ حِينَ يَسْتَفِيدُهُ وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ
وَعَلِيٌّ وَعُمَرُ وَابْنُ عُمَرَ وَعَائِشَةُ لَا زَكَاةَ
فِيهِ حَتَّى يَحُولَ عَلَيْهِ الْحَوْلُ وَلَمَّا اتَّفَقُوا
عَلَى أَنَّهُ لَا زَكَاةَ عَلَيْهِ بَعْدَ الْأَدَاءِ حَتَّى
يَحُولَ عَلَيْهِ الْحَوْلُ علمنا أن وجوب الزكاة لم يتعلق
بالملك دُونَ الْحَوْلِ وَأَنَّهُ بِهِمَا جَمِيعًا يَجِبُ
وَقَدْ اسْتَعْمَلَ ابْنُ عَبَّاسٍ خَبَرَ الْحَوْلِ بَعْدَ
الْأَدَاءِ وَلَمْ يُفَرِّقْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَهُ قَبْلَ الْأَدَاءِ وَبَعْدَهُ
بَلْ نَفَى إيجَابَ الزَّكَاةِ فِي سَائِرِ الْأَمْوَالِ
نَفْيًا عَامًّا إلَّا بَعْدَ حَوَلِ الْحَوْلِ فَوَجَبَ
اسْتِعْمَالُهُ فِي كُلِّ نِصَابٍ قَبْلَ الْأَدَاءِ
وَبَعْدَهُ وَمَعَ ذَلِكَ يُحْتَمَلُ أَنْ لَا يَكُونَ ابْنُ
عَبَّاسٍ أَرَادَ إيجَابَ الْأَدَاءِ بِوُجُودِ مِلْكِ
النِّصَابِ وَأَنَّهُ أَرَادَ جَوَازَ تَعْجِيلِ الزَّكَاةِ
لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي الْخَبَرِ ذِكْرُ الْوُجُوبِ وَاخْتُلِفَ
فِيمَا زَادَ عَلَى الْمِائَتَيْنِ مِنْ الْوَرِقِ
فَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ عُمَرَ فِيمَا زَادَ عَلَى
الْمِائَتَيْنِ بِحِسَابِهِ
وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ وَمَالِكٍ
وَالشَّافِعِيِّ وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ لَا شَيْءَ فِي
الزِّيَادَةِ حَتَّى تَبْلُغَ أربعين درهما وهو قول أبى حنفية
وَيَحْتَجُّ مَنْ اعْتَبَرَ الزِّيَادَةَ أَرْبَعِينَ بِمَا
رَوَى عبد الرحمن ابن غَنْمٍ عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ عَنْ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَيْسَ فِيمَا
زَادَ على المائتي درهم شَيْءٌ حَتَّى يَبْلُغَ أَرْبَعِينَ
دِرْهَمًا
وَحَدِيثِ عَلِيٍّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ هَاتُوا زَكَاةَ الرِّقَةِ مِنْ كُلِّ أَرْبَعِينَ
دِرْهَمًا دِرْهَمًا وَلَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسِ أَوَاقٍ
صَدَقَةٌ
فَوَجَبَ استعمال قوله في كل أربعين درهم درهما عَلَى أَنَّهُ
جَعَلَهُ مِقْدَارَ الْوَاجِبِ فِيهِ
كَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِذَا
كَثُرَتْ الْغَنَمُ فَفِي كُلِّ مِائَةِ شَاةٍ شَاةٌ
وَيَدُلُّ عَلَيْهِ مِنْ جِهَةِ النَّظَرِ أَنَّ هَذَا مَالٌ
لَهُ نِصَابٌ فِي الْأَصْلِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ لَهُ عَفْوٌ
بَعْدَ النِّصَابِ كَالسَّوَائِمِ وَلَا يَلْزَمُ أَبَا
حَنِيفَةَ ذَلِكَ فِي زَكَاةِ الثِّمَارِ لِأَنَّهُ لَا
نِصَابَ لَهُ فِي الْأَصْلِ عِنْدَهُ وَأَبُو يُوسُفَ
وَمُحَمَّدٌ لَمَّا كَانَ عِنْدَهُمَا أَنَّ لِزَكَاةِ
الثِّمَارِ نِصَابًا فِي الْأَصْلِ ثُمَّ لَمْ يَجِبْ
اعْتِبَارُ مِقْدَارٍ بَعْدَهُ بَلْ الْوَاجِبُ فِي الْقَلِيلِ
وَالْكَثِيرِ كَذَلِكَ الدَّرَاهِمُ وَالدَّنَانِيرُ وَلَوْ
سَلِمَ لَهُمَا ذَلِكَ كَانَ قِيَاسُهُ عَلَى السَّوَائِمِ
أَوْلَى مِنْهُ عَلَى الثِّمَارِ لِأَنَّ السَّوَائِمَ
يَتَكَرَّرُ وُجُوبُ الْحَقِّ فِيهَا بتكرر السنين
(4/358)
وَمَا تُخْرِجُ الْأَرْضُ لَا يَجِبُ فِيهِ
الْحَقُّ إلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً وَمُرُورُ الْأَحْوَالِ لَا
يُوجِبُ تَكْرَارَ وُجُوبِ الْحَقِّ فِيهِ فَإِنْ قِيلَ
فَوَاجِبٌ أَنْ يَكُونَ مَا يَتَكَرَّرُ وُجُوبُ الْحَقِّ
فِيهِ أَوْلَى بِوُجُوبِهِ فِي قَلِيلِ مَا زَادَ عَلَى
النِّصَابِ وَكَثِيرِهِ مِمَّا لَا يَتَكَرَّرُ وُجُوبُ
الْحَقِّ فِيهِ قِيلَ لَهُ هَذَا مُنْتَقَضٌ بِالسَّوَائِمِ
لِأَنَّ الْحَقَّ يَتَكَرَّرُ وُجُوبُهُ فِيهَا وَلَمْ
يَمْنَعْ ذَلِكَ اعْتِبَارُ الْعَفْوِ بَعْدَ النِّصَابِ
وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ قِيَاسَهُ عَلَى السَّوَائِمِ
أَوْلَى مِنْ قِيَاسِهِ عَلَى مَا تُخْرِجُهُ الْأَرْضُ أَنَّ
الدَّيْنَ لَا يُسْقِطُ الْعُشْرَ وَكَذَلِكَ مَوْتُ رَبِّ
الْأَرْضِ وَيُسْقِطُ زَكَاةَ الدَّرَاهِمِ وَالسَّوَائِمِ
فَكَانَ قِيَاسُهَا عَلَيْهَا أَوْلَى مِنْهُ عَلَى مَا
تُخْرِجُهُ الْأَرْضُ وَاخْتُلِفَ فِيمَا زَادَ مِنْ الْبَقَرِ
عَلَى أَرْبَعِينَ فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ فِيمَا زَادَ
بِحِسَابِهِ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ لَا شَيْءَ
فِيهِ حَتَّى يَبْلُغَ سِتِّينَ وَرَوَى أَسَدُ بْنُ عُمَرَ
عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ مِثْلَ قَوْلِهِمَا وَقَالَ ابْنُ أَبِي
لَيْلَى وَمَالِكٌ وَالثَّوْرِيُّ وَالْأَوْزَاعِيُّ
وَاللَّيْثُ وَالشَّافِعِيُّ كَقَوْلِ أَبِي يُوسُفَ
وَمُحَمَّدٍ وَيُحْتَجُّ لِأَبِي حَنِيفَةَ بِقَوْلِهِ
تَعَالَى خُذْ من أموالهم صدقة وَذَلِكَ عُمُومٌ فِي سَائِرِ
الْأَمْوَالِ لَا سِيَّمَا وَقَدْ اتَّفَقَ الْجَمِيعُ عَلَى
أَنَّ هَذَا الْمَالَ دَاخِلٌ فِي حُكْمِ الْآيَةِ مُرَادٌ
بِهَا فَوَجَبَ فِي الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ بِحَقِّ
الْعُمُومِ وَقَدْ رَوَى عَنْهُ الْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ
أَنَّهُ لَا شَيْءَ فِي الزِّيَادَةِ حَتَّى تَبْلُغَ
خَمْسِينَ فَتَكُونَ فِيهَا مُسِنَّةً وَرُبْعَ مُسِنَّةٍ
وَيَحْتَجُّ لِقَوْلِهِ الْمَشْهُورِ أَنَّهُ لَا يَخْلُو مِنْ
إثْبَاتِ الْوَقَصِ تِسْعًا فَيَنْتَقِلُ إلَيْهِ بِالْكَسْرِ
وَلَيْسَ ذَلِكَ فِي فُرُوضِ الصَّدَقَاتِ أو يجعل الْوَقَصِ
تِسْعَةَ عَشَرَ فَيَكُونُ خِلَافُ أَوْقَاصِ الْبَقَرِ
فَلَمَّا بَطَلَ هَذَا وَهَذَا ثَبَتَ الْقَوْلُ الثَّالِثُ
وَهُوَ إيجَابُهُ فِي الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ مِنْ
الزِّيَادَةِ وَرُوِيَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ وَأَبِي
قِلَابَةَ وَالزُّهْرِيِّ وَقَتَادَةَ أَنَّهُمْ كَانُوا
يَقُولُونَ فِي خَمْسٍ مِنْ الْبَقَرِ شَاةٌ وَهُوَ قَوْلٌ
شَاذٌّ لِاتِّفَاقِ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى خِلَافِهِ
وَوُرُودِ الْآثَارِ الصَّحِيحَةِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِبُطْلَانِهِ
وَرَوَى عَاصِمُ بْنُ ضَمْرَةَ عَنْ عَلِيٍّ فِي خَمْسٍ
وَعِشْرِينَ مِنْ الْإِبِلِ خَمْسُ شِيَاهٍ وَقَدْ أَنْكَرَهُ
سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ وَقَالَ عَلِيٌّ أَعْلَمُ مِنْ أَنْ
يَقُولَ هَذَا هَذَا مِنْ غَلَطِ الرِّجَالِ
وَقَدْ ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ بِالْآثَارِ الْمُتَوَاتِرَةِ أَنَّ فِيهَا ابْنَةُ
مَخَاضٍ
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ أَخَذَ
خَمْسَ شِيَاهٍ عَنْ قِيمَةِ بِنْتِ مَخَاضٍ فظن الراوي أن ذلك
فرضها عنه وَاخْتُلِفَ فِي الزِّيَادَةِ عَلَى الْعِشْرِينَ
وَمِائَةٍ مِنْ الْإِبِلِ فَقَالَ أَصْحَابُنَا جَمِيعًا
تَسْتَقْبِلُ الْفَرِيضَةَ وَهُوَ قَوْلُ الثَّوْرِيِّ وَقَالَ
ابْنُ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ إذَا زَادَتْ عَلَى عِشْرِينَ
وَمِائَةٍ وَاحِدَةٌ فَالْمُصَّدِّقُ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ
أَخَذَ ثَلَاثَ بَنَاتِ لَبُونٍ وَإِنْ شَاءَ حِقَّتَيْنِ
وَقَالَ ابْنُ شِهَابٍ إذَا زَادَتْ وَاحِدَةً فَفِيهَا
ثَلَاثُ بَنَاتِ لَبُونٍ إلَى أن
(4/359)
تَبْلُغَ ثَلَاثِينَ وَمِائَةً فَتَكُونُ
فِيهَا حِقَّةٌ وَابْنَتَا لَبُونٍ يَتَّفِقُ قَوْلُ ابْنِ
شِهَابٍ وَمَالِكٍ فِي هَذَا وَيَخْتَلِفَانِ فِيمَا بَيْنَ
وَاحِدٍ وَعِشْرِينَ وَمِائَةٍ إلَى تِسْعٍ وَعِشْرِينَ
وَمِائَةٍ وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ وَالشَّافِعِيُّ مَا زَادَ
عَلَى الْعِشْرِينَ وَالْمِائَةِ فَفِي كُلِّ أَرْبَعِينَ
بِنْتُ لَبُونٍ وَفِي كُلِّ خَمْسِينَ حِقَّةٌ قَالَ أَبُو
بَكْرٍ
قَدْ ثَبَتَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مِنْ
مَذْهَبِهِ اسْتِئْنَافُ الْفَرِيضَةِ بَعْدَ الْمِائَةِ
وَالْعِشْرِينَ بِحَيْثُ لَا يُخْتَلَفُ فِيهِ
وَقَدْ ثَبَتَ عَنْهُ أَيْضًا أَنَّهُ أَخَذَ أَسْنَانَ
الْإِبِلِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
