أحكام القرآن للجصاص ت قمحاوي سُورَةِ الْأَحْقَافِ
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
قَوْله تعالى وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً رُوِيَ
أَنَّ عُثْمَانَ أَمَرَ بِرَجْمِ امْرَأَةٍ قَدْ وَلَدَتْ
لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ فَقَالَ لَهُ عَلِيٌّ قَالَ الله تعالى
وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً وقال وَفِصالُهُ فِي
عامَيْنِ وَرُوِيَ أَنَّ عُثْمَانَ سَأَلَ النَّاسَ عَنْ
ذَلِكَ فَقَالَ لَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ مِثْلَ ذَلِكَ وَأَنَّ
عُثْمَانَ رَجَعَ إلَى قَوْلِ عَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ
وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ كُلَّ مَا زَادَ فِي
الْحَمْلِ نَقَصَ مِنْ الرَّضَاعِ فَإِذَا كَانَ الْحَمْلُ
تِسْعَةَ أَشْهُرٍ فَالرَّضَاعُ وَاحِدٌ وَعِشْرُونَ شَهْرًا
وَعَلَى هَذَا الْقِيَاسِ جَمِيعُ ذَلِكَ وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ
عَبَّاسٍ أَنَّ الرَّضَاعَ حَوْلَانِ فِي جَمِيعِ النَّاسِ
وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ مَنْ زَادَ
(5/267)
وَيَقُولُ الَّذِينَ
آمَنُوا لَوْلَا نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ
مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي
قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ
عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلَى لَهُمْ (20)
حَمْلُهُ أَوْ نَقَصَ وَهُوَ مُخَالِفٌ
لِلْقَوْلِ الْأَوَّلِ وَقَالَ مُجَاهِدٌ فِي قَوْلِهِ وَما
تَغِيضُ الْأَرْحامُ وَما تَزْدادُ مَا نَقَصَ عَنْ تِسْعَةِ
أَشْهُرٍ أَوْ زَادَ عَلَيْهَا قَوْله تَعَالَى حَتَّى إِذا
بَلَغَ أَشُدَّهُ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةَ
أَشُدُّهُ ثَلَاثٌ وَثَلَاثُونَ سَنَةً وَقَالَ الشَّعْبِيُّ
هُوَ بُلُوغُ الْحُلُمِ وَقَالَ الْحَسَنُ أَشُدُّهُ قِيَامُ
الْحُجَّةِ عَلَيْهِ
وقَوْله تَعَالَى أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ
الدُّنْيا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِها
رَوَى الزُّهْرِيُّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ قَالَ عُمَرُ
فَقُلْت يَا رَسُولَ اللَّهِ اُدْعُ اللَّهَ أَنْ يُوَسِّعَ
عَلَى أُمَّتِك فَقَدْ وَسَّعَ عَلَى فَارِسَ وَالرُّومِ
وَهُمْ لَا يَعْبُدُونَ اللَّهَ فَاسْتَوَى جَالِسًا وَقَالَ
أَفِي شَكٍّ أَنْتَ يَا ابْنَ الْخَطَّابِ أُولَئِكَ قَوْمٌ
عُجِّلَتْ لَهُمْ طَيِّبَاتُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا
وَحَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَ حَدَّثَنَا
الجرجاني قَالَ أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ
فِي قَوْلِهِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ
الدُّنْيا قَالَ إنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ قَالَ لَوْ
شِئْت أَنْ أُذْهِبَ طَيِّبَاتِي فِي حَيَاتِي لَأَمَرْت
بِجَدْيٍ سَمِينٍ يُطْبَخُ بِاللَّبَنِ وَقَالَ مَعْمَرٌ قَالَ
قَتَادَةُ قَالَ عُمَرُ لَوْ شِئْت أَنْ أَكُونَ أَطْيَبَكُمْ
طَعَامًا وَأَلْيَنَكُمْ ثِيَابًا لَفَعَلْت وَلَكِنِّي
أَسْتَبْقِي طَيِّبَاتِي وَعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي
لَيْلَى قَالَ قَدِمَ عَلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ نَاسٌ
مِنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ فَقَرَّبَ إلَيْهِمْ طَعَامَهُ
فَرَآهُمْ كَأَنَّهُمْ يَتَعَذَّرُونَ فِي الْأَكْلِ فَقَالَ
يَا أَهْلَ الْعِرَاقِ لَوْ شِئْت أَنْ يُدَهْمَقَ لِي كَمَا
يُدَهْمَقُ لَكُمْ لَفَعَلْت وَلَكِنْ نَسْتَبْقِي مِنْ
دُنْيَانَا لآخرتنا ما سَمِعْتُمْ اللَّهَ يَقُولُ
أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ الدُّنْيا قَالَ
أَبُو بَكْرٍ هَذَا مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ رَأَى ذَلِكَ
أَفْضَلَ لَا عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ غَيْرُهُ لِأَنَّ
اللَّهَ قَدْ أَبَاحَ ذَلِكَ فَلَا يَكُونُ آكِلُهُ فَاعِلًا
مَحْظُورًا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ
اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ
الرِّزْقِ آخر سورة الأحقاف.
سورة محمد صلّى الله عليه وسلّم
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا
فَضَرْبَ الرِّقابِ قَالَ أَبُو بَكْرٍ قَدْ اقْتَضَى
ظَاهِرُهُ وُجُوبَ الْقَتْلِ لَا غَيْرُ إلَّا بَعْدَ
الْإِثْخَانِ وَهُوَ نَظِيرُ قَوْله تَعَالَى مَا كانَ
لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى حَتَّى يُثْخِنَ فِي
الْأَرْضِ حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَكَمِ
قَالَ حدثنا جعفر ابن محمد بن اليمان قال حدثنا أبو عبيد قال
حدثنا عبد الله بن صالح عن معاوية بن صالح عن عَلِيُّ بْنُ
أَبِي طَلْحَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْله تَعَالَى مَا
كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى حَتَّى يُثْخِنَ فِي
الْأَرْضِ قَالَ ذَلِكَ يَوْمُ بَدْرٍ وَالْمُسْلِمُونَ
يَوْمَئِذٍ قَلِيلٌ فَلَمَّا كَثُرُوا وَاشْتَدَّ
سُلْطَانُهُمْ
(5/268)
سَيَهْدِيهِمْ
وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ (5)
أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى بَعْدَ هَذَا
فِي الْأُسَارَى فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً
فَجَعَلَ اللَّهُ النَّبِيَّ وَالْمُؤْمِنِينَ فِي الْأُسَارَى
بِالْخِيَارِ إنْ شَاءُوا قَتَلُوهُمْ وَإِنْ شَاءُوا
اسْتَعْبَدُوهُمْ وَإِنْ شَاءُوا فَادُوهُمْ شَكَّ أَبُو
عُبَيْدٍ فِي وَإِنْ شَاءُوا اسْتَعْبَدُوهُمْ
وَحَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَ حَدَّثَنَا
جَعْفَرُ بن محمد بن اليمان قال حَدَّثَنَا أَبُو عُبَيْدٍ
قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو مَهْدِيٍّ وَحَجَّاجٌ كِلَاهُمَا عَنْ
سُفْيَانَ قَالَ سَمِعْت السُّدِّيَّ يَقُولُ فِي قَوْلِهِ
فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً قَالَ هِيَ
مَنْسُوخَةٌ نَسَخَهَا قَوْلُهُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ
حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ قَالَ أَبُو بَكْرٍ أَمَّا قَوْلُهُ
فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقابِ
وَقَوْلُهُ مَا كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى
حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ وَقَوْلُهُ فَإِمَّا
تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ
خَلْفَهُمْ فَإِنَّهُ جَائِزٌ أَنْ يَكُونَ حُكْمًا ثَابِتًا
غَيْرَ مَنْسُوخٍ وَذَلِكَ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ
نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْإِثْخَانِ
بِالْقَتْلِ وَحَظَرَ عَلَيْهِ الْأَسْرَ إلَّا بَعْدَ
إذْلَالِ الْمُشْرِكِينَ وَقَمْعِهِمْ وَكَانَ ذَلِكَ فِي
وَقْتِ قِلَّةِ عَدَدِ الْمُسْلِمِينَ وَكَثْرَةِ عَدَدِ
عَدُوِّهِمْ مِنْ الْمُشْرِكِينَ فَمَتَى أُثْخِنْ
الْمُشْرِكُونَ وَأُذِلُّوا بِالْقَتْلِ وَالتَّشْرِيدِ جَازَ
الِاسْتِبْقَاءُ فَالْوَاجِبُ أَنْ يَكُونَ هَذَا حُكْمًا
ثَابِتًا إذَا وُجِدَ مِثْلُ الْحَالِ الَّتِي كَانَ عَلَيْهَا
الْمُسْلِمُونَ فِي أول الإسلام أما قوله فَإِمَّا مَنًّا
بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً ظاهره يقتضى أخذ شيئين إما من وإما
فِدَاءٍ وَذَلِكَ يَنْفِي جَوَازَ الْقَتْلِ وَقَدْ اخْتَلَفَ
السَّلَفُ فِي ذَلِكَ حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ
قَالَ حَدَّثَنَا جعفر بن محمد بن اليمان قَالَ حَدَّثَنَا
أَبُو عُبَيْدٍ قَالَ حَدَّثَنَا حَجَّاجٌ عَنْ مُبَارَكِ بْنِ
فَضَالَةَ عَنْ الْحَسَنِ أَنَّهُ كَرِهَ قَتَلَ الْأَسِيرِ
وَقَالَ مُنَّ عَلَيْهِ أَوْ فَادِهِ وَحَدَّثَنَا جَعْفَرٌ
قَالَ حَدَّثَنَا جَعْفَرٌ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو عُبَيْدٍ
قَالَ أَخْبَرَنَا هُشَيْمٌ قَالَ أَخْبَرَنَا أَشْعَثُ قَالَ
سَأَلْت عَطَاءً عَنْ قَتْلِ الْأَسِيرِ فَقَالَ مُنَّ
عَلَيْهِ أَوْ فَادِهِ قَالَ وَسَأَلْت الْحَسَنَ قَالَ
يُصْنَعُ بِهِ مَا صَنَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأُسَارَى بَدْرٍ يُمَنُّ عَلَيْهِ أَوْ
يُفَادَى بِهِ وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ دُفِعَ
إلَيْهِ عَظِيمٌ مِنْ عُظَمَاءِ إصْطَخْرَ لِيَقْتُلَهُ
فَأَبَى أَنْ يَقْتُلَهُ وَتَلَا قَوْلَهُ فَإِمَّا مَنًّا
بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً وَرُوِيَ أَيْضًا عَنْ مُجَاهِدٍ
وَمُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ كَرَاهَةَ قَتْلِ الْأَسِيرِ وَقَدْ
رَوَيْنَا عَنْ السُّدِّيِّ أَنَّ قَوْلَهُ فَإِمَّا مَنًّا
بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً منسوخ بقوله فَاقْتُلُوا
الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ
وَرُوِيَ مِثْلُهُ عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ حَدَّثَنَا جَعْفَرٌ
قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو عُبَيْدٍ قَالَ حَدَّثَنَا حَجَّاجٌ
عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ هِيَ مَنْسُوخَةٌ وَقَالَ قَتَلَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عُقْبَةَ
بْنَ أَبِي مُعَيْطٍ يَوْمَ بَدْرٍ صَبْرًا
قَالَ أَبُو بَكْرٍ اتَّفَقَ فُقَهَاءُ الْأَمْصَارِ عَلَى
جَوَازِ قَتْلِ الْأَسِيرِ لَا نَعْلَمُ بَيْنَهُمْ خِلَافًا
فِيهِ
وَقَدْ تَوَاتَرَتْ الْأَخْبَارُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَتْلِهِ الْأَسِيرَ مِنْهَا
قَتْلُهُ عَقَبَةَ بْنَ أَبِي مُعَيْطٍ وَالنُّضْرَ بْنَ
الْحَارِثِ بَعْدَ الْأَسْرِ يَوْمَ بَدْرٍ وَقَتَلَ يَوْمَ
أحد أبا عزة الشاعر بعد ما أسر وقتل
(5/269)
بَنِي قُرَيْظَةَ بَعْدَ نُزُولِهِمْ عَلَى
حُكْمِ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ فَحَكَمَ فِيهِمْ بِالْقَتْلِ
وَسَبْيِ الذُّرِّيَّةِ ومن على الزبير ابن بَاطَا مِنْ
بَيْنِهِمْ وَفَتَحَ خَيْبَرَ بَعْضَهَا صُلْحًا وبعضها عنوة
وشرط على بن أَبِي الْحَقِيقِ أَنْ لَا يَكْتُمَ شَيْئًا
فَلَمَّا ظَهَرَ عَلَى خِيَانَتِهِ وَكِتْمَانِهِ قَتَلَهُ
وَفَتَحَ مَكَّةَ وأمر بقتل هلال بن خطل ومقيس ابن حبابة
وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَعْدِ بْنِ أَبِي سَرْح وَآخَرِينَ
وَقَالَ اُقْتُلُوهُمْ وَإِنْ وَجَدْتُمُوهُمْ مُتَعَلِّقِينَ
بِأَسْتَارِ الْكَعْبَةِ وَمَنَّ عَلَى أَهْلِ مَكَّةَ وَلَمْ
يَغْنَمْ أَمْوَالَهُمْ
وَرُوِيَ عَنْ صَالِحِ بْنِ كَيْسَانِ عَنْ محمد ابن عَبْدِ
الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِيهِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ
أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ يَقُولُ وَدِدْتُ
أَنِّي يَوْمَ أُتِيتُ بِالْفُجَاءَةِ لَمْ أَكُنْ أحرقته وكنت
قتلته سريحا أَوْ أَطْلَقْتُهُ نَجِيحًا وَعَنْ أَبِي مُوسَى
أَنَّهُ قتل دهقان السوس بعد ما أَعْطَاهُ الْأَمَانَ عَلَى
قَوْمٍ سَمَّاهُمْ وَنَسِيَ نَفْسَهُ فَلَمْ يُدْخِلْهَا فِي
الْأَمَانِ فَقَتَلَهُ فَهَذِهِ آثَارٌ متواترة عَنْ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَنْ
الصَّحَابَةِ فِي جَوَازِ قَتْلِ الْأَسِيرِ وَفِي
اسْتِبْقَائِهِ وَاتَّفَقَ فُقَهَاءُ الْأَمْصَارِ عَلَى
ذَلِكَ وَإِنَّمَا اختلفوا في فدائه فقال أصحابنا جميعا لا
يُفَادَى الْأَسِيرُ بِالْمَالِ وَلَا يُبَاعُ السَّبْيُ مِنْ
أَهْلِ الْحَرْبِ فَيَرُدُّوا حَرْبًا وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ
لَا يُفَادُونَ بِأَسْرَى الْمُسْلِمِينَ أَيْضًا وَلَا
يُرَدُّونَ حَرْبًا أَبَدًا وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ
لَا بَأْسَ أَنْ يُفَادَى أَسْرَى الْمُسْلِمِينَ بِأَسْرَى
الْمُشْرِكِينَ وَهُوَ قَوْلُ الثَّوْرِيِّ وَالْأَوْزَاعِيّ
وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ لَا بَأْسَ بِبَيْعِ السَّبْيِ مِنْ
أَهْلِ الْحَرْبِ وَلَا يُبَاعُ الرِّجَالُ إلَّا أَنْ
يُفَادَى بِهِمْ الْمُسْلِمُونَ وَقَالَ الْمُزَنِيّ عَنْ
الشَّافِعِيِّ لِلْإِمَامِ أَنْ يَمُنَّ عَلَى الرِّجَالِ
الَّذِينَ ظَهَرَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُفَادِي بِهِمْ فَأَمَّا
الْمُجِيزُونَ لِلْفِدَاءِ بِأَسْرَى الْمُسْلِمِينَ
وَبِالْمَالِ فَإِنَّهُمْ احْتَجُّوا بِقَوْلِهِ فَإِمَّا
مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً وَظَاهِرُهُ يَقْتَضِي
جَوَازَهُ بِالْمَالِ وَبِالْمُسْلِمِينَ وَبِأَنَّ النَّبِيَّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَدَى أُسَارَى بَدْرٍ
بِالْمَالِ وَيَحْتَجُّونَ لِلْفِدَاءِ بِالْمُسْلِمِينَ
بِمَا رَوَى ابْنُ الْمُبَارَكِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ أَيُّوبَ
عَنْ أَبِي قِلَابَةَ عَنْ أَبِي الْمُهَلَّبِ عَنْ عِمْرَانَ
بْنِ حَصِينٍ قَالَ أَسَرَتْ ثَقِيفُ رَجُلَيْنِ مِنْ
أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَأَسَرَ أَصْحَابُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ رَجُلًا مِنْ بَنِي عَامِرِ بْنِ صَعْصَعَةَ فَمُرَّ
بِهِ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَهُوَ مُوثَقٌ فَأَقْبَلَ إلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ عَلَامَ أُحْبَسُ قَالَ
بِجَرِيرَةِ حُلَفَائِك فَقَالَ الْأَسِيرُ إنِّي مُسْلِمٌ
فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَوْ
قُلْتَهَا وَأَنْتَ تَمْلِكُ أَمْرَك لَأَفْلَحَتْ كُلَّ
الْفَلَاحِ ثُمَّ مَضَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَنَادَاهُ أَيْضًا فَأَقْبَلَ فَقَالَ
إنِّي جَائِعٌ فَأَطْعِمْنِي فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذِهِ حَاجَتُك ثُمَّ إنَّ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَدَاهُ
بِالرَّجُلَيْنِ اللَّذَيْنِ كَانَتْ ثَقِيفٌ أَسَرَتْهُمَا
وَرَوَى ابْنُ عُلَيَّةَ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ أَبِي قلابة عَنْ
أبي المهلب عن عمران بن حصين أن النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَدَى رَجُلَيْنِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ
بِرَجُلٍ مِنْ الْمُشْرِكِينَ مِنْ بَنِي عَقِيلٍ
وَلَمْ يَذْكُرْ
(5/270)
يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ
وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ (33)
إسْلَامَ الْأَسِيرِ وَذَكَرَهُ فِي
الْحَدِيثِ الْأَوَّلِ وَلَا خِلَافَ أَنَّهُ لَا يُفَادَى
الْآنَ عَلَى هَذَا الوجه لأن المسلم لا يرد أَهْلِ الْحَرْبِ
وَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
شَرَطَ فِي صُلْحِ الْحُدَيْبِيَةِ لِقُرَيْشٍ أَنَّ مَنْ
جَاءَ مِنْهُمْ مُسْلِمًا رَدَّهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ نُسِخَ
ذَلِكَ وَنَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
عَنْ الْإِقَامَةِ بَيْنَ أَظْهُرِ الْمُشْرِكِينَ وَقَالَ
أَنَا بَرِيءٌ مِنْ كُلِّ مُسْلِمٍ مَعَ مُشْرِكٍ
وَقَالَ مَنْ أَقَامَ بَيْنَ أَظْهُرِ الْمُشْرِكِينَ فَقَدْ
بَرِئَتْ مِنْهُ الذِّمَّةُ
وَأَمَّا مَا فِي الْآيَةِ مِنْ ذِكْرِ الْمَنِّ أَوْ
الْفِدَاءِ وَمَا رُوِيَ فِي أُسَارَى بَدْرٍ فَإِنَّ ذَلِكَ
مَنْسُوخٌ بِقَوْلِهِ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ
وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا
لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ
وَآتَوُا الزَّكاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ وَقَدْ رَوَيْنَا
ذَلِكَ عَنْ السُّدِّيِّ وَابْنِ جُرَيْجٍ وقَوْله تَعَالَى
قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ
الْآخِرِ- إلَى قَوْله تَعَالَى- حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ
عَنْ يَدٍ وَهُمْ صاغِرُونَ فَتَضَمَّنَتْ الْآيَتَانِ وُجُوبَ
الْقِتَالِ لِلْكُفَّارِ حَتَّى يُسْلِمُوا أَوْ يُؤَدُّوا
الْجِزْيَةَ وَالْفِدَاءُ بِالْمَالِ أَوْ بِغَيْرِهِ يُنَافِي
ذَلِكَ وَلَمْ يَخْتَلِفْ أَهْلُ التَّفْسِيرِ وَنَقَلَةُ
الْآثَارِ أَنَّ سُورَةَ بَرَاءَةٍ بَعْدَ سُورَةِ مُحَمَّدٍ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ
الْحُكْمُ الْمَذْكُورُ فِيهَا نَاسِخًا لِلْفِدَاءِ
الْمَذْكُورِ فِي غَيْرِهَا قَوْله تَعَالَى حَتَّى تَضَعَ
الْحَرْبُ أَوْزارَها قَالَ الْحَسَنُ حَتَّى يُعْبَدَ اللَّهُ
وَلَا يُشْرَكَ بِهِ غَيْرُهُ وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ
خُرُوجُ عيسى بن مَرْيَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَيَكْسِرُ
الصَّلِيبَ وَيَقْتُلُ الْخِنْزِيرَ وَيَلْقَى الذِّئْبُ
الشَّاةَ فَلَا يَعْرِضُ لَهَا وَلَا تَكُونُ عَدَاوَةٌ بَيْن
اثْنَيْنِ وَقَالَ الْفَرَّاءُ آثَامُهَا وَشِرْكُهَا حَتَّى
لَا يَكُونَ إلَّا مُسْلِمٌ أَوْ مُسَالِمٌ قَالَ أَبُو بَكْرٍ
فَكَأَنَّ مَعْنَى الْآيَةِ عَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ إيجَابُ
الْقِتَالِ إلَى أَنْ لَا يَبْقَى مَنْ يُقَاتِلُ
وقَوْله تَعَالَى فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ
وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ رُوِيَ عَنْ
مُجَاهِدٍ لَا تَضْعُفُوا عَنْ الْقِتَالِ وَتَدْعُوا إلَى
الصُّلْحِ وَحَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَ
حَدَّثَنَا الْحَسَنُ الجرجاني قَالَ أَخْبَرَنَا عَبْدُ
الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْله تَعَالَى
فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ قَالَ لَا تَكُونُوا
أَوَّلَ الطَّائِفَتَيْنِ ضَرَعَتْ إلَى صاحبتها وَأَنْتُمُ
الْأَعْلَوْنَ قَالَ أَنْتُمْ أَوْلَى بِاَللَّهِ مِنْهُمْ
قَالَ أَبُو بَكْرٍ فِيهِ الدَّلَالَةُ عَلَى امْتِنَاعِ
جَوَازِ طَلَبِ الصُّلْحِ مِنْ الْمُشْرِكِينَ وَهُوَ بَيَانٌ
لِمَا أَكَّدَ فَرْضَهُ مِنْ قِتَالِ مُشْرِكِي الْعَرَبِ
حَتَّى يُسْلِمُوا وَقِتَالِ أَهْلِ الْكِتَابِ وَمُشْرِكِي
الْعَجَمِ حَتَّى يُسْلِمُوا أَوْ يُعْطُوا الْجِزْيَةَ
وَالصُّلْحُ عَلَى غَيْرِ إعْطَاءِ الْجِزْيَةِ خَارِجٌ عَنْ
مُقْتَضَى الْآيَاتِ الْمُوجِبَةِ لِمَا وَصَفْنَا فَأَكَّدَ
النَّهْيَ عَنْ الصُّلْحِ بِالنَّصِّ عَلَيْهِ فِي هَذِهِ
الْآيَةِ وَفِيهِ الدَّلَالَةُ عَلَى أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَدْخُلْ مَكَّةَ صُلْحًا
وَإِنَّمَا فَتَحَهَا عَنْوَةً لِأَنَّ اللَّهَ قَدْ نَهَاهُ
عَنْ الصُّلْحِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وأخبر أن
(5/271)
إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ
فَتْحًا مُبِينًا (1)
المسلمين هم الأعلون الغالبون ومتى دخلها صُلْحًا بِرِضَاهُمْ
فَهُمْ مُتَسَاوُونَ إذْ كَانَ حُكْمُ مَا يَقَعُ بِتَرَاضِي
الْفَرِيقَيْنِ فَهُمَا مُتَسَاوِيَانِ فِيهِ لَيْسَ
أَحَدُهُمَا بِأُولَى بِأَنْ يَكُونَ غَالِبًا عَلَى صَاحِبِهِ
مِنْ الْآخَرِ وقَوْله تَعَالَى وَلا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ
يُحْتَجُّ بِهِ فِي أَنَّ كُلَّ مَنْ دَخَلَ فِي قُرْبَةٍ لَا
يَجُوزُ لَهُ الْخُرُوجُ مِنْهَا قَبْلَ إتْمَامِهَا لِمَا
فِيهِ مِنْ إبْطَالِ عَمَلِهِ نَحْوِ الصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ
وَالْحَجِّ وَغَيْرِهِ آخِرُ سُورَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. |