أحكام القرآن للجصاص ط العلمية
و من سورة البقرة
مدخل
...
ومن سورة البقرة
قوله تعالى: {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ
الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} يتضمن الأمر بالصلاة
والزكاة; لأنه جعلهما من صفات المتقين ومن شرائط التقوى; كما جعل
الإيمان بالغيب، وهو الإيمان بالله وبالبعث والنشور وسائر ما لزمنا
اعتقاده عن طريق الاستدلال، من شرائط التقوى فاقتضى ذلك إيجاب الصلاة
والزكاة المذكورتين في الآية.
وقد قيل في إقامة الصلاة وجوه: منها إتمامها من تقويم الشيء وتحقيقه،
ومنه قوله: {وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ} [الرحمن: 9]. وقيل
يؤدونها على ما فيها من قيام وغيره، فعبر عنها بالقيام; لأن القيام من
فروضها، وإن كانت تشتمل على فروض غيره، كقوله : {فَاقْرَأُوا مَا
تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ} [المزمل: 20] والمراد الصلاة التي فيها
القراءة، وقوله تعالى: {وَقُرْآنَ الْفَجْرِ} [الإسراء: 78] المراد
القراءة في صلاة الفجر، وكقوله: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لا
يَرْكَعُونَ} [المرسلات: 48] وقوله: {ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا} [الحج:
77] وقوله: {وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ} [البقرة: 43] فذكر ركنا
من أركانها الذي هو من فروضها، ودل به على أن ذلك فرض فيها وعلى إيجاب
ما هو من فروضها، فصار قوله: {يُقِيمُونَ الصَّلاةَ} موجبا للقيام فيها
ومخبرا به عن فرض الصلاة ويحتمل {يُقِيمُونَ الصَّلاةَ} يديمون فروضها
في أوقاتها، كقوله تعالى: {إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى
الْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَوْقُوتاً} [النساء: 103] أي فرضا في أوقات
معلومة لها، ونحوه قوله تعالى: {قَائِماً بِالْقِسْطِ} [آل عمرآن: 18]
يعني يقيم القسط ولا يفعل غيره والعرب تقول في الشيء الراتب الدائم:
قائم، وفي فاعله: مقيم يقال: فلان يقيم أرزاق الجند. وقيل: هو من قول
القائل: قامت السوق، إذا حضر أهلها; فيكون معناه الاشتغال بها عن غيرها
ومنه: قد قامت الصلاة، وهذه الوجوه على اختلافها تجوز أن تكون مرادة
بالآية وقوله: {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} في فحوى الخطاب
دلالة على أن المراد المفروض من النفقة، وهي الحقوق الواجبة لله تعالى
من الزكاة وغيرها، كقوله تعالى: {وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ
مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ} [المنافقون: 10]
وقوله: {وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ
(1/27)
اللَّهِ}
[البقرة: 195] وقوله: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ
وَلا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [التوبة: 34]. والذي يدل على
أن المراد المفروض منها أنه قرنها إلى الصلاة المفروضة وإلى الإيمان
بالله وكتابه، وجعل هذا الإنفاق من شرائط التقوى ومن أوصافها. ويدل على
أن المراد المفروض من الصلاة والزكاة أن لفظ الصلاة إذا أطلق غير مقيد
بوصف أو شرط يقتضي الصلوات المعهودة المفروضة كقوله: {أَقِمِ الصَّلاةَ
لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} [الإسراء: 78] و {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ
وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى} [البقرة: 238] ونحو ذلك فلما أراد بإطلاق
اللفظ الصلاة المفروضة كان فيه دلالة على أن المراد بالإنفاق ما فرض
عليه منه ولما مدح هؤلاء بالإنفاق مما رزقهم الله دل ذلك على أن إطلاق
اسم الرزق إنما يتناول المباح منه دون المحظور، وأن ما اغتصبه وظلم فيه
غيره لم يجعله الله له رزقا; لأنه لو كان رزقا له لجاز إنفاقه وإخراجه
إلى غيره على وجه الصدقة والتقرب به إلى الله تعالى، ولا خلاف بين
المسلمين أن الغاصب محظور عليه الصدقة بما اغتصبه، وكذلك قال النبي
عليه السلام: "لا تقبل صدقة من غلول". والرزق الحظ في اللغة، قال الله
تعالى: {وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ} [الواقعة:
82] أي حظكم من هذا الأمر التكذيب به، وحظ الرجل هو نصيبه، وما هو خالص
له دون غيره ولكنه في هذا الموضع هو ما منحه الله تعالى عباده، وهو
المباح الطيب.
وللرزق وجه آخر، وهو ما خلقه الله تعالى من أقوات الحيوان; فجائز إضافة
ذلك إليه; لأنه جعله قوتا وغذاء. وقوله تعالى في شأن المنافقين وإخباره
عنهم بإظهار الإيمان للمسلمين من غير عقيدة وإظهار الكفر لإخوانهم من
الشياطين في قوله: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ
وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ} وقوله:
{يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ} إلى
قوله: {وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا
خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ
مُسْتَهْزِئُونَ} يحتج به في استتابة الزنديق الذي اطلع منه على إسرار
الكفر متى أظهر الإيمان; لأن الله تعالى أخبر عنهم بذلك، ولم يأمر
بقتلهم، وأمر النبي عليه السلام بقبول ظاهرهم دون ما علمه هو تعالى من
حالهم وفساد اعتقادهم وضمائرهم. ومعلوم أن نزول هذه الآيات بعد فرض
القتال; لأنها نزلت بالمدينة، وقد كان الله تعالى فرض قتال المشركين
بعد الهجرة ولهذه الآية نظائر في سورة براءة وسورة محمد عليه السلام
وغيرهما في ذكر المنافقين وقبول ظاهرهم دون حملهم على أحكام سائر
المشركين الذين أمرنا بقتالهم وإذا انتهينا إلى مواضعها ذكرنا أحكامها
واختلاف الناس في الزنديق واحتجاج من يحتج بها في ذلك، وهو يظهر من
قوله عليه السلام: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله،
فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا
(1/28)
بحقها،
وحسابهم على الله" وأنكر على أسامة بن زيد حين قتل في بعض السرايا رجلا
قال: لا إله إلا الله، حين حمل عليه ليطعنه، فقال: "هلا شققت عن قلبه"
يعني أنه محمول على حكم الظاهر دون عقد الضمير، ولا سبيل لنا إلى العلم
به.
قال أبو بكر: وقوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا
بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ} يدل على
أن الإيمان ليس هو الإقرار دون الاعتقاد; لأن الله تعالى قد أخبر عن
إقرارهم بالإيمان ونفى عنهم سمته بقوله: {وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ}.
ويروى عن مجاهد أنه قال: في أول البقرة أربع آيات في نعت المؤمنين،
وآيتان في نعت الكافرين، وثلاث عشرة آية في نعت المنافقين. والنفاق اسم
شرعي جعل سمة لمن يظهر الإيمان ويسر الكفر، خصوا بهذا الاسم للدلالة
على معناه وحكمه، وإن كانوا مشركين إذ كانوا مخالفين لسائر المبادين
بالشرك في أحكامهم. وأصله في اللغة من نافقاء اليربوع، وهو الجحر الذي
يخرج منه إذا طلب; لأن له أجحرة 1 يدخل بعضها عند الطلب ثم يراوغ الذي
يريد صيده فيخرج من جحر آخر قد أعده.
وقوله تعالى: {يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا} هو مجاز في
اللغة; لأن الخديعة في الأصل هي الإخفاء; وكأن المنافق أخفى الإشراك
وأظهر الإيمان على وجه الخداع والتمويه والغرور لمن يخادعه والله تعالى
لا يخفى عليه شيء ولا يصح أن يخادع في الحقيقة. وليس يخلو هؤلاء القوم
الذين وصفهم الله تعالى بذلك من أحد وجهين: إما أن يكونوا عارفين بالله
تعالى، قد علموا أنه لا يخادع بتساتر شيء، أو غير عارفين، فذلك أبعد;
إذ لا يصح أن يقصده لذلك، ولكنه أطلق ذلك عليهم; لأنهم عملوا عمل
المخادع، ووبال الخداع راجع عليهم، فكأنهم إنما يخادعون أنفسهم وقيل:
إن المراد: يخادعون رسول الله صلى الله عليه وسلم فحذف ذكر النبي عليه
السلام كما قال: {إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ}
[الأحزاب:57] والمراد يؤذون أولياء الله وأي الوجهين كان فهو مجاز وليس
بحقيقة، ولا يجوز استعماله إلا في موضع يقوم الدليل عليه. وإنما خادعوا
رسول الله تقية لتزول عنهم أحكام سائر المشركين الذين أمر النبي عليه
السلام والمؤمنون بقتلهم; وجائز أن يكونوا أظهروا الإيمان للمؤمنين
ليوالوهم كما يوالي المؤمنون بعضهم بعضا ويتواصلون فيما بينهم; وجائز
أن يكونوا يظهرون لهم الإيمان ليفشوا إليهم أسرارهم فينقلوا ذلك إلى
أعدائهم، وكذلك قول الله تعالى: {اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ} مجاز;
وقد قيل فيه وجوه: أحدها على جهة مقابلة الكلام بمثله، وإن لم يكن في
معناه، كقوله تعالى:
ـــــــ
1 هكذا في النسخ التي بأيدينا وصوابه حجرة.
(1/29)
{وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} [الشورى: 40]. والثانية
ليست بسيئة بل حسنة، ولكنه لما قابل بها السيئة أجرى عليها اسمها وقوله
تعالى: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا
اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [البقرة: 194]. والثاني ليس باعتداء. وقوله
تعالى: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ
بِهِ} [النحل: 126] والأول ليس بعقاب، وإنما هو على مقابلة اللفظ بمثله
ومزاوجته وتقول العرب: الجزاء بالجزاء، والأول ليس بجزاء، ومنه قول
الشاعر:
ألا لا يجهلن أحد علينا
...
فنجهل فوق جهل الجاهلينا
ومعلوم أنه لم يمتدح بالجهل، ولكنه جرى على عادتهم في ازدواج الكلام
ومقابلته. وقيل: إن ذلك أطلقه الله تعالى على طريق التشبيه; وهو أنه
لما كان وبال الاستهزاء راجعا عليهم ولاحقا لهم كان كأنه استهزأ بهم.
وقيل: لما كانوا قد أمهلوا في الدنيا ولم يعاجلوا بالعقوبة والقتل
كسائر المشركين وأخر عقابهم فاغتروا بالإمهال كانوا كالمستهزأ بهم.
(1/30)
مطلب في أن عقوبة الدنيا غير موضوعة على مقادير الأجرام، وإنما هي على
ما يعلمه الله تعالى من المصالح فيها
ولما كانت أجرام المنافقين أعظم من أجرام سائر الكفار المبادين بالكفر;
لأنهم جمعوا الاستهزاء والمخادعة بقوله: {يُخَادِعُونَ اللَّهَ} وقولهم
{إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ} وذلك زيادة في الكفر، وكذلك أخبر
الله تعالى أنهم {فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ}، ومع ما
أخبر بذلك من عقابهم وما يستحقونه في الآخرة، خالف بين أحكامهم في
الدنيا وأحكام سائر المظهرين للشرك في رفع القتل عنهم بإظهارهم الإيمان
وأجراهم مجرى المسلمين في التوارث وغيره. ثبت أن عقوبات الدنيا ليست
موضوعة على مقادير الأجرام، وإنما هي على ما يعلم الله من المصالح فيها
وعلى هذا أجرى الله تعالى أحكامه فأوجب رجم الزاني المحصن ولم يزل عنه
الرجم بالتوبة ألا ترى إلى قوله عليه السلام في ماعز بعد رجمه وفي
الغامدية بعد رجمها: "لقد تاب توبة لو تابها صاحب مكس لغفر له". والكفر
أعظم من الزنا، ولو كفر رجل ثم تاب قبلت توبته، وقال تعالى: {قُلْ
لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ}
[الأنفال: 38] وحكم في القاذف بالزنا بجلد ثمانين ولم يوجب على القاذف
بالكفر الحد، وهو أعظم من الزنا، وأوجب على شارب الخمر الحد، ولم يوجب
على شارب الدم وآكل الميتة فثبت بذلك أن عقوبات الدنيا غير موضوعة على
مقادير الأجرام، ولأنه لما كان جائزا في العقل أن لا يوجب في الزنا
والقذف والسرقة حدا رأسا ويكل أمرهم إلى عقوبات الآخرة، جاز أن يخالف
بينها فيوجب في بعضها أغلظ مما يوجب في بعض، ولذلك قال أصحابنا: لا
(1/30)
يجوز
إثبات الحدود من طريق المقاييس. وإنما طريق إثباتها التوقيف أو
الاتفاق، وما ذكره الله تعالى من أمر المنافقين في هذه الآية وإقرارهم
من غير أمر لنا بقتالهم أصل فيما ذكرنا ولأن الحدود والعقوبات التي
أوجبها من فعل الإمام ومن قام بأمور الشريعة جارية مجرى ما يفعله هو
تعالى من الآلام على وجه العقوبة فلما جاز أن لا يعاقب المنافق في
الدنيا بالآلام من جهة الأمراض والأسقام والفقر والفاقة، بل يفعل به
أضداد ذلك، ويكون عقابه المستحق بكفره ونفاقه مؤجلا إلى الآخرة، جاز أن
لا يتعبدنا بقتله في الدنيا وتعجيل عقوبة كفره ونفاقه.
وقد غبر النبي عليه السلام بمكة بعد ما بعثه الله تعالى ثلاث عشرة سنة
يدعو المشركين إلى الله وتصديق رسله غير متعبد بقتالهم، بل كان مأمورا
بدعائهم في ذلك بألين القول وألطفه. فقال تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ
رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ
بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل: 125] وقال: {وَإِذَا خَاطَبَهُمُ
الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاماً} [الفرقان: 63] وقال: {ادْفَعْ
بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ
عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا
الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ}
[فصلت: 34 – 35] في نظائر ذلك من الآيات التي فيها الأمر بالدعاء إلى
الدين بأحسن الوجوه. ثم فرض القتال بعد الهجرة لعلمه تعالى بالمصلحة من
كلا الحالين بما تعبد به، فجاز من أصل ما وصفنا أن يكون الأمر بالقتل
والقتال خاصا في بعض الكفار وهم المجاهرون بالكفر دون من يظهر الإيمان
ويسر الكفر، وإن كان المنافق أعظم جرما من غيره.
وقوله تعالى: {الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشاً} يعني والله
أعلم قرارا، كقوله: {الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَرَاراً} [غافر:
64] وقوله: {أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَاداً} [النبأ: 6] فسماها
فراشا; والإطلاق لا يتناولها، وإنما يسمى به مقيدا، كقوله تعالى:
{وَالْجِبَالَ أَوْتَاداً} [النبأ: 7] وإطلاق اسم الأوتاد لا يفيد
الجبال، وقوله: {الشَّمْسَ سِرَاجاً} [نوح: 16] ولذلك قال الفقهاء: إن
من حلف لا ينام على فراش فنام على الأرض لا يحنث، وكذلك لو حلف لا يقعد
في سراج فقعد في الشمس; لأن الأيمان محمولة على المعتاد المتعارف من
الأسماء. وليس في العادة إطلاق هذا الاسم للأرض والشمس. وهذا كما سمى
الله تعالى الجاحد له كافرا، وسمى الزارع كافرا، والشاك السلاح كافرا،
ولا يتناولهما هذا الاسم في الإطلاق، وإنما يتناول الكافر بالله تعالى،
ونظائر ذلك من الأسماء المطلقة والمقيدة كثيرة، ويجب اعتبارها في كثير
من الأحكام، فما كان في العادة مطلقا فهم على إطلاقه، والمقيد فيها على
تقييده، ولا يتجاوز به موضعه.
(1/31)
وفي هذه
الآية دلالة على توحيد الله تعالى، وإثبات الصانع الذي لا يشبهه شيء،
القادر الذي لا يعجزه شيء، وهو ارتفاع السماء ووقوفها بغير عمد، ثم
دوامها على طول الدهر غير متزايلة ولا متغيرة، كما قال تعالى:
{وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفاً مَحْفُوظاً} [الأنبياء: 32]. وكذلك
ثبات الأرض ووقوفها على غير سند 1 فيه أعظم الدلالة على التوحيد وعلى
قدرة خالقها، وأنه لا يعجزه شيء، وفيها. تنبيه وحث على الاستدلال بها
على الله وتذكير بالنعمة.
وقوله تعالى: {فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَكُمْ} نظير
قوله: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً} وقوله:
{وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ}
[الجاثية: 13] وقوله: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي
أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} [الأعراف: 32]
يحتج بجميع ذلك في أن الأشياء على الإباحة مما لا يحظره العقل، فلا
يحرم منه شيء إلا ما قام دليله.
وقوله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى
عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ
مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} فيه أكبر دلالة على صحة
نبوة نبينا عليه السلام من وجوه: أحدها أنه تحداهم بالإتيان بمثله،
وقرعهم بالعجز عنه مع ما هم عليه من الأنفة والحمية، وأنه كلام موصوف
بلغتهم، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم منهم تعلم اللغة العربية،
وعنهم أخذ، فلم يعارضه منهم خطيب، ولا تكلفه شاعر، مع بذلهم الأموال
والأنفس في توهين أمره، وإبطال حججه، وكانت معارضته لو قدروا عليها
أبلغ الأشياء في إبطال دعواه وتفريق أصحابه عنه; فلما ظهر عجزهم عن
معارضته دل ذلك على أنه من عند الله الذي لا يعجزه شيء، وأنه ليس في
مقدور العباد مثله، وإنما أكبر ما اعتذروا به أنه من أساطير الأولين،
وأنه سحر، فقال تعالى: {فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا
صَادِقِينَ} [الطور: 34] وقال: {فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ
مُفْتَرَيَاتٍ} [هود: 13] فتحداهم بالنظم دون المعنى في هذه الصورة،
وأظهر عجزهم عنه فكانت هذه معجزة باقية لنبينا صلى الله تعالى عليه
وسلم إلى قيام الساعة، أبان الله تعالى بها نبوة نبيه وفضله بها على
سائر الأنبياء; لأن سائر معجزات الأنبياء تقضت بانقضائهم، وإنما يعلم
كونها معجزة من طريق الأخبار. وهذه معجزة باقية بعده، كل من اعترض
عليها بعد قرعناه بالعجز عنه،
ـــــــ
1 قوله "ثبات الأرض ووقفها على غير سند فيه صراحة قطعية بأن الأرض
موقوفة على متن الهواء كما هو مصرح في كلام علي رضي الله عنه في كتاب
نهج البلاغة وأما ما ذكره بعض المتأخرين في كتبهم من حديث الصخرة
والثور فلا يصح شيء منه أصلا بل هي أخبار ملفقة مأخوذة من الأخبار
الاسرائيلية فلا يجوز الاعتماد عليها ولا الركون إليها "لمصححه".
(1/32)
مطلب في أمر اله تعالى باستعمال الحجج العقلية و الاستدلال بها
...
مطلب في أمر اله تعالى باستعمال الحجج العقلية والاستدلال بها
قال أبو بكر رحمه الله: وقد تضمنت هذه الآية مع ما ذكرنا من التنبيه
على دلائل التوحيد وإثبات النبوة الأمر باستعمال حجج العقول والاستدلال
بدلائلها، وذلك مبطل لمذهب من نفى الاستدلال بدلائل الله تعالى واقتصر
على الخبر بزعمه في معرفة الله
(1/34)
والعلم
بصدق رسوله صلى الله عليه وسلم; لأن الله تعالى لم يقتصر فيما دعا
الناس إليه من معرفة توحيده وصدق رسوله على الخبر دون إقامة الدلالة
على صحته من جهة عقولنا. وقوله تعالى: {وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا
وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ
تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} يدل على أن البشارة هي الخبر السار، والأظهر
والأغلب أن إطلاقه يتناول من الأخبار ما يحدث عنده الاستبشار والسرور
وإن كان قد يجري على غيره مقيدا كقوله {فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ
أَلِيمٍ} [آل عمران: 21] وكذلك قال أصحابنا فيمن قال: أي عبد بشرني
بولادة فلانة فهو حر فبشروه جماعة واحدا بعد واحد; أن الأول يعتق دون
غيره لأن البشارة حصلت بخبره دون غيره. ولم يكن هذا عندهم بمنزلة ما لو
قال: أي عبد أخبرني بولادتها; فأخبروه واحدا بعد واحد أنهم يعتقون
جميعا; لأنه عقد اليمين على خبر مطلق فيتناول سائر المخبرين، وفي
البشارة عقدها على خبر مخصوص بصفة وهو ما يحدث عنده السرور والاستبشار
ويدل على أن موضوع هذا الخبر ما وصفنا. قولهم: رأيت البشر في وجهه;
يعني الفرح والسرور قال الله في صفة وجوه أهل الجنة {وُجُوهٌ
يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ} [عبس: 38 - 39] فأخبر
عما ظهر في وجوههم من آثار السرور والفرح بذكر الاستبشار، ومنه سموا
الرجل بشيرا تفاؤلا منهم إلى الإخبار بالخير دون الشر وسموا ما يعطى
البشير على هذا الخبر بشرى، وهذا يدل على أن الإطلاق يتناول الخبر
المفيد سرورا فلا ينصرف إلى غيره إلا بدلالة، وأنه متى أطلق في الشر
فإنما يراد به الخبر فحسب، وكذلك قوله تعالى {فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ
أَلِيمٍ} معناه أخبرهم ويدل على ما وصفنا من أن البشير هو المخبر الأول
فيما ذكرنا من حكم اليمين قولهم: "ظهرت لنا تباشير هذا الأمر" يعنون
أوله، ولا يقولون ذلك في الشر وفيما يغم. وإنما يقولونه فيما يسر ويفرح
ومن الناس من يقول إن أصله فيما يسر ويغم; لأن معناه ما يظهر أولا في
بشرة الوجه من سرور أو غم، إلا أنه كثر فيما يسر فصار الإطلاق أخص به
منه بالشر.
وقوله تعالى: {وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ
عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاءِ إِنْ
كُنْتُمْ صَادِقِينَ} يدل على أنه علم الأسماء كلها لآدم، أعني الأجناس
بمعانيها لعموم اللفظ في ذكر الأسماء وقوله: {ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى
الْمَلائِكَةِ} فيه دلالة على أنه أراد أسماء ذريته على ما روي عن
الربيع بن أنس، إلا أنه قد روي عن ابن عباس ومجاهد أنه علمه أسماء جميع
الأشياء وظاهر اللفظ يوجب ذلك.
فإن قيل: لما قال {عَرَضَهُمْ} دل على أنه أسماء من يعقل; لأن "هم"
إنما يطلق فيما يعقل دون ما لا يعقل.
(1/35)
قيل له:
لما أراد ما يعقل وما لا يعقل جاز تغليب اسم ما يعقل، كقوله تعالى:
{خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى
بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ
يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ} [النور: 45] لما دخل في الجملة من يعقل أجرى
الجميع مجرى واحدا.
وهذه الآية تدل على أن أصول اللغات كلها توقيف من الله تعالى لآدم عليه
السلام عليها على اختلافها، وأنه علمه إياها بمعانيها إذ لا فضيلة في
معرفة الأسماء دون المعاني. وهي دلالة على شرف العلم وفضيلته; لأنه
تعالى لما أراد إعلام الملائكة فضيلة آدم علمه الأسماء بمعانيها حتى
أخبر الملائكة بها ولم تكن الملائكة علمت منها ما علمه آدم فاعترفت له
بالفضل في ذلك.
ومن الناس من يقول إن لغة آدم وولده كانت واحدة إلى زمان الطوفان، فلما
أغرق الله تعالى أهل الأرض وبقي من نسل نوح من بقي وتوفي نوح عليه
السلام وتوالدوا وكثروا، أرادوا بناء صرح ببابل يمتنعون به من الطوفان;
إذ كان بلبل الله ألسنتهم فنسي كل فرقة منهم اللسان الذي كان عليه،
وعلمها الله الألسنة التي توارثها بعد ذلك ذريتهم، وتفرقوا في البلدان
وانتشروا في الأرض.
ومن الناس من يأبى ذلك ويقول: لا يجوز أن ينسى إنسان كامل العقل جميع
لغته التي كان يتكلم بها بالأمس، وإنهم قد كانوا عارفين بجميع اللغات
إلى أن تفرقوا، فاقتصر كل أمة منهم على اللسان الذي هم عليه اليوم
وتركوا سائر الألسنة التي كانوا عرفوها ولم تأخذها عنهم أولادهم
ونسلهم، فلذلك لم يعرف من نشأ بعدهم سائر اللغات.
(1/36)
باب السجود لغير الله تعالى
قال الله تعالى: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ
فَسَجَدُوا}، روى شعبة عن قتادة: أن الطاعة كانت لله تعالى في السجود
لآدم، أكرمه الله بذلك، وروى معمر عن قتادة في قوله: {وَخَرُّوا لَهُ
سُجَّداً} [يوسف: 100] قال: "كانت تحيتهم السجود". وليس يمتنع أن يكون
ذلك السجود عبادة لله تعالى وتكرمة وتحية لآدم عليه السلام وكذلك سجود
إخوة يوسف عليهم السلام وأهله له، وذلك لأن العبادة لا تجوز لغير الله
تعالى، والتحية والتكرمة جائزان لمن يستحق ضربا من التعظيم.
ومن الناس من يقول: إن السجود كان لله، وآدم كان بمنزلة القبلة لهم
وليس هذا بشيء; لأنه يوجب أن لا يكون لآدم في ذلك حظ من التفضيل
والتكرمة. وظاهر ذلك
(1/36)
يقتضي أن
يكون آدم مفضلا مكرما; فذلك كظاهر الحمد إذا وقع لمن يستحق ذلك يحمل
على الحقيقة ولا يحمل على ما يطلق من ذلك مجازا، كما يقال: أخلاق فلان
محمودة ومذمومة; لأن حكم اللفظ أن يكون محمولا على بابه وحقيقته.
ويدل على أن الأمر بالسجود قد كان أراد به تكرمة آدم عليه السلام
وتفضيله على قول إبليس فيما حكى الله عنه: {أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ
طِيناً قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ} [الإسراء:
61 - 62] فأخبر إبليس أن امتناعه كان من السجود لأجل ما كان من تفضيل
الله وتكرمته بأمره إياه بالسجود له، ولو كان الأمر بالسجود له على أنه
نصب قبلة للساجدين من غير تكرمة له ولا فضيلة لما كان لآدم في ذلك حظ
ولا فضيلة تحسد، كالكعبة المنصوبة للقبلة وقد كان السجود جائزا في
شريعة آدم عليه السلام للمخلوقين، ويشبه أن يكون قد كان باقيا إلى زمان
يوسف عليه السلام فكان فيما بينهم لمن يستحق ضربا من التعظيم ويراد
إكرامه وتبجيله بمنزلة المصافحة والمعانقة فيما بيننا وبمنزلة تقبيل
اليد. وقد روي عن النبي عليه السلام في إباحة تقبيل اليد أخبار، وقد
روي الكراهة; إلا أن السجود لغير الله تعالى على وجه التكرمة والتحية
منسوخ بما روت عائشة وجابر بن عبد الله وأنس، أن النبي عليه السلام
قال: "ما ينبغي لبشر أن يسجد لبشر، ولو صلح لبشر أن يسجد لبشر لأمرت
المرأة أن تسجد لزوجها من عظم حقه عليها" لفظ حديث أنس بن مالك.
قوله تعالى: {وَآمِنُوا بِمَا أَنْزَلْتُ مُصَدِّقاً لِمَا مَعَكُمْ
وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ}. قيل إن فائدة قوله: {وَلا
تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ} وإن كان الكفر قبيحا من الأول والآخر
منهيا عنه الجميع أن السابق إلى الكفر يقتدي به غيره فيكون أعظم لمأثمه
وجرمه، كقوله تعالى: {وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالاً مَعَ
أَثْقَالِهِمْ} [العنكبوت: 13] وقوله: {مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا
عَلَى بَنِي إِسْرائيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ
أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً}
[المائدة: 32] وروي عن النبي عليه السلام: "إن على ابن آدم القاتل كفلا
من الإثم في كل قتيل ظلما; لأنه أول من سن القتل"، وقال عليه السلام:
"من سن سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة".
قوله تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا
مَعَ الرَّاكِعِينَ} لا يخلو من أن يكون راجعا إلى صلاة معهودة وزكاة
معلومة وقد عرفها، أو أن يكون متناولا صلاة مجملة وزكاة مجملة موقوفة
على البيان، إلا أنا قد علمنا الآن أنه قد أريد بهما فيما خوطبنا به من
هذه الصلوات المفروضة والزكوات الواجبة، إما لأنه كان ذلك معلوما عند
المخاطبين في حال ورود الخطاب، أو أن يكون كان ذلك مجملا ورد بعده بيان
المراد
(1/37)
فحصل ذلك
معلوما. وأما قوله: {وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ} فإنه يفيد إثبات
فرض الركوع في الصلاة، وقيل إنه إنما خص الركوع لأن أهل الكتاب لم يكن
لهم ركوع في صلاتهم فنص على الركوع فيها ويحتمل أن يكون قوله:
{وَارْكَعُوا} عبارة عن الصلاة نفسها كما عبر عنها بالقراءة في قوله:
{فَاقْرَأُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ} [المزمل: 20]. وقوله:
{وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُوداً}
[الإسراء: 78] والمعنى صلاة الفجر; فينتظم وجهين من الفائدة: أحدهما:
إيجاب الركوع; لأنه لم يعبر عنها بالركوع إلا وهو من فرضها، والثاني:
الأمر بالصلاة مع المصلين.
فإن قيل: قد تقدم ذكر الصلاة في قوله: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ} فغير
جائز أن يريد بعطف الركوع عليها الصلاة بعينها.
قيل له: هذا جائز إذا أريد بالصلاة المبدوء بذكرها الإجمال دون صلاة
معهودة فيكون حينئذ قوله: {وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ} إحالة لهم
على الصلاة التي بينها بركوعها وسائر فروضها وأيضا لما كانت صلاة أهل
الكتاب بغير ركوع وكان في اللفظ احتمال رجوعه إلى تلك الصلاة بين أنه
لم يرد الصلاة التي يتعبد بها أهل الكتاب بل التي فيها الركوع. وقوله
تعالى :{وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ} ينصرف الأمر بالصبر
على أداء الفرائض التي فرضها الله واجتناب معاصيه وفعل الصلاة
المفروضة، وقد روى سعيد عن قتادة أنهما معونتان على طاعة الله تعالى
وفعل الصلاة لطف في اجتناب معاصيه وأداء فرائضه، كقوله: {إِنَّ
الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} [العنكبوت: 45]
ويحتمل أن يريد به الصبر والصلاة المندوب إليهما لا المفروضين، وذلك
نحو صوم التطوع وصلاة النفل; إلا أن الأظهر أن المراد المفروض منهما
لأن ظاهر الأمر بالإيجاب ولا يصرف إلى غيره إلا بدلالة.
وقوله تعالى: {وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ} فيه رد الضمير على واحد مع تقدم
ذكر اثنين، كقوله: {وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ}
[التوبة: 62] وقال: {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْواً
انْفَضُّوا إِلَيْهَا} [الجمعة: 11] وقول الشاعر:
فمن يك أمسى بالمدينة رحله ... فإني وقيار بها لغريب.
(1/38)
مطلب يحتج
بقوله تعالى: {فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا} الآية على أن الأذكار
توقيفية لا يجوز تغييرها
قوله تعالى: {فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي
قِيلَ لَهُمْ} يحتج بها فيما ورد من التوقيف في الأذكار والأقوال بأنه
غير جائز تغييرها ولا تبديلها إلى غيرها. وربما احتج به
(1/38)
علينا
المخالف في تجويزنا تحريمة الصلاة بلفظ التعظيم والتسبيح، وفي تجويز
القراءة بالفارسية على مذهب أبي حنيفة، وفي تجويز النكاح بلفظ الهبة،
والبيع بلفظ التمليك، وما جرى مجرى ذلك وهذا لا يلزمنا فيما ذكرنا لأن
قوله تعالى: {فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا} إنما هو في القوم الذين
قيل لهم: {وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّداً وَقُولُوا حِطَّةٌ} يعني حط
عنا ذنوبنا قال الحسن وقتادة: قال ابن عباس: أمروا أن يستغفروا. وروي
عنه أيضا أنهم أمروا أن يقولوا: هذا الأمر حق، كما قيل لكم وقال عكرمة:
أمروا أن يقولوا لا إله إلا الله فقالوا بدل هذا حنطة حمراء تجاهلا
واستهزاء وروي عن ابن عباس وغيره من الصحابة وعن الحسن: إنما استحقوا
الذم لتبديلهم القول إلى لفظ في ضد المعنى الذي أمروا به; إذ كانوا
مأمورين بالاستغفار والتوبة فصاروا إلى الإصرار والاستهزاء. فأما من
غير اللفظ مع اتفاق المعنى فلم تتناوله الآية; إذ كانت الآية إنما
تضمنت الحكاية عن فعل قوم غيروا اللفظ والمعنى جميعا فألحق بهم الذم
بهذا القول وإنما يشاركهم في الذم من يشاركهم في الفعل مثلا بمثل، فأما
من غير اللفظ وأتى بالمعنى فلم تتضمنه الآية، وإنما نظير فعل القوم
إجازة من يجيز المتعة مع قوله تعالى: {إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ
مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} [المعارج: 30]، فقصر استباحة البضع على
هذين الوجهين، فمن استباحه بلفظ المتعة مع مخالفة النكاح وملك اليمين
من جهة اللفظ والمعنى فهذا الذي يجوز أن يلحقه الذم بحكم الآية.
وقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً
قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُواً} إلى قوله: {وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً
فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ
فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا} إلى آخر الآية، قال أبو بكر: في هذه
الآيات وما اشتملت عليه من قصة المقتول وذبح البقرة ضروب من الأحكام
والدلائل على المعاني الشريفة: فأولها: أن قوله تعالى: {وَإِذْ
قَتَلْتُمْ نَفْساً} وإن كان مؤخرا في التلاوة فهو مقدم في المعنى على
جميع ما ابتدأ به من شأن البقرة; لأن الأمر بذبح البقرة إنما كان سببه
قتل النفس وقد قيل فيه وجهان: أحدهما: أن ذكر القتل وإن كان مؤخرا في
التلاوة فهو مقدم في النزول، والآخر: أن ترتيب نزولها على حسب ترتيب
تلاوتها ونظامها وإن كان مقدما في المعنى لأن الواو لا توجب الترتيب،
كقول القائل: "اذكر; إذ أعطيت ألف درهم زيدا; إذ بنى داري" والبناء
مقدم على العطية والدليل على أن ذكر البقرة مقدم في النزول قوله تعالى:
{فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا}. فدل على أن البقرة قد ذكرت قبل
ذلك ولذلك أضمرت ونظير ذلك قوله تعالى في قصة نوح عليه السلام بعد ذكر
الطوفان وانقضائه: {قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ
اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ
آمَنَ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ} [هود: 40]. ومعلوم أن ذلك
كان قبل هلاكهم; لأن تقديم الكلام وتأخيره إذا كان بعضه معطوفا على
(1/39)
بعض
بالواو غير موجب ترتيب المعنى على ترتيب اللفظ، وقوله: {إِنَّ اللَّهَ
يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} قد دل على جواز ورود الأمر
بذبح البقرة بقرة مجهولة غير معروفة ولا موصوفة ويكون المأمور مخيرا في
ذبح أدنى ما يقع الاسم عليه.
وقد تنازع معناه الفريقان من نفاة العموم ومن مثبتيه، واحتج به كل واحد
من الفريقين لمذهبه، فأما القائلون بالعموم فاحتجوا به من جهة وروده
مطلقا فكان ذلك أمرا لازما في كل واحد من آحاد ما تناوله العموم، وأنهم
لما تعنتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في المراجعة مرة بعد أخرى شدد
الله عليهم التكليف وذمهم على مراجعته بقوله: {فَذَبَحُوهَا وَمَا
كَادُوا يَفْعَلُونَ}. وروى الحسن أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
"والذي نفس محمد بيده لو اعترضوا أدنى بقرة فذبحوها لأجزت عنهم ولكنهم
شددوا فشدد الله عليهم". وروي نحو ذلك عن ابن عباس وعبيدة وأبي العالية
والحسن ومجاهد.
واحتج من أبى القول بالعموم بأن الله تعالى لم يعنفهم على المراجعة
بدءا، ولو كان قد لزمهم تنفيذ ذلك على ما ادعيتموه من اقتضاء عموم
اللفظ لورد النكير في بدء المراجعة، وهذا ليس بشيء; لأن النكير ظاهر
عليهم في اللفظ من وجهين: أحدهما: تغليظ المحنة عليهم وهذا ضرب من
النكير كما قال الله تعالى: {فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا
حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ} [النساء: 16].
والثاني: قوله: {وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ} وهذا يدل على أنهم كانوا
تاركين للأمر بدءا وأنه قد كان عليهم المسارعة إلى فعله.
فقد حصلت الآية على معان:
أحدها: وجوب اعتبار عموم اللفظ فيما يمكن استعماله.
والثاني: أن الأمر على الفور وأن على المأمور المسارعة إلى فعله على
حسب الإمكان حتى تقوم الدلالة على جواز التأخير 1.
والثالث: جواز ورود الأمر بشيء مجهول الصفة مع تخيير المأمور في فعل ما
يقع الاسم عليه منه.
والرابع: وجوب الأمر وأنه لا يصار إلى الندب إلا بدلالة; إذ لم يلحقهم
الذم إلا بترك الأمر المطلق من غير ذكر وعيد.
ـــــــ
1 قوله والثاني أن الأمر على الفور إلى آخره هذا مذهب أبي الحسن الكرخي
شيخ المصنف وهو خلاف ما عليه جمهور الحنفية وعامة المتكلمين من أن
الأمر المطلق عن الوقت لا يوجب الفور وهو الصحيح "لمصححه".
(1/40)
والخامس:
جواز النسخ قبل وقوع الفعل بعد التمكن منه; ذلك أن زيادة هذه الصفات في
البقرة كل منها قد نسخ ما قبلها; لأن قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ
يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} اقتضى ذبح بقرة أيها كانت وعلى
أي وجه شاءوا، وقد كانوا متمكنين من ذلك. فلما قالوا: {قَالُوا ادْعُ
لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ} فقال: {إِنَّهَا بَقَرَةٌ لا
فَارِضٌ وَلا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ فَافْعَلُوا مَا
تُؤْمَرُونَ} نسخ التخيير الذي أوجبه الأمر الأول في ذبح البقرة
الموصوفة بهذه الصفة وذبح غيرها، وقصروا على ما كان منها بهذه الصفة
وقيل لهم {فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ} فأبان أنه كان عليهم أن يذبحوا
من غير تأخير على هذه الصفة أي لون كانت وعلى أي حال كانت من ذلول أو
غيرها، فلما قالوا: {قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا
لَوْنُهَا} نسخ التخيير الذي كان في ذبح أي لون شاءوا منها وبقي
التخيير في الصفة الأخرى من أمرها، فلما راجعوا نسخ ذلك أيضا وأمروا
بذبحها على الصفة التي ذكر واستقر الفرض عليها بعد تغليظ المحنة وتشديد
التكليف.
وهذا الذي ذكرنا في أمر النسخ دل أن الزيادة في النص بعد استقرار حكمه
يوجب نسخه; لأن جميع ما ذكرنا من الأوامر الواردة بعد مراجعة القوم
إنما كان زيادة في نص كان قد استقر حكمه فأوجب نسخه. ومن الناس من يحتج
بهذه القصة في جواز نسخ الفرض قبل مجيء وقته; لأنه قد كان معلوما أن
الفرض عليهم بدءا قد كان بقرة معينة فنسخ ذلك عنهم قبل مجيء وقت الفعل
وهذا غلط; لأن كل فرض من ذلك قد كان وقت فعله عقيب ورود الأمر في أول
أحوال الإمكان واستقر الفرض عليهم وثبت ثم نسخ قبل الفعل، فلا دلالة
فيه إذا على جواز النسخ قبل مجيء وقت الفعل، وقد بينا ذلك في أصول
الفقه.
(1/41)
مطلب دل
قوله تعالى: {لا فَارِضٌ وَ لا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ} على جواز
الاجتهاد
...
مطلب دل قوله تعالى: {لا فَارِضٌ وَلا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ}
على جواز الاجتهاد
والسادس: دلالة قوله: {لا فَارِضٌ وَلا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ}
على جواز الاجتهاد واستعمال غالب الظن في الأحكام; إذ لا يعلم أنها بين
البكر والفارض إلا من طريق الاجتهاد.
والسابع: استعمال الظاهر مع تجويز أن يكون في الباطن خلافه بقوله:
{مُسَلَّمَةٌ لا شِيَةَ فِيهَا} يعني والله أعلم مسلمة من العيوب بريئة
منها، وذلك لا نعلمه من طريق الحقيقة وإنما نعلمه من طريق الظاهر مع
تجويز أن يكون بها عيب باطن.
والثامن: ما حكى الله عنهم في المراجعة الأخيرة: {وَإِنَّا إِنْ شَاءَ
اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ} لما
(1/41)
قرنوا
الخبر بمشيئة الله وفقوا لترك المراجعة بعدها ولوجود ما أمروا به، وقد
روي أنهم لو لم يقولوا "إن شاء الله" لما اهتدوا لها أبدا ولدام الشر
بينهم، وكذلك قوله: {وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ} فأعلمنا الله ذلك
لنطلب نجاح الأمور عند الإخبار عنها في المستقبل بذكر الاستثناء الذي
هو مشيئة الله، وقد نص الله تعالى لنا في غير هذا الموضع على الأمر به
في قوله: {وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَداً
إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الكهف: 23 – 24] ففيه استعانة بالله
وتفويض الأمر إليه والاعتراف بقدرته ونفاذ مشيئته وأنه مالكه والمدبر
له.
والتاسع: دلالة قوله: {أَتَتَّخِذُنَا هُزُواً قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ
أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ} على أن المستهزئ يستحق سمة الجهل،
لانتفاء موسى عليه السلام أن يكون من أهل الجهل بنفيه الاستهزاء عن
نفسه. ويدل أيضا على أن الاستهزاء بأمر الدين من كبائر الذنوب
وعظائمها، لولا ذلك لم يبلغ مأثمه النسبة إلى الجهل وذكر محمد بن مسعر
أنه تقدم إلى عبيد الله بن الحسن العنبري القاضي قال: وعلي جبة صوف
وكان عبيد الله كثير المزح، قال: فقال له: أصوف نعجة جبتك أم صوف كبش؟
فقلت له: لا تجهل أبقاك الله قال: وأنى وجدت المزاح جهلا؟ فتلوت عليه:
{أَتَتَّخِذُنَا هُزُواً قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ
الْجَاهِلِينَ} قال: فأعرض واشتغل بكلام آخر.
وفيه دلالة على أن موسى عليه السلام لم يكن متعبدا بقتل من ظهر منه
الكفر، وإنما كان مأمورا بالنظر بالقول; لأن قولهم لنبي الله
{أَتَتَّخِذُنَا هُزُواً} كفر وهو كقولهم لموسى {اجْعَلْ لَنَا إِلَهاً
كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ} [الأعراف: 138] ويدل أيضا على أن كفرهم هذا لم
يوجب فرقة بين نسائهم وبينهم; لأنه لم يأمر بفراقهن ولا تقرير نكاح
بينهم وبينهن.
وقوله تعالى: {وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ} يدل على
أن ما يسره العبد من خير وشر ودام ذلك منه أن الله سيظهره، وهو كما روي
عن النبي عليه السلام: "إن عبدا لو أطاع الله من وراء سبعين حجابا
لأظهر الله له ذلك على ألسنة الناس وكذلك المعصية". وروي أن الله تعالى
أوحى إلى موسى عليه السلام: "قل لبني إسرائيل يخفوا لي أعمالهم وعلي أن
أظهرها".
وقوله تعالى: {وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ} عام
والمراد خاص; لأن كلهم ما علموا بالقاتل بعينه ولذلك اختلفوا وجائز أن
يكون قوله: {وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ} عاما في
سائر الناس لأنه كلام مستقل بنفسه وهو عام فيهم وفي غيرهم وفي هذه
القصة سوى ما ذكرنا حرمان ميراث المقتول، روى أبو أيوب عن ابن سيرين عن
(1/42)
عبيدة
السلماني: "أن رجلا من بني إسرائيل كان له ذو قرابة وهو وارثه، فقتله
ليرثه، ثم ذهب فألقاه على باب قوم آخرين وذكر قصة البقرة وذكر بعدها:
فلم يورث بعدها قاتل".
وقد اختلف في ميراث القاتل. وروي عن عمر وعلي وابن عباس وسعيد بن
المسيب أنه لا ميراث له سواء كان القتل عمدا أو خطأ، وأنه لا يرث من
ديته ولا من سائر ماله وهو قول أبي حنيفة والثوري وأبي يوسف ومحمد وزفر
إلا أن أصحابنا قالوا: إن كان القاتل صبيا أو مجنونا ورث وقال عثمان
البتي: قاتل الخطإ يرث دون قاتل العمد وقال ابن شبرمة: لا يرث قاتل
الخطإ وقال ابن وهب عن مالك: لا يرث القاتل عمدا من دية من قتل شيئا
ولا من ماله، وإن قتله خطأ ورث من ماله ولم يرث من ديته. وروي مثله عن
الحسن ومجاهد والزهري، وهو قول الأوزاعي وقال المزني عن الشافعي: إذا
قتل الباغي العادل أو العادل الباغي لا يتوارثان لأنهما قاتلان.
قال أبو بكر: لم يختلف الفقهاء في أن قاتل العمد لا يرث المقتول إذا
كان بالغا عاقلا بغير حق، واختلف في قاتل الخطإ على الوجوه التي ذكرنا
وقد حدثنا عبد الباقي قال: حدثنا أحمد بن محمد بن عنبسة بن لقيط الضبي
قال: حدثنا علي بن حجر قال: حدثنا إسماعيل بن عياش عن ابن جريج والمثنى
ويحيى بن سعيد عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله صلى
الله عليه وسلم: "ليس للقاتل من الميراث شيء".
وحدثنا عبد الباقي قال: حدثنا موسى بن زكريا التستري قال: حدثنا سليمان
بن داود قال: حدثنا حفص بن غياث عن الحجاج عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن
جده عن عمر بن الخطاب عن النبي عليه السلام قال: "ليس للقاتل شيء".
وروى الليث عن إسحاق بن عبد الله بن أبي فروة عن الزهري عن حميد بن عبد
الرحمن عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "القاتل
لا يرث".
وروى يزيد بن هارون قال: حدثنا محمد بن راشد عن مكحول قال: قال رسول
الله صلى الله عليه وسلم: "القاتل عمدا لا يرث من أخيه ولا من ذي
قرابته شيئا ويرث أقرب الناس إليه نسبا بعد القاتل".
وروى حصن بن ميسرة قال: حدثني عبد الرحمن بن حرملة عن عدي الجذامي قال:
قلت: يا رسول الله كانت لي امرأتان فاقتتلتا فرميت إحداهما؟ فقال:
"اعقلها ولا ترثها".
فثبت بهذه الأخبار حرمان القاتل ميراثه من سائر مال المقتول، وأنه لا
فرق في ذلك بين العامد والمخطئ لعموم لفظ النبي عليه السلام فيه. وقد
استعمل الفقهاء هذا الخبر وتلقوه بالقبول فجرى مجرى التواتر كقوله عليه
السلام: "لا وصية لوارث" وقوله:
(1/43)
"لا تنكح
المرأة على عمتها ولا على خالتها" و "إذا اختلف البيعان فالقول ما قاله
البائع أو يترادان" وما جرى مجرى ذلك من الأخبار التي مخرجها من جهة
الإفراد وصارت في حيز التواتر لتلقي الفقهاء لها بالقبول من استعمالهم
إياها فجاز تخصيص آية المواريث بها ويدل على تسوية حكم العامد والمخطئ
في ذلك ما روي عن علي وعمر وابن عباس من غير خلاف من أحد من نظرائهم
عليهم وغير جائز فيما كان هذا وصفه من قول الصحابة في شيوعه واستفاضته
أن يعترض عليه بقول التابعين ولما وافق مالك على أنه لا يرث من ديته
وجب أن يكون ذلك حكم سائر ماله من وجوه. أحدها: أن ديته ماله وميراث
عنه بدليل أنه تقضى منها ديونه وتنفذ منها وصاياه ويرثها سائر ورثته
على فرائض الله تعالى كما يرثون سائر أمواله، فلما اتفقوا على أنه لا
يرث من ديته كان ذلك حكم سائر ماله في الحرمان كما أنه إذا ورث من سائر
ماله ورث من ديته، فمن حيث كان حكم سائر ماله حكم ديته في الاستحقاق
وجب أن يكون حكم سائر ماله حكم ديته في الحرمان; إذ كان الجميع مستحقا
على سهام ورثته وأنه مبدوء به في الدين على الميراث ومن جهة أخرى أنه
لما ثبت أنه لا يرث من ديته لما اقتضاه الأثر وجب أن يكون حكم سائر
ماله كذلك; لأن الأثر لم يفصل في وروده بين شيء من ذلك، وقال مالك:
إنما ورث قاتل الخطإ من سائر ماله سوى الدية لأنه لا يتهم أن يكون قتله
ليرثه وهذه العلة موجودة في ديته; لأنها من التهمة أبعد. فواجب على
مقتضى علته أن يرث من ديته ومن جهة أخرى أنهم لا يختلفون في قاتل العمد
وشبه العمد أنه لا يرث سائر ماله كما لا يرث من ديته إذا وجبت، فوجب أن
يكون ذلك حكم قاتل الخطإ لاتفاقهما في حرمان الميراث من ديته وأيضا إذا
كان قتل العمد وشبه العمد إنما حرما الميراث للتهمة في إحراز الميراث
بقتله فهذا المعنى موجود في قتل الخطإ; لأنه يجوز أن يكون إنما أظهر
رمي غيره وهو قاصد به قتله لئلا يقاد منه ولا يحرم الميراث، فلما كانت
التهمة موجودة من هذا الوجه وجب أن يكون في معنى العمد وشبهه وأيضا
توريثه بعض الميراث دون بعض خارج من الأصول; لأن فيها أن من ورث بعض
تركة ورث جميعها ومن حرم بعضها حرم جميعها. وإنما قال أصحابنا: إن
الصبي والمجنون لا يحرمان الميراث بالقتل من قبل أنهما غير مكلفين،
وحرمان الميراث على وجه العقوبة في الأصول فأجري قاتل الخطإ مجراه وإن
لم يستحق العقاب بقتل الخطإ تغليظا لأمر الدم، ويجوز أن يكون قد قصد
القتل برميه أو بضربه وأنه أوهم أنه قاصد لغيره فأجري في ذلك مجرى من
علم منه ذلك، والصبي والمجنون على أي وجه كان منهما ذلك لا يستحقان
الدم، قال النبي عليه السلام: "رفع القلم عن ثلاث: عن النائم حتى
ينتبه، وعن المجنون حتى يفيق، وعن الصبي حتى يحتلم".
(1/44)
قال أبو
بكر رحمه الله: فظاهر هذا الخبر يقتضي سقوط حكم قتله رأسا من سائر
الوجوه، ولولا قيام الدلالة لما وجبت الدية أيضا.
فإن قيل: فإنه يحرم النائم الميراث إذا انقلب على صبي فقتله؟ قيل له:
هو مثل قاتل الخطإ يجوز أن يكون أظهر أنه نائم ولم يكن نائما في
الحقيقة وأما قول الشافعي في العادل إذا قتل الباغي حرم الميراث، فلا
وجه له; لأنه قتله بحق وقد كان الباغي مستحقا للقتل، فغير جائز أن يحرم
الميراث ولا نعلم خلافا أن من وجب له القود على إنسان فقتله قودا أنه
لا يحرم الميراث وأيضا فلو كان قتل العادل الباغي يحرمه الميراث لوجب
أنه إذا كان محاربا فاستحق القتل حدا أن لا يكون ميراثه لجماعة
المسلمين; لأن الإمام قام مقام الجماعة في إجراء الحكم عليه فكأنهم
قتلوه، فلما كان المسلمون هم المستحقين لميراث من ذكرنا أمره وإن كان
الإمام قام مقامهم في قتله ثبت بذلك أن من قتل بحق لا يحرم قاتله
ميراثه، وقال أصحابنا في حافر البئر وواضع الحجر في الطريق إذا عطب به
إنسان: إنه لا يحرم الميراث; لأنه غير قاتل في الحقيقة; إذ لم يكن
فاعلا للقتل ولا لسبب اتصل بالمقتول، والدليل على ذلك أن القتل على
ثلاثة أوجه: عمد، وخطأ، وشبه العمد، وحافر البئر وواضع الحجر خارج عن
ذلك. فإن قيل: حفر البئر ووضع الحجر سبب للقتل كالرامي والجارح أنهما
قاتلان لفعلهما السبب قيل له: الرمي وما تولد منه من مرور السهم هو
فعله وبه حصل القتل، وكذلك الجرح فعله فصار قاتلا به لاتصال فعله
بالمقتول; وعثار الرجل بالحجر ووقوعه في البئر ليس من فعله فلا يجوز أن
يكون به قاتلا، وقوله تعالى: {أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ
وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ
يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} يدل على
أن العالم بالحق المعاند فيه أبعد من الرشد وأقرب إلى اليأس من الصلاح
من الجاهل، لأن قوله تعالى: {أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ}
يفيد زوال الطمع في رشدهم لمكابرتهم الحق بعد العلم به.
وقوله تعالى: {وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً
مَعْدُودَةً} ، قيل في معنى معدودة: إنها قليلة، كقوله: {وَشَرَوْهُ
بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ} [يوسف: 20] أي قليلة. وقال ابن
عباس وقتادة في قوله: {أَيَّاماً مَعْدُودَةً} إنها أربعون يوما مقدار
ما عبدوا العجل، وقال الحسن ومجاهد: سبعة أيام وقال تعالى: {كُتِبَ
عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ
لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ أَيَّاماً مَعْدُودَاتٍ} [البقرة: 183 – 184]،
فسمى أيام الصوم في هذه الآية معدودات وأيام الشهر كله.
وقد احتج شيوخنا لأقل مدة الحيض وأكثره أنها ثلاثة وعشرة بقول النبي
صلى الله عليه وسلم: "المستحاضة تدع الصلاة أيام أقرائها" وفي بعض
الألفاظ: "دعي الصلاة أيام حيضك"
(1/45)
واستدلوا
بذلك على أن مدة الحيض تسمى أياما وأقلها ثلاثة وأكثرها عشرة; لأن ما
دون الثلاثة يقال يوم أو يومان وما زاد على العشرة يقال فيه أحد عشر
يوما، وإنما يتناول هذا الاسم ما بين الثلاثة إلى العشرة، فدل ذلك على
مقدار أقله وأكثره فمن الناس من يعترض على هذا الاستدلال بقوله:
{أَيَّاماً مَعْدُودَاتٍ}، وهي أيام الشهر، وقوله: {إِلَّا أَيَّاماً
مَعْدُودَةً} وقد قيل فيه أربعون يوما وهذا عندنا لا يقدح في
استدلالهم; لأن قوله تعالى: {أَيَّاماً مَعْدُودَاتٍ} [البقرة: 184]
جائز أن يريد به أياما قليلة كقوله: {دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ} [يوسف:
42] يعني قليلة، ولم يرد به تحديد العدد وتوقيت مقداره، وإنما المراد
به أنه لم يفرض عليهم من الصوم ما يشتد ويصعب ويحتمل أن يريد به وقتا
مبهما كقولهم: أيام بني أمية، وأيام الحجاج، ولا يراد به تحديد الأيام
وإنما المراد به زمان ملكهم وقوله عليه السلام: "دعي الصلاة أيام
أقرائك" قد أريد به لا محالة تحديد الأيام، إذ لا بد من أن يكون للحيض
وقت معين مخصوص لا يتجاوزه ولا يقصر عنه، فمتى أضيف ذكر الأيام إلى عدد
مخصوص يتناول ما بين الثلاثة إلى العشرة.
قوله تعالى: {بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ
خَطِيئَتُهُ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}
قد عقل منه استحقاق النار بما يكسب من السيئة وإحاطتها فكان الجزاء
مستحقا بوجود الشرطين غير مستحق بوجود أحدهما، وهذا يدل على أن من عقد
اليمين على شرطين في عتاق أو طلاق أو غيرهما أنه يحنث بوجود أحدهما دون
وجود الآخر.
قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرائيلَ لا
تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً} يدل على
تأكيد حق الوالدين ووجوب الإحسان إليهما كافرين كانا أو مؤمنين; لأنه
قرنه إلى الأمر بعبادته تعالى.
وقوله: {وَذِي الْقُرْبَى} يدل على وجوب صلة الرحم والإحسان إلى
اليتامى والمساكين. {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً} روي عن أبي جعفر
محمد بن علي: "وقولوا للناس حسنا كلهم".
قال أبو بكر: وهذا يدل على أنهم كانوا متعبدين بذلك في المسلم والكافر
وقد قيل: إن ذلك على معنى قوله تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ
بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي
هِيَ أَحْسَنُ} [النحل: 125]، والإحسان المذكور في الآية إنما هو
الدعاء إليه والنصح فيه لكل أحد وروي عن ابن عباس وقتادة أنها منسوخة
بالأمر بالقتال. وقد قال تعالى: {لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ
بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ} [النساء: 148]. وقد أمر
الله تعالى بلعن الكفار والبراءة منهم والإنكار على أهل المعاصي، وهذا
مما لا
(1/46)
يختلف فيه
شرائع الأنبياء عليهم السلام، فدل ذلك على أن المأمور به من القول
الحسن أحد وجهين: إما أن يكون خاصا في المسلمين ومن لا يستحق اللعن
والنكير، وإن كان عاما فهو الدعاء إلى الله تعالى والأمر بالمعروف
والنهي عن المنكر، وذلك كله حسن وأخبرنا الله تعالى أنه كان أخذ
الميثاق على بني إسرائيل بما ذكر، والميثاق هو العقد المؤكد إما بوعيد
أو بيمين، وهو نحو أمر الله الصحابة بمبايعة النبي صلى الله عليه وسلم
على شرائطها المذكورة.
وقوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ
دِمَاءَكُمْ وَلا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ} يحتمل
وجهين: أحدهما: أن لا يقتل بعضكم بعضا كقوله تعالى: {وَلا تَقْتُلُوا
أَنْفُسَكُمْ} [النساء: 29] وكذلك إخراجهم من ديارهم، وكقوله:
{وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا} [آل عمران: 195]. والآخر: أن لا يقتل كل واحد
نفسه، إما بأن يباشر ذلك كما يفعله الهند وكثير ممن يغلب عليه اليأس من
الخلاص من شدة هو فيها، أو بأن يقتل غيره فيقتل به فيكون في معنى قتل
نفسه واحتمال اللفظين المعنيين يوجب أن يكون عليهما جميعا وهذا الذي
أخبر الله به من حكم شريعة التوراة مما كان يكتمه اليهود لما عليهم في
ذلك من الوكس ويلزمهم في ذلك من الذم، فأطلع الله نبيه عليه وجعله
دلالة وحجة عليهم في جحدهم نبوته; إذ لم يكن عليه السلام ممن قرأ الكتب
ولا عرف ما فيها إلا بإعلام الله تعالى إياه، وكذلك جميع ما حكى الله
بعد هذه الآيات عنهم من قوله: {وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ
عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا} وسائر ما ذمهم هو توقيف منه له على ما كانوا
يكتمون وتقريع لهم على ظلمهم وكفرهم وإظهار قبائحهم، وجميعه دلالة على
نبوته عليه السلام.
وقوله تعالى: {وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ
مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ
الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ} دال على أن فداء أساراهم كان واجبا
عليهم، وكان إخراج فريق منهم من ديارهم محرما عليهم، فإذا أسر بعضهم
عدوهم كان عليهم أن يفادوهم، فكانوا في إخراجهم كافرين ببعض الكتاب
لفعلهم ما حظره الله عليهم وفي مفاداتهم مؤمنين ببعض الكتاب بقيامهم
بما أوجبه الله عليهم.
وهذا الحكم من وجوب مفاداة الأسارى ثابت علينا; روى الحجاج بن أرطاة عن
الحكم عن جده: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب كتابا بين
المهاجرين والأنصار أن يعقلوا معاقلهم ويفدوا عانيهم بالمعروف والإصلاح
بين المسلمين. وروى منصور عن شقيق بن سلمة عن أبي موسى الأشعري قال:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أطعموا الطعام وأفشوا السلام
وعودوا المريض وفكوا العاني" فهذان الخبران يدلان على فكاك الأسير; لأن
العاني هو
(1/47)
الأسير.
وقد روى عمران بن حصين وسلمة بن الأكوع: "أن النبي عليه السلام فدى
أسارى من المسلمين بالمشركين". وروى الثوري عن عبد الله بن شريك عن بشر
بن غالب قال: سئل الحسين بن علي عليهما السلام: على من فدي الأسير؟
قال: على الأرض التي يقاتل عنها.
قوله تعالى: {قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ
اللَّهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ
كُنْتُمْ صَادِقِينَ} روي أن النبي عليه السلام قال: "لو أن اليهود
تمنوا الموت لماتوا ولرأوا مقاعدهم من النار، ولو خرج الذين يباهلون
رسول الله صلى الله عليه وسلم لرجعوا لا يجدون أهلا ولا مالا". وقال
ابن عباس: "لو تمنوا الموت لشرقوا به ولماتوا".
وقيل: في تمني الموت وجهان: أحدهما: قول ابن عباس أنهم تحدوا بأن يدعوا
بالموت على أي الفريقين كان كاذبا وقال أبو العالية وقتادة والربيع بن
أنس: لما قالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى، وقالوا نحن
أبناء الله وأحباؤه، قيل لهم: فتمنوا الموت فمن كان بهذه الصفة فالموت
خير له من الحياة في الدنيا فتضمنت الآية معنيين: أحدهما: إظهار كذبهم
وتبكيتهم به، والثاني: الدلالة على نبوة النبي عليه السلام، وذلك أنه
تحداهم بذلك كما أمر الله تعالى تحدي النصارى بالمباهلة، فلولا علمهم
بصدقه صلى الله عليه وسلم وكذبهم لسارعوا إلى تمني الموت ولسارع
النصارى إلى المباهلة، لا سيما وقد أخبر الفريقين أنهم لو فعلوا ذلك
لنزل الموت والعذاب بهم، وكان يكون في إظهارهم التمني والمباهلة تكذيب
له ودحض لحجته إذا لم ينزل بهم ما أوعدهم، فلما أحجموا عن ذلك مع
التحدي والوعيد مع سهولة هذا القول دل ذلك على علمهم بصحة نبوته بما
عرفوه من كتبهم من نعته وصفته كما قال تعالى: {وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ
أَبَداً بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ}.
وفيه دلالة أخرى على صحة نبوته، وهو إخبارهم أنهم لا يتمنون الموت مع
خفة التمني وسهولته على المتلفظ وسلامة ألسنتهم، فكان ذلك بمنزلة لو
قال لهم: الدلالة على صحة نبوتي أن أحدا منكم لا يمس رأسه مع صحة
جوارحه، وأنه إن مس أحد منكم رأسه فأنا مبطل فلا يمس أحد منهم رأسه مع
شدة عداوتهم له وحرصهم على تكذيبه ومع سلامة أعضائهم وصحة جوارحهم;
فيعلم بذلك أنه من عند الله تعالى من وجهين: أحدهما: أن عاقلا لا يتحدى
أعداءه بمثله مع علمه بجواز وقوع ذلك منهم والثاني: أنه إخبار بالغيب;
إذ لم يتمن واحد منهم الموت، وكون مخبره على ما أخبر به. وهذا كقوله
حين تحداهم بالقرآن وقرعهم بالإتيان بسورة مثله وإخباره أنهم لا يفعلون
بقوله: {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا} [البقرة: 24].