حِينَ سُئِلَ فَقِيلَ لَهُ هَلْ عِنْدَكُمْ شَيْءٌ مِنْ
رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ
مَا عِنْدَنَا إلَّا مَا عِنْدَ النَّاسِ وَهَذِهِ
الصَّحِيفَةُ فَقِيلَ لَهُ وَمَا فِيهَا فَقَالَ فِيهَا
أَسْنَانُ الْإِبِلِ أَخَذْتهَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَلِمَا ثَبَتَ قَوْلُ عَلِيٍّ بِاسْتِئْنَافِ الْفَرِيضَةِ
وَثَبَتَ أَنَّهُ أَخَذَ أَسْنَانَ الْإِبِلِ عَنْ النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَارَ ذلك توقيفا لأنه لَا
يُخَالِفُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَأَيْضًا
قَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فِي الْكِتَابِ الَّذِي كَتَبَهُ لِعَمْرِو بْنِ
حَزْمٍ اسْتِئْنَافُ الْفَرِيضَةِ بَعْدَ الْمِائَةِ
وَالْعِشْرِينَ
وَأَيْضًا غَيْرُ جَائِزٍ إثْبَاتُ هَذَا الضَّرْبِ مِنْ
الْمَقَادِيرِ إلَّا مِنْ طَرِيقِ التَّوْقِيفِ أَوْ
الِاتِّفَاقِ فَلَمَّا اتَّفَقُوا عَلَى وُجُوبِ
الْحِقَّتَيْنِ فِي الْمِائَةِ والعشرين عِنْدَ الزِّيَادَةِ
لَمْ يَجُزْ لَنَا إسْقَاطُ الْحِقَّتَيْنِ لِأَنَّهُمَا
فَرْضٌ قَدْ ثَبَتَ بِالنَّقْلِ الْمُتَوَاتِرِ وَاتِّفَاقِ
الْأُمَّةِ إلَّا بِتَوْقِيفٍ أَوْ اتِّفَاقٍ فَإِنْ قِيلَ
رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم فِي آثَارٍ
كَثِيرَةٍ وَإِذَا زَادَتْ الْإِبِلُ عَلَى مِائَةٍ
وَعِشْرِينَ فَفِي كُلِّ خَمْسِينَ حِقَّةٌ وَفِي كُلِّ
أَرْبَعِينَ ابْنَةُ لَبُونٍ قِيلَ لَهُ قَدْ اخْتَلَفَتْ
أَلْفَاظُهُ فَقَالَ فِي بَعْضِهَا وَإِذَا كَثُرَتْ الْإِبِلُ
وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْإِبِلَ لَا تَكْثُرُ بِزِيَادَةِ
الْوَاحِدَةِ فَعُلِمَ أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ بِقَوْلِهِ وَإِذَا
زَادَتْ الْإِبِلُ إلَّا زِيَادَةً كَثِيرَةً يُطْلَقُ عَلَى
مِثْلِهَا أَنَّ الْإِبِلَ قَدْ كَثُرَتْ بِهَا وَنَحْنُ قَدْ
نُوجِبُ ذَلِكَ عِنْدَ ضَرْبٍ مِنْ الزِّيَادَةِ الْكَثِيرَةِ
وَهُوَ أَنْ تَكُونَ الْإِبِلُ مِائَةً وَتِسْعِينَ فَتَكُونُ
فِيهَا ثَلَاثُ حِقَاقٍ وَبِنْتُ لَبُونٍ وَأَيْضًا فَمُوجِبُ
تَغْيِيرِ الْفَرْضِ بِزِيَادَةِ الْوَاحِدِ لَا يَخْلُو من
يُغَيِّرَهُ بِالْوَاحِدَةِ الزَّائِدَةِ فَيُوجِبُ فِيهَا
وَفِي الْأَصْلِ أَوْ يُغَيِّرُهُ فَيُوجِبُ فِي الْمِائَةِ
وَالْعِشْرِينَ وَلَا يُوجِبُ فِي الْوَاحِدَةِ الزَّائِدَةِ
شَيْئًا فَإِنْ أَوْجَبَ فِي الزِّيَادَةِ مَعَ الْأَصْلِ
ثَلَاثَ بَنَاتِ لَبُونٍ فَهُوَ لَمْ يُوجِبْ فِي
الْأَرْبَعِينَ ابْنَةَ لَبُونٍ وَإِنَّمَا أَوْجَبَهَا فِي
أَرْبَعِينَ وَفِي الْوَاحِدَةِ وَذَلِكَ خِلَافُ قَوْلِهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِنْ كَانَ إنَّمَا
يُوجِبُ تَغْيِيرَ الْفَرْضِ بِالْوَاحِدَةِ فَيَجْعَلُ
ثَلَاثَ بَنَاتِ لَبُونٍ فِي الْمِائَةِ وَالْعِشْرِينَ
وَالْوَاحِدَةُ عَفْوٌ فَقَدْ خَالَفَ الْأُصُولَ إذْ كَانَ
الْعَفْوُ لَا يُغَيِّرُ الْفَرْضَ وَاخْتُلِفَ فِي فَرَائِضِ
الْغَنَمِ فَقَالَ أَصْحَابُنَا وَمَالِكٌ وَالثَّوْرِيُّ
وَالْأَوْزَاعِيُّ وَاللَّيْثُ وَالشَّافِعِيُّ فِي
مِائَتَيْنِ وَشَاةٍ ثَلَاثُ شِيَاهٍ إلَى أَرْبَعمِائَةٍ
فَتَكُونُ فِيهَا أَرْبَعُ شِيَاهٍ وَقَالَ
(4/360)
الحسن بن صالح إذا كانت الغنم ثلاثمائة
شَاةٍ وَشَاةٍ فَفِيهَا أَرْبَعُ شِيَاهٍ وَإِذَا كَانَتْ
أَرْبَعَمِائَةِ شَاةٍ وَشَاةٍ فَفِيهَا خَمْسُ شِيَاهٍ
وَرَوَى إبْرَاهِيمُ نَحْوَ ذَلِكَ وَقَدْ ثَبَتَتْ آثَارٌ
مُسْتَفِيضَةٌ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ بِالْقَوْلِ الْأَوَّلِ دُونَ قَوْلِ الْحَسَنِ بْنِ
صَالِحٍ وَاخْتُلِفَ فِي صَدَقَةِ الْعَوَامِلِ مِنْ الْإِبِلِ
وَالْبَقَرِ فَقَالَ أَصْحَابُنَا وَالثَّوْرِيُّ
وَالْأَوْزَاعِيُّ وَالْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ وَالشَّافِعِيُّ
لَيْسَ فِيهَا شَيْءٌ وَقَالَ مَالِكٌ وَاللَّيْثُ فِيهَا
صَدَقَةٌ وَالْحُجَّةُ لِلْقَوْلِ الْأَوَّلِ مَا
حَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي بْنُ قَانِعٍ قَالَ حَدَّثَنَا
حَسَنُ بْنُ إِسْحَاقَ التُّسْتَرِيُّ قَالَ حَدَّثَنَا
حَمَوَيْهِ قَالَ حَدَّثَنَا سَوَّارُ بْنُ مُصْعَبٍ عَنْ
لَيْثٍ عَنْ طَاوُسٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَيْسَ فِي
الْبَقَرِ الْعَوَامِلِ صَدَقَةٌ
وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو
دَاوُد قَالَ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ
النُّفَيْلِيُّ قَالَ حَدَّثَنَا زُهَيْرٌ قَالَ حَدَّثَنَا
أَبُو إِسْحَاقَ عَنْ عَاصِمِ بْنِ ضَمْرَةَ وَعَنْ الْحَارِثِ
الْأَعْوَرِ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عنه قال زهير أحسبه
قيل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ وَفِي
الْبَقَرِ فِي كُلِّ ثَلَاثِينَ تَبِيعٌ وَفِي الْأَرْبَعِينَ
مُسِنَّةٌ وَلَيْسَ عَلَى الْعَوَامِلِ شَيْءٌ وَأَيْضًا
رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
أَنَّهُ قَالَ لَيْسَ فِي النَّخَّةِ وَلَا فِي الْكَسْعَةِ
وَلَا فِي الْجَبْهَةِ صَدَقَةٌ
وَقَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ النَّخَّةُ الْبَقَرُ الْعَوَامِلُ
وَالْكَسْعَةُ الْحَمِيرُ وَالْجَبْهَةُ الْخَيْلُ وَأَيْضًا
فَإِنَّ وُجُوبَ الصَّدَقَةِ فِيمَا عَدَا الذَّهَبَ
وَالْفِضَّةَ مُتَعَلِّقٌ بِكَوْنِهِ مَرْصَدًا لِلنَّمَاءِ
مِنْ نَسْلِهَا أَوْ مِنْ أَنْفُسِهَا وَالسَّائِمَةُ يُطْلَبُ
نَمَاؤُهَا إمَّا مِنْ نَسْلِهَا أَوْ مِنْ أَنْفُسِهَا
وَالْعَامِلَةُ غَيْرُ مُرْصَدَةٍ لِلنَّمَاءِ وَهِيَ
بِمَنْزِلَةِ دُورِ الْغَلَّةِ وَثِيَابِ الْبِذْلَةِ
وَنَحْوِهَا وَأَيْضًا الْحَاجَةُ إلَى عِلْمِ وُجُوبِ
الصَّدَقَةِ فِي الْعَوَامِلِ كَهِيَ إلَى السَّائِمَةِ فَلَوْ
كَانَ مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
تَوْقِيفٌ فِي إيجَابِهَا فِي الْعَامِلَةِ لَوَرَدَ النَّقْلُ
بِهِ مُتَوَاتِرًا فِي وَزْنِ وُرُودِهِ فِي السَّائِمَةِ
فَلَمَّا لَمْ يَرِدْ بِذَلِكَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا عَنْ الصَّحَابَةِ نَقْلٌ
مُسْتَفِيضٌ عَلِمْنَا أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مِنْ النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَوْقِيفٌ فِي إيجَابِهَا
بَلْ قَدْ وَرَدَتْ آثَارٌ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي نَفْيِ الصَّدَقَةِ عَنْهَا مِنْهَا
مَا قَدَّمْنَاهُ وَمِنْهَا مَا
رَوَى يَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ عَنْ الْمُثَنَّى بْنِ
الصَّبَّاحِ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ أَنَّهُ بَلَغَهُ
أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
قَالَ لَيْسَ فِي ثَوْرِ الْمُثِيرَةِ صَدَقَةٌ
وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ وَجَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ
وَإِبْرَاهِيمَ وَمُجَاهِدٍ وَعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ
وَالزُّهْرِيِّ نَفْيُ صَدَقَةِ الْبَقَرِ الْعَوَامِلِ
وَيَدُلُّ عَلَيْهِ
حَدِيثُ أَنَسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ كَتَبَ لِأَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ كِتَابًا فِي
الصَّدَقَاتِ هَذِهِ فَرِيضَةُ الصَّدَقَةِ الَّتِي فَرَضَ
رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى
المسلمين فمن سألها مِنْ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى وَجْهِهَا
فَلْيُعْطِهَا وَمَنْ سُئِلَ فَوْقَهَا فَلَا يُعْطِهِ
صَدَقَةُ الْغَنَمِ فِي سَائِمَتهَا إذَا كَانَتْ أَرْبَعِينَ
فِيهَا شَاةٌ
فَنَفَى بِذَلِكَ الصَّدَقَةَ عَنْ غَيْرِ السَّائِمَةِ
لِأَنَّهُ ذَكَرَ السَّائِمَةَ وَنَفَى الصَّدَقَةَ عَمَّا
عَدَاهَا فَإِنْ قِيلَ
رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي
خمس
(4/361)
مِنْ الْإِبِلِ شَاةٌ
وَذَلِكَ عُمُومٌ يُوجِبُ فِي السَّائِمَةِ وَغَيْرِهَا قِيلَ
لَهُ يَخُصُّهُ مَا ذَكَرْنَا وَلَمْ يَقُلْ بِقَوْلِ مَالِكٍ
فِي إيجَابِهِ الصَّدَقَةَ فِي الْبَقَرِ الْعَوَامِلِ أَحَدٌ
قَبْلَهُ.
(فَصْلٌ) قَالَ أَصْحَابُنَا وَعَامَّةُ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي
أَرْبَعِينَ شَاةً مَسَانَّ وَصِغَارٍ مُسِنَّةٌ وَقَالَ
الشَّافِعِيُّ لَا شَيْءَ فِيهَا حَتَّى تَكُونَ الْمَسَانُّ
أَرْبَعِينَ ثُمَّ يُعْتَدُّ بَعْدَ ذَلِكَ بِالصِّغَارِ
وَلَمْ يَسْبِقْهُ إلَى هَذَا الْقَوْلِ أَحَدٌ
وَقَدْ رَوَى عَاصِمُ بْنُ ضَمْرَةَ عَنْ عَلِيٍّ عَنْ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَدَقَاتِ
الْمَوَاشِي فَقَالَ فِيهِ وَيُعَدُّ صَغِيرُهَا وَكَبِيرُهَا
وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ النِّصَابِ وَمَا زَادَ
وَأَيْضًا
الْآثَارُ الْمُتَوَاتِرَةُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَرْبَعِينَ شَاةً شَاةٌ وَمَتَى
اجْتَمَعَ الصِّغَارُ وَالْكِبَارُ أُطْلِقَ عَلَى الْجَمِيعِ
الِاسْمُ فَيُقَالُ عِنْدَهُ أَرْبَعُونَ شَاةً
فَاقْتَضَى ذَلِكَ وُجُوبَهَا فِي الصِّغَارِ وَالْكِبَارِ
إذَا اجْتَمَعَتْ وَأَيْضًا لَمْ يَخْتَلِفُوا فِي
الِاعْتِدَادِ بِالصِّغَارِ بَعْدَ النِّصَابِ لِوُجُودِ
الْكِبَارِ مَعَهَا فَكَذَلِكَ حُكْمُ النِّصَابِ وَاخْتُلِفَ
فِي الْخَيْلِ السَّائِمَةِ فَأَوْجَبَ أَبُو حَنِيفَةَ فِيهَا
إذَا كَانَتْ إنَاثًا أَوْ ذُكُورًا وَإِنَاثًا فِي كُلِّ
فَرَسٍ دِينَارًا وَإِنْ شَاءَ قَوَّمَهَا وَأَعْطَى عَنْ
كُلِّ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ خَمْسَةَ دَرَاهِمَ وَقَالَ أَبُو
يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ وَمَالِكٌ وَالثَّوْرِيُّ وَالشَّافِعِيُّ
لَا صَدَقَةَ فِيهَا
وَرَوَى عُرْوَةُ السَّعْدِيُّ عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ
عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَابِرٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْخَيْلِ السَّائِمَةِ فِي كُلِّ
فَرَسٍ دِينَارٌ
وَحَدِيثُ مَالِكٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ أَبِي
صَالِحٍ السَّمَّانِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَكَرَ الْخَيْلَ وَقَالَ
هِيَ ثَلَاثَةٌ لِرَجُلٍ أَجْرٌ وَلِآخَرَ سِتْرٌ وَعَلَى
رَجُلٍ وِزْرٌ فَأَمَّا الَّذِي هِيَ لَهُ سِتْرٌ فَالرَّجُلُ
يَتَّخِذُهَا تَكَرُّمًا وَتَجَمُّلًا وَلَا يَنْسَى حَقَّ
اللَّهِ فِي رِقَابِهَا وَلَا فِي ظُهُورِهَا
فَأَثْبَتَ فِي الْخَيْلِ حَقًّا وَقَدْ اتَّفَقُوا عَلَى
سُقُوطِ سَائِرِ الْحُقُوقِ سِوَى صَدَقَةِ السَّوَائِمِ
فَوَجَبَ أَنْ تَكُونَ هِيَ الْمُرَادَةَ فَإِنْ قِيلَ يَجُوزُ
أَنْ يُرِيدَ زَكَاةَ التِّجَارَةِ قِيلَ لَهُ قَدْ سُئِلَ
عَنْ الْحَمِيرِ بَعْدَ ذِكْرِهِ الْخَيْلَ فَقَالَ مَا
أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيَّ فِيهَا إلَّا الْآيَةَ الْجَامِعَةَ
فَمَنْ يَعْمَلْ مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا
يره فَلَمْ يُوجِبْ فِيهَا شَيْئًا وَلَوْ أَرَادَ زَكَاةَ
التِّجَارَةِ لَأَوْجَبَهَا فِي الْحَمِيرِ فَإِنْ قِيلَ فِي
الْمَالِ حُقُوقٌ سِوَى الزَّكَاةِ فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ
أَرَادَ حَقًّا غَيْرَهَا وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ
حَدِيثُ الشَّعْبِيِّ عَنْ فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ عَنْ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ
فِي الْمَالِ حَقٌّ سِوَى الزَّكَاةِ وَتَلَا قَوْله تَعَالَى
لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ
وَرَوَى سُفْيَانُ عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ عَنْ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ ذَكَرَ
الْإِبِلَ فَقَالَ إنَّ فِيهَا حَقًّا فَسُئِلَ عَنْ ذَلِكَ
فَقَالَ إطْرَاقُ فَحْلِهَا وَإِعَارَةُ دَلْوِهَا ومنيحة
سمينها
فجائز أن يكون الحل الْمَذْكُورُ فِي الْخَيْلِ مِثْلَ ذَلِكَ
قِيلَ لَهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَمَا اخْتَلَفَ حُكْمُ
الْحَمِيرِ والخيل
(4/362)
لِأَنَّ هَذَا الْحَقَّ لَا يَخْتَلِفَانِ
فِيهِ فَلَمَّا فَرَّقَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ بَيْنَهُمَا دَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ بِهِ
ذَلِكَ وَأَنَّهُ إنَّمَا أَرَادَ الزَّكَاةَ وَعَلَى أَنَّهُ
قَدْ رُوِيَ أَنَّ الزَّكَاةَ نَسَخَتْ كُلَّ حَقٍّ كَانَ
وَاجِبًا
حَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي بْنُ قَانِعٍ قَالَ حَدَّثَنَا
حَسَنُ بْنُ إِسْحَاقَ التُّسْتَرِيِّ قَالَ حَدَّثَنَا
عَلِيُّ بْنُ سَعِيدٍ قَالَ حَدَّثَنَا الْمُسَيِّبُ بْنُ
شَرِيكٍ عَنْ عُبَيْدٍ الْمُكْتِبِ عَنْ عَامِرٍ عَنْ
مَسْرُوقٍ عَنْ عَلِيٍّ قَالَ نَسَخَتْ الزَّكَاةُ كُلَّ
صَدَقَةٍ
وَأَيْضًا
قَدْ رُوِيَ أَنَّ أَهْلَ الشَّامِّ سَأَلُوا عُمَرَ أَنْ
يَأْخُذَ الصَّدَقَةَ مِنْ خَيْلِهِمْ فَشَاوَرَ أَصْحَابِ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ لَهُ
عَلِيٌّ لَا بَأْسَ مَا لَمْ تَكُنْ جِزْيَةً عَلَيْهِمْ
فَأَخَذَهَا مِنْهُمْ
وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى اتِّفَاقِهِمْ عَلَى الصَّدَقَةِ فِيهَا
لِأَنَّهُ شَاوَرَ الصَّحَابَةَ وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَمْ
يُشَاوِرْهُمْ فِي صَدَقَةِ التَّطَوُّعِ فَدَلَّ عَلَى
أَنَّهُ أَخَذَهَا وَاجِبَةً بِمُشَاوَرَةِ الصَّحَابَةِ
وَإِنَّمَا
قَالَ عَلِيٌّ لَا بَأْسَ مَا لَمْ تَكُنْ جِزْيَةً عَلَيْهِمْ
لِأَنَّهُ لَا يُؤْخَذُ عَلَى وَجْهِ الصَّغَارِ بَلْ عَلَى
وَجْهِ الصَّدَقَةِ وَاحْتَجَّ مَنْ لَمْ يُوجِبْهَا
بِحَدِيثِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَفَوْت لَكُمْ عَنْ
صَدَقَةِ الْخَيْلِ وَالرَّقِيقِ
وحديث أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْسَ عَلَى الْمُسْلِمِ فِي عَبْدِهِ
وَلَا فِي فَرَسِهِ صَدَقَةٌ
وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ عَلَى خَيْلِ الرُّكُوبِ أَلَا
تَرَى أَنَّهُ لَمْ يَنْفِ صَدَقَتَهَا إذَا كَانَتْ
لِلتِّجَارَةِ بِهَذَا الْخَبَرِ وَاخْتُلِفَ فِي زَكَاةِ
الْعَسَلِ فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ
وَمُحَمَّدٌ وَالْأَوْزَاعِيُّ إذَا كَانَ فِي أَرْضِ
الْعُشْرِ فَفِيهِ الْعُشْرُ وَقَالَ مَالِكٌ وَالثَّوْرِيُّ
وَالْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ وَالشَّافِعِيُّ لَا شَيْءَ فِيهِ
وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ مِثْلُهُ
وَرُوِيَ عَنْهُ الرُّجُوعُ عَنْ ذَلِكَ وَأَنَّهُ أَخَذَ
مِنْهُ الْعُشْرَ حِينَ كَشَفَ عَنْ ذَلِكَ وَثَبَتَ عِنْدَهُ
مَا رُوِيَ فِيهِ وَرَوَى ابْنُ وَهْبٍ عَنْ يُونُسَ عَنْ
ابْنِ شِهَابٍ أَنَّهُ قَالَ بَلَغَنِي أَنَّ فِي الْعَسَلِ
الْعُشْرُ قَالَ ابْنُ وَهْبٍ وَأَخْبَرَنِي عَمْرُو بْنُ
الْحَارِثِ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ وَرَبِيعَةَ بِذَلِكَ
وَقَالَ يَحْيَى إنَّهُ سَمِعَ مَنْ يَقُولُ فِيهِ الْعُشْرُ
فِي كُلِّ عَامٍ بِذَلِكَ مَضَتْ السُّنَّةُ قَالَ أَبُو
بَكْرٍ ظَاهِرُ قَوْله تَعَالَى خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صدقة
يُوجِبُ الصَّدَقَةَ فِي الْعَسَلِ إذْ هُوَ مِنْ مَالِهِ
وَالصَّدَقَةُ إنْ كَانَتْ مُجْمَلَةً فَإِنَّ الْآيَةَ قَدْ
اقْتَضَتْ إيجَابَ صَدَقَةٍ مَا وَإِذَا وَجَبَتْ الصَّدَقَةُ
كَانَتْ الْعُشْرَ إذْ لَا يُوجِبُ أَحَدٌ غَيْرَهُ وَيَدُلُّ
عَلَيْهِ مِنْ جِهَةِ السُّنَّةِ مَا
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو
دَاوُد قَالَ حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ أَبِي شُعَيْبٍ
الْحَرَّانِيُّ قَالَ حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ أَعْيَنَ عَنْ
عَمْرِو بْنِ الْحَارِثِ الْمِصْرِيِّ عَنْ عَمْرِو بْنِ
شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ جَاءَ هِلَالٌ
أَحَدُ بَنِي مُتْعَانَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِعُشُورِ نَحْلٍ لَهُ وَسَأَلَهُ أَنْ
يَحْمِيَ وَادِيًا لَهُ يُقَالُ لَهُ سَلَبَةَ فَحَمَى لَهُ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَلِكَ
الْوَادِيَ
فَلَمَّا وَلِيَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ كَتَبَ سُفْيَانُ
بْنُ وَهْبٍ إلَى عمر بن الخطاب يسئله عَنْ ذَلِكَ فَكَتَبَ
(4/363)
عُمَرُ إنْ أَدَّى إلَيْك مَا كَانَ
يُؤَدِّي إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ مِنْ عُشُورِ نَحْلِهِ فَاحْمِ لَهُ سَلَبَةَ
وَإِلَّا فَإِنَّمَا هُوَ ذُبَابُ غَيْثٍ يَأْكُلُهُ مَنْ
يَشَاءُ
وَحَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي بْنُ قَانِعٍ قَالَ حَدَّثَنَا
عَبْدُ اللَّهِ بْن أَحْمَدَ قَالَ حَدَّثَنَا أَبِي قَالَ
حَدَّثَنَا وَكِيعٌ عَنْ سَعِيدِ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ عَنْ
سُلَيْمَانَ بْنِ مُوسَى عَنْ أَبِي سَيَّارَةَ الْمُتَعِيِّ
قَالَ قُلْت يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ لِي نَحْلًا قَالَ أَدِّ
الْعُشْرَ قَالَ فَقُلْت يَا رَسُولَ اللَّهِ احْمِهَا لِي
فَحَمَاهَا لِي
وَحَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي قَالَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ
بْنُ شَاذَانَ قَالَ حَدَّثَنَا مُعَلَّى قَالَ أَخْبَرَنِي
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرِو عَنْ عَبْدِ الْكَرِيمِ عن عمر
بْنِ شُعَيْبٍ قَالَ كَتَبَ إلَيْنَا عُمَرُ بْنُ عَبْدِ
الْعَزِيزِ يَأْمُرُنَا أَنْ نُعْطِيَ زَكَاةَ الْعَسَلِ
وَنَحْنُ بِالطَّوَافِ الْعُشْرَ يُسْنِدُ ذَلِكَ إلَى
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَحَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي بْنُ قَانِعٍ قَالَ حَدَّثَنَا
مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ إمَامُ مَسْجِدِ الْأَهْوَازِ قَالَ
حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ السِّجِسْتَانِيُّ قَالَ
حَدَّثَنَا أَبُو حَفْصٍ الْعَبْدِيُّ قَالَ حَدَّثَنَا
صَدَقَةٌ عَنْ مُوسَى بْنُ يَسَارٍ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ
عُمَرَ قَالَ قَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم في كُلِّ
عَشَرَةِ أَزْقَاقٍ مِنْ الْعَسَلِ زِقٌّ
وَلَمَّا أَوْجَبَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فِي الْعَسَلِ الْعُشْرَ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ
أَجْرَاهُ مَجْرَى الثَّمَرِ وَمَا تُخْرِجُهُ الْأَرْضُ
مِمَّا يَجِبُ فِيهِ الْعُشْرُ فَقَالَ أَصْحَابُنَا إذَا
كَانَ فِي أَرْضِ الْعُشْرِ فَفِيهِ الْعُشْرُ وَإِذَا كَانَ
فِي أَرْضِ الْخَرَاجِ فَلَا شَيْءَ فِيهِ لِأَنَّ الثَّمَرَةَ
فِي أَرْضِ الْخَرَاجِ لَا يَجِبُ فِيهَا شَيْءٌ وَإِذَا كَانَ
فِي أَرْضِ الْعُشْرِ يَجِبُ فِيهَا الْعُشْرُ فَكَذَلِكَ
الْعَسَلُ وَقَدْ اسْتَقْصَيْنَا الْقَوْلَ فِي هَذِهِ
الْمَسَائِلِ وَنَظَائِرِهَا مِنْ مَسَائِلِ الزَّكَاةِ فِي
شَرْحِ مُخْتَصَرِ أَبِي جَعْفَرٍ الطَّحَاوِيِّ وَإِنَّمَا
ذَكَرْنَا هُنَا جُمَلًا مِنْهَا بِمَا يَتَعَلَّقُ الْحُكْمُ
فِيهِ بِظَاهِرِ الْآيَةِ وقَوْله تَعَالَى خُذْ مِنْ
أَمْوَالِهِمْ صدقة يَدُلُّ عَلَى أَنَّ أَخْذَ الصَّدَقَاتِ
إلَى الْإِمَامِ وَأَنَّهُ مَتَى أَدَّاهَا مَنْ وَجَبَتْ
عَلَيْهِ إلَى الْمَسَاكِينِ لَمْ يُجْزِهِ لِأَنَّ حَقَّ
الْإِمَامِ قَائِمٌ فِي أَخْذِهَا فَلَا سَبِيلَ لَهُ إلَى
إسْقَاطِهِ
وَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
يُوَجِّهُ الْعُمَّالَ عَلَى صَدَقَاتِ الْمَوَاشِي
وَيَأْمُرُهُمْ بِأَنْ يَأْخُذُوهَا عَلَى الْمِيَاهِ فِي
مَوَاضِعِهَا
وَهَذَا مَعْنَى مَا
شَرَطَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
لِوَفْدِ ثَقِيفٍ بِأَنْ لَا يَحْشُرُوا وَلَا يُعَشِّرُوا
يَعْنِي لَا يُكَلَّفُونَ إحْضَارَ الْمَوَاشِي إلَى
الْمُصَدَّقِ وَلَكِنَّ الْمُصَدَّقَ يَدُورُ عَلَيْهِمْ فِي
مِيَاهِهِمْ وَمَظَانِّ مَوَاشِيهمْ فَيَأْخُذُهَا مِنْهُمْ
وَكَذَلِكَ صَدَقَةُ الثِّمَارِ وَأَمَّا زَكَوَاتُ
الْأَمْوَالِ فَقَدْ كَانَتْ تُحْمَلُ إلَى رَسُولِ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبِي بَكْرٍ وعمر وعثمان
فَقَالَ هَذَا شَهْرُ زَكَوَاتِكُمْ فَمَنْ كَانَ عَلَيْهِ
دَيْنٌ فَلْيُؤَدِّهِ ثُمَّ لِيُزَكِّ بَقِيَّةَ مَالِهِ
فَجَعَلَ لهم أداؤها إلَى الْمَسَاكِينِ وَسَقَطَ مِنْ أَجْلِ
ذَلِكَ حَقُّ الْإِمَامِ فِي أَخْذِهَا لِأَنَّهُ عَقَدَ
عَقْدَهُ إمَامٌ مِنْ أَئِمَّةِ الْعَدْلِ فَهُوَ نَافِذٌ
عَلَى الْأُمَّةِ
لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَعْقِدُ
عَلَيْهِمْ أو لهم
وَلَمْ يَبْلُغْنَا أَنَّهُ بَعَثَ سُعَاةً عَلَى زَكَوَاتِ
الْأَمْوَالِ كَمَا بَعَثَهُمْ
(4/364)
عَلَى صَدَقَاتِ الْمَوَاشِي وَالثِّمَارِ
فِي ذَلِكَ لِأَنَّ سَائِرَ الْأَمْوَالِ غَيْرُ ظَاهِرَةٍ
لِلْإِمَامِ وَإِنَّمَا تَكُونُ مخبوأة فِي الدُّورِ
وَالْحَوَانِيتِ وَالْمَوَاضِعِ الْحَرِيزَةِ وَلَمْ يَكُنْ
جائز لِلسُّعَاةِ دُخُولُ أَحْرَازِهِمْ وَلَمْ يَجُزْ أَنْ
يُكَلِّفُوهُمْ إحْضَارَهَا كَمَا لَمْ يُكَلَّفُوا إحْضَارَ
الْمَوَاشِي إلَى الْعَامِلِ بَلْ كَانَ عَلَى الْعَامِلِ
حُضُورُ مَوْضِعِ الْمَالِ فِي مَوَاضِعِهِ وَأَخْذِ
صَدَقَتِهِ هُنَاكَ فَلِذَلِكَ لم يبعث على زكاة الْأَمْوَالِ
السُّعَاةَ فَكَانُوا يَحْمِلُونَهَا إلَى الْإِمَامِ وَكَانَ
قَوْلُهُمْ مَقْبُولًا فِيهَا وَلَمَّا ظَهَرَتْ هَذِهِ
الْأَمْوَالُ عِنْدَ التَّصَرُّفِ بِهَا فِي الْبُلْدَانِ
أَشْبَهَتْ الْمَوَاشِيَ فَنُصِبَ عَلَيْهَا عُمَّالٌ
يَأْخُذُونَ مِنْهَا مَا وَجَبَ مِنْ الزَّكَاةِ وَلِذَلِكَ
كَتَبَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ إلَى عُمَّالِهِ أَنْ
يَأْخُذُوا مِمَّا يَمُرُّ بِهِ الْمُسْلِمُ مِنْ
التِّجَارَاتِ مِنْ كُلِّ عِشْرِينَ دِينَارًا نِصْفُ دِينَارٍ
وَمِمَّا يَمُرُّ بِهِ الذِّمِّيُّ يُؤْخَذُ مِنْهُ مِنْ كُلِّ
عِشْرِينَ دِينَارًا دِينَارٌ ثم لا يؤخذ منه إلَّا بَعْدَ
حَوْلٍ أَخْبَرَنِي بِذَلِكَ مَنْ سَمِعَ النَّبِيَّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَتَبَ عُمَرُ ابن الْخَطَّابِ
إلَى عُمَّالِهِ أَنْ يَأْخُذُوا مِنْ الْمُسْلِمِ رُبْعَ
الْعُشْرِ وَمِنْ الذِّمِّيِّ نِصْفَ الْعُشْرِ وَمِنْ
الْحَرْبِيِّ الْعُشْرَ وَمَا يُؤْخَذُ مِنْ الْمُسْلِمِ مِنْ
ذَلِكَ فَهُوَ الزَّكَاةُ الْوَاجِبَةُ تُعْتَبَرُ فِيهَا
شَرَائِطُ وُجُوبِهَا مِنْ حَوْلٍ وَنِصَابٍ وَصِحَّةِ مِلْكٍ
فَإِنْ لَمْ تَكُنْ الزَّكَاةُ قَدْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ لَمْ
تُؤْخَذْ مِنْهُ فَاحْتَذَى عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ فِي
ذَلِكَ فِعْلَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فِي صَدَقَاتِ الْمَوَاشِي وَعُشُورِ الثِّمَارِ وَالزُّرُوعِ
إذْ قَدْ صَارَتْ أَمْوَالًا ظَاهِرَةً يُخْتَلَفُ بِهَا فِي
دَارِ الْإِسْلَامِ كَظُهُورِ الْمَوَاشِي السَّائِمَةِ
وَالزُّرُوعِ وَالثِّمَارِ وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ أَحَدٌ
مِنْ الصَّحَابَةِ وَلَا خَالَفَهُ فَصَارَ إجْمَاعًا مَعَ مَا
رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في
حديث عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ
فَإِنْ قيل
روى عطاء بن السائمة عَنْ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ
جَدِّهِ أَبِي أُمِّهِ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْسَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ
عُشُورٌ إنَّمَا الْعُشُورُ عَلَى أَهْلِ الذِّمَّةِ
وَرَوَى حُمَيْدٌ عَنْ الْحَسَنِ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي
الْعَاصِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
قَالَ لِوَفْدِ ثَقِيفٍ لَا تُحَشَّرُوا وَلَا تُعَشَّرُوا
وَرَوَى إسْرَائِيلُ عَنْ إبْرَاهِيمَ بْنِ الْمُهَاجِرِ عَنْ
عَمْرِو بْنِ حُرَيْثٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ زَيْدٍ قَالَ قَالَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَا
مَعْشَرَ الْعَرَبِ احْمَدُوا اللَّهَ إذْ دَفَعَ عَنْكُمْ
الْعُشُورَ
وَرُوِيَ أَنَّ مُسْلِمَ بْنَ يَسَارٍ قَالَ لِابْنِ عُمَرَ
أَكَانَ عُمَرُ يُعَشِّرُ الْمُسْلِمِينَ قَالَ لَا قِيلَ لَهُ
لَيْسَ الْمُرَادُ بِذِكْرِ هَذِهِ الْعُشُورِ الزَّكَاةَ
وَإِنَّمَا هُوَ مَا كَانَ يَأْخُذُهُ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ
مِنْ الْمَكْسِ وَهُوَ الَّذِي أُرِيدَ
فِي حَدِيثِ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي
حَبِيبٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بن شماسة عن عقبة ابن عَامِرٍ
قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ صَاحِبُ مَكْسٍ يَعْنِي
عَاشِرًا
وَإِيَّاهُ عَنَى الشَّاعِرُ بِقَوْلِهِ:
(4/365)
وَفِي كُلِّ أَمْوَالِ الْعِرَاقِ إتَاوَةٌ
... وَفِي كُلِّ مَا بَاعَ امْرُؤٌ مَكْسُ دِرْهَمِ
فَاَلَّذِي نَفَاهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ مِنْ الْعُشْرِ هُوَ الْمَكْسُ الَّذِي كَانَ
يَأْخُذُهُ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ فَأَمَّا الزَّكَاةُ
فَلَيْسَتْ بِمَكْسٍ وَإِنَّمَا هُوَ حَقٌّ وَجَبَ فِي مَالِهِ
يَأْخُذهُ الْإِمَامُ فَيَضَعُهُ فِي أَهْلِهِ كَمَا يَأْخُذُ
صَدَقَاتِ الْمَوَاشِي وَعُشُورَ الْأَرْضِينَ وَالْخَرَاجَ
وَأَيْضًا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الَّذِي نَفَى أَخْذَهُ مِنْ
الْمُسْلِمِينَ مَا يَكُونُ مَأْخُوذًا عَلَى وَجْهِ
الصَّغَارِ وَالْجِزْيَةِ وَلِذَلِكَ
قَالَ إنَّمَا الْعُشُورُ عَلَى أَهْلِ الذِّمَّةِ
يَعْنِي مَا يُؤْخَذُ عَلَى وَجْهِ الْجِزْيَةِ وَمِنْ
النَّاسِ مَنْ يَحْتَجُّ لِلْفَرْقِ بين صدقات المواشي والزروع
وبين زكاة الْأَمْوَالِ أَنَّهُ قَالَ فِي الزَّكَاةِ وَآتُوا
الزَّكَاةَ وَلَمْ يَشْرُطْ فِيهَا أَخْذَ الْإِمَامِ لَهَا
وَقَالَ فِي الصَّدَقَاتِ خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً
تُطَهِّرُهُمْ وقال إنما الصدقات للفقراء والمساكين- إلى قوله-
والعاملين عليها ونصب العامل يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ غَيْرُ
جَائِزٍ لَهُ إسْقَاطُ حَقِّ الْإِمَامِ فِي أَخْذِهَا
وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُمِرْت أَنْ آخُذَ
الصَّدَقَةَ مِنْ أَغْنِيَائِكُمْ وَأَرُدَّهَا فِي
فُقَرَائِكُمْ
فَإِنَّمَا شَرَطَ أَخْذَهُ فِي الصَّدَقَاتِ وَلَمْ يَذْكُرْ
مِثْلَهُ فِي الزَّكَوَاتِ وَمَنْ يَقُولُ هَذَا يَذْهَبُ إلَى
أَنَّ الزَّكَاةَ وَإِنْ كَانَتْ صَدَقَةً فَإِنَّ اسْمَ
الزَّكَاةِ أَخَصُّ بِهَا وَالصَّدَقَةُ اسْمٌ يَخْتَصُّ
بِالْمَوَاشِي وَنَحْوِهَا فَلَمَّا خَصَّ الزَّكَاةَ
بِالْأَمْرِ بِالْإِيتَاءِ دُونَ أَخْذِ الْإِمَامِ وَأَمَرَ
فِي الصَّدَقَةِ بِأَنْ يَأْخُذَهَا الْإِمَامُ وَجَبَ أَنْ
يَكُونَ أَدَاءُ الزَّكَوَاتِ مَوْكُولًا إلَى أَرْبَابِ
الْأَمْوَالِ إلَّا مَا يَمُرُّ بِهِ عَلَى الْعَاشِرِ
فَإِنَّهُ يَأْخُذُهَا بِاتِّفَاقِ السَّلَفِ وَيَكُونُ أَخْذُ
الصَّدَقَاتِ إلَى الْأَئِمَّةِ قَوْله تَعَالَى وَصَلِّ
عَلَيْهِمْ إِنَّ صلاتك سكن لهم
رَوَى شُعْبَةُ عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةٍ عَنْ ابْنِ أَبِي
أَوْفَى قَالَ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ إذَا أَتَاهُ رَجُلٌ بِصَدَقَةِ مَالِهِ صَلَّى
عَلَيْهِ قَالَ فَأَتَيْته بِصَدَقَةِ مَالِ أَبِي فَقَالَ
اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى آلِ أَبِي أوفى
وروى ثابت ابن قَيْسٍ عَنْ خَارِجَةَ بْنِ إِسْحَاقَ عَنْ
عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ جَابِرٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ قَالَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
يَأْتِيكُمْ رَكْبٌ مُبْغَضُونَ فَإِنْ جَاءُوكُمْ فَرَحِّبُوا
بِهِمْ وَخَلُّوا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَبْغُونَ فَإِنْ
عَدَلُوا فَلِأَنْفُسِهِمْ وإن ظلموا فعليهم وارضوهم فإن تمام
زكاتكم رضاهم وليدعوا لكم
وروى سلمة ابن بَشِيرٍ قَالَ حَدَّثَنَا الْبَخْتَرِيُّ قَالَ
أَخْبَرَنِي أَبِي أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا
أَعْطَيْتُمْ الزَّكَاةَ فَلَا تَنْسَوْا ثَوَابَهَا قَالُوا
وَمَا ثَوَابُهَا قَالَ يَقُولُ اللَّهُمَّ اجْعَلْهَا
مَغْنَمًا وَلَا تَجْعَلْهَا مَغْرَمًا
وَهَذِهِ الْأَخْبَارُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بقوله
تعالى وصل عليهم هو الدعاء وقوله سكن لهم يَعْنِي وَاَللَّهُ
أَعْلَمُ مِمَّا تَسْكُنُ قُلُوبُهُمْ إلَيْهِ وَتَطِيبُ بِهِ
نُفُوسُهُمْ فَيُسَارِعُونَ إلَى أَدَاءِ الصَّدَقَاتِ
الْوَاجِبَةِ رَغْبَةً فِي ثَوَابِ اللَّهِ وَفِيمَا
يَنَالُونَهُ مِنْ بَرَكَةِ دُعَاءِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وسلّم لهم
(4/366)
وَالَّذِينَ
اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ
الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ
وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا
إِلَّا الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ
(107)
وَكَذَلِكَ يَنْبَغِي لِعَامِلِ
الصَّدَقَةِ إذَا قَبَضَهَا أَنْ يَدْعُوَ لِصَاحِبِهَا
اقْتِدَاءً بِكِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ نَبِيِّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قَوْله تَعَالَى وَالَّذِينَ اتخذوا مسجدا ضرارا وكفرا
الْآيَةَ رُوِيَ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ السَّلَفِ أَنَّهُمْ
كَانُوا اثْنَيْ عَشَرَ رَجُلًا مِنْ الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ
قَدْ سُمُّوا اسْتَأْذَنُوا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بِنَاءِ مَسْجِدٍ لِلَّيْلَةِ
الشَّاتِيَةِ وَالْمَطَرِ وَالْحَرِّ وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ
قَصْدَهُمْ وَإِنَّمَا كَانَ مُرَادُهُمْ التَّفْرِيقَ بَيْنَ
الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْ يَتَحَزَّبُوا فَيُصَلِّي حِزْبٌ فِي
مَسْجِدٍ وَحِزْبٌ فِي مَسْجِدٍ آخَرَ لِتَخْتَلِفَ
الْكَلِمَةُ وَتَبْطُلَ الْأُلْفَةُ وَالْحَالُ الْجَامِعَةُ
وَأَرَادُوا بِهِ أَيْضًا لَيُكَفِّرُوا فِيهِ بِالطَّعْنِ
عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَالْإِسْلَامِ فَيَتَفَاوَضُونَ فِيمَا بَيْنَهُمْ مِنْ
غَيْرِ خَوْفٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ لِأَنَّهُمْ كَانُوا
يَخْلُونَ فِيهِ فَلَا يُخَالِطُهُمْ فِيهِ غَيْرُهُمْ قَوْله
تَعَالَى وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ من
قبل قال ابن عباس ومجاهدا أَرَادَ بِهِ أَبَا عَامِرٍ
الْفَاسِقَ وَكَانَ يُقَالُ لَهُ أَبُو عَامِرٍ الرَّاهِبُ
قَبْلُ وَكَانَ شَدِيدَ الْعَدَاوَةِ لِلنَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنَادًا وحسدا لذهاب رئاسته
الَّتِي كَانَتْ فِي الْأَوْسِ قَبْلَ هِجْرَةِ النَّبِيُّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى الْمَدِينَةِ فَقَالَ
لِلْمُنَافِقِينَ سَيَأْتِي قَيْصَرٌ وَآتِيكُمْ بِجُنْدٍ
فَأُخْرِجُ بِهِ مُحَمَّدًا وَأَصْحَابَهُ فَبَنَوْا
الْمَسْجِدَ إرْصَادًا لَهُ يَعْنِي مُتَرَقِّبِينَ لَهُ
وَقَدْ دَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى تَرْتِيبِ الْفِعْلِ فِي
الْحُسْنِ أَوْ الْقُبْحِ بِالْإِرَادَةِ وَأَنَّ الْإِرَادَةَ
هِيَ الَّتِي تَعَلَّقَ الْفِعْلُ بِالْمَعَانِي الَّتِي
تَدْعُو الْحِكْمَةُ إلَى تَعْلِيقِهِ بِهِ أَوْ تَزْجُرُ
عَنْهَا لِأَنَّهُمْ لَوْ أَرَادُوا بِبِنَائِهِ إقَامَةَ
الصَّلَوَاتِ فِيهِ لَكَانَ طَاعَةً لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ
ولما أراد بِهِ مَا أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ عَنْهُمْ
مِنْ قَصْدِهِمْ وَإِرَادَتِهِمْ كَانُوا مَذْمُومِينَ
كُفَّارًا
قَوْله تَعَالَى لا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ
عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تقوم فيه
فِيهِ الدَّلَالَةُ عَلَى أَنَّ الْمَسْجِدَ الْمَبْنِيَّ
لِضِرَارِ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَعَاصِي لَا يَجُوزُ
الْقِيَامُ فِيهِ وَأَنَّهُ يَجِبُ هَدْمُهُ لِأَنَّ اللَّهَ
نَهَى نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ
الْقِيَامِ فِي هَذَا الْمَسْجِدِ الْمَبْنِيِّ عَلَى
الضِّرَارِ وَالْفَسَادِ وَحَرَّمَ عَلَى أَهْلِهِ قِيَامَ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهِ إهَانَةً
لَهُمْ وَاسْتِخْفَافًا بِهِمْ عَلَى خِلَافِ الْمَسْجِدِ
الَّذِي أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ
بَعْضَ الْأَمَاكِنِ قَدْ يَكُونُ أَوْلَى بِفِعْلِ الصَّلَاةِ
فِيهِ مِنْ بَعْضٍ وَأَنَّ الصَّلَاةَ قَدْ تَكُونُ
مَنْهِيَّةً عَنْهَا فِي بَعْضِهَا وَيَدُلُّ عَلَى فَضِيلَةِ
الصَّلَاةِ فِي الْمَسْجِدِ بِحَسَبِ مَا بُنِيَ عَلَيْهِ فِي
الْأَصْلِ وَيَدُلُّ عَلَى فَضِيلَتِهَا فِي الْمَسْجِدِ
السَّابِقِ لِغَيْرِهِ لِقَوْلِهِ أُسِّسَ عَلَى التقوى من أول
يوم وَهُوَ مَعْنَى قَوْله تَعَالَى أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فيه
لِأَنَّ مَعْنَاهُ أَنَّ الْقِيَامَ فِي هَذَا الْمَسْجِدِ
لَوْ كَانَ مِنْ الْحَقِّ الَّذِي يَجُوزُ لَكَانَ هَذَا
الْمَسْجِدُ الَّذِي أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى أَحَقَّ
بِالْقِيَامِ فِيهِ مِنْ غَيْرِهِ وَذَلِكَ
(4/367)
إِنَّ اللَّهَ
اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ
بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ
فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي
التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى
بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي
بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (111)
أَنَّ مَسْجِدَ الضِّرَارِ لَمْ يَكُنْ
مِمَّا يَجُوزُ الْقِيَامُ فِيهِ لِنَهْيِ اللَّهِ تَعَالَى
نَبِيَّهُ عَنْ ذَلِكَ فَلَوْ لَمْ يَكُنْ الْمَعْنَى مَا
ذَكَرْنَا لَكَانَ تَقْدِيرُهُ لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى
التَّقْوَى أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ مِنْ مَسْجِدٍ لَا
يَجُوزُ الْقِيَامُ فِيهِ وَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ
فِعْلُ الْفَرْضِ أَصْلَحُ مِنْ تَرْكِهِ وَهَذَا قَدْ يَسُوغُ
إلَّا أَنَّ الْمَعْنَى الْأَوَّلَ هُوَ وَجْهُ الْكَلَامِ
وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي الْمَسْجِدِ الَّذِي أُسِّسَ عَلَى
التَّقْوَى مَا هُوَ فَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ وَسَعِيدِ
بْنِ الْمُسَيِّبِ أَنَّهُ مَسْجِدُ الْمَدِينَةِ
وَرُوِيَ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ وَأَبِي سَعِيدٍ
الْخُدْرِيِّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ هُوَ مَسْجِدِي هَذَا
وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنِ وَعَطِيَّةَ أَنَّهُ
مَسْجِدُ قُبَاءٍ قَوْله تَعَالَى فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ
أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ المطهرين فِيهِ
دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ فَضِيلَةَ أَهْلِ الْمَسْجِدِ فَضِيلَةٌ
لِلْمَسْجِدِ وَلِلصَّلَاةِ فِيهِ وَقَوْلُهُ يُحِبُّونَ أَنْ
يتطهروا رُوِيَ عَنْ الْحَسَنِ قَالَ يَتَطَهَّرُونَ مِنْ
الذُّنُوبِ وَقِيلَ فِيهِ التَّطَهُّرُ بِالْمَاءِ
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو
دَاوُد قَالَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلَاءِ قَالَ
حَدَّثَنَا مُعَاوِيَةُ بْنُ هِشَامٍ عَنْ يُونُسَ بْنِ
الْحَارِثِ عَنْ إبْرَاهِيمَ بْنِ أَبِي مَيْمُونَةَ عَنْ
أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ
فِي أَهْلِ قباء فيه رجال يحبون أن يتطهروا قَالَ كَانُوا
يَسْتَنْجُونَ بِالْمَاءِ فَنَزَلَتْ فِيهِمْ هَذِهِ الْآيَةُ
وَقَدْ حَوَى هَذَا الْخَبَرُ مَعْنَيَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّ
الْمَسْجِدَ الَّذِي أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى هُوَ مَسْجِدُ
قُبَاءٍ وَالثَّانِي أَنَّ الِاسْتِنْجَاءَ بِالْمَاءِ
أَفْضَلُ مِنْهُ بِالْأَحْجَارِ وَقَدْ تَوَاتَرَتْ
الْأَخْبَارُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ بِالِاسْتِنْجَاءِ بِالْأَحْجَارِ قَوْلًا وَفِعْلًا
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَنَّهُ اسْتَنْجَى بِالْمَاءِ
قَوْله تَعَالَى إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ
أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ أطلق الشرى فيه عَلَى طَرِيقِ
الْمَجَازِ لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ فِي الْحَقِيقَةِ هو الذي
يشترى مالا يَمْلِكُ وَاَللَّهُ تَعَالَى مَالِكُ أَنْفُسِنَا
وَأَمْوَالِنَا وَلَكِنَّهُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى مَنْ ذَا
الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حسنا فَسَمَّاهُ شِرًى كَمَا
سَمَّى الصَّدَقَةَ قَرْضًا لِضَمَانِ الثواب فيهما بِهِ
فَأَجْرَى لَفْظَهُ مَجْرَى مَا لَا يَمْلِكُهُ العامل فِيهِ
اسْتِدْعَاءً إلَيْهِ وَتَرْغِيبًا فِيهِ قَوْله تَعَالَى
السائحون قِيلَ إنَّهُمْ الصَّائِمُونَ
رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
أَنَّهُ قَالَ سِيَاحَةُ أُمَّتِي الصَّوْمُ
وَرُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ
وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَمُجَاهِدٍ أَنَّهُ الصوم
وقوله تعالى والحافظون لحدود الله هُوَ أَتَمُّ مَا يَكُونُ
مِنْ الْمُبَالَغَةِ فِي الْوَصْفِ بِطَاعَةِ اللَّهِ
وَالْقِيَامِ بِأَوَامِرِهِ وَالِانْتِهَاءِ عَنْ زَوَاجِرِهِ
وَذَلِكَ لِأَنَّ لِلَّهِ تَعَالَى حُدُودًا فِي أَوَامِرِهِ
وَزَوَاجِرِهِ وَمَا نَدَبَ إلَيْهِ وَرَغَّبَ فِيهِ أَوْ
أَبَاحَهُ وَمَا خَيَّرَ فِيهِ وَمَا هُوَ الْأَوْلَى فِي
تَحَرِّي مُوَافَقَةِ أَمْرِ اللَّهِ وَكُلُّ هَذِهِ حُدُودُ
اللَّهِ فَوَصَفَ تَعَالَى هَؤُلَاءِ الْقَوْمَ بهذا الوصف
(4/368)
لَقَدْ تَابَ اللَّهُ
عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ
اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ
يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ
إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (117)
ومن كَانَ كَذَلِكَ فَقَدْ أَدَّى جَمِيعَ
فَرَائِضِهِ وَقَامَ بِسَائِرِ مَا أَرَادَهُ مِنْهُ وَقَدْ
بَيَّنَ فِي الْآيَةِ الَّتِي قَبْلَهَا الْمُرَادِينَ بِهَا
وَهُمْ الصَّحَابَةُ الَّذِينَ بَايَعُوهُ تَحْتَ الشَّجَرَةِ
وَهِيَ بَيْعَةُ الرِّضْوَانِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى
فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ ثم عطف
عليه التائبون فَقَدْ بَيَّنَتْ هَذِهِ الْآيَةُ مَنْزِلَةَ
هَؤُلَاءِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ مِنْ الدِّينِ
وَالْإِسْلَامِ وَمَحِلَّهُمْ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى وَلَا
يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِي وَصْفِ الْعَبِيدِ بِالْقِيَامِ
بِطَاعَةِ اللَّهِ كَلَامٌ أَبْلَغُ وَلَا أَفْخَمُ مِنْ
قَوْله تَعَالَى وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ الله
قَوْله تَعَالَى لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ
وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي
سَاعَةِ الْعُسْرَةِ وَالْعُسْرَةُ هِيَ شِدَّةُ الْأَمْرِ
وَضِيقُهُ وَصُعُوبَتُهُ وَكَانَ ذَلِكَ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ
لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ
فِي شِدَّةِ الْحَرِّ وقلة من الماء والزاد والظهر فخص
الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ بِذِكْرِ
التَّوْبَةِ لعظم منزلة الاتباع في مثله وَجَزِيلِ الثَّوَابِ
الَّذِي يُسْتَحَقُّ بِهَا لِمَا لَحِقَهُمْ مِنْ الْمَشَقَّةِ
مَعَ الصَّبْرِ عَلَيْهَا وَحُسْنِ الْبَصِيرَةِ وَالْيَقِينِ
مِنْهُمْ فِي تِلْكَ الْحَالِ إذْ لَمْ تُغَيِّرْهُمْ عَنْهَا
صُعُوبَةُ الْأَمْرِ وَشِدَّةُ الزَّمَانِ وَأَخْبَرَ تَعَالَى
عَنْ فَرِيقٍ مِنْهُمْ بِمُقَارَبَةِ مَيْلِ الْقَلْبِ عَنْ
الْحَقِّ بِقَوْلِهِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يزيغ قلوب فريق
منهم وَالزَّيْغُ هُوَ مَيْلُ الْقَلْبِ عَنْ الْحَقِّ
فَقَارَبَ ذَلِكَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَلَمَّا فَعَلُوا وَلَمْ
يُؤَاخِذْهُمْ اللَّهُ بِهِ وَقَبِلَ تَوْبَتَهُمْ وَبِمِثْلِ
الْحَالِ الَّتِي فَضَّلَ بِهَا مُتَّبِعِيهِ فِي حَالِ
الْعُسْرَةِ عَلَى غَيْرِهِمْ فَضَّلَ بِهَا الْمُهَاجِرِينَ
عَلَى الْأَنْصَارِ وَبِمِثْلِهَا فَضَّلَ السَّابِقِينَ عَلَى
النَّاسِ لِمَا لَحِقَهُمْ مِنْ الْمَشَقَّةِ وَلِمَا ظَهَرَ
مِنْهُمْ مِنْ شِدَّةِ الْبَصِيرَةِ وَصِحَّةِ الْيَقِينِ
بِالِاتِّبَاعِ فِي حَالِ قِلَّةِ عَدَدِ من المؤمنين واستعلاء
أمر الكفار وما كان يلحقهم مِنْ قِبَلِهِمْ مِنْ الْأَذَى
وَالتَّعْذِيبِ
قَوْله تَعَالَى وعلى الثلاثة الذين خلفوا قَالَ ابْنُ
عَبَّاسٍ وَجَابِرٌ وَمُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ هُمْ كَعْبُ بْنُ
مَالِكٍ وَهِلَالُ بْنُ أُمَيَّةَ وَمَرَارَةُ بْنُ الرَّبِيعِ
قَالَ مُجَاهِدٌ خُلِّفُوا عَنْ التَّوْبَةِ وَقَالَ قَتَادَةُ
خُلِّفُوا عَنْ غَزْوَةِ تَبُوكَ وَقَدْ كانوا هَؤُلَاءِ
الثَّلَاثَةُ تَخَلَّفُوا عَنْ غَزْوَةِ تَبُوكَ فِيمَنْ
تَخَلَّفَ وَكَانُوا صَحِيحِي الْإِسْلَامِ فَلَمَّا رَجَعَ
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ تَبُوكَ
جَاءَ الْمُنَافِقُونَ فَاعْتَذَرُوا وَحَلَفُوا بِالْبَاطِلِ
وَهُمْ الَّذِينَ أَخْبَرَ اللَّهُ عَنْهُمْ سَيَحْلِفُونَ
بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إليهم لتعرضوا عنهم
فأعرضوا عنهم وَقَالَ يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ
فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يَرْضَى عَنِ
الْقَوْمِ الفاسقين فَأَمَرَ تَعَالَى بِالْإِعْرَاضِ عَنْهُمْ
وَنَهَى عَنْ الرِّضَا عَنْهُمْ إذْ كَانُوا كَاذِبِينَ فِي
اعْتِذَارِهِمْ مُظْهِرِينَ لِغَيْرِ مَا يُبْطِنُونَ وَأَمَّا
الثَّلَاثَةُ فَإِنَّهُمْ كَانُوا مُسْلِمِينَ صَدَقُوا عَنْ
أَنْفُسِهِمْ وَقَالُوا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ إنَّا تَخَلَّفْنَا مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ وَأَظْهَرُوا
التَّوْبَةَ وَالنَّدَمَ
فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ
(4/369)
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
إنَّكُمْ قَدْ صَدَقْتُمْ عَنْ أَنْفُسِكُمْ
فَامْضُوا حَتَّى أَنْظُرَ مَا يُنْزِلُ اللَّهُ تَعَالَى
فِيكُمْ فَأَنْزَلَ اللَّهُ فِي أَمْرِهِمْ التَّشْدِيدَ
عَلَيْهِمْ وَأَمَرَ نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَنْ لَا يُكَلِّمَهُمْ وَأَنْ يَأْمُرَ
الْمُسْلِمِينَ أَنْ لَا يُكَلِّمُوهُمْ فَأَقَامُوا عَلَى
ذَلِكَ نَحْوَ خَمْسِينَ لَيْلَةً وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ عَلَى
مَعْنَى رَدِّ تَوْبَتِهِمْ لِأَنَّهُمْ قَدْ كَانُوا
مَأْمُورِينَ بِالتَّوْبَةِ وَغَيْرُ جَائِزٍ فِي الْحِكْمَةِ
أَنْ لَا تُقْبَلَ تَوْبَةُ مَنْ يَتُوبُ فِي وَقْتِ
التَّوْبَةِ إذَا فَعَلَهَا عَلَى الْوَجْهِ الْمَأْمُورِ بِهِ
وَلَكِنَّهُ تَعَالَى أَرَادَ تَشْدِيدَ الْمِحْنَةِ
عَلَيْهِمْ فِي تَأْخِيرِ إنْزَالِ تَوْبَتِهِمْ وَنَهْي
النَّاسَ عَنْ كَلَامِهِمْ وَأَرَادَ بِهِ اسْتِصْلَاحَهُمْ
وَاسْتِصْلَاحَ غَيْرِهِمْ مِنْ الْمُسْلِمِينَ لِئَلَّا
يَعُودُوا وَلَا غَيْرُهُمْ مِنْ الْمُسْلِمِينَ إلَى مِثْلِهِ
لِعِلْمِ اللَّهِ فِيهِمْ بِمَوْضِعِ الِاسْتِصْلَاحِ وَأَمَّا
الْمُنَافِقُونَ الَّذِينَ اعْتَذَرُوا فَلَمْ يَكُنْ فِيهِمْ
مَوْضِعُ اسْتِصْلَاحٍ بِذَلِكَ فَلِذَلِكَ أَمَرَ
بِالْإِعْرَاضِ عَنْهُمْ فَثَبَتَ بِذَلِكَ أَنَّ أَمْرَ
النَّاسِ بِتَرْكِ كَلَامِهِمْ وَتَأْخِيرَ إنْزَالِ
تَوْبَتِهِمْ لَمْ يَكُنْ عُقُوبَةً وَإِنَّمَا كَانَ مِحْنَةً
وَتَشْدِيدًا فِي أَمْرِ التَّكْلِيفِ وَالتَّعَبُّدِ وَهُوَ
مِثْلُ ما نقوله فِي إيجَابِ الْحَدِّ الْوَاجِبِ عَلَى
التَّائِبِ مِمَّا قَارَبَ أَنَّهُ لَيْسَ بِعُقُوبَةٍ
وَإِنَّمَا هُوَ مِحْنَةٌ وَتَعَبُّدٌ وَإِنْ كَانَ الْحَدُّ
الْوَاجِبُ بِالْفِعْلِ بَدِيًّا كَأَنْ يَكُونَ عُقُوبَةً
لَوْ أُقِيمَ عَلَيْهِ قَبْلَ التَّوْبَةِ قَوْله تَعَالَى
حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأرض بما رحبت يعنى مع سعتها
وضاقت عليهم أنفسهم يَعْنِي ضَاقَتْ صُدُورُهُمْ بِالْهَمِّ
الَّذِي حَصَلَ فِيهَا مِنْ تَأْخِيرِ نُزُولِ تَوْبَتِهِمْ
وَمِنْ تَرْكِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَالْمُسْلِمِينَ كَلَامَهُمْ وَمُعَامَلَتَهُمْ وَأَمْرِ
أَزْوَاجِهِمْ بِاعْتِزَالِهِمْ قَوْله تَعَالَى وَظَنُّوا
أَنْ لا ملجأ من الله إلا إليه يَعْنِي أَنَّهُمْ أَيْقَنُوا
أَنْ لَا مَخْلَصَ لَهُمْ وَلَا مُعْتَصَمَ فِي طَلَبِ
الْفَرَجِ مِمَّا هُمْ فِيهِ إلَّا إلَى اللَّهِ وَأَنَّهُ لَا
يَمْلِكُ ذَلِكَ غَيْرُهُ وَلَا يَجُوزُ لَهُمْ أَنْ
يَطْلُبُوا ذلك إلا من قبله الْعِبَادَةِ لَهُ وَالرَّغْبَةِ
إلَيْهِ فَحِينَئِذٍ أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى
نَبِيِّهِ قَبُولَ تَوْبَتِهِمْ وَكَذَلِكَ عَادَةُ اللَّهِ
تَعَالَى فِيمَنْ انْقَطَعَ إلَيْهِ وَعَلِمَ أَنَّهُ لَا
كَاشِفَ لِهَمِّهِ غَيْرُهُ أَنَّهُ سَيُنَجِّيهِ وَيَكْشِفُ
عَنْهُ غَمَّهُ وَكَذَلِكَ حَكَى جَلَّ وَعَلَا عَنْ لُوطٍ
عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي قَوْلِهِ وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا
لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وقال هذا يوم
عصيب- إلَى أَنْ قَالَ- لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قوة أو آوى إلى
ركن شديد فَتَبَرَّأَ مِنْ الْحَوْلِ وَالْقُوَّةِ مِنْ قِبَلِ
نَفْسِهِ وَمِنْ قِبَلِ الْمَخْلُوقِينَ وَعَلِمَ أَنَّهُ لَا
يَقْدِرُ عَلَى كَشْفِ مَا هُوَ فِيهِ إلَّا اللَّهُ تَعَالَى
حِينَئِذٍ جَاءَهُ الْفَرَجُ فَقَالُوا إِنَّا رُسُلُ ربك لن
يصلوا إليك وَقَالَ تَعَالَى وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ
لَهُ مخرجا وَمَنْ يَنْوِ الِانْقِطَاعَ إلَيْهِ وَقَطْعَ
الْعَلَائِقِ دُونَهُ فَمَتَى صَارَ الْعَبْدُ بِهَذِهِ
الْمَنْزِلَةِ فَقَدْ جَعَلَ اللَّهُ لَهُ مَخْرَجًا
لِعِلْمِهِ بِأَنَّهُ لَا يَنْفَكُّ مِنْ إحْدَى
مَنْزِلَتَيْنِ إمَّا أَنْ يُخَلِّصَهُ مِمَّا هُوَ فِيهِ
وَيُنْجِيَهُ كَمَا حُكِيَ عَنْ الْأَنْبِيَاءِ عِنْدَ
بَلْوَاهُمْ مِثْلُ قَوْلِ أَيُّوبَ
(4/370)
يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ
الصَّادِقِينَ (119)
أنى مسنى الشيطان بنصب وعذاب فَالْتَجَأَ
إلَى اللَّهِ فِي الْخَلَاصِ مِمَّا كَانَ يُوَسْوِسُ إلَيْهِ
الشَّيْطَانُ بِأَنَّهُ لَوْ كَانَ لَهُ عِنْدَ اللَّهِ
مَنْزِلَةٌ لَمَا ابْتَلَاهُ بِمَا ابْتَلَاهُ بِهِ وَلَمْ
يَكُنْ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْه قَابِلًا لِوَسَاوِسِهِ
إلَّا أَنَّهُ كَانَ يَشْغَلُ خَاطِرَهُ وَفِكْرَهُ عَنْ
التَّفَكُّرِ فِيمَا هُوَ أَوْلَى بِهِ فَقَالَ اللَّهُ لَهُ
عِنْدَ ذَلِكَ ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مغتسل بارد وشراب
فَكَذَلِكَ كُلُّ مَنْ اتَّقَى اللَّهَ بِأَنْ الْتَجَأَ
إلَيْهِ وَعَلِمَ أَنَّهُ الْقَادِرُ عَلَى كَشْفِ ضُرِّهِ
دُونَ الْمَخْلُوقِينَ كَانَ عَلَى إحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ
مِنْ فَرَجٍ عَاجِلٍ أَوْ سُكُونِ قَلْبٍ إلَى وَعْدِ اللَّهِ
وَثَوَابِهِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ لَهُ مِنْ الدنيا وما فيها
قوله تعالى ثم تاب عليهم ليتوبوا يعنى والله أعلم تاب على
هؤلاء الثلاثة وأنزل توبتهم على نبيه صلّى الله عليه وسلّم
ليتوب المؤمنون من ذنوبهم لعلمهم بأن الله تعالى قابل توبتهم
قَوْله تَعَالَى يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا الله
وكونوا مع الصادقين رَوَى ابْنُ مَسْعُودٍ قَالَ يَعْنِي
لَازِمْ الصِّدْقَ وَلَا تَعْدِلْ عَنْهُ إذْ لَيْسَ فِي
الْكَذِبِ رخصة وقال نَافِعٌ وَالضَّحَّاكُ مَعَ النَّبِيِّينَ
وَالصِّدِّيقِينَ بِالْعَمَلِ الصَّالِحِ فِي الدُّنْيَا
وَقَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ لَيْسَ الْبِرَّ
أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ
وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخر-
إلى قوله- أولئك الذين صدقوا وَهَذِهِ صِفَةُ أَصْحَابِ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُهَاجِرِينَ
وَالْأَنْصَارِ ثُمَّ قَالَ فِي هَذِهِ الآية وكونوا مع
الصادقين فَدَلَّ عَلَى لُزُومِ اتِّبَاعِهِمْ وَالِاقْتِدَاءِ
بِهِمْ لِإِخْبَارِهِ بِأَنَّ مَنْ فَعَلَ مَا ذُكِرَ فِي
الْآيَةِ فَهُمْ الَّذِينَ صَدَقُوا وَقَالَ فِي هَذِهِ
الْآيَةِ وكونوا مع الصادقين فَدَلَّ عَلَى قِيَامِ الْحُجَّةِ
عَلَيْنَا بِإِجْمَاعِهِمْ وَأَنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ لَنَا
مُخَالَفَتُهُمْ لِأَمْرِ اللَّهِ إيَّانَا بِاتِّبَاعِهِمْ
وقَوْله تَعَالَى لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ
وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي
سَاعَةِ العسرة فِيهِ مَدْحٌ لِأَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِينَ غَزَوْا مَعَهُ مِنْ
الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَإِخْبَارٌ بِصِحَّةِ
بَوَاطِنِ ضَمَائِرِهِمْ وَطَهَارَتِهِمْ لِأَنَّ اللَّهَ
تَعَالَى لَا يُخْبِرُ بِأَنَّهُ قَدْ تَابَ عَلَيْهِمْ إلَّا
وَقَدْ رَضِيَ عَنْهُمْ وَرَضِيَ أَفْعَالَهُمْ وَهَذَا نَصٌّ
فِي رَدِّ قَوْلِ الطَّاعِنِينَ عَلَيْهِمْ وَالنَّاسِبِينَ
بِهِمْ إلَى غَيْرِ مَا نَسَبَهُمْ اللَّهُ إلَيْهِ مِنْ
الطَّهَارَةِ وَوَصَفَهُمْ بِهِ مِنْ صِحَّةِ الضَّمَائِرِ
وَصَلَاحِ السَّرَائِرِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ
قَوْله تَعَالَى مَا كَانَ لأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ
حَوْلَهُمْ مِنَ الأعراب أن يتخلفوا عن رسول الله قَدْ
بَيَّنَتْ هَذِهِ الْآيَةُ وُجُوبَ الْخُرُوجِ عَلَى أَهْلِ
الْمَدِينَةِ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ فِي غَزَوَاتِهِ إلَّا
الْمَعْذُورِينَ وَمَنْ أَذِنَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْقُعُودِ وَلِذَلِكَ ذَمَّ
الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ كَانُوا يَسْتَأْذِنُونَ رَسُولَ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْقُعُودِ فِي
الْآيَاتِ الْمُتَقَدِّمَةِ وَقَوْلُهُ وَلا يَرْغَبُوا
بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نفسه أَيْ يَطْلُبُونَ الْمَنْفَعَةَ
بِتَوْقِيَةِ أَنْفُسِهِمْ دُونَ نَفْسِهِ بَلْ كَانَ
الْفَرْضُ عَلَيْهِمْ
(4/371)
وَمَا كَانَ
الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ
كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي
الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ
لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ (122)
أَنْ يَقُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنْفُسِهِمْ وَقَدْ كَانَ مِنْ
الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ وَبَذَلَ
نَفْسَهُ لِلْقَتْلِ لِيَقِيَ بِهَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قوله تعالى ولا يطؤن مَوْطِئًا
يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نيلا فِيهِ
الدَّلَالَةُ عَلَى أَنَّ وَطْءَ دِيَارِهِمْ بِمَنْزِلَةِ
النَّيْلِ مِنْهُمْ وَهُوَ قَتْلُهُمْ أَوْ أَخْذُ
أَمْوَالِهِمْ أَوْ إخْرَاجُهُمْ عَنْ دِيَارِهِمْ هَذَا
كُلُّهُ نَيْلٌ مِنْهُمْ وَقَدْ سَوَّى بَيْنَ وَطْءِ مَوْضِعٍ
يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَبَيْنَ النَّيْلِ مِنْهُمْ فَدَلَّ
ذَلِكَ عَلَى أَنَّ وَطْءَ دِيَارِهِمْ وَهُوَ الَّذِي
يَغِيظُهُمْ وَيُدْخِلُ الذُّلَّ عَلَيْهِمْ هُوَ بِمَنْزِلَةِ
نَيْلِ الْغَنِيمَةِ وَالْقَتْلِ وَالْأَسْرِ وَفِي ذَلِكَ
دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الِاعْتِبَارَ فِيمَا يَسْتَحِقُّهُ
الْفَارِسُ وَالرَّاجِلُ مِنْ سِهَامِهِمَا بِدُخُولِ أَرْضِ
الْحَرْبِ لِانْحِيَازِهِ الْغَنِيمَةَ وَالْقِتَالَ إذْ كَانَ
الدُّخُولُ بِمَنْزِلَةِ حِيَازَةِ الْغَنَائِمِ وَقَتْلِهِمْ
وَأَسْرِهِمْ وَنَظِيرُهُ فِي الدَّلَالَةِ عَلَى مَا
ذَكَرْنَا قَوْله تَعَالَى وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى
رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أوجفتم عليه من خيل ولا ركاب
فَاقْتَضَى ذَلِكَ اعْتِبَارَ إيجَافِ الْخَيْلِ وَالرِّكَابِ
فِي دَارِ الْحَرْبِ وَلِذَلِكَ
قَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَا وُطِئَ قَوْمٌ فِي
عُقْرِ دَارِهِمْ إلَّا ذَلُّوا
قَوْله تَعَالَى وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا
كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ
طَائِفَةٌ ليتفقهوا في الدين رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ
أَنَّهُ نَسَخَ قَوْلَهُ فانفروا ثبات أو انفروا جميعا وقوله
انفروا خفافا وثقالا فَقَالَ تَعَالَى مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ
يَنْفِرُوا فِي السَّرَايَا وَيَتْرُكُوا النَّبِيَّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْمَدِينَةِ وَحْدَهُ وَلَكِنْ
تَبْقَى بَقِيَّةٌ لِتَتَفَقَّهَ ثُمَّ تُنْذِرَ النَّافِرَةَ
إذَا رَجَعُوا إلَيْهِمْ وَقَالَ الْحَسَنُ لِتَتَفَقَّهَ
الطَّائِفَةُ النَّافِرَةُ ثُمَّ تُنْذِرَ إذَا رَجَعَتْ إلَى
قَوْمِهَا الْمُتَخَلِّفَةَ وَهَذَا التَّأْوِيلُ أَشْبَهُ
بِظَاهِرِ الْآيَةِ لِأَنَّهُ قَالَ تَعَالَى فَلَوْلا نَفَرَ
مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي
الدين فَظَاهِرُ الْكَلَامِ يَقْتَضِي أَنْ تَكُونَ
الطَّائِفَةُ النَّافِرَةُ هِيَ الَّتِي تَتَفَقَّهُ
وَتُنْذِرُ قَوْمَهَا إذَا رَجَعَتْ إلَيْهِمْ وَعَلَى
التَّأْوِيلِ الْأَوَّلِ الْفِرْقَةُ الَّتِي نَفَرَتْ مِنْهَا
الطَّائِفَةُ هِيَ الَّتِي تَتَفَقَّهُ وَتُنْذِرُ
الطَّائِفَةَ إذَا رَجَعَتْ إلَيْهَا وَهُوَ بَعِيدٌ مِنْ
وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّ حُكْمَ الْعَطْفِ أَنْ
يَتَعَلَّقَ بِمَا يَلِيهِ دُونَ مَا يَتَقَدَّمُهُ فَوَجَبَ
عَلَى هَذَا أن يكون قوله منهم طائفة ليتفقهوا
أَنْ تَكُونَ الطَّائِفَةُ هِيَ الَّتِي تَتَفَقَّهُ
وَتُنْذِرُ وَلَا يَكُونُ مَعْنَاهُ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ
تَتَفَقَّهُ فِي الدِّينِ تَنْفِرُ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ
لِأَنَّهُ يَقْتَضِي إزَالَةَ تَرْتِيبِ الْكَلَامِ عَنْ
ظَاهِرِهِ وَإِثْبَاتَ التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ فِيهِ
وَالْوَجْهُ الثَّانِي أَنَّ قَوْلَهُ لِيَتَفَقَّهُوا في
الدين الطَّائِفَةُ أَوْلَى مِنْهُ بِالْفِرْقَةِ النَّافِرَةِ
مِنْهَا الطَّائِفَةُ وَذَلِكَ لِأَنَّ نَفْرَ الطَّائِفَةِ
لِلتَّفَقُّهِ مَعْنًى مَفْهُومٌ يَقَعُ النَّفْرُ مِنْ
أَجْلِهِ وَالْفِرْقَةُ الَّتِي مِنْهَا الطَّائِفَةُ لَيْسَ
تَفَقُّهُهَا لِأَجْلِ خُرُوجِ الطَّائِفَةِ مِنْهَا
لِأَنَّهَا إنَّمَا تَتَفَقَّهُ بِمُشَاهَدَةِ النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلُزُومِ حَضْرَتِهِ لَا
لِأَنَّ الطَّائِفَةَ نفرت
(4/372)
يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ
الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ
اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (123)
مِنْهَا فَحَمْلُ الْكَلَامِ عَلَى ذَلِكَ
يُبْطِلُ فَائِدَةَ قوله تعالى ليتفقهوا في الدين فَثَبَتَ
أَنَّ الَّتِي تَتَفَقَّهُ هِيَ الطَّائِفَةُ النَّافِرَةُ
مِنْ الْفِرْقَةِ الْمُقِيمَةِ فِي بَلَدِهَا وَتُنْذِرُ
قَوْمَهَا إذَا رَجَعَتْ إلَيْهَا وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ
دَلَالَةٌ عَلَى وُجُوبِ طَلَبِ الْعِلْمِ وَأَنَّهُ مَعَ
ذَلِكَ فَرْضٌ عَلَى الْكِفَايَةِ لِمَا تَضَمَّنَتْ مِنْ
الْأَمْرِ بِنَفْرِ الطَّائِفَةِ مِنْ الْفِرْقَةِ
لِلتَّفَقُّهِ وَأَمْرِ الْبَاقِينَ بِالْقُعُودِ لِقَوْلِهِ
وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً
وَقَدْ رَوَى زِيَادُ بْنُ مَيْمُونٍ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ
قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ طَلَبُ الْعِلْمِ فَرِيضَةٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ
وَهَذَا عِنْدَنَا يَنْصَرِفُ عَلَى مَعْنَيَيْنِ أَحَدُهُمَا
طَلَبُ الْعِلْمِ فِيمَا يُبْتَلَى بِهِ الْإِنْسَانُ مِنْ
أُمُورِ دِينِهِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَتَعَلَّمَهُ مِثْلُ مَنْ
لَا يَعْرِفُ حُدُودَ الصَّلَاةِ وَفُرُوضَهَا وَحُضُورَ
وَقْتِهَا فَعَلَيْهِ أَنْ يَتَعَلَّمَهَا وَمِثْلُ مَنْ
مَلَكَ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ فَعَلَيْهِ أَنْ يَتَعَلَّمَ مَا
يَجِبُ عَلَيْهِ فِيهَا وَكَذَلِكَ الصَّوْمُ وَالْحَجُّ
وَسَائِرُ الْفُرُوضِ وَالْمَعْنَى الْآخَرُ أَنَّهُ فَرْضٌ
عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ إلَّا أَنَّهُ عَلَى الْكِفَايَةِ إذَا
قَامَ بِهِ بَعْضُهُمْ سَقَطَ عَنْ الْبَاقِينَ وَفِيهِ
دَلَالَةٌ عَلَى لُزُومِ خَبَرِ الْوَاحِدِ فِي أُمُورِ
الدِّيَانَاتِ الَّتِي لَا تَلْزَمُ الْكَافَّةَ وَلَا تَعُمُّ
الْحَاجَةُ إلَيْهَا وَذَلِكَ لِأَنَّ الطَّائِفَةَ لَمَّا
كَانَتْ مَأْمُورَةً بِالْإِنْذَارِ انْتَظَمَ فَحْوَاهُ
الدَّلَالَةَ عَلَيْهِ مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّ
الْإِنْذَارَ يَقْتَضِي فِعْلَ الْمَأْمُورِ بِهِ وَإِلَّا
لَمْ يَكُنْ إنْذَارًا وَالثَّانِي أَمْرُهُ إيَّانَا
بِالْحَذَرِ عِنْدَ إنْذَارِ الطَّائِفَةِ لِأَنَّ قَوْله
تَعَالَى لَعَلَّهُمْ يحذرون مَعْنَاهُ لِيَحْذَرُوا وَذَلِكَ
يَتَضَمَّنُ لُزُومَ الْعَمَلِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ لِأَنَّ
الطَّائِفَةَ اسْمٌ يَقَعُ عَلَى الْوَاحِدِ وَقَدْ رُوِيَ فِي
تَأْوِيلِ قَوْله تَعَالَى وَلْيَشْهَدْ عذابهما طائفة من
المؤمنين أَنَّهُ أَرَادَ وَاحِدًا وَقَالَ تَعَالَى وَإِنْ
طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا وَلَا خِلَافَ
أَنَّ الِاثْنَيْنِ إذَا اقْتَتَلَا كَانَا مُرَادَيْنِ
بِحُكْمِ الْآيَةِ وَلِأَنَّ الطَّائِفَةَ فِي اللُّغَةِ
كَقَوْلِك الْبَعْضُ وَالْقِطْعَةُ مِنْ الشَّيْءِ وَذَلِكَ
مَوْجُودٌ فِي الْوَاحِدِ فَكَانَ قَوْلُهُ مِنْ كُلِّ
فِرْقَةٍ منهم طائفة بِمَنْزِلَتِهِ لَوْ قَالَ بَعْضُهَا أَوْ
شَيْءٌ مِنْهَا فَدَلَالَةُ الْآيَةِ ظَاهِرَةٌ فِي وُجُوبِ
قَبُولِ الْخَبَرِ الْمُقَصِّرِ عَنْ إيجَابِ الْعِلْمِ وَإِنْ
كَانَ التَّأْوِيلُ مَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ
الطَّائِفَةَ النَّافِرَةَ إنَّمَا تَنْفِرُ مِنْ الْمَدِينَةِ
وَاَلَّتِي تَتَفَقَّهُ إنَّمَا هِيَ الْقَاعِدَةُ بِحَضْرَةِ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَدَلَالَتُهَا
أَيْضًا قَائِمَةٌ فِي لُزُومِ قَبُولِ خَبَرِ الْوَاحِدِ
لِأَنَّ النَّافِرَةَ إذَا رَجَعَتْ أنذرتها التي لم تنفر
وأخبرتها بِمَا نَزَلَ مِنْ الْأَحْكَامِ وَهِيَ تَدُلُّ
أَيْضًا عَلَى لُزُومِ قَبُولِ خَبَرِ الْوَاحِدِ
بِالْمَدِينَةٍ مَعَ كَوْنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهَا لِإِيجَابِهَا الْحَذَرَ عَلَى
السَّامِعِينَ بِنِذَارَةِ الْقَاعِدِينَ
قَوْله تَعَالَى يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا
الَّذِينَ يلونكم من الكفار وليجدوا فيكم غلظة خَصَّ الْأَمْرَ
بِالْقِتَالِ لِلَّذِينَ يَلُونَهُمْ مِنْ الْكُفَّارِ وَقَالَ
فِي أَوَّلِ السُّورَةِ فَاقْتُلُوا
(4/373)
إِنَّ الَّذِينَ لَا
يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا
وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا
غَافِلُونَ (7)
المشركين حيث وجدتموهم
وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ
كَافَّةً فَأَوْجَبَ قِتَالَ جَمِيعِ الْكُفَّارِ وَلَكِنَّهُ
خَصَّ بِالذِّكْرِ الَّذِينَ يَلُونَنَا مِنْ الْكُفَّارِ إذْ
كَانَ مَعْلُومًا أَنَّهُ لَا يُمَكِّنُنَا قِتَالُ جَمِيعِ
الْكُفَّارِ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ وَأَنَّ الْمُمْكِنَ مِنْهُ
هُوَ قِتَالُ طَائِفَةٍ فَكَانَ مِنْ قَرُبَ مِنْهُمْ أَوْلَى
بِالْقِتَالِ مِمَّنْ بَعُدَ لِأَنَّ الِاشْتِغَالَ بِقِتَالِ
مَنْ بَعُدَ مِنْهُمْ مَعَ تَرْكِ قِتَالِ مَنْ قَرُبَ لَا
يُؤْمَنُ مَعَهُ هَجْمُ مَنْ قَرُبَ عَلَى ذَرَارِيِّ
الْمُسْلِمِينَ وَنِسَائِهِمْ وَبِلَادِهِمْ إذَا خَلَتْ مِنْ
الْمُجَاهِدِينَ فَلِذَلِكَ أَمَرَ بِقِتَالِ مَنْ قَرُبَ
قَبْلَ قِتَالِ مَنْ بَعُدَ وَأَيْضًا لَا يَصِحُّ تَكْلِيفُ
قِتَالِ الأبعد إذ لاحد لِلْأَبْعَدِ يُبْتَدَأُ مِنْهُ
الْقِتَالُ كَمَا لِلْأَقْرَبِ وَأَيْضًا فَغَيْرُ مُمْكِنٍ
الْوُصُولُ إلَى قِتَالِ الْأَبْعَدِ إلَّا بعد قتال من قرب
وقهرهم وإذ لا لهم فَهَذِهِ الْوُجُوهُ كُلُّهَا تَقْتَضِي
تَخْصِيصَ الْأَمْرِ بِقِتَالِ الأقرب وقوله تعالى وليجدوا
فيكم غلظة فيه أمر بالغلظة على الكفار الذين أمرنا
بِقِتَالِهِمْ فِي الْقَوْلِ وَالْمُنَاظَرَةِ وَالرِّسَالَةِ
إذْ كَانَ ذَلِكَ يُوقِعُ الْمَهَابَةَ لَنَا فِي صُدُورِهِمْ
وَالرُّعْبَ في قلوبهم ويستشعرون منابه شِدَّةَ
الِاسْتِبْصَارِ فِي الدِّينِ وَالْجِدِّ فِي قِتَالِ
الْمُشْرِكِينَ وَمَتَى أَظْهَرُوا لَهُمْ اللِّينَ فِي
الْقَوْلِ وَالْمُحَاوَرَةَ اسْتَجْرَءُوا عَلَيْهِمْ
وَطَمِعُوا فِيهِمْ فَهَذَا حَدُّ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ
الْمُؤْمِنِينَ مِنْ السِّيرَةِ فِي عَدُوِّهِمْ آخِرَ سُورَةِ
التَّوْبَةِ. |