(1/48)
فإن قال
قائل: إنهم لم يتمنوا لأنهم لو تمنوا لكان ذلك ضميرا مغيبا علمه عن
الناس وكان يمكنه أن يقول: إنكم قد تمنيتم 1 بقلوبكم؟ قيل له: هذا يبطل
من وجهين: أحدهما: أن للتمني صيغة معروفة عند العرب وهو قول القائل:
ليت الله غفر لي، وليت زيدا قدم; وما جرى هذا المجرى، وهو أحد أقسام
الكلام ومتى قال ذلك قائل كان ذلك عندهم متمنيا من غير اعتبار لضميره
واعتقاده، كقولهم في الخبر والاستخبار والنداء ونحو ذلك من أقسام
الكلام والتحدي بتمني الموت إنما توجه إلى العبارة التي في لغتهم أنها
تمن والوجه الآخر أنه يستحيل أن يتحداهم عند الحاجة والتكذيب والتوقيف
على علمهم بصحة نبوته وبهتهم ومكابرتهم في أمره فيتحداهم بأن يتمنوا
ذلك بقلوبهم مع علم الجميع بأن التحدي بالضمير لا يعجز عنه أحد فلا يدل
على صحة مقاله ولا فسادها، وأن المتحدى بذلك يمكنه أن يقول قد تمنيت
بقلبي ذلك ولا يمكن لخصمه إقامة الدليل على كذبه وأيضا فلو انصرف ذلك
إلى التمني بالقلب دون العبارة باللسان لقالوا: قد تمنينا ذلك بقلوبنا;
فكانوا مساوين له فيه ويسقط بذلك دلالته على كذبهم وعلى صحة نبوته،
فلما لم يقولوا ذلك لأنهم لو قالوه لنقل كما لو عارضوا القرآن بأي كلام
كان لنقل، فعلم أن التحدي وقع بالتمني باللفظ والعبارة دون الضمير
والاعتقاد.
ـــــــ
1 قوله "قد تمنيتم بقلوبكم" هكذا في النسخة التي بأيدينا ولعل الصواب
"ما تمنيتم" بدليل الجواب الآتي "لمصححه".
(1/49)
باب السحر و حكم الساحر
...
باب السحر وحكم الساحر
قال الله تعالى: {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى
مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ} إلى آخر القصة.
قال أبو بكر: الواجب أن نقدم القول في السحر لخفائه على كثير من أهل
العلم فضلا عن العامة، ثم نعقبه بالكلام في حكمه في مقتضى الآية في
المعاني والأحكام، فنقول: إن أهل اللغة يذكرون أن أصله في اللغة لما
لطف وخفي سببه، والسحر عندهم بالفتح وهو الغذاء لخفائه ولطف مجاريه،
قال لبيد:
أرانا موضعين لأمر غيب ... ونسحر بالطعام وبالشراب
قيل: فيه وجهان: نعلل ونخدع كالمسحور والمخدوع، والآخر: نغذى، وأي
الوجهين كان فمعناه الخفاء وقال آخر:
فإن تسألينا فيم نحن فإننا ... عصافير من هذا الأنام المسحر
(1/49)
وهذا
البيت يحتمل من المعنى ما احتمله الأول، ويحتمل أيضا أنه أراد بالمسحر
أنه ذو سحر.
والسحر الرئة وما يتعلق بالحلقوم، وهذا يرجع إلى معنى الخفاء، ومنه قول
عائشة: توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم بين سحري ونحري، وقوله
تعالى: {قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ} [الشعراء: 153
– 185] يعني من المخلوق الذي يطعم ويسقى، ويدل عليه قوله تعالى: {وَمَا
أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا} [الشعراء: 154]، وكقوله تعالى: {مَالِ
هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ}
[الفرقان: 7] ويحتمل أنه ذو سحر مثلنا وإنما يذكر السحر في مثل هذه
المواضع لضعف هذه الأجساد ولطافتها ورقتها وبها مع ذلك قوام الإنسان،
فمن كان بهذه الصفة فهو ضعيف محتاج. وهذا هو معنى السحر في اللغة، ثم
نقل هذا الاسم إلى كل أمر خفي سببه وتخيل على غير حقيقته ويجري مجرى
التمويه والخداع، ومتى أطلق ولم يقيد أفاد ذم فاعله وقد أجري مقيدا
فيما يمتدح ويحمد كما روي: "إن من البيان لسحرا".
حدثنا عبد الباقي قال: حدثنا إبراهيم الحراني قال: حدثنا سليمان بن حرب
قال: حدثنا حماد بن زيد عن محمد بن الزبير قال: قدم على رسول الله صلى
الله عليه وسلم الزبرقان بن بدر وعمرو بن الأهتم وقيس بن عاصم، فقال
لعمرو: "خبرني عن الزبرقان!" فقال: مطاع في ناديه، شديد العارضة مانع
لما وراء ظهره فقال الزبرقان: هو والله يعلم أني أفضل منه فقال عمرو:
إنه زمر المروءة ضيق العطن أحمق الأب لئيم الخال يا رسول الله صدقت
فيهما أرضاني فقلت أحسن ما علمت، وأسخطني فقلت أسوأ ما علمت فقال عليه
السلام: "إن من البيان لسحرا".
وحدثنا إبراهيم الحراني قال: حدثنا مصعب بن عبد الله قال: حدثنا مالك
بن أنس عن زيد بن أسلم عن ابن عمر قال: قدم رجلان فخطب أحدهما فعجب
الناس لذلك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن من البيان لسحرا".
قال: وحدثنا محمد بن بكر قال: حدثنا أبو داود قال: حدثنا محمد بن يحيى
بن فارس قال: حدثنا سعيد بن محمد قال: حدثنا أبو تميلة قال: حدثنا أبو
جعفر النحوي عبد الله بن ثابت قال: حدثني صخر بن عبد الله بن بريدة عن
أبيه عن جده قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن من
البيان لسحرا، وإن من العلم جهلا، وإن من الشعر حكما، وإن من القول
عيالا". قال صعصعة بن صوحان: صدق نبي الله أما قوله: "إن من البيان
لسحرا". فالرجل يكون عليه الحق وهو ألحن بالحجج من صاحب الحق فيسحر
القوم ببيانه فيذهب بالحق. وأما قوله: "من العلم جهلا" فيتكلف العالم
إلى علمه ما لا يعلم فيجهله ذلك. وأما قوله: "إن من الشعر
(1/50)
حكما" فهي
هذه الأمثال والمواعظ التي يتعظ بها الناس وأما قوله: "إن من القول
عيالا" فعرضك كلامك وحديثك على من ليس من شأنه ولا يريده فسمى النبي
عليه السلام بعض البيان سحرا; لأن صاحبه بين أن ينبئ عن حق فيوضحه
ويجليه بحسن بيانه بعد أن كان خفيا; فهذا من السحر الحلال الذي أقر
النبي عليه السلام عمرو بن الأهتم عليه ولم يسخطه منه.
وروي أن رجلا تكلم بكلام بليغ عند عمر بن عبد العزيز فقال عمر: "هذا
والله السحر الحلال". وبين أن يصور الباطل في صورة الحق ببيانه ويخدع
السامعين بتمويهه ومتى أطلق فهو اسم لكل أمر مموه باطل لا حقيقة له ولا
ثبات، قال الله تعالى: {سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ} [الأعراف: 166]
يعني موهوا عليهم حتى ظنوا أن حبالهم وعصيهم تسعى وقال: {يُخَيَّلُ
إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى} [طه: 166] فأخبر أن ما
ظنوه سعيا منها لم يكن سعيا وإنما كان تخييلا وقد قيل: إنها كانت عصيا
مجوفة قد ملئت زئبقا، وكذلك الحبال كانت معمولة من أدم محشوة زئبقا،
وقد حفروا قبل ذلك تحت المواضع أسرابا وجعلوا آزاجا وملئوها نارا، فلما
طرحت عليه وحمي الزئبق حركها; لأن من شأن الزئبق إذا أصابته النار أن
يطير، فأخبر الله أن ذلك كان مموها على غير حقيقته والعرب تقول لضرب من
الحلي مسحور أي مموه على من رآه مسحور به عينه فما كان من البيان على
حق ويوضحه فهو من السحر الحلال، وما كان منه مقصودا به إلى تمويه
وخديعة وتصوير باطل في صورة الحق فهو من السحر المذموم.
فإن قيل: إذا كان موضوع السحر التمويه والإخفاء; فكيف يجوز أن يسمى ما
يوضح الحق وينبئ عنه سحرا، وهو إنما أظهر بذلك ما خفي ولم يقصد به إلى
إخفاء ما ظهر وإظهاره غير حقيقة؟ قيل له: سمي ذلك سحرا من حيث كان
الأغلب في ظن السامع أنه لو ورد عليه المعنى بلفظ مستنكر غير مبين لما
صادف منه قبولا ولا أصغى إليه، ومتى سمع المعنى بعبارة مقبولة عذبة لا
فساد فيها ولا استنكار وقد تأتى لها بلفظه وحسن بيانه بما لا يتأتى له
الغبي الذي لا بيان له أصغى إليه وسمعه وقبله، فسمى استمالته للقلوب
بهذا الضرب من البيان سحرا كما يستميل الساحر قلوب الحاضرين إلى ما موه
به ولبسه، فمن هذا الوجه سمي البيان سحرا لا من الوجه الذي ظننت ويجوز
أن يكون إنما سمى البيان سحرا لأن المقتدر على البيان ربما قبح بيانه
بعض ما هو حسن وحسن عنده بعض ما هو قبيح فسماه لذلك سحرا، كما سمى ما
موه به صاحبه وأظهر على غير حقيقة سحرا.
قال أبو بكر رحمه الله: واسم السحر إنما أطلق على البيان مجازا لا
حقيقة
(1/51)
والحقيقة
ما وصفنا، ولذلك صار عند الإطلاق إنما يتناول كل أمر مموه قد قصد به
الخديعة والتلبيس وإظهار ما لا حقيقة له ولا ثبات.
وإذ قد بينا أصل السحر في اللغة وحكمه عند الإطلاق والتقييد فلنقل في
معناه في التعارف والضروب الذي يشتمل عليها هذا الاسم وما يقصد به كل
فريق من منتحليه والغرض الذي يجري إليه مدعوه، فنقول وبالله التوفيق:
إن ذلك ينقسم إلى أنحاء مختلفة: فمنها سحر أهل بابل الذين ذكرهم الله
تعالى في قوله: {يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى
الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ} وكانوا قوما صابئين
يعبدون الكواكب السبعة ويسمونها آلهة ويعتقدون أن حوادث العالم كلها من
أفعالها وهم معطلة لا يعترفون بالصانع الواحد المبدع للكواكب وجميع
أجرام العالم وهم الذين بعث الله تعالى إليهم إبراهيم خليله صلوات الله
عليه فدعاهم إلى الله تعالى وحاجهم بالحجاج الذي بهرهم به وأقام عليهم
به الحجة من حيث لم يمكنهم دفعه ثم ألقوه في النار فجعلها الله تعالى
بردا وسلاما، ثم أمره الله تعالى بالهجرة إلى الشام. وكان أهل بابل
وإقليم العراق والشام ومصر والروم على هذه المقالة إلى أيام بيوراسب
الذي تسميه العرب الضحاك وإن أفريدون وكان من أهل دنباوند استجاش عليه
بلاده وكاتب سائر من يطيعه وله قصص طويلة حتى أزال ملكه وأسره وجهال
العامة والنساء عندنا يزعمون أن أفريدون حبس بيوراسب في جبل دنباوند
العالي على الجبال، وأنه حي هناك مقيد، وأن السحرة يأتونه هناك فيأخذون
عنه السحر، وأنه سيخرج فيغلب على الأرض، وأنه هو الدجال الذي أخبر به
النبي عليه السلام وحذرناه، وأحسبهم أخذوا ذلك عن المجوس وصارت مملكة
إقليم بابل للفرس فانتقل بعض ملوكهم إليها في بعض الأزمان فاستوطنوها.
ولم يكونوا عبدة أوثان بل كانوا موحدين مقرين بالله وحده، إلا أنهم مع
ذلك يعظمون العناصر الأربعة: الماء، والنار، والأرض، والهواء; لما فيها
من منافع الخلق وأن بها قوام الحيوان وإنما حدثت المجوسية فيهم بعد ذلك
في زمان "كشتاسب" حين دعاه "زرادشت" فاستجاب له على شرائط وأمور يطول
شرحها، وإنما عرضنا في هذا الموضع الإبانة عما كانت عليه سحرة بابل.
ولما ظهرت الفرس على هذا الإقليم كانت تتدين بقتل السحرة وإبادتها، ولم
يزل ذلك فيهم ومن دينهم بعد حدوث المجوسية فيهم وقبله إلى أن زال عنهم
الملك وكانت علوم أهل بابل قبل ظهور الفرس عليهم الحيل والنيرنجيات
وأحكام النجوم، وكانوا يعبدون أوثانا قد عملوها على أسماء الكواكب
السبعة وجعلوا لكل واحد منها هيكلا فيه صنمه ويتقربون إليها بضروب من
الأفعال على حسب اعتقاداتهم من موافقة ذلك للكوكب الذي يطلبون منه
بزعمهم فعل
(1/52)
خير أو
شر، فمن أراد شيئا من الخير والصلاح بزعمه يتقرب إليه بما يوافق
المشترى من الدخن والرقى والعقد والنفث عليها، ومن طلب شيئا من الشر
والحرب والموت والبوار لغيره تقرب بزعمه إلى زحل بما يوافقه من ذلك،
ومن أراد البرق والحرق والطاعون تقرب بزعمه إلى المريخ بما يوافقه من
ذلك من ذبح بعض الحيوانات وجميع تلك الرقى بالنبطية تشتمل على تعظيم
تلك الكواكب إلى ما يريدون من خير أو شر ومحبة وبغض، فيعطيهم ما شاءوا
من ذلك، فيزعمون أنهم عند ذلك يفعلون ما شاءوا في غيرهم من غير مماسة
ولا ملامسة سوى ما قدموه من القربات للكوكب الذي طلبوا ذلك منه; فمن
العامة من يزعم أنه يقلب الإنسان حمارا أو كلبا ثم إذا شاء أعاده،
ويركب البيضة والمكنسة والخابية، ويطير في الهواء فيمضي من العراق إلى
الهند وإلى ما شاء من البلدان ثم يرجع من ليلته. وكانت عوامهم تعتقد
ذلك لأنهم كانوا يعبدون الكواكب، وكل ما دعا إلى تعظيمها اعتقدوه وكانت
السحرة تحتال في خلال ذلك بحيل تموه بها على العامة إلى اعتقاد صحته
بأن يزعم أن ذلك لا ينفذ ولا ينتفع به أحد ولا يبلغ ما يريد إلا من
اعتقد صحة قولهم وتصديقهم فيما يقولون ولم تكن ملوكهم تعترض عليهم في
ذلك، بل كانت السحرة عندها بالمحل الأجل لما كان لها في نفوس العامة من
محل التعظيم والإجلال، ولأن الملوك في ذلك الوقت كانت تعتقد ما تدعيه
السحرة للكواكب، إلى أن زالت تلك الممالك ألا ترى أن الناس في زمن
فرعون كانوا يتبارون بالعلم والسحر والحيل والمخاريق ولذلك بعث إليهم
موسى عليه السلام بالعصا والآيات التي علمت السحرة أنها ليست من السحر
في شيء وأنها لا يقدر عليها غير الله تعالى؟ فلما زالت تلك الممالك
وكان من ملكهم بعد ذلك من الموحدين يطلبونهم ويتقربون إلى الله تعالى
بقتلهم، وكانوا يدعون عوام الناس وجهالهم سرا كما يفعله الساعة كثير
ممن يدعي ذلك مع النساء والأحداث والأغمار والجهال الحشو وكانوا يدعون
من يعملون له ذلك إلى تصديق قولهم والاعتراف بصحته والمصدق لهم بذلك
يكفر من وجوه: أحدها: التصديق بوجوب تعظيمه الكواكب وتسميتها آلهة
والثاني: اعترافه بأن الكواكب تقدر على ضره ونفعه. والثالث: أن السحرة
تقدر على مثل معجزات الأنبياء عليهم السلام فبعث الله إليهم ملكين
يبينان للناس حقيقة ما يدعون وبطلان ما يذكرون، ويكشفان لهم ما به
يموهون، ويخبرانهم بمعاني تلك الرقى وأنها شرك وكفر وبحيلهم التي كانوا
يتوصلون بها إلى التمويه على العامة ويظهرون لهم حقائقها وينهونهم عن
قبولها والعمل بها بقوله: {إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ}
فهذا أصل سحر بابل، ومع ذلك فقد كانوا يستعملون سائر وجوه السحر والحيل
التي نذكرها ويموهون بها على العامة ويعزونها إلى فعل الكواكب لئلا
يبحث عنها ويسلمها لهم.
(1/53)
فمن ضروب
السحر كثير من التخييلات التي مظهرها على خلاف حقائقها.
فمنها ما يعرفه الناس بجريان العادة بها وظهورها.
ومنها ما يخفى ويلطف ولا يعرف حقيقته ومعنى باطنه إلا من تعاطى معرفة
ذلك; لأن كل علم لا بد أن يشتمل على جلي وخفي وظاهر وغامض. فالجلي منه
يعرفه كل من رآه وسمعه من العقلاء، والغامض الخفي لا يعرفه إلا أهله
ومن تعاطى معرفته وتكلف فعله والبحث عنه، وذلك نحو ما يتخيل راكب
السفينة إذا سارت في النهر فيرى أن الشط بما عليه من النخل والبنيان
سائر معه، وكما يرى القمر في مهب الشمال يسير للغيم في مهب الجنوب،
وكدوران الدوامة فيها الشامة فيراها كالطوق المستدير في أرجائها، وكذلك
يرى هذا في الرحى إذا كانت سريعة الدوران، وكالعود في طرفه الجمرة إذا
أداره مديره رأى تلك النار التي في طرفه كالطوق المستدير، وكالعنبة
التي يراها في قدح فيه ماء كالخوخة والإجاصة عظما، وكالشخص الصغير يراه
في الضباب عظيما جسيما، وكبخار الأرض الذي يريك قرص الشمس عند طلوعها
عظيما فإذا فارقته وارتفعت صغرت، وكما يرى المردى في الماء منكسرا أو
معوجا، وكما يرى الخاتم إذا قربته من عينك في سعة حلقة السوار، ونظائر
ذلك كثيرة من الأشياء التي تتخيل على غير حقائقها فيعرفها عامة الناس.
ومنها ما يلطف فلا يعرفه إلا من تعاطاه وتأمله كخيط السحارة الذي يخرج
مرة أحمر ومرة أصفر ومرة أسود، ومن لطيف ذلك ودقيقه ما يفعله المشعوذون
من جهة الحركات وإظهار التخييلات التي تخرج على غير حقائقها حتى يريك
عصفورا معه أنه قد ذبحه ثم يريكه وقد طار بعد ذبحه وإبانة رأسه، وذلك
لخفة حركته، والمذبوح غير الذي طار لأنه يكون معه اثنان قد خبأ أحدهما
وأظهر الآخر، ويخبئ لخفة الحركة المذبوح ويظهر الذي نظيره. ويظهر أنه
قد ذبح إنسانا وأنه قد بلع سيفا وأدخله في جوفه، وليس لشيء منه حقيقة.
ومن نحو ذلك ما يفعله أصحاب الحركات للصور المعمولة من صفر أو غيره
فيرى فارسين يقتتلان فيقتل أحدهما الآخر، وينصرف بحيل قد أعدت لذلك
وكفارس من صفر على فرس في يده بوق كلما مضت ساعة من النهار ضرب بالبوق
من غير أن يمسه أحد ولا يتقدم إليه.
وقد ذكر الكلبي أن رجلا من الجند خرج ببعض نواحي الشام متصيدا ومعه كلب
له
(1/54)
وغلام
فرأى ثعلبا فأغرى به الكلب فدخل الثعلب ثقبا في تل هناك ودخل الكلب
خلفه فلم يخرج، فأمر الغلام أن يدخل فدخل وانتظره صاحبه فلم يخرج، فوقف
متهيئا للدخول، فمر به رجل فأخبره بشأن الثعلب والكلب والغلام وأن
واحدا منهم لم يخرج وأنه متأهب للدخول، فأخذ الرجل بيده فأدخله إلى
هناك، فمضيا إلى سرب طويل حتى أفضى بهما إلى بيت قد فتح له ضوء من موضع
ينزل إليه بمرقاتين، فوقف به على المرقاة الأولى حتى أضاء البيت حينا
ثم قال له: انظر فنظر فإذا الكلب والرجل والثعلب قتلى، وإذا في صدر
البيت رجل واقف مقنع في الحديد وفي يده سيف، فقال له الرجل: أترى هذا
لو دخل إليه هذا المدخل ألف رجل لقتلهم كلهم فقال: وكيف؟ قال: لأنه قد
رتب وهندم على هيئة متى وضع الإنسان رجله على المرقاة الثانية للنزول
تقدم الرجل المعمول في الصدر فضربه بالسيف الذي في يده، فإياك أن تنزل
إليه فقال: فكيف الحيلة في هذا؟ قال: ينبغي أن تحفر من خلفه سربا يفضي
بك إليه، فإن وصلت إليه من تلك الناحية لم يتحرك فاستأجر الجندي أجراء
وصناعا حتى حفروا سربا من خلف التل فأفضوا إليه، فلم يتحرك، وإذا رجل
معمول من صفر أو غيره قد ألبس السلاح وأعطي السيف فقلعه، ورأى بابا آخر
في ذلك البيت ففتحه فإذا هو قبر لبعض الملوك ميت على سرير هناك وأمثال
ذلك كثيرة جدا.
ومنها الصور التي يصورها مصورو الروم والهند حتى لا يفرق الناظر بين
الإنسان وبينها، ومن لم يتقدم له علم أنها صورة لا يشك في أنها إنسان،
وحتى تصورها ضاحكة أو باكية، وحتى يفرق فيها بين الضحك من الخجل
والسرور وضحك الشامت.
فهذه الوجوه من لطيف أمور التخاييل وخفيها وما ذكرناه قبل من جليها
وكان سحر سحرة فرعون من هذا الضرب على النحو الذي بينا من حيلهم في
العصي والحبال والذي ذكرناه من مذاهب أهل بابل في القديم وسحرهم ووجوه
حيلهم بعضه سمعناه من أهل المعرفة بذلك وبعضه وجدناه في الكتب قد نقلت
حديثا من النبطية إلى العربية، منها كتاب في ذكر سحرهم وأصنافه ووجوهه،
وكلها مبنية على الأصل الذي ذكرناه من قربانات الكواكب وتعظيمها
وخرافات معها لا تساوي ذكرها ولا فائدة فيها.
وضرب آخر من السحر: وهو ما يدعونه من حديث الجن والشياطين وطاعاتهم لهم
بالرقى والعزائم. ويتوصلون إلى ما يريدون من ذلك بتقدمة أمور ومواطأة
قوم قد أعدوهم لذلك، وعلى ذلك كان يجري أمر الكهان من العرب في
الجاهلية، وكانت أكثر مخاريق الحلاج من باب المواطآت ولولا أن هذا
الكتاب لا يحتمل استقصاء ذلك
(1/55)
لذكرت
منها ما يوقف على كثير من مخاريقه ومخاريق أمثاله.
وضرر أصحاب العزائم وفتنتهم على الناس غير يسير، وذلك أنهم يدخلون على
الناس من باب أن الجن إنما تطيعهم بالرقى التي هي أسماء الله تعالى،
فإنهم يجيبون بذلك من شاءوا ويخرجون الجن لمن شاءوا فتصدقهم العامة على
اغترار بما يظهرون من انقياد الجن لهم بأسماء الله تعالى التي كانت
تطيع بها سليمان بن داود عليه السلام وأنهم يخبرونهم بالخبايا وبالسرق
وقد كان المعتضد بالله مع جلالته وشهامته ووفور عقله اغتر بقول هؤلاء،
وقد ذكره أصحاب التواريخ، وذلك أنه كان يظهر في داره التي كان يخلو
فيها بنسائه وأهله شخص في يده سيف في أوقات مختلفة، وأكثره وقت الظهر،
فإذا طلب لم يوجد ولم يقدر عليه ولم يوقف له على أثر مع كثرة التفتيش
وقد رآه هو بعينه مرارا، فأهمته نفسه ودعا بالمعزمين فحضروا وأحضروا
معهم رجالا ونساء وزعموا أن فيهم مجانين وأصحاء، فأمر بعض رؤسائهم
بالعزيمة، فعزم على رجل منهم زعم أنه كان صحيحا فجن وتخبط وهو ينظر
إليه. وذكروا له أن هذا غاية الحذق بهذه الصناعة; إذ أطاعته الجن في
تخبيط الصحيح وإنما كان ذلك من المعزم بمواطأة منه لذلك الصحيح على أنه
متى عزم عليه جنن نفسه وخبط فجاز ذلك على المعتضد، فقامت نفسه منه
وكرهه، إلا أنه سألهم عن أمر الشخص الذي يظهر في داره، فخرقوا عليه
بأشياء علقوا قلبه بها من غير تحصيل لشيء من أمر ما سألهم عنه، فأمرهم
بالانصراف وأمر لكل واحد منهم ممن حضر بخمسة دراهم ثم تحرز المعتضد
بغاية ما أمكنه وأمر بالاستيثاق من سور الدار حيث لا يمكن فيه حيلة من
تسلق ونحوه، وبطحت في أعلى السور خوابي لئلا يحتال بإلقاء المعاليق
التي يحتال بها اللصوص; ثم لم يوقف لذلك الشخص على خبر إلا ظهوره له
الوقت بعد الوقت، إلى أن توفي المعتضد.
وهذه الخوابي المبطوحة على السور وقد رأيتها على سور الثريا التي بناها
المعتضد فسألت صديقا لي كان قد حجب للمقتدر بالله عن أمر هذا الشخص،
وهل تبين أمره؟ فذكر لي أنه لم يوقف على حقيقة هذا الأمر إلا في أيام
المقتدر، وأن ذلك الشخص كان خادما أبيض يسمى يقق، وكان يميل إلى بعض
الجواري اللاتي في داخل دور الحرم، وكان قد اتخذ لحى على ألوان مختلفة،
وكان إذا لبس بعض تلك اللحى لا يشك من رآه أنها لحيته، وكان يلبس في
الوقت الذي يريده لحية منها ويظهر في ذلك الموضع وفي يده سيف أو غيره
من السلاح حيث يقع نظر المعتضد. فإذا طلب دخل بين الشجر الذي في
البستان أو في بعض تلك الممرات أو العطفات، فإذا غاب عن أبصار طالبيه
نزع اللحية وجعلها في كمه أو حوزته ويبقى السلاح معه كأنه بعض الخدم
الطالبين
(1/56)
للشخص،
ولا يرتابون به ويسألونه هل رأيت في هذه الناحية أحدا فإنا قد رأيناه
صار إليها؟ فيقول: ما رأيت أحدا وكان إذا وقع مثل هذا الفزع في الدار
خرجت الجواري من داخل الدور إلى هذا الموضع فيرى هو تلك الجارية
ويخاطبها بما يريد، وإنما كان غرضه مشاهدة الجواري، وكلامها، فلم يزل
دأبه إلى أيام المقتدر ثم خرج إلى البلدان وصار إلى طرسوس وأقام بها
إلى أن مات، وتحدثت الجارية بعد ذلك بحديثه ووقف على احتياله فهذا خادم
قد احتال بمثل هذه الحيلة الخفية التي لم يهتد لها أحد مع شدة عناية
المعتضد، وأعياه معرفتها والوقوف عليها ولم تكن صناعته الحيل
والمخاريق، فما ظنك بمن قد جعل هذا صناعة ومعاشا؟.
وضرب آخر من السحر وهو السعي بالنميمة والوشاية بها والبلاغات،
والإفساد والتضريب من وجوه خفية لطيفة، وذلك عام شائع في كثير من
الناس. وقد حكي أن امرأة أرادت إفساد ما بين زوجين فصارت إلى الزوجة
فقالت لها: إن زوجك معرض وقد سحر وهو مأخوذ عنك وسأسحره لك حتى لا يريد
غيرك ولا ينظر إلى سواك، ولكن لا بد أن تأخذي من شعر حلقه بالموسى ثلاث
شعرات إذا نام وتعطينيها، فإن بها يتم الأمر فاغترت المرأة بقولها
وصدقتها ثم ذهبت إلى الرجل وقالت له: إن امرأتك قد علقت رجلا وقد عزمت
على قتلك وقد وقفت على ذلك من أمرها فأشفقت عليك ولزمني نصحك، فتيقظ
ولا تغتر فإنها عزمت على ذلك بالموسى، وستعرف ذلك منها، فما في أمرها
شك فتناوم الرجل في بيته، فلما ظنت امرأته أنه قد نام عمدت إلى موسى
حاد وهوت به لتحلق من حلقه ثلاث شعرات، ففتح الرجل عينه فرآها وقد أهوت
بالموسى إلى حلقه فلم يشك في أنها أرادت قتله، فقام إليها فقتلها وقتل
وهذا كثير لا يحصى.
وضرب آخر من السحر، وهو الاحتيال في إطعامه بعض الأدوية المبلدة
المؤثرة في العقل والدخن المسدرة المسكرة، نحو دماغ الحمار إذا طعمه
إنسان تبلد عقله وقلت فطنته مع أدوية كثيرة هي مذكورة في كتب الطب،
ويتوصلون إلى أن يجعلوه في طعام حتى يأكله فتذهب فطنته ويجوز عليه
أشياء مما لو كان تام الفطنة لأنكرها، فيقول الناس: إنه مسحور. وحكمة
كافية تبين لك أن هذا كله مخاريق وحيل لا حقيقة لما يدعون لها أن
الساحر والمعزم لو قدرا على ما يدعيانه من النفع والضرر من الوجوه التي
يدعون وأمكنهما الطيران والعلم بالغيوب وأخبار البلدان النائية
والخبيئات والسرق والإضرار بالناس من غير الوجوه التي ذكرنا، لقدروا
على إزالة الممالك واستخراج الكنوز والغلبة على البلدان بقتل الملوك
بحيث لا يبدأهم مكروه، ولما مسهم السوء ولا
(1/57)
امتنعوا
عمن قصدهم بمكروه، ولاستغنوا عن الطلب لما في أيدي الناس فإذا لم يكن
كذلك وكان المدعون لذلك أسوأ الناس حالا وأكثرهم طمعا واحتيالا وتوصلا
لأخذ دراهم الناس وأظهرهم فقرا وإملاقا علمت أنهم لا يقدرون على شيء من
ذلك ورؤساء الحشون والجهال من العامة من أسرع الناس إلى التصديق بدعاوى
السحرة والمعزمين وأشدهم نكيرا على من جحدها، ويروون في ذلك أخبارا
مفتعلة متخرصة يعتقدون صحتها، كالحديث الذي يروون أن امرأة أتت عائشة
فقالت: إني ساحرة فهل لي توبة؟ فقالت: وما سحرك؟ قالت: سرت إلى الموضع
الذي فيه هاروت وماروت ببابل لطلب علم السحر فقالا لي: يا أمة الله لا
تختاري عذاب الآخرة بأمر الدنيا فأبيت، فقالا لي: اذهبي فبولي على ذلك
الرماد فذهبت لأبول عليه ففكرت في نفسي فقلت لا فعلت وجئت إليهما فقلت:
قد فعلت، فقالا: ما رأيت؟ فقلت: ما رأيت شيئا; فقالا: اذهبي فبولي عليه
فذهبت وفعلت فرأيت كأن فارسا قد خرج من فرجي مقنعا بالحديد حتى صعد إلى
السماء، فجئتهما فأخبرتهما فقالا: ذلك إيمانك خرج عنك وقد أحسنت السحر
فقلت: وما هو؟ فقالا: لا تريدين شيئا فتصورينه في وهمك إلا كان فصورت
في نفسي حبا من حنطة، فإذا أنا بالحب. فقلت له: انزرع فانزرع وخرج من
ساعته سنبلا، فقلت له: انطحن وانخبز إلى آخر الأمر حتى صار خبزا وإني
كنت لا أصور في نفسي شيئا إلا كان فقالت لها عائشة: ليست لك توبة فيروي
القصاص والمحدثون الجهال مثل هذا للعامة، فتصدقه وتستعيده وتسأله أن
يحدثها بحديث ساحرة ابن هبيرة، فيقول لها: إن ابن هبيرة أخذ ساحرة
فأقرت له بالسحر، فدعا الفقهاء فسألهم عن حكمها، فقالوا: القتل فقال
ابن هبيرة: لست أقتلها إلا تغريقا قال: فأخذ رحى البذر فشدها في رجلها
وقذفها في الفرات، فقامت فوق الماء مع الحجر، فجعلت تنحدر مع الماء،
فخافوا أن تفوتهم، فقال ابن هبيرة: من يمسكها وله كذا وكذا؟ فرغب رجل
من السحرة كان حاضرا فيما بذله فقال: أعطوني قدح زجاج فيه ماء فجاءوه
به، فقعد على القدح ومضى إلى الحجر فشق الحجر بالقدح فتقطع الحجر قطعة
قطعة، فغرقت الساحرة فيصدقونه ومن صدق هذا فليس يعرف النبوة ولا يؤمن
أن تكون معجزات الأنبياء عليهم السلام من هذا النوع وأنهم كانوا سحرة.
وقال الله تعالى {وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى} [طه: 69].
وقد أجازوا من فعل الساحر ما هو أطم من هذا وأفظع، وذلك أنهم زعموا أن
النبي عليه السلام سحر، وأن السحر عمل فيه حتى قال فيه: "إنه يتخيل لي
أني أقول الشيء وأفعله ولم أقله ولم أفعله" وأن امرأة يهودية سحرته في
جف طلعة ومشط ومشاقة، حتى
(1/58)
أتاه
جبريل عليه السلام فأخبره أنها سحرته في جف طلعة وهو تحت راعوفة البئر،
فاستخرج وزال عن النبي عليه السلام ذلك العارض وقد قال الله تعالى
مكذبا للكفار فيما ادعوه من ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، فقال جل من
قائل: {وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلاً
مَسْحُوراً} [الفرقان: 8].
ومثل هذه الأخبار من وضع الملحدين تلعبا بالحشو الطغام واستجرارا لهم
إلى القول بإبطال معجزات الأنبياء عليهم السلام والقدح فيها، وأنه لا
فرق بين معجزات الأنبياء وفعل السحرة، وأن جميعه من نوع واحد والعجب
ممن يجمع بين تصديق الأنبياء عليهم السلام وإثبات معجزاتهم وبين
التصديق بمثل هذا من فعل السحرة مع قوله تعالى: {وَلا يُفْلِحُ
السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى} [طه: 69] فصدق هؤلاء من كذبه الله وأخبر
ببطلان دعواه وانتحاله.
وجائز أن تكون المرأة اليهودية بجهلها فعلت ذلك ظنا منها بأن ذلك يعمل
في الأجساد. وقصدت به النبي عليه السلام; فأطلع الله نبيه على موضع
سرها وأظهر جهلها فيما ارتكبت وظنت ليكون ذلك من دلائل نبوته، لأن ذلك
ضره وخلط عليه أمره ولم يقل كل الرواة إنه اختلط عليه أمره، وإنما هذا
اللفظ زيد في الحديث ولا أصل له.
والفرق بين معجزات الأنبياء وبين ما ذكرنا من وجوه التخييلات، أن
معجزات الأنبياء عليهم السلام هي على حقائقها، وبواطنها كظواهرها،
وكلما تأملتها ازددت بصيرة في صحتها، ولو جهد الخلق كلهم على مضاهاتها
ومقابلتها بأمثالها ظهر عجزهم عنها; ومخاريق السحرة وتخييلاتهم إنما هي
ضرب من الحيلة والتلطف لإظهار أمور لا حقيقة لها، وما يظهر منها على
غير حقيقتها، يعرف ذلك بالتأمل والبحث ومتى شاء أن يتعلم ذلك بلغ فيه
مبلغ غيره ويأتي بمثل ما أظهره سواه.
قال أبو بكر: قد ذكرنا في معنى السحر وحقيقته ما يقف الناظر على جملته
وطريقته، ولو استقصينا ذلك من وجوه الحيل لطال واحتجنا إلى استئناف
كتاب لذلك، وإنما الغرض في هذا الموضع بيان معنى السحر وحكمه والآن حيث
انتهى بنا القول إلى ذكر قول الفقهاء فيه وما تضمنته الآية من حكمه وما
يجري على مدعي ذلك من العقوبات على حسب منازلهم في عظم المأثم وكثرة
الفساد، والله أعلم بالصواب.
(1/59)
باب اختلاف الفقهاء في حكم الساحر و قول السلف فيه
...
باب اختلاف الفقهاء في حكم الساحر وقول السلف فيه
حدثنا عبد الباقي، حدثنا عثمان بن عمر الضبي قال: حدثنا عبد الرحمن بن
رجاء قال: أخبرنا إسرائيل عن أبي إسحاق عن هبيرة عن عبد الله قال: "من
أتى كاهنا أو عرافا
(1/59)
أو ساحرا
فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد عليه السلام". وروى عبد الله
عن نافع عن ابن عمر: أن جارية لحفصة سحرتها فوجدوا سحرها واعترفت بذلك،
فأمرت عبد الرحمن بن زيد فقتلها، فبلغ ذلك عثمان فأنكره، فأتاه ابن عمر
فأخبره أمرها; وكان عثمان إنما أنكر ذلك; لأنها قتلت بغير إذنه وذكر
ابن عيينة عن عمرو بن دينار، أنه سمع بجالة يقول: كنت كاتبا لجزي بن
معاوية فأتى كتاب عمر أن: اقتلوا كل ساحر وساحرة فقتلنا ثلاث سواحر.
وروى أبو عاصم عن الأشعث عن الحسن قال: "يقتل الساحر ولا يستتاب". وروى
المثنى بن الصباح عن عمرو بن شعيب: أن عمر بن الخطاب أخذ ساحرا فدفنه
إلى صدره ثم تركه حتى مات. وروى سفيان عن عمرو عن سالم بن أبي الجعد
قال: كان قيس بن سعد أميرا على مصر فجعل يفشو سره، فقال: من هذا الذي
يفشي سري؟ فقالوا: ساحر ههنا فدعاه، فقال له: إذا نشرت الكتاب علمنا ما
فيه، فأما ما دام مختوما فليس نعلمه; فأمر به فقتل وروى أبو إسحاق
الشيباني عن جامع بن شداد عن الأسود بن هلال قال: قال علي بن أبي طالب
عليه السلام: إن هؤلاء العرافين كهان العجم، فمن أتى كاهنا يؤمن له بما
يقول فهو بريء مما أنزل على محمد عليه الصلاة والسلام. وروى مبارك عن
الحسن أن جندبا 1 قتل ساحرا وروى يونس عن الزهري قال: يقتل ساحر
المسلمين ولا يقتل ساحر أهل الكتاب; لأن النبي صلى الله عليه وسلم سحره
رجل من اليهود يقال له ابن أعصم وامرأة من يهود خيبر يقال لها زينب فلم
يقتلهما. وعن عمر بن عبد العزيز قال: "يقتل الساحر".
قال أبو بكر: اتفق هؤلاء السلف على وجوب قتل الساحر، ونص بعضهم على
كفره واختلف فقهاء الأمصار في حكمه على ما نذكره; فروى ابن شجاع عن
الحسن بن زياد عن أبي حنيفة أنه قال في الساحر: يقتل إذا علم أنه ساحر
ولا يستتاب ولا يقبل قوله: إني أترك السحر وأتوب منه، فإذا أقر أنه
ساحر فقد حل دمه، وإن شهد عليه شاهدان أنه ساحر فوصفوا ذلك بصفة يعلم
أنه سحر قتل ولا يستتاب. وإن أقر فقال: كنت أسحر وقد تركت منذ زمان قبل
منه ولم يقتل، وكذلك لو شهد عليه أنه كان مرة ساحرا وأنه ترك منذ زمان
لم يقتل إلا أن يشهدوا أنه الساعة ساحر وأقر بذلك فيقتل، وكذلك العبد
المسلم والذمي والحر الذمي من أقر منهم أنه ساحر فقد حل دمه فيقتل ولا
يقبل توبته، وكذلك لو شهد على عبد أو ذمي أنه ساحر ووصفوا ذلك بصفة
يعلم أنه
ـــــــ
1 هو جندب بن عبد الله بن سفيان البجلي روى عنه الحسن وابن سيرين وأبو
مجلز مات بعد الستين كذا في خلاصة تهذيب الكمال.
(1/60)
سحر لم
تقبل توبته ويقتل، وإن أقر العبد أو الذمي أنه كان ساحرا وترك ذلك منذ
زمان قبل ذلك، وكذلك لو شهدوا عليه أنه كان مرة ساحرا ولم يشهدوا أنه
الساعة ساحر لم يقتل، وأما المرأة فإذا شهدوا عليها أنها ساحرة أو أقرت
بذلك لم تقتل وحبست وضربت حتى يستيقن لهم تركها للسحر، وكذلك الأمة
والذمية إذا شهدوا أنها ساحرة أو أقرت بذلك لم تقتل وحبست حتى يعلم
منها ترك ذلك كله وهذا كله قول أبي حنيفة.
قال ابن شجاع: فحكم في الساحر والساحرة حكم المرتد والمرتدة; إلا أن
يجيء فيقر بالسحر أو يشهد عليه بذلك أنه عمله، فإنه جعل ذلك بمنزلة
الثبات على الردة.
وحكى محمد بن شجاع عن أبي علي الرازي قال: سألت أبا يوسف عن قول أبي
حنيفة في الساحر "يقتل ولا يستتاب" لم لم يكن ذلك بمنزلة المرتد؟ فقال:
الساحر قد جمع مع كفره السعي في الأرض بالفساد. والساعي بالفساد إذا
قتل قتل.
(1/61)
مطلب في أن ثبوت السحر يكون إما باقتصاص الأثر و تتبعه و إما بالإخبار
...
مطلب في أن ثبوت السحر يكون إما باقتصاص الأثر وتتبعه وإما بالإخبار
قال: فقلت لأبي يوسف: ما الساحر؟ قال: الذي يقتص له من العمل مثل ما
فعلت اليهود بالنبي عليه الصلاة والسلام وبما جاءت به الأخبار إذا أصاب
به قتلا، فإذا لم يصب به قتلا لم يقتل; لأن لبيد بن الأعصم سحر رسول
الله صلى الله عليه وسلم فلم يقتله; إذ كان لم يصب به قتلا.
قال أبو بكر: ليس فيما ذكر بيان معنى السحر الذي يستحق فاعله القتل،
ولا يجوز أن يظن بأبي يوسف أنه اعتقد في السحر ما يعتقده الحشو من
إيصالهم الضرر إلى المسحور من غير مماسة ولا سقي دواء; وجائز أن يكون
سحر اليهود للنبي عليه السلام على جهة إرادتهم التوصل إلى قتله
بإطعامه، وأطلعه الله على ما أرادوا، كما سمته زينب اليهودية في الشاة
المسمومة فأخبرته الشاة بذلك، فقال: "إن هذه الشاة لتخبرني أنها
مسمومة".
قال أبو مصعب عن مالك في المسلم إذا تولى عمل السحر قتل ولا يستتاب;
لأن المسلم إذا ارتد باطنا لم تعرف توبته بإظهاره الإسلام قال إسماعيل
بن إسحاق: فأما ساحر أهل الكتاب فإنه لا يقتل عند مالك، إلا أن يضر
المسلمين فيقتل لنقض العهد وقال الشافعي: إذا قال الساحر: أنا أعمل
عملا لأقتل فأخطئ وأصيب وقد مات هذا الرجل من عملي; ففيه الدية وإن
قال: عملي يقتل المعمول به وقد تعمدت قتله; قتل به قودا، وإن قال: مرض
منه ولم يمت أقسم أولياؤه لمات منه ثم تكون الدية.
(1/61)
قال أبو
بكر: فلم يجعل الشافعي الساحر كافرا بسحره وإنما جعله جانيا كسائر
الجناة وما قدمنا من قول السلف يوجب أن يكون مستحقا للقتل باستحقاق سمة
السحر، فدل ذلك على أنهم رأوه كافرا، وقول الشافعي في ذلك خارج عن قول
جميعهم; إذ لم يعتبر أحد منهم قتله لغيره بعمله السحر في إيجاب قتله.
قال أبو بكر: وقد بينا فيما سلف معاني السحر وضروبه; وأما الضرب الأول
الذي ذكرنا من سحر أهل بابل في القديم ومذاهب الصابئين فيه، وهو الذي
ذكره الله تعالى في قوله: {وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ} فيما
يرى والله أعلم، فإن القائل به والمصدق به والعامل به كافر; وهو الذي
قال أصحابنا فيه عندي إنه لا يستتاب، والدليل على أن المراد بالآية هذا
الضرب من السحر، ما حدثنا عبد الباقي بن قانع قال: حدثنا نطير قال:
حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة قال: حدثنا يحيى بن سعيد القطان عن عبد الله
بن الأخنس قال: حدثنا الوليد بن عبد الله عن يوسف بن ماهك عن ابن عباس
قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من اقتبس علما من النجوم
اقتبس شعبة من السحر". وهذا يدل على معنيين: أحدهما: أن المراد بالآية
هو السحر الذي نسبه عاملوه إلى النجوم، وهو الذي ذكرناه من سحر أهل
بابل والصابئين; لأن سائر ضروب السحر الذي ذكرنا ليس لها تعلق بالنجوم
عند أصحابها والثاني: أن إطلاق لفظ السحر المذموم يتناول هذا الضرب
منه; وهذا يدل على أن المتعارف عند السلف من السحر هو هذا الضرب منه
ومما يدعي فيه أصحابها المعجزات، وإن لم يعلقوا ذلك بفعل النجوم دون
غيرها من الوجوه التي ذكرنا; وأنه هو المقصود بقتل فاعله; إذ لم يفرقوا
فيه بين عامل السحر بالأدوية والنميمة والسعاية والشعوذة وبين غيره
ومعلوم عند الجميع أن هذه الضروب من السحر لا توجب قتل فاعلها إذا لم
يدع فيه معجزة لا يمكن العباد فعلها; فدل ذلك على أن إيجابهم قتل
الساحر إنما كان لمن ادعى بسحره معجزات لا يجوز وجود مثلها إلا من
الأنبياء عليهم السلام دلالة على صدقهم وذلك ينقسم إلى معنيين: أحدهما:
ما بدأنا بذكره من سحر أهل بابل; والآخر: ما يدعيه المعزمون وأصحاب
النيرنجيات من خدمة الشياطين لهم والفريقان جميعا كافران; أما الفريق
الأول فلأن في سحره تعظيم الكواكب واعتقادها آلهة، وأما الفريق الثاني
فلأنها وإن كانت معترفة بالله ورسوله صلى الله عليه وسلم فإنها حيث
أجازت أن تخبرها الجن بالغيوب وتقدر على تغيير فنون الحيوان والطيران
في الهواء والمشي على الماء وما جرى مجرى ذلك فقد جوزت وجود مثل أعلام
الأنبياء عليهم السلام مع الكذابين المتخرصين. ومن كان كذلك فإنه لا
يعلم صدق الأنبياء عليهم السلام لتجويزه كون مثل هذه الأعلام مع غيرهم،
فلا يأمن أن يكون جميع من ظهرت على يده متخرصا
(1/62)
كذابا
فإنما كفر هذه الطائفة من هذا الوجه، وهو جهله بصدق الأنبياء عليهم
السلام.
والأظهر من أمر الساحر الذي رأت الصحابة قتله من غير بحث منهم عن حاله
ولا بيان لمعاني سحره أنه الساحر المذكور في قوله تعالى: {يُعَلِّمُونَ
النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ} وهو الساحر
الذي بدأنا بذكره عند ذكرنا ضروب السحر، وهو سحر أهل بابل في القديم،
وعسى أن يكون هو الأغلب الأعم في ذلك الوقت; ولا يبعد أن يكون في ذلك
الوقت من يتعاطى سائر ضروب السحر الذي ذكرنا وكانوا يجرون في دعواهم
الإخبار بالغيوب وتغيير صور الحيوان على منهاج سحرة بابل، وكذلك كهان
العرب، يشمل الجميع اسم الكفر لظهور هذه الدعاوى منهم وتجويزهم مضاهاة
الأنبياء في معجزاتهم وعلى أي وجه كان معنى السحر عند السلف فإنه لم
يحك عن أحد إيجاب قتل الساحر من طريق الجناية على النفوس، بل إيجاب
قتله باعتقاده عمل السحر من غير اعتبار منهم لجنايته على غيره، فأما ما
يفعله المشعوذون وأصحاب الحركات والخفة بالأيدي، وما يفعله من يتعاطى
ذلك بسقي الأدوية المبلدة للعقل أو السموم القاتلة. ومن يتعاطى ذلك
بطريق السعي بالنمائم والوشاية والتضريب والإفساد; فإنهم إذا اعترفوا
بأن ذلك حيل ومخاريق، حكم من يتعاطى مثلها من الناس لم يكن كافرا
وينبغي أن يؤدب ويزجر عن ذلك.
والدليل على أن الساحر المذكور في الآية مستحق لاسم الكفر قوله تعالى:
{وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ
وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ} أي على عهد سليمان، روي ذلك عن المفسرين
وقوله {لِتَتْلُوَ} معناه تخبر وتقرأ.
ثم قوله تعالى: {وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ
كَفَرُوا} يدل على أن ما أخبرت به الشياطين وادعته من السحر على سليمان
كان كفرا، فنفاه الله عن سليمان وحكم بكفر الشياطين الذين تعاطوه
وعملوه، ثم عطف على ذلك قوله تعالى: {وَمَا أُنْزِلَ عَلَى
الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ
أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ} فأخبر
عن الملكين أنهما يقولان لمن يعلمانه ذلك: لا تكفر بعمل هذا السحر
واعتقاده فثبت أن ذلك كفر إذا عمل به واعتقده.
ثم قال: {وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ
مِنْ خَلاقٍ} يعني، والله أعلم: من استبدل السحر بدين الله ما له في
الآخرة من خلاق، يعني من نصيب ثم قال: {وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ
أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا
وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ لَوْ كَانُوا
يَعْلَمُونَ} فجعل ضد هذا الإيمان فعل السحر؛ لأنه جعل الإيمان في
مقابلة
(1/63)
فعل السحر
وهذا يدل على أن الساحر كافر. وإذا ثبت كفره فإن كان مسلما قبل ذلك أو
قد ظهر منه الإسلام في وقت فقد كفر بفعل السحر فاستحق القتل بقوله عليه
السلام: "من بدل دينه فاقتلوه" وإنما قال أبو حنيفة ولا نعلم أحدا من
أصحابنا خالفه فيما ذكره الحسن عنه: إنه يقتل ولا يستتاب فأما ما روي
عن أبي يوسف في فرق أبي حنيفة بين الساحر وبين المرتدين، فإن الساحر قد
جمع إلى كفره السعي بالفساد في الأرض.
فإن قال قائل: فأنت لا تقتل الخناق والمحاربين إلا إذا قتلوا، فهلا قلت
مثله في الساحر قيل له: يفترقان من جهة أن الخناق والمحارب لم يكفرا
قبل القتل ولا بعده فلم يستحقا القتل; إذ لم يتقدم منهما سبب يستحقان
به القتل، وأما الساحر فقد كفر بسحره قتل به أو لم يقتل، فاستحق القتل
بكفره ثم لما كان مع كفره ساعيا في الأرض بالفساد كان وجوب قتله حدا
فلم يسقط بالتوبة كالمحارب إذا استحق القتل لم يسقط ذلك عنه بالتوبة;
فهو مشبه للمحارب الذي قتل في أن قتله حدا لا تزيله عنه التوبة، ويفارق
المرتد من جهة أن المرتد يستحق القتل بإقامته على الكفر فحسب فمتى
انتقل عنه زال عنه الكفر والقتل. ولما وصفنا من ذلك لم يفرقوا بين
الساحر من أهل الذمة ومن المسلمين، كما لا يختلف حكم المحارب من أهل
الذمة والإسلام فيما يستحقونه بالمحاربة; ولذلك لم تقتل المرأة
الساحرة; لأن المرأة من المحاربين عندهم لا تقتل حدا وإنما تقتل قودا.
ووجه آخر لقول أبي حنيفة في ترك استتابة الساحر، وهو ما ذكره الطحاوي
قال: حدثنا سليمان بن شعيب عن أبيه عن أبي يوسف في نوادر ذكرها عنه
أدخلها في أماليه عليهم قال: قال أبو حنيفة: "اقتلوا الزنديق سرا فإن
توبته لا تعرف". ولم يحك أبو يوسف خلافه ويصح بناء مسألة الساحر عليه;
لأن الساحر يكفر سرا فهو بمنزلة الزنديق فالواجب أن لا تقبل توبته.
فإن قيل: فعلى هذا ينبغي أن لا يقتل الساحر من أهل الذمة; لأن كفره
ظاهر وهو غير مستحق للقتل لأجل الكفر قيل له: الكفر الذي أقررناه عليه
هو ما أظهره لنا، وأما الكفر الذي صار إليه بسحره فإنه غير مقر عليه
ولم نعطه الذمة على إقراره عليه، ألا ترى أنه لو سألنا إقراره على
السحر بالجزية لم نجبه إليه ولم نجز إقراره عليه؟ ولا فرق بينه وبين
الساحر من أهل الملة وأيضا، فلو أن الذمي الساحر لم يستحق القتل بكفره
لاستحقه بسعيه في الأرض بالفساد كالمحاربين على النحو الذي ذكرنا،
وقولهم في ترك قبول توبة الزنديق، يوجب أن لا يستتاب الإسماعيلية وسائر
الملحدين الذين قد علم منهم اعتقاد الكفر كسائر الزنادقة وأن يقتلوا مع
إظهارهم التوبة.
ويدل على وجوب قتل الساحر ما حدثنا به ابن قانع: حدثنا بشر بن موسى
قال:
(1/64)
حدثنا ابن
الأصبهاني قال: حدثنا أبو معاوية عن إسماعيل بن مسلم عن الحسن بن جندب
أن النبي عليه السلام قال: "حد الساحر ضربه بالسيف". وقصة جندب في قتله
الساحر بالكوفة عند الوليد بن عقبة مشهورة وقوله عليه السلام: "حد
الساحر ضربه بالسيف" قد دل على معنيين: أحدهما: وجوب قتله; والثاني:
أنه حد لا يزيله التوبة كسائر الحدود إذا وجبت، ولما ذكرنا من قتله على
وجه قتل المحارب قالوا فيما حدثنا الحسن بن زياد: إنه إذا قال كنت
ساحرا وقد تبت أنه لا يقتل، كمن أقر أنه كان محاربا وجاء تائبا أنه لا
يقتل; لقوله تعالى في شأن المحاربين: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ
قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ
رَحِيمٌ} [المائدة: 34] فاستثنى التائب قبل القدرة عليه من جملة من
أوجب عليه الحد المذكور في الآية ويستدل بظاهر قوله تعالى: {إِنَّمَا
جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي
الْأَرْضِ فَسَاداً} [المائدة: 33] إلى آخر الآية، على وجوب قتل الساحر
حدا; لأنه من أهل السعي في الأرض بالفساد لعمله السحر واستدعائه الناس
إليه وإفساده إياهم مع ما صار إليه من الكفر.
وأما مالك بن أنس فإنه أجرى الساحر مجرى الزنديق، فلم يقبل توبته كما
لا يقبل توبة الزنديق، ولم يقتل ساحر أهل الذمة; لأنه غير مستحق للقتل
بكفره وقد أقررناه عليه، فلا يقتل إلا أن يضر بالمسلمين فيكون ذلك عنده
نقضا للعهد. فيقتل كما يقتل الحربي وقد بينا موافقة الساحر الذمي
للزنديق من قبل أنه استحدث كفرا سرا، لا يجوز إقراره عليه بجزية ولا
غيرها، فلا فرق بينه وبين الساحر ممن ينتحل ملة الإسلام; ومن جهة أخرى
أنه في معنى المحارب فلا يختلف حكم أهل الذمة ومنتحلي الذمة.
وأما مذهب الشافعي فقد بينا خروجه عن أقاويل السلف; لأن أحدا منهم لم
يعتبر قتله بسحره وأوجبوا قتله على الإطلاق بحصول الاسم له، وهو مع ذلك
لا يخلو من أحد وجهين في ذكره قتل الساحر بغيره: إما أن يجيز على
الساحر قتل غيره من غير مباشرة ولا اتصال سبب إليه على حسب ما يدعيه
السحرة، وذلك فظيع شنيع ولا يجيزه أحد من أهل العلم بالله ورسوله من
فعل السحرة لما وصفنا من مضاهاته أعلام الأنبياء عليهم السلام أو أن
يكون إنما أجاز ذلك من جهة سقي الأدوية ونحوها، فإن كان هذا أراد فإن
من احتال في إيصال دواء إلى إنسان حتى شربه فإنه لا يلزمه دية; إذ كان
هو الشارب له والجاني على نفسه، كمن دفع إلى إنسان سيفا فقتل به نفسه،
وإن كان إنما أوجره إياه من غير اختيار لشربه، فإن هذا لا يكاد يقع إلا
في حال الإكراه والنوم ونحوه فإن كان أراد ذلك فإن هذا يستوي فيه
الساحر وغيره ثم قوله: "إذا قال الساحر قد أخطئ وأصيب
(1/65)
وقد مات
هذا الرجل من عملي ففيه الدية فإنه لا معنى له; لأن رجلا لو جرح رجلا
بحديدة قد يموت المجروح من مثله وقد لا يموت، لكان عليه فيه القصاص;
فكان الواجب على قوله إيجاب القصاص كما يجب في الحديدة وقوله: قد يموت
وقد لا يموت ليس بعلة في زوال القصاص لوجودها في الجارح بحديدة بعد أن
يقر الساحر أنه قد مات من عمله.
فإن قيل: فقد جعله بمنزلة شبه العمد والضرب بالعصا واللطمة التي قد
تقتل وقد لا تقتل قيل له: ولم صار بالقتل بالعصا واللطمة أشبه منه
بالحديدة؟. فإن فرق بينهما من جهة أن هذا سلاح وذاك ليس بسلاح، لزمه في
كل ما ليس بسلاح أن لا يقتص منه، ويلزمه حينئذ اعتبار السلاح دون غيره
في إيجاب القود.
وقول الشافعي: وإن قال مرض منه ولم يمت أقسم أولياؤه لمات منه مخالف في
النظر لأحكام الجنايات; لأن من جرح رجلا فلم يزل صاحب فراش حتى مات،
لزمه حكم جنايته وكان محكوما بحدوث الموت عند الجراحة ولا يحتاج إلى
أيمان الأولياء في موته منها، فكذلك يلزمه مثله في الساحر إذا أقر أن
المسحور مرض من سحره.
فإن قيل: كذلك نقول في المريض من الجراحة إذا لم يزل صاحب فراش حتى مات
أنهم إذا اختلفوا لم يحكم بالقتل حتى يقسم أولياء المجروح قيل له:
فينبغي أن تقول مثله لو ضربه بالسيف ووالى بين الضرب حتى قتله من
ساعته، فقال الجارح: مات من علة كانت به قبل الضربة الثانية، أو قال:
اخترمه الله تعالى ولم يمت من ضربتي; أن تقسم الأولياء وهذا لا يقوله
أحد; وكذلك ما وصفنا.
قال أبو بكر: قد تكلمنا في معنى السحر واختلاف الفقهاء بما فيه الكفاية
في حكم الساحر، ونتكلم الآن في معاني الآية ومقتضاها، فنقول: إن قوله
تعالى: {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ
سُلَيْمَانَ} فقد روي فيه عن ابن عباس أن المراد به اليهود الذين كانوا
في زمن سليمان بن داود عليهما السلام وفي زمن النبي صلى الله عليه وسلم
وروي مثله عن ابن جريج وابن إسحاق وقال الربيع بن أنس والسدي: المراد
به اليهود الذين كانوا في زمن سليمان. وقال بعضهم: أراد الجميع، من كان
منهم في زمن سليمان ومن كان منهم في عصر النبي عليه السلام; لأن متبعي
السحر من اليهود لم يزالوا منذ عهد سليمان إلى أن بعث الله نبيه محمدا
صلى الله عليه وسلم فوصف الله هؤلاء اليهود الذين لم يقبلوا القرآن
ونبذوه وراء ظهورهم مع كفرهم برسول الله صلى الله عليه وسلم بأنهم
اتبعوا ما تتلو الشياطين على ملك سليمان وهو يريد شياطين الجن والإنس.
ومعنى تتلو: تخبر وتقرأ، وقيل: تتبع; لأن التالي تابع وقوله: {عَلَى
مُلْكِ سُلَيْمَانَ} قيل فيه: على عهده، وقيل فيه: على ملكه، وقيل فيه:
(1/66)
تكذب
عليه; لأنه إذا كان الخبر كذبا قيل تلا عليه. وإذا كان صدقا قيل: تلا
عنه، وإذا أبهم جاز فيه الأمران جميعا; قال الله تعالى: {أَمْ
تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 80]. وكانت
اليهود تضيف السحر إلى سليمان وتزعم أن ملكه كان به، فبرأه الله تعالى
من ذلك; ذكر ذلك عن ابن عباس وسعيد بن جبير وقتادة، وقال محمد بن
إسحاق: قال بعض أحبار اليهود: ألا تعجبون من محمد يزعم أن سليمان كان
نبيا؟ والله ما كان إلا ساحرا فأنزل الله تعالى: {وَمَا كَفَرَ
سُلَيْمَانُ}. وقيل: إن اليهود إنما أضافت السحر إلى سليمان توصلا منهم
إلى قبول الناس ذلك منهم ولتجوزه عليهم، وكذبوا عليه في ذلك وقيل: إن
سليمان جمع كتب السحر ودفنها تحت كرسيه أو في خزانته لئلا يعمل به
الناس، فلما مات ظهر عليه، فقالت الشياطين: بهذا كان يتم ملكه; وشاع
ذلك في اليهود وقبلته وأضافته إليه وجائز أن يكون المراد شياطين الإنس،
وجائز أن يكون الشياطين دفنوا السحر تحت كرسي سليمان في حياته من غير
علمه، فلما مات وظهر نسبوه إلى سليمان، وجائز أن يكون الفاعلون لذلك
شياطين الإنس استخرجوه بعد موته وأوهموا الناس أن سليمان كان فعل ذلك
ليوهموهم ويخدعوهم به.
قوله تعالى: {وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ
وَمَارُوتَ} قد قرئ بنصب اللام وخفضها; فمن قرأها بنصبها جعلهما من
الملائكة، ومن قرأها بخفضها جعلهما من غير الملائكة. وقد روي عن الضحاك
أنهما كانا علجين من أهل بابل.
والقراءتان صحيحتان غير متنافيتين; لأنه جائز أن يكون الله أنزل ملكين
في زمن هذين الملكين لاستيلاء السحر عليهما واغترارهما وسائر الناس
بقولهما وقبولهم منهما، فإذا كان الملكان مأمورين بإبلاغهما وتعريفهما
وسائر الناس معنى السحر ومخاريق السحرة وكفرها جاز أن نقول في إحدى
القراءتين: {وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ} اللذين هما من
الملائكة، بأن أنزل عليهما ذلك. ونقول في القراءة الأخرى: وما أنزل على
الملكين من الناس; لأن الملكين كانا مأمورين بإبلاغهما وتعريفهما، كما
قال الله تعالى في خطاب رسوله: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ
تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ} [النحل: 89]. وقال في موضع آخر: {قُولُوا
آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا} [البقرة: 136] فأضاف
الإنزال تارة إلى الرسول عليه السلام وتارة إلى المرسل إليهم وإنما خص
الملكين بالذكر وإن كانا مأمورين بتعريف الكافة; لأن العامة كانت تبعا
للملكين، فكان أبلغ الأشياء في تقرير معاني السحر والدلالة على بطلانه
تخصيص الملكين به ليتبعهما الناس. كما قال لموسى وهارون: {اذْهَبَا
إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً
لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} [طه: 44] وقد كانا عليهما السلام
رسولين إلى رعاياه كما أرسلا إليه، ولكنه خصه بالمخاطبة; لأن ذلك أنفع
(1/67)
في
استدعائه واستدعاء رعيته إلى الإسلام وكذلك كتب النبي صلى الله عليه
وسلم إلى كسرى وقيصر وخصهما بالذكر دون رعاياهما وإن كان رسولا إلى
كافة الناس، لما وصفناه من أن الرعية تبع للراعي. وكذلك قال عليه
السلام في كتابه لكسرى: "أما بعد فأسلم تسلم وإلا فعليك إثم المجوس"
وقال لقيصر: "أسلم تسلم وإلا فعليك إثم الأريسيين" يعني أنك إذا آمنت
تبعتك الرعية، وإن أبيت لم تستجب الرعية إلى الإسلام خوفا منك فهم تبع
لك في الإسلام والكفر فلذلك والله أعلم خص الملكين من أهل بابل بإرسال
الملكين إليهما كما قال الله تعالى: {اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ
الْمَلائِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ} [الحج: 75].
فإن قيل: فكيف يكون الملائكة مرسلا إليهم ومنزلا عليهم؟ قيل له: هذا
جائز شائع; لأن الله تعالى قد يرسل الملائكة بعضهم إلى بعض كما يرسلهم
إلى الأنبياء، كثف أجسامهم وجعلهم كهيئة بني آدم لئلا ينفروا منهم، قال
الله تعالى: {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكاً لَجَعَلْنَاهُ رَجُلاً}
[الأنعام: 9] يعني هيئة الرجل.
وقوله تعالى: {يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى
الْمَلَكَيْنِ} معناه والله أعلم أن الله أرسل الملكين ليبينا للناس
معاني السحر ويعلموهم أنه كفر وكذب وتمويه لا حقيقة له حتى يجتنبوه،
كما بين الله على ألسنة رسله سائر المحظورات والمحرمات ليجتنبوه ولا
يأتوه; فلما كان السحر كفرا وتمويها وخداعا وكان أهل ذلك الزمان قد
اغتروا به وصدقوا السحرة فيما ادعوه لأنفسهم به، بين ذلك للناس على
لسان هذين الملكين ليكشفا عنهم غمة الجهل ويزجراهم عن الاغترار به، كما
قال تعالى: {وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} [البلد: 10] يعني، والله
أعلم: بينا سبيل الخير والشر ليجتبي الخير ويجتنب الشر وكما قيل لعمر
بن الخطاب: فلان لا يعرف الشر. قال: أجدر أن يقع فيه. ولا فرق بين بيان
معاني السحر والزجر عنه، وبين بيان سائر ضروب الكفر وتحريم الأمهات
والأخوات وتحريم الزنا والربا وشرب الخمر ونحوه; لأن الغرض لما بينا في
اجتناب المحظورات والمقبحات كهو في بيان الخير; إذ لا يصل إلى فعله إلا
بعد العلم به; كذلك اجتباء الطاعات والواجبات، فمن حيث وجبت وجب بيان
الشر ليجتنبه; إذ لا يصل إلى تركه واجتنابه إلا بعد العلم به ومن الناس
من يزعم أن قوله: {وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ} معناه أن
الشياطين كذبوا على ما أنزل على الملكين كما كذبوا على سليمان، وأن
السحر الذي يتلوه هؤلاء لم ينزل عليهما. وزعم أن قوله تعالى:
{فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا} معناه: من السحر والكفر; لأن قوله:
{وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا} يتضمن الكفر فرجع الضمير إليهما،
كقوله تعالى: {سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى}
[الأعلى: 10 – 11] أي يتجنب الأشقى الذكرى قال: وقوله: {وَمَا
يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ}
(1/68)
معناه أن
الملكين لا يعلمان ذلك أحدا ومع ذلك لا يقتصران على أن لا يعلماه حتى
يبالغا في نهيه فيقولا: {إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ}.
والذي حمله على هذا التأويل استنكاره أن ينزل الله على الملكين السحر
مع ذمه السحر والساحر; وهذا الذي ذهب إليه لا يوجب; لأن المذموم من
يعمل بالسحر لا من يبينه للناس ويزجرهم عنه، كما أن على كل من علم من
الناس معنى السحر أن يبينه لمن لا يعلم وينهاه عنه ليجتنبه; وهذا من
الفروض التي ألزمنا إياها الله تعالى إذا رأينا من اختدع به وتموه عليه
أمره.
قوله تعالى: {إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ} فإن الفتنة ما
يظهر به حال الشيء في الخير والشر، تقول العرب: "فتنت الذهب" إذا عرضته
على النار لتعرف سلامته أو غشه والاختبار كذلك أيضا; لأن الحال تظهر
فتصير كالمخبرة عن نفسها. والفتنة: العذاب، في غير هذا الموضع، ومنه
قوله تعالى: {ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ} [الذاريات: 14] فلما كان الملكان
يظهران حقيقة السحر ومعناه قالا {إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ}.
وقال قتادة: {إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ}: بلاء وهذا سائغ أيضا; لأن
أنبياء الله تعالى ورسله فتنة لمن أرسلوا إليهم ليبلوهم أيهم أحسن عملا
ويجوز أن يريد: إنا فتنة وبلاء; لأن من يعلم ذلك منهما يمكنه استعمال
ذلك في الشر ولا يؤمن وقوعه فيه، فيكون ذلك محنة كسائر العبادات،
وقولهما: {فَلا تَكْفُرْ} يدل على أن عمل السحر كفر; لأنهما يعلمانه
إياه لئلا يعمل به; لأنهما علماه ما السحر وكيف الاحتيال ليتجنبه،
ولئلا يتموه على الناس أنه من جنس آيات الأنبياء صلوات الله عليهم
فيبطل الاستدلال بها. وقوله تعالى: {فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا
يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ} يحتمل التفريق من
وجهين: أحدهما: أن يعمل به السامع فيكفر فيقع به الفرقة بينه وبين
زوجته إذا كانت مسلمة بالردة، والوجه الآخر: أن يسعى بينهما بالنميمة
والوشاية والبلاغات الكاذبة والإغراء والإفساد وتمويه الباطل حتى يظن
أنه حق فيفارقها.
وقوله تعالى: {وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا
بِإِذْنِ اللَّهِ}; الإذن هنا العلم فيكون اسما إذا كان مخففا، وإذا
كان محركا كان مصدرا، كما يقول: حذر الرجل حذرا فهو حذر; فالحذر الاسم;
والحذر المصدر، ويجوز أيضا أن يكون مما يقال على وجهين كشبه وشبه ومثل
ومثل، وقيل فيه {إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} أي: بتخليته، وقال الحسن:
"من شاء الله منعه فلم يضره السحر ومن شاء خلى بينه وبينه فضره".
قوله تعالى: {وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي
الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ} قيل معناه: من
(1/69)
استبدل
السحر بدين الله ما له في الآخرة من خلاق، وهو النصيب من الخير، وقال
الحسن: "ما له من دين" وهذا يدل على أن العمل بالسحر وقبوله كفر.
وقوله: {وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ} قيل: باعوا به
أنفسهم، كقول الشاعر:
وشريت بردا ليتني ... من بعد برد كنت هامه
يعني: بعته، وهذا أيضا يؤكد أن قبوله والعمل به كفر، وكذلك قوله:
{وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا} يقتضي ذلك أيضا.
وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا رَاعِنَا}
قال قطرب: هي كلمة أهل الحجاز على وجه الهزء. وقيل: إن اليهود كانت
تقولها كما قال الله في موضع آخر: {وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا
وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيّاً بِأَلْسِنَتِهِمْ
وَطَعْناً فِي الدِّينِ} [النساء: 46]. وكانوا يقولون ذلك عن مواطأة
بينهم يريدون الهزء، كما قال الله تعالى: {وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ
بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ} [المجادلة: 8]; لأنهم كانوا يقولون
السام عليك يوهمون بذلك أنهم يسلمون عليه، فأطلع الله نبيه عليه السلام
على ذلك من أمرهم ونهى المسلمين أن يقولوا مثله. وقوله: {وَرَاعِنَا}
وإن كان يحتمل المراعاة والانتظار، فإنه لما احتمل الهزء على النحو
الذي كانت اليهود تطلقه نهوا عن إطلاقه لما فيه من احتمال المعنى
المحظور إطلاقه، وجائز أن يكون الإطلاق مقتضيا لمعنى الهزء وإن احتمل
الانتظار، ومثله موجود في اللغة، ألا ترى أن اسم الوعد يطلق على الخير
والشر؟ قال الله تعالى: {وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا} [الحج:
72] وقال تعالى: {ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ} [هود: 65] ومتى أطلق
عقل به الخير دون الشر; فكذلك قوله {وَرَاعِنَا} فيه احتمال الأمرين،
وعند الإطلاق يكون بالهزء أخص منه بالانتظار وهذا يدل على أن كل لفظ
احتمل الخير والشر فغير جائز إطلاقه حتى يقيد بما يفيد الخير، ويدل على
أن الهزء محظور في الدين، وكذلك اللفظ المحتمل له ولغيره هو محظور;
والله أعلم بمعاني كتابه.
(1/70)
باب في نسخ القرآن بالسنة و ذكر وجوه النسخ
...
باب في نسخ القرآن بالسنة وذكر وجوه النسخ
قال الله تعالى: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ
بِخَيْرٍ مِنْهَا} قال قائلون: "النسخ هو الإزالة" وقال آخرون: "هو
الإبدال" قال الله تعالى: {فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي
الشَّيْطَانُ} [الحج: 52] أي يزيله ويبطله ويبدل مكانه آيات محكمات.
وقيل: هو النقل، من قوله: {إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ
تَعْمَلُونَ} [الجاثية: 29] وهذا الاختلاف إنما هو في موضوعه في أصل
اللغة، ومهما كان في أصل اللغة معناه فإنه في إطلاق الشرع إنما هو
(1/70)
بيان مدة
الحكم والتلاوة، والنسخ قد يكون في التلاوة مع بقاء الحكم ويكون في
الحكم مع بقاء التلاوة دون غيره.
قال أبو بكر: زعم بعض المتأخرين من غير أهل الفقه أنه لا نسخ في شريعة
نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وأن جميع ما ذكر فيها من النسخ فإنما
المراد به نسخ شرائع الأنبياء المتقدمين كالسبت والصلاة إلى المشرق
والمغرب; قال: لأن نبينا عليه السلام آخر الأنبياء وشريعته ثابتة باقية
إلى أن تقوم الساعة. وقد كان هذا الرجل ذا حظ من البلاغة وكثير من علم
اللغة، غير محظوظ من علم الفقه وأصوله، وكان سليم الاعتقاد غير مظنون
به غير ظاهر أمره; ولكنه بعد من التوفيق بإظهار هذه المقالة; إذ لم
يسبقه إليها أحد، بل قد عقلت الأمة سلفها وخلفها من دين الله وشريعته
نسخ كثير من شرائعه ونقل ذلك إلينا نقلا لا يرتابون به ولا يجيزون فيه
التأويل كما قد عقلت أن في القرآن عاما وخاصا ومحكما ومتشابها، فكان
دافع وجود النسخ في القرآن والسنة كدافع خاصه وعامه ومحكمه ومتشابهه;
إذ كان ورود الجميع ونقله على وجه واحد فارتكب هذا الرجل في الآي
المنسوخة والناسخة وفي أحكامها أمورا خرج بها عن أقاويل الأمة مع تعسف
المعاني واستكراهها وما أدري ما الذي ألجأه إلى ذلك. وأكثر ظني فيه أنه
إنما أتى به من قلة علمه بنقل الناقلين لذلك واستعمال رأيه فيه من غير
معرفة منه بما قد قال السلف فيه ونقلته الأمة وكان ممن روي فيه عن
النبي صلى الله عليه وسلم: "من قال في القرآن برأيه فأصاب فقد أخطأ"
والله يغفر لنا وله وقد تكلمنا في أصول الفقه في وجوه النسخ وما يجوز
فيه وما لا يجوز بما يغني ويكفي.
وأما: {أَوْ نُنْسِهَا} قيل إنه من النسيان، و ننسأها من التأخير،
يقال: نسأت الشيء: أخرته، والنسيئة: الدين المتأخر. ومنه قوله تعالى:
{إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ} [التوبة: 37] يعني
تأخير الشهور، فإذا أريد به النسيان، فإنما هو أن ينسيهم الله تعالى
التلاوة حتى لا يقرءوا ذلك، ويكون على أحد وجهين: إما أن يؤمروا بترك
تلاوته فينسوه على الأيام، وجائز أن ينسوه دفعة ويرفع من أوهامهم،
ويكون ذلك معجزة للنبي عليه السلام. وأما معنى قراءة أو ننسأها فإنما
هو بأن يؤخرها فلا ينزلها وينزل بدلا منها ما يقوم مقامها في المصلحة
أو يكون أصلح للعباد منها، ويحتمل أن يؤخر إنزالها إلى وقت يأتي فيأتي
بدلا منها لو أنزلها في الوقت المتقدم فيقوم مقامها في المصلحة.
وأما قوله: {نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} فإنه روي عن ابن
عباس وقتادة: "بخير منها لكم في التسهيل والتيسير" كالأمر بأن لا يولى
واحد من عشرة في القتال ثم قال: {الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ}
[الأنفال: 66] أو مثلها كالأمر بالتوجه إلى الكعبة بعدما كان إلى بيت
(1/71)
المقدس
وروي عن الحسن: بخير منها في الوقت في كثرة الصلاح أو مثلها. فحصل من
اتفاق الجميع أن المراد خير لكم إما في التخفيف أو في المصلحة ولم يقل
أحد منهم: خير منها في التلاوة; إذ غير جائز أن يقال إن بعض القرآن خير
من بعض في معنى التلاوة والنظم; إذ جميعه معجز كلام الله.
قال أبو بكر: وقد احتج بعض الناس في امتناع جواز نسخ القرآن بالسنة;
لأن السنة على أي حال كانت لا تكون خيرا من القرآن وهذا إغفال من قائله
من وجوه: أحدها: أنه غير جائز أن يكون المراد: بخير منها في التلاوة
والنظم لاستواء الناسخ والمنسوخ في إعجاز النظم والآخر اتفاق السلف على
أنه لم يرد النظم; لأن قولهم فيه على أحد المعنيين إما التخفيف أو
المصلحة. وذلك قد يكون بالسنة كما يكون بالقرآن ولم يقل أحد منهم إنه
أراد التلاوة، فدلالة هذه الآية على جواز نسخ القرآن بالسنة أظهر من
دلالتها على امتناع جوازه بها وأيضا فإن حقيقة ذلك إنما تقتضي نسخ
التلاوة، وليس للحكم في الآية ذكر; لأنه قال تعالى: {مَا نَنْسَخْ مِنْ
آيَةٍ} والآية إنما هي اسم للتلاوة، وليس في نسخ التلاوة ما يوجب نسخ
الحكم، وإذا كان كذلك جاز أن يكون معناه: ما ننسخ من تلاوة آية أو
ننسها نأت بخير منها لكم من محكم من طريق السنة أو غيرها. وقد استقصينا
القول في هذه المسألة في أصول الفقه بما فيه كفاية، فمن أرادها
فليطلبها هناك إن شاء الله تعالى.
قوله تعالى: {فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ
بِأَمْرِهِ} روى معمر عن قتادة في هذه الآية قال: نسختها {فَاقْتُلُوا
الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} [التوبة: 5]. وحدثنا أبو محمد
جعفر بن محمد الواسطي قال: حدثنا أبو الفضل جعفر بن محمد بن اليمان
قال: قرئ على أبي عبيد وأنا أسمع قال: حدثنا عبد الله بن صالح عن
معاوية بن صالح عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله تعالى: {لَسْتَ
عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ} [الغاشية: 22] وقوله تعالى: {وَمَا أَنْتَ
عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ} [ق: 45] وقوله تعالى: {فَاعْفُ عَنْهُمْ
وَاصْفَحْ} [المائدة: 13] وقوله تعالى: {قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا
يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ} [الجاثية: 14].
قال: نسخ هذا كله قوله تعالى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ
وَجَدْتُمُوهُمْ} [التوبة: 5] وقوله تعالى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا
يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ
مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ} [التوبة: 29] الآية،
ومثله قوله تعالى: {فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا
وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} وقوله تعالى:
{وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل: 125] {فَإِذَا
الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ}
وقوله تعالى: {وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاماً}
[الفرقان: 63] يعني والله أعلم متاركة. فهذه
(1/72)
الآيات
كلها أنزلت قبل لزوم فرض القتال، وذلك قبل الهجرة; وإنما كان الغرض
الدعاء إلى الدين حينئذ بالحجاج والنظر في معجزات النبي صلى الله عليه
وسلم وما أظهره الله على يده، وأن مثله لا يوجد مع غير الأنبياء، ونحوه
قوله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا
لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ
مِنْ جِنَّةٍ} [سبأ: 46] وقوله تعالى: {قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ
بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ} [الزخرف: 24] وقوله
تعالى: {أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الْأُولَى
فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ} [طه: 133] {أَفَلا تَعْقِلُونَ} [البقرة: 44]
{فَأَنَّى تُصْرَفُونَ} [يونس: 32] ونحوها من الآي التي فيها الأمر
بالنظر في أمر النبي عليه السلام وما أظهره الله تعالى له من أعلام
النبوة والدلائل الدالة على صدقه ثم لما هاجر إلى المدينة أمره الله
تعالى بالقتال بعد قطع العذر في الحجاج وتقريره عندهم حين استقرت آياته
ومعجزاته عند الحاضر والبادي والداني والقاصي بالمشاهدة والأخبار
المستفيضة التي لا يكذب مثلها وسنذكر فرض القتال عند مصيرنا إلى الآيات
الموجبة له إن شاء الله تعالى.
وقوله تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ
يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُولَئِكَ مَا كَانَ
لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ} روى معمر عن قتادة قال:
هو بخت نصر، خرب بيت المقدس وأعان على ذلك النصارى. وقوله تعالى:
{أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ}
قال: هم النصارى لا يدخلونها إلا مسارقة، فإن قدر عليهم عوقبوا لهم في
الدنيا خزي، قال: {يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ}.
وروى ابن أبي نجيح عن مجاهد في هذه الآية قال: "هم النصارى خربوا بيت
المقدس".
قال أبو بكر: ما روي في خبر قتادة يشبه أن يكون غلطا من راويه; لأنه لا
خلاف بين أهل العلم بأخبار الأولين أن عهد بخت نصر كان قبل مولد المسيح
عليه السلام بدهر طويل، والنصارى إنما كانوا بعد المسيح وإليه ينتمون،
فكيف يكونون مع بخت نصر في تخريب بيت المقدس، والنصارى إنما استفاض
دينهم في الشام والروم في أيام قسطنطين الملك وكان قبل الإسلام بمائتي
سنة وكسور؟ وإنما كانوا قبل ذلك صابئين عبدة أوثان وكان من ينتحل
النصرانية منهم مغمورين مستخفين بأديانهم فيما بينهم. ومع ذلك فإن
النصارى تعتقد من تعظيم بيت المقدس مثل اعتقاد اليهود فكيف أعانوا على
تخريبه مع اعتقادهم فيه؟ ومن الناس من يقول: إن الآية إنما هي في شأن
المشركين حيث منعوا المسلمين من ذكر الله في المسجد الحرام، وإن سعيهم
في خرابه إنما هو منعهم من عمارته بذكر الله وطاعته.
قال أبو بكر: في هذه الآية دلالة على منع أهل الذمة دخول المساجد من
وجهين،
(1/73)
أحدهما:
قوله: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ
يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ} والمنع يكون من وجهين: أحدهما: بالقهر
والغلبة، والآخر: الاعتقاد والديانة والحكم; لأن من اعتقد من جهة
الديانة المنع من ذكر الله في المساجد فجائز أن يقال فيه قد منع مسجدا
أن يذكر فيه اسمه، فيكون المنع هاهنا معناه الحظر، كما جائز أن يقال
منع الله الكافرين من الكفر والعصاة من المعاصي بأن حظرها عليهم
وأوعدهم على فعلها; فلما كان اللفظ منتظما للأمرين وجب استعماله على
الاحتمالين. وقوله: {أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا
إِلَّا خَائِفِينَ} يدل على أن على المسلمين إخراجهم منها إذا دخلوها
لولا ذلك ما كانوا خائفين بدخولها، والوجه الثاني: قوله: {وَسَعَى فِي
خَرَابِهَا} وذلك يكون أيضا من وجهين: أحدهما: أن يخربها بيده،
والثاني: اعتقاده وجوب تخريبها; لأن دياناتهم تقتضي ذلك وتوجبه ثم عطف
عليه قوله: {أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلَّا
خَائِفِينَ} وذلك يدل على منعهم منها على ما بينا.
ويدل على مثل دلالة هذه الآية قوله تعالى: {مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ
أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ} [التوبة: 17] وعمارتها تكون من
وجهين: أحدهما: بناؤها وإصلاحها، والثاني: حضورها ولزومها، كما تقول:
فلان يعمر مجلس فلان; يعني يحضره ويلزمه. وقال النبي عليه السلام: "إذا
رأيتم الرجل يعتاد المسجد فاشهدوا له بالإيمان"، وذلك لقوله عز وجل
{إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ} فجعل
حضوره المساجد عمارة لها وأصحابنا يجيزون لهم دخول المساجد، وسنذكر ذلك
في موضعه إن شاء الله تعالى.
ومما يدل على أنه عام في سائر المساجد وأنه غير مقصور على بيت المقدس
خاصة أو المسجد الحرام خاصة، إطلاقه ذلك في المساجد فلا يخص شيء منه
إلا بدلالة.
فإن قيل: جائز أن يقال لكل موضع من المسجد مسجد كما يقال لكل موضع من
المجلس مجلس، فيكون الاسم واقعا على جملته تارة وعلى كل موضع سجود فيه
أخرى؟ قيل له: لا تنازع بين أهل اللسان أنه لا يقال للمسجد الواحد
مساجد كما لا يقال إنه مسجدان، وكما لا يقال للدار الواحدة إنها دور;
فثبت أن الإطلاق لا يتناوله وإن سمي موضع السجود مسجدا، وإنما يقال ذلك
مقيدا غير مطلق وحكم الإطلاق فيما يقتضيه ما وصفنا، وعلى أنك لا تمتنع
من إطلاق ذلك في جميع المساجد وإنما تريد تخصيصه ببعضها دون بعض وذلك
غير مسلم لك بغير دلالة.
قوله تعالى: {وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا
تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} روى أبو أشعث السمان، عن عاصم بن
عبيد الله، عن عبد الله بن عامر بن ربيعة، عن أبيه قال: كنا مع
(1/74)
رسول الله
صلى الله عليه وسلم في ليلة مظلمة فلم ندر أين القبلة، فصلى كل رجل منا
على حياله، ثم أصبحنا فذكرنا ذلك للنبي عليه السلام فأنزل الله تعالى:
{فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ}. وروى أيوب بن عتبة عن
قيس بن طلق عن أبيه: أن قوما خرجوا في سفر فصلوا فتاهوا عن القبلة،
فلما فرغوا تبين لهم أنهم كانوا على غير القبلة، فذكروا ذلك لرسول الله
صلى الله عليه وسلم فقال: "تمت صلاتكم". وروى ابن لهيعة عن بكر بن
سوادة، عن رجل سأل ابن عمر عمن يخطئ القبلة في السفر ويصلي، قال:
{فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} وحدثنا أبو علي الحسين
بن علي الحافظ قال: حدثنا محمد بن سليمان الواسطي قال: حدثني أحمد بن
عبد الله بن الحسن العنبري، قال: وجدت في كتاب أبي عبيد الله بن الحسن:
قال عبد الملك بن أبي سليمان العرزمي، عن عطاء بن أبي رباح، عن جابر بن
عبد الله قال: "بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سرية كنت فيها،
فأصابتنا ظلمة فلم نعرف القبلة، فقالت طائفة منا: قد عرفنا القبلة
هاهنا قبل الشمال، فصلوا وخطوا خطوطا; وقالت طائفة: القبلة هاهنا قبل
الجنوب، وخطوا خطوطا; فلما أصبحنا وطلعت الشمس وأصبحت تلك الخطوط لغير
القبلة، فلما قفلنا من سفرنا سألنا النبي عليه السلام عن ذلك فسكت،
فأنزل الله: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} أي حيث
كنتم.
قال أبو بكر: ففي هذه الأخبار أن سبب نزول الآية كان صلاة هؤلاء الذين
صلوا لغير القبلة اجتهادا.
وروي عن ابن عمر في خبر آخر: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي على
راحلته وهو مقبل من مكة نحو المدينة حيث توجهت، وفيه أنزلت:
{فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ}. وروى معمر عن قتادة
في قوله: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} قال: هي
القبلة الأولى ثم نسختها الصلاة إلى المسجد الحرام وقيل فيه: إن اليهود
أنكروا تحويل القبلة إلى الكعبة بعدما كان النبي صلى الله عليه وسلم
يصلي إلى بيت المقدس، فأنزل الله ذلك ومن الناس من يقول: إن النبي عليه
السلام كان مخيرا في أن يصلي إلى حيث شاء وإنما كان توجه إلى بيت
المقدس على وجه الاختيار لا على وجه الإيجاب حتى أمر بالتوجه إلى
الكعبة، وكان قوله: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} في
وقت التخيير قبل الأمر بالتوجه إلى الكعبة.
قال أبو بكر: اختلف أهل العلم فيمن صلى في سفر مجتهدا إلى جهة ثم تبين
أنه صلى لغير القبلة; وقال أصحابنا جميعا والثوري: إن وجد من يسأله
فيعرفه جهة القبلة فلم يفعل لم تجز صلاته، وإن لم يجد من يعرفه جهتها
فصلاها باجتهاده أجزأته صلاته، سواء صلاها مستدبر القبلة أو مشرقا أو
مغربا عنها. وروي نحو قولنا عن مجاهد وسعيد بن المسيب وإبراهيم وعطاء
والشعبي. وقال الحسن والزهري وربيعة وابن أبي
(1/75)
سلمة:
يعيد في الوقت، فإذا فات الوقت لم يعد; وهو قول مالك رواه ابن وهب عنه
وروى أبو مصعب عنه: "إنما يعيد في الوقت إذا صلاها مستدبر القبلة أو
شرق أو غرب، وإن تيامن قليلا أو تياسر قليلا فلا إعادة عليه". وقال
الشافعي: من اجتهد فصلى إلى المشرق ثم رأى القبلة في المغرب استأنف،
فإن كانت شرقا ثم رأى أنه منحرف فتلك جهة واحدة وعليه أن ينحرف ويعتد
بما مضى.
قال أبو بكر ظاهر الآية يدل على جوازها إلى أي جهة صلاها وذلك أن قوله:
{فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} معناه: فثم رضوان
الله; وهو الوجه الذي أمرتم بالتوجه إليه كقوله تعالى: {إِنَّمَا
نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ} [الإنسان: 9] يعني لرضوانه ولما أراده
منا، وقوله: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} [القصص: 88] يعني
ما كان لرضاه وإرادته، وقد روي في حديث عامر بن ربيعة وجابر اللذين
قدمنا أن الآية في هذا أنزلت.
فإن قيل: روي أنها نزلت في التطوع على الراحلة، وروي أنها نزلت في بيان
القبلة قيل له: لا يمتنع أن يتفق هذه الأحوال كلها في وقت واحد ويسأل
النبي عليه السلام عنها فينزل الله تعالى الآية ويريد بها بيان حكم
جميعها، ألا ترى أنه لو نص على كل واحدة منها بأن يقول: إذا كنتم
عالمين بجهة القبلة ممكنين من التوجه إليها فذلك وجه الله فصلوا إليها.
وإذا كنتم خائفين أو في سفر فالوجه الذي يمكنكم التوجه إليه فهو وجه
الله، وإذا اشتبهت عليكم الجهات فصليتم إلى أي جهة كانت فهي وجه الله؟
وإذا لم تتناف إرادة جميع ذلك وجب حمل الآية عليه، فيكون مراد الله
تعالى بها جميع هذه المعاني على الوجه الذي ذكرنا، لا سيما وقد نص حديث
جابر وعامر بن ربيعة أن الآية نزلت في المجتهد إذا أخطأ، وأخبر فيه أن
المستدبر للقبلة والمتياسر والمتيامن عنها سواء; لأن فيه بعضهم صلى إلى
ناحية الشمال والآخر إلى ناحية الجنوب وهاتان جهتان متضادتان. ويدل على
جوازها أيضا حديث رواه جماعة عن أبي سعيد مولى بني هاشم قال: حدثنا عبد
الله بن جعفر، عن عثمان بن محمد، عن سعيد المقبري، عن أبي هريرة، أن
رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ما بين المشرق والمغرب قبلة". وهذا
يقتضي إثبات جميع الجهات قبلة، إذ كان قوله: "ما بين المشرق والمغرب"
كقوله: جميع الآفاق; ألا ترى أن قوله: {رَبُّ الْمَشْرِقِ
وَالْمَغْرِبِ} أنه أراد به جميع الدنيا؟ وكذلك هو في معقول خطاب الناس
متى أريد الإخبار عن جميع الدنيا ذكر المشرق والمغرب فيشمل اللفظ
جميعها وأيضا ما ذكرنا من قول السلف يوجب أن يكون إجماعا لظهوره
واستفاضته من غير خلاف من أحد من نظرائهم عليهم ويدل عليه أيضا أن من
غاب عن مكة فإنما صلاته إلى الكعبة لا تكون إلا عن اجتهاد; لأن أحدا لا
يوقن بالجهة التي يصلي إليها في محاذاة
(1/76)
الكعبة
غير منحرف عنها، وصلاة الجميع جائزة; إذ لم يكلف غيرها، فكذلك المجتهد
في السفر قد أدى فرضه إذ لم يكلف غيرها ومن أوجب الإعادة فإنما يلزمه
فرضا آخر، وغير جائز إلزامه فرضا بغير دلالة; فإن ألزمونا عليه بالثوب
يصلى فيه ثم تعلم نجاسته أو الماء يتطهر به ثم يعلم أنه نجس. قيل لهم:
لا فرق بينهم في أن كلا منهم قد أدى فرضه، وإنما ألزمناه بعد العلم
فرضا آخر بدلالة قامت عليه ولم تقم دلالة على إلزام المجتهد في جهة
القبلة فرضا آخر; لأن الصلاة تجوز إلى غير جهة القبلة من غير ضرورة وهي
صلاة النفل على الراحلة. ومعلوم أنه لا ضرورة به; لأنه ليس عليه فعلها،
فلما جازت إلى غير القبلة من غير ضرورة فإذا صلى الفرض إلى غير جهتها
على ما كلف لم يكن عليه عند التبين غيرها ولما لم تجز الصلاة في الثوب
النجس إلا لضرورة ولم تجز الطهارة بماء نجس بحال، لزمته الإعادة ومن
جهة أخرى وهي أن المجتهد بمنزلة صلاة المتيمم إذا عدم الماء، فلا يلزمه
الإعادة; لأن الجهة التي توجه إليها قد قامت له مقام القبلة كالتيمم
قائم مقام الوضوء، ولم يوجد للمصلي في الثوب النجس والمتطهر بماء نجس
ما يقوم مقام الطهارة فهو بمنزلة المصلي بغير تيمم ولا ماء، ويدل على
ذلك وهو أصل يرد إليه مسألتنا صلاة الخائف لغير القبلة، ويبنى عليها من
وجهين: أحدهما: أنها جهة لم يكلف غيرها في الحال. والثاني: قيام هذه
الجهة مقام القبلة فلا إعادة عليه كالمتيمم ويدل على أن المراد من قوله
تعالى: {فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} الصلاة لغير القبلة، أنه معلوم أن
مقدار مساحة الكعبة لا يتسع لصلاة الناس الغائبين عنها حتى يكون كل
واحد منهم مصليا لمحاذاتها، ألا ترى أن الجامع مساحته أضعاف مساحة
الكعبة وليس جميع من يصلي فيه محاذيا لسمتها وقد أجيزت صلاة الجميع؟
فثبت أنهم إنما كلفوا التوجه إلى الجهة التي هي في ظنهم أنها محاذية
الكعبة، لا محاذاتها بعينها وهذا يدل على أن كل جهة قد أقيمت مقام جهة
الكعبة في حال العذر.
فإن قيل: إنما جازت صلاة الجميع في الأصل الذي ذكرت; لأن كل واحد منهم
يجوز أن يكون هو المحاذي للكعبة دون من بعد منه ولم يظهر في الثاني
توجهه إلى غير جهة الكعبة، فأجزأته صلاته من أجل ذلك. وليست هذه نظير
مسألتنا، من قبل أن المجتهد في مسألتنا قد تبين أنه صلى إلى غيرها، قيل
له: لو كان هذا الاعتبار سائغا في الفرق بينهما لوجب أن لا تجيز صلاة
الجميع; لأنه إذا كان محاذاة الكعبة مقدار عشرين ذراعا إذا كان
مسامتها، ثم قد رأينا أهل الشرق والغرب قد أجزأتهم صلاتهم، مع العلم
بأن الذين حاذوها هم القليل الذين يقصر عددهم عن النسبة إلى الجميع
لقلتهم، وجائز مع ذلك أن يكون ليس فيهم من يحاذي الكعبة حين لم يغادرها
ثم أجزأت صلاة الجميع،
(1/77)
ولم يعتبر
حكم الأعم الأكثر مع تعلق الأحكام في الأصول بالأعم الأكثر; ألا ترى أن
الحكم في كل من في دار الإسلام ودار الحرب يتعلق بالأعم الأكثر دون
الأخص الأقل حتى صار من في دار الإسلام محظورا قتله، مع العلم بأن فيها
من يستحق القتل من مرتد وملحد وحربي; ومن في دار الحرب يستباح قتله مع
ما فيها من مسلم تاجر أو أسير؟ وكذلك سائر الأصول على هذا المنهاج يجرى
حكمها، ولم يكن للأكثر الأعم حكم في بطلان الصلاة مع العلم بأنهم على
غير محاذاة الكعبة، ثبت أن الذي كلف كل واحد منهم في وقته هو ما عنده
أنه جهة الكعبة وفي اجتهاده في الحال التي يسوغ الاجتهاد فيها، وأن لا
إعادة على واحد منهم في الثاني.
فإن قيل: فأنت توجب الإعادة على من صلى باجتهاده مع إمكان المسألة عنها
إذا تبين له خلافها.
قيل له: ليس هذا موضع الاجتهاد مع وجود من يسأله عنها. وإنما أجزنا
فيما وصفنا صلاة من اجتهد في الحال التي يسوغ الاجتهاد فيها، وإذا وجد
من يسأله عن جهة الكعبة لم يكلف فعل الصلاة باجتهاده وإنما كلف المسألة
عنها ويدل على ما ذكرنا أنه معلوم أنه من غاب عن حضرة النبي عليه
السلام فإنما يؤدي فرضه باجتهاده مع تجويزه أن يكون ذلك الفرض فيه نسخ
وقد ثبت أن أهل قباء كانوا يصلون إلى بيت المقدس، فأتاهم آت فأخبرهم أن
القبلة قد حولت، فاستداروا في صلاتهم إلى الكعبة وقد كانوا قبل ذلك
مستدبرين لها; لأن من استقبل بيت المقدس وهو بالمدينة فهو مستدبر
للكعبة، ثم لم يؤمروا بالإعادة حين فعلوا بعض الصلاة إلى بيت المقدس مع
ورود النسخ; إذ الأغلب أنهم ابتدءوا الصلاة بعد النسخ; لأن النسخ نزل
على النبي صلى الله عليه وسلم وهو بالمدينة، ثم سار المخبر إلى قباء
بعد النسخ وبينهما نحو فرسخ فهذا يدل على أن ابتداء صلاتهم كان بعد
النسخ لامتناع أن يطول مكثهم في الصلاة هذه المدة، ولو كان ابتداؤها
قبل النسخ كانت دلالته قائمة; لأنهم فعلوا بعض الصلاة إلى بيت المقدس
بعد النسخ.
فإن قيل: إنما جاز ذلك; لأنهم ابتدءوها قبل النسخ وكان ذلك فرضهم ولم
يكن عليهم فرض غيره. قيل له: وكذلك المجتهد فرضه ما أداه إليه اجتهاده
ليس عليه فرض غيره.
فإن قيل: إذا تبين أنه صلى إلى غير الكعبة كان بمنزلة من اجتهد في حكم
حادثة ثم وجد النص فيه، فيبطل اجتهاده مع النص قيل له: ليس هذا كما
ظننت; لأن النص في جهة الكعبة إنما هو في حال معاينتها أو العلم بها،
وليست للصلاة جهة واحدة يتوجه إليها المصلي، بل سائر الجهات للمصلين
على حسب اختلاف أحوالهم، فمن شاهد
(1/78)
الكعبة أو
علم بها وهو غائب عنها ففرضه الجهة التي يمكنه التوجه إليها وليست
الكعبة جهة فرضه، ومن اشتبهت عليه الجهة ففرضه ما أداه إليه اجتهاده;
فقولك إنه صار من الاجتهاد إلى النص خطأ; لأن جهة الكعبة لم تكن فرضه
في حال الاجتهاد، وإنما النص في حال إمكان التوجه إليها والعلم بها
وأيضا فقد كان له الاجتهاد مع العلم بالكعبة والجهل بجهتها، فلو كان
بمنزلة النص لما ساغ الاجتهاد، مع العلم بأن لله تعالى نصا على الحكم،
كما لا يسوغ الاجتهاد مع العلم أن لله تعالى نصا على الحكم في حادثة.
وقوله تعالى: {وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً سُبْحَانَهُ بَلْ
لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} قال أبو بكر: فيه دلالة على
أن ملك الإنسان لا يبقى على ولده; لأنه نفى الولد بإثبات الملك بقوله
تعالى: {بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} يعني ملكه وليس
بولده; وهو نظير قوله: {وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ
وَلَداً إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي
الرَّحْمَنِ عَبْداً} [مريم: 92 -93] فاقتضى ذلك عتق ولده عليه إذا
ملكه وقد حكم النبي صلى الله عليه وسلم بمثل ذلك في الوالد إذا ملكه
ولده، فقال عليه السلام: "لا يجزي ولد والده إلا أن يجده مملوكا
فيشتريه فيعتقه" فدلت الآية على عتق الولد إذا ملكه أبوه، واقتضى خبر
النبي صلى الله عليه وسلم عتق الوالد إذا ملكه ولده وقال بعض الجهال:
إذا ملك أباه لم يعتق عليه حتى يعتقه لقوله: فيشتريه فيعتقه وهذا يقتضي
عتقا مستأنفا بعد الملك فجهل حكم اللفظ في اللغة والعرف جميعا; لأن
المعقول منه فيشتريه فيعتقه بالشرى; إذ قد أفاد أن شراه موجب لعتقه;
وهذا كقول النبي صلى الله عليه وسلم: "الناس غاديان: فبائع نفسه
فموبقها، ومشتر نفسه فمعتقها" يريد أنه معتقها بالشرى لا باستئناف عتق
بعده.
قوله تعالى: {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ
فَأَتَمَّهُنَّ}; اختلف المفسرون، فقال ابن عباس: ابتلاه بالمناسك.
وقال الحسن: "ابتلاه بقتل ولده والكواكب". وروى طاوس عن ابن عباس قال:
ابتلاه بالطهارة خمس في الرأس وخمس في الجسد فالخمسة في الرأس: قص
الشارب، والمضمضة، والاستنشاق، والسواك، وفرق الرأس; وفي الجسد: تقليم
الأظفار، وحلق العانة، والختان، ونتف الإبط، وغسل أثر الغائط والبول
بالماء. وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "عشر من الفطرة" 1
وذكر هذه الأشياء إلا أنه قال مكان الفرق: "إعفاء اللحية" ولم يذكر فيه
تأويل الآية. ورواه عمار وعائشة وأبو هريرة على اختلاف منهم في الزيادة
والنقصان، كرهت الإطالة بذكر أسانيدها وسياقة ألفاظها; إذ هي المشهورة،
وقد نقلها الناس قولا وعملا وعرفوها من
ـــــــ
1 قوله "من الفطرة" أي من سنة الأنبياء التي أمرنا أن نقتدي بهم فيها
هكذا في النهاية "لمصححه".
(1/79)
سنة رسول
الله صلى الله عليه وسلم وما ذكر فيه من تأويل الآية مع ما قدمنا من
اختلاف السلف فيه فجائز أن يكون الله تعالى ابتلى إبراهيم بذلك كله،
ويكون مراد الآية جميعه، وأن إبراهيم عليه السلام أتم ذلك كله ووفى به
وقام به على حسب ما أمره الله تعالى به من غير نقصان; لأن ضد الإتمام
النقص، وقد أخبر الله بإتمامهن وما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أن
العشر الخصال في الرأس والجسد من الفطرة، فجائز أن يكون فيها مقتديا
بإبراهيم عليه السلام بقوله تعالى: {ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ
اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً} [النحل: 123] وبقوله:
{أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ}
[الأنعام: 90].
(1/80)
مطلب في الحث على نظافة البدن و الثياب
...
مطلب في الحث على نظافة البدن والثياب
وهذه الخصال قد ثبتت من سنة إبراهيم عليه السلام ومحمد صلى الله عليه
وسلم وهي تقتضي أن يكون التنظيف ونفي الأقذار والأوساخ عن الأبدان
والثياب مأمورا بها. ألا ترى أن الله تعالى لما حظر إزالة التفث والشعر
في الإحرام أمر به عند الإحلال بقوله: {ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ}
[الحج: 29] ومن نحو ذلك ما روي عن النبي عليه السلام في غسل يوم الجمعة
"أن يستاك وأن يمس من طيب أهله" فهذه كلها خصال مستحسنة في العقول
محمودة مستحبة في الأخلاق والعادات، وقد أكدها التوقيف من الرسول صلى
الله عليه وسلم. وقد حدثنا عبد الباقي قال: حدثنا محمد بن عمر بن حيان
التمار قال: حدثنا أبو الوليد وعبد الرحمن بن المبارك قالا: حدثنا قريش
بن حيان العجلي قال: حدثنا سليمان بن فروخ أبو واصل قال: أتيت أبا أيوب
فصافحته فرأى في أظفاري طولا فقال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه
وسلم يسأله عن خبر السماء، فقال: "يجيء أحدكم يسأل عن خبر السماء
وأظفاره كأنها أظفار الطير يجتمع فيها الخباثة والتفث؟" وحدثنا عبد
الباقي قال: حدثنا أحمد بن سهل بن أيوب قال: حدثنا عبد الملك بن مروان
الحذاء قال: حدثنا الضحاك بن زيد الأهوازي عن إسماعيل بن خالد عن قيس
بن أبي حازم عن عبد الله بن مسعود قال: قلنا يا رسول الله إنك تهم 1
قال: "وما لي لا أهم ورفغ أحدكم بين أظفاره وأنامله". وقد روي عن أبي
هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقلم أظفاره ويقص شاربه يوم
الجمعة قبل أن يروح إلى الجمعة. وحدثنا محمد بن بكر البصري قال: حدثنا
أبو داود قال: حدثنا عثمان بن
ـــــــ
1 قوله "إنك تهم" مضارع "وهم" بمعنى غلط، وفي رواية أخرى "أنك لتوهم"
بمعنى تغلط. وقوله "رفغ أحدكم" الرفغ بالضم والفتح واحد الأفراغ وهي
أصول المغابن كالآبط وغيرها من مطاوي الأعضاء وما يجتمع فيها من الوسخ
والعرق وأراد بالرفغ هنا وسخ الظفر كما في النهاية. "لمصححه".
(1/80)
أبي شيبة،
عن وكيع، عن الأوزاعي، عن حسان، عن محمد بن المنكدر، عن جابر بن عبد
الله قال: أتانا رسول الله صلى الله عليه وسلم فرأى رجلا شعثا قد تفرق
شعره فقال: "أما كان يجد هذا ما يسكن به شعره؟" ورأى رجلا آخر عليه
ثياب وسخة فقال: "أما كان يجد هذا ما يغسل به ثوبه؟" حدثنا عبد الباقي
قال: حدثنا حسين بن إسحاق قال: حدثنا محمد بن عقبة السدوسي قال: حدثنا
أبو أمية بن يعلى قال: حدثنا هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة، قالت:
"خمس لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم يدعهن في سفر ولا حضر: المرآة
والمكحلة والمشط والمدرى 1 والسواك".
وقد روي أنه وقت في ذلك أربعين يوما; حدثنا عبد الباقي قال: حدثنا
الحسين بن المثنى عن معاذ قال: حدثنا مسلم بن إبراهيم قال: حدثنا صدقة
الدقيقي قال: حدثنا أبو عمران الجوني عن أنس بن مالك قال: "وقت لنا
رسول الله صلى الله عليه وسلم في حلق العانة وقص الشارب ونتف الإبط
أربعين يوما".
وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يتنور; حدثنا عبد الباقي
قال: حدثنا إدريس الحداد قال: حدثنا عاصم بن علي قال: حدثنا كامل بن
العلاء قال: حدثنا حبيب بن أبي ثابت عن أم سلمة قالت: "كان النبي صلى
الله عليه وسلم إذا اطلى ولي مغابنه بيده". حدثنا عبد الباقي: حدثنا
مطير: حدثنا إبراهيم بن المنذر: حدثنا معن بن عيسى عمن حدثه عن ابن أبي
نجيح، عن مجاهد، عن ابن عباس قال: "اطلى رسول الله صلى الله عليه وسلم
فطلاه رجل فستر عورته بثوب وطلى الرجل سائر جسده، فلما فرغ قال له
النبي عليه السلام: "اخرج عني" ثم طلى النبي صلى الله عليه وسلم عورته
بيده".
وقد روى حبيب بن أبي ثابت عن أنس قال: "كان النبي صلى الله عليه وسلم
لا يتنور، فإذا كثر شعره حلقه". وهذا يحتمل أن يريد به أن عادته كانت
الحلق، وأن ذلك كان الأكثر الأعم ليصح الحديثان، وأما ما ذكر من توقيت
الأربعين في الحديث المتقدم فجائز أن تكون الرخصة في التأخير مقدرة
بذلك وأن تأخيرها إلى ما بعد الأربعين محظور يستحق فاعله اللوم لمخالفة
السنة، لا سيما في قص الشارب وقص الأظفار.
قال أبو بكر: ذكر أبو جعفر الطحاوي أن مذهب أبي حنيفة وزفر وأبي يوسف
ومحمد في شعر الرأس والشارب أن الإحفاء أفضل من التقصير عنه وإن كان
معه حلق بعض الشعر; قال: وقال ابن الهيثم عن مالك إحفاء الشارب عندي
مثلة قال مالك:
ـــــــ
1 قوله "المدرى" هو الشيء يعمل من حديد أو خشب على شكل سن من اسنان
المشط وأطول منه يسرح به الشعر المتبدل ويحك به الرأس كذا في النهاية.
(1/81)
وتفسير
حديث النبي صلى الله عليه وسلم في إحفاء الشارب الإطار، وكان يكره أن
يؤخذ من أعلاه، وإنما كان يوسع في الإطار منه فقط وذكر عنه أشهب قال:
وسألت مالكا عمن أحفى شاربه قال: أرى أن يوجع ضربا، ليس حديث النبي صلى
الله عليه وسلم في الإحفاء كان يقول ليس يبدي 1 حرف الشفتين الإطار ثم
قال: لم يحلق شاربه، هذه بدع تظهر في الناس، كان عمر إذا حزبه أمر نفخ
فجعل يفتل شاربه. وسئل الأوزاعي عن الرجل يحلق رأسه، فقال: أما في
الحضر لا يعرف إلا في يوم النحر، وهو في العرف وكان عبدة بن أبي لبابة
يذكر فيه فضلا عظيما. وقال الليث: لا أحب أن يحلق أحد شاربه حتى يبدو
الجلد، وأكرهه; ولكن يقص الذي على طرف الشارب، وأكره أن يكون طويل
الشارب وقال إسحاق بن أبي إسرائيل: سألت عبد المجيد بن عبد العزيز بن
أبي رواد عن حلق الرأس فقال: أما بمكة فلا بأس به; لأنه بلد الحلق،
وأما في غيره من البلدان فلا.
قال أبو جعفر: ولم نجد في ذلك عن الشافعي شيئا منصوصا; وأصحابه الذين
رأيناهم: المزني والربيع، كانا يحفيان شواربهما، فدل على أنهما أخذا
ذلك عن الشافعي.
وقد روت عائشة وأبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: "الفطرة عشرة"،
منها قص الشارب. وروى المغيرة بن شعبة: "أن النبي صلى الله عليه وسلم
أخذ من شواربه على سواك". وهذا جائز مباح، وإن كان غيره أفضل، وجائز أن
يكون فعله لعدم آلة الإحفاء في الوقت، وروى عكرمة عن ابن عباس قال: كان
رسول الله صلى الله عليه وسلم يجز شاربه; وهذا يحتمل الإحفاء، وروى عبد
الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
"أحفوا الشارب وأعفوا اللحى". وروى العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن
أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "جزوا الشوارب وأرخوا
اللحى" وهذا يحتمل الإحفاء أيضا وروى عمر بن سلمة عن أبيه عن أبي هريرة
عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أحفوا الشوارب وأعفوا اللحى" وهذا
يدل على أن مراده بالخبر الأول الإحفاء، والإحفاء يقتضي ظهور الجلد
بإزالة الشعر، كما يقال رجل حاف، إذا لم يكن في رجله شيء ويقال حفيت
رجله وحفيت الدابة; إذا أصاب أسفل رجلها وهن من الحفاء قال: وروي عن
أبي سعيد الخدري وأبي أسيد ورافع بن خديج وسهل بن سعد وعبد الله بن عمر
وجابر بن عبد الله وأبي هريرة أنهم كانوا يحفون شواربهم وقال إبراهيم
بن محمد بن خطاب: رأيت ابن عمر يحلق شاربه كأنه ينتفه. وقال بعضهم: حتى
يرى بياض الجلد.
ـــــــ
1 قوله "ليس بيدي" هكذا في جميع النسخ التي بأيدينا لكن الصواب حذف
"ليس" وهو صريح كلام القرطبي في نقله كلام الإمام مالك "لمصححه".
(1/82)
قال أبو
بكر: ولما كان التقصير مسنونا في الشارب عند الجميع كان الحلق أفضل;
قال النبي عليه السلام: "رحم الله المحلقين" ثلاثا; ودعا للمقصرين مرة،
فجعل حلق الرأس أفضل من التقصير، وما احتج به مالك أن عمر كان يفتل
شاربه إذا غضب فجائز أن يكون كان يتركه حتى يمكن فتله ثم يحلقه كما ترى
كثيرا من الناس يفعله.
وقوله تعالى: {إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً} فإن الإمام من
يؤتم به في أمور الدين من طريق النبوة، وكذلك سائر الأنبياء أئمة عليهم
السلام لما ألزم الله تعالى الناس من اتباعهم والائتمام بهم في أمور
دينهم; فالخلفاء أئمة; لأنهم رتبوا في المحل الذي يلزم الناس اتباعهم
وقبول قولهم وأحكامهم، والقضاة والفقهاء أئمة أيضا، ولهذا المعنى الذي
يصلي بالناس يسمى إماما; لأن من دخل في صلاته لزمه الاتباع له
والائتمام به. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إنما جعل الإمام إماما
ليؤتم به; فإذا ركع فاركعوا، وإذا سجد فاسجدوا" وقال: "لا تختلفوا على
إمامكم" فثبت بذلك أن اسم الإمامة مستحق لمن يلزم اتباعه والاقتداء به
في أمور الدين أو في شيء منها وقد يسمى بذلك من يؤتم به في الباطل، إلا
أن الإطلاق لا يتناوله، قال الله تعالى: {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً
يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ} [القصص: 41] فسموا أئمة; لأنهم أنزلوهم
بمنزلة من يقتدى بهم في أمور الدين وإن لم يكونوا أئمة يجب الاقتداء
بهم كما قال الله تعالى: {فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي
يَدْعُونَ} [هود: 101] وقال: {وَانْظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ
عَلَيْهِ عَاكِفاً} [طه: 97] يعني في زعمك واعتقادك وقال النبي عليه
السلام: "أخوف ما أخاف على أمتي أئمة مضلون" والإطلاق إنما يتناول من
يجب الائتمام به في دين الله تعالى وفي الحق والهدى. ألا ترى أن قوله
تعالى: {إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً} قد أفاد ذلك من غير
تقييد، وأنه لما ذكر أئمة الضلال قيده بقوله: {يَدْعُونَ إِلَى
النَّارِ} [البقرة: 221].
وإذا ثبت أن اسم الإمامة يتناول ما ذكرناه، فالأنبياء عليهم السلام في
أعلى رتبة الإمامة، ثم الخلفاء الراشدون بعد ذلك، ثم العلماء والقضاة
العدول ومن ألزم الله تعالى الاقتداء بهم، ثم الإمامة في الصلاة
ونحوها، فأخبر الله تعالى في هذه الآية عن إبراهيم عليه السلام أنه
جاعله للناس إماما وأن إبراهيم سأله أن يجعل من ولده أئمة بقوله:
{وَمِنْ ذُرِّيَّتِي} لأنه عطف على الأول فكان بمنزلة واجعل من ذريتي
أئمة. ويحتمل أن يريد بقوله: {وَمِنْ ذُرِّيَّتِي} مسألته تعريفه هل
يكون من ذريتي أئمة؟ فقال تعالى في جوابه: {لا يَنَالُ عَهْدِي
الظَّالِمِينَ} فحوى ذلك معنيين أنه سيجعل من ذريته أئمة إما على وجه
تعريفه ما سأله أن يعرفه إياه، وإما على وجه إجابته إلى ما سأل لذريته
إذا كان قوله: {وَمِنْ ذُرِّيَّتِي} مسألته أن يجعل من ذريته أئمة،
وجائز أن يكون أراد الأمرين جميعا،
(1/83)
وهو
مسألته أن يجعل من ذريته أئمة وأن يعرفه ذلك، وأنه إجابة إلى مسألته;
لأنه لو لم يكن منه إجابة إلى مسألته لقال: ليس في ذريتك أئمة وقال: لا
ينال عهدي من ذريتك أحد فلما قال: {لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ}
دل على أن الإجابة قد وقعت له في أن في ذريته أئمة، ثم قال: {لا
يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} فأخبر أن الظالمين من ذريته لا يكونون
أئمة ولا يجعلهم موضع الاقتداء بهم وقد روي عن السدي في قوله تعالى:
{لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} أنه النبوة. وعن مجاهد: أنه أراد
أن الظالم لا يكون إماما، وعن ابن عباس أنه قال: لا يلزم الوفاء بعهد
الظالم، فإذا عقد عليك في ظلم فانقضه. وقال الحسن: ليس لهم عند الله
عهد يعطيهم عليه خيرا في الآخرة.
قال أبو بكر: جميع ما روي من هذه المعاني يحتمله اللفظ، وجائز أن يكون
جميعه مرادا لله تعالى، وهو محمول على ذلك عندنا، فلا يجوز أن يكون
الظالم نبيا ولا خليفة لنبي ولا قاضيا، ولا من يلزم الناس قبول قوله في
أمور الدين من مفت أو شاهد أو مخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم خبرا
فقد أفادت الآية أن شرط جميع من كان في محل الائتمام به في أمر الدين
العدالة والصلاح، وهذا يدل أيضا على أن أئمة الصلاة ينبغي أن يكونوا
صالحين غير فساق ولا ظالمين لدلالة الآية على شرط العدالة لمن نصب منصب
الائتمام به في أمور الدين; لأن عهد الله هو أوامره، فلم يجعل قبوله عن
الظالمين منهم وهو ما أودعهم من أمور دينه وأجاز قولهم فيه وأمر الناس
بقبوله منهم والاقتداء بهم فيه. ألا ترى إلى قوله تعالى: {أَلَمْ
أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ
إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ} يعني أقدم إليكم الأمر به; وقال
تعالى: {الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا} ومنه عهد
الخلفاء إلى أمرائهم وقضاتهم إنما هو ما يتقدم به إليهم ليحملوا الناس
عليه ويحكموا به فيهم وذلك لأن عهد الله إذا كان إنما هو أوامره لم يخل
قوله: {لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} من أن يريد أن الظالمين غير
مأمورين أو أن الظالمين لا يجوز أن يكونوا بمحل من يقبل منهم أوامر
الله تعالى وأحكامه ولا يؤمنون عليها; فلما بطل الوجه الأول لاتفاق
المسلمين على أن أوامر الله تعالى لازمة للظالمين كلزومها لغيرهم وأنهم
إنما استحقوا سمة الظلم لتركهم أوامر الله، ثبت الوجه الآخر وهو أنهم
غير مؤتمنين على أوامر الله تعالى وغير مقتدى بهم فيها، فلا يكونون
أئمة في الدين، فثبت بدلالة هذه الآية بطلان إمامة الفاسق وأنه لا يكون
خليفة، وأن من نصب نفسه في هذا المنصب وهو فاسق لم يلزم الناس اتباعه
ولا طاعته. وكذلك قال النبي عليه السلام: "لا طاعة لمخلوق في معصية
الخالق". ودل أيضا على أن الفاسق لا يكون حاكما، وأن أحكامه لا تنفذ
إذا ولي الحكم، وكذلك لا تقبل شهادته ولا خبره إذا أخبر عن النبي صلى
الله عليه وسلم،
(1/84)
ولا فتياه
إذا كان مفتيا، وأنه لا يقدم للصلاة، وإن كان لو قدم واقتدى به مقتد
كانت صلاته ماضية فقد حوى قوله: {لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ}
هذه المعاني كلها.
ومن الناس من يظن أن مذهب أبي حنيفة تجويز إمامة الفاسق وخلافته وأنه
يفرق بينه وبين الحاكم فلا يجيز حكمه، وذكر ذلك عن بعض المتكلمين وهو
المسمى زرقان وقد كذب في ذلك وقال بالباطل، وليس هو أيضا ممن تقبل
حكايته ولا فرق عند أبي حنيفة بين القاضي وبين الخليفة في أن شرط كل
واحد منهما العدالة، وأن الفاسق لا يكون خليفة ولا يكون حاكما; كما لا
تقبل شهادته ولا خبره لو روى خبرا عن النبي عليه السلام وكيف يكون
خليفة وروايته غير مقبولة وأحكامه غير نافذة وكيف يجوز أن يدعى ذلك على
أبي حنيفة وقد أكرهه ابن هبيرة في أيام بني أمية على القضاء وضربه
فامتنع من ذلك وحبس فلج ابن هبيرة وجعل يضربه كل يوم أسواطا. فلما خيف
عليه قال له الفقهاء: فتول شيئا من أعماله أي شيء كان حتى يزول عنك هذا
الضرب فتولى له عد أحمال التبن الذي يدخل، فخلاه، ثم دعاه المنصور إلى
مثل ذلك فأبى، فحبسه حتى عد له اللبن الذي كان يضرب لسور مدينة بغداد.
وكان مذهبه مشهورا في قتال الظلمة وأئمة الجور، ولذلك قال الأوزاعي:
احتملنا أبا حنيفة على كل شيء حتى جاءنا بالسيف يعني قتال الظلمة فلم
نحتمله، وكان من قوله: وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فرض
بالقول، فإن لم يؤتمر له فبالسيف، على ما روي عن النبي صلى الله عليه
وسلم. وسأله إبراهيم الصائغ وكان من فقهاء أهل خراسان ورواة الأخبار
ونساكهم عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فقال: هو فرض وحدثه بحديث
عن عكرمة عن ابن عباس، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أفضل الشهداء
حمزة بن عبد المطلب، ورجل قام إلى إمام جائر فأمره بالمعروف ونهاه عن
المنكر فقتل". فرجع إبراهيم إلى مرو وقام إلى أبي مسلم صاحب الدولة
فأمره ونهاه وأنكر عليه ظلمه وسفكه الدماء بغير حق، فاحتمله مرارا ثم
قتله. وقضيته في أمر زيد بن علي مشهورة وفي حمله المال إليه وفتياه
الناس سرا في وجوب نصرته والقتال معه وكذلك أمره مع محمد وإبراهيم ابني
عبد الله بن حسن، وقال لأبي إسحاق الفزاري حين قال له: لم أشرت على أخي
بالخروج مع إبراهيم حتى قتل؟ قال: مخرج أخيك أحب إلي من مخرجك. وكان
أبو إسحاق قد خرج إلى البصرة، وهذا إنما أنكره عليه أغمار أصحاب الحديث
الذين بهم فقد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حتى تغلب الظالمون على
أمور الإسلام، فمن كان هذا مذهبه في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
كيف يرى إمامة الفاسق؟ فإنما جاء غلط من غلط في ذلك، إن لم يكن تعمد
الكذب من جهة قوله وقول سائر من يعرف قوله
(1/85)
من
العراقيين، أن القاضي إذا كان عدلا في نفسه فولي القضاء من قبل إمام
جائر أن أحكامه نافذة وقضاياه صحيحة وأن الصلاة خلفهم جائزة مع كونهم
فساقا وظلمة، وهذا مذهب صحيح ولا دلالة فيه على أن من مذهبه إمامة
الفاسق، وذلك لأن القاضي إذا كان عدلا فإنما يكون قاضيا بأن يمكنه
تنفيذ الأحكام وكانت له يد وقدرة على من امتنع من قبول أحكامه حتى
يجبره عليها، ولا اعتبار في ذلك بمن ولاه; لأن الذي ولاه إنما هو
بمنزلة سائر أعوانه. وليس شرط أعوان القاضي أن يكونوا عدولا; ألا ترى
أن أهل بلد لا سلطان عليهم لو اجتمعوا على الرضا بتولية رجل عدل منهم
القضاء حتى يكونوا أعوانا له على من امتنع من قبول أحكامه لكان قضاؤه
نافذا وإن لم يكن له ولاية من جهة إمام ولا سلطان؟ وعلى هذا تولى شريح
وقضاة التابعين القضاء من قبل بني أمية، وقد كان شريح قاضيا بالكوفة
إلى أيام الحجاج، ولم يكن في العرب ولا آل مروان أظلم ولا أكفر ولا
أفجر من عبد الملك، ولم يكن في عماله أكفر ولا أظلم ولا أفجر من الحجاج
وكان عبد الملك أول من قطع ألسنة الناس في الأمر بالمعروف والنهي عن
المنكر، صعد المنبر فقال: إني والله ما أنا بالخليفة المستضعف يعني
عثمان ولا بالخليفة المصانع يعني معاوية وإنكم تأمروننا بأشياء تنسونها
في أنفسكم; والله لا يأمرني أحد بعد مقامي هذا بتقوى الله إلا ضربت
عنقه وكانوا يأخذون الأرزاق من بيوت أموالهم وقد كان المختار الكذاب
يبعث إلى ابن عباس ومحمد ابن الحنفية وابن عمر بأموال، فيقبلونها، وذكر
محمد بن عجلان عن القعقاع قال: كتب عبد العزيز بن مروان إلى ابن عمر
ارفع إلي حوائجك فكتب إليه: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن
اليد العليا خير من اليد السفلى" وأحسب أن اليد العليا يد المعطي وأن
اليد السفلى يد الآخذ، وإني لست سائلك شيئا ولا رادا عليك رزقا رزقنيه
الله منك، والسلام.
وقد كان الحسن وسعيد بن جبير والشعبي وسائر التابعين يأخذون أرزاقهم من
أيدي هؤلاء الظلمة، لا على أنهم كانوا يتولونهم ولا يرون إمامتهم،
وإنما كانوا يأخذونها على أنها حقوق لهم في أيدي قوم فجرة. وكيف يكون
ذلك على وجه موالاتهم وقد ضربوا وجه الحجاج بالسيف، وخرج عليه من
القراء أربعة آلاف رجل هم خيار التابعين وفقهاؤهم فقاتلوه مع عبد
الرحمن بن محمد بن الأشعث بالأهواز ثم بالبصرة ثم بدير الجماجم من
ناحية الفرات بقرب الكوفة وهم خالعون لعبد الملك بن مروان لاعنون لهم
متبرئون منهم وكذلك كان سبيل من قبلهم مع معاوية حين تغلب على الأمر
بعد قتل علي عليه السلام وقد كان الحسن والحسين يأخذان العطاء وكذلك من
كان في ذلك العصر من الصحابة وهم غير متولين له بل متبرئون منه على
السبيل التي كان عليها علي
(1/86)
عليه
السلام إلى أن توفاه الله تعالى إلى جنته ورضوانه. فليس إذا في ولاية
القضاء من قبلهم ولا أخذ العطاء منهم دلالة على توليتهم واعتقاد
إمامتهم.
وربما احتج بعض أغبياء الرفضة بقوله تعالى: {لا يَنَالُ عَهْدِي
الظَّالِمِينَ} في رد إمامة أبي بكر رضي الله عنه وعمر رضي الله عنه;
لأنهما كانا ظالمين حين كانا مشركين في الجاهلية وهذا جهل مفرط; لأن
هذه السمة إنما تلحق من كان مقيما على الظلم، فأما التائب منه فهذه
السمة زائلة عنه، فلا جائز أن يتعلق به حكم; لأن الحكم إذا كان معلقا
بصفة فزالت الصفة زال الحكم، وصفة الظلم صفة ذم، فإنما يلحقه ما دام
مقيما عليه، فإذا زال عنه زالت الصفة عنه; كذلك يزول عنه الحكم الذي
علق به من نفي نيل العهد في قوله تعالى: {لا يَنَالُ عَهْدِي
الظَّالِمِينَ} ألا ترى أن قوله تعالى: {وَلا تَرْكَنُوا إِلَى
الَّذِينَ ظَلَمُوا} [هود: 113] إنما هو نهي عن الركون إليهم ما أقاموا
على الظلم؟ وكذلك قوله تعالى: {مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ}
[التوبة: 91] إنما هو ما أقاموا على الإحسان فقوله: {لا يَنَالُ
عَهْدِي الظَّالِمِينَ} لم ينف به العهد عمن تاب عن ظلمه; لأنه في هذه
الحالة لا يسمى ظالما كما لا يسمى موسوما من تاب من الكفر كافرا. ومن
تاب من الفسق فاسقا، وإنما يقال: كان كافرا، وكان فاسقا، وكان ظالما;
والله تعالى لم يقل: لا ينال عهدي من كان ظالما وإنما نفى ذلك عمن كان
موسوما بسمة الظالم، والاسم لازم له باق عليه. قوله تعالى: {وَإِذْ
جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْناً} أما البيت فإنه
يريد بيت الله الحرام، واكتفى بذكر البيت مطلقا لدخول الألف واللام
عليه; إذ كانا يدخلان لتعريف المعهود أو الجنس، وقد علم المخاطبون أنه
لم يرد الجنس، فانصرف إلى المعهود عندهم وهو الكعبة، وقوله: {مَثَابَةً
لِلنَّاسِ} روي عن الحسن أن معناه أنهم يثوبون إليه في كل عام. وعن ابن
عباس ومجاهد: أنه لا ينصرف عنه أحد وهو يرى أنه قد قضى وطرا منه، فهم
يعودون إليه، وقيل فيه: إنهم يحجون إليه فيثابون عليه.
قال أبو بكر: قال أهل اللغة: أصله من ثاب يثوب مثابة وثوابا: إذا رجع;
قال بعضهم: إنما أدخل الهاء عليه للمبالغة لما كثر من يثوب إليه، كما
يقال: نسابة وعلامة وسيارة وقال الفراء: هو كما قيل المقامة والمقام.
وإذا كان اللفظ محتملا لما تأوله السلف من رجوع الناس إليه في كل عام،
ومن قول من قال إنه لا ينصرف عنه أحد إلا وهو يحب العود إليه ومن أنهم
يحجون إليه فيثابون; فجائز أن يكون المراد ذلك كله. ويشهد لقول من قال
إنهم يحبون العود إليه بعد الانصراف قوله تعالى: {فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً
مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ} [إبراهيم: 37] وقد نص هذا اللفظ على
فعل الطواف; إذ كان البيت
(1/87)
مقصودا
ومثابة للطواف ولا دلالة فيه على وجوبه، وإنما يدل على أنه يستحق
الثواب بفعله.
وربما احتج موجبو العمرة بهذه الآية، فقالوا: إذا كان الله تعالى قد
جعله مثابة للناس يعودون إليه مرة بعد أخرى فقد اقتضى العود إليه
للعمرة بعد الحج.
وليس هذا بشيء; لأنه ليس في اللفظ دليل الإيجاب، وإنما فيه أنه جعل لهم
العود إليه ووعدهم الثواب عليه، وهذا إنما يقتضي الندب لا الإيجاب; ألا
ترى أن القائل: لك أن تعتمر ولك أن تصلي، لا دلالة فيه على الوجوب وعلى
أنه لم يخصص العود إليه بالعمرة دون الحج؟ ومع ذلك فإن الحج فيه طواف
القدوم وطواف الزيارة وطواف الصدر، ويحصل بذلك كله العود إليه مرة بعد
أخرى، فإذا فعل ذلك فقد قضى عهدة اللفظ. فلا دلالة فيه إذا على وجوب
العمرة.
وأما قوله تعالى: {وَأَمْناً} فإنه وصف البيت بالأمن، والمراد جميع
الحرم كما قال الله تعالى: {هَدْياً بَالِغَ الْكَعْبَةِ} [المائدة:
95] والمراد الحرم لا الكعبة نفسها; لأنه لا يذبح في الكعبة ولا في
المسجد; وكقوله: {وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ
لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ} [الحج: 25] قال ابن
عباس: "وذلك أن الحرم كله مسجد". وكقوله تعالى: {إِنَّمَا
الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ
عَامِهِمْ هَذَا} [التوبة: 28] والمراد والله أعلم منعهم من الحج
وحضورهم مواضع النسك، ألا ترى إلى قوله عليه السلام حين بعث بالبراءة
مع علي رضي الله عنه: "وأن لا يحج بعد العام مشرك" منبئا عن مراد
الآية؟ وقوله تعالى في آية أخرى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا
حَرَماً آمِناً} [العنكبوت: 67] وقال حاكيا عن إبراهيم عليه السلام:
{رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَداً آمِناً} يدل ذلك على أن وصفه البيت
بالأمن اقتضى جميع الحرم; ولأن حرمة الحرم لما كانت متعلقة بالبيت جاز
أن يعبر عنه باسم البيت لوقوع الأمن به وحظر القتال والقتل فيه; وكذلك
حرمة الأشهر الحرم متعلقة بالبيت، فكان أمنهم فيها لأجل الحج وهو معقود
بالبيت.
وقوله: {وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْناً}
إنما هو حكم منه بذلك لا خبر. وكذلك قوله تعالى: {رَبِّ اجْعَلْ هَذَا
بَلَداً آمِناً} {وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِناً} [آل عمران: 97] كل هذا
من طريق الحكم، لا على وجه الإخبار بأن من دخله لم يلحقه سوء; لأنه لو
كان خبرا لوجد مخبره على ما أخبر به; لأن أخبار الله تعالى لا بد من
وجودها على ما أخبر به، وقد قال في موضع آخر: {وَلا تُقَاتِلُوهُمْ
عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ
قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ} [البقرة: 191] فأخبر بوقوع القتل فيه;
فدل أن الأمر المذكور
(1/88)
إنما هو
من قبل حكم الله تعالى بالأمن فيه وأن لا يقتل العائذ به واللاجئ إليه.
وكذلك كان حكم الحرم منذ عهد إبراهيم عليه السلام إلى يومنا هذا.
وقد كانت العرب في الجاهلية تعتقد ذلك للحرم وتستعظم القتل فيه على ما
كان بقي في أيديهم من شريعة إبراهيم عليه السلام; حدثنا محمد بن بكر
قال: حدثنا أبو داود قال: حدثنا أحمد بن حنبل قال: حدثنا الوليد بن
مسلم قال: حدثنا الأوزاعي قال: حدثنا يحيى، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة
قال: لما فتح الله على رسوله صلى الله عليه وسلم مكة قام رسول الله صلى
الله عليه وسلم فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: "إن الله حبس عن مكة
الفيل وسلط عليها رسوله والمؤمنين، وإنما أحلت لي ساعة من نهار ثم هي
حرام إلى يوم القيامة، لا يعضد شجرها ولا ينفر صيدها ولا تحل لقطتها
إلا لمنشدها" فقال العباس: يا رسول الله إلا الإذخر فإنه لقبورنا
وبيوتنا. فقال صلى الله عليه وسلم: "إلا الإذخر".
حدثنا محمد بن بكر قال: حدثنا أبو داود قال: حدثنا عثمان بن أبي شيبة
قال: حدثنا جرير، عن منصور، عن مجاهد وطاوس، عن ابن عباس في هذه القصة:
ولا يختلى خلاها. وقال: "إن الله حرم مكة يوم خلق السموات والأرض، لم
تحل لأحد قبلي ولم تحل لي إلا ساعة من نهار".
وروى ابن أبي ذئب عن سعيد المقبري عن أبي شريح الكعبي قال: قال رسول
الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله تعالى حرم مكة ولم يحرمها الناس،
فلا يسفكن فيها دم وإن الله أحلها لي ساعة من نهار ولم يحلها للناس".
وأخبر النبي عليه السلام أن الله حرمها يوم خلق السموات والأرض وحظر
فيها سفك الدماء، وأن حرمتها باقية إلى يوم القيامة. وأخبر أن من
تحريمها تحريم صيدها وقطع الشجر والخلا.
فإن قال قائل: ما وجه استثنائه الإذخر من الحظر عند مسألة العباس وقد
أطلق قبل ذلك حظر الجميع ومعلوم أن النسخ قبل التمكين من الفعل لا
يجوز؟ قيل له: يجوز أن يكون الله تعالى خير نبيه عليه السلام في إباحة
الإذخر وحظره عند سؤال من يسأله إباحته، كما قال تعالى: {فَإِذَا
اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ}
[النور: 62] فخيره في الإذن عند المسألة ومع ما حرمد الله تعالى من
حرمتها بالنص والتوقيف، فإن من آياتها ودلالاتها على توحيد الله تعالى
واختصاصه لها ما يوجب تعظيمها ما يشاهد فيها من أمن الصيد فيها وذلك أن
سائر بقاع الحرم مشبهة لبقاع الأرض ويجتمع فيها الظبي والكلب فلا يهيج
الكلب الصيد ولا ينفر منه، حتى إذا خرجا من الحرم عدا الكلب عليه وعاد
هو إلى النفور والهرب وذلك دلالة على توحيد الله سبحانه وتعالى. وعلى
تفضيل إسماعيل عليه السلام وتعظيم شأنه، وقد روي عن جماعة من الصحابة
حظر صيد
(1/89)
الحرم
وشجره ووجوب الجزاء على قتله أو قطعه
قوله تعالى: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلّىً} يدل
على لزوم ركعتي الطواف، وذلك لأن قوله تعالى: {مَثَابَةً لِلنَّاسِ}
لما اقتضى فعل الطواف ثم عطف عليه قوله: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ
إِبْرَاهِيمَ مُصَلّىً} وهو أمر ظاهره الإيجاب، دل ذلك على أن الطواف
موجب للصلاة، وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم ما يدل على أنه أراد
به صلاة الطواف; وهو ما حدثنا محمد بن بكر قال: حدثنا أبو داود قال:
حدثنا عبد الله بن محمد النفيلي قال: حدثنا حاتم بن إسماعيل قال: حدثنا
جعفر بن محمد عن أبيه عن جابر وذكر حجة النبي صلى الله عليه وسلم إلى
قوله: "استلم النبي صلى الله عليه وسلم الركن فرمل ثلاثا ومشى أربعا ثم
تقدم إلى مقام إبراهيم فقرأ: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ
مُصَلّىً} فجعل المقام بينه وبين البيت وصلى ركعتين". فلما تلا عليه
السلام عند إرادته الصلاة خلف المقام: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ
إِبْرَاهِيمَ مُصَلّىً} دل على أن المراد بالآية فعل الصلاة بعد
الطواف، وظاهره أمر فهو على الوجوب.
وقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قد صلاهما عند البيت; وهو ما
حدثنا محمد بن بكر قال: حدثنا أبو داود قال: حدثنا عبد الله بن عمر
القواريري قال: حدثني يحيى بن سعيد قال: حدثنا السائب عن محمد المخزومي
قال: حدثني محمد بن عبد الله بن السائب عن أبيه، أنه كان يقود ابن عباس
فيقيمه عند الشقة الثالثة مما يلي الركن الذي يلي الحجر مما يلي الباب
فيقول ابن عباس: أثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي هاهنا
فيقوم فيصلي. فدلت هذه الآية على وجوب صلاة الطواف، ودل فعل النبي صلى
الله عليه وسلم لها تارة عند المقام وتارة عند غيره على أن فعلها عنده
ليس بواجب.
وروى عبد الرحمن القاري عن عمر أنه طاف بعد صلاة الصبح، ثم ركب وأناخ
بذي طوى، فصلى ركعتي طوافه. وعن ابن عباس أنه صلاها في الحطيم، وعن
الحسن وعطاء أنه إن لم يصل خلف المقام أجزأ.
وقد اختلف السلف في المراد بقوله تعالى {مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ} فقال
ابن عباس: "الحج كله مقام إبراهيم". وقال عطاء: مقام إبراهيم عرفة
والمزدلفة والجمار. وقال مجاهد: "الحرم كله مقام إبراهيم". وقال السدي:
مقام إبراهيم هو الحجر الذي كانت زوجة إسماعيل وضعته تحت قدم إبراهيم
حين غسلت رأسه، فوضع إبراهيم رجله عليه وهو راكب فغسلت شقه ثم رفعته من
تحته وقد غابت رجله في الحجر، فوضعته تحت الشق الآخر فغسلته فغابت رجله
أيضا فيه، فجعله الله من شعائره فقال: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ
إِبْرَاهِيمَ مُصَلّىً} وروي نحوه عن الحسن وقتادة والربيع بن أنس.
(1/90)
والأظهر
أن يكون هو المراد; لأن الحرم يسمى على الإطلاق مقام إبراهيم، وكذلك
سائر المواضع التي تأوله غيرهم عليها مما ذكرناه، ويدل على أنه هو
المراد ما روى حميد عن أنس قال: قال عمر: قلت يا رسول الله: لو اتخذت
من مقام إبراهيم مصلى فأنزل الله تعالى: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ
إِبْرَاهِيمَ مُصَلّىً} ثم صلى فدل على أن مراد الله تعالى بذكر المقام
هو الحجر. ويدل عليه أمره تعالى إيانا بفعل الصلاة، وليس للصلاة تعلق
بالحرم ولا سائر المواضع الذي تأوله عليها من ذكرنا قوله، وهذا المقام
دلالة على توحيد الله ونبوة إبراهيم; لأنه جعل للحجر رطوبة الطين حتى
دخلت قدمه فيه، وذلك لا يقدر عليه إلا الله; وهو مع ذلك معجزة لإبراهيم
عليه السلام فدل على نبوته.
وقد اختلف في المعنى المراد بقوله {مُصَلّىً} فقال فيه مجاهد: مدعى
وجعله من الصلاة; إذ هي الدعاء لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ} [الأحزاب: 56]. وقال الحسن: أراد به قبلة.
وقال قتادة والسدي: أمروا أن يصلوا عنده. وهذا هو الذي يقتضيه ظاهر
اللفظ; لأن لفظ الصلاة إذا أطلق تعقل منه الصلاة المفعولة بركوع وسجود،
ألا ترى أن مصلى المصر هو الموضع الذي يصلى فيه صلاة العيد؟ وقال النبي
عليه السلام لأسامة بن زيد: "المصلى أمامك" يعني به موضع الصلاة
المفعولة، وقد دل عليه أيضا فعل النبي صلى الله عليه وسلم بعد تلاوته
الآية. وأما قول من قال قبلة فذلك يرجع إلى معنى الصلاة; لأنه إنما
يجعله المصلي بينه وبين البيت فيكون قبلة له، وعلى أن الصلاة فيها
الدعاء، فحمله على الصلاة أولى; لأنها تنتظم سائر المعاني التي تأولوا
عليها الآية.
قوله تعالى: {وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ
طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ
السُّجُودِ} قال قتادة وعبيد بن عمير ومجاهد وسعيد بن جبير: طهرا من
الشرك وعبادة الأوثان التي كان عليها المشركون قبل أن يصير في يد
إبراهيم عليه السلام. وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه لما كان
فتح مكة دخل المسجد فوجدهم قد نصبوا على البيت الأوثان فأمر بكسرها
وجعل يطعن فيها بعود في يده ويقول: {جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ
الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً}. وقيل فيه: طهراه من فرث
ودم كان المشركون يطرحونه عنده وقال السدي: {طَهِّرَا بَيْتِيَ} :
ابنياه على الطهارة كما قال الله تعالى: {أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ
عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ} [التوبة: 109] الآية.
قال أبو بكر: وجميع ما ذكر يحتمله اللفظ غير منافيه، فيكون معناه:
"ابنياه على تقوى الله وطهراه مع ذلك من الفرث والدم ومن الأوثان أن
تجعل فيه أو تقربه".
وأما "الطائفين" فقد اختلف في مراد الآية منه، فروى جويبر عن الضحاك
قال:
(1/91)
{لِلطَّائِفِينَ} من جاء من الحجاج {وَالْعَاكِفِينَ} : أهل مكة وهم
القائمون. وروى عبد الملك عن عطاء قال: العاكفون: من انتابه من أهل
الأمصار والمجاورين. وروى أبو بكر الهذلي قال: إذا كان طائفا فهو من
الطائفين، وإذا كان جالسا فهو من العاكفين، وإذا كان مصليا فهو من
الركع السجود وروى ابن فضيل عن عطاء، عن سعيد، عن ابن عباس في قوله:
{طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ
السُّجُودِ} قال: الطواف قبل الصلاة.
قال أبو بكر: قول الضحاك: "من جاء من الحجاج فهو من الطائفين" راجع
أيضا إلى معنى الطواف بالبيت; لأن من يقصد البيت فإنما يقصده للطواف
به، إلا أنه قد خص به الغرباء، وليس في الآية دلالة التخصيص; لأن أهل
مكة والغرباء في فعل الطواف سواء.
فإن قيل: فإنما تأوله الضحاك على الطائف الذي هو طارئ كقوله تعالى:
{فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ} [القلم: 19] وقوله: {إِذَا
مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ} [الأعراف: 201] قيل له: إنه وإن
أراد ذلك فالطواف مراد لا محالة; لأن الطارئ إنما يقصده للطواف فجعله
هو خاصا في بعضهم دون بعض، وهذا لا دلالة له فيه، فالواجب إذا حمله على
فعل الطواف، فيكون قوله: {وَالْعَاكِفِينَ} من يعتكف فيه; وهذا يحتمل
وجهين: أحدهما: الاعتكاف المذكور في قوله: {وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي
الْمَسَاجِدِ} فخص البيت في هذا الموضع. والوجه الآخر: المقيمون بمكة
اللائذون به، إذا كان الاعتكاف هو اللبث، وقيل في العاكفين: المجاورون،
وقيل: أهل مكة، وذلك كله يرجع إلى معنى اللبث والإقامة في الموضع.
قال أبو بكر: وهو على قول من تأول قوله الطائفين على الغرباء يدل على
أن الطواف للغرباء أفضل من الصلاة; وذلك; لأن قوله ذلك قد أفاد لا
محالة الطواف للغرباء; إذ كانوا إنما يقصدونه للطواف، وأفاد جواز
الاعتكاف فيه بقوله {وَالْعَاكِفِينَ} وأفاد فعل الصلاة فيه أيضا
وبحضرته، فخص الغرباء بالطواف، فدل على أن فعل الطواف للغرباء أفضل من
فعل الصلاة والاعتكاف الذي هو لبث من غير طواف، وقد روي عن ابن عباس
ومجاهد وعطاء: أن الطواف لأهل الأمصار أفضل، والصلاة لأهل مكة أفضل;
فتضمنت الآية معاني، منها: فعل الطواف في البيت وهو قربة إلى الله
تعالى يستحق فاعله الثواب، وأنه للغرباء أفضل من الصلاة وفعل الاعتكاف
في البيت وبحضرته بقوله {وَالْعَاكِفِينَ}. وقد دل أيضا على جواز
الصلاة في البيت فرضا كانت أو نفلا; إذ لم تفرق الآية بين شيء منها،
وهو خلاف قول مالك في امتناعه من جواز فعل الصلاة المفروضة في البيت.
وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم "أنه صلى في البيت يوم فتح مكة"
فتلك الصلاة لا محالة كانت
(1/92)
تطوعا;
لأنه صلاها حين دخل ضحى ولم يكن وقت صلاة. وقد دل أيضا على جواز الجوار
بمكة; لأن قوله: {وَالْعَاكِفِينَ} يحتمله إذا كان اسما للبث، وقد يكون
ذلك من المجاز; على أن عطاء وغيره قد تأوله على المجاورين، ودل أيضا
على أن الطواف قبل الصلاة لما تأوله عليه ابن عباس على ما قدمناه.
فإن قيل: ليس في تقديم الطواف على الصلاة في اللفظ دلالة على الترتيب;
لأن الواو لا توجبه، قيل له: قد اقتضى اللفظ فعل الطواف والصلاة جميعا،
وإذا ثبت طواف مع صلاة فالطواف لا محالة مقدم عليها من وجهين: أحدهما:
فعل النبي صلى الله عليه وسلم والثاني: اتفاق أهل العلم على تقديمه
عليها.
فإن اعترض معترض على ما ذكرنا من دلالة الآية على جواز فعل الصلاة في
البيت، وزعم أنه لا دلالة في اللفظ عليه; لأنه لم يقل والركع السجود في
البيت وكما لم يدل على جواز فعل الطواف في جوف البيت وإنما دل على فعله
خارج البيت كذلك دلالته مقصورة على جواز فعل الصلاة إلى البيت متوجها
إليه قيل له: ظاهر قوله تعالى: {طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ
وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} قد اقتضى فعل ذلك في البيت
كما دل على جواز فعل الاعتكاف في البيت، وإنما خرج منه الطواف في كونه
مفعولا خارج البيت بدليل الاتفاق. ولأن الطواف بالبيت إنما هو بأن يطوف
حواليه خارجا منه; ولا يسمى طائفا بالبيت من طاف في جوفه; والله سبحانه
إنما أمرنا بالطواف به لا بالطواف فيه بقوله تعالى: {وَلْيَطَّوَّفُوا
بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج: 29] ومن صلى داخل البيت يتناوله
الإطلاق بفعل الصلاة فيه وأيضا لو كان المراد التوجه إليه لما كان لذكر
تطهير البيت للركع والسجود وجه; إذ كان حاضرو البيت والناءون عنه سواء
في الأمر بالتوجه إليه، ومعلوم أن تطهيره إنما هو لحاضريه، فدل على أنه
لم يرد به التوجه إليه دون فعل الصلاة فيه; ألا ترى أنه أمر بتطهير نفس
البيت للركع السجود وأنت متى حملته على الصلاة خارجا كان التطهير لما
حول البيت؟ وأيضا إذا كان اللفظ محتملا للأمرين فالواجب حمله عليهما،
فيكونان جميعا مرادين، فيجوز في البيت وخارجه.
فإن قيل: كما قال الله تعالى: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ
الْعَتِيقِ} [الحج: 29] كذلك قال: {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ
الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ
شَطْرَهُ} [البقرة: 144] وذلك يقتضي فعلها خارج البيت فيكون متوجها إلى
شطره، قيل له: لو حملت اللفظ على حقيقته فعلى قضيتك أنه لا تجوز الصلاة
في المسجد الحرام; لأنه قال: {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ
الْحَرَامِ} [البقرة: 144] ومتى كان فيه فعلى قولك لا يكون متوجها
إليه.
(1/93)
فإن قال:
أراد بالمسجد الحرام البيت نفسه، لاتفاق الجميع على أن التوجه إلى
المسجد الحرام لا يوجب جواز الصلاة إذا لم يكن متوجها إلى البيت. قيل
له: فمن كان في جوف البيت هو متوجه شطر البيت; لأن شطره ناحيته، ولا
محالة أن من كان فيه فهو متوجه إلى ناحيته; ألا ترى أن من كان خارج
البيت فتوجه إليه فإنما يتوجه إلى ناحية منه دون جميعه. وكذلك من كان
في البيت فهو متوجه شطره، ففعله مطابق لظاهر الآيتين جميعا من قوله
تعالى: {طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ
وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} وقوله تعالى: {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ
الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [البقرة: 144] إذ من كان في البيت فهو متوجه
إلى ناحية من البيت ومن المسجد جميعا.
قال أبو بكر: والذي تضمنته الآية من الطواف عام في سائر ما يطاف من
الفرض والواجب والندب; لأن الطواف عندنا على هذه الأنحاء الثلاثة،
فالفرض هو طواف الزيارة بقوله تعالى: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ
الْعَتِيقِ} [الحج: 29] والواجب هو طواف الصدر، ووجوبه مأخوذ من السنة
بقوله عليه السلام: "من حج البيت فليكن آخر عهده بالبيت الطواف"
والمسنون والمندوب إليه وليس بواجب طواف القدوم للحج فعله النبي صلى
الله عليه وسلم حين قدم مكة حاجا، فأما طواف الزيارة فإنه لا ينوب عنه
شيء، يبقى الحاج محرما من النساء حتى يطوفه، وأما طواف الصدر فإن تركه
يوجب دما إذا رجع الحاج إلى أهله ولم يطفه، وأما طواف القدوم فإن تركه
لا يوجب شيئا; والله تعالى أعلم بالصواب.
(1/94)
باب ذكر صفة الطواف
قال أبو بكر رحمه الله تعالى: كل طواف بعده سعي ففيه رمل في الثلاثة
الأشواط الأول، وكل طواف ليس بعده سعي بين الصفا والمروة فلا رمل فيه،
فالأول مثل طواف القدوم إذا أراد السعي بعده، وطواف الزيارة إذا لم يسع
بين الصفا والمروة حين قدم، فإن كان قد سعى حين قدم عقيب طواف القدوم
فلا رمل فيه وطواف العمرة فيه رمل; لأن بعده سعيا بين الصفا والمروة
وقد رمل النبي صلى الله عليه وسلم حين قدم مكة حاجا. رواه جابر بن عبد
الله وابن عباس في رواية عطاء عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم. وكذلك
روى ابن عمر: "أن النبي صلى الله عليه وسلم رمل في الثلاثة الأشواط من
الحجر إلى الحجر". وروي نحو ذلك عن عمر وابن مسعود وابن عمر من قولهم
مثل ذلك، وروى أبو الطفيل عن ابن عباس: "أن النبي رمل من الركن اليماني
ثم مشى إلى الركن الأسود". وكذلك رواه أنس بن مالك عن النبي صلى الله
عليه وسلم. والنظر يدل على ما رواه الأولون من قبل اتفاق الأولين جميعا
على تساوي الأربع الأواخر في المشي فيهن، كذلك يجب أن يستوي الثلاث
الأول في الرمل فيهن في جميع الجوانب;
(1/94)
إذ ليس في
الأصول اختلاف حكم جوانبه في المشي ولا الرمل في سائر أحكام الطواف.
وقد اختلف السلف في بقاء سنة الرمل، فقال قائلون: إنما كان ذلك سنة حين
فعله النبي صلى الله عليه وسلم مرائيا 1 به للمشركين إظهارا للتجلد
والقوة في عمرة القضاء; لأنهم قالوا: قد أوهنتهم حمى يثرب; فأمرهم
بإظهار الجلد لئلا يطمع فيهم. وقال زيد بن أسلم عن أبيه قال: سمعت عمر
بن الخطاب يقول: فيم الرملان الآن والكشف عن المناكب وقد أظهر الله
الإسلام ونفى الكفر وأهله؟ ومع ذلك لا ندع شيئا كنا نفعله مع رسول الله
صلى الله عليه وسلم. وقال أبو الطفيل: قلت لابن عباس: إن قومك يزعمون
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رمل بالبيت وأنه سنة، قال: صدقوا
وكذبوا، قد رمل رسول الله صلى الله عليه وسلم وليس بسنة.
قال أبو بكر: ومذهب أصحابنا أنه سنة ثابتة لا ينبغي تركها، وإن كان
النبي عليه السلام أمر به بديا لإظهار الجلد والقوة مراءاة للمشركين;
لأنه قد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم رمل في حجة الوداع ولم يكن
هناك مشركون; وقد فعله أبو بكر وعمر وابن مسعود وابن عمر وغيرهم; فثبت
بقاء حكمه وليس تعلقه بديا بالسبب المذكور مما يوجب زوال حكمه حيث زال
السبب. ألا ترى أنه قد روي أن سبب رمي الجمار أن إبليس لعنه الله عرض
لإبراهيم عليه السلام بموضع الجمار فرماه، ثم صار الرمي سنة باقية مع
عدم ذلك السبب؟ وروي أن سبب السعي بين الصفا والمروة أن أم إسماعيل
عليه السلام صعدت الصفا تطلب الماء ثم نزلت فأسرعت المشي في بطن الوادي
لغيبة الصبي عن عينها، ثم لما صعدت من الوادي رأت الصبي فمشت على
هينتها وصعدت المروة تطلب الماء، فعلت ذلك سبع مرات، فصار السعي بينهما
سنة، وإسراع المشي في الوادي سنة مع زوال السبب الذي فعل من أجله،
فكذلك الرمل في الطواف.
وقال أصحابنا: يستلم الركن الأسود واليماني دون غيرهما. وقد روي ذلك عن
ابن عمر عن النبي عليه السلام وروي أيضا عن ابن عباس عنه، وقال ابن عمر
حين أخبر بقول عائشة إن الحجر بعضه من البيت: إني لأظن النبي صلى الله
عليه وسلم لم يترك استلامهما إلا أنهما ليسا على قواعد البيت ولا طاف
الناس من وراء الحجر إلا لذلك. وقال يعلى بن أمية: طفت مع عمر بن
الخطاب، فلما كنت عند الركن الذي يلي الحجر أخذت أستلمه فقال: ما طفت
مع رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قلت: بلى قال فرأيته يستلمه؟ قلت: لا
قال: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ}
[الأحزاب: 21].
ـــــــ
1 قوله "مرائيا به" هو من الرؤية، قال في النهاية: جاء في حديث: "رمل
الطواف إنما كنا رأينا به المشركين" هو فاعلنا من الرؤية، أي بذلك إنا
أقوياء. انتهى.
(1/95)
قوله
تعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَداً
آمِناً} الآية; يحتمل وجهين: أحدهما: معنى "مأمون فيه" كقوله تعالى:
{فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ} [الحاقة: 21] يعني مرضية. والثاني: أن يكون
المراد أهل البلد كقوله تعالى: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} [يوسف: 82]
معناه: أهلها; وهو مجاز; لأن الأمن والخوف لا يلحقان البلد وإنما
يلحقان من فيه.
وقد اختلف في الأمن المسئول في هذه الآية، فقال قائلون: سأل الأمن من
القحط والجدب; لأنه أسكن أهله بواد غير ذي زرع ولا ضرع، ولم يسأله
الأمن من الخسف والقذف; لأنه كان آمنا من ذلك قبل، وقد قيل: إنه سأل
الأمرين جميعا.
قال أبو بكر: هو كقوله تعالى: {مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْناً}. وقوله:
{وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِناً} [آل عمران: 67]. وقوله: {وَإِذْ قَالَ
إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَداً آمِناً} والمراد والله أعلم
بذلك الأمن من القتل، وذلك أنه قد سأله مع رزقهم من الثمرات: {رَبِّ
اجْعَلْ هَذَا بَلَداً آمِناً وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ}
وقال عقيب مسألة الأمن في قوله تعالى: {رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ
آمِناً وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ} [إبراهيم:
35]، ثم قال في سياق القصة: {رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ
ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ}
إلى قوله: {وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ} [إبراهيم: 37] فذكر مع
مسألته الأمن وأن يرزقهم من الثمرات، فالأولى حمل معنى مسألة الأمن على
فائدة جديدة غير ما ذكره في سياق القصة ونص عليه من الرزق.
فإن قال قائل: إن حكم الله تعالى بأمنها من القتل قد كان متقدما لعهد
إبراهيم عليه السلام لقول النبي عليه السلام: "إن الله حرم مكة يوم خلق
السموات والأرض لم تحل لأحد قبلي ولا تحل لأحد بعدي، وإنما أحلت لي
ساعة من نهار" يعني القتال فيها; فسأله إدامة هذا الحكم فيها وتبقيته
على ألسنة رسله وأنبيائه بعده.
ومن الناس من يقول إنها لم تكن حرما ولا أمنا قبل مسألة إبراهيم عليه
السلام، لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إن إبراهيم
عليه السلام حرم مكة وإني حرمت المدينة". والأخبار المروية عن النبي
عليه السلام في أن الله تعالى حرم مكة يوم خلق السموات والأرض وأنها لم
تحل لأحد قبلي ولا تحل لأحد بعدي، أقوى وأصح من هذا الخبر، ومع ذلك فلا
دلالة فيه أنه لم تكن حراما قبل ذلك; لأن إبراهيم عليه السلام حرمها
بتحريم الله تعالى إياها قبل ذلك فاتبع أمر الله تعالى فيها. ولا دلالة
فيه على نفي تحريمها قبل عهد إبراهيم من غير الوجه الذي صارت به حراما
بعد الدعوة، والوجه الأول يمنع
(1/96)
من اصطلام
أهلها ومن الخسف بهم والقذف الذي لحق غيرها وبما جعل في النفوس من
تعظيمها والهيبة لها، والوجه الثاني بالحكم بأمنها على ألسنة رسله،
فأجابه الله تعالى إلى ذلك.
قوله تعالى: {وَمَنْ كَفَرَ} قد تضمن استجابته لدعوته وإخباره أنه يفعل
ذلك أيضا بمن كفر منهم في الدنيا، وقد كانت دعوة إبراهيم خاصة لمن آمن
منهم بالله واليوم الآخر، فدلت الواو التي في قوله: {وَمَنْ كَفَرَ}
على إجابة دعوة إبراهيم وعلى استقبال الأخبار بمتعة من كفر قليلا،
ولولا الواو لكان كلاما منقطعا من الأول غير دال على استجابة دعوته
فيما سأله، وقيل في معنى {فَأُمَتِّعُهُ} أنه إنما يمتعه بالرزق الذي
يرزقه إلى وقت مماته. وقيل: "أمتعه بالبقاء في الدنيا" وقال الحسن:
أمتعه بالرزق والأمن إلى خروج محمد صلى الله عليه وسلم فيقتله إن قام
على كفره أو يجليه عنها. فتضمنت الآية حظر قتل من لجأ إليه من وجهين:
أحدهما: قوله: {رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَداً آمِناً} مع وقوع الاستجابة
له، والثاني: قوله: {وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً} لأنه قد
نفى قتله بذكر المتعة إلى وقت الوفاة.
{وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ
وَإِسْمَاعِيلُ} الآية. قواعد البيت: أساسه، وقد اختلف في بناء إبراهيم
عليه السلام هل بناه على قواعد قديمة أو أنشأها هو ابتداء؟ فروى معمر
عن أيوب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس في قوله: {الْقَوَاعِدَ مِنَ
الْبَيْتِ} قال: القواعد التي كانت قبل ذلك قواعد البيت. وروي نحوه عن
عطاء وروى منصور عن مجاهد عن عبد الله بن عمر قال: خلق الله البيت قبل
الأرض بألفي عام ثم دحيت الأرض من تحته. وروي عن أنس أن رسول الله صلى
الله عليه وسلم قال: "إن الملائكة كانت تحج البيت قبل آدم، ثم حجه آدم
عليه السلام". وروي عن مجاهد وعمرو بن دينار: أن إبراهيم عليه السلام
أنشأه بأمر الله إياه، وقال الحسن: "أول من حج البيت إبراهيم".
واختلف في الباني منهما للبيت، فقال ابن عباس: كان إبراهيم يبني
وإسماعيل يناوله الحجارة وهذا يدل على جواز إضافة فعل البناء إليهما
وإن كان أحدهما معنيا فيه، ومن أجل ذلك قلنا في قوله عليه السلام
لعائشة: "لو قد مت قبلي لغسلتك ودفنتك" يعني أعنت في غسلك. وقال السدي
وعبيد بن عمير: هما بنياه جميعا. وقيل في رواية شاذة: إن إبراهيم عليه
السلام وحده رفعها وكان إسماعيل صغيرا في وقت رفعها; وهو غلط; لأن الله
تعالى قد أضاف الفعل إليهما، وذلك يطلق عليهما إذا رفعاه جميعا، أو رفع
أحدهما وناوله الآخر الحجارة، والوجهان الأولان جائزان، والوجه الثالث
لا يجوز، ولما قال تعالى: {طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ} وقال في
آية أخرى: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج: 29] اقتضى
ذلك الطواف بجميع البيت.
(1/97)
وروى هشام
عن عروة عن أبيه عن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"إن أهل الجاهلية اقتصروا في بناء الكعبة، فادخلي الحجر وصلي عنده".
ولذلك طاف النبي عليه السلام وأصحابه حول الحجر ليحصل اليقين بالطواف
بجميع البيت; ولذلك أدخله ابن الزبير في البيت لما بناه حين احترق، ثم
لما جاء الحجاج أخرجه منه.
قوله تعالى: {رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا} معناه: يقولان ربنا تقبل فحذف
لدلالة الكلام عليه، كقوله تعالى: {وَالْمَلائِكَةُ بَاسِطُو
أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ} يعني: يقولون أخرجوا أنفسكم.
والتقبل: هو إيجاب الثواب على العمل، وقد تضمن ذلك كون بناء المساجد
قربة; لأنهما بنياه لله تعالى فأخبرا باستحقاق الثواب به; وهو كقوله
صلى الله عليه وسلم: "من بنى مسجدا ولو مثل مفحص قطاة بنى الله له به
بيتا في الجنة".
قوله تعالى: {وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا} يقال: إن أصل النسك في اللغة
الغسل، يقال منه: نسك ثوبه إذا غسله، وقد أنشد فيه بيت شعر:
ولا ينبت المرعى سباخ عراعر ... ولو نسكت بالماء ستة أشهر
وفي الشرع: اسم للعبادة، يقال: رجل ناسك، أي: عابد. وقال البراء بن
عازب: خرج النبي صلى الله عليه وسلم يوم الأضحى فقال: "إن أول نسكنا في
هذا اليوم الصلاة ثم الذبح". فسمى الصلاة نسكا، والذبيحة على وجه
القربة تسمى نسكا، قال الله تعالى: {فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ
صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} [البقرة: 196] يعني ذبح شاة، ومناسك الحج: ما
يقتضيه من الذبح وسائر أفعاله، قال النبي صلى الله عليه وسلم حين دخل
مكة: "خذوا عني مناسككم" والأظهر من معنى قوله: {وَأَرِنَا
مَنَاسِكَنَا} سائر أعمال الحج; لأن الله تعالى أمرهما ببناء البيت
للحج، وقد روى ابن أبي ليلى عن ابن أبي مليكة عن عبد الله بن عمر عن
النبي عليه السلام قال: "أتى جبريل إبراهيم عليهما السلام فراح به إلى
مكة ثم منى" وذكر أفعال الحج على نحو ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم
في حجته، قال: ثم أوحى الله إلى نبيه صلى الله عليه وسلم {أَنِ
اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً} [النحل: 123]. وكذلك أرسل
النبي عليه السلام إلى قوم بعرفات وقوف خلفه وهو واقف بها فقال: "كونوا
على مشاعركم فإنكم على إرث من إرث إبراهيم عليه السلام".
قوله تعالى: {وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ
سَفِهَ نَفْسَهُ} يدل على لزوم اتباع إبراهيم في شرائعه فيما لم يثبت
نسخه. وأفاد بذلك أن من رغب عن ملة محمد صلى الله عليه وسلم فهو راغب
عن ملة إبراهيم; إذ كانت ملة النبي عليه السلام منتظمة لملة إبراهيم
وزائدة عليها.
(1/98)
باب ميراث الجد
قال الله تعالى: {أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ
الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ
(1/98)
بَعْدِي
قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ
وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهاً وَاحِداً} فسمى الجد والعم كل واحد
منهما أبا، وقال تعالى حاكيا عن يوسف عليه السلام: {وَاتَّبَعْتُ
مِلَّةَ آبَائي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ} [يوسف: 38]، وقد
احتج ابن عباس بذلك في توريث الجد دون الإخوة. وروى الحجاج عن عطاء عن
ابن عباس قال: "من شاء لاعنته عند الحجر الأسود أن الجد أب والله ما
ذكر الله جدا ولا جدة إلا أنهم الآباء {وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائي
إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ}".
واحتجاج ابن عباس في توريث الجد دون الإخوة وإنزاله منزلة الأب في
الميراث عند فقده يقتضي جواز الاحتجاج بظاهر قوله تعالى: {وَوَرِثَهُ
أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ} [النساء: 11] في استحقاقه الثلثين
دون الإخوة كما يستحق الأب دونهم إذا كان باقيا; ودل ذلك على أن إطلاق
اسم الأب يتناول الجد، فاقتضى ذلك أن لا يختلف حكمه وحكم الأب في
الميراث; إذ لم يكن أب; وهو مذهب أبي بكر الصديق في آخرين من الصحابة،
قال عثمان: قضى أبو بكر أن الجد أب، وأطلق اسم الأبوة عليه. وهو قول
أبي حنيفة. وقال أبو يوسف ومحمد ومالك والشافعي بقول زيد بن ثابت في
الجد أنه بمنزلة الإخوة ما لم تنقصه المقاسمة من الثلث فيعطى الثلث ولم
ينقص منه شيئا. وقال ابن أبي ليلى بقول علي بن أبي طالب عليه السلام في
الجد أنه بمنزلة أحد الإخوة ما لم تنقصه المقاسمة من السدس، فيعطى
السدس ولم ينقص منه شيئا.
وقد ذكرنا اختلاف الصحابة فيه في شرح مختصر الطحاوي. والحجاج للفرق
المختلفين فيه إلا أن الحجاج بالآية فيه من وجهين: أحدهما: ظاهر تسمية
الله تعالى إياه أبا، والثاني: احتجاج ابن عباس بذلك وإطلاقه أن الجد
أب، وكذلك أبو بكر الصديق; لأنهما من أهل اللسان لا يخفى عليهما حكم
الأسماء من طريق اللغة; وإن كانا أطلقاه من جهة الشرع فحجته ثابتة; إذ
كانت أسماء الشرع طريقها التوقيف، ومن يدفع الاحتجاج بهذا الظاهر يقول:
إن الله تعالى قد سمى العم أبا في الآية لذكره إسماعيل فيها وهو عمه
ولا يقوم مقام الأب، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "ردوا علي أبي"
يعني العباس وهو عمه.
قال أبو بكر: ويعترض عليه من جهة أن الجد إنما سمي أبا على وجه المجاز
لجواز انتفاء اسم الأب عنه; لأنك لو قلت للجد إنه ليس بأب لكان ذلك
نفيا صحيحا، وأسماء الحقائق لا تنتفي عن مسمياتها بحال. ومن جهة أخرى
أن الجد إنما سمي أبا بتقييد، والإطلاق لا يتناوله، فلا يصح الاحتجاج
فيه بعموم لفظ الأبوين في الآية، ومن جهة أخرى أن الأب الأدنى في قوله
تعالى: {وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ} [النساء: 11] مراد بالآية فلا
(1/99)
جائز أن
يراد به الجد; لأنه مجاز ولا يتناول الإطلاق للحقيقة والمجاز في لفظ
واحد.
قال أبو بكر: فأما دفع الاحتجاج بعموم لفظ الأب في إثبات الجد أبا من
حيث سمي العم أبا في الآية مع اتفاق الجميع على أنه لا يقوم مقام الأب
بحال، فإنه مما لا يعتمد; لأن إطلاق اسم الأب إن كان يتناول الجد والعم
في اللغة والشرع فجائز اعتبار عمومه في سائر ما أطلق فيه، فإن خص العم
بحكم دون الجد لا يمنع ذلك بقاء حكم العموم في الجد ويختلفان أيضا في
المعنى من قبل أن الأب إنما سمي بهذا الاسم; لأن الابن منسوب إليه
بالولادة، وهذا المعنى موجود في الجد، وإن كانا يختلفان من جهة أخرى أن
بينه وبين الجد واسطة وهو الأب، ولا واسطة بينه وبين الأب; والعم ليست
له هذه المنزلة; إذ لا نسبة بينه وبينه من طريق الولاد. ألا ترى أن
الجد وإن بعد في المعنى بمعنى من قرب في إطلاق الاسم وفي الحكم جميعا;
إذ لم يكن من هو أقرب منه، فكان للجد هذا الضرب من الاختصاص، فجائز أن
يتناول إطلاق اسم الأب، ولما لم يكن للعم هذه المزية لم يسم به مطلقا،
ولا يعقل منه أيضا إلا بتقييد، والجد مساو للأب في معنى الولاد فجائز
أن يتناوله اسم الأب وأن يكون حكمه عند فقده حكمه، وأما من دفع ذلك من
جهة أن تسمية الجد باسم الأب مجاز، وأن الأب الأدنى مراد بالآية، فغير
جائز إرادة الجد به لانتفاء أن يكون اسم واحد مجازا حقيقة; فغير واجب
من قبل أنه جائز أن يقال إن المعنى الذي من أجله سمي الأب بهذا الاسم
وهو النسبة إليه من طريق الولاد موجود في الجد. ولم يختلف المعنى الذي
من أجله قد سمي كل واحد منهما، فجاز إطلاق الاسم عليهما وإن كان أحدهما
أخص به من الآخر كالإخوة يتناول جميعهم هذا الاسم لأب كانوا أو لأب
وأم، ويكون الذي للأب والأم أولى بالميراث وسائر أحكام الأخوة من الذين
للأب والاسم فيهما جميعا حقيقة وليس يمتنع أن يكون الاسم حقيقة في
معنيين وإن كان الإطلاق إنما يتناول أحدهما دون الآخر، ألا ترى أن اسم
النجم يقع على كل واحد من نجوم السماء حقيقة، والإطلاق عند العرب
يتناول النجم الذي هو الثريا؟ يقول القائل منهم: فعلت كذا وكذا والنجم
على قمة الرأس; يعني الثريا ولا تعقل العرب بقولها طلع النجم عند
الإطلاق غير الثريا; وقد سموا هذا الاسم لسائر نجوم السماء على
الحقيقة، فكذلك اسم الأب لا يمتنع عند المحتج بما وصفنا أن يتناول الأب
والجد على الحقيقة وإن اختص الأب به في بعض الأحوال، ولا يكون في
استعمال اسم الأب في الأب الأدنى والجد إيجاب كون لفظة واحدة حقيقة
مجازا.
فإن قيل: لو كان اسم الأب مختصا بالنسبة من طريق الولاد للحق الأم هذا
الاسم لوجود الولاد فيها، فكان الواجب أن تسمى الأم أبا، وكانت الأم
أولى بذلك من الأب
(1/100)
والجد
لوجود الولادة حقيقة منها قيل له: لا يجب ذلك; لأنهم قد خصوا الأم باسم
دونه ليفرقوا بينها وبينه وإن كان الولد منسوبا إلى كل واحد منهما
بالولاد، وقد سمى الله تعالى الأم أبا حين جمعها مع الأب فقال تعالى:
{وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ} [النساء: 11].
ومما يحتج لأبي بكر الصديق وللقائلين بقوله أن الجد يجتمع له الاستحقاق
بالنسبة والتعصيب معا. ألا ترى أنه لو تركا بنتا وجدا كان للبنت النصف
وللجد السدس وما بقي بالنسبة والتعصيب، كما لو ترك بنتا وأبا يستحق
بالنسبة والتعصيب معا في حال واحدة؟ فوجب أن يكون بمنزلته في استحقاق
الميراث دون الإخوة والأخوات ووجه آخر: وهو أن الجد يستحق بالتعصيب من
طريق الولاد، فوجب أن يكون بمنزلة الأب في نفي مشاركة الإخوة، إذ كانت
الإخوة إنما تستحقه بالتعصيب منفردا عن الولادة، ووجه آخر في نفي
الشركة بينه وبين الإخوة على وجه المقاسمة، وهو أن الجد يستحق السدس مع
الابن كما يستحقه الأب معه، فلما لم يستحق الإخوة مع الأب بهذه العلة
وجب أن لا يجب لهم ذلك مع الجد.
فإن قيل: الأم تستحق السدس مع الابن ولم ينتف بذلك توريث الإخوة معها
قيل له: إنما نصف بهذه العلة لنفي الشركة بينه وبين الإخوة على وجه
المقاسمة، وإذا انتفت الشركة بينهم وبينه في المقاسمة إذا انفردوا معه
سقط الميراث; لأن كل من ورثهم معه يوجب القسمة بينه وبينهم إذا لم يكن
غيرهم على اعتبار منهم في الثلث أو السدس، وأما الأم فلا تقع بينها
وبين الإخوة مقاسمة بحال، ونفي القسمة لا ينفي ميراثهم، ونفي مقاسمة
الإخوة للجد إذا انفردوا يوجب إسقاط ميراثهم معه; إذ كان من يورثهم معه
إنما يورثهم بالمقاسمة وإيجاب الشركة بينهم وبينه. فلما سقط المقاسمة
بما وصفنا سقط ميراثهم معه; إذ ليس فيه إلا قولان: قول من يسقط معه
ميراثهم رأسا، وقول من يوجب المقاسمة، فلما بطلت المقاسمة بما وصفنا
ثبت سقوط ميراثهم معه.
فإن قال قائل: الجد يدلي بابنه وهو أبو الميت، والأخ يدلي بأبيه، فوجبت
الشركة بينهما كمن ترك أباه وابنه قيل له: هذا غلط من وجهين: أحدهما:
أنه لو صح هذا الاعتبار لما وجبت المقاسمة بين الجد والأخ، بل كان
الواجب أن يكون للجد السدس وللأخ ما بقي، كمن ترك أبا وابنا، للأب
السدس والباقي للابن. والوجه الآخر: أنه يوجب أن يكون الميت إذا ترك جد
أب وعما أن يقاسمه العم; لأن جد الأب يدلي بالجد الأدنى، والعم أيضا
يدلي به; لأنه ابنه، فلما اتفق الجميع على سقوط ميراث العم مع جد الأب
مع وجود العلة التي وصفت دل على انتقاضها وفسادها ويلزمه أيضا على هذا
(1/101)
الاعتلال
أن ابن الأخ يشارك الجد في الميراث; لأنه يقول: أنا ابن ابن الأب،
والجد أب الأب، ولو ترك أبا وابن ابن كان للأب السدس وما بقي لابن
الابن.
قوله تعالى: {تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ
مَا كَسَبْتُمْ وَلا تُسْأَلونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} يدل على
ثلاثة معان: أحدها: أن الأبناء لا يثابون على طاعة الآباء ولا يعذبون
على ذنوبهم. وفيه إبطال مذهب من يجيز تعذيب أولاد المشركين بذنوب
الآباء، ويبطل مذهب من يزعم من اليهود أن الله تعالى يغفر لهم ذنوبهم
بصلاح آبائهم. وقد ذكر الله تعالى هذا المعنى في نظائر ذلك من الآيات،
نحو قوله تعالى: {وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا}
[الأنعام: 164] {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام: 164]
وقال: {فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ
وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ} [النور: 54]. وقد بين ذلك النبي صلى
الله عليه وسلم حين قال لأبي رمثة ورآه مع ابنه "أهو ابنك؟" فقال: نعم
قال: "أما إنه لا يجني عليك ولا تجني عليه". وقال عليه السلام: "يا بني
هاشم لا يأتيني الناس بأعمالهم وتأتون بأنسابكم فأقول لا أغني عنكم من
الله شيئا" وقال: "من بطأ به عمله لم يسرع به نسبه".
قوله تعالى: {فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}
إخبار بكفاية الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم أمر أعدائه، فكفاه
مع كثرة عددهم وحرصهم، فوجد مخبره على ما أخبر به، وهو نحو قوله تعالى:
{وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} [المائدة: 67] فعصمه منهم وحرسه
من غوائلهم وكيدهم وهو دلالة على صحة نبوته; إذ غير جائز اتفاق وجود
مخبره على ما أخبر به في جميع أحواله إلا وهو من عند الله تعالى عالم
الغيب والشهادة; إذ غير جائز وجود مخبر أخبار المتخرصين والكاذبين على
حسب ما يخبرون، بل أكثر أخبارهم كذب وزور يظهر بطلانه لسامعيه، وإنما
يتفق لهم ذلك في الشاذ النادر إن اتفق.
قوله تعالى: {سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ
عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا} قال أبو بكر: لم يختلف
المسلمون أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي بمكة إلى بيت المقدس
وبعد الهجرة مدة من الزمان، فقال ابن عباس والبراء بن عازب: كان
التحويل إلى الكعبة بعد مقدم النبي صلى الله عليه وسلم لسبعة عشر شهرا.
وقال قتادة: "لستة عشر" وروي عن أنس بن مالك أنه تسعة أشهر أو عشرة
أشهر، ثم أمره الله تعالى بالتوجه إلى الكعبة وقد نص الله في هذه
الآيات على أن الصلاة كانت إلى غير الكعبة ثم حولها إليها بقوله تعالى:
{سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ
قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا} الآية، وقوله تعالى: {وَمَا
جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ
مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ} وقوله
تعالى: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ
فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا}. فهذه الآيات كلها
(1/102)
دالة على
أن النبي صلى الله عليه وسلم قد كان يصلي إلى غير الكعبة وبعد ذلك حوله
إليها وهذا يبطل قول من يقول: ليس في شريعة النبي ناسخ ولا منسوخ.
ثم اختلف في توجه النبي صلى الله عليه وسلم إلى بيت المقدس هل كان فرضا
لا يجوز غيره أو كان مخيرا في توجهه إليها وإلى غيرها. فقال الربيع بن
أنس كان مخيرا في ذلك وقال ابن عباس: كان الفرض التوجه إليه بلا تخيير.
وأي الوجهين كان فقد كان التوجه فرضا لمن يفعله; لأن التخيير لا يخرجه
من أن يكون فرضا ككفارة اليمين أيها كفر به فهو الفرض، وكفعل الصلاة في
أول الوقت وأوسطه وآخره.
وحدثنا جعفر بن محمد بن اليمان قال: حدثنا عبد الله بن صالح، عن معاوية
بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قال: أول ما نسخ من القرآن
شأن القبلة، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما هاجر إلى
المدينة أمره الله تعالى أن يستقبل بيت المقدس، ففرحت اليهود بذلك،
فاستقبله رسول الله صلى الله عليه وسلم بضعة عشر شهرا. وكان رسول الله
صلى الله عليه وسلم يحب قبلة أبيه إبراهيم عليه السلام ويدعو الله
تعالى وينظر إلى السماء، فأنزل الله {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ
فِي السَّمَاءِ} [البقرة: 144] الآية وذكر القصة فأخبر ابن عباس أن
الفرض كان التوجه إلى بيت المقدس وأنه نسخ بهذه الآية وهذا لا دلالة
فيه على قول من يقول: إن الفرض كان التوجه إليه بلا تخيير; لأنه جائز
أن يكون كان الفرض على وجه التخيير وورد النسخ على التخيير وقصروا على
التوجه إلى الكعبة بلا تخيير، وقد روي أن النفر الذين قصدوا رسول الله
صلى الله عليه وسلم من المدينة إلى مكة للبيعة قبل الهجرة كان فيهم
البراء بن معرور، فتوجه بصلاته إلى الكعبة في طريقه وأبى الآخرون
وقالوا: إن النبي صلى الله عليه وسلم يتوجه إلى بيت المقدس، فلما قدموا
مكة سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فقالوا له، فقال: "قد
كنت على قبلة يعني بيت المقدس لو ثبت عليها أجزأك" ولم يأمره باستئناف
الصلاة. فدل على أنهم كانوا مخيرين وإن كان اختار التوجه إلى بيت
المقدس.
فإن قيل: قال ابن عباس: إن ذلك أول ما نسخ من القرآن الأمر بالتوجه إلى
بيت المقدس. قيل له جائز أن يكون المراد من القرآن المنسوخ التلاوة.
وجائز أن يكون قوله: {سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا
وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا} وكان نزول
ذلك قبل النسخ وفيه إخبار بأنهم على قبلة غيرها، وجائز أن يريد أول ما
نسخ من القرآن فيكون مراده الناسخ من القرآن دون المنسوخ. وروى ابن
جريج عن عطاء عن ابن عباس قال: أول ما نسخ من القرآن شأن القبلة، قال
الله تعالى: {وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا
تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} [البقرة: 115] ثم أنزل الله تعالى:
{سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ
قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا} إلى قوله: {فَوَلِّ وَجْهَكَ
شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ}
(1/103)
وهذا
الخبر يدل على معنيين: أحدهما: أنهم كانوا مخيرين في التوجه إلى حيث
شاءوا. والثاني: أن المنسوخ من القرآن هذا التخيير المذكور في هذه
الآية بقوله: {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} وقوله
تعالى: {سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ} قيل فيه: إنه أراد بذكر
السفهاء هاهنا اليهود فإنهم الذين عابوا تحويل القبلة، وروي ذلك عن ابن
عباس والبراء بن عازب. وأرادوا به إنكار النسخ; لأن قوما منهم لا يرون
النسخ. وقيل إنهم قالوا: يا محمد ما ولاك عن قبلتك التي كنت عليها؟
ارجع إليها نتبعك ونؤمن بك وإنما أرادوا فتنته. فكان إنكار اليهود
لتحويله عن القبلة الأولى إلى الثانية على أحد هذين الوجهين وقال
الحسن: لما حول رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الكعبة من بيت المقدس
قال مشركو العرب: يا محمد رغبت عن ملة آبائك ثم رجعت إليها آنفا، والله
لترجعن إلى دينهم. وقد بين الله تعالى المعنى الذي من أجله نقلهم الله
تعالى عن القبلة الأولى إلى الثانية بقوله تعالى: {وَمَا جَعَلْنَا
الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ
يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ}.
وقيل: إنهم كانوا أمروا بمكة أن يتوجهوا إلى بيت المقدس ليتميزوا من
المشركين الذين كانوا بحضرتهم يتوجهون إلى الكعبة، فلما هاجر النبي صلى
الله عليه وسلم إلى المدينة كانت اليهود المجاورون للمدينة يتوجهون إلى
بيت المقدس، فنقلوا إلى الكعبة ليتميزوا من هؤلاء كما تميزوا من
المشركين بمكة باختلاف القبلتين، فاحتج تعالى على اليهود في إنكارها
النسخ بقوله تعالى: {قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي
مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} وجه الاحتجاج به أنه إذا كان
المشرق والمغرب لله فالتوجه إليهما سواء لا فرق بينهما في العقول،
والله تعالى يخص بذلك أي الجهات شاء على وجه المصلحة في الدين والهداية
إلى الطريق المستقيم. ومن جهة أخرى أن اليهود زعمت أن الأرض المقدسة
أولى بالتوجه إليها; لأنها من مواطن الأنبياء عليهم السلام وقد شرفها
تعالى وعظمها، فلا وجه للتولي عنها. فأبطل الله قولهم ذلك بأن المواطن
من المشرق والمغرب لله تعالى يخص منها ما يشاء في كل زمان على حسب ما
يعلم من المصلحة فيه للعباد; إذ كانت المواطن بأنفسها لا تستحق التفضيل
وإنما توصف بذلك على حسب ما يوجب الله تعالى تعظيمها لتفضيل الأعمال
فيها.
قال أبو بكر: هذه الآية يحتج بها من يجوز نسخ السنة بالقرآن; لأن النبي
عليه السلام كان يصلي إلى بيت المقدس، وليس في القرآن ذكر ذلك، ثم نسخ
بهذه الآية. ومن يأبى ذلك يقول ذكر ابن عباس أنه نسخ قوله تعالى:
{فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} [البقرة: 115] فكان
التوجه إلى حيث كان من الجهات في مضمون الآية، ثم نسخ بالتوجه إلى
الكعبة.
(1/104)
قال أبو
بكر: وقوله: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} ليس
بمنسوخ عندنا، بل هو مستعمل الحكم في المجتهد إذا صلى إلى غير جهة
الكعبة وفي الخائف وفي الصلاة على الراحلة. وقد روى ابن عمر وعامر بن
ربيعة: أنها نزلت في المجتهد إذا تبين أنه صلى إلى غير جهة الكعبة، وعن
ابن عمر أيضا: أنه فيمن صلى على راحلته. ومتى أمكننا استعمال الآية من
غير إيجاب نسخ لها لم يجز لنا الحكم بنسخها. وقد تكلمنا في هذه المسألة
في الأصول بما يغني ويكفي.
وفي هذه الآية حكم آخر، وهو ما روى حماد بن سلمة عن ثابت عن أنس بن
مالك: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي نحو البيت المقدس فنزلت:
{فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} فنادى منادي رسول
الله صلى الله عليه وسلم: "قد أمرتم أن توجهوا وجوهكم شطر المسجد
الحرام" فحولت بنو سلمة وجوهها نحو البيت وهم ركوع وقد روى عبد العزيز
بن مسلم، عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر قال: بينما الناس في صلاة
الصبح بقباء; إذ جاءهم رجل فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد
أنزل عليه قرآن وأمر أن يستقبل الكعبة، ألا فاستقبلوها فاستداروا
كهيئتهم إلى الكعبة، وكان وجه الناس إلى الشام. وروى إسرائيل عن أبي
إسحاق عن البراء قال: "لما صرف النبي صلى الله عليه وسلم إلى الكعبة
بعد نزول قوله تعالى: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ}
مر رجل صلى مع النبي صلى الله عليه وسلم على نفر من الأنصار وهم يصلون
نحو بيت المقدس فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد صلى إلى
الكعبة فانحرفوا قبل أن يركعوا وهم في صلاتهم".
قال أبو بكر: وهذا خبر صحيح مستفيض في أيدي أهل العلم قد تلقوه بالقبول
فصار في حيز التواتر الموجب للعلم، وهو أصل في المجتهد إذا تبين له جهة
القبلة في الصلاة أنه يتوجه إليها ولا يستقبلها 1، وكذلك الأمة إذا
أعتقت في الصلاة أنها تأخذ قناعها وتبني وهو أصل في قبول خبر الواحد في
أمر الدين; لأن الأنصار قبلت خبر الواحد المخبر لهم بذلك فاستداروا إلى
الكعبة بالنداء في تحويل القبلة. ومن جهة أخرى أمر النبي عليه السلام
المنادي بالنداء في تحويل القبلة، ولولا أنهم لزمهم قبول خبر الواحد لم
يكن لأمر النبي عليه السلام بالنداء وجه ولا فائدة.
فإن قال قائل: من أصلكم أن ما يثبت من طريق يوجب العلم لا يجوز قبول
خبر الواحد في رفعه، وقد كان القوم متوجهين إلى بيت المقدس بتوقيف من
النبي صلى الله عليه وسلم إياهم عليه ثم تركوه إلى غيره بخبر الواحد
قيل له:; لأنهم لم يكونوا على يقين من بقاء الحكم
ـــــــ
1 قوله: "ولا يستقبلها" أي يستأنف الصلاة.
(1/105)
الأول بعد
غيبتهم عن حضرته، لتجويزهم ورود النسخ، فكانوا في بقاء الحكم الأول على
غالب الظن دون اليقين، فلذلك قبلوا خبر الواحد في رفعه.
فإن قال قائل: هلا أجزتم للمتيمم البناء على صلاته إذا وجد الماء كما
بنى هؤلاء عليها بعد تحويل القبلة قيل له: هو مفارق لما ذكرت، من قبل
أن تجويز البناء للمتيمم لا يوجب عليه الوضوء ويجيز له البناء بالتيمم
مع وجود الماء، والقوم حين بلغهم تحويل القبلة استداروا إليها ولم
يبقوا على الجهة التي كانوا متوجهين إليها، فنظير القبلة أن يؤمر
المتيمم بالوضوء والبناء، ولا خلاف أن المتيمم إذا لزمه الوضوء لم يجز
البناء عليه. ومن جهة أخرى إن أصل الفرض للمتيمم إنما هو الطهارة
بالماء والتراب بدل منه، فإذا وجد الماء عاد إلى أصل فرضه، كالماسح على
الخفين إذا خرج وقت مسحه فلا يبني، فكذلك المتيمم. ولم يكن أصل فرض
المصلين إلى بيت المقدس حين دخلوا فيها الصلاة إلى الكعبة، وإنما ذلك
فرض لزمهم في الحال. وكذلك الأمة إذا أعتقت في الصلاة لم يكن عليها قبل
ذلك فرض الستر، وإنما هو فرض لزمها في الحال، فأشبهت الأنصار حين علمت
بتحويل القبلة. وكذلك المجتهد فرضه التوجه إلى الجهة التي أداه إليها
اجتهاده لا فرض عليه غير ذلك بقوله: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ
وَجْهُ اللَّهِ} [البقرة: 115]، فإنما انتقل من فرض إلى فرض ولم ينتقل
من بدل إلى أصل الفرض.
وفي الآية حكم آخر، وهو: أن فعل الأنصار في ذلك على ما وصفنا أصل في أن
الأوامر والزواجر إنما يتعلق أحكامها بالعلم. ومن أجل ذلك قال أصحابنا
فيمن أسلم في دار الحرب ولم يعلم أن عليه صلاة ثم خرج إلى دار الإسلام:
إنه لا قضاء عليه فيما ترك; لأن ذلك يلزم من طريق السمع، وما لم يعلمه
لا يتعلق عليه حكمه كما لم يتعلق حكم التحويل على الأنصار قبل بلوغهم
الخبر، وهو أصل في أن الوكالات والمضاربات ونحوهما من أوامر العباد لا
ينسخ شيء منها إذا فسخها من له الفسخ إلا بعد علم الآخر بها. وكذلك لا
يتعلق حكم الأمر بها على من لم يبلغه، ولذلك قالوا: لا يجوز تصرف
الوكيل قبل العلم بالوكالة. والله أعلم بالصواب.
(1/106)
باب القول في صحة الإجماع
قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا
شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ}. قال أهل اللغة: الوسط: العدل، وهو الذي بين
المقصر والغالي. وقيل: هو الخيار والمعنى واحد; لأن العدل هو الخيار،
قال زهير:
هم وسط يرضى الأنام بحكمهم ... إذا طرقت إحدى الليالي بمعظم
(1/106)
وقوله
تعالى: {لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} معناه كي تكونوا، ولأن
تكونوا كذلك. وقيل في الشهداء: إنهم يشهدون على الناس بأعمالهم التي
خالفوا الحق فيها في الدنيا والآخرة، كقوله تعالى: {وَجِيءَ
بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ} [الزمر: 69]. وقيل فيه: إنهم يشهدون
للأنبياء عليهم السلام وعلى أممهم المكذبين بأنهم قد بلغوهم لإعلام
النبي عليه السلام إياهم وقيل: لتكونوا حجة فيما تشهدون كما أن النبي
صلى الله عليه وسلم شهيد بمعنى حجة دون كل واحد منها.
قال أبو بكر: وكل هذه المعاني يحتملها اللفظ، وجائز أن يكون بأجمعها
مراد الله تعالى، فيشهدون على الناس بأعمالهم في الدنيا والآخرة،
ويشهدون للأنبياء عليهم السلام على أممهم بالتكذيب لإخبار الله تعالى
إياهم بذلك وهم مع ذلك حجة على من جاء بعدهم في نقل الشريعة وفيما
حكموا به واعتقدوا من أحكام الله تعالى.
وفي هذه الآية دلالة على صحة إجماع الأمة من وجهين: أحدهما: وصفه إياها
بالعدالة وأنها خيار، وذلك يقتضي تصديقها والحكم بصحة قولها وناف
لإجماعها على الضلال. والوجه الآخر قوله: {لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى
النَّاسِ} بمعنى الحجة عليهم، كما أن الرسول لما كان حجة عليهم وصفه
بأنه شهيد عليهم، ولما جعلهم الله تعالى شهداء على غيرهم فقد حكم لهم
بالعدالة وقبول القول; لأن شهداء الله تعالى لا يكونون كفارا ولا
ضلالا، فاقتضت الآية أن يكونوا شهداء في الآخرة على من شاهدوا في كل
عصر بأعمالهم دون من مات قبل زمنهم، كما جعل النبي صلى الله عليه وسلم
شهيدا على من كان في عصره. هذا إذا أريد بالشهادة عليهم بأعمالهم في
الآخرة، فأما إذا أريد بالشهادة الحجة فذلك حجة على من شاهدوهم من أهل
العصر الثاني وعلى من جاء بعدهم إلى يوم القيامة، كما كان النبي صلى
الله عليه وسلم حجة على جميع الأمة أولها وآخرها ولأن حجة الله إذا
ثبتت في وقت فهي ثابتة أبدا. ويدلك على فرق ما بين الشهادة على الأعمال
في الآخرة والشهادة التي هي الحجة قوله تعالى: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا
مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيداً}
[النساء: 41] لما أراد الشهادة على أعمالهم خص أهل عصره ومن شاهده بها،
وكما قال تعالى حاكيا عن عيسى صلوات الله عليه: {وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ
شَهِيداً مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ
الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ} [المائدة: 117]. فتبين أن الشهادة بالأعمال
إنما هي مخصوصة بحال الشهادة، وأما الشهادة التي هي الحجة فلا تختص بها
أول الأمة وآخرها في كون النبي صلى الله عليه وسلم حجة عليهم. كذلك أهل
كل عصر لما كانوا شهداء الله من طريق الحجة وجب أن يكونوا حجة على أهل
عصرهم الداخلين معهم في إجماعهم وعلى من بعدهم من سائر أهل الأعصار.
فهو يدل على أن أهل عصر إذا أجمعوا على شيء ثم
(1/107)
خرج بعضهم
عن إجماعهم أنه محجوج بالإجماع المتقدم; لأن النبي صلى الله عليه وسلم
قد شهد لهذه الجماعة بصحة قولها وجعلها حجة ودليلا، فالخارج عنها بعد
ذلك تارك لحكم دليله وحجته; إذ غير جائز وجود دليل الله تعالى عاريا من
مدلوله.
(1/108)
مطلب يستحيل وجود النسخ بعد النبي صلى الله عليه وسلم
ويستحيل وجود النسخ بعد النبي صلى الله عليه وسلم فيترك حكمه من طريق
النسخ، فدل ذلك على أن الإجماع في أي حال حصل من الأمة فهو حجة لله عز
وجل غير سائغ لأحد تركه ولا الخروج عنه. ومن حيث دلت الآية على صحة
إجماع الصدر الأول، فهي دالة على صحة إجماع أهل الأعصار، إذ لم يخصص
بذلك أهل عصر دون عصر. ولو جاز الاقتصار بحكم الآية على إجماع الصدر
الأول دون أهل سائر الإعصار لجاز الاقتصار به على إجماع أهل سائر
الأعصار دون الصدر الأول.
فإن قال قائل: لما قال: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً}
فوجه الخطاب إلى الموجودين في حال نزوله، دل ذلك على أنهم هم المخصوصون
به دون غيرهم، فلا يدخلون في حكمهم إلا بدلالة قيل له: هذا غلط; لأن
قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً} هو خطاب لجميع
الأمة: أولها وآخرها، من كان منهم موجودا في وقت نزول الآية ومن جاء
بعدهم إلى قيام الساعة، كما أن قوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ
الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [البقرة:
183] وقوله: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ} [البقرة: 87] ونحو ذلك من
الآي خطاب لجميع الأمة، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم مبعوثا إلى
جميعها: من كان منهم موجودا في عصره ومن جاء بعده. قال الله تعالى:
{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً
وَنَذِيراً وَدَاعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجاً مُنِيراً}
[الأحزاب: 45]، وقال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً
لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 107] وما أحسب مسلما يستجيز إطلاق القول
بأن النبي عليه السلام لم يكن مبعوثا إلى جميع الأمة أولها وآخرها،
وأنه لم يكن حجة عليها وشاهدا، وأنه لم يكن رحمة لكافتها.
فإن قال قائل: لما قال الله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً
وَسَطاً} واسم الأمة يتناول الموجودين في عصر النبي صلى الله عليه وسلم
ومن جاء بعدهم إلى قيام الساعة، فإنما حكم لجماعتها بالعدالة وقبول
الشهادة، وليس فيه حكم لأهل عصر واحد بالعدالة وقبول الشهادة، فمن أين
حكمت لأهل كل عصر بالعدالة حتى جعلتهم حجة على من بعدهم؟ قيل له: لما
جعل من حكم له بالعدالة حجة على غيره فيما يخبر به أو يعتقده من أحكام
الله تعالى، وكان معلوما أن ذلك صفة قد حصلت له في الدنيا وأخبر تعالى
بأنهم شهداء على الناس، فلو اعتبر أول الأمة وآخرها في كونها حجة له
عليهم، لعلمنا أن المراد أهل
(1/108)
كل عصر;
لأن أهل كل عصر يجوز أن يسموا أمة; إذ كانت الأمة اسما للجماعة التي
تؤم جهة واحدة، وأهل كل عصر على حيالهم يتناولهم هذا الاسم، وليس يمنع
إطلاق لفظ الأمة والمراد أهل عصر، ألا ترى أنك تقول أجمعت الأمة على
تحريم الله تعالى الأمهات والأخوات، ونقلت الأمة القرآن. ويكون ذلك
إطلاقا صحيحا قبل أن يوجد آخر القوم؟ فثبت بذلك أن مراد الله تعالى
بذلك أهل كل عصر. وأيضا فإنما قال الله تعالى: {جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً
وَسَطاً} فعبر عنهم بلفظ منكر حين وصفهم بهذه الصفة وجعلهم حجة، وهذا
يقتضي أهل كل عصر; إذ كان قوله: {جَعَلْنَاكُمْ} خطابا للجميع، والصفة
لاحقة بكل أمة من المخاطبين. ألا ترى إلى قوله: {وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى
أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ} [الأعراف: 159] وجميع قوم موسى أمة له
وسمى بعضهم على الانفراد أمة لما وصفهم بما وصفهم به؟ فثبت بذلك أن أهل
كل عصر جائز أن يسموا أمة وإن كان الاسم قد يلحق أول الأمة وآخرها.
وفي الآية دلالة على أن من ظهر كفره نحو المشبهة 1 به؟ ومن صرح بالجبر
وعرف ذلك منه، لا يعتد به في الإجماع. وكذلك من ظهر فسقه لا يعتد به في
الإجماع، من نحو الخوارج والروافض. وسواء من فسق من طريق الفعل أو من
طريق الاعتقاد; لأن الله تعالى إنما جعل الشهداء من وصفهم بالعدالة
والخير، وهذه الصفة لا تلحق الكفار ولا الفساق. ولا يختلف في ذلك حكم
من فسق أو كفر بالتأويل أو برد النص; إذ الجميع شملهم صفة الذم ولا
يلحقهم صفة العدالة بحال والله أعلم.
ـــــــ
1 قوله: "نحو المشبهة" فيه نظر يعلم بمراجعة الكتب الفقهية.
(1/109)
باب استقبال القبلة
قال الله تعالى: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ
فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا} قيل: إن التقلب هو التحول،
وإن النبي صلى الله عليه وسلم إنما كان يقلب وجهه في السماء; لأنه كان
وعد بالتحويل إلى الكعبة، فكان منتظرا لنزول الوحي به وكان يسأل الله
ذلك، فأذن الله تعالى له فيه; لأن الأنبياء صلوات الله عليهم لا يسألون
الله إلا بعد الإذن; لأنهم لا يأمنون أن لا يكون فيه صلاح ولا يجيبهم
الله فيكون فتنة على قومه. فهذا هو معنى تقلب وجهه في السماء.
وقد قيل فيه: إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحب أن يحوله الله تعالى
إلى الكعبة مخالفة لليهود وتميزا منهم، ويروى ذلك عن مجاهد. وقال ابن
عباس: "أحب ذلك; لأنها قبلة إبراهيم عليه السلام". وقيل: إنه أحب ذلك
استدعاء للعرب إلى الإيمان، وهو معنى قوله: {فَلَنُوَلِّيَنَّكَ
قِبْلَةً تَرْضَاهَا}
(1/109)
وقوله:
{فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} فإن أهل اللغة قد
قالوا: إن الشطر اسم مشترك يقع على معنيين: أحدهما: النصف، يقال: شطرت
الشيء أي جعلته نصفين، ويقولون في مثل لهم: "احلب حلبا لك شطره" أي
نصفه. والثاني: نحوه وتلقاؤه. ولا خلاف أن مراد الآية هو المعنى
الثاني، قاله ابن عباس وأبو العالية ومجاهد والربيع بن أنس. ولا يجوز
أن يكون المراد المعنى الأول; إذ ليس من قول أحد أن عليه استقبال
المسجد الحرام.
واتفق المسلمون أنه لو صلى إلى جانب منه أجزأه. وفيه دلالة على أنه لو
أتى ناحية من البيت فتوجه إليها في صلاته أجزأه; لأنه متوجه شطره
ونحوه. وإنما ذكر الله تعالى التوجه إلى ناحية المسجد الحرام ومراده
البيت نفسه; لأنه لا خلاف أنه من كان بمكة فتوجه في صلاته نحو المسجد
أنه لا يجزيه إذا لم يكن محاذيا للبيت.
وقوله تعالى: {وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ}
خطاب لمن كان معاينا للكعبة ولمن كان غائبا عنها، والمراد لمن كان
حاضرها إصابة عينها ولمن كان غائبا عنها النحو الذي هو عنده أنه نحو
الكعبة وجهتها في غالب ظنه; لأنه معلوم أنه لم يكلف إصابة العين; إذ لا
سبيل له إليها، وقال تعالى: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا
وُسْعَهَا} [البقرة: 286] فمن لم يجد سبيلا إلى إصابة عين الكعبة لم
يكلفها. فعلمنا أنه إنما هو مكلف ما هو في غالب ظنه أنه جهتها ونحوها
دون المغيب عند الله تعالى.
وهذا أحد الأصول الدالة على تجويز الاجتهاد في أحكام الحوادث، وأن كل
واحد من المجتهدين فإنما كلف ما يؤديه إليه اجتهاده ويستولي على ظنه.
ويدل أيضا على أن للمشتبه من الحوادث حقيقة مطلوبة كما أن القبلة حقيقة
مطلوبة بالاجتهاد والتحري، ولذلك صح تكليف الاجتهاد في طلبها كما صح
تكليف طلب القبلة بالاجتهاد; لأن لها حقيقة، ولو لم يكن هناك قبلة رأسا
لما صح تكليفنا طلبها.
قوله تعالى: {وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا} الوجهة قيل فيها
قبلة روي ذلك عن مجاهد. وقال الحسن: طريقة وهو ما شرع الله تعالى من
الإسلام. وروي عن ابن عباس ومجاهد والسدي: لأهل كل ملة من اليهود
والنصارى وجهة. وقال الحسن: لكل نبي فالوجهة واحدة وهي الإسلام وإن
اختلفت الأحكام كقوله تعالى: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً
وَمِنْهَاجاً} [المائدة: 48] قال قتادة: "هو صلاتهم إلى البيت المقدس
وصلاتهم إلى الكعبة". وقيل فيه: لكل قوم من المسلمين من أهل سائر
الآفاق التي جهات الكعبة وراءها أو قدامها أو عن يمينها أو عن شمالها،
كأنه أفاد أنه ليس جهة من جهاتها بأولى أن تكون قبلة من غيرها. وقد روي
أن عبد الله بن عمر كان جالسا بإزاء
(1/110)
الميزاب
فتلا قوله تعالى: {فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا} قال: "هذه
القبلة". فمن الناس من يظن أنه عنى الميزاب، وليس كذلك; لأنه إنما أشار
إلى الكعبة ولم يرد به تخصيص جهة الميزاب دون غيرها، وكيف يكون ذلك مع
قوله تعالى: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلّىً}
[البقرة: 125] وقوله تعالى: {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ
الْحَرَامِ} مع اتفاق المسلمين على أن سائر جهات الكعبة قبلة لموليها.
وقوله تعالى: {وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا} يدل على أن الذي
كلف به من غاب عن حضرة الكعبة إنما هو التوجه إلى جهتها في غالب ظنه لا
إصابة محاذاتها غير زائل عنها; إذ لا سبيل له إلى ذلك وإذ غير جائز أن
يكون جميع من غاب عن حضرتها محاذيا لها.
وقوله تعالى: {فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ} يعني والله أعلم المبادرة
والمسارعة إلى الطاعات. وهذا يحتج به في أن تعجيل الطاعات أفضل من
تأخيرها ما لم تقم الدلالة على فضيلة التأخير، نحو تعجيل الصلوات في
أول أوقاتها وتعجيل الزكاة والحج وسائر الفروض بعد حضور وقتها ووجود
سببها ويحتج به بأن الأمر على الفور، وأن جواز التأخير يحتاج إلى
دلالة، وذلك أن الأمر إذا كان غير موقت فلا محالة عند الجميع أن فعله
على الفور من الخيرات فوجب بمضمون قوله تعالى: {فَاسْتَبِقُوا
الْخَيْرَاتِ} إيجاب تعجيله; لأنه أمر يقتضي الوجوب.
قوله تعالى: {لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا
الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ} من الناس من يحتج به في الاستثناء من غير
جنسه. وقد اختلف أهل اللغة في معناه، فقال بعضهم: هو استثناء منقطع
ومعناه: لكن الذين ظلموا منهم يتعلقون بالشبهة ويضعون موضع الحجة، وهو
كقوله تعالى: {مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ}
[النساء: 157] معناه: لكن اتباع الظن، قال النابغة:
ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم ... بهن فلول من قراع الكتائب
معناه: لكن بسيوفهم فلول، وليس بعيب.
وقيل فيه: "إنه أراد بالحجة المحاجة والمجادلة، فقال: لئلا يكون للناس
عليكم حجاج إلا الذين ظلموا فإنهم يحاجونكم بالباطل". وقال أبو عبيدة:
إلا هاهنا بمعنى الواو، وكأنه قال: لئلا يكون للناس عليكم حجة وإلا
الذين ظلموا. وأنكر ذلك الفراء وأكثر أهل اللغة، قال الفراء: لا تجيء
إلا بمعنى الواو إلا إذا تقدم استثناء كقول الشاعر:
ما بالمدينة دار غير واحدة ... دار الخليفة إلا دار مروان
(1/111)
كأنه قال:
ما بالمدينة دار إلا دار الخليفة ودار مروان.
وقال قطرب: معناه لئلا يكون للناس عليكم حجة إلا على الذين ظلموا.
وأنكر هذا بعض النحاة.
(1/112)
باب وجوب ذكر الله تعالى
قوله تعالى: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ} قد تضمن الأمر بذكر الله
تعالى، وذكرنا إياه على وجوه. وقد روي فيه أقاويل عن السلف، قيل فيه:
"اذكروني بطاعتي أذكركم برحمتي"، وقيل فيه: "اذكروني بالثناء بالنعمة
أذكركم بالثناء بالطاعة"، وقيل: "اذكروني بالشكر أذكركم بالثواب" وقيل
فيه: اذكروني بالدعاء أذكركم بالإجابة. واللفظ محتمل لهذه المعاني،
وجميعها مراد الله تعالى لشمول اللفظ واحتماله إياه.
فإن قيل: لا يجوز أن يكون الجميع مراد الله تعالى بلفظ واحد; لأنه لفظ
مشترك لمعان مختلفة قيل له: ليس كذلك; لأن جميع وجوه الذكر على
اختلافها راجعة إلى معنى واحد. فهو كاسم الإنسان يتناول الأنثى والذكر،
والأخوة تتناول الإخوة المتفرقين، وكذلك الشركة ونحوها، وإن وقع على
معان مختلفة فإن الوجه الذي سمي به الجميع معنى واحد. وكذلك ذكر الله
تعالى لما كان المعنى فيه طاعته، والطاعة تارة بالذكر باللسان، وتارة
بالعمل بالجوارح، وتارة باعتقاد القلب، وتارة بالفكر في دلائله وحججه،
وتارة في عظمته، وتارة بدعائه ومسألته، جاز إرادة الجميع بلفظ واحد،
كلفظ الطاعة نفسها جاز أن يراد بها جميع الطاعات على اختلافها إذا ورد
الأمر بها مطلقا نحو قوله تعالى: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا
الرَّسُولَ} [النساء: 59] وكالمعصية يجوز أن يتناول جميعها لفظ النهي.
فقوله: {فَاذْكُرُونِي} قد تضمن الأمر بسائر وجوه الذكر، ومنها سائر
وجوه طاعته وهو أعم الذكر، ومنها ذكره باللسان على وجه التعظيم والثناء
عليه والذكر على وجه الشكر والاعتراف بنعمه.
(1/112)
مطلب في أن ذكر الله تعالى بالتفكر في دلائله أفضل أنواع الذكر
ومنها ذكره بدعاء الناس إليه والتنبيه على دلائله وحججه ووحدانيته
وحكمته وذكره بالفكر في دلائله وآياته وقدرته وعظمته، وهذا أفضل الذكر
وسائر وجوه الذكر مبنية عليه وتابعة له وبه يصح معناها لأن اليقين
والطمأنينة به تكون، قال الله تعالى: {أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ
تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد: 28] يعني والله أعلم ذكر القلب الذي
هو الفكر في دلائل
(1/112)
مطلب في أن الإنسان هو الروح
فإن قيل: كيف يجوز أن يكونوا أحياء ونحن نراهم رميما في القبور بعد
مرور الأزمان عليهم؟ قيل له: الناس في هذا على قولين، منهم من يجعل
الإنسان هو الروح وهو جسم لطيف والنعيم والبؤس إنما هما له دون الجثة.
ومنهم من يقول: إن الإنسان
(1/113)
هذا الجسم
الكثيف المشاهد، فهو يقول إن الله تعالى يلطف أجزاء منه بمقدار ما تقوم
به البنية الحيوانية ويوصل النعيم إليه وتكون تلك الأجزاء اللطيفة بحيث
يشاء الله تعالى أن تكون تعذب أو تنعم على حسب ما يستحقه، ثم يفنيه
الله تعالى كما يفني سائر الخلق قبل يوم القيامة، ثم يحييه يوم القيامة
للحشر. وقد حدثنا أبو القاسم عبد الله بن محمد بن إسحاق المروزي قال:
حدثنا الحسن بن يحيى بن أبي الربيع الجرجاني قال: أخبرنا عبد الرزاق
قال: أخبرنا معمر عن الزهري عن كعب بن مالك، أن النبي صلى الله عليه
وسلم قال: "نسمة المسلم طير تعلق في شجر الجنة حتى يرجعها إلى جسده"1.
قوله تعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ
وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ
الصَّابِرِينَ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا
لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} إلى قوله تعالى: {وَأُولَئِكَ
هُمُ الْمُهْتَدُونَ} روي عن عطاء والربيع وأنس بن مالك أن المراد بهذه
المخاطبة أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بعد الهجرة.
قال أبو بكر: جائز والله أعلم أن يكون قدم إليهم ذكر ما علم أنه يصيبهم
في الله من هذه البلايا والشدائد لمعنيين: أحدهما: ليوطنوا أنفسهم على
الصبر عليها إذا وردت فيكون ذلك أبعد من الجزع وأسهل عليهم بعد الورود.
والثاني: ما يتعجلون به من ثواب توطين النفس. قوله تعالى: {وَبَشِّرِ
الصَّابِرِينَ} يعني والله أعلم على ما قدم ذكره من الشدائد، وقوله
تعالى: {الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا
لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} يعني إقرارهم في تلك الحال
بالعبودية والملك له وأن له أن يبتليهم بما يشاء تعريضا منه لثواب
الصبر واستصلاحا لهم لما هو أعلم به، إذ هو تعالى غير متهم في فعل
الخير والصلاح; إذ كانت أفعاله كلها حكمة. ففي إقرارهم بالعبودية تفويض
الأمر إليه ورضى بقضائه فيما يبتليهم به; إذ لا يقضي إلا بالحق كما قال
تعالى: {وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ
دُونِهِ لا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ} [غافر: 20]. وقال عبد الله بن مسعود:
"لأن أخر من السماء أحب إلي من أن أقول لشيء قضاه الله تعالى ليته لم
يكن".
وقوله تعالى: {إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} إقرار
بالبعث والنشور واعتراف بأن الله تعالى سيجازي الصابرين على قدر
استحقاقهم فلا يضيع عنده أجر المحسنين.
ثم أخبر بما لهم عند الله تعالى عند الصبر على هذه الشدائد في طاعة
الله تعالى فقال: {أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ
وَرَحْمَةٌ} يعني الثناء الجميل والبركات والرحمة
ـــــــ
1 هذا الحديث شاهد للمعنى الأول.
(1/114)
وهي
النعمة التي لا يعلم مقاديرها إلا الله تعالى، كقوله في آية أخرى:
{إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ}
[الزمر: 10].
ومن المصائب والشدائد المذكورة في الآية ما هو من فعل المشركين بهم،
ومنها ما هو من فعل الله تعالى. فأما ما كان من فعل المشركين فهو أن
العرب كلها كانت قد اجتمعت على عداوة النبي صلى الله عليه وسلم غير من
كان بالمدينة من المهاجرين والأنصار وكان خوفهم من قبل هؤلاء لقلة
المسلمين وكثرتهم. وأما الجوع فلقلة ذات اليد والفقر الذي نالهم. وجائز
أن يكون الفقر تارة من الله تعالى بأن يفقرهم بتلف أموالهم، وجائز أن
يكون من قبل العدو بأن يغلبوا عليه فيتلف ونقص من الأموال والأنفس
والثمرات يحتمل الوجهين جميعا; لأن النقص من الأموال جائز أن يكون سببه
العدو. وكذلك الثمرات لشغلهم إياهم بقتالهم عن عمارة أراضيهم. وجائز أن
يكون من فعل الله تعالى بالجوائح التي تصيب الأموال والثمار. ونقص
الأنفس جائز أن يكون المراد به من يقتل منهم في الحرب، وأن يريد به من
يميته الله منهم من غير قتل. فأما الصبر على ما كان من فعل الله، فهو
التسليم والرضا بما فعله والعلم بأنه لا يفعل إلا الصلاح والحسن وما هو
خير لهم، وأنه ما منعهم إلا ليعطيهم، وأن منعه إياهم إعطاء منه لهم.
وأما ما كان من فعل العدو فإن المراد به الصبر على جهادهم وعلى الثبات
على دين الله تعالى ولا ينكلون عن الحرب ولا يزولون عن طاعة الله بما
يصيبهم من ذلك، ولا يجوز أن يريد بالابتلاء ما كان منهم من فعل
المشركين; لأن الله تعالى لا يبتلي أحدا بالظلم والكفر ولا يريده ولا
يوجب الرضا به، ولو كان الله تعالى يبتلي بالظلم والكفر لوجب الرضا به
كما رضيه بزعمهم حين فعله والله يتعالى عن ذلك.
وقد تضمنت الآية مدح الصابرين على شدائد الدنيا وعلى مصائبها على
الوجوه التي ذكر. والوعد بالثواب والثناء الجميل والنفع العظيم لهم في
الدنيا والدين، فأما في الدنيا فما يحصل له به من الثناء الجميل والمحل
الجليل في نفوس المؤمنين لائتماره لأمر الله تعالى ولأن في الفكر في
ذلك تسلية عن الهم ونفي الجزع الذي ربما أدى إلى ضرر في النفس وإلى
إتلافها في حال ما يعقبه ذلك في الدنيا من محمود العاقبة، وأما في
الآخرة فهو الثواب الجزيل الذي لا يعلم مقداره إلا الله.
قال أبو بكر: وقد اشتملت هذه الآية على حكمين: فرض، ونفل. فأما الفرض
فهو التسليم لأمر الله والرضا بقضاء الله والصبر على أداء فرائضه لا
يثنيه عنها مصائب الدنيا ولا شدائدها. وأما النفل فإظهار القول بـ
{إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} فإن في إظهاره فوائد
جزيلة، منها فعل ما ندب الله إليه ووعده الثواب عليه، ومنها أن غيره
يقتدي به إذا
(1/115)
سمعه،
ومنها غيظ الكفار وعلمهم بجده واجتهاده في دين الله تعالى والثبات على
طاعته ومجاهدة أعدائه ويحكى عن داود الطائي قال: الزاهد في الدنيا لا
يحب البقاء فيها، وأفضل الأعمال الرضا عن الله، ولا ينبغي للمسلم أن
يحزن للمصيبة لأنه يعلم أن لكل مصيبة ثوابا والله تعالى أعلم بالصواب.
(1/116)
باب السعي بين الصفا و المروة
...
باب السعي بين الصفا والمروة
قال الله تعالى: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ
فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ
يَطَّوَّفَ بِهِمَا} روي عن ابن عيينة، عن الزهري، عن عروة قال: "قرأت
عند عائشة رضي الله عنها: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ
شَعَائِرِ اللَّهِ} فقلت: لا أبالي أن لا أفعل، قالت: بئسما قلت يا ابن
أختي قد طاف رسول الله صلى الله عليه وسلم وطاف المسلمون فكانت سنة
إنما كان من أهل لمناة الطاغية لا يطوف بهما، فلما جاء الإسلام كرهوا
أن يطوفوا بهما حتى نزلت هذه الآية، فطاف رسول الله صلى الله عليه وسلم
فكانت سنة قال: فذكرت ذلك لأبي بكر بن عبد الرحمن، فقال: إن هذا لعلم،
ولقد كان رجال من أهل العلم يقولون: إنما سأل عن هذا الرجال الذين
كانوا يطوفون بين الصفا والمروة، فأحسبها نزلت في الفريقين". وروي عن
عكرمة عن ابن عباس في قوله تعالى: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ
شَعَائِرِ اللَّهِ} قال: كان على الصفا تماثيل وأصنام وكان المسلمون لا
يطوفون عليها لأجل الأصنام والتماثيل، فأنزل الله تعالى: {فَلا جُنَاحَ
عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا}.
قال أبو بكر: كان السبب في نزول هذه الآية عند عائشة سؤال من كان لا
يطوف بهما في الجاهلية لأجل إهلاله لمناة، وعلى ما ذكر ابن عباس وأبو
بكر بن عبد الرحمن أن ذلك كان لسؤال من كان يطوف بين الصفا والمروة،
وقد كان عليهما الأصنام، فتجنب الناس الطواف بهما بعد الإسلام. وجائز
أن يكون سبب نزول هذه الآية سؤال الفريقين. وقد اختلف في السعي بينهما،
فروى هشام بن عروة عن أبيه، وأيوب عن ابن أبي مليكة، جميعا عن عائشة
قالت: ما أتم رسول الله صلى الله عليه وسلم لامرئ حجا ولا عمرة ما لم
يطف بين الصفا والمروة. وذكر أبو الطفيل عن ابن عباس: أن السعي بينهما
سنة وأن النبي عليه السلام فعله. وروى عاصم الأحول عن أنس قال: كنا
نكره الطواف بين الصفا والمروة حتى نزلت هذه الآية، والطواف بينهما
تطوع. وروي عن عطاء عن ابن الزبير قال: من شاء لم يطف بين الصفا
والمروة. وروي عن عطاء ومجاهد: إن من تركه فلا شيء عليه.
وقد اختلف فقهاء الأمصار في ذلك، فقال أصحابنا والثوري ومالك: إنه واجب
(1/116)
في الحج
والعمرة وتركه يجزي عنه الدم. وقال الشافعي: لا يجزي عنه الدم إذا تركه
وعليه أن يرجع فيطوف.
قال أبو بكر: هو عند أصحابنا من توابع الحج يجزي عنه الدم لمن رجع إلى
أهله مثل الوقوف بالمزدلفة ورمي الجمار وطواف الصدر. والدليل على أنه
ليس من فروضه قوله عليه السلام في حديث الشعبي عن عروة بن مضرس الطائي
قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمزدلفة فقلت: يا رسول الله
جئت من جبل طيئ ما تركت جبلا إلا وقفت عليه، فهل لي من حج؟ فقال عليه
السلام: "من صلى معنا هذه الصلاة ووقف معنا هذا الموقف وقد أدرك عرفة
قبل ذلك ليلا أو نهارا فقد تم حجه وقضى تفثه". فهذا القول منه عليه
السلام ينفي كون السعي بين الصفا والمروة فرضا في الحج من وجهين:
أحدهما: إخباره بتمام حجته وليس فيه السعي بينهما. والثاني: أن ذلك لو
كان من فروضه لبينه للسائل لعلمه بجهله بالحكم.
فإن قيل: لم يذكر طواف الزيارة مع كونه من فروضه قيل له: ظاهر اللفظ
يقتضي ذلك، وإنما أثبتناه فرضا بدلالة.
فإن قيل: فهذا يوجب أن لا يكون مسنونا ويكون تطوعا، كما روي عن أنس
وابن الزبير قيل له: كذلك يقتضي ظاهر اللفظ، إنما أثبتناه مسنونا في
توابع الحج بدلالة. ومما يحتج به لوجوبه أن فرض الحج مجمل في كتاب
الله; لأن الحج في اللغة القصد، قال الشاعر:
يحج مأمومة في قعرها لجف
يعني أنه يقصد ثم نقل في الشرع إلى معان أخر لم يكن اسما موضوعا لها في
اللغة وهو مجمل مفتقر إلى البيان فمهما ورد من فعل النبي صلى الله عليه
وسلم فهو بيان للمراد بالجملة. وفعل النبي صلى الله عليه وسلم إذا ورد
مورد البيان فهو على الوجوب، فلما سعى بينهما النبي عليه السلام كان
ذلك دلالة الوجوب حتى تقوم دلالة الندب. ومن جهة أخرى أن النبي صلى
الله عليه وسلم قال: "خذوا عني مناسككم" وذلك أمر يقتضي إيجاب الاقتداء
به في سائر أفعال المناسك، فوجب الاقتداء به في السعي بينهما. وقد روى
طارق بن شهاب عن أبي موسى قال: قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم
وهو بالبطحاء فقال: "بم أهللت؟" فقلت: أهللت بإهلال النبي صلى الله
عليه وسلم فقال: "أحسنت طف بالبيت والصفا والمروة ثم أحل!" فأمره
بالسعي بينهما، وهذا أمر يقتضي الإيجاب. وقد روي فيه حديث مضطرب السند
والمتن جميعا مجهول الراوي، وهو ما رواه معمر عن واصل مولى أبي عيينة،
عن موسى بن أبي عبيد، عن صفية بنت شيبة، عن امرأة سمعت النبي صلى الله
عليه وسلم بين الصفا والمروة يقول: "كتب عليكم
(1/117)
السعي
فاسعوا" فذكرت في هذا الحديث أنها سمعته يقول ذلك بين الصفا والمروة
ولم تذكر اسم الراوية. وقد روى محمد بن عبد الرحمن بن محيصن عن عطاء بن
أبي رباح قال: حدثتني صفية بنت شيبة عن امرأة يقال لها حبيبة بنت أبي
تجزأة قالت: دخلت دار أبي حسين ومعي نسوة من قريش والنبي صلى الله عليه
وسلم يطوف بالبيت حتى إن ثوبه ليدور به وهو يقول لأصحابه: "اسعوا فإن
الله تعالى قد كتب عليكم السعي" فذكر في هذا الحديث أن النبي عليه
السلام قال ذلك وهو في الطواف، فظاهر ذلك يقتضي أن يكون مراده السعي في
الطواف وهو الرمي والطواف نفسه; لأن المشي يسمى سعيا، قال الله تعالى:
{فَاسَعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الجمعة: 9] وليس المراد إسراع
المشي، وإنما هو المصير إليه. والخبر الأول الذي ذكر فيه أن النبي صلى
الله عليه وسلم قال ذلك وهو يسعى بين الصفا والمروة لا دلالة فيه على
أنه أراد السعي بينهما; إذ جائز أن يكون مراده الطواف بالبيت والرمل
فيه، وهو سعي لأنه إسراع المشي. وأيضا فإن ظاهره يقتضي جواز أي سعي
كان، وهو إذا رمل فقد سعى، ووجوب التكرار لا دلالة عليه. فالأخبار
الأول التي ذكرناها دالة على وجوب السعي لأنه سنة لا ينبغي تركها، ولا
دلالة فيها على أن من تركها لا ينوب عنه دم، والدليل على أن الدم ينوب
عنه لمن تركه حتى يرجع إلى أهله اتفاق السلف على جواز السعي بعد
الإحلال من جميع الإحرام كما يصح الرمي وطواف الصدر، فوجب أن ينوب عنه
الدم كما ناب عن الرمي وطواف الصدر.
فإن قيل: طواف الزيارة يفعل بعد الإحلال ولا ينوب عنه الدم قيل له: ليس
كذلك لأن بقاء طواف الزيارة يوجب كونه محرما عن النساء، وإذا طاف فقد
حل له كل شيء بلا خلاف بين الفقهاء، وليس لبقاء السعي تأثير في بقاء
شيء من الإحرام كالرمي وطواف الصدر.
فإن قال قائل: فإن الشافعي يقول: إذا طاف للزيارة لم يحل من النساء
وكان حراما حتى يسعى بالصفا والمروة قيل له: قد اتفق الصدر الأول من
التابعين والسلف بعدهم أنه يحل بالطواف بالبيت; لأنهم على ثلاثة أقاويل
بعد الحلق، فقال قائلون: هو محرم من اللباس والصيد والطيب حتى يطوف
بالبيت وقال عمر بن الخطاب: هو محرم من النساء والطيب. وقال ابن عمر
وغيره: هو محرم من النساء حتى يطوف فقد اتفق السلف على أنه يحل من
النساء بالطواف بالبيت دون السعي بين الصفا والمروة. وأيضا فإن السعي
بينهما لا يفعل إلا تبعا للطواف، ألا ترى أن من لا طواف عليه لا سعي
عليه، وأنه لا يتطوع بالسعي بينهما كما لا يتطوع بالرمي؟ فدل على أنه
من توابع الحج والعمرة.
فإن قيل: الوقوف بعرفة لا يفعل إلا بعد الإحرام، وطواف الزيارة لا يفعل
إلا بعد
(1/118)
الوقوف،
وهما من فروض الحج قيل له: لم نقل إن من لا يفعل إلا بعد غيره فهو تبع
فيلزمنا ما ذكرت، وإنما قلنا: ما لا يفعل إلا على وجه التبع لأفعال
الحج أو العمرة فهو تابع ليس بفرض، فأما الوقوف بعرفة فإنه غير مفعول
على وجه التبع لغيره بل يفعل منفردا بنفسه، ولكن من شروطه شيئان:
الإحرام والوقت، وما كان شرطه الإحرام أو الوقت فلا دلالة على أنه
مفعول على وجه التبع، وكذلك ما تعلق جوازه بوقت دون غيره فلا دلالة فيه
على أنه تبع فرض غيره. وطواف الزيارة إنما يتعلق جوازه بالوقت. والوقوف
بعرفة إنما تعلق جوازه بالإحرام والوقت وليس صحته موقوفة على وقوع فعل
آخر غير الإحرام، فليس هو إذا تبعا لغيره. وأما السعي بين الصفا
والمروة فإنه مع حضور وقته هو موقوف على فعل آخر غيره وهو الطواف، فدل
على أنه من توابع الحج والعمرة وأنه ليس بفرض، فأشبه طواف الصدر لما
كانت صحته موقوفة على طواف الزيارة كان تبعا في الحج ينوب عن تركه دم.
وقوله تعالى: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ}
قد دل على أنه قربة لأن الشعائر هي معالم الطاعات والقرب، وهو مأخوذ من
الإشعار الذي هو الإعلام، ومن ذلك قولك شعرت بكذا وكذا أي علمته. ومنه
إشعار البدنة أي إعلامها للقربة، وشعار الحرب علاماتها التي يتعارفون
بها فالشعائر هي المعالم للقرب قال الله تعالى: {ذَلِكَ وَمَنْ
يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ}
[الحج: 32] وشعائر الحج معالم نسكه، ومنه المشعر الحرام فقد دلت الآية
بفحواها على أن السعي بينهما قربة إلى الله تعالى في قوله: {مِنْ
شَعَائِرِ اللَّهِ} ثم قوله: {فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ
بِهِمَا} فقد أخبرت عائشة وغيرها أنه خرج مخرج الجواب لمن سأل عنهما،
وأن ظاهر هذا اللفظ لم ينف إرادة الوجوب وإن لم يدل عليه وقد قامت
الدلالة من غير الآية على وجوبه وهو ما قدمنا ذكره.
وقد اختلف أهل العلم في السعي في بطن الوادي، وروي عن النبي صلى الله
عليه وسلم فيه أخبار مختلفة، ومذهب أصحابنا أن السعي فيه مسنون لا
ينبغي تركه كالرمل في الطواف. وروى جعفر بن محمد عن أبيه عن جابر: "أن
النبي عليه السلام لما تصوبت قدماه في الوادي سعى حتى خرج منه". وروى
سفيان بن عيينة عن صدقة قال: سئل ابن عمر: أرأيت النبي صلى الله عليه
وسلم يرمل بين الصفا والمروة؟ قال: كان في الناس فرملوا ولا أراهم
فعلوا إلا برمله وقال نافع: كان ابن عمر يسعى في بطن الوادي. وروى
مسروق أن عبد الله بن مسعود سعى في بطن الوادي. وروى عطاء عن ابن عباس
قال: من شاء يسعى بمسيل مكة ومن شاء لم يسع وإنما يعني الرمل في بطن
الوادي. وروى سعيد بن جبير قال:
(1/119)
"رأيت ابن
عمر يمشي بين الصفا والمروة وقال: إن مشيت فقد رأيت رسول الله صلى الله
عليه وسلم يمشي، وإن سعيت فقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم
يسعى". وروى عمرو عن عطاء عن ابن عباس قال: إنما سعى رسول الله صلى
الله عليه وسلم بين الصفا والمروة ليري المشركين قوته فأتيت ابن عباس
فقال سعى النبي صلى الله عليه وسلم في بطن الوادي وذكر السبب الذي من
أجله فعل ذلك وهو إظهار الجلد والقوة للمشركين وتعلق فعله بهذا السبب
لا يمنع كونه سنة مع زواله على نحو ما ذكرنا في الرمل في الطواف فيما
تقدم. وقد ذكرنا أن السبب في رمي الجمار كان رمي إبراهيم عليه السلام
إبليس لما عرض له بمنى، وصار سنة بعد ذلك. وكذلك كان سبب الرمل في
الوادي أن هاجر لما طلبت الماء لابنها إسماعيل وجعلت تتردد بين الصفا
والمروة فكانت إذا نزلت الوادي غاب الصبي عن عينها، فأسرعت المشي. وروى
أبو الطفيل عن ابن عباس: أن إبراهيم عليه السلام لما علم المناسك عرض
له الشيطان عند المسعى فسبقه إبراهيم، فكان ذلك سبب سرعة المشي هناك.
وهو سنة كنظائره مما وصفنا. والرمل في بطن الوادي في الطواف بين الصفا
والمروة مما قد نقلته الأمة قولا وفعلا ولم يختلف في أن النبي صلى الله
عليه وسلم فعله، وإنما اختلف في كونه مسنونا بعده، وظهور نقله فعلا إلى
هذه الغاية دلالة على بقاء حكمه على ما قدمنا من الدلالة والله تعالى
أعلم.
(1/120)
باب طواف الراكب
قال أبو بكر: قد اختلف في طواف الراكب بينهما، فكره أصحابنا ذلك إلا من
عذر، وذكر أبو الطفيل أنه قال لابن عباس: إن قومك يزعمون أن الطواف بين
الصفا والمروة على الدابة سنة وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم فعل
ذلك، فقال: صدقوا وكذبوا، إنما فعل ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم
لأنه كان لا يدفع عنه أحد وليست بسنة. وروى عروة بن الزبير عن زينب بنت
أبي سلمة عن أم سلمة, أنها شكت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم: إني
أشتكي فقال: "طوفي من وراء الناس وأنت راكبة" وكان عروة إذا رآهم
يطوفون على الدواب نهاهم فيتعللون بالمرض، فيقول: "خاب هؤلاء وخسروا".
وروى ابن أبي مليكة عن عائشة قالت: ما منعني من الحج والعمرة إلا السعي
بين الصفا والمروة، وإني لأكره الركوب وروي عن يزيد بن أبي زياد عن
عكرمة عن ابن عباس: "أن النبي صلى الله عليه وسلم جاء وقد اشتكى فطاف
على بعير ومعه محجن كلما مر على الحجر استلمه فلما فرغ من طوافه أناخ
فصلى ركعتين".
ولما ثبت من سنة الطواف بهما السعي في بطن الوادي على ما وصفنا وكان
الراكب تاركا للسعي كان فعله خلاف السنة إلا أن يكون معذورا على نحو ما
روي عن النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة، فيجوز.
(1/120)
فصل
روى جعفر بن محمد عن أبيه عن جابر، وذكر حج النبي صلى الله عليه وسلم
وطوافه بالبيت إلى قوله: فاستلم الحجر بعد الركعتين ثم خرج إلى الصفا
حتى بدا له البيت فقال: "نبدأ بما بدأ الله به" يدل على أن لفظ الآية
لا يقتضي الترتيب; إذ لو كان ذلك معقولا من الآية لم يحتج أن يقول:
"نبدأ بما بدأ الله به" فإنما بدئ بالصفا قبل المروة لقوله عليه
السلام: نبدأ بما بدأ الله به ونفعله كذلك مع قوله: "خذوا عني
مناسككم". ولا خلاف بين أهل العلم أن المسنون على الترتيب أن يبدأ
بالصفا قبل المروة، فإن بدأ بالمروة قبل الصفا لم يعتد بذلك في الرواية
المشهورة عن أصحابنا. وروي عن أبي حنيفة: أنه ينبغي له أن يعيد ذلك
الشوط، فإن لم يفعل فلا شيء عليه وجعله بمنزلة ترك الترتيب في أعضاء
الطهارة.
قوله تعالى: {وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً} عقيب ذكر الطواف بهما يحتج به
من يراه تطوعا، وذلك لأنه معلوم رجوع الكلام إلى ما تقدم ذكره من
الطواف بهما، ومعلوم مع ذلك أن الطواف لا يتطوع به عند من يراه واجبا
في الحج والعمرة وعند من لا يراه في غيرهما فوجب أن يكون قوله: {وَمَنْ
تَطَوَّعَ خَيْراً} إخبار بأن من فعله في الحج والعمرة فإنما يفعله
تطوعا، إذ لم يبق موضع لفعله في غيرهما لا تطوعا ولا غيره وهذا لا
دلالة فيه على ما ذكروا، لأنه جائز أن يكون المراد من تطوع بالحج
والعمرة لتقدم ذكرهما في الخطاب في قوله تعالى: {فَمَنْ حَجَّ
الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ}.
(1/121)
باب في النهي عن كتمان العلم
قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ
الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى} الآية. وقال في موضع آخر: {إِنَّ الَّذِينَ
يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ
ثَمَناً قَلِيلاً} [البقرة: 174] الآية وقال: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ
مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ
وَلا تَكْتُمُونَهُ} [آل عمران: 187] هذه الآي كلها موجبة لإظهار علوم
الدين وتبيينه للناس زاجرة عن كتمانها، ومن حيث دلت على لزوم بيان
المنصوص عليه فهي موجبة أيضا لبيان المدلول عليه منه، وترك كتمانه
لقوله تعالى: {يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ
وَالْهُدَى} وذلك يشتمل على سائر أحكام الله في المنصوص عليه والمستنبط
لشمول اسم الهدى للجميع. وقوله تعالى: {يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ
اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ} يدل على أنه لا فرق في ذلك بين ما علم من جهة
النص أو الدليل; لأن في الكتاب الدلالة على أحكام الله تعالى كما فيه
النص عليها. وكذلك قوله تعالى: {لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا
تَكْتُمُونَهُ} عام في الجميع وكذلك ما علم من طرق
(1/121)
إخبار
الرسول صلى الله عليه وسلم قد انطوت تحت الآية; لأن في الكتاب الدلالة
على قبول أخبار الآحاد عنه عليه السلام فكل ما اقتضى الكتاب إيجاب حكمه
من جهة النص أو الدلالة فقد تناولته الآية. ولذلك قال أبو هريرة: لولا
آية في كتاب الله عز وجل ما حدثتكم ثم تلا: {إِنَّ الَّذِينَ
يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى} فأخبر أن
الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من البينات والهدى الذي أنزله
الله تعالى وقال شعبة عن قتادة في قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ
مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} الآية: فهذا ميثاق أخذه الله
على أهل العلم، فمن علم علما فليعلمه، وإياكم وكتمان العلم فإن كتمانه
هلكة. ونظيره في بيان العلم وإن لم يكن فيه ذكر الوعيد لكاتمه قوله
تعالى: {فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ
لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا
رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} وقد روى حجاج، عن عطاء،
عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من كتم علما يعلمه
جاء يوم القيامة ملجما بلجام من نار".
فإن قيل: روي عن ابن عباس أن الآية نزلت في شأن اليهود حين كتموا ما في
كتبهم من صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم قيل له: نزول الآية على سبب
غير مانع من اعتبار عمومها في سائر ما انتظمته; لأن الحكم عندنا للفظ
لا للسبب، إلا أن تقوم الدلالة عندنا على وجوب الاقتصار به على سببه.
ويحتج بهذه الآيات في قبول الأخبار المقصرة عن مرتبة إيجاب العلم العام
لمخبرها في أمور الدين، وذلك لأن قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ
يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ} وقوله تعالى:
{وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} [آل
عمران: 187] قد اقتضى النهي عن الكتمان ووقع البيان بالإظهار، فلو لم
يلزم السامعين قبوله لما كان المخبر عنه مبينا لحكم الله تعالى; إذ ما
لا يوجب حكما فغير محكوم له بالبيان، فثبت بذلك أن المنهيين عن الكتمان
متى أظهروا ما كتموا وأخبروا به لزم العمل بمقتضى خبرهم وموجبه. ويدل
عليه قوله في سياق الخطاب: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا
وَبَيَّنُوا} فحكم بوقوع العلم بخبرهم.
فإن قال قائل: لا دلالة فيه على لزوم العمل به، وجائز أن يكون كل واحد
منهم كان منهيا عن الكتمان ومأمورا بالبيان ليكثر المخبرون ويتواتر
الخبر قيل له: هذا غلط; لأنهم ما نهوا عن الكتمان إلا وهم ممن يجوز
عليهم التواطؤ عليه، ومن جاز منهم التواطؤ على الكتمان جاز منهم
التواطؤ على التقول فلا يكون خبرهم موجبا للعلم فقد دلت الآثار على
قبول المقصر عن المنزلة الموجبة للعلم بمخبره، وعلى أن ما ادعيته لا
برهان عليه، فظواهر الآي مقتضية لقبول ما أمروا به لوقوع بيان حكم الله
تعالى به. وفي الآية حكم آخر، وهو أنها من حيث دلت على لزوم إظهار
العلم وترك
(1/122)
كتمانه
فهي دالة على امتناع جواز أخذ الأجرة عليه; إذ غير جائز استحقاق الأجر
على ما عليه فعله، ألا ترى أنه لا يصح استحقاق الأجر على الإسلام؟ وقد
روي أن رجلا قال للنبي عليه السلام: إني أعطيت قومي مائة شاة على أن
يسلموا، فقال صلى الله عليه وسلم: "المائة شاة رد عليك، وإن تركوا
الإسلام قاتلناهم". ويدل على ذلك من جهة أخرى قوله تعالى: {إِنَّ
الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ
وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً} [البقرة: 174]، وظاهر ذلك يمنع
أخذ الأجر على الإظهار والكتمان جميعا لأن قوله تعالى: {وَيَشْتَرُونَ
بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً} [البقرة: 174] مانع أخذ البدل عليه من سائر
الوجوه; إذ كان الثمن في اللغة هو البدل، قال عمر بن أبي ربيعة:
إن كنت حاولت دنيا أو رضيت بها ... فما أصبت بترك الحج من ثمن
فثبت بذلك بطلان الإجارة على تعليم القرآن وسائر علوم الدين.
قوله تعالى: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا} يدل
على أن التوبة من الكتمان إنما يكون بإظهار البيان وأنه لا يكتفى في
صحة التوبة بالندم على الكتمان فيما سلف دون البيان فيما استقبل.
(1/123)
باب لعن الكفار
قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ
أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ
أَجْمَعِينَ} فيه دلالة على أن على المسلمين لعن من مات كافرا 1، وأن
زوال التكليف عنه بالموت لا يسقط عنه لعنه والبراءة منه لأن قوله:
{وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} قد اقتضى أمرنا بلعنه بعد موته وهذا يدل على
أن الكافر لو جن لم يكن زوال التكليف عنه بالجنون مسقطا للعنه والبراءة
منه وكذلك سبيل ما يوجب المدح والموالاة من الإيمان والصلاح أن موت من
كان كذلك أو جنونه لا يغير حكمه عما كان عليه قبل حدوث هذه الحادثة.
فإن قيل: روي عن أبي العالية أن مراد الآية أن الناس يلعنونه يوم
القيامة كقوله تعالى: {ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ
بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً} [العنكبوت: 25]! قيل له هذا
تخصيص بلا دلالة ولا خلاف أنه يستحق اللعن من الله تعالى والملائكة في
الدنيا بالآية فكذلك من الناس وإنما يشتبه ذلك على من يظن أن ذلك إخبار
من الله
ـــــــ
1 قوله "إن على المسلمين الخ" مراد المص أن تحقق موته كافرا يستحق
اللعنة من المسلمين وليس مراده أنه يجب عليهم لعنه كما يوهمه كلامه هنا
بدليل آخر كلامه "لمصححه".
(1/123)
تعالى أن
الناس يلعنونه وليس كذلك بل هو إخبار باستحقاقه اللعن من الناس لعنوه
أو لم يلعنوه.
قوله تعالى: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} وصفه تعالى لنفسه بأنه واحد
انتظم معاني كلها مرادة بهذا اللفظ منها: أنه واحد لا نظير له ولا شبيه
ولا مثل ولا مساوي في شيء من الأشياء فاستحق من أجل ذلك أن يوصف بأنه
واحد دون غيره. ومنها: أنه واحد في استحقاق العبادة والوصف له بالإلهية
لا يشاركه فيها سواه. ومنها: أنه واحد ليس بذي أبعاض ولا يجوز عليه
التجزيء والتقسيم; لأن من كان ذا أبعاض وجاز عليه التجزئة والتقسيم
فليس بواحد على الحقيقة ومنها: أنه واحد في الوجود قديما لم يزل منفردا
بالقدم لم يكن معه وجود سواه. فانتظم وصفه لنفسه بأنه واحد هذه المعاني
كلها.
قوله تعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ
اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ} الآية قد انتظمت هذه الآية ضروبا من الدلالات
على توحيد الله تعالى وأنه لا شبيه له ولا نظير، وفيها أمر لنا
بالاستدلال بها وهو قوله: {لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} يعني والله
تعالى أعلم: أنه نصبها ليستدل بها ويتوصل بها إلى معرفة الله تعالى
وتوحيده ونفي الأشباه عنه والأمثال. وفيه إبطال لقول من زعم أنه إنما
يعرف الله تعالى بالخبر وأنه لا حظ للعقول في الوصول إلى معرفة الله
تعالى.
فأما دلالة السموات والأرض على الله، فهو قيام السماء فوقنا على غير
عمد مع عظمها ساكنة غير زائلة، وكذلك الأرض تحتنا مع عظمها فقد علمنا
أن لكل واحد منهما منتهى من حيث كان موجودا في وقت واحد محتملا للزيادة
والنقصان، وعلمنا أنه لو اجتمع الخلق على إقامة حجر في الهواء من غير
علاقة ولا عمد لما قدروا عليه، فعلمنا أن مقيما أقام السماء على غير
عمد والأرض على غير قرار، فدل ذلك على وجود الباري تعالى الخالق لهما،
ودل أيضا على أنه لا يشبه الأجسام وأنه قادر لا يعجزه شيء; إذ كانت
الأجسام لا تقدر على مثل ذلك. وإذا صح ذلك ثبت أنه قادر على اختراع
الأجسام; إذ ليس اختراع الأجسام واختراع الأجرام بأبعد في العقول
والأوهام من إقامتها مع عظمها وكثافتها على غير قرار وعمد. ومن جهة
أخرى تدل على حدوث هذه الأجسام وهي امتناع جواز تعريها من الأعراض
المتضادة، ومعلوم أن هذه الأعراض محدثة لوجود كل واحد منها بعد أن لم
يكن، وما لم يوجد قبل المحدث فهو محدث، فصح بذلك حدوث هذه الأجسام،
والمحدث يقتضي محدثا كاقتضاء البناء للباني والكتابة للكاتب والتأثير
للمؤثر، فثبت بذلك أن السموات والأرض وما بينهما من آيات الله دالة
عليه.
وأما دلالة اختلاف الليل والنهار على الله تعالى، فمن جهة أن كل واحد
منهما
(1/124)
حادث بعد
الآخر، والمحدث يقتضي محدثا، فدل ذلك على محدثهما وأنه لا يشبههما; إذ
كل فاعل فغير مشبه لفعله، ألا ترى أن الباني لا يشبه بناءه والكاتب لا
يشبه كتابته؟ ومن جهة أخرى أنه لو أشبهه لجرى عليه ما يجري عليه من
دلالة الحدوث، فكان لا يكون هو أولى بالحدوث من محدثه. ولما صح أن محدث
الأجسام والليل والنهار قديم صح أنه لا يشبهها وهي تدل على أن محدثها
قادر لاستحالة وجود الفعل إلا من القادر. ويدل أن محدثها حي لاستحالة
وجود الفعل إلا من قادر حي ويدل أيضا على أنه عالم لاستحالة الفعل
المحكم المتقن إلا من عالم به قبل إحداثه. ولما كان اختلاف الليل
والنهار جاريا على منهاج واحد لا يختلف في كل صقع في الطول والقصر
أزمان السنة على المقدار الذي عرف منهما الزيادة والنقصان، دل على أن
مخترعهما قادر على ذلك عالم; إذ لو لم يكن قادرا لم يوجد منه الفعل ولو
لم يكون عالما لم يكن فعله متقنا منتظما.
وأما دلالة الفلك التي تجري في البحر على توحيد الله، فمن جهة أنه
معلوم أن الأجسام لو اجتمعت على أن تحدث مثل هذا الجسم الرقيق السيال
الحامل للفلك وعلى أن تجري الرياح المجرية للفلك لما قدرت على ذلك، ولو
سكنت الرياح بقيت راكدة على ظهر الماء لا سبيل لأحد من المخلوقين إلى
إجرائها وإزالتها، كما قال تعالى في موضع آخر: {إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ
الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَى ظَهْرِهِ} [الشورى: 33]، ففي
تسخير الله تعالى الماء لحمل السفن وتسخيره الرياح لإجرائها أعظم
الدلائل على إثبات توحيد الله تعالى القديم القادر العالم الحي الذي لا
شبه له ولا نظير; إذ كانت الأجسام لا تقدر عليه، فسخر الله الماء لحمل
السفن على ظهره، وسخر الرياح لإجرائها ونقلها لمنافع خلقه، ونبههم على
توحيده وعظم نعمته، واستدعى منهم النظر فيها ليعلموا أن خالقهم قد أنعم
بها فيشكروه على نعمه ويستحقوا به الثواب الدائم في دار السلام.
قال أبو بكر: وأما دلالة إنزاله الماء على توحيده فمن قبل أنه قد علم
كل عاقل أن من شأن الماء النزول والسيلان وأنه غير جائز ارتفاع الماء
من سفل إلى علو إلا بجاعل يجعله كذلك. فلا يخلو الماء الموجود في
السحاب من أحد معنيين: إما أن يكون محدث أحدثه هناك في السحاب، أو رفعه
من معادنه من الأرض والبحار إلى هناك. وأيهما كان فدل ذلك على إثبات
الواحد القديم الذي لا يعجزه شيء ثم إمساكه في السحاب غير سائل منه حتى
ينقله إلى المواضع التي يريدها بالرياح المسخرة لنقله فيه أدل دليل على
توحيده وقدرته، فجعل السحاب مركبا للماء والرياح مركبا للسحاب حتى
تسوقه من موضع إلى موضع ليعم نفعه لسائر خلقه كما قال تعالى: {أَوَلَمْ
يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ
(1/125)
الْمَاءَ
إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً تَأْكُلُ مِنْهُ
أَنْعَامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ} [السجدة: 27] ثم أنزل ذلك الماء قطرة
قطرة لا تلتقي واحدة مع صاحبتها في الجو مع تحريك الرياح لها حتى تنزل
كل قطرة على حيالها إلى موضعها من الأرض، ولولا أن مدبرا حكيما عالما
قادرا دبره على هذا النحو وقدره بهذا الضرب من التقدير كيف كان يجوز أن
يوجد نزول الماء في السحاب مع كثرته وهو الذي تسيل منه السيول العظام
على هذا النظام والترتيب؟ ولو اجتمع القطر في الجو وائتلف لقد كان يكون
نزولها مثل السيول المجتمعة منها بعد نزولها إلى الأرض فيؤدي إلى هلاك
الحرث والنسل وإبادة جميع ما على الأرض من شجر وحيوان ونبات، وكان يكون
كما وصف الله تعالى من حال الطوفان في نزول الماء من السماء في قوله
تعالى: {فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ} [القمر:
11] فيقال إنه كان صبا كنحو السيول الجارية في الأرض. ففي إنشاء الله
تعالى السحاب في الجو وخلق الماء فيه وتصريفه من موضع إلى موضع أدل
دليل على توحيده وقدرته وأنه ليس بجسم ولا مشبه الأجسام; إذ الأجسام لا
يمكنها فعل ذلك ولا ترومه ولا تطمع فيه.
وأما دلالة إحياء الله الأرض بعد موتها على توحيده، فهي من جهة أن
الخلق كلهم لو اجتمعوا على إحياء شيء منها لما قدروا عليه ولما أمكنهم
إنبات شيء من النبات فيها، فإحياء الله تعالى الأرض بالماء وإنباته
أنواع النبات فيها التي قد علمنا يقينا ومشاهدة أنه لم يكن فيها شيء
منه. ثم كل شيء من النبات لو فكرت فيه على حياله لوجدته دالا على أنه
من صنع صانع حكيم قادر عالم بما قدره عليه من ترتيب أجزائه ونظمها على
غاية الإحكام من أدل الدليل على أن خالق الجميع واحد، وأنه قادر عالم،
وأنه ليس من فعل الطبيعة على ما يدعيه الملحدون في آيات الله تعالى; إذ
الماء النازل من السماء على طبيعة واحدة، وكذلك أجزاء الأرض والهواء
ويخرج منه أنواع النبات والأزهار والأشجار المثمرة والفواكه المختلفة
الطعوم والألوان والأشكال، فلو كان ذلك من فعل الطبيعة لوجب أن يتفق
موجبها إذ المتفق لا يوجب المختلف، فدل ذلك على أنه من صنع صانع حكيم
قد خلقه وقدره على اختلاف أنواعه وطعومه وألوانه رزقا للعباد ودلالة
لهم على صنعه ونعمه.
وأما دلالة ما بث فيها من دابة على توحيده، فهي كذلك في الدلالة أيضا
في اختلاف أنواعه; إذ غير جائز أن تكون الحيوانات هي المحدثة لأنفسها،
لأنها لا تخلو من أن تكون أحدثتها وهي موجودة أو معدومة، فإن كانت
موجودة فوجودها قد أغنى عن إحداثها، وإن كانت معدومة فإنه يستحيل إيجاد
الفعل من المعدوم، ومع ذلك فقد علمنا
(1/126)
أنها بعد
وجودها غير قادرة على اختراع الأجسام وإنشاء الأجرام، فهي في حال عدمها
أحرى أن لا تكون قادرة عليها. وأيضا فإنه لا يقدر أحد من الحيوان على
الزيادة في أجزائه، فهو بنفي القدرة على إحداث جميعه أولى، فثبت أن
المحدث لها هو القادر الحكيم الذي لا يشبهه شيء، ولو كان محدث هذه
الحيوانات مشبها لها من وجه لكان حكمه حكمها في امتناع جواز وقوع إحداث
الأجسام.
وأما دلالة تصريف الرياح على توحيده، فهي أن الخلق لو اجتمعوا على
تصريفها لما قدروا عليه. ومعلوم أن تصريفها تارة جنوبا وتارة شمالا
وتارة صبا وتارة دبورا محدث، فعلمنا أن المحدث لتصريفها هو القادر الذي
لا شبه له; إذ كان معلوما استحالة إحداث ذلك من المخلوقين.
فهذه دلائل قد نبه الله تعالى العقلاء عليها وأمرهم بالاستدلال بها.
وقد كان الله تعالى قادرا على إحداث النبات من غير ماء ولا زراعة،
وإحداث الحيوانات بلا نتاج ولا زواج، ولكنه تعالى أجرى عادته في إنشاء
خلقه على هذا تنبيها لهم عند كل حادث من ذلك على قدرته والفكر في
عظمته، وليشعرهم في كل وقت ما أغفلوه ويزعج خواطرهم للفكر فيما أهملوه.
فخلق تعالى الأرض والسماء ثابتتين دائمتين لا تزولان ولا تتغيران عن
الحال التي جعلهما وخلقهما عليها بدءا إلى وقت فنائهما، ثم أنشأ
الحيوان من الناس وغيرهم من الأرض، ثم أنشأ للجميع رزقا منها وأقواتا
بها تبقى حياتهم، ولم يعطهم ذلك الرزق جملة فيظنون أنهم مستغنون بما
أعطوا بل جعل لهم قوتا معلوما في كل سنة بمقدار الكفاية لئلا يبطروا
ويكونوا مستشعرين للافتقار إليه في كل حال، ووكل إليهم في بعض الأسباب
التي يتوصلون بها إلى ذلك من الحرث والزراعة ليشعرهم أن الأعمال ثمرات
من الخير والشر فيكون ذلك داعيا لهم إلى فعل الخير فيجتنون ثمرته
واجتناب الشر ليسلموا من شر مغبته ثم تولى هو لهم من إنزال الماء من
السماء ما لم يكن في وسعهم وطاقتهم أن ينزلوه لأنفسهم، فأنشأ سحابا في
الجو وخلق فيه الماء، ثم أنزله على الأرض بمقدار الحاجة، ثم أنبت لهم
به سائر أقواتهم وما يحتاجون إليه لملابسهم. ثم لم يقتصر فيما أنزل من
السماء على منافعه في وقت منافعه حتى جعل لذلك الماء مخازن وينابيع في
الأرض يجتمع فيه ذلك الماء فيجري أولا فأولا على مقدار الحاجة كما قال
تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً
فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الْأَرْضِ} [الزمر: 21] ولو كان على ما نزل
من السماء من غير حبس له في الأرض لوقت الحاجة لسال كله وكان في ذلك
تلف سائر الحيوان الذي على ظهرها لعدمه الماء. فتبارك الله رب العالمين
(1/127)
الذي جعل
الأرض بمنزلة البيت الذي يأوي إليه الإنسان، وجعل السماء بمنزلة السقف،
وجعل سائر ما يحدثه من المطر والنبات والحيوان بمنزلة ما ينقله الإنسان
إلى بيته لمصالحه ثم سخر هذه الأرض لنا وذللها للمشي عليها وسلوك
طرقها، ومكننا من الانتفاع بها في بناء البيوت والدور لنسكن من المطر
والحر والبرد وتحصنا من الأعداء لم تخرجنا إلى غيرها، فأي موضع منها
أردنا الانتفاع به في إنشاء الأبنية مما هو موجود فيها من الحجارة
والجص والطين ومما يخرج منها من الخشب والحطب أمكننا ذلك وسهل علينا
سوى ما أودعها من الجواهر التي عقد بها منافعنا من الذهب والفضة
والحديد والرصاص والنحاس وغير ذلك كما قال تعالى: {وَقَدَّرَ فِيهَا
أَقْوَاتَهَا} [فصلت: 10] فهذه كلها وما يكثر تعداده ولا يحيط علمنا به
من بركات الأرض ومنافعها.
ثم لما كانت مدة أعمارنا وسائر الحيوان لا بد من أن تكون متناهية جعلها
كفاتا لنا بعد الموت كما جعلها في الحياة فقال تعالى: {أَلَمْ نَجْعَلِ
الْأَرْضَ كِفَاتاً أَحْيَاءً وَأَمْوَاتاً} [المرسلات: 25 – 26] وقال
تعالى: {إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا
لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا
عَلَيْهَا صَعِيداً جُرُزاً} [الكهف: 7 – 8] ثم لم يقتصر فيما خلق من
النبات والحيوان على الملذ دون المؤلم ولا على الغذاء دون السم ولا على
الحلو دون المر، بل مزج ذلك كله ليشعرنا أنه غير مريد منا الركون إلى
هذه اللذات ولئلا تطمئن نفوسنا إليها فتشتغل بها عن دار الآخرة التي
خلقنا لها، فكان النفع والصلاح في الدين في الذوات المؤلمة المؤذية كهو
في الملذة السارة، وليشعرنا في هذه الدنيا كيفية الآلام ليصح الوعيد
بآلام الآخرة ولننزجر عن القبائح فنستحق النعيم الذي لا يشوبه كدر ولا
تنغيص.
فلو اقتصر العاقل من دلائل التوحيد على ما ذكره الله تعالى في هذه
الآية الواحدة لكان كافيا شافيا في إثباته وإبطال قول سائر أصناف
الملحدين من أصحاب الطبائع ومن الثنوية ومن يقول بالتشبيه. ولو بسطت
معنى الآية وما تضمنته من ضروب الدلائل لطال وكثر، وفيما ذكرنا كفاية
في هذا الموضع; إذ كان الغرض فيه التنبيه على مقتضى دلالة الآية بوجيز
من القول دون الاستقصاء. والله نسأل حسن التوفيق للاستدلال بدلائله
والاهتداء بهداه وحسبنا الله ونعم الوكيل.
(1/128)
باب إباحة ركوب البحر
وفي قوله تعالى: {وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا
يَنْفَعُ النَّاسَ} دلالة على إباحة ركوب البحر غازيا وتاجرا ومبتغيا
لسائر المنافع; إذ لم يخص ضربا من المنافع دون
(1/128)
غيره.
وقال تعالى: {هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ}
[يونس: 22]، وقال: {رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي
الْبَحْرِ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ} [الإسراء: 66]. وقوله:
{وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ} قد انتظم التجارة وغيرها، كقوله تعالى:
{فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا
مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} [الجمعة: 10] وقال تعالى: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ
جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ} [البقرة: 198].
وقد روي عن جماعة من الصحابة إباحة التجارة في البحر، وقد كان عمر بن
الخطاب منع الغزو في البحر إشفاقا على المسلمين. وروي عن ابن عباس أنه
قال: لا يركب أحد البحر إلا غازيا أو حاجا أو معتمرا وجائز أن يكون ذلك
منه على وجه المشورة والإشفاق على راكبه. وقد روي ذلك في حديث عن النبي
صلى الله عليه وسلم حدثنا محمد بن بكر البصري قال: حدثنا أبو داود قال:
حدثنا سعيد بن منصور قال: حدثنا إسماعيل بن زكريا، عن مطرف، عن بشر أبي
عبيد الله، عن بشير بن مسلم، عن عبد الله بن عمر قال: قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم: "لا يركب البحر إلا حاج أو معتمر أو غاز في سبيل
الله، فإن تحت البحر نارا وتحت النار بحرا" 1 وجائز أن يكون ذلك على
وجه الاستحباب لئلا يغرر بنفسه في طلب الدنيا وأجاز ذلك في الغزو والحج
والعمرة; إذ لا غرر فيه; لأنه إن مات في هذا الوجه غرقا كان شهيدا.
وحدثنا محمد بن بكر قال: حدثنا أبو داود: حدثنا سليمان بن داود العتكي:
حدثنا حماد بن زيد، عن يحيى بن سعيد، عن محمد بن يحيى بن حبان، عن أنس
بن مالك قال: حدثتني أم حرام بنت ملحان أخت أم سليم أن رسول الله صلى
الله عليه وسلم قال عندهم فاستيقظ وهو يضحك، قالت: فقلت يا رسول الله
وما أضحكك؟ قال: "رأيت قوما ممن يركب 2 ظهر هذا البحر كالملوك على
الأسرة" قالت: قلت يا رسول الله ادع الله أن يجعلني منهم قال: "فإنك
منهم" قالت: ثم نام فاستيقظ وهو يضحك، قالت: فقلت يا رسول الله ما
أضحكك؟ فقال مثل مقالته. قلت: يا رسول الله ادع الله أن يجعلني منهم
قال: "أنت من الأولين". قال: فتزوجها عبادة بن الصامت فغزا في البحر
فحملها معه، فلما رجع قربت لها بغلة لتركبها فصرعتها فاندقت عنقها
فماتت.
وحدثنا محمد بن بكر قال: حدثنا أبو داود وحدثنا عبد الوهاب بن عبد
الرحيم
ـــــــ
1 قوله صلى الله عليه وسلم: "فإن تحت البحر نارا وتحت النار بحرا" فيه
دليل ظاهر للقائلين بأن جوف الأرض مشتعل بالنار وبأن القسم الأعظم من
كرة الأرض مغمور سطحه من جميع جهاته بماء البحر "لمصححه".
2 قوله "ممن يركب" في رواية: من أمتي يركبون الخ" "لمصححه".
(1/129)
الجويري
الدمشقي قال: حدثنا مروان قال: أخبرنا هلال بن ميمون الرملي، عن يعلى
بن شداد، عن أم حرام، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "المائد في
البحر الذي يصيبه القيء له أجر شهيد، والغرق له أجر شهيدين" والله
تعالى أعلم.
(1/130)
باب تحريم الميتة
قال الله تعالى: {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ
وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ}. قال أبو
بكر: الميتة في الشرع اسم للحيوان الميت غير المذكى، وقد يكون ميتة بأن
يموت حتف أنفه من غير سبب لآدمي فيه، وقد يكون ميتة لسبب فعل آدمي إذا
لم يكن فعله فيه على وجه الذكاة المبيحة له. وسنبين شرائط الذكاة في
موضعها إن شاء الله تعالى. والميتة وإن كانت فعلا لله تعالى وقد علق
التحريم بها مع علمنا بأن التحريم والتحليل والحظر والإباحة إنما
يتناولان أفعالنا ولا يجوز أن يتناولا فعل غيرنا; إذ غير جائز أن ينهى
الإنسان عن فعل غيره ولا أن يؤمر به، فإن معنى ذلك لما كان معقولا عند
المخاطبين جاز إطلاق لفظ التحريم والتحليل فيه وإن لم يكن حقيقة، وكان
ذلك دليلا على تأكيد حكم التحريم، فإنه يتناول سائر وجوه المنافع،
ولذلك قال أصحابنا: لا يجوز الانتفاع بالميتة على وجه ولا يطعمها
الكلاب والجوارح لأن ذلك ضرب من الانتفاع بها، وقد حرم الله الميتة
تحريما مطلقا معلقا بعينها مؤكدا به حكم الحظر فلا يجوز الانتفاع بشيء
منها إلا أن يخص شيء منها بدليل يجب التسليم له.
وقد روي عن النبي عليه السلام تخصيص ميتة السمك والجراد من هذه الجملة
بالإباحة، فروى عبد الرحمن بن زيد بن أسلم عن أبيه عن ابن عمر قال: قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أحلت لنا ميتتان ودمان، فأما الميتتان
فالجراد والسمك، وأما الدمان فالطحال والكبد". وروى عمرو بن دينار عن
جابر في قصة جيش الخبط أن البحر ألقى إليهم حوتا فأكلوا منه نصف شهر،
ثم لما رجعوا أخبروا النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "هل عندكم منه شيء
تطعموني؟". ولا خلاف بين المسلمين في إباحة السمك غير الطافي وفي
الجراد.
ومن الناس من استدل على تخصيص عموم آية تحريم الميتة بقوله تعالى:
{أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعاً لَكُمْ}
[المائدة: 96] وبقول النبي عليه السلام في حديث صفوان بن سليم الزرقي،
عن سعيد بن سلمة، عن المغيرة بن أبي بردة، عن أبي هريرة، عن النبي صلى
الله عليه وسلم أنه قال في البحر: "هو الطهور ماؤه الحل ميتته". وسعيد
بن سلمة مجهول غير معروف بالثبت، وقد خالفه في سنده يحيى بن سعيد
الأنصاري، فرواه عن المغيرة بن عبد الله بن أبي بردة عن أبيه عن رسول
الله صلى الله عليه وسلم ومثل هذا الاختلاف في السند يوجب
(1/130)
اضطراب
الحديث، وغير جائز تخصيص آية محكمة به.
وقد روى ابن زياد بن عبد الله البكائي قال: حدثنا سليمان الأعمش قال:
حدثنا أصحابنا عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في
البحر: "ذكي صيده طهور ماؤه" وهذا أضعف عند أهل النقل من الأول. وقد
روي فيه حديث آخر، وهو ما رواه يحيى بن أيوب عن جعفر بن ربيعة، وعمرو
بن الحارث عن بكر بن سوادة، عن أبي معاوية العلوي، عن، مسلم بن مخشي
المدلجي، عن الفراسي، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في البحر:
"هو الطهور ماؤه الحل ميتته" وهذا أيضا لا يحتج به لجهالة رواته، ولا
يخص به ظاهر القرآن.
وحدثنا عبد الباقي قال: حدثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل قال: حدثنا
أحمد بن حنبل قال: حدثنا أبو القاسم بن أبي الزناد قال: حدثنا إسحاق بن
حازم، عن عبد الله بن مقسم، عن عطاء، عن جابر بن عبد الله، عن النبي
صلى الله عليه وسلم أنه سئل عن البحر فقال: "هو الطهور ماؤه الحل
ميتته".
قال أبو بكر: وقد اختلف في السمك الطافي وهو الذي يموت في الماء حتف
أنفه فكرهه أصحابنا والحسن بن حي. وقال مالك والشافعي: "لا بأس به" وقد
اختلف السلف فيه أيضا، فروى عطاء بن السائب عن ميسرة عن علي عليه
السلام قال:
"ما طفا من ميتة البحر فلا تأكله". وروى عمرو بن دينار عن جابر بن عبد
الله، وعبد الله بن أبي الهذيل عن ابن عباس: أنهما كرها الطافي. فهؤلاء
الثلاثة من الصحابة قد روي عنهم كراهته. وروي عن جابر بن زيد وعطاء
وسعيد بن المسيب والحسن وابن سيرين وإبراهيم كراهيته. وروي عن أبي بكر
الصديق وأبي أيوب إباحة أكل الطافي من السمك.
والذي يدل على حظر أكله ظاهر قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ
الْمَيْتَةُ} [المائدة: 3] واتفق المسلمون على تخصيص غير الطافي من
الجملة فخصصناه، واختلفوا في الطافي فوجب استعمال حكم العموم فيه. وقد
حدثنا محمد بن بكر قال: حدثنا أبو داود قال: حدثنا أحمد بن عبدة: حدثنا
يحيى بن سليم الطائفي قال: حدثنا إسماعيل بن أمية عن أبي الزبير عن
جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما ألقى
البحر أو جزر عنه فكلوه، وما مات فيه وطفا فلا تأكلوه!" . وروى إسماعيل
بن عياش قال: حدثني عبد العزيز بن عبد الله عن وهب بن كيسان، ونعيم بن
عبد الله المجمر عن جابر بن عبد الله، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم
قال: "ما جزر عنه البحر فلا تأكل 1 وما ألقى فكل، وما وجدته ميتا طافيا
فلا تأكله!"
ـــــــ
1 قوله: "ما جزر عنه البحر فلا تأكل" هكذا في جميع النسخ التي بأيدينا،
ولم نقف على هذه الرواية في جامع الأصول لابن الأثير ولا في جمع
الجوامع للسيوطي، وهي رواية مخالفة لغيرها من الروايات الواردة في أن
ما جزر عنه البحر في حكم ما ألقاه. "لمصححه".
(1/131)
وقد روى
ابن أبي ذئب عن أبي الزبير عن جابر عن النبي عليه الصلاة والسلام مثله.
وحدثنا عبد الباقي بن قانع قال: حدثنا موسى بن زكريا قال: حدثنا سهل بن
عثمان قال: حدثنا حفص، عن يحيى بن أبي أنيسة، عن أبي الزبير، عن جابر
بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا وجدتموه حيا
فكلوه، وما ألقى البحر حيا فمات فكلوه، وما وجدتموه ميتا طافيا فلا
تأكلوه" وحدثنا ابن قانع قال: حدثنا عبد الله بن موسى بن أبي عثمان
الدهقان قال: حدثنا الحسين بن يزيد الطحان: حدثنا حفص بن غياث، عن ابن
أبي ذئب، عن أبي الزبير، عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى
الله عليه وسلم: "ما صدتموه وهو حي فمات فكلوه، وما ألقى البحر ميتا
طافيا فلا تأكلوه".
فإن قيل: قد روى هذا الحديث سفيان الثوري وأيوب وحماد عن أبي الزبير
موقوفا على جابر قيل له: هذا لا يفسده عندنا، لأنه جائز أن يرويه عن
النبي صلى الله عليه وسلم تارة ثم يرسل عنه فيفتي به، وفتياه بما رواه
عن النبي صلى الله عليه وسلم غير مفسد له بل يؤكده. على أن إسماعيل بن
أمية فيما يرويه عن أبي الزبير ليس بدون من ذكرت، وكذلك ابن أبي ذئب،
فزيادتهما في الرفع مقبولة على هؤلاء.
فإن قيل: قد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم: "أحلت لنا ميتتان ودمان
السمك والجراد" وذلك عموم في جميعه قيل له: يخص ما ذكرنا وروينا في
النهي عن الطافي، ويلزم مخالفنا على أصله في ترتيب الأخبار أن يبني
العام على الخاص فيستعملهما وأن لا يسقط الخاص بالعام، وعلى أن هذا خبر
في رفعه اختلاف، فرواه مرحوم العطار عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم عن
أبيه عن ابن عمر موقوفا عليه، ورواه يحيى الحماني عن عبد الرحمن بن زيد
مرفوعا، فيلزمك فيه مثل ما رمت إلزامنا إياه في خبر الطافي.
فإن احتج بما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الطهور ماؤه الحل
ميتته" ولم يخصص الطافي من غيره. قيل له: نستعملهما جميعا ونجعلهما
كأنهما وردا معا، نستعمل خبر الطافي في النهي ونستعمل خبر الإباحة فيما
عدا الطافي.
فإن قيل: فإن من أصل أبي حنيفة في الخاص والعام أنه متى اتفق الفقهاء
على استعمال أحد الخبرين واختلفوا في استعمال الآخر كان ما اتفق في
استعماله قاضيا على ما اختلف فيه، وقوله صلى الله عليه وسلم: "هو الحل
ميتته" و "أحلت لنا ميتتان" متفق على استعمالهما وخبر الطافي مختلف
فيه، فينبغي أن يقضى عليه بالخبرين الآخرين قيل له: إنما يعرف
(1/132)
ذلك من
مذهبه وقوله فيما لم يعضده نص الكتاب، فأما إذا كان عموم الكتاب معاضدا
للخبر المختلف في استعماله فإنا لا نعرف قوله فيه. وجائز أن يقال إنه
لا يعتبر وقوع الخلاف في استعماله بعد أن يعضده عموم الكتاب، فيستعمل
حينئذ مع العام المتفق على استعماله، ويكون ذلك مخصوصا منه. فإن احتجوا
بحديث جابر في قصة جيش الخبط وإباحة النبي عليه السلام أكل الحوت الذي
ألقاه البحر، فليس ذلك عندنا بطاف وإنما الطافي ما مات حتف أنفه في
الماء من غير سبب حادث.
ومن الناس من يظن أن كراهة الطافي من أجل بقائه في الماء حتى طفا عليه
فيلزموننا عليه الحيوان المذكى إذا ألقي في الماء حتى طفا عليه. وهذا
جهل منهم بمعنى المقالة وموضع الخلاف لأن السمك لو مات ثم طفا على
الماء لأكل، ولو مات حتف أنفه ولم يطف على الماء لم يؤكل، والمعنى فيه
عندنا هو موته في الماء حتف أنفه لا غير. وقد روى لنا عبد الباقي حديثا
وقال لنا إنه حديث منكر، فذكر أنه حدثه به عبيد بن شريك البزاز قال:
حدثنا أبو الجماهر قال: حدثنا سعيد بن بشير، عن أبان بن أبي عياش، عن
أنس بن مالك، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "كل ما طفا على البحر"
وأبان بن أبي عياش ليس هو ممن يثبت ذلك بروايته، قال شعبة: لأن أزني
سبعين زنية أحب إلي من أن أروي عن أبان بن أبي عياش.
فإن احتج محتج بقوله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ
وَطَعَامُهُ} [المائدة: 96] وأنه عموم في الطافي وغيره، قيل له: الجواب
عنه من وجهين: أحدهما: أنه مخصوص بما ذكرنا من تحريم الميتة والأخبار
الواردة في النهي عن أكل الطافي. والثاني: أنه روي في التفسير في قوله
تعالى: {وَطَعَامُهُ} [المائدة: 96] أنه ما ألقاه البحر فمات، وصيده ما
اصطادوا وهو حي، والطافي خارج منهما لأنه ليس مما ألقاه البحر ولا مما
صيد; إذ غير جائز أن يقال: اصطاد سمكا ميتا، كما لا يقال: اصطاد ميتا.
فالآية لم تنتظم الطافي ولم تتناوله، والله أعلم.
(1/133)
باب أكل الجراد
قال أصحابنا والشافعي رضي الله عنهم: لا بأس بأكل الجراد كله ما أخذته
وما وجدته ميتا. وروى ابن وهب عن مالك أنه إذا أخذه حيا ثم قطع رأسه
وشواه أكل، وما أخذ حيا فغفل عنه حتى مات لم يؤكل، وإنما هو بمنزلة ما
لو وجده ميتا قبل أن يصطاده فلا يؤكل، وهو قول الزهري وربيعة. وقال
مالك: "وما قتله مجوسي لم يؤكل". وقال الليث بن سعد: "أكره أكل الجراد
ميتا، فأما الذي أخذته حيا فلا بأس به".
(1/133)
قال أبو
بكر: قول النبي عليه السلام في حديث ابن عمر: "أحلت لنا ميتتان ودمان
السمك والجراد" يوجب إباحته جميعه، مما وجد ميتا ومما قتله آخذه. وقد
استعمل الناس جميعهم هذا الخبر في إباحة أكل الجراد فوجب استعماله على
عمومه من غير شرط لقتل آخذه; إذ لم يشترطه النبي صلى الله عليه وسلم
حدثنا عبد الباقي قال: حدثنا الحسن بن المثنى قال: حدثنا مسلم بن
إبراهيم قال: حدثنا زكريا بن يحيى بن عمارة الأنصاري قال: حدثنا فائد
أبو العوام، عن أبي عثمان النهدي، عن سلمان, أن النبي صلى الله عليه
وسلم سئل عن الجراد قال: "أكثر جنود الله، لا آكله ولا أحرمه". وما لم
يحرمه النبي صلى الله عليه وسلم فهو مباح وترك أكله لا يوجب حظره; إذ
جائز ترك أكل المباح وغير جائز نفي التحريم عما هو محرم، ولم يفرق بين
ما مات وبين ما قتله آخذه. وقال عطاء عن جابر: "غزونا مع رسول الله صلى
الله عليه وسلم فأصبنا جرادا فأكلناه". وقال عبد الله بن أبي أوفى:
"غزوت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سبع غزوات نأكل الجراد ولا نأكل
غيره".
قال أبو بكر: ولم يفرق بين ميته وبين مقتوله، حدثنا عبد الباقي قال:
حدثنا موسى بن زكريا التستري قال: حدثنا أبو الخطاب قال: حدثنا أبو
عتاب: حدثنا النعمان، عن عبيدة، عن إبراهيم، عن الأسود، عن عائشة: أنها
كانت تأكل الجراد وتقول: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأكله.
قال أبو بكر: فهذه الآثار الواردة في الجراد لم يفرق في شيء منها بين
ميته وبين مقتوله. فإن قيل: ظاهر قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ
الْمَيْتَةُ} [المائدة: 3] يقتضي حظر جميعها فلا يخص منها إلا ما
أجمعوا عليه، وهو ما يقتله آخذه، وما عداه فهو محمول على ظاهر الآية في
إيجاب تحريمه قيل له: تخصه الأخبار الواردة في إباحته وهي مستعملة عند
الجميع في تخصيص الآية. ولم تفرق هذه الأخبار بين شيء منها، فلم يجز
تخصيص شيء منها ولا الاعتراض عليها بالآية لاتفاق الجميع على أنها
قاضية على الآية مخصصة لها. وليس الجراد عندنا مثل السمك في حظرنا
للطافي منه دون غيره; لأن الأخبار الواردة في تخصيص السمك بالإباحة من
جملة الميتة بإزائها أخبار أخر في حظر الطافي منه، فاستعملناها جميعا
وقضينا بالخاص منها على العام مع معاضدة الآية لأخبار الحظر. وأيضا
فإنه لما وافقنا مالك ومن تابعه على إباحة المقتول منه دل ذلك على أنه
لا فرق بينه وبين الميت من غير قتل وذلك لأن القتل ليس بذكاة في حقه
لأن الذكاة في الأصل على وجهين وهي فيما له دم سائل: أحدهما قطع
الحلقوم والأوداج في حال إمكانه، والآخر: إسالة دمه عند تعذر الذبح،
ألا ترى أن الصيد لا يكون مذكى بإصابته إلا أن يجرحه ويسفح دمه؟ فلما
لم يكن للجراد دم سائل كان قتله وموته حتف أنفه
(1/134)
سواء، كما
كان قتل ما له دم سائل من غير سفح دمه وموته حتف أنفه سواء في كونه غير
مذكى. فكذلك واجب أن يستوي حكم قتل الجراد وموته حتف أنفه; إذ ليس هو
مما يسفح دمه.
فإن قيل: قد فرقت بين السمك الطافي وما قتله آخذه أو مات بسبب حادث،
فما أنكرت من فرقنا بين ما مات من الجراد وما قتل منه؟ قيل له: الجواب
عن هذا من وجهين: أحدهما أن هذا هو القياس في السمك لما لم يحتج في صحة
ذكاته إلى سفح الدم، إلا أنا تركنا القياس للآثار التي ذكرنا، ومن
أصلنا تخصيص القياس بالآثار. وليس معك الأثر في تخصيص بعض الجراد
بالإباحة دون بعض، فوجب استعمال أخبار الإباحة في الكل والوجه الآخر:
أن السمك له دم سائل فكان له ذكاة من جهة القتل ولم يحتج إلى سفح دمه
في شرط الذكاة، لأن دمه طاهر وهو يؤكل بدمه، فلذلك شرط فيه موته بسبب
حادث يقوم له مقام الذكاة في سائر ما له دم سائل، وهذا المعنى غير
موجود في الجراد، فلذلك اختلفا، وقد روي عن ابن عمر أنه قال: الجراد
كله ذكي وعن عمر وصهيب والمقداد إباحة أكل الجراد، ولم يفرقوا بين شيء
منه، والله أعلم.
(1/135)
باب ذكاة الجنين
قال أبو بكر: اختلف أهل العلم في جنين الناقة والبقرة وغيرهما إذا خرج
ميتا بعد ذبح الأم، فقال أبو حنيفة رضي الله عنه: لا يؤكل إلا أن يخرج
حيا فيذبح وهو قول حماد. وقال أبو يوسف ومحمد والشافعي رحمة الله
عليهم: يؤكل أشعر أو لم يشعر وهو قول الثوري. وقد روي عن علي وابن عمر
قالا ذكاة الجنين ذكاة أمه. وقال مالك: إن تم خلقه ونبت شعره أكل وإلا
فلا وهو قول سعيد بن المسيب. وقال الأوزاعي: إذا تم خلقه فذكاة أمه
ذكاته قال الله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ}
وقال في آخرها {إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ} [المائدة: 3] وقال: إنما
{حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} فحرم الله الميتة مطلقا واستثنى
المذكى منها وبين النبي صلى الله عليه وسلم الذكاة في المقدور على
ذكاته في النحر واللبة وفي غير المقدور على ذكاته بسفح دمه فقوله عليه
السلام: "أنهر الدم بما شئت". وقوله في المعراض: "إذا خزق فكل وإذا لم
يخزق فلا تأكل" فلما كانت الذكاة منقسمة إلى هذين الوجهين وحكم الله
بتحريم الميتة حكما عاما واستثنى منه المذكى بالصفة التي ذكرنا على
لسان نبيه ولم تكن هذه الصفة موجودة في الجنين، كان محرما بظاهر الآية.
واحتج من أباح ذلك بأخبار رويت من طرق، منها عن أبي سعيد الخدري وأبي
(1/135)
الدرداء
وأبي أمامة وكعب بن مالك وابن عمر وأبي أيوب وأبي هريرة، أن النبي صلى
الله عليه وسلم قال: "ذكاة الجنين ذكاة أمه". وهذه الأخبار كلها واهية
السند عند أهل النقل كرهت الإطالة بذكر أسانيدها وبيان ضعفها
واضطرابها; إذ ليس في شيء منها دلالة على موضع الخلاف، وذلك لأن قوله:
"ذكاة الجنين ذكاة أمه" يحتمل أن يريد به أن ذكاة أمه ذكاة له، ويحتمل
أن يريد به إيجاب تذكيته كما تذكى أمه وأنه لا يؤكل بغير ذكاة كقوله
تعالى: {وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ} [آل عمران:
133] معناه كعرض السموات والأرض، وكقول القائل: "قولي قولك ومذهبي
مذهبك" والمعنى قولي كقولك ومذهبي كمذهبك، وقال الشاعر:
فعيناك عيناها وجيدك جيدها ... سوى أن عظم الساق منك دقيق
ومعناه: فعيناك كعينيها وجيدك كجيدها. وإذا احتمل اللفظ لما وصفنا ولم
يجز أن يكون المعنيان جميعا مرادين بالخبر لتنافيهما; إذ كان في أحد
المعنيين إيجاب تذكيته، فإنه لا يؤكل غير مذكى في نفسه والآخر يبيح
أكله بذكاة أمه; إذ غير معتبر ذكاته في نفسه، لم يجز لنا أن نخصص الآية
به ووجب أن يكون محمولا على موافقة الآية; إذ غير جائز تخصيص الآية
بخبر الواحد واهي السند محتمل لموافقتها. ويدل على أن مراده إيجاب
تذكيته كما تذكى الأم اتفاق الجميع على أنه إذا خرج حيا وجب تذكيته ولم
يجز الاقتصار على تذكية الأم، فكان ذلك مرادا بالخبر فلم يجز أن يريد
به مع ذلك ذكاة أمه ذكاة له لتنافيهما وتضادهما; إذ كان في أحد
المعنيين إيجاب تذكيته وفي الآخر نفيه.
فإن قال قائل: ما أنكرت أن نريد المعنيين في حالين بأن يجب ذكاته إذا
خرج حيا ويقتصر على ذكاة أمه إذا خرج ميتا؟ قيل له: ليس ذكر الحالين
موجودا في الخبر، وهو لفظ واحد ولا يجوز أن يريد به الأمرين جميعا، لأن
في إرادة أحد المعنيين إثبات زيادة حرف وليس في الآخر إثبات زيادة حرف،
وليس في الجائز أن يكون لفظ واحد فيه حرف وغير حرف، فلذلك بطل قول من
يقول بإرادتهما.
فإن قيل: إذا كان إرادة أحد المعنيين توجب زيادة حرف وهو الكاف وليس في
الآخر زيادة، فحمله على المعنى الذي لا يفتقر إلى زيادة أولى; لأن حذف
الحرف يوجب أن يكون اللفظ مجازا، وإذا لم يكن فيه حذف شيء فهو حقيقة،
وحمل اللفظ على الحقيقة أولى من حمله على المجاز قيل له: كون الحرف
محذوفا أو غير محذوف لا يزيل عنه الاحتمال; لأنه. وإن كان مجازا فهو
مفهوم اللفظ محتمل له، ولا فرق بين الحقيقة والمجاز فيما هو من مقتضى
اللفظ، فلم يجز من أجل ذلك تخصيص الآية.
فإن قال قائل: ليس في اللفظ احتمال كونه غير مذكى بذكاة الأم لأنه لا
يسمى
(1/136)
جنينا إلا
في حال كونه في بطن أمه، ومتى باينها لا يسمى جنينا، والنبي عليه
السلام إنما أثبت له الذكاة في حال اتصاله بالأم، وذلك يوجب أن يكون
مذكى بتلك الحال في ذكاتها قيل له: الجواب عن هذا من وجهين: أحدهما:
أنه جائز أن يسمى بعد الانفصال جنينا لقرب عهده من الاجتنان في بطن
أمه، ولا يمتنع أحد من إطلاق القول بأن الجنين لو خرج حيا ذكي كما تذكى
الأم فيطلق عليه اسم الجنين بعد الذكاة والانفصال. وقال حمل بن مالك:
كنت بين جاريتين لي فضربت إحداهما الأخرى بعمود فسطاط فألقت جنينا
ميتا، فقضى النبي صلى الله عليه وسلم بغرة عبد أو أمة فسماه جنينا بعد
الإلقاء. وإذا كان ذلك كذلك جاز أن يكون مراد النبي عليه السلام: "ذكاة
الجنين ذكاة أمه" أنه يذكى كما تذكى أمه إذا ألقته حيا. والوجه الآخر:
أنه لو كان مراده كونه مذكى وهو جنين لوجب أن يكون مذكى بذكاة الأم وإن
خرج حيا، وأن موته بعد خروجه لا يكسبه حكم الميتات كموته في بطن أمه،
فلما اتفق الجميع على أن خروجه حيا يمنع أن يكون ذكاة الأم ذكاته ثبت
أنه لم يرد إثبات ذكاة الأم له في حال اتصاله بالأم.
فإن قال قائل: إنما أراد إثبات الحكم بحال خروجه ميتا قيل له: هذه
دعواك لم يذكرها النبي صلى الله عليه وسلم فإن جاز أن تشترط فيه موته
في حال كونه جنينا وإن لم يذكره النبي صلى الله عليه وسلم جاز لنا أن
نشترط إيجاب ذكاته خرج حيا أو ميتا، فمتى لم يوجد له ذكاة في نفسه لم
يجز أكله. وعلى أنا متى شرطنا إيجاب ذكاته في نفسه غير معتبر بأمه
استعملنا الخبر على عمومه فجعلنا إباحة الأكل معلقة بوجود الذكاة فيه
في حال كونه جنينا وبعد خروجه، وحمل الخبر على ذلك أولى من الاقتصار به
على ما ذكرت وإثبات ضمير فيه لا ذكر له في الخبر ولا دلالة عليه.
فإن قال قائل: حمل الخبر على ما ذكرت في إيجاب ذكاته إذا خرج يسقط
فائدته; لأن ذلك معلوم قبل وروده قيل له: ليس كذلك، من قبل أنه أفاد
أنه إن خرج حيا فقد وجبت ذكاته سواء مات في حال لم يقدر على ذكاته أو
بقي، وبطل بذلك قول من يقول إنه إن مات في وقت لا يقدر على ذكاته كان
مذكى بذكاة الأم. ومن جهة أخرى أنه حكم بإيجاب ذكاته وأنه إن خرج حيا
لم يؤكل; إذ هو غير مذكى، فإن خرج حيا ذكي، فأفاد أنه ميتة لا تؤكل،
وبطل به قول من يقول إنه لا يحتاج إلى ذكاة إذا خرج ميتا.
فإن احتج محتج بما ذكره زكريا بن يحيى الساجي عن بندار وإبراهيم بن
محمد التميمي قالا: حدثنا يحيى بن سعيد قال: حدثنا مجالد عن أبي الوداك
عن أبي سعيد، أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن الجنين يخرج ميتا
فقال: "إن شئتم فكلوه فإن ذكاته ذكاة أمه ". قيل له: قد روى هذا الحديث
جماعة من الثقات عن يحيى بن سعيد، ولم يذكروا فيه أنه
(1/137)
خرج ميتا،
ورواه جماعة عن مجالد منهم هشيم وأبو أسامة وعيسى بن يونس ولم يذكروا
فيه أنه خرج ميتا، وإنما قالوا: سئل النبي عليه السلام عن الجنين يكون
في بطن الجزور أو البقرة أو الشاة، فقال: "كلوه فإن ذكاته ذكاة أمه"
ورواه أيضا ابن أبي ليلى عن عطية عن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه
وسلم وكذلك قال كل من يروي ذلك عن النبي عليه السلام ممن قدمنا ذكره لم
يذكر واحد منهم أنه خرج ميتا، ولم تجئ هذه اللفظة إلا في رواية الساجي.
ويشبه أن تكون هذه الزيادة من عنده فإنه غير مأمون.
فإن احتج بما روي عن ابن عباس في قوله تعالى: {أُحِلَّتْ لَكُمْ
بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ} [المائدة: 1] أنها الأجنة، قيل له: إنه قد روي
عن ابن عباس أنها جميع الأنعام، وأن قوله تعالى: {إِلَّا مَا يُتْلَى
عَلَيْكُمْ} [المائدة: 1] الخنزير. وروي عن الحسن أن بهيمة الأنعام
الشاة والبعير والبقرة. والأولى أن تكون على جميع الأنعام ولا تكون
مقصورة على الجنين دون غيره; لأنه تخصيص بلا دلالة. وأيضا فإن كان
المراد الأجنة فهي على إباحتها بالذكاة كسائر الأنعام هي مباحة بشرط
ذكاتها، وكالجنين إذا خرج حيا هو مباح بشرط الذكاة. وأيضا فإن قوله
تعالى: {أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَى
عَلَيْكُمْ} [المائدة: 1] إذا كان المراد ما سيتلى عليكم في المستقبل
مما هو محرم في الحال، فهو مجمل لا يصح الاحتجاج به; لأنه يكون بمنزلة
ما لو قال: بعض الأنعام مباح وبعضه محظور. ولم يبينه فلا يصح اعتبار
عموم شيء منه.
فإن قال قائل: لما كان حكم الجنين حكم أمه فيمن ضرب بطن امرأة فماتت
وألقت جنينا ميتا ولم ينفرد بحكم نفسه، كان كذلك حكمه في الذكاة إذا
مات في بطن أمه بموتها، ولو خرج الولد حيا ثم مات انفرد بحكم نفسه دون
أمه في إيجاب الغرة فيه، فكذلك جنين الحيوان إذا مات بموت أمه وخرج
ميتا أكل، وإذا خرج حيا لم يؤكل حتى يذكى قيل له: هذا قياس فاسد لأنه
قياس حكم على حكم غيره، وإنما القياس الصحيح الجمع بين المسألتين في
حكم واحد بعلة توجب رد إحداهما إلى الأخرى. فأما في قياس مسألة على
مسألة في حكمين مختلفين فإن ذلك ليس بقياس، وقد علمنا أن المسألة التي
استشهدت بها إنما حكمها ضمان الجنين في حال انفصاله منها حيا بعد
موتها، ومسألتنا إنما هي في إثبات ذكاة الأم له في حال منعه في حال
أخرى، فكيف يصح رد هذه إلى تلك؟ ومع ذلك فلو ضرب بطن شاة أو غيرها
فألقت جنينا ميتا لم يجب للجنين أرش ولا قيمة على الضارب وإنما يجب فيه
نقصان الأم إن حدث بها نقصان. وإذا لم يكن لجنين البهائم بعد الانفصال
حكم في حياة الأم وثبت ذلك لجنين المرأة. فكيف يجوز قياس البهيمة على
الإنسان وقد اختلف حكمهما في نفس ما ذكرت؟
(1/138)
فإن قيل:
لما كان الجنين في حال اتصاله بالأم في حكم عضو من أعضائها كان بمنزلة
العضو منها إذا ذكيت الأم فيحل بذكاتها قيل له: غير جائز أن يكون
بمنزلة عضو منها لجواز خروجه حيا تارة في حياة الأم وتارة بعد موتها،
والعضو لا يجوز أن يثبت له حكم الحياة بعد انفصاله منها، فثبت أنه غير
تابع لها في حال حياتها ولا بعد موتها.
فإن قيل: الواجب أن يتبع الجنين الأم في الذكاة كما يتبع الولد الأم في
العتاق والاستيلاد والكتابة ونحوها قيل له: هذا غلط من الوجه الذي
قدمنا في امتناع قياس حكم على حكم آخر. ومن جهة أخرى أنه غير جائز إذا
أعتقت الأمة أن ينفصل الولد منها غير حر وهو تابع للأم في الأحكام التي
ذكرت، وجائز أن تذكى الأم ويخرج الولد حيا فلا يكون ذكاة الأم ذكاة له،
فعلمنا أنه لا يتبع الأم في الذكاة; إذ لو تبعها في ذلك لما جاز أن
ينفرد بعد ذكاة الأم بذكاة نفسه.
وأما مالك فإنه ذهب فيه إلى ما روي في حديث سليمان أبي عمران، عن ابن
البراء، عن أبيه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى في أجنة الأنعام
أن ذكاتها ذكاة أمها إذا أشعرت. وروى الزهري عن ابن كعب بن مالك قال:
كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقولون: إذا أشعر الجنين فإن
ذكاته ذكاة أمه. وروي عن علي وابن عمر من قولهما مثل ذلك.
فيقال له: إذا ذكر الإشعار في هذا الخبر وأبهم في غيره من الأخبار التي
هي أصح منه، وهو خبر جابر وأبي سعيد وأبي الدرداء وأبي أمامة، ولم
يشترط فيها الإشعار، فهلا سويت بينهما; إذ لم تنف هذه الأخبار ما أوجبه
خبر الإشعار; إذ هما جميعا يوجبان حكما واحدا، وإنما في أحدهما تخصيص
ذلك الحكم من غير نفي لغيره وفي الآخر إبهامه وعمومه. ولما اتفقنا
جميعا على أنه إذا لم يشعر لم تعتبر فيه ذكاة الأم واعتبرت ذكاة نفسه
وهو في هذه الحالة أقرب أن يكون بمنزلة أعضائها منه بعد مباينته لها،
وجب أن يكون ذلك حكمه إذا أشعر ويكون معنى قوله: "ذكاته ذكاة أمه" على
أنه يذكى كما تذكى أمه.
ويقال لأصحاب الشافعي: إذا كان قوله: "ذكاته ذكاة أمه" إذا أشعر، ينفي
ذكاته بأمه إذا لم يشعر، فهلا خصصت به الأخبار المبهمة; إذ كان عندكم
أن هذا الضرب من الدليل يخص به العموم بل هو أولى منه. ومما يحتج به
على الشافعي أيضا في ذلك، قوله عليه السلام: "أحلت لنا ميتتان ودمان"
ودلالة هذا الخبر يقتضي عنده تحريم سائر الميتات سواهما، فيلزمه أن
يحمل معنى. قوله: "ذكاة الجنين ذكاة أمه" على موافقة دلالة هذا الخبر.
(1/139)
باب جلود الميتة إذا دبغت
قوله تعالى: {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ}
وقوله تعالى: {قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً
عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً}
[الأنعام: 145] يقتضي تحريم الميتة بجميع أجزائها، وجلدها من أجزائها;
لأنه قد حله الموت بدلا من الحياة التي كانت فيه. إلا أن قوله: {عَلَى
طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ} [الأنعام: 145] قد دل على الاقتصار بالتحريم على
ما يتأتى فيه الأكل. وقد بين النبي عليه السلام هذا المعنى في جلد
الميتة بعد الدباغ بقوله: "إنما حرم أكلها وإنما حرم لحمها".
وقد اختلف الفقهاء في حكم جلد الميتة بعد الدباغ، فقال أبو حنيفة
وأصحابه والحسن بن صالح وسفيان الثوري وعبيد الله بن الحسن العنبري
والأوزاعي والشافعي: يجوز بيعه بعد الدباغ والانتفاع به قال الشافعي:
إلا جلد الكلب والخنزير. وأصحابنا لم يفرقوا بين جلد الكلب وغيره،
وجعلوه طاهرا بالدباغ إلا جلد الخنزير خاصة. وقال مالك: ينتفع بجلود
الميتة في الجلوس عليها ويغربل عليها ولا تباع ولا يصلى عليها. وقال
الليث بن سعد: لا بأس ببيع جلود الميتة قبل الدباغ إذا بينت أنها ميتة.
والحجة لمن طهرها وجعلها مذكاة ما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم من
الآثار المتواترة من الوجوه المختلفة بألفاظ مختلفة كلها يوجب طهارتها
والحكم بذكاتها، فمنها حديث ابن عباس قال: أيما إهاب دبغ فقد طهر وحديث
الحسن عن الجون بن قتادة عن سلمة بن المحبق: أن النبي صلى الله عليه
وسلم أتى في غزوة تبوك على بيت بفنائه قربة معلقة فاستسقى فقيل: إنها
ميتة، فقال: "ذكاة الأديم دباغته". وروى سعيد بن المسيب عن زيد بن ثابت
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "دباغ جلود الميتة طهورها" وسماك
عن عكرمة عن سودة بنت زمعة قالت: كانت لنا شاة فماتت فطرحناها، فجاء
النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "ما فعلت شاتكم؟" فقلنا: رميناها، فتلا
قوله تعالى: {قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى
طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ} [الأنعام: 145] الآية، "أفلا استمتعتم بإهابها"
فبعثنا إليها فسلخناها ودبغنا جلدها وجعلناه سقاء وشربنا فيه حتى صار
شنا. وقالت أم سلمة: مر النبي صلى الله عليه وسلم بشاة ميمونة فقال:
"ما على أهل هذه لو انتفعوا بإهابها" والزهري عن عبيد الله بن عبد الله
عن ابن عباس عن ميمونة قالت: مر النبي صلى الله عليه وسلم بشاة لهم
ميتة فقال: "ألا دبغوا إهابها فانتفعوا به" فقالوا: يا رسول الله إنها
ميتة، فقال: "إنما حرم من الميتة أكلها" في غير ذلك من الأخبار، كلها
يوجب طهارة جلد الميتة بعد الدباغ، كرهت الإطالة بذكرها.
وهذه الأخبار كلها متواترة موجبة للعلم والعمل، قاضية على الآية من
وجهين: أحدهما: ورودها من الجهات المختلفة التي يمنع مثلها التواطؤ
والاتفاق على الوهم
(1/140)
و الغلط.
والثاني: جهة تلقي الفقهاء إياها بالقبول واستعمالهم لها. فثبت بذلك
أنها مستعملة مع آية تحريم الميتة وأن المراد بالآية تحريمها قبل
الدباغ، وما قدمنا من دلالة قوله: {عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ}
[الأنعام: 145] أن المراد بالآية فيما يتأتى فيه الأكل، والجلد بعد
الدباغ خارج عن حد الأكل، فلم يتناوله التحريم.
ومع ذلك فإن هذه الأخبار لا محالة بعد تحريم الميتة، لولا ذلك لما رموا
بالشاة الميتة ولما قالوا: إنها ميتة، ولم يكن النبي عليه السلام
ليقول: "إنما حرم أكلها" فدل ذلك على أن تحريم الميتة مقدم على هذه
الأخبار، وأن هذه الأخبار مبينة أن الجلد بعد الدباغ غير مراد بالآية.
ولما وافقنا مالك على جواز الانتفاع به بعد الدباغ فقد استعمل الأخبار
الواردة في طهارتها، ولا فرق في شيء منها بين افتراشها والصلاة عليها
وبين أن تباع أو يصلى عليها، بل في سائر الأخبار أن دباغها ذكاتها،
ودباغها طهورها. وإذا كانت مذكاة لم يختلف حكم الصلاة عليها وبيعها
وحكم افتراشها والجلوس عليها كسائر جلود الحيوان المذكاة، ألا ترى أنها
قبل الدباغ باقية على حكم التحريم في امتناع جواز الانتفاع بها من سائر
الوجوه كالانتفاع بلحومها؟ فلما اتفقنا على خروجها عن حكم الميتة بعد
الدباغ فيما وصفنا ثبت أنها مذكاة طاهرة بمنزلة ذكاة الأصل. ويدل على
ذلك أيضا أن التحريم متعلق بكونها مأكولة، وإذا خرج عن حد الأكل صار
بمنزلة الثوب والخشب ونحو ذلك. ويدل على ذلك أيضا موافقة مالك إيانا
على جواز الانتفاع بشعر الميتة وصوفها لامتناع أكله، وذلك موجود في
الجلد بعد الدباغ فوجب أن يكون حكمه حكمها.
فإن قيل: إنما جاز ذلك في الشعر والصوف لأنه يؤخذ منه في حال الحياة
قيل له: ليس يمتنع أن يكون ما ذكرنا علة الإباحة، وكذلك ما ذكرت، فيكون
للإباحة علتان: إحداهما: أنه لا يتأتى فيه الأكل، والأخرى: أنه يؤخذ
منه في حال الحياة فيجوز الانتفاع به لأن موجبهما حكم واحد. ومتى
عللناه بما وصفناه وجب قياس الجلد عليه. وإذا عللته بما وصفت كان مقصور
الحكم على المعلول.
وقد روى الحكم عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن عبد الله بن عكيم قال: قرئ
علينا كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أن لا تنتفعوا من الميتة
بإهاب ولا عصب" فاحتج بذلك من حظر جلد الميتة بعد الدباغ وغير جائز
معارضة الأخبار الواردة في الإباحة بهذا الخبر من وجوه: أحدها: أن
الأخبار التي قدمناها في حيز التواتر الموجب للعلم، وحديث عبد الله بن
عكيم ورد من طريق الآحاد، وقد روى عاصم بن علي عن قيس بن الربيع عن
(1/141)
حبيب بن
أبي ثابت عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن عبد الله بن عكيم قال: كتب
إلينا عمر بن الخطاب أن لا تنتفعوا من الميتة بإهاب ولا عصب فذكر في
هذا الحديث أن عمر كتب إليهم بذلك، فلا يجوز معارضة الأخبار التي قدمنا
بمثله. ومن جهة أخرى أنهما لو تساويا في النقل لكان خبر الإباحة أولى
لاستعمال الناس له وتلقيهم إياه بالقبول. ووجه آخر: وهو أن خبر عبد
الله بن عكيم لو انفرد عن معارضة الأخبار التي قدمنا لم يكن فيه ما
يوجب تحريم الجلد بعد الدباغ; لأنه قال: "لا تنتفعوا من الميتة بإهاب
ولا عصب" وهو إنما يسمى إهابا قبل الدباغ، والمدبوغ لا يسمى إهابا
وإنما يسمى أديما فليس إذا في هذا الخبر ما يوجب تحريمه بعد الدباغ.
وأما قول الليث بن سعد في إباحة بيع جلد الميتة قبل الدباغ فقول خارج
عن اتفاق الفقهاء لم يتابعه عليه أحد، ومع ذلك هو مخالف لقوله عليه
السلام: "لا تنتفعوا من الميتة بإهاب ولا عصب" لأنه قبل الدباغ يسمى
إهابا. والبيع من وجوه الانتفاع، فوجب أن يكون محظورا بقوله: "لا
تنتفعوا من الميتة بإهاب ولا عصب".
قال أبو بكر: فإن قال قائل: قوله عليه السلام: "إنما حرم من الميتة
أكلها" يدل على أن التحريم مقصور على الأكل دون البيع قيل له: فينبغي
أن تجيز بيع لحمها بقوله: "إنما حرم أكلها" فإذا لم يجز بيع اللحم مع
قوله: "إنما حرم أكلها" كذلك حكم الجلد قبل الدباغ.
فإن قال قائل: منعت بيع اللحم بقوله: "إنما حرم أكلها" قيل له: وامنع
بيع الجلد بقوله: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} [المائدة: 3]
لأنه لم يفرق بين الجلد واللحم وإنما خص من جملته المدبوغ منه دون
غيره. وأيضا فروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لعن الله
اليهود حرمت عليهم الشحوم فباعوها وأكلوا أثمانها" وإذا كان الجلد محرم
الأكل قبل الدباغ كتحريم اللحم، وجب أن لا يجوز بيعه كبيع اللحم نفسه
وكبيع سائر المحرمات لأعيانها كالخمر والدم ونحوهما.
وأما جلد الكلب فيلحقه الدباغ ويطهر إذا كان ميتة، لقوله عليه السلام:
"أيما إهاب دبغ فقد طهر" وقال: "دباغ الأديم ذكاته" ولم يفرق بين الكلب
وغيره ولأنه تلحقه الذكاة عندنا لو ذبح لكان طاهرا. فإن قيل: إذا كان
نجسا في حال الحياة كيف يطهر بالدباغ؟ قيل له: كما يكون جلد الميتة
نجسا ويطهره الدباغ لأن الدباغ ذكاته كالذبح.
وأما الخنزير فلا تلحقه الذكاة لأنه محرم العين بمنزلة الخمر والدم فلا
تعمل فيه
(1/142)
الذكاة،
ألا ترى أنه لا يجوز الانتفاع به في حال الحياة والكلب يجوز الانتفاع
به في حال الحياة؟ فليس هو محرم العين، والله أعلم.
(1/143)
باب تحريم الانتفاع بدهن الميتة
قال الله تعالى: {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ
وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ} وقال: {قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ
مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً}
[الأنعام: 145] وهذان الظاهران يحظران دهن الميتة كما أوجبا حظر لحمها
وسائر أجزائها. وقد روى محمد بن إسحاق عن عطاء عن جابر قال: لما قدم
رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة أتاه أصحاب الصليب 1 الذين يجمعون
الأوداك فقالوا: يا رسول الله إنا نجمع هذه الأوداك وهي من الميتة
وعكرها وإنما هي للأدم والسفن، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"قاتل الله اليهود حرمت عليهم الشحوم فباعوها وأكلوا أثمانها" فنهاهم
عن ذلك. فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن تحريم الله تعالى إياها على
الإطلاق قد أوجب تحريم بيعها كما أوجب تحريم أكلها. وقد ذكر عن ابن
جريج عن عطاء أنه يدهن بشحوم الميتة ظهور السفن، وهو قول شاذ وقد ورد
الأثر بتحريمه واقتضى ظاهر الآية حظره.
ـــــــ
1 المراد بالصليب هناك الودك الذي يستخرج من العظم "لمصححه".
(1/143)
باب الفأرة تموت في السمن
قال الله تعالى: {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ} وقوله
تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} [المائدة: 3] لم يقتض تحريم
ما ماتت فيه من المائعات، وإنما اقتضى تحريم عين الميتة، وما جاور
الميتة فلا يسمى ميتة، فلم ينتظمه لفظ التحريم. ولكنه محرم الأكل بسنة
النبي صلى الله عليه وسلم وهو ما روى الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي
هريرة قال: سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن الفأرة تقع في السمن، فقال
عليه السلام: "إن كان جامدا فألقوها وما حولها، وإن كان مائعا فلا
تقربوه" وروى أبو سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله. وروى
الزهري عن عبيد الله بن عبد الله عن ابن عباس عن ميمونة: أن فأرة وقعت
في سمن فماتت، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "ألقوها وما حولها ثم
كلوه".
(1/143)
مطلب الدهن المتنجس يجوز الانتفاع به بغير الأكل و يجوز بيعه بشرط بيان
عيبه
...
مطلب: الدهن المتنجس يجوز الانتفاع به بغير الأكل ويجوز بيعه بشرط بيان
عيبه
وروى عبد الجبار بن عمر عن ابن شهاب عن سالم بن عبد الله بن عمر عن ابن
عمر،
(1/143)
باب القدر يقع فيها الطير فيموت
ذكر أبو جعفر الطحاوي قال: سمعت أبا حازم القاضي يحدث عن سويد بن سعيد
عن علي بن مسهر قال: كنت عند أبي حنيفة رضي الله عنه فأتاه ابن المبارك
بهيئة خراساني، فسأله عن رجل نصب له قدرا فيها لحم على النار فمر طير
فوقع فيها فمات، فقال أبو حنيفة لأصحابه: ماذا ترون؟ فذكروا له عن ابن
عباس أن اللحم يؤكل بعدما يغسل ويهراق المرق، فقال أبو حنيفة: بهذا
نقول ولكن هو عندنا على شريطة، فإن كان وقع فيها في حال سكونها فكما في
هذه الرواية، وإن وقع فيها في حال غليانها لم يؤكل اللحم ولا المرق.
فقال له ابن المبارك: ولم ذلك؟ فقال: لأنه إذا سقط فيها في حال غليانها
فمات فقد داخلت الميتة اللحم، وإذا وقع في حال سكونها فمات فإن الميتة
وسخت اللحم. فقال ابن المبارك وعقد بيده ثلاثين 1. هذا زرين،
بالفارسية، يعني المذهب. وروى ابن المبارك عن عباد بن راشد عن الحسن
مثل جواب أبي حنيفة رضي الله عنه ذكر أبو حنيفة رضي الله عنه علة فرقه
بين وقوعه في حال الغليان وحال السكون، وهو فرق ظاهر وقال ابن وهب عن
مالك في الدجاجة تقع في قدر اللحم وهي تطبخ فتموت فيها، قال: لا أرى أن
آكل تلك القدر; لأن الميتة قد اختلطت بما كان في القدر. وقال الأوزاعي:
يغسل اللحم ويؤكل. وقال الليث بن سعد: لا يؤكل ذلك اللحم حتى يغسل
مرارا ويغلى على النار حتى يذهب كل ما كان فيه. وقد روى ابن المبارك عن
عثمان بن عبد الله الباهلي قال: حدثني عكرمة عن ابن عباس في طير وقع في
قدر فمات فقال: يهراق المرق ويؤكل اللحم ولم يذكر فيه حال الغليان.
وروى محمد بن ثوبان عن السائب بن خباب: أنه كان له قدر على النار فسقطت
فيها دجاجة فماتت ونضجت مع اللحم، فسألت ابن عباس فقال: اطرح الميتة
وأهرق المرق وكل اللحم، فإن كرهته فأرسل إلي منه عضوا أو عضوين. وهذا
أيضا لا دلالة فيه على حال الغليان; لأنه جائز أن يكون وقعت فيه بعد
سكون الغليان والمرق حار فنضجت فيه، والله سبحانه أعلم.
ـــــــ
1 قوله: "وعقد بيده ثلاثين" هو أن يضم باطن رأس إبهامه إلى باطن رأس
سبابته من اليد اليمنى كهيئة الملتقط إبرة من الأرض، هذا هو المراد
بعقد الثلاثين، وإنما فعله ابن المبارك بقصد الاستحسان لجواب أبي حنيفة
رحمهما الله تعالى. "لمصححه".
(1/145)
باب منفحة الميتة و لبنها
...
باب منفحة الميتة ولبنها
قال أبو حنيفة: لبن الميتة وإنفحتها طاهران لا يلحقهما حكم النجاسة.
وقال أبو يوسف ومحمد والثوري: يكره اللبن لأنه في وعاء نجس، وكذلك
الإنفحة إذا كانت مائعة، فإن كانت جامدة فلا بأس. وقالوا جميعا في
البيضة إذا كانت من دجاجة ميتة: فلا بأس بها. وقال مالك وعبد الله بن
الحسن والشافعي: لا يحل اللبن في ضروع الميتة. وقال الليث بن سعد: لا
تؤكل البيضة التي تخرج من دجاجة ميتة. وقال عبد الله بن الحسن: أكره أن
أرخص فيها.
قال أبو بكر: اللبن لا يجوز أن يلحقه حكم الموت; لأنه لا حياة فيه.
ويدل عليه أنه يؤخذ منها وهي حية فيؤكل، فلو كان مما يلحقه حكم الموت
لم يحل إلا بذكاة الأصل كسائر أعضاء الشاة. وأيضا فإن قوله:
{نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَناً
خَالِصاً سَائِغاً لِلشَّارِبِينَ} [النحل: 66] عام في سائر الألبان،
فاقتضى ذلك شيئين: أحدهما: أن اللبن لا يموت ولا يحرمه موت الشاة،
والثاني: أنه لا ينجس بموت الشاة ولا يكون بمنزلة لبن جعل في وعاء ميت.
فإن قيل: ما الفرق بينه وبين ما لو حلب من شاة حية ثم جعل في وعاء نجس
وبين ما إذا كان في ضرع الميتة؟ قيل: الفرق بينهما أن موضع الخلقة لا
ينجس ما جاوره بما حدث فيه خلقة. والدليل على ذلك اتفاق المسلمين على
جواز أكل اللحم بما فيه من العروق مع مجاورة الدم لدواخلها من غير
تطهير ولا غسل لذلك، فدل ذلك على أن موضع الخلقة لا ينجس بالمجاورة لما
خلق فيه. ودليل آخر، وهو قوله: {مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَناً
خَالِصاً سَائِغاً لِلشَّارِبِينَ} [النحل: 66] وهذا يدل من وجهين على
ما ذكرنا: أحدهما: ما قدمناه آنفا في صدر المسألة في اقتضائه لبن الحية
ولبن الميتة، والثاني: إخباره بخروجه من بين فرث ودم هما نجسان مع
الحكم بطهارته، ولم تكن مجاورته لهما موجبة لتنجيسه; لأنه موضع الخلقة،
كذلك كونه في ضرع ميتة لا يوجب تنجيسه ويدل على ذلك أيضا ما رواه شريك
عن جابر عن عكرمة عن ابن عباس قال: أتي النبي صلى الله عليه وسلم في
غزوة الطائف بجبنة، فجعلوا يقرعونها بالعصا، فقال: "أين يصنع هذا؟"
فقالوا: بأرض فارس، فقال: "اذكروا اسم الله عليه وكلوا". ومعلوم أن
ذبائح المجوس ميتة، وقد أباح عليه السلام أكلها مع العلم بأنها من صنعة
أهل فارس وأنهم كانوا; إذ ذاك مجوسا، ولا ينعقد الجبن إلا بإنفحة، فثبت
بذلك أن إنفحة الميتة طاهرة. وقد روى القاسم بن الحكم، عن غالب بن عبد
الله، عن عطاء بن أبي رباح، عن ميمونة زوج النبي
(1/146)
صلى الله
عليه وسلم قالت: سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن الجبن فقال: "ضعي
السكين واذكري اسم الله تعالى وكلي" فأباح النبي عليه السلام في هذا
الحديث أكل الجميع منه ولم يفصل بين ما صنع منه بإنفحة ميتة أو غيرها.
وقد روي عن علي وعمر وسلمان وعائشة وابن عمر وطلحة بن عبيد الله وأم
سلمة والحسن بن علي إباحة أكل الجبن الذي فيه إنفحة الميتة، فدل ذلك
على أن الإنفحة طاهرة وإن كانت من ميتة. وإذا ثبت بما وصفنا طهارة
الإنفحة وإن كانت من ميتة ثبت طهارة لبن الميتة وإنفحتها، ووجب أن يكون
ذلك حكم البيضة الخارجة من الدجاجة الميتة لأنها تبن منها في حياتها
وهي طاهرة يجوز أكلها، فكذلك بعد موتها; لأنها لو كانت مما يحتاج إلى
ذكاة لما أباحها إلا ذكاة الأصل كسائر أعضائها، لما كان شرط إباحتها
الذكاة لم تحل إلا بذكاة الأصل.
(1/147)
باب شعر الميتة و صوفها و الفراء و جلود السباع
...
باب شعر الميتة وصوفها والفراء وجلود السباع
قال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد وزفر ومحمد بن صالح وعبيد الله بن
الحسن: يجوز الانتفاع بعظام الميتة. ولا بأس بشعر الميتة وصوفها، ولا
يكون ميتة لأنه يؤخذ منها في حال الحياة وقال الليث: "لا ينتفع بعصب
الميتة ولا بعقبها" 1، ولا أرى بأسا بالقرن والظلف أن ينتفع به، ولا
بأس بعظام الميتة ولا الشعر ولا الصوف.
حدثنا عبد الباقي بن قانع قال: حدثنا إسماعيل بن الفضل قال: حدثنا
سليمان بن عبد الرحمن الدمشقي قال: حدثنا يوسف بن الشقر، قال: حدثنا
الأوزاعي عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة قال: سمعت أم سلمة قالت:
سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "لا بأس بمسك الميتة إذا دبغ، ولا
بأس بصوفها وشعرها وقرنها إذا غسل بالماء".
حدثنا عبد الباقي بن قانع قال: حدثنا إسماعيل بن الفضل قال: حدثنا
الحسن بن عمر قال: حدثنا عبد الله بن سلمة عن ابن أبي ليلى، عن ثابت
البناني، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: حدثني أبي أنه كان عند النبي
صلى الله عليه وسلم فسأله رجل عن الصلاة في الفراء والمساتق 2 قال:
"وفى الدباغ عنكم".
وروى يحيى الحماني قال: حدثنا سيف بن هارون البرجمي، عن سليمان التيمي،
عن أبي عثمان النهدي، عن سلمان الفارسي قال: سئل النبي صلى الله عليه
وسلم عن الفراء والجبن
ـــــــ
1 قوله "ولا بعقبها" العقب بمعنى العصب كما في النهاية فهو من عطف
المرادف "لمصححه".
2 قوله "المساتق" جمع مستقة وهي فروة طويلة الكمين "لمصححه".
(1/147)
والسمن
فقال: "إن الحلال الذي أحل الله تعالى في القرآن، والحرام الذي حرم
الله تعالى في القرآن، وما سكت عنه فهو عفو منه".
قال أبو بكر: هذه الأخبار فيها إباحة الشعر والصوف والفراء والجبن من
وجهين: أحدهما: ما ذكرناه في حديث أم سلمة من النص على إباحة الشعر
والصوف من الميتة، وحديث ابن أبي ليلى في إباحة الفراء والمساتق.
والآخر: ما ذكر في حديث سلمان، وفيه الدلالة على الإباحة من وجهين:
أحدهما: أنه لو كان محرما لأجابه النبي صلى الله عليه وسلم بالتحريم.
والثاني: أن ما لم يذكر بتحريم ولا تحليل فهو مباح بقوله: "وما سكت عنه
فهو عفو". وليس في القرآن تحريم الشعر والصوف ونحوهما، بل فيه ما يوجب
الإباحة وهو قوله: {وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ
وَمَنَافِعُ} [النحل: 5] والدفء: ما يتدفأ به من شعرها ووبرها وصوفها،
وذلك يقتضي إباحة الجميع من الميتة والحي. وقال تعالى: {وَمِنْ
أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثاً وَمَتَاعاً إِلَى
حِينٍ} [النحل: 80] فعم الجميع بالإباحة من غير فصل بين المذكى منه
وبين الميتة.
ومن حظر هذه الأشياء من الميتة احتج فيه بقوله تعالى: {حُرِّمَتْ
عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} [المائدة: 3] وذلك يتناولها بجميع أجزائها،
فإذا كان الصوف والشعر والعظام ونحوها من أجزائها اقتضت الآية تحريم
جميعها فيقال له: إنما المراد بالآية ما يتأتى فيه الأكل، والدليل عليه
قوله تعالى في الآية الأخرى: {قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ
مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ} [الأنعام: 145] فأخبر أن التحريم
مقصور على ما يتأتى فيه الأكل. وقال النبي عليه السلام: "إنما حرم من
الميتة لحمها" وفي خبر آخر: "إنما حرم أكلها" فأبان النبي صلى الله
عليه وسلم عن مراد الله تعالى بتحريم الميتة. فلما لم يكن الشعر والصوف
والعظم ونحوها مما ذكرنا من المأكول لم يتناولها التحريم، ومن حيث
خصصنا جلد الميتة المدبوغ بالإباحة للآثار الواردة فيه وجب تخصيص الشعر
والصوف وما لا يتأتى فيه الأكل من جملة المحرم بالآثار المروية فيها
مما قدمنا ذكره. ويدل عليه أيضا من جهة أخرى، وهي أن جلد الميتة لما
كان خروجه عن حد الأكل بالدباغ مبيحا له وجب أن يكون ذلك حكم سائر ما
لا يتأتى فيه الأكل منها من الشعر والصوف ونحوهما ويدل عليه أيضا أن
الأخبار الواردة في إباحة الانتفاع بجلود الميتة لم يذكر فيها حلق
الشعر والصوف عنها، بل فيها الإباحة على الإطلاق، فاقتضى ذلك إباحة
الانتفاع بها بما عليها من الشعر والصوف، ولو كان التحريم ثابتا في
الصوف والشعر لبينه النبي عليه السلام لعلمه أن الجلود لا تخلو من
أجزاء الحيوان مما ليس فيه حياة وما لا حياة فيه لا يلحقه حكم الموت.
والدليل على أن الشعر ونحوه لا حياة فيه، أن الحيوان لا يألم بقطعها،
ولو
(1/148)
كانت فيه
حياة لتألم بقطعها كما يؤلمه قطع سائر أعضائه، فدل ذلك على أن الشعر
والصوف والعظم والقرن والظلف والريش لا حياة فيها، فلا يلحقها حكم
الموت، ووجود النماء فيها لا يوجب لها حياة; لأن الشجر والنبات ينميان
ولا حياة فيهما ولا يلحقهما حكم الموت، فكذلك الشعر والصوف. ويدل عليه
أيضا قول النبي عليه السلام: "ما بان من البهيمة وهي حية فهو ميت"
ويبين منها الشعر والصوف ولا يلحقهما حكم الموت، فلو كان مما يلحقهما
حكم الموت لوجب أن لا يحل بذكاة الأصل كسائر أعضاء الحيوان، فدل ذلك
على أنه لا يلحقه حكم الموت ولا يحتاج إلى ذكاة.
وقد روي عن الحسن ومحمد بن سيرين وسعيد بن المسيب وإبراهيم إباحة شعر
الميتة وصوفها. وروي عن عطاء كراهية الميتة وعظام الفيل، وعن طاوس
كراهة عظام الفيل. وروي عن ابن عمر أنه رأى على رجل فروا فقال: لو
أعلمه ذكيا لسرني أن يكون لي منه ثوب. وذكر أنس أن عمر رأى على رجل
قلنسوة ثعلب فنزعها وقال: ما يدريك لعله مما لم يذك.
وقد اختلف في جلود السباع، فكرهها قوم وأباحها أصحابنا ومن قدمنا ذكره
من الصحابة والتابعين. وقد روى عطاء عن ابن عباس، وأبو الزبير عن جابر
ومطرف عن عمار إباحة الانتفاع بجلود السباع. وعن علي بن حسين والحسن
وإبراهيم والضحاك وابن سيرين: لا بأس بلبس جلود السباع. وعن عطاء عن
عائشة في الفراء: دباغها ذكاتها.
فإن قال قائل: روى قتادة عن أبي المليح عن أبيه عن النبي صلى الله عليه
وسلم أنه "نهى عن جلود السباع" وقتادة عن أبي شيخ الهنائي أن معاوية
قال لنفر من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: تعلمون أن النبي عليه
السلام نهى عن سروج النمور أن يركب عليها؟ قالوا: نعم. وقد تنازع أهل
العلم معنى هذين الحديثين، فقال قائلون: هذا نهي تحريم يقتضي تحريم
لبسها على كل حال، وقال آخرون: هو على وجه الكراهية والتشبه بزي العجم،
كما روى أبو إسحاق عن هبيرة بن يريم عن علي قال: "نهى النبي عليه
السلام عن خاتم الذهب وعن لبس القسي 1 وعن الثياب الحمر". وما روي عن
الصحابة في إباحة لبس جلود السباع والانتفاع بها يدل على أن النهي على
وجه الكراهية والتشبه بالعجم. وقد تقدم ذكر حديث سلمان وغيره عن النبي
في إباحة لبس الفراء والانتفاع بها، وقوله عليه
ـــــــ
1 قوله "وعن لبس القسي" القسي ثياب من كتان مخلوط بحرير يؤتى بها من
مصر نسبت إلى قرية على ساحل البحر يقال لها القس بفتح القاف "لمصححه".
(1/149)
السلام:
"أيما إهاب دبغ فقد طهر" وقوله: "دباغ الأديم ذكاته" عام في جلود
السباع وغيرها، وهذا يدل على أن النهي عن جلود السباع ليس من جهة
النجاسة بل على وجه الكراهة والتشبه بالعجم.
(1/150)
باب تحريم الدم
قال الله تعالى: {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ}
وقال: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ} [المائدة: 3] فلو
لم يرد في تحريمه غير هاتين الآيتين لاقتضى ذلك تحريم سائر الدماء
قليلها وكثيرها، فلما قال في آية أخرى: {قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا
أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ
يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً} [الأنعام: 145] دل ذلك على أن
المحرم من الدم هو المسفوح دون غيره.
فإن قال قائل: قوله: {أَوْ دَماً مَسْفُوحاً} [الأنعام: 145] خاص فيما
كان منه على هذه الصفة، وقوله في الآيتين الأخريين عام في سائر الدماء،
فوجب إجراؤه على عمومه; إذ ليس في الآية ما يخصه. قيل له: قوله: {أَوْ
دَماً مَسْفُوحاً} [الأنعام: 145] جاء فيه نفي لتحريم سائر الدماء إلا
ما كان منه بهذا الوصف; لأنه قال: {قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ
إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ} إلى قوله: {أَوْ دَماً مَسْفُوحاً}
[الأنعام: 145] وإذ كان ذلك على ما وصفنا لم يخل من أن يكون قوله:
{إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ} متأخرا عن قوله:
{أَوْ دَماً مَسْفُوحاً} [الأنعام: 145] أو أن يكونا نزلا معا. فلما
عدمنا تاريخ نزول الآيتين وجب الحكم بنزولهما معا، فلا يثبت حينئذ
تحريم الدم إلا معقودا بهذه الصفة وهو أن يكون مسفوحا.
وحدثنا أبو القاسم عبد الله بن محمد بن إسحاق المروزي قال: حدثنا
الحسين بن أبي الربيع الجرجاني: أخبرنا عبد الرزاق قال: أخبرنا ابن
عيينة عن عمرو بن دينار عن عكرمة قال: لولا هذه الآية: {أَوْ دَماً
مَسْفُوحاً} [الأنعام: 145] لاتبع المسلمون من العروق ما اتبع اليهود.
وحدثنا عبد الله بن محمد قال: حدثنا الحسن قال: أخبرنا عبد الرزاق قال:
أخبرنا معمر عن قتادة في قوله: {أَوْ دَماً مَسْفُوحاً} [الأنعام: 145]
قال: حرم من الدم ما كان مسفوحا، وأما اللحم يخالطه الدم فلا بأس به.
وروى القاسم بن محمد عن عائشة، أنها سئلت عن الدم يكون في اللحم
والمذبح قالت: "إنما نهى الله عن الدم المسفوح".
ولا خلاف بين الفقهاء في جواز أكل اللحم مع بقاء أجزاء الدم في العروق;
لأنه غير مسفوح، ألا ترى أنه متى صب عليه الماء ظهرت تلك الأجزاء فيه؟
وليس هو بمحرم;
(1/150)
إذ ليس هو
مسفوحا ولما وصفنا قال أصحابنا: إن دم البراغيث والبق والذباب ليس بنجس
وقالوا أيضا: "إن دم السمك ليس بنجس لأنه يؤكل بدمه". وقال مالك في دم
البراغيث: "إذا تفاحش غسله ويغسل دم الذباب ودم السمك". وقال الشافعي:
"لا يفسد الوضوء 1 إلا أن تقع فيه نجاسة من دم أو بول أو غيره فعم
الدماء كلها.
فإن قال قائل: قوله: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ}
[المائدة: 3] وقوله: {أَوْ دَماً مَسْفُوحاً} [الأنعام: 145] يوجب
تحريم دم السمك لأنه مسفوح. قيل له: هذا مخصوص بقوله عليه السلام:
"أحلت لي ميتتان ودمان: السمك والجراد" فلما أباح السمك بما فيه من
الدم من غير إراقة دمه، وقد تلقى المسلمون هذا الخبر بالقبول في إباحة
السمك من غير إراقة دمه، وجب تخصيص الآية في إباحة دم السمك; إذ لو كان
محظورا لما حل دون إراقة دمه كالشاة وسائر الحيوان ذوات الدماء، والله
أعلم.
ـــــــ
1 قوله: "الوضوء" بالفتح هو الماء الذي يتوضأ به. "لمصححه".
(1/151)
باب تحريم الخنزير
قال الله تعالى: {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ
وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ} وقال تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ
وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ} [المائدة: 3] وقال تعالى: {قُلْ لا
أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ
إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ
خِنْزِيرٍ} [الأنعام: 145] فنص في هذه الآيات على تحريم لحم الخنزير،
والأمة عقلت من تأويله ومعناه مثل ما عقلت من تنزيله، واللحم وإن كان
مخصوصا بالذكر فإن المراد جميع أجزائه، وإنما خص اللحم بالذكر لأنه
أعظم منفعته وما يبتغى منه، كما نص على تحريم قتل الصيد على المحرم
والمراد حظر جميع أفعاله في الصيد، وخص القتل بالذكر لأنه أعظم ما يقصد
به الصيد. وكقوله تعالى: {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ
الْجُمُعَةِ فَاسَعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ}
[الجمعة: 9] فخص البيع بالنهي; لأنه كان أعظم ما يبتغون من منافعهم
والمعني جميع الأمور الشاغلة عن الصلاة. وإنما نص على البيع تأكيدا
للنهي عن الاشتغال عن الصلاة، كذلك خص لحم الخنزير بالنهي تأكيدا لحكم
تحريمه وحظرا لسائر أجزائه، فدل على أن المراد بذلك جميع أجزائه وإن
كان النص خاصا في لحمه.
وقد اختلف الفقهاء في جواز الانتفاع بشعر الخنزير، فقال أبو حنيفة
ومحمد: "يجوز الانتفاع للخرز". وقال أبو يوسف: أكره الخرز به وروي عنه
الإباحة. وقال الأوزاعي لا بأس أن يخاط بشعر الخنزير ويجوز للخراز أن
يشتريه ولا يبيعه. وقال الشافعي: لا يجوز الانتفاع بشعر الخنزير.
(1/151)
قال أبو
بكر: لما كان المنصوص عليه في الكتاب من الخنزير لحمه وكان ذلك تأكيدا
لحكم تحريمه على ما بينا، جاز أن يقال إن التحريم قد يتناول الشعر
وغيره، وجائز أن يقال إن التحريم منصرف إلى ما كان فيه الحياة منه مما
لم يألم بأخذه منه، فأما الشعر فإنه لما لم يكن فيه حياة لم يكن من
أجزاء الحي فلم يلحقه حكم التحريم كما بينا في شعر الميتة، وأن حكم
المذكى والميتة في الشعر سواء، إلا أن من أباح الانتفاع به من أصحابنا
فذكر أنه إنما أجازه استحسانا، وهذا يدل على أن التحريم قد تناول
الجميع عندهم بما عليه من الشعر. وإنما استحسنوا إجازة الانتفاع به
للخرز دون جواز بيعه وشرائه لما شاهدوا المسلمين وأهل العلم يقرون
الأساكفة على استعماله من غير نكير ظهر منهم عليهم، فصار هذا عندهم
إجماعا من السلف على جواز الانتفاع به، وظهور العمل من العامة في شيء
مع إقرار السلف إياهم عليه وتركهم النكير عليهم يوجب إباحته عندهم.
وهذا مثل ما قالوا في إباحة دخول الحمام من غير شرط أجرة معلومة ولا
مقدار معلوم لما يستعمله من الماء ولا مقدار مدة لبثه فيه; لأن هذا كان
ظاهرا مستفيضا في عهد السلف من غير منكر به على فاعليه، فصار ذلك
إجماعا منهم. وكذلك قالوا في الاستصناع إنهم أجازوه لعمل الناس،
ومرادهم فيه إقرار السلف الكافة على ذلك وتركهم النكير عليهم في
استعماله، فصار ذلك أصلا في جوازه، ونظائر ذلك كثيرة.
واختلف أهل العلم في خنزير الماء، فقال أصحابنا: "لا يؤكل". وقال مالك
وابن أبي ليلى والشافعي والأوزاعي: "لا بأس بأكل كل شيء يكون في
البحر". وقال الشافعي: "لا بأس بخنزير الماء". ومنهم من يسميه حمار
الماء. وقال الليث بن سعد: "لا يؤكل إنسان الماء ولا خنزير الماء".
قال أبو بكر: ظاهر قوله: {وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ} [المائدة: 3] موجب
لحظر جميع ما يكون منه في البر وفي الماء لشمول الاسم له. فإن قيل:
إنما ينصرف هذا إلى خنزير البر لأنه الذي يسمى بهذا الاسم على الإطلاق،
وخنزير الماء لا يطلق عليه الاسم وإنما يسمى به مقيدا، واسمه الذي يطلق
عليه في العادة حمار الماء. قيل له: لا يخلو خنزير الماء من أن يكون
على خلقة خنزير البر وصفته أو على غير ذلك، فإن كان على هذه الخلقة فلا
فرق بينهما في إطلاق الاسم عليه من قبل أن كونه في الماء لا يغير حكمه
إذا كان في معناه وعلى خلقته إلا أن تقوم الدلالة على خصوصه، وإن كان
على خلقة أخرى غيرها ومن أجلها يسمى حمار الماء فكأنهم إنما أجروا اسم
الخنزير على ما ليس بخنزير، ومعلوم أن أحدا لم يخطئهم في التسمية، فدل
ذلك على أنه خنزير على الحقيقة وأن الاسم يتناوله على الإطلاق،
وتسميتهم إياه حمار الماء لا يسلبه اسم الخنزير; إذ جائز أن
(1/152)
يكونوا
سموه بذلك ليفرقوا بينه وبين خنزير البر. وكذلك كلب البر سواء لا فرق
بينهما; إذ كان الاسم يتناول الجميع وإن خالفه في بعض أوصافه، والله
أعلم.
باب تحريم ما أهل به لغير الله
قال الله تعالى: {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ
وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ} ولا خلاف
بين المسلمين أن المراد به الذبيحة إذا أهل بها لغير الله عند الذبح،
فمن الناس من يزعم أن المراد بذلك ذبائح عبدة الأوثان الذين كانوا
يذبحون لأوثانهم; كقوله تعالى: {وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ}
[المائدة: 3] وأجازوا ذبيحة النصراني إذا سمى عليها باسم المسيح، وهو
مذهب عطاء ومكحول والحسن والشعبي وسعيد بن المسيب، وقالوا: إن الله
تعالى قد أباح أكل ذبائحهم مع علمه بأنهم يهلون باسم المسيح على
ذبائحهم. وهو مذهب الأوزاعي والليث بن سعد أيضا. وقال أبو حنيفة وأبو
يوسف ومحمد وزفر ومالك والشافعي: "لا تؤكل ذبائحهم إذا سموا عليها باسم
المسيح". وظاهر قوله تعالى: {وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ}
يوجب تحريمها إذا سمي عليها باسم غير الله; لأن الإهلال به لغير الله
هو إظهار غير اسم الله، ولم تفرق الآية بين تسمية المسيح وبين تسمية
غيره بعد أن يكون الإهلال به لغير الله. وقوله في آية أخرى: {وَمَا
ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ} [المائدة: 3] وعادة العرب في الذبائح للأوثان
غير مانع اعتبار عموم الآية فيما اقتضاه من تحريم ما سمي عليه غير الله
تعالى. وقد روى عطاء بن السائب عن زاذان وميسرة، أن عليا عليه السلام
قال: "إذا سمعتم اليهود والنصارى يهلون لغير الله فلا تأكلوا، وإذا لم
تسمعوهم فإن الله قد أحل ذبائحهم" وهو يعلم ما يقولون.
وأما ما احتج به القائلون بإباحة ذلك لإباحة الله طعام أهل الكتاب مع
علمه بما يقولون، فليس فيه دلالة على ما ذكروا; لأن إباحة طعام أهل
الكتاب معقودة بشريطة أن لا يهلوا لغير الله; إذ كان الواجب علينا
استعمال الآيتين بمجموعهما، فكأنه قال: وطعام الذين أوتوا الكتاب حل
لكم ما لم يهلوا به لغير الله.
فإن قال قائل: إن النصراني إذا سمى الله فإنما يريد به المسيح عليه
السلام، فإذا كان إرادته كذلك ولم تمنع صحة ذبيحته وهو مع ذلك مهل به
لغير الله، كذلك ينبغي أن يكون حكمه إذا أظهر ما يضمره عند ذكر الله
تعالى في إرادته المسيح. قيل له: لا يجب ذلك; لأن الله تعالى إنما
كلفنا حكم الظاهر; لأن الإهلال هو إظهار القول، فإذا أظهر اسم غير الله
لم تحل ذبيحته لقوله: {وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ} وإذا أظهر
اسم الله فغير جائز لنا حمله على اسم المسيح عنده; لأن حكم الأسماء أن
تكون محمولة على حقائقها ولا
(1/153)
تحمل على
ما لا يقع الاسم عليه عندنا ولا يستحقه. ومع ذلك فليس يمتنع أن تكون
العبادة علينا في اعتبار إظهار الاسم دون الضمير، ألا ترى أن من أظهر
القول بالتوحيد وتصديق الرسول صلى الله عليه وسلم كان حكمه حكم
المسلمين مع جواز اعتقاده للتشبيه المضاد للتوحيد؟ وكذلك قال عليه
السلام: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، فإذا قالوها
عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله" وقد أعلمه الله
أن في القوم منافقين يعتقدون غير ما يظهرون، ولم يجرهم مع ذلك مجرى
سائر المشركين بل حكم لهم فيما يعاملون به من أحكام الدنيا بحكم سائر
المسلمين على ما ظهر من أمورهم دون ما بطن من ضمائرهم. وكذلك جائز أن
تكون صحة ذكاة النصراني متعلقة بإظهار اسم الله تعالى، وأنه متى أظهر
اسم المسيح لم تصح ذكاته، كسائر المشركين إذا أظهروا على ذبائحهم أسماء
أوثانهم والله أعلم.
(1/154)
باب ذكر الضرورة المبيحة لأكل الميتة
قال الله تعالى: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَلا إِثْمَ
عَلَيْهِ} وقال في آية أخرى: {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ
عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} [الأنعام: 119] وقال:
{فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ فَإِنَّ
اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [المائدة: 3] فقد ذكر الله تعالى الضرورة في
هذه الآيات، وأطلق الإباحة في بعضها بوجود الضرورة من غير شرط ولا صفة،
وهو قوله: {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا
اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} [الأنعام: 119] فاقتضى ذلك وجود الإباحة
وبوجود الضرورة في كل حال وجدت الضرورة فيها.
واختلف أهل العلم في معنى قوله تعالى: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ
وَلا عَادٍ} فقال ابن عباس والحسن ومسروق: {غَيْرَ بَاغٍ} في الميتة
{وَلا عَادٍ} في الأكل. وهو قول أصحابنا ومالك بن أنس. وأباحوا للبغاة
الخارجين على المسلمين أكل الميتة عند الضرورة كما أباحوه لأهل العدل.
وقال مجاهد وسعيد بن جبير: "إذا لم يخرج باغيا على إمام المسلمين ولم
يكن سفره في معصية فله أن يأكل الميتة إذا اضطر إليها، وإن كان سفره في
معصية أو كان باغيا على الإمام لم يجز له أن يأكل". وهو قول الشافعي.
وقوله: {إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} [المائدة: 3] يوجب الإباحة
للجميع من المطيعين والعصاة، وقوله في الآية الأخرى: {غَيْرَ بَاغٍ
وَلا عَادٍ}. وقوله: {غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ} [المائدة: 3] لما
كان محتملا أن يريد به البغي والعدوان في الأكل واحتمل البغي على
الإمام أو غيره، لم يجز لنا تخصيص عموم الآية الأخرى بالاحتمال، بل
الواجب حمله على ما يواطئ معنى العموم من غير تخصيص. وأيضا فقد اتفقوا
على أنه لو لم يكن
(1/154)
سفره في
معصية بل كان سفره لحج أو غزو أو تجارة وكان مع ذلك باغيا على رجل في
أخذ ماله أو عاديا في ترك صلاة أو زكاة، لم يكن ما هو عليه من البغي
والعدوان مانعا من استباحة الميتة للضرورة فثبت بذلك أن قوله: {غَيْرَ
بَاغٍ وَلا عَادٍ} لم يرد به انتفاء البغي والعدوان في سائر الوجوه،
وليس في الآية ذكر شيء منه مخصوص فيوجب ذلك كون اللفظ مجملا مفتقرا إلى
البيان، فلا يجوز تخصيص الآية الأولى به لتعذر استعماله على حقيقته
وظاهره. ومتى حملنا ذلك على البغي والتعدي في الأكل استعملنا اللفظ على
عمومه وحقيقته فيما أريد به وورد فيه، فكان حمله على ذلك أولى من
وجهين: أحدهما: أنه يكون مستعملا على عمومه، والآخر: أنا لا نوجب به
تخصيص قوله: {إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} [المائدة: 3] وكذلك:
{غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ} [المائدة: 3] لا يخلو من أن يريد به
مجانبة سائر الآثام حتى يكون شرط الإباحة للمضطر أن يكون غير متجانف
لإثم أصلا في الأكل وغيره، حتى إن كان مقيما على ترك رد مظلمة درهم أو
ترك صلاة أو صوم لم يتب منه لا يحل له الأكل، أو أن يكون جائز له الأكل
مع كونه مقيما على ضرب من المعاصي بعد أن لا يكون سفره في معصية ولا
خارجا على إمام. وقد ثبت عند الجميع أن إقامته على بعض المعاصي لا تمنع
استباحته للميتة عند الضرورة، فثبت أن ذلك ليس بمراد. ثم بعد ذلك يحتاج
في إثبات المأثم الذي يمنع الاستباحة إلى دلالة من غير الآية. وهذا
يوجب إجمال اللفظ وافتقاره إلى البيان، فيؤدي ذلك إلى وقوف حكم الآية
على بيان من غيرها، ومتى أمكننا استعمال حكم الآية وجب علينا
استعمالها، وجهة إمكان استعمالها ما وصفنا من إثبات المراد بغيا وتعديا
في الأكل بأن لا يتناول منها إلا بمقدار ما يمسك الرمق ويزيل خوف
التلف. وأيضا قال الله تعالى: {وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} [النساء:
29] ومن امتنع من المباح حتى مات كان قاتلا نفسه متلفا لها عند جميع
أهل العلم ولا يختلف في ذلك عندهم حكم العاصي والمطيع. بل يكون امتناعه
عن ذلك من الأكل زيادة على عصيانه، فوجب أن يكون حكمه وحكم المطيع سواء
في استباحة الأكل عند الضرورة، ألا ترى أنه لو امتنع من أكل المباح من
الطعام معه حتى مات كان عاصيا لله تعالى وإن كان باغيا على الإمام
خارجا في سفر معصية، والميتة عند الضرورة بمنزلة المذكى في حال الإمكان
والسعة.
فإن قيل: قد يمكنه الوصول إلى استباحة أكل الميتة بالتوبة، فإذا لم يتب
فهو الجاني على نفسه. قيل له أجل، هو كما قلت، إلا أنه غير مباح له
الجناية على نفسه بترك الأكل وإن لم يتب; لأن ترك التوبة لا يبيح له
قتل نفسه; وهذا العاصي متى ترك الأكل في حال الضرورة حتى مات كان
مرتكبا لضربين من المعصية: أحدهما: خروجه
(1/155)
في معصية،
والثاني: جنايته على نفسه بترك الأكل. وأيضا فالمطيع والعاصي لا
يختلفان فيما يحل لهما من المأكولات أو يحرم، ألا ترى أن سائر
المأكولات التي هي مباحة للمطيعين هي مباحة للعصاة كسائر الأطعمة
والأشربة المباحة؟ وكذلك ما حرم من الأطعمة والأشربة لا يختلف في
تحريمه حكم المطيعين والعصاة، فلما كانت الميتة مباحة للمطيعين عند
الضرورة وجب أن يكون كذلك حكم العصاة فيها كسائر الأطعمة المباحة في
غير حال الضرورة.
فإن قال قائل: إباحة الميتة رخصة للمضطر ولا رخصة للعاصي. قيل له: قد
انتظمت هذه المعارضة الخطأ من وجهين: أحدهما: قولك إباحة الميتة رخصة
للمضطر وذلك لأن أكل الميتة فرض على المضطر والاضطرار يزيل الحظر، ومتى
امتنع المضطر من أكلها حتى مات صار قاتلا لنفسه، بمنزلة من ترك أكل
الخبز وشرب الماء في حال الإمكان حتى مات كان عاصيا لله جانيا على
نفسه. ولا خلاف في أن هذا حكم المضطر إلى الميتة غير الباغي. فقول
القائل إباحة الميتة رخصة للمضطر بمنزلة قوله لو قال: إن إباحة أكل
الخبز وشرب الماء رخصة لغير المضطر ولا يطلق هذا أحد يعقل، لأن الناس
كلهم يقولون: فرض على المضطر إلى الميتة أكلها، فلا فرق بينهما; ولما
لم يختلف العاصي والمطيع في أكل الخبز وشرب الماء كذلك في أكل الميتة
عند الضرورة. وأما الوجه الثاني من الخطإ فهو قولك: إنه لا رخصة للعاصي
وهذه قضية فاسدة بإجماع المسلمين; لأنهم رخصوا للمقيم العاصي الإفطار
في رمضان إذا كان مريضا، وكذلك يرخصون له في السفر التيمم عند عدم
الماء، ويرخصون للمقيم العاصي أن يمسح يوما وليلة. وقد روي عن النبي
صلى الله عليه وسلم أنه رخص للمقيم يوما وليلة وللمسافر ثلاثة أيام
ولياليها. ولم يفرق فيه بين العاصي والمطيع; فبان بما وصفنا فساد هذه
المقالة.
وقوله: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَلا إِثْمَ
عَلَيْهِ} وقوله: {فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ
لإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [المائدة: 3] كل واحد من
هذين فيه ضمير لا يستغني عنه الكلام، وذلك لأن وقوع الضرورة ليس من فعل
المضطر، فيكون قوله: {فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ} وقوله: {فَإِنَّ اللَّهَ
غَفُورٌ رَحِيمٌ} [المائدة: 3] خبرا له. وقوله: {فَمَنِ اضْطُرَّ} لا
بد له من خبر به يتم الكلام، إذ لم يكن الحكم متعلقا بنفس الضرورة،
وخبره الذي يتم به الكلام ضميره وهو الأكل، فكأن تقديره فمن اضطر فأكل
فلا إثم عليه ثم قوله: {غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ} على قول من يقول
{غَيْرَ بَاغٍ} في الميتة {وَلا عَادٍ} في الأكل، فيكون البغي والعدوان
حالا للأكل، وتقديره على قول من يقول {غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ} "على
المسلمين، فمن اضطر غير باغ ولا عاد على المسلمين فأكل فلا إثم عليه"
(1/156)
فيكون
البغي والعدوان حالا له عند الضرورة قبل أن يأكل، فلا يكون ذلك صفة
للأكل، وعند الأولين يكون صفة للأكل.
والحذف في هذا الموضع كالحذف في قوله: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً
أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 184]
والمعنى: فأفطر فعدة من أيام أخر فحذف "فأفطر". وقوله: {فَمَنْ كَانَ
مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ
صِيَامٍ} [البقرة: 196] ومعناه: فحلق ففدية وإنما جاز الحذف لعلم
المخاطبين بالمحذوف ودلالة الخطاب عليه. وهذا يوجب أن يكون حمله على
البغي والعدوان في الأكل أولى منه على المسلمين، وذلك لأنه لم يتقدم
للمسلمين في الآية ذكر لا محذوفا ولا مذكورا كحذف الأكل، فحمله على ما
في مقتضى الآية بأن يكون حالا له فيه وصفة أولى من حمله على معنى لم
يتضمنه اللفظ لا محذوفا ولا مذكورا.
وأما قوله: {إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} [الأنعام: 119] فلا
ضمير فيه ولا حذف; لأنه لفظ مستغن بنفسه; إذ هو استثناء من جملة مفهومة
المعنى وهو التحريم بقوله: {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ
عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} [الأنعام: 119] فإنه
مباح لكم وهذا اللفظ مستغن عن الضمير. ومعنى الضرورة ههنا هو خوف الضرر
على نفسه أو بعض أعضائه بتركه الأكل. وقد انطوى تحته معنيان: أحدهما:
أن يحصل في موضع لا يجد غير الميتة، والثاني: أن يكون غيرها موجودا
ولكنه أكره على أكلها بوعيد يخاف منه تلف نفسه أو تلف بعض أعضائه. وكلا
المعنيين مراد بالآية عندنا لاحتمالهما، وقد روي عن مجاهد أنه تأولها
على ضرورة الإكراه; لأنه إذا كان المعنى في ضرورة الميتة ما يخاف على
نفسه من الضرر في ترك تناوله وذلك موجود في ضرورة الإكراه وجب أن يكون
حكمه حكمه، ولذلك قال أصحابنا فيمن أكره على أكل الميتة فلم يأكلها حتى
قتل كان عاصيا لله، كمن اضطر إلى ميتة بأن عدم غيرها من المأكولات فلم
يأكل حتى مات كان عاصيا، كمن ترك الطعام والشراب وهو واجدهما حتى مات
فيموت عاصيا لله بتركه الأكل; لأن أكل الميتة مباح في حال الضرورة
كسائر الأطعمة في غير حال الضرورة، والله أعلم.
(1/157)
باب المضطر إلى شرب الخمر
قال أبو بكر: وقد اختلف في المضطر إلى شرب الخمر، فقال سعيد بن جبير:
"المطيع المضطر إلى شرب الخمر يشربها" وهو قول أصحابنا جميعا. وإنما
يشرب منها مقدار ما يمسك به رمقه; إذ كان يرد عطشه. وقال الحارث العكلي
ومكحول:
(1/157)
"لا يشرب;
لأنها لا تزيده إلا عطشا". وقال مالك والشافعي: لا يشرب; لأنها لا
تزيده إلا عطشا وجوعا. وقال الشافعي: ولأنها تذهب بالعقل. قال مالك:
إنما ذكرت الضرورة في الميتة ولم تذكر في الخمر.
قال أبو بكر: في قول من قال إنها لا تزيل ضرورة العطش والجوع لا معنى
له من وجهين: أحدهما: أنه معلوم من حالها أنها تمسك الرمق عند الضرورة،
وتزيل العطش، ومن أهل الذمة فيما بلغنا من لا يشرب الماء دهرا اكتفاء
بشرب الخمر عنه، فقولهم في ذلك غير المعقول المعلوم من حال شاربها.
والوجه الآخر: أنه إن كان كذلك كان الواجب أن نحيل مسألة السائل عنها
ونقول: إن الضروره لا تقع إلى شرب الخمر. وأما قول الشافعي في ذهاب
العقل فليس من مسألتنا في شيء لأنه سئل عن القليل الذي لا يذهب العقل
إذا اضطر إليه وأما قول مالك إن الضرورة إنما ذكرت في الميتة ولم تذكر
في الخمر فإنها في بعضها مذكورة في الميتة وما ذكر معها، وفي بعضها
مذكورة في سائر المحرمات وهو قوله تعالى: {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا
حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} [الأنعام: 119]
وقد فصل لنا تحريم الخمر في مواضع من كتاب الله في قوله تعالى:
{يَسْأَلونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ
كَبِيرٌ} [البقرة: 269]. وقوله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ
الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْأِثْمَ} [الأعراف:
33] وقال: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ
وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ}
[المائدة: 90] وذلك يقتضي التحريم. والضرورة المذكورة في الآية منتظمة
لسائر المحرمات، وذكره لها في الميتة وما عطف عليها غير مانع من اعتبار
عموم الآية الأخرى في سائر المحرمات. ومن جهة أخرى أنه إذا كان المعنى
في إباحة الميتة إحياء نفسه بأكلها وخوف التلف في تركها وذلك موجود في
سائر المحرمات وجب أن يكون حكمها حكمها لوجود الضرورة، والله أعلم.
(1/158)
باب في مقدار ما يأكل المضطر
قال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد وزفر والشافعي فيما رواه عنه المزني: لا
يأكل المضطر من الميتة إلا مقدار ما يمسك به رمقه وروى ابن وهب عن مالك
أنه قال: يأكل منها حتى يشبع ويتزود منها، فإن وجد عنها غنى طرحها.
وقال عبيد الله بن الحسن العنبري: يأكل منها ما يسد به جوعه.
قال أبو بكر: قال الله تعالى: {إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ}
[الأنعام: 119] وقال: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ} فعلق
الإباحة بوجود الضرورة، والضرورة هي خوف
(1/158)
الضرر
بترك الأكل إما على نفسه أو على عضو من أعضائه، فمتى أكل بمقدار ما
يزول عنه الخوف من الضرر في الحال فقد زالت الضرورة، ولا اعتبار في ذلك
بسد الجوعة لأن الجوع في الابتداء لا يبيح أكل الميتة إذا لم يخف ضررا
بتركه. وأيضا قوله تعالى: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ}
فقد بينا أن المراد منه: غير باغ ولا عاد في الأكل، ومعلوم أنه لم يرد
الأكل منها فوق الشبع; لأن ذلك محظور في الميتة وغيرها من المباحات،
فوجب أن يكون المراد: غير باغ في الأكل منها مقدار الشبع، فيكون البغي
والتعدي واقعين في أكله منها مقدار الشبع حتى يكون لاختصاصه الميتة
بهذا الوصف وعقده الإباحة بهذه الشريطة فائدة، وهو أن لا يتناول منها
إلا مقدار زوال خوف الضرورة. ويدل على ذلك أيضا أنه لو كان معه من
الطعام مقدار ما إذا أكله أمسك رمقه لم يجز له أن يتناول الميتة. ثم
إذا أكل ذلك الطعام وزال خوف التلف لم يجز له أن يأكل الميتة. وكذلك
إذا أكل من الميتة ما زال معه خوف الضرر حرم عليه أكلها; إذ ليس أكل
الميتة بأولى بإباحة الأكل بعد زوال الضرورة من الطعام الذي هو مباح في
الأصل. وقد روى الأوزاعي عن حسان بن عطية الليثي, أن رجلا سأل النبي
عليه السلام فقال: إنا نكون بالأرض تصيبنا المخمصة فمتى تحل لنا
الميتة؟ قال: "متى ما لم تصطبحوا أو تغتبقوا أو تجدوا بها بقلا فشأنكم
بها؟" فلم يبح لهم الميتة إلا إذا لم يجدوا صبوحا وهو شرب الغداء أو
غبوقا وهو شرب العشاء أو يجدوا بقلا يأكلونه; لأن من وجد غداء أو عشاء
أو بقلا فليس بمضطر. وهذا يدل على معنيين: أحدهما: أن الضرورة هي
المبيحة للميتة دون حال المضطر في كونه مطيعا أو عاصيا; إذ لم يفرق
النبي عليه السلام للسائل بين حال المطيع والعاصي في إباحته بل سوى
بينهما. والثاني: أن إباحة الميتة مقصورة على حال خوف الضرر، والله
أعلم.
(1/159)
باب هل في المال حق واجب سوى الزكاة
قال الله تعالى: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ
الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ} الآية. قيل: في قوله تعالى: {لَيْسَ
الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ} إنه يريد به
اليهود والنصارى حين أنكرت نسخ القبلة، فأعلم الله تعالى أن البر إنما
هو في طاعة الله تعالى واتباع أمره لا في التوجه إلى المشرق والمغرب;
إذ لم يكن فيه اتباع أمره. وإن طاعة الله الآن في التوجه إلى الكعبة،
إذا لم كان التوجه إلى غيرها منسوخا.
وقوله تعالى: {وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ
الْآخِرِ} قيل إن فيه حذفا، ومعناه: إن البر بر من آمن بالله وقيل: إنه
أراد به أن البار من آمن بالله، كقول الخنساء:
(1/159)
ترتع ما
رتعت 1 حتى إذا ادكرت ... فإنما هي إقبال وإدبار
عني مقبلة ومدبرة.
وقوله تعالى: {وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ} يعني أن البار من آتى
المال على حبه. قيل فيه: إنه يعني حب المال، كقوله تعالى: {لَنْ
تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} [آل عمران:
92] وقيل: إنه يعني حب الإيتاء، وأن لا يكون متسخطا عند الإعطاء.
ويحتمل أن يكون أراد على حب الله تعالى كقوله تعالى: {قُلْ إِنْ
كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي} [آل عمران: 31] وجائز أن
يكون مراده جميع هذه الوجوه.
وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك ما يدل على أنه أراد حب
المال، وهو ما رواه جرير بن عبد الحميد عن عمارة بن القعقاع عن أبي
زرعة، عن أبي هريرة قال: جاء رجل إلى النبي: صلى الله عليه وسلم فقال:
يا رسول الله أي الصدقة أفضل؟ فقال: "أن تصدق وأنت صحيح تخشى الفقر
وتأمل الغنى، ولا تمهل حتى إذا بلغت الحلقوم قلت: لفلان كذا ولفلان كذا
وقد كان لفلان". وحدثنا أبو القاسم عبد الله بن إسحاق المروزي قال:
حدثنا الحسن بن أبي الربيع الجرجاني قال: حدثنا عبد الرزاق قال: أخبرنا
الثوري، عن زبيد، عن مرة، عن عبد الله بن مسعود في قوله تعالى: {وَآتَى
الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ} قال: "أن تؤتيه وأنت صحيح تأمل العيش وتخشى
الفقر".
وقوله تعالى: {وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى} يحتمل
به أن يريد به الصدقة الواجبة وأن يريد به التطوع، وليس في الآية دلالة
على أنها الواجبة، وإنما فيها حث على الصدقة، ووعد بالثواب عليها; لأن
أكثر ما فيها أنها من البر، وهذا لفظ ينطوي على الفرض والنفل، إلا أن
في سياق الآية، ونسق التلاوة ما يدل على أنه لم يرد به الزكاة لقوله
تعالى: {وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ} فلما عطف الزكاة عليها
دل على أنه لم يرد الزكاة بالصدقة المذكورة قبلها.
ومن الناس من يقول: أراد به حقوقا واجبة في المال سوى الزكاة نحو وجوب
صلة الرحم إذا وجده ذا ضر شديد. ويجوز أن يريد من قد أجهده الجوع حتى
يخاف عليه التلف فيلزمه أن يعطيه ما يسد جوعته.
وقد روى شريك عن أبي حمزة، عن عامر، عن فاطمة بنت قيس، عن النبي عليه
السلام أنه قال: "في المال حق سوى الزكاة"، وتلا قوله تعالى: {لَيْسَ
الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ
وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} الآية.
وروى سفيان عن أبي الزبير عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه ذكر
الإبل فقال: "إن فيها حقا" فسئل
ـــــــ
1 غفلت "نسخة".
(1/160)
عن ذلك،
فقال: "إطراق فحلها وإعارة ذلولها ومنحة سمينها". فذكر في هذين
الحديثين أن في المال حقا سوى الزكاة، وبين في الحديث الأول أنه تأويل
قوله تعالى: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ} الآية.
وجائز أن يريد بقوله: "في المال حق سوى الزكاة" ما يلزم من صلة الرحم
بالإنفاق على ذوي المحارم الفقراء، ويحكم به الحاكم عليه لوالديه وذوي
محارمه إذا كانوا فقراء عاجزين عن الكسب. وجائز أن يريد به ما يلزمه من
طعام الجائع المضطر. وجائز أن يريد به حقا مندوبا إليه لا واجبا; إذ
ليس قوله: "في المال حق" يقتضي الوجوب، إذ من الحقوق ما هو ندب، ومنها
ما هو فرض.
وحدثنا عبد الباقي: حدثنا أحمد بن حماد بن سفيان قال: حدثنا كثير بن
عبيد: حدثنا بقية عن رجل من بني تميم يكنى أبا عبد الله، عن الضبي
الشعبي، عن مسروق، عن علي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"نسخت الزكاة كل صدقة". وحدثنا عبد الباقي قال: حدثنا حسين بن إسحاق
التستري قال: حدثنا علي بن سعيد قال: حدثنا المسيب بن شريك، عن عبيد
المكتب، عن عامر، عن مسروق، عن علي قال: "نسخت الزكاة كل صدقة".
فإن صح هذا الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم فسائر الصدقات الواجبة
منسوخة بالزكاة، وإن لم يصح ذلك مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم
لجهالة راويه فإن حديث علي عليه السلام حسن السند، وهو يوجب أيضا إثبات
نسخ الصدقات التي كانت واجبة بالزكاة، وذلك لا يعلم إلا من طريق
التوقيف، فيعلم بذلك أن ما قاله علي هو بتوقيف من النبي عليه السلام
إياه عليه، وحينئذ يكون المنسوخ من الصدقات صدقات قد كانت واجبة ابتداء
بأسباب من قبل من يجب عليه تقتضي لزوم إخراجها ثم نسخت بالزكاة نحو
قوله تعالى: {وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى
وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ} [النساء: 8]
ونحو ما روي في قوله تعالى: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ}
[الأنعام: 141] أنه منسوخ عند بعضهم بالعشر ونصف العشر، فيكون المنسوخ
بالزكاة مثل هذه الحقوق الواجبة في المال من غير ضرورة. وأما ما ذكرنا
من الحقوق التي تلزم من نحو الإنفاق على ذوي الأرحام عند العجز عن
التكسب، وما يلزم من إطعام المضطر، فإن هذه فروض لازمة ثابتة غير
منسوخة بالزكاة. وصدقة الفطر واجبة عند سائر الفقهاء، ولم تنسخ بالزكاة
مع أن وجوبها ابتداء من قبل الله تعالى غير متعلق بسبب من قبل العبد،
فهذا يدل على أن الزكاة لم تنسخ صدقة الفطر. وقد روى الواقدي عن عبد
الله بن عبد الرحمن عن الزهري عن عروة عن عائشة قالت: "أمر رسول الله
صلى الله عليه وسلم بزكاة الفطر قبل أن تفرض الزكاة، فلما فرضت الزكاة
لم يأمرهم، ولم ينههم، وكانوا يخرجونها". فهذا الخبر لو صح لم يدل على
نسخها; لأن
(1/161)
وجوب
الزكاة لا ينفي بقاء وجوب صدقة الفطر، وعلى أن الأولى أن فرض الزكاة
متقدم على صدقة الفطر لأنه لا خلاف بين السلف في أن "حم السجدة" مكية،
وأنها من أوائل ما نزل من القرآن، وفيها وعيد تارك الزكاة عند قوله:
{وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ
بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ} [فصلت: 7] والأمر بصدقة الفطر إنما كان
بالمدينة، فدل ذلك على أن فرض الزكاة متقدم لصدقة الفطر. وقد روي عن
ابن عمر ومجاهد في قوله تعالى: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ}
[الأنعام: 141] أنها محكمة وأنه حق واجب عند القوم غير الزكاة.
وأما الحقوق التي تجب بأسباب من قبل العبد نحو الكفارات والنذور، فلا
خلاف أن الزكاة لم تنسخها.
واليتامى المرادون بالآية هم الصغار الفقراء الذين مات آباؤهم.
والمساكين مختلف فيه، وسنذكر ذلك في سورة براءة إن شاء الله تعالى.
وابن السبيل روي عن مجاهد أنه المسافر، وعن قتادة أنه الضيف. والقول
الأول أشبه لأنه إنما سمي ابن السبيل لأنه على الطريق، كما قيل للطير
الإوز: ابن ماء لملازمته له. قال ذو الرمة:
وردت اعتسافا والثريا كأنها ... على قمة الرأس ابن ماء محلق
والسائلين يعني به الطالبين للصدقة، قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ فِي
أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} [المعارج:
24- 25] حدثنا عبد الباقي بن قانع قال: حدثنا معاذ بن المثنى قال:
حدثنا محمد بن كثير قال: حدثنا سفيان قال: حدثنا مصعب بن محمد قال:
حدثنا يعلى بن أبي يحيى عن فاطمة بنت حسين بن علي رضي الله تعالى عنهم
أجمعين قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "للسائل حق، وإن جاء
على فرس". حدثنا عبد الباقي بن قانع قال: حدثنا عبيد بن شريك: حدثنا
أبو الجماهر قال: حدثنا عبد الله بن زيد بن أسلم عن أبيه عن أبي هريرة،
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أعطوا السائل وإن أتى على فرس"
والله تعالى أعلم.
(1/162)
باب القصاص
قال الله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} هذا
كلام مكتف بنفسه غير مفتقر إلى ما بعده، ألا ترى أنه لو اقتصر عليه
لكان معناه مفهوما من لفظه، واقتضى ظاهره وجوب القصاص على المؤمنين في
جميع القتلى؟ والقصاص هو أن يفعل به مثل ما فعل به، من قولك: "اقتص أثر
فلان" إذا فعل مثل فعله، قال الله تعالى: {فَارْتَدَّا عَلَى
آثَارِهِمَا
(1/162)
قَصَصاً}
[الكهف: 64] وقوله تعالى: {وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ} [القصص: 11]
أي اتبعي أثره.
وقوله: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ} معناه: فرض عليكم، كقوله تعالى: {كُتِبَ
عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} [البقرة: 183]، و {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا
حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ
لِلْوَالِدَيْنِ} [البقرة: 180] وقد كانت الوصية واجبة. ومنه: الصلوات
المكتوبات، يعني بها المفروضات، فانتظمت الآية إيجاب القصاص على
المؤمنين إذا قتلوا لمن قتلوا من سائر المقتولين لعموم لفظ المقتولين.
والخصوص إنما هو في القاتلين; لأنه لا يكون القصاص مكتوبا عليهم إلا
وهم قاتلون، فاقتضى وجوب القصاص على كل قاتل عمدا بحديدة إلا ما خصه
الدليل، سواء كان المقتول عبدا أو ذميا، ذكرا أو أنثى، لشمول لفظ
القتلى للجميع.
وليس توجيه الخطاب إلى المؤمنين بإيجاب القصاص عليهم في القتلى بموجب
أن يكون القتلى مؤمنين; لأن علينا اتباع عموم اللفظ ما لم تقم دلالة
الخصوص، وليس في الآية ما يوجب خصوص الحكم في بعض القتلى دون بعض.
فإن قال قائل: يدل على خصوص الحكم في القتلى وجهان: أحدهما: في نسق
الآية: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ
بِالْمَعْرُوفِ} والكافر لا يكون أخا للمسلم، فدل على أن الآية خاصة في
قتلى المؤمنين. والثاني: قوله: {الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ
بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى} قيل له: هذا غلط من وجهين:
أحدهما: أنه إذا كان أول الخطاب قد شمل الجميع فما عطف عليه بلفظ
الخصوص لا يوجب تخصيص عموم اللفظ، وذلك نحو قوله تعالى:
{وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ}
[البقرة: 228] وهو عموم في المطلقة ثلاثا وما دونها، ثم عطف قوله
تعالى: {فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ
سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} [الطلاق: 2]، وقوله تعالى:
{وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ} [البقرة: 228]
وهذا حكم خاص في المطلق لما دون الثلاث، ولم يوجب ذلك تخصيص عموم اللفظ
في إيجاب ثلاثة قروء من العدة على جميعهن، ونظائر هذا كثيرة في القرآن.
والوجه الآخر: أن يريد الإخوة من طريق النسب لا من جهة الدين، كقوله
تعالى: {وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً} وأما قوله: {الْحُرُّ
بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ} فلا يوجب تخصيص عموم اللفظ في
القتلى; لأنه إذا كان أول الخطاب مكتفيا بنفسه غير مفتقر إلى ما بعده
لم يجز لنا أن نقصره عليه.
وقوله: {الْحُرُّ بِالْحُرِّ} إنما هو بيان لما تقدم ذكره على وجه
التأكيد وذكر الحال التي خرج عليها الكلام، وهو ما ذكره الشعبي وقتادة:
أنه كان بين حيين من العرب قتال
(1/163)
وكان
لأحدهما طول على الآخر، فقالوا: لا نرضى إلا أن نقتل بالعبد منا الحر
منكم، وبالأنثى منا الذكر منكم فأنزل الله: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ
الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ
بِالْعَبْدِ} مبطلا بذلك ما أرادوه، ومؤكدا عليهم فرض القصاص على
القاتل دون غيره; لأنهم كانوا يقتلون غير القاتل، فنهاهم الله عن ذلك
وهو معنى ما روي عنه عليه السلام أنه قال: "من أعتى الناس على الله يوم
القيامة ثلاثة: رجل قتل غير قاتله، ورجل قتل في الحرم، ورجل أخذ بذحول
الجاهلية". وأيضا فإن قوله تعالى: {الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ
بِالْعَبْدِ} تفسير لبعض ما انتظمه عموم اللفظ، ولا يوجب ذلك تخصيص
اللفظ، ألا ترى أن قول النبي عليه السلام: "الحنطة بالحنطة مثلا بمثل"،
وذكره الأصناف الستة لم يوجب أن يكون حكم الربا مقصورا عليها، ولا نفي
الربا عما عداها؟ كذلك قوله: {الْحُرُّ بِالْحُرِّ} لا ينفي اعتبار
عموم اللفظ في قوله: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى}
ويدل على أن قوله: {الْحُرُّ بِالْحُرِّ} غير موجب لتخصيص عموم القصاص،
ولم ينف القصاص عن غير المذكور اتفاق الجميع على قتل العبد بالحر
والأنثى بالذكر، فثبت بذلك أن تخصيص الحر بالحر لم ينف موجب حكم اللفظ
في جميع القتلى.
فإن قال قائل: كيف يكون القصاص مفروضا، والولي مخير بين العفو وبين
القصاص؟ قيل له: لم يجعله مفروضا على الولي، وإنما جعله مفروضا على
القاتل للولي بقوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي
الْقَتْلَى} وليس القصاص على الولي، وإنما هو حق له، وهذا لا ينفي
وجوبه على القاتل، وإن كان الذي له القصاص مخيرا فيه.
وهذه الآية تدل على قتل الحر بالعبد، والمسلم بالذمي، والرجل بالمرأة
لما بينا من اقتضاء أول الخطاب إيجاب عموم القصاص في سائر القتلى، وأن
تخصيصه الحر بالحر ومن ذكر معه لا يوجب الاقتصار بحكم القصاص عليه دون
اعتبار عموم ابتداء الخطاب في إيجاب القصاص.
ونظيرها من الآي في إيجاب القصاص عاما قوله تعالى: {وَمَنْ قُتِلَ
مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً} [الإسراء: 33]
فانتظم ذلك جميع المقتولين ظلما وجعل لأوليائهم سلطانا، وهو القود،
لاتفاق الجميع على أن القود مراد بذلك في الحر المسلم إذا قتل حرا
مسلما، فكان بمنزلة قوله تعالى: فقد جعلنا لوليه قودا; لأن ما حصل
الاتفاق عليه من معنى الآية مراد فكأنه منصوص عليه فيها، فلفظ السلطان،
وإن كان مجملا فقد عرف معنى مراده من طريق الاتفاق. وقوله: {وَمَنْ
قُتِلَ مَظْلُوماً} هو عموم يصح اعتباره على حسب ظاهره، ومقتضى لفظه.
(1/164)
ونظيرها
أيضا من الآي قوله تعالى: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ
النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} [المائدة: 45] فأخبر أن ذلك كان مكتوبا على بني
إسرائيل. وهو عموم في إيجاب القصاص في سائر المقتولين. وقد احتج أبو
يوسف بذلك في قتل الحر بالعبد، وهذا يدل على أن من مذهبه أن شريعة من
كان قبلنا من الأنبياء ثابتة علينا ما لم يثبت نسخها على لسان الرسول
صلى الله عليه وسلم ولا نجد في القرآن ولا في السنة ما يوجب نسخ ذلك،
فوجب أن يكون حكمه ثابتا علينا على حسب ما اقتضاه ظاهر لفظه من إيجاب
القصاص في سائر الأنفس.
ونظيره أيضا قوله تعالى: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا
عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [البقرة: 194]، لأن من قتل
وليه يكون معتدى عليه، وذلك عموم في سائر القتلى. وكذلك قوله: {وَإِنْ
عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} [النحل: 126]
يقتضي عمومه وجوب القصاص في الحر والعبد والذكر والأنثى والمسلم
والذمي.
(1/165)
مسألة في قتل الحر بالعبد
قال أبو بكر: وقد اختلف الفقهاء في القصاص بين الأحرار والعبيد، فقال
أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد وزفر رضي الله عنهم: "لا قصاص بين الأحرار
والعبيد إلا في الأنفس ويقتل الحر بالعبد والعبد بالحر" وقال ابن أبي
ليلى: "القصاص واجب بينهم في جميع الجراحات التي نستطيع فيها القصاص".
وقال ابن وهب عن مالك: "ليس بين الحر والعبد قود في شيء من الجراح،
والعبد يقتل بالحر، ولا يقتل الحر بالعبد". وقال الليث بن سعد: "إذا
كان العبد هو الجاني اقتص منه، ولا يقتص من الحر للعبد"، وقال: "إذا
قتل العبد الحر فلولي المقتول أن يأخذ بها نفس العبد القاتل فيكون له،
وإذا جنى على الحر فيما دون النفس فللمجروح القصاص إن شاء". وقال
الشافعي: "من جرى عليه القصاص في النفس جرى عليه في الجراح، ولا يقتل
الحر بالعبد، ولا يقتص له منه فيما دون النفس".
وجه دلالة الآية في وجوب القصاص بين الأحرار والعبيد في النفس، أن
الآية مقصورة الحكم على ذكر القتلى، وليس فيهم ذكر لما دون النفس من
الجراح، وسائر ما ذكرنا من عموم آي القرآن في بيان القتلى والعقوبة
والاعتداء يقتضي قتل الحر بالعبد، ومن حيث اتفق الجميع على قتل العبد
بالحر وجب قتل الحر بالعبد; لأن العبد قد ثبت أنه مراد بالآية، والآية
لم يفرق مقتضاها بين العبد المقتول والقاتل، فهي عموم فيهما
(1/165)
جميعا.
ويدل أيضا على ذلك قوله تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا
أُولِي الْأَلْبَابِ} فأخبر أنه أوجب القصاص; لأن فيه حياة لنا. وذلك
خطاب شامل للحر والعبد; لأن صفة أولي الألباب تشملهم جميعا، فإذا كانت
العلة موجودة في الجميع لم يجز الاقتصار بحكمها على بعض من هي موجودة
فيه دون غيره. ويدل عليه من جهة السنة قول النبي صلى الله عليه وسلم:
"المسلمون تتكافأ دماؤهم" وهو عام في العبيد والأحرار فلا يخص منه شيء
إلا بدلالة. ويدل عليه من وجه آخر: وهو اتفاق الجمع على أن العبد إذا
كان هو القاتل فهو مراد به، كذلك إذا كان مقتولا; لأنه لم يفرق بينه
إذا كان قاتلا أو مقتولا.
فإن قيل: لما قال في سياق الحديث: "ويسعى بذمتهم أدناهم" وهو العبد،
يدل على أنه لم يرده بأول الخطاب. قيل له: هذا غلط من قبل أنه لا خلاف
أن العبد إذا كان قاتلا فهو مراد، ولم يمنع قوله: "ويسعى بذمتهم
أدناهم" أن يكون مرادا إذا كان قاتلا، كذلك لا يمنع إرادته إذا كان
مقتولا، على أن قوله: "ويسعى بذمتهم أدناهم" ليس فيه تخصيص العبد من
غيره، وإنما المراد أدناهم عددا، هو كقوله: واحد منهم، فلا تعلق لذلك
في إيجاب اقتصار حكم أول اللفظ على الحر دون العبد. وعلى أنه لو قال:
ويسعى بذمتهم عبدهم، لم يوجب تخصيص حكمه في مكافأة دمه لدم الحر; لأن
ذلك حكم آخر استأنف له ذكرا، وخص به العبد ليدل على أن غير العبد أولى
بالسعي بذمتهم. فإذا كان تخصيص العبد بالذكر في هذا الحكم لم يوجب أن
يكون مخصوصا به دون الآخر، فلأن لا يوجب تخصيص حكم القصاص أولى.
فإن قيل: قوله: "المسلمون تتكافأ دماؤهم" يقتضي التماثل في الدماء،
وليس العبد مثلا للحر. قيل له فقد جعله النبي عليه السلام مثلا له في
الدم; إذ علق حكم التكافؤ منهم بالإسلام، ومن قال ليس بمكافئ له فهو
خارج على حكم النبي عليه السلام مخالف بغير دلالة. ويدل عليه أيضا ما
حدثنا عبد الباقي بن قانع قال: حدثنا معاذ بن المثنى قال: حدثنا محمد
بن كثير قال: حدثنا سفيان، عن الأعمش، عن عبد الله بن مرة، عن عبد الله
بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يحل دم رجل مسلم
يشهد أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله إلا في إحدى ثلاث: التارك
للإسلام المفارق للجماعة، والثيب الزاني، والنفس بالنفس فلم يفرق بين
الحر والعبد، وأوجب القصاص في النفس بالنفس". وذلك موافق لما حكى الله
مما كتبه على بني إسرائيل فحوى هذا الخبر معنيين، أحدهما: أن ما كان
على بني إسرائيل من ذلك فحكمه باق علينا، والثاني: أنه مكتف بنفسه في
إيجاب القصاص عاما في سائر النفوس. ويدل عليه أيضا من جهة السنة، ما
حدثنا عبد الباقي بن
(1/166)
قانع قال:
حدثنا موسى بن زكريا التستري قال: حدثنا سهل بن عثمان العسكري أبو
معاوية، عن إسماعيل بن مسلم عن عمرو بن دينار، عن طاوس، عن ابن عباس
قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "العمد قود إلا أن يعفو ولي
المقتول" فقد دل هذا الخبر على معنيين: أحدهما: إيجاب القود في كل عمد،
وأوجب ذلك القود على قاتل العبد. والثاني: نفى به وجوب المال; لأنه لو
وجب المال مع القود على وجه التخيير لما اقتصر على ذكر القود دونه.
ويدل أيضا عليه من جهة النظر أن العبد محقون الدم حقنا لا يرفعه مضي
الوقت، وليس بولد للقاتل، ولا ملك له، فأشبه الحر الأجنبي، فوجب القصاص
بينهما كما يجب على العبد إذا قتل حرا بهذه العلة، كذلك إذا قتله الحر
لوجود العلة فيه. وأيضا فمن منع أن يقاد الحر بالعبد، فإنما منعه
لنقصان الرق 1 الذي فيه، ولا اعتبار بالمساواة في الأنفس، وإنما يعتبر
ذلك فيما دونها، والدليل على ذلك أن عشرة لو قتلوا واحدا قتلوا به، ولم
تعتبر المساواة، كذلك لو أن رجلا صحيح الجسم سليم الأعضاء قتل رجلا
مفلوجا مريضا مدنفا مقطوع الأعضاء قتل به، وكذلك الرجل يقتل بالمرأة مع
نقصان عقلها ودينها، وديتها ناقصة عن دية الرجل.
فثبت بذلك أن لا اعتبار بالمساواة في إيجاب القصاص في الأنفس، وأن
الكامل يقاد منه للناقص، وليس ذلك حكم ما دون النفس لأنهم لا يختلفون
أنه لا تؤخذ اليد الصحيحة بالشلاء، وتؤخذ النفس الصحيحة بالسقيمة. وروى
الليث عن الحكم، أن عليا وابن مسعود قالا: "من قتل عبدا عمدا فهو قود".
ـــــــ
1 قوله: "لنقصان الرق" إضافة النقصان إلى الرق بيانية أي النقصان هو
الرق "لمصححه".
(1/167)
باب قتل المولى لعبده
وقد اختلف في قتل المولى لعبده، فقال قائلون، وهم شواذ: يقتل به. وقال
عامة الفقهاء: لا يقتل به. فمن قتله احتج بظاهر قوله تعالى: {كُتِبَ
عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ} [المائدة:
45] على نحو ما احتججنا به في قتل الحر بالحر، وقوله: {النَّفْسَ
بِالنَّفْسِ} وقوله: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا
عَلَيْهِ} [البقرة: 194] وقوله عليه السلام: "المسلمون تتكافأ دماؤهم"
وقد روي حديث عن سمرة بن جندب عن النبي عليه السلام أنه قال : "من قتل
عبده قتلناه، ومن جدع عبده جدعناه".
أما ظاهر الآي فلا حجة لهم فيها; لأن الله تعالى إنما جعل القصاص فيها
للمولى بقوله تعالى: {وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنَا
لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً} [الإسراء: 33] وولي العبد هو
(1/167)
مولاه في
حياته، وبعد وفاته; لأن العبد لا يملك شيئا، وما يملكه فهو لمولاه لا
من جهة الميراث لكن من جهة الملك، فإذا كان هو الولي لم يثبت له القصاص
على نفسه، وليس هو بمنزلة من قتل وارثه فيجب عليه القصاص، ولا يرثه لأن
ما يحصل للوارث إنما ينتقل عن ملك المورث إليه، والقاتل لا يرث فوجب
عليه القصاص لغيره، والعبد لا يملك شيئا فينتقل إلى مولاه، ألا ترى أنه
لو قتل ابن العبد لم يثبت له القصاص على قاتله لأنه لا يملك؟ فكذلك لا
يثبت له القصاص على غيره. ومتى وجب له القود على قاتله فإنما يستحقه
مولاه دونه، فلم يجز من أجل ذلك إيجاب القصاص على مولاه بقتله إياه.
ويدل على أن العبد لا يثبت له ذلك قوله تعالى: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً
عَبْداً مَمْلُوكاً لا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ} [النحل: 75] فنفى بذلك
ملك العبد نفيا عاما عن كل شيء، فلم يجز أن يثبت له بذلك على أحد شيء.
وإذا لم يجز أن يثبت له ذلك لأجل أنه ملك لغيره، والمولى إذا استحق ما
يجب له فلا يجب له القود على نفسه، وليس العبد في هذا كالحر لأن الحر
يثبت له القصاص ثم من جهته ينتقل إلى وارثه، ولذلك يستحقونه بينهم على
قدر مواريثهم، فمن حرم ميراثه بالقتل لم يرثه القود فكان القود لمن
يرثه.
فإن قيل: ليس دم العبد في هذا الوجه كماله; لأن المولى لا يملك قتله،
ولا الإقرار عليه بالقتال فهو بمنزلة الأجنبي فيه. قيل له: إن كان
المولى لا يملك قتله، ولا الإقرار عليه به ولكنه ولي، وهو المستحق
للقصاص على قاتله إذا كان أجنبيا، من حيث كان مالكا لرقبته لا من جهة
الميراث، ألا ترى أنه المستحق للقود على قاتله دون أقربائه؟ فدل ذلك
على أنه يملك القود به كما يملك رقبته. فإذا كان هو القاتل لم يجز أن
يستحق القود غيره عليه، فاستحال من أجل ذلك وجوب القود له على نفسه.
وأيضا فقوله: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ}
[البقرة: 194] لا يجوز أن يكون خطابا للمولى إذا كان هو المعتدي بقتل
عبده; لأنه وإن كان معتديا على نفسه بقتل عبده وإتلاف ملكه فغير جائز
أن يكون غيره مخاطبا باستيفاء القود منه; لأنه غير معتد عليه، والله
تعالى إنما أوجب الحق لمن اعتدي عليه دون غيره.
فإن قال قائل: يقيد الإمام منه كما يقيد ممن قتل رجلا لا وارث له. قيل
له: إنما يقوم الإمام بما ثبت من القود لكافة المسلمين إذا كانوا
مستحقين لميراثه، والعبد لا يورث فيثبت الحق في الاقتصاص من قاتله
لكافة المسلمين، ولا جائز أن يثبت ذلك للإمام ألا ترى أنه لو قتل العبد
خطأ كان المولى هو المستحق لقيمته على قاتله دون سائر المسلمين، ودون
الإمام، وأن الحر الذي لا وارث له لو قتل خطأ كانت ديته لبيت المال؟
فكذلك القود لو ثبت على المولى لما استحقه الإمام، ولكان المولى هو
الذي
(1/168)
يستحقه،
ويستحيل ثبوت ذلك له على نفسه فبطل. وأما الحديث الذي روي فيه فهو
معارض بضده، وهو ما حدثنا ابن قانع قال: حدثنا المقبري قال: حدثنا خالد
بن يزيد بن صفوان النوفلي قال: حدثنا ضمرة بن ربيعة، عن ابن عباس، وعن
الأوزاعي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رجلا قتل عبده متعمدا
فجلده النبي صلى الله عليه وسلم ونفاه سنة، ومحا سهمه من المسلمين، ولم
يقده به فنفى هذا الخبر ظاهر ما أثبته خبر سمرة بن جندب الذي احتجوا
به، مع موافقته لما ذكرنا من ظاهر الآي ومعانيها من إيجاب الله تعالى
القود للمولى، ومن نفيه لملك العبد بقوله: {لا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ}
[النحل: 75] ولو انفرد خبر سمرة عن معارضة الخبر الذي قدمناه لما جاز
القطع به لاحتماله لغير ظاهره، وهو أنه جائز أن يكون رجل أعتق عبده ثم
قتله أو جدعه أو لم يقدم على ذلك، ولكنه هدده به، فبلغ ذلك النبي صلى
الله عليه وسلم فقال: "من قتل عبده قتلناه" يعني عبده المعتق الذي كان
عبده. وهذا الإطلاق شائع في اللغة والعادة فقد قال النبي عليه السلام
لبلال حين أذن قبل طلوع الفجر: "ألا إن العبد نام"، وقد كان حرا في ذلك
الوقت، وقال علي عليه السلام: "ادعوا لي هذا العبد الأبظر" 1 يعني
شريحا حين قضى في ابني عم أحدهما أخ لأم بأن الميراث للأخ من الأم;
لأنه كان قد جرى عليه رق في الجاهلية فسماه بذلك، وقال تعالى: {وَآتُوا
الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ} [النساء: 2] والمراد الذين كانوا يتامى.
وقال عليه السلام: "تستأمر اليتيمة في نفسها" يعني التي كانت يتيمة.
ولا يمتنع أن يكون مراد النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: "من قتل عبده
قتلناه" ما وصفناه فيمن كان عبدا فأعتق، وزال بهذا توهم متوهم لو ظن أن
مولى النعمة لا يقاد بمولاه الأسفل كما لا يقاد والد بولده. وقد كان
جائزا أن يسبق إلى ظن بعض الناس أن لا يقاد به; لأنه عليه السلام قد
جعل حق مولى النعمة كحق الوالد، والدليل عليه قوله عليه السلام: "لن
يجزي ولد والده إلا أن يجده مملوكا فيشتريه فيعتقه" فجعل عتقه لأبيه
كفاء لحقه ومساويا ليده عنده ونعمته لديه، والله أعلم.
ـــــــ
1 قوله: "الأبظر" هو الذي في شفته العليا طول مع نتوء "لمصححه".
(1/169)
باب القصاص بين الرجال و النساء
...
باب القصاص بين الرجال والنساء
قال الله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} وقال:
{وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً}
[الإسراء: 33] فظاهر ما ذكر من ظواهر الآي الموجبة للقصاص في الأنفس
بين العبيد والأحرار موجب للقصاص بين الرجال والنساء فيها. وقد اختلف
الفقهاء في ذلك، فقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد وزفر، وابن شبرمة: "لا
قصاص بين
(1/169)
الرجال
والنساء إلا في الأنفس"، وروي عن ابن شبرمة رواية أخرى: أن بينهم قصاصا
فيما دون النفس. وقال ابن أبي ليلى ومالك والثوري والليث والأوزاعي
والشافعي: القصاص واقع فيما بين الرجال والنساء في الأنفس وما دونها
إلا أن الليث قال: إذا جنى الرجل على امرأته عقلها ولم يقتص منه. وقال
عثمان البتي: إذا قتلت امرأة رجلا قتلت به، وأخذ من مالها نصف الدية،
وكذلك إن أصابته بجراحة قال: وإن كان هو الذي قتلها أو جرحها فعليه
القود، ولا يرد عليه شيء. وقد روي عن السلف اختلاف في ذلك، فروى قتادة
عن سعيد بن المسيب: أن عمر قتل نفرا من أهل صنعاء بامرأة أقادهم بها.
وروي عن عطاء والشعبي ومحمد بن سيرين: أنه يقتل بها. واختلف عن علي
عليه السلام فيها، فروى ليث عن الحكم عن علي وعبد الله قالا: إذا قتل
الرجل المرأة متعمدا فهو بها قود. وروي عن عطاء، والشعبي، والحسن
البصري أن عليا قال: إن شاءوا قتلوه، وأدوا نصف الدية، وإن شاءوا أخذوا
نصف دية الرجل. وروى أشعث عن الحسن في امرأة قتلت رجلا عمدا قال: تقتل،
وترد نصف الدية.
قال أبو بكر: ما روي عن علي من القولين في ذلك مرسل; لأن أحدا من رواته
لم يسمع من علي شيئا، ولو ثبتت الروايتان كان سبيلهما أن تتعارضا،
وتسقطا فكأنه لم يرو عنه في ذلك شيء. وعلى أن رواية الحكم في إيجاب
القود دون المال أولى لموافقتها لظاهر الكتاب، وهو قوله تعالى: {كُتِبَ
عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} وسائر الآي الموجبة للقود ليس
في شيء منها ذكر الدية، وهو غير جائز أن يزيد في النص إلا بنص مثله;
لأن الزيادة في النص توجب النسخ. حدثنا ابن قانع قال: حدثنا إبراهيم بن
عبد الله قال: حدثنا محمد بن عبد الله الأنصاري قال: حدثنا حميد عن أنس
بن مالك: أن الربيع بنت النضر لطمت جارية فكسرت ثنيتها فعرض عليهم
الأرش فأبوا، فأتوا النبي صلى الله عليه وسلم فأمرهم بالقصاص فجاء
أخوها أنس بن النضر فقال: يا رسول الله تكسر سن الربيع؟ لا، والذي بعثك
بالحق فقال: "يا أنس كتاب الله القصاص" فعفا القوم، فقال عليه السلام:
"إن من عباد الله من لو أقسم على الله لأبره" فأخبر عليه السلام أن
الذي في كتاب الله القصاص دون المال فلا جائز إثبات المال مع القصاص.
ومن جهة أخرى أنه إذا لم يجب القصاص بنفس القتل فغير جائز إيجابه مع
إعطاء المال; لأن المال حينئذ يصير بدلا من النفس، وغير جائز قتل النفس
بالمال، ألا ترى أن من رضي أن يقتل، ويعطى مالا يكون لوارثه لم يصح
ذلك، ولم يجز أن يستحق النفس بالمال؟ فبطل أن يكون القصاص موقوفا على
إعطاء المال.
وأما مذهب الحسن، وقول عثمان البتي في أن المرأة إذا كانت القاتلة
قتلت، وأخذ
(1/170)
من مالها
نصف الدية، فقول يرده ظاهر الآي الموجبة للقصاص، ويوجب زيادة حكم غير
مذكور فيها. وقد روى قتادة عن أنس: أن يهوديا قتل جارية، وعليها أوضاح
لها، فأتي به النبي صلى الله عليه وسلم فقتله بها. وروى الزهري عن أبي
بكر بن محمد بن عمرو بن حزم عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه
وسلم قال: "إن الرجل يقتل بالمرأة". وأيضا قد ثبت عن عمر بن الخطاب قتل
جماعة رجال بالمرأة الواحدة من غير خلاف ظهر من أحد من نظرائه مع
استفاضة ذلك، وشهرته عنه، ومثله يكون إجماعا.
ومما يدل على قتل الرجل بها من غير بدل مال، ما قدمنا من سقوط اعتبار،
المساواة بين الصحيحة، والسقيمة، وقتل العاقل بالمجنون، والرجل بالصبي،
وهذا يدل على سقوط اعتبار المساواة في النفوس، وأما دون النفس فإن
اعتبار المساواة، واجب فيه، والدليل عليه اتفاق الجميع على امتناع أخذ
اليد الصحيحة بالشلاء. وكذلك لم يوجب أصحابنا القصاص بين الرجال،
والنساء فيما دون النفس، وكذلك بين العبيد، والأحرار; لأن ما دون النفس
من أعضائها غير متساوية.
فإن قال قائل: هلا قطعت يد العبد، ويد المرأة بيد الرجل كما قطعت اليد
الشلاء بالصحيحة قيل له: إنما سقط القصاص في هذا الموضع لاختلاف
أحكامها لا من جهة النقص، فصار كاليسرى لا تؤخذ باليمنى، وأوجب أصحابنا
القصاص بين النساء فيما دون النفس لتساوي أعضائهما من غير اختلاف في
أحكامهما، ولم يوجبوا القصاص فيما بين العبيد فيما دون النفس; لأن
تساويهما إنما يعلم من طريق التقويم، وغالب الظن. كما لا تقطع اليد من
نصف الساعد; لأن الوصول إلى علمه من طريق الاجتهاد. وعندهم أن أعضاء
العبد حكمها حكم الأموال في جميع الوجوه، فلا يلزم العاقلة منها شيء،
وإنما يلزم الجاني في ماله، وليس كذلك النفس لأنها تلزم العاقلة في
الخطأ، وتجب فيها الكفارة ففارق الجنايات على الأموال، والله أعلم.
(1/171)
باب قتل المؤمن بالكافر
قال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد وزفر وابن أبي ليلى وعثمان البتي: "يقتل
المسلم بالذمي". وقال ابن شبرمة والثوري والأوزاعي والشافعي: "لا
يقتل". وقال مالك والليث بن سعد: "إن قتله غيلة قتل به، وإلا لم يقتل".
قال أبو بكر: سائر ما قدمنا من ظواهر الآي يوجب قتل المسلم بالذمي على
ما بينا; إذ لم يفرق شيء منها بين المسلم، والذمي، وقوله تعالى:
{كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} عام في الكل، وكذلك
قوله تعالى: {الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ
وَالْأُنْثَى
(1/171)
بِالْأُنْثَى} وقوله في سياق الآية: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ
شَيْءٌ} لا دلالة فيه على خصوص أول الآية في المسلمين دون الكفار;
لاحتمال الأخوة من جهة النسب، ولأن عطف بعض ما انتظمه لفظ العموم عليه
بحكم مخصوص لا يدل على تخصيص حكم الجملة على ما بيناه فيما سلف عند
ذكرنا حكم الآية. وكذلك قوله تعالى: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا
أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} [المائدة: 45] يقتضي عمومه قتل المؤمن
بالكافر; لأن شريعة من قبلنا من الأنبياء ثابتة في حقنا ما لم ينسخها
الله تعالى على لسان رسوله عليه السلام وتصير حينئذ شريعة للنبي عليه
السلام قال الله تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ
فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} [الأنعام: 90]. ويدل على أن ما في هذه الآية،
وهو قوله: {النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} إلى آخرها هو شريعة لنبينا عليه
السلام قوله عليه السلام في إيجابه القصاص في السن في حديث أنس الذي
قدنا حين قال أنس بن النضر: لا تكسر ثنية الربيع: "كتاب الله القصاص" ،
وليس في كتاب الله السن بالسن إلا في هذه الآية، فأبان النبي عليه
السلام عن موجب حكم الآية علينا، ولو لم تلزمنا شريعة من قبلنا من
الأنبياء بنفس ورودها لكان قوله كافيا في بيان موجب حكم هذه الآية،
وأنها قد اقتضت من حكمها علينا مثل ما كان على بني إسرائيل فقد دل قول
النبي عليه السلام هذا على معنيين: أحدهما: لزوم حكم الآية لنا، وثبوته
علينا، والثاني: إخباره أن ظاهر الكتاب قد ألزمنا هذا الحكم قبل إخبار
النبي عليه السلام بذلك، فدل ذلك على ما حكاه الله في كتابه مما شرعه
لغيره من الأنبياء فحكمه ثابت ما لم ينسخ، وإذا ثبت ما، وصفنا، وليس في
الآية فرق بين المسلم، والكافر، وجب إجراء حكمها عليهما. ويدل عليه
قوله عز وجل: {وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ
سُلْطَاناً} [الإسراء: 33] وقد ثبت بالاتفاق أن السلطان المذكور في هذا
الموضع قد انتظم القود، وليس فيها تخصيص مسلم من كافر فهو عليهما. ومن
جهة السنة ما روي عن الأوزاعي، عن يحيى بن أبي كثير، عن سلمة، عن أبي
هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب يوم فتح مكة فقال: "ألا،
ومن قتل قتيلا فوليه بخير النظرين بين أن يقتص أو يأخذ الدية". وروى
أبو سعيد المقبري عن أبي شريح الكعبي عن النبي صلى الله عليه وسلم
مثله. وحديث عثمان وابن مسعود، وعائشة عن النبي عليه السلام: "لا يحل
دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: زنا بعد إحصان، وكفر بعد إيمان، وقتل نفس
بغير نفس". وحديث ابن عباس أن النبي عليه السلام قال: "العمد قود".
وهذه الأخبار يقتضي عمومها قتل المسلم بالذمي. وروى ربيعة بن أبي عبد
الرحمن عن عبد الرحمن بن السلماني: أن النبي عليه السلام أقاد مسلما
بذمي، وقال: "أنا أحق من وفى بذمته". وقد روى الطحاوي عن سليمان بن
شعيب قال: حدثنا يحيى بن سلام، عن محمد بن أبي حميد المدني، عن محمد بن
المنكدر، عن النبي عليه السلام مثله.
(1/172)
وقد روي
عن عمر وعلي وعبد الله قتل المسلم بالذمي، حدثنا ابن قانع قال: حدثنا
علي بن الهيثم، عن عثمان الفزاري قال: حدثنا مسعود بن جويرية قال:
حدثنا عبد الله بن خراش، عن واسط، عن الحسن بن ميمون، عن أبي الجنوب
الأسدي قال: جاء رجل من أهل الحيرة إلى علي كرم الله وجهه فقال: يا
أمير المؤمنين رجل من المسلمين قتل ابني، ولي بينة فجاء الشهود فشهدوا،
وسأل عنهم فزكوا، فأمر بالمسلم فأقعد، وأعطي الحيري سيفا وقال: أخرجوه
معه إلى الجبانة فليقتله، وأمكناه من السيف، فتباطأ الحيري، فقال له
بعض أهله: هل لك في الدية تعيش فيها، وتصنع عندنا يدا؟ قال: نعم، وغمد
السيف، وأقبل إلى علي فقال: لعلهم سبوك وتواعدوك؟ قال: لا، والله،
ولكني اخترت الدية. فقال علي: أنت أعلم قال: ثم أقبل علي على القوم
فقال: أعطيناهم الذي أعطيناهم لتكون دماؤنا كدمائهم، ودياتنا كدياتهم.
وحدثنا ابن قانع قال: حدثنا معاذ بن المثنى قال: حدثنا عمرو بن مرزوق
قال: حدثنا شعبة، عن عبد الملك بن ميسرة، عن النزال بن سبرة: أن رجلا
من المسلمين قتل رجلا من العباديين 1، فقدم أخوه على عمر بن الخطاب،
فكتب عمر أن يقتل، فجعلوا يقولون: يا جبير اقتل فجعل يقول: حتى يأتي
الغيظ. فكتب عمر أن لا يقتل، ويودى. وروي في غير هذا الحديث أن الكتاب،
ورد بعد أن قتل، وأنه إنما كتب أن يسأل الصلح على الدية حين كتب إليه
أنه من فرسان المسلمين.
وروى أبو بكر بن أبي شيبة قال: حدثنا ابن إدريس، عن ليث عن الحكم، عن
علي وعبد الله بن مسعود قالا: "إذا قتل يهوديا أو نصرانيا قتل به".
وروى حميد الطويل عن ميمون عن مهران: أن عمر بن عبد العزيز أمر أن يقتل
مسلم بيهودي فقتل. فهؤلاء الثلاثة أعلام الصحابة، وقد روي عنهم ذلك،
وتابعهم عمر بن عبد العزيز عليه، ولا نعلم أحدا من نظرائهم خلافه.
واحتج مانعو قتل المسلم بالذمي بما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم:
"لا يقتل مسلم بكافر، ولا ذو عهد في عهده" رواه قيس بن عباد، وحارثة بن
قدامة، وأبو جحيفة. وقيل لعلي: هل عندكم من رسول الله صلى الله عليه
وسلم عهد سوى القرآن؟ فقال: ما عهدي إلا كتاب في قراب سيفي، وفيه:
المسلمون تتكافأ دماؤهم، وهم يد على من سواهم، ولا يقتل مؤمن بكافر،
ولا ذو عهد في عهده. وحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي صلى
الله عليه وسلم قال يوم فتح مكة: "لا يقتل مؤمن بكافر، ولا ذو عهد في
عهده"، وقد روى ابن عمر أيضا ما حدثنا
ـــــــ
1 قوله: "من العباديين" بكسر العين: فرقة من النصارى كانوا يسكنون في
الحيرة "لمصححه".
(1/173)
عبد
الباقي بن قانع قال: حدثنا إدريس بن عبد الكريم الحدار قال: حدثنا محمد
بن الصباح: حدثنا سليمان بن الحكم: حدثنا القاسم بن الوليد، عن سنان بن
الحارث، عن طلحة بن مصرف عن مجاهد، عن عبد الله بن عمر قال: قال رسول
الله صلى الله عليه وسلم: "لا يقتل مؤمن بكافر، ولا ذو عهد في عهده".
ولهذا الخبر ضروب من التأويل كلها توافق ما قدمنا ذكره من الآي والسنن
أحدها: أنه قد ذكر أن ذلك كان في خطبته يوم فتح مكة، وقد كان رجل من
خزاعة قتل رجلا من هذيل بذحل 1 الجاهلية فقال عليه السلام: "ألا إن كل
دم كان في الجاهلية فهو موضوع تحت قدمي هاتين لا يقتل مؤمن بكافر، ولا
ذو عهد في عهده" يعني والله أعلم بالكافر الذي قتله في الجاهلية، وكان
ذلك تفسيرا لقوله: "كل دم كان في الجاهلية فهو موضوع تحت قدمي" لأنه
مذكور في خطاب واحد في حديث. وقد ذكر أهل المغازي أن عهد الذمة كان بعد
فتح مكة، وأنه إنما كان قبل ذلك بين النبي عليه السلام وبين المشركين
عهود إلى مدد لا على أنهم داخلون في ذمة الإسلام وحكمه. وكان قوله يوم
فتح مكة "لا يقتل مؤمن بكافر" منصرفا إلى الكفار المعاهدين; إذ لم يكن
هناك ذمي ينصرف الكلام إليه، ويدل عليه قوله: "ولا ذو عهد في عهده" كما
قال تعالى: {فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ}
[التوبة: 4] وقال: {فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ}
[التوبة: 2]. وكان المشركون حينئذ ضربين: أحدهما: أهل الحرب، ومن لا
عهد بينه وبين النبي صلى الله عليه وسلم والآخر: أهل عهد إلى مدة، ولم
يكن هناك أهل ذمة، فانصرف الكلام إلى الضربين من المشركين، ولم يدخل
فيه من لم يكن على أحد هذين الوصفين. وفي فحوى هذا الخبر ومضمونه ما
يدل على أن الحكم المذكور في نفي القصاص مقصور على الحربي المعاهد دون
الذمي، وذلك أنه عطف عليه قوله: "ولا ذو عهد في عهده" ، ومعلوم أن
قوله: "ولا ذو عهد في عهده" غير مستقل بنفسه في إيجاب الفائدة لو انفرد
عما قبله، فهو إذا مفتقر إلى ضمير، وضميره ما تقدم ذكره، ومعلوم أن
الكافر الذي لا يقتل به ذو العهد المستأمن هو الحربي، فثبت أن مراده
مقصور على الحربي. وغير جائز أن يجعل الضمير "ولا يقتل ذو عهد في عهده"
من وجهين: أحدهما: أنه لما كان القتل المبدو قتلا على وجه القصاص، وكان
ذلك القتل بعينه سبيله أن يكون مضمرا في الثاني، لم يجز لنا إثبات
الضمير قتلا مطلقا، إذا لم يتقدم في الخطاب ذكر قتل مطلق غير مقيد
بصفة، وهو القتل على وجه القود، فوجب أن يكون هو المنفي بقوله: "ولا ذو
عهد في عهده" فصار تقديره: ولا يقتل مؤمن بكافر، ولا يقتل ذو
ـــــــ
1 الذحل بالذل المعجمة والحاء المهملة: طلب المكافأة بجناية جنيت عليه
من قتل أو جرح، والذحل العداوة أيضا، "لمصححه".
(1/174)
عهد في
عهده بالكافر المذكور بديا. ولو أضمرنا قتلا مطلقا كنا مثبتين لضمير لم
يجر له ذكر في الخطاب، وهذا لا يجوز. وإذا ثبت ذلك وكان الكافر الذي لا
يقتل به ذو العهد هو الكافر الحربي، كان قوله: "لا يقتل مؤمن بكافر"
بمنزلة قوله: لا يقتل مؤمن بكافر حربي، فلم يثبت عن النبي صلى الله
عليه وسلم نفي قتل المؤمن بالذمي. والوجه الآخر: أنه معلوم أن ذكر
العهد يحظر قتله ما دام في عهده، فلو حملنا قوله: "ولا ذو عهد في عهده"
على أنه لا يقتل ذو عهد في عهده، لأخلينا اللفظ من الفائدة، وحكم كلام
النبي صلى الله عليه وسلم حمله على مقتضاه في الفائدة، وغير جائز
إلغاؤه، ولا إسقاط حكمه.
فإن قال قائل: قد روي في حديث أبي جحيفة عن علي عن النبي عليه السلام:
"لا يقتل مؤمن بكافر" ولم يذكر العهد، وهذا اللفظ ينفي قتل المؤمن
بسائر الكفار. قيل: هو حديث واحد قد عزاه أبو جحيفة أيضا إلى الصحيفة.
وكذلك قيس بن عباد، وإنما حذف بعض الرواة ذكر العهد، فأما أصل الحديث
فواحد. ومع ذلك فلو لم يكن في الخبر دليل على أنه حديث واحد لكان
الواجب حملهما على أنهما وردا معا، وذلك لأنه لم يثبت أن النبي عليه
السلام قال ذلك في وقتين مرة مطلقا من غير ذكر ذي العهد، وتارة مع ذكر
ذي العهد. وأيضا فقد وافقنا الشافعي على أن ذميا لو قتل ذميا ثم أسلم
لم يسقط عنه القود، فلو كان الإسلام مانعا من القصاص ابتداء لمنعه إذا
طرئ بعد وجوبه قبل استيفائه، ألا ترى أنه لما لم يجب القصاص للابن على
الأب إذا قتله كان ذلك حكمه إذا ورث ابنه القود من غيره؟ فمنع ما عرض
من ذلك من استيفائه كما منع ابتداء وجوبه. وكذلك لو قتل مرتدا لم يجب
القود، ولو جرحه، وهو مسلم ثم ارتد ثم مات من الجراحة سقط القود،
فاستوى فيه حكم الابتداء والبقاء. فلو لم يجب القتل بديا لما وجب إذا
أسلم بعد القتل. وأيضا لما كان المعنى في إيجاب القصاص ما أراد الله
تعالى من بقاء حياة الناس بقوله: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ}
[البقرة: 179] وكان هذا المعنى موجودا في الذمي; لأن الله تعالى قد
أراد بقاءه حين حقن دمه بالذمة وجب أن يكون ذلك موجبا للقصاص بينه وبين
المسلم كما يوجبه في قتل بعضهم بعضا.
فإن قيل: يلزمك على هذا قتل المسلم بالحربي المستأمن لأنه محظور الدم؟
قيل له: ليس كذلك، بل هو مباح الدم إباحة مؤجلة، ألا ترى أنا لا نتركه
في دار الإسلام، ونلحقه بمأمنه والتأجيل لا يزيل عنه حكم الإباحة
كالثمن المؤجل لا يخرجه التأجيل عن وجوبه؟
واحتج أيضا من منع القصاص بقوله عليه السلام: "المسلمون تتكافأ دماؤهم"
قالوا: وهذا يمنع كون دم الكافر مكافئا لدم المسلم. وهذا لا دلالة فيه
على ما قالوا; لأن
(1/175)
قوله
"المسلمون تتكافأ دماؤهم" لا ينفي مكافأة دماء غير المسلمين، وفائدته
ظاهرة، وهي إيجاب التكافؤ بين الحر والعبد والشريف والوضيع والصحيح
والسقيم فهذه كلها فوائد هذا الخبر وأحكامه. ومن فوائده أيضا إيجاب
القود بين الرجل والمرأة، وتكافؤ دمائهما، ونفي لأخذ شيء من أولياء
المرأة إذا قتلوا القاتل أو إعطاء نصف الدية من مال المرأة مع قتلها
إذا كانت هي القاتلة.
فإذا كان قوله عليه السلام: "المسلمون تتكافأ دماؤهم" قد أفاد هذه
المعاني، فهو حكم مقصور على المذكور، ولا دلالة فيه على نفي التكافؤ
بينهم وبين غيرهم من أهل الذمة. ويدل على ذلك أنه لم يمنع تكافؤ دماء
الكفار حتى يقاد من بعضهم البعض إذا كانوا ذمة لنا، فكذلك لا يمنع
تكافؤ دماء المسلمين وأهل الذمة.
ومما يدل على قتل المسلم بالذمي اتفاق الجميع على أنه يقطع إذا سرقه،
فوجب أن يقاد منه; لأن حرمة دمه أعظم من حرمة ماله، ألا ترى أن العبد
لا يقطع في مال مولاه، ويقتل به.
واحتج الشافعي بأنه لا خلاف أنه لا يقتل بالحربي المستأمن كذلك لا يقتل
بالذمي، وهما في تحريم القتل سواء. وقد بينا وجوه الفرق بينهما. والذي
ذكره الشافعي من الإجماع ليس كما ظن; لأن بشر بن الوليد قد روى عن أبي
يوسف: أن المسلم يقتل بالحربي المستأمن. وأما قول مالك والليث في قتل
الغيلة، فإنهما يريان ذلك حدا لا قودا، والآيات التي فيها ذكر القتل لم
تفرق بين قتل الغيلة وغيره. وكذلك السنن التي ذكرنا، وعمومها يوجب
القتل على وجه القصاص لا على وجه الحد، فمن خرج عنها بغير دلالة كان
محجوجا، والله أعلم.
(1/176)
باب قتل الوالد بولده
اختلف الفقهاء في قتل الوالد بولده، فقال عامتهم: لا يقتل، وعليه الدية
في ماله قال بذلك أصحابنا والأوزاعي والشافعي، وسووا بين الأب والجد.
وقال الحسن بن صالح بن حي: يقاد الجد بابن الابن، وكان يجيز شهادة الجد
لابن ابنه، ولا يجيز شهادة الأب لابنه. وقال عثمان البتي: إذا قتل ابنه
عمدا قتل به، وقال مالك: يقتل به وقد حكي عنه أنه إذا ذبحه قتل به، وإن
حذفه بالسيف لم يقتل به.
والحجة لمن أبى قتله حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن عمر قال:
سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا يقتل والد بولده". وهذا
خبر مستفيض مشهور، وقد حكم به عمر بن الخطاب بحضرة الصحابة من غير خلاف
من واحد منهم عليه، فكان بمنزلة
(1/176)
قوله "لا
وصية لوارث"، ونحوه في لزوم الحكم به، وكان في حيز المستفيض المتواتر.
وقد حدثنا عبد الباقي بن قانع قال: حدثنا إبراهيم بن هاشم بن الحسين
قال: حدثنا عبد الله بن سنان المروزي قال: حدثنا إبراهيم بن رستم، عن
حماد بن سلمة، عن يحيى بن سعيد، عن سعيد بن المسيب، عن عمر بن الخطاب
قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا يقاد الأب بابنه".
وحدثنا عبد الباقي قال: حدثنا بشر بن موسى قال: حدثنا خلاد بن يحيى
قال: حدثنا قيس، عن إسماعيل بن مسلم، عن عمرو بن دينار، عن طاوس، عن
ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يقاد الوالد
بولده". وروي عن النبي عليه السلام أنه قال لرجل: "أنت ومالك لأبيك"
فأضاف نفسه إليه كإضافة ماله، وإطلاق هذه الإضافة ينفي القود كما ينفي
أن يقاد المولى بعبده لإطلاق إضافته إليه بلفظ يقتضي الملك في الظاهر،
والأب وإن كان غير مالك لابنه في الحقيقة فإن ذلك لا يسقط استدلالنا
بإطلاق الإضافة; لأن القود يسقطه الشبهة، وصحة هذه الإضافة شبهة في
سقوطه.
ويدل عليه أيضا ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إن أطيب
ما أكل الرجل من كسبه، وإن ولده من كسبه"، وقال عليه الصلاة والسلام:
"إن أولادكم من كسبكم; فكلوا من كسب أولادكم" فسمى ولده كسبا له كما أن
عبده كسبه، فصار ذلك شبهة في سقوط القود به.
وأيضا فلو قتل عبد ابنه لم يقتل به; لأنه عليه السلام سماه كسبا له،
كذلك إذا قتل نفسه. وأيضا قال الله تعالى: {وَوَصَّيْنَا الْأِنْسَانَ
بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ
فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ
وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ} [لقمان: 14 – 15] الآية، فأمر
بمصاحبة الوالدين الكافرين بالمعروف، وأمره بالشكر لقوله تعالى: {أَنِ
اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ} [لقمان: 14] وقرن شكرهما بشكره. وذلك
ينفي جواز قتله إذا قتل وليا لابنه، فكذلك إذا قتل ابنه; لأن من يستحق
القود بقتل الابن إنما يثبت له ذلك من جهة الابن المقتول، فإذا لم
يستحق ذلك المقتول لم يستحق ذلك عنه. وكذلك قوله تعالى: {إِمَّا
يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا
تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً
كَرِيماً وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ
رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً} [الإسراء: 2] ولم يخصص
حالا دون حال، بل أمره بذلك أمرا مطلقا عاما. فغير جائز ثبوت حق القود
عليه; لأن قتله له يضاده هذه الأمور التي أمر الله تعالى بها في معاملة
والده. وأيضا نهى النبي صلى الله عليه وسلم حنظلة بن أبي عامر الراهب
عن قتل أبيه، وكان مشركا محاربا لله ولرسوله، وكان مع قريش يقاتل النبي
صلى الله عليه وسلم يوم أحد، فلو جاز للابن
(1/177)
قتل أبيه
في حال لكان أولى الأحوال بذلك حال من قاتل النبي عليه السلام وهو
مشرك، إذ ليس يجوز أن يكون أحد أولى باستحقاق العقوبة والذم والقتل ممن
هذه حاله، فلما نهاه عليه السلام عن قتله في هذه الحال علمنا أنه لا
يستحق قتله بحال. وكذلك قال أصحابنا: إنه لو قذفه لم يحد له، ولو قطع
يده لم يقتص منه، ولو كان عليه دين له لم يحبس به لأن ذلك كله يضاد
موجب الآي التي ذكرنا.
ومن الفقهاء من يجعل مال الابن لأبيه في الحقيقة كما يجعل مال العبد،
ومتى أخذ منه لم يحكم برده عليه. فلو لم يكن في سقوط القود به إلا
اختلاف الفقهاء في حكم ماله على ما وصفنا لكان كافيا في كونه شبهة في
سقوط القود به. وجميع ما ذكرنا من هذه الدلائل يخص آي القصاص، ويدل على
أن الوالد غير مراد بها، والله أعلم.
(1/178)
باب الرجلين يشتركان في قتل رجل
قال الله تعالى: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ
جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا} [النساء: 93]، وقال تعالى: {وَمَنْ قَتَلَ
مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} [النساء: 92]. ولا
خلاف أن هذا الوعيد لاحق بمن شارك غيره في القتل، وأن عشرة لو قتلوا
رجلا عمدا لكان كل واحد منهم داخلا في الوعيد قاتلا للنفس المؤمنة.
وكذلك لو قتل عشرة رجلا خطأ كان كل واحد منهم قاتلا في الحكم للنفس
يلزمه من الكفارة ما يلزم المنفرد بالقتل. ولا خلاف أن ما دون النفس لا
يجب فيه كفارة، فيثبت أن كل واحد في حكم من أتلف جميع النفس. وقال
تعالى: {مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرائيلَ أَنَّهُ
مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ
فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً} [المائدة: 32] فالجماعة إذا
اجتمعت على قتل رجل فكل واحد في حكم القاتل للنفس، ولذلك قتلوا به
جميعا. وإذا كان كذلك، فلو قتل اثنان رجلا أحدهما عمدا والآخر خطأ، أو
أحدهما مجنون، والآخر عاقل، فمعلوم أن المخطئ في حكم أخذ جميع النفس،
فيثبت لجميعهما حكم الخطإ، فانتفى منهما حكم العمد; إذ غير جائز ثبوت
حكم الخطإ للجميع، وحكم العمد للجميع. وكذلك المجنون والعاقل والصبي
والبالغ، ألا ترى أنه إذا ثبت حكم الخطإ للجميع وجبت الدية كاملة. وإذا
ثبت حكم العمد للجميع وجب القود فيه؟ ولا خلاف بين الفقهاء في امتناع
وجوب دية كاملة في النفس ووجوب القود مع ذلك على جهة استيفائهما جميعا،
فوجب بذلك أنه متى وجب للنفس المتلفة على وجه الشركة شيء من الدية أن
لا يثبت معه قود على أحد; لأن وجوب القود يوجب ثبوت حكم العمد في
الجميع، وثبوت حكم العمد في الجميع ينفي وجوب الأرش لشيء منها.
(1/178)
وقد اختلف
الفقهاء في الصبي، والبالغ، والمجنون، والعاقل، والعامد، والمخطئ
يقتلان رجلا، فقال أبو حنيفة، وصاحباه: لا قصاص على واحد منهما. وكذلك
لو كان أحدهما أبا المقتول فعلى الأب والعاقل نصف الدية في ماله،
والمخطئ والمجنون والصبي على عاقلته، وهو قول الحسن بن صالح. وقال
مالك: إذا اشترك الصبي والبالغ في قتل رجل قتل الرجل، وعلى عاقلة الصبي
نصف الدية. وقال الأوزاعي: على عاقلتهما الدية. وقال الشافعي: إذا قتل
رجل مع صبي رجلا فعلى الصبي العامد نصف الدية في ماله، وكذلك الحر
والعبد إذا قتلا عبدا، والمسلم والنصراني إذا قتلا نصرانيا قال: إن
شركه قاتل خطأ فعلى العامد نصف الدية في ماله، وجناية المخطئ على
عاقلته.
قال أبو بكر: أصل أصحابنا في ذلك أنه متى اشترك اثنان في قتل رجل،
وأحدهما لا يجب عليه القود فلا قود على الآخر. وما قدمناه من دلائل
الآي التي ذكرنا يمنع وجوب القود على أحدهما عمدا، ويجب المال على
الآخر لحصول حكم الخطإ للنفس المتلفة، ولا جائز أن يكون خطأ وعمدا
موجبا للمال والقود في حال واحدة، وهي نفس واحدة لا تتبعض، ألا ترى أنه
غير جائز أن يكون بعضها متلفا، وبعضها حيا؟ لأن ذلك يوجب أن يكون
الإنسان حيا ميتا في حال واحدة. فلما امتنع ذلك ثبت أن كل واحد من
القاتلين في حكم المتلف لجميعها، فوجب بذلك قسطها من الدية على من لا
يجب عليه القود، فيصير حينئذ محكوما للجميع بحكم الخطإ. فلا جائز مع
ذلك أن يحكم بها بحكم العمد لأنه لو جاز ذلك لوجب أن يكون فيهما جميع
الدية. ويشبه من هذا الوجه أيضا الواطئ لجارية بينه وبين غيره في سقوط
الحد عنه; لأن فعله لم يتبعض في نصيبه دون نصيب شريكه، فلما لم يجب
عليه الحد في نصيبه منع ذلك من وجوبه في نصيب شريكه لعدم التبعيض فيه.
وعلى هذا قال أصحابنا في رجلين سرقا من ابن أحدهما: إنه لا قطع على
واحد منهما لمشاركته في انتهاك الحرز من لا يستحق القطع.
فإن قال قائل: إن تعلق حكم العمد على العامد، والصحيح والبالغ موجب
عليه القود بقضية استدلالك بالآي التي تلوت إذا كان قاتلا لجميع النفس
متلفا لجميع الحياة، ولذلك استحق الوعيد في حال الاشتراك والانفراد.
وكذلك الجماعة العامدون لقتل رجل أوجب على كل واحد منهم القود; إذ كان
في حكم من أتلف الجميع منفردا به، وهذا يوجب قتل العاقل منهما. وكذلك
الصبي والبالغ، وأن لا يسقط بمشاركة من لا قود عليه. قيل له: هذا غير
واجب، من قبل أنه لا خلاف أن المشارك الذي لا قود عليه يلزمه قسطه من
الدية ولما وجب فيه الأرش انتفى عنه حكم العمد في الجميع لما ذكرنا من
امتناع تبعيضها في حال الإتلاف، فصار الجميع في حكم الخطإ، وما لا قود
فيه. ولما كان
(1/179)
الواجب
على الشريك الذي يستحق عليه القود قسطه من الدية دون جميعها، ثبت أن
الجميع قد صار في حكم الخطإ، لولا ذلك لوجب جميع الدية، ألا ترى أنهم
لو كانوا جميعا ممن يجب عليهم القود لأقدنا منهم جميعا، وكان كل واحد
منهم في حكم القاتل منفردا به؟ فلما وجب على المشارك الذي لا قود عليه
قسطه من الدية دل ذلك على سقوط القود، وأن النفس قد صارت في حكم الخطإ;
فلذلك انقسمت الدية على عددهم. ومن حيث وافقنا الشافعي في قاتلي العمد
والخطإ أن لا قود على العامد منهما لزمه مثل ذلك في العاقل والمجنون
والصبي والبالغ; لمشاركته في القتل من لا قود عليه فيه. وأيضا فوجدنا
في الأصول امتناع وجوب المال والقود في شخص واحد، ألا ترى أنه لو كان
القاتل واحدا فوجب المال انتفى وجوب القصاص؟ وكذلك الوطء إذا وجب به
المهر سقط الحد، وكذلك السرقة إذا وجب بها الضمان سقط القطع عندنا; لأن
المال لا يجب في هذه المواضع إلا مع وجود الشبهة المسقطة للقود والحد،
فلما وجب المال في مسألتنا بالاتفاق انتفى به وجوب القصاص. ومما يدل
على أن سقوط القود فيما وصفنا أولى من إيجابه: أن القود قد يتحول مالا
بعد ثبوته، والمال لا يتحول قودا بوجه، فكان ما لا ينفسخ إلى غيره أولى
بالإثبات مما ينفسخ بعد ثبوته إلى الآخر، وكان سقوط القود عن أحدهما
مسقطا له عن الآخر.
فإن قيل: فأنتم تقولون في العامدين إذا قتلا رجلا ثم عفا الولي عن
أحدهما أن الآخر يقتل، فكذلك يجب أن تقولوا في هذه المسألة. قيل له:
هذا سؤال ساقط على أصل الشافعي; لأنه يلزمه أن يقيد من العامد إذا
شاركه المخطئ; إذ كانت الشركة لا حظ لها في نفي القود عمن يجب عليه ذلك
لو انفرد، وإن كان سقوط القود عن أحد قاتلي العمد بالعفو لا يسقط عن
الآخر، فلما لم يلزمه ذلك في المخطئ والعامد لم يلزمنا في الصبي
والبالغ والمجنون والعاقل. والسؤال ساقط للآخرين أيضا من قبل أن هذا
كلام في الاستيفاء، والاستيفاء لا يجب على وجه الشركة; إذ له أن يقتل
أحدهما قبل الآخر، وله أن يقتل من وجده منهما دون من لم يجد. وأيضا
مسألتنا في الوجوب ابتداء إذا وقع القتل على وجه الشركة فيستحيل حينئذ
أن يكون كل واحد منهما قد صار في الحكم كمتلف دون الآخر، واستحال
انفراد أحدهما بالحكم دون شريكه. وأيضا فالوجوب حكم غير الاستيفاء،
فغير جائز إلزام الاستيفاء عليه; إذ غير جائز اعتبار حال الاستيفاء
بحال الوجوب، ألا ترى أنه يجوز أن يكون في حال الاستيفاء تائبا وليا
لله عز وجل، وغير جائز أن يكون في حال القتل الموجب للقود وليا لله
تعالى؟ وجائز أن يتوب الزاني فيكون حق استيفاء الحد باقيا عليه، وغير
جائز وجوب الحد، وهو على هذه الصفة؟
(1/180)
فمن اعتبر
حال الوجوب بحال الاستيفاء فهو مغفل للواجب عليه. وأيضا فإنه متى عفا
عن أحدهما سقط حكم قتله فصار الباقي في حكم المنفرد بقتله فلزمه القود،
ولم يسقط عنه بسقوطه عن الآخر. وأما المجنون ومن لم يجب عليه القود
فحكم فعله ثابت على وجه الخطإ، وذلك موجب لحظر دم من شاركه; إذ كان
حكمه حكمه لاشتراكهما فيه. وإذا ثبت بما قدمنا من دلائل الكتاب والنظر
سقوط القود عمن شاركه من لا يجب عليه القود، جاز أن يخص بهما موجب حكم
الآي المذكور فيها القصاص من قوله: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي
الْقَتْلَى} وقوله: {الْحُرُّ بِالْحُرِّ} وقوله: {وَمَنْ قُتِلَ
مَظْلُوماً} [الإسراء: 33] و {النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} [المائدة: 45]
وما جرى مجرى ذلك من عموم السنن الموجبة للقصاص ولأن جميع ذلك عام قد
أريد به الخصوص بالاتفاق، وما كان هذا سبيله فجائز تخصيصه بدلائل
النظر، والله الموفق.
وذكر المزني أن الشافعي احتج على محمد في منعه إيجاب القود على العامد
إذا شاركه صبي أو مجنون، فقال: إن كنت رفعت عنه القتل لأن القلم مرفوع
عنهما، وأن عمدهما خطأ، فهلا أقدت من الأجنبي إذا قتل عمدا مع الأب لأن
القلم عن الأب ليس بمرفوع. وهذا ترك لأصله. قال المزني: "قد شرك
الشافعي محمدا فيما أنكر عليه في هذه المسألة; لأن رفع القصاص عن
المخطئ والمجنون واحد، وكذلك حكم من شركهم في العمد واحد".
(1/181)
مطلب في أن العلل الشرعية يجب اطرادها و لا يجب انعكاسها
...
مطلب: في أن العلل الشرعية يجب اطرادها ولا يجب انعكاسها
قال أبو بكر: ما ذكره المزني عن الشافعي إلزام في غير موضعه; لأنه
ألزمه عكس المعنى، وإنما الذي يلزم على هذا الأصل أن كل من كان عمده
خطأ أن لا يفيد المشارك له في القتل، وإن كان عامدا، فأما من ليس عمده
خطأ فليس يلزمه أن يخالف بينهما في الحكم بل حكمه موقوف على دليله;
لأنه عكس العلة، وليس يلزم من اعتل بعلة في الشرع أن يعكسها، ويوجب من
الحكم عند عدمها ضد موجبها عند وجودها، ألا ترى أنا إذا قلنا: وجود
الغرر يمنع جواز البيع لم يلزمنا على ذلك الحكم بجوازه عند عدم الغرر؟
بل جائز أن يمنع الجواز عند عدم الغرر لوجود معنى آخر، وهو أن يكون مما
لم يقبضه بائعه، أو شرط فيه شرطا لا يوجبه العقد، أو يكون مجهول الثمن،
وما جرى مجرى ذلك من المعاني المفسدة لعقود البياعات. وجائز أن يجوز
البيع عند زوال الغرر على حسب قيام دلالة الجواز والفساد، ونظائر ذلك
كثيرة في مسائل العقد لا يخفى على من له أدنى ارتياض بنظر الفقه.
(1/181)
ومما يحتج
به في ذلك: حديث ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم: "ألا إن قتيل
خطإ العمد قتيل السوط والعصا فيه الدية مغلظة" وقتيل الصبي والبالغ
والمجنون والعاقل والمخطئ والعامد هو خطأ العمد من وجهين أحدهما: أن
النبي عليه السلام فسر قتل خطإ العمد بأنه قتيل السوط والعصا، فإذا
اشترك مجنون معه عصا وعاقل معه سيف فهو قتيل خطإ العمد لقضية النبي
عليه السلام فالواجب أن لا قصاص فيه. والوجه الآخر: أن عمد الصبي
والمجنون خطأ; لأن القتل لا يخلو من أحد ثلاثة أوجه: إما خطأ أو عمد أو
شبه عمد، فلما لم يكن قتل الصبي والمجنون عمدا وجب أن يكون في أحد
الحيزين الآخرين من الخطإ أو شبه العمد، وأيهما كان فقد اقتضى ظاهر لفظ
النبي صلى الله عليه وسلم إسقاط القود عن مشاركه في القتل; لأنه قتيل
خطأ أو قتيل خطإ العمد. وأيضا فإنه أوجب فيمن استحق هذه التسمية دية
مغلظة، ومتى وجبت الدية كاملة انتفى القود بالاتفاق.
فإن قيل: إنما أراد النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: "قتيل خطإ العمد"
إذا انفرد بقتله بالسوط والعصا. قيل له: مشاركة غيره فيه بالسيف لا
تخرجه من أن يكون قتيل السوط والعصا، وقتيل خطأ; لأن كل واحد منهما من
حيث كان قاتلا وجب أن يكون هو قتيلا لكل واحد منهما، فاشتمل لفظ النبي
عليه السلام على المعنيين، وانتفى به القصاص في الحالين. ويدل على صحة
ما ذكرنا، وأنه غير جائز اختلاف حكم مشاركة المجنون للعاقل والمخطئ
للعامد، أن رجلا لو جرح رجلا، وهو مجنون ثم أفاق وجرحه أخرى بعد
الإفاقة ثم مات المجروح منهما، أنه لا قود على القاتل، كما لو جرحه خطأ
ثم جرحه عمدا، ومات منهما لم يجب عليه القود، وكذلك لو جرحه مرتدا ثم
أسلم ثم جرحه، ومات من الجراحتين لم يكن على الجارح القود. وذلك يدل
على معنيين: أحدهما: أن موته من جراحتين، إحداهما غير موجبة للقود،
والأخرى موجبة يوجب إسقاط القود، ولم يكن لانفراد الجراحة التي لا شبهة
فيها عن الأخرى حكم في إيجاب القود، بل كان الحكم للتي لم توجب قودا،
فوجب على هذا أنه إذا مات من جراحة رجلين أحدهما لو انفرد أوجبت جراحته
القود، والأخرى لا توجبه أن يكون حكم سقوطه أولى من حكم إيجابه لحدوث
الموت منهما، فكان حكم ما يوجب سقوط القود أولى من حكم ما يوجبه،
والعلة فيها موته من جراحتين إحداهما مما توجب القود، والأخرى مما لا
توجبه. والمعنى الآخر: ما قسمنا الكلام عليه بديا، هو أنه لا فرق بين
المخطئ والعامد وبين المجنون والعاقل عند الاشتراك، كما لم تختلف جناية
المجنون في حال جنونه ثم في حال إفاقته إذا حدث الموت منهما. وجناية
الخطإ والعمد إذا حدث الموت منهما في سقوط القود في الحالين، كذلك
ينبغي أن لا يختلف حكم جناية الصحيح لمشاركة
(1/182)
المجنون،
وحكم جناية العامد لمشاركة المخطئ، والله أعلم.
(1/183)
باب ما يجب لولي قتيل العمد
قال الله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} وقال
تعالى: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ}
[المائدة: 45] وقال تعالى: {وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنَا
لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً} [الإسراء: 33] وقد اتفقوا أن القود مراد به.
وقال تعالى: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ
بِهِ} [النحل: 126] وقال: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا
عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [البقرة: 194] فاقتضت هذه
الآيات إيجاب القصاص لا غير.
وقد اختلف الفقهاء في موجب القتل العمد، فقال أبو حنيفة وأصحابه ومالك
بن أنس والثوري وابن شبرمة والحسن بن صالح: ليس للولي إلا القصاص، ولا
يأخذ الدية إلا برضى القاتل. وقال الأوزاعي والليث والشافعي: الولي
بالخيار بين أخذ القصاص والدية، وإن لم يرض القاتل. وقال الشافعي: فإن
عفا المفلس عن القصاص جاز، ولم يكن لأهل الوصاية والدين منعه; لأن
المال لا يملك بالعمد إلا بمشيئة المجني عليه إذا كان حيا أو بمشيئة
الورثة إذا كان ميتا.
قال أبو بكر: ما تقدم ذكره من ظواهر آي القرآن بما تضمنه من بيان
المراد من غير اشتراك في اللفظ يوجب القصاص دون المال، وغير جائز إيجاب
المال على وجه التخيير إلا بمثل ما يجوز به نسخه; لأن الزيادة في نص
القرآن توجب نسخه. ويدل عليه أيضا قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا
أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء: 29] فحظر أخذ
مال كل واحد من أهل الإسلام إلا برضاه على وجه التجارة. وبمثله قد ورد
الأثر عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: "لا يحل مال امرئ مسلم إلا
بطيبة من نفسه" فمتى لم يرض القاتل بإعطاء المال، ولم تطب به نفسه
فماله محظور على كل أحد. وروي عن ابن عباس وقد ذكرنا سنده فيما تقدم
قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "العمد قود إلا أن يعفو ولي
المقتول". وروى سليمان بن كثير قال: حدثنا عمرو بن دينار عن طاوس عن
ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من قتل في عميا 1 أو
في زحمة لم يعرف قاتله أو رميا تكون بينهم بحجر أو سوط أو عصا فعقله
عقل خطأ، ومن قتل عمدا فقود يديه فمن حال بينه وبينه فعليه لعنة الله
والملائكة والناس أجمعين" فأخبر عليه
ـــــــ
1 العميا بكسر العين والميم المشددة وفتح الياء المشددة بعدها ألف
مقصورة، ومثله الرميا: ومعناه أن يوجد قتيل بين المترامين لا يتبين
قاتله. "لمصححه".
(1/183)
السلام في
هذين الحديثين أن الواجب بالعمد هو القود، ولو كان له خيار في أخذ
الدية لما اقتصر على ذكر القود دونها; لأنه غير جائز أن يكون له أحد
شيئين على وجه التخيير، ويقتصر بالبيان على أحدهما دون الآخر; لأن ذلك
يوجب نفي التخيير، ومتى ثبت فيه تخيير بعده كان نسخا له.
فإن قيل: قد روى ابن عيينة هذا الحديث الآخر عن عمرو بن دينار عن طاوس
موقوفا عليه، ولم يذكر فيه ابن عباس، ولا رفعه إلى النبي عليه السلام
قيل له: كان ابن عيينة حدث به مرة هكذا غير مرفوع، وحدث به مرة أخرى
كما حدث سليمان بن كثير، وقد كان ابن عيينة سيئ الحفظ كثير الخطإ، ومع
ذلك فجائز أن يكون طاوس رواه مرة عن ابن عباس عن النبي عليه السلام
ومرة أفتى به، وأخبر عن اعتقاده، فليس إذا في ذلك ما يوهن الحديث.
وقد تنازع أهل العلم معنى قوله تعالى: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ
أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ
بِإِحْسَانٍ} فقال قائلون: العفو ما سهل وما تيسر، قال الله تعالى:
{خُذِ الْعَفْوَ} [الأعراف: 199] يعني والله أعلم: ما سهل من الأخلاق.
وقال النبي عليه السلام: "أول الوقت رضوان الله وآخره عفو الله" يعني
تيسير الله وتسهيله على عباده، فقوله تعالى: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ
أَخِيهِ شَيْءٌ} يعني الولي إذا أعطي شيئا من المال فليقبله وليتبعه
بالمعروف وليؤد القاتل إليه بإحسان، فندبه الله تعالى إلى أخذ المال
إذا سهل ذلك من جهة القاتل، وأخبر أنه تخفيف منه ورحمة، كما قال عقيب
ذكر القصاص من سورة المائدة: {فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ
لَهُ} [المائدة: 45] فندبه إلى العفو والصدقة، وكذلك ندبه بما ذكر في
هذه الآية إلى قبول الدية إذا بذلها الجاني; لأنه بدأ بذكر عفو الجاني
بإعطاء الدية ثم أمر الولي بالاتباع، وأمر الجاني بالأداء بالإحسان.
وقال بعضهم: المعنى فيه ما روي عن ابن عباس، وهو ما حدثنا عبد الباقي
بن قانع قال: حدثنا الحميدي قال: حدثنا سفيان الثوري قال: حدثنا عمرو
بن دينار قال: سمعت مجاهدا يقول: سمعت ابن عباس يقول: كان القصاص في
بني إسرائيل، ولم يكن فيهم الدية فقال الله لهذه الأمة: {يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} إلى
قوله: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ} قال ابن عباس: العفو
أن يقبل الدية في العمد {فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ
إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ}
فيما كان كتب على من كان قبلكم {فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ
عَذَابٌ أَلِيمٌ} قال: بعد قبول الدية فأخبر ابن عباس أن الآية نزلت
ناسخة لما كان على بني إسرائيل من حظر قبول الدية، وأباحت للولي قبول
الدية إذا بذلها القاتل تخفيفا من الله علينا ورحمة بنا فلو كان الأمر
على ما
(1/184)
ادعاه
مخالفنا من إيجاب التخيير لما قال فالعفو أن يقبل الدية لأن القبول لا
يطلق إلا فيما بذله غيره. ولو لم يكن أراد ذلك لقال: إذا اختار الولي.
فثبت بذلك أن المعنى كان عند جواز تراضيهما على أخذ الدية.
وقد روي عن قتادة ما يدل على أن الحكم الذي كان في بني إسرائيل من
امتناع قبول الدية ثابت على من قتل بعد أخذ الدية، وهو ما حدثنا عبد
الله بن محمد بن إسحاق المروزي قال: حدثنا الحسين بن أبي الربيع
الجرجاني قال: حدثنا عبد الرزاق قال: أخبرنا معمر عن قتادة في قوله
تعالى: {فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ} قال: يقول من قتل بعد أخذ
الدية فعليه القتل لا يقبل منه الدية. وقد روي فيه معنى آخر، وهو ما
روى سفيان بن حسين عن ابن أشوع عن الشعبي قال: كان بين حيين من العرب
قتال فقتل من هؤلاء ومن هؤلاء، فقال أحد الحيين: لا نرضى حتى نقتل
الرجل بالمرأة، وبالرجل الرجلين، وارتفعوا إلى النبي صلى الله عليه
وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "القتل بواء" أي سواء
فاصطلحوا على الديات، ففضل لأحد الحيين على الآخر، فهو قوله تعالى:
{كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ} إلى قوله: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ
أَخِيهِ شَيْءٌ} قال سفيان: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ}
يعني: فمن فضل له على أخيه شيء فليؤده بالمعروف. فأخبر الشعبي عن السبب
في نزول الآية، وذكر سفيان أن معنى العفو ههنا الفضل وهو معنى يحتمله
اللفظ، قال الله تعالى: {حَتَّى عَفَوْا} [الأعراف: 95] يعني كثروا،
وقال عليه السلام: "أعفوا اللحى" فتقدير الآية على ذلك: فمن فضل له على
أخيه شيء من الديات التي وقع الاصطلاح عليها فليتبعه مستحق بالمعروف،
وليؤد إليه بإحسان.
وقد ذكر فيه معنى آخر، وهو أنهم قالوا: هو في الدم بين جماعة إذا عفا
بعضهم تحول نصيب الآخرين مالا. وقد روي عن عمر وعلي وعبد الله ذلك، ولم
يذكروا أنه تأويل الآية. وهذا تأويل لفظ الآية يوافقه; لأنه قال:
{فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ} وهذا يقتضي وقوع العفو عن
شيء من الدم لا عن جميعه، فيتحول نصيب الشركاء مالا، وعليهم اتباع
القاتل بالمعروف، وعليه أداؤه إليهم بإحسان.
وتأوله بعضهم على أن لولي الدم أخذ المال بغير رضى القاتل. وهذا تأويل
يدفعه ظاهر الآية; لأن العفو لا يكون مع أخذ الدية، ألا ترى أن النبي
صلى الله عليه وسلم قال: "العمد قود إلا أن يعفو الأولياء" فأثبت له
أحد الشيئين: قتل أو عفو، ولم يثبت له مالا بحال؟
فإن قال قائل: إذا عفا عن الدم ليأخذ المال كان عافيا ويتناوله لفظ
الآية. قيل له: إن كان الواجب أحد الشيئين فجائز أيضا أن يكون عافيا
بترك المال وأخذ القود، فعلى هذا لا يخلو الولي من عفو قتل أو أخذ مال،
وهذا فاسد لا يطلقه أحد. ومن جهة أخرى
(1/185)
ينفيه
ظاهر الآية، وهو أنه إذا كان الولي هو العافي بترك القود وأخذ المال
فإنه لا يقال له عفا له وإنما يقال له عفا عنه فيتعسف فيقيم "اللام"
مقام عن أو يحمله على أنه عفا عن الدم فيضمر حرفا غير مذكور، ونحن متى
استغنينا بالمذكور عن المحذوف لم يجز لنا إثبات الحذف. وعلى أن تأويلنا
هو سائغ مستعمل على ظاهره من غير إثبات ضمير فيه، وهو أن يحمل على معنى
التسهيل من جهة القاتل بإعطائه المال، ومن جهة أخرى يخالف ظاهرها، وهو
أن قوله: {مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ} فقوله: {مِنْ} تقتضي التبعيض; لأن ذلك
حقيقتها وبابها إلا أن تقوم الدلالة على غيره، فيوجب هذا أن يكون العفو
عن بعض دم أخيه، وعند المخالف هو عفو عن جميع الدم، وتركه إلى الدية،
وفيه إسقاط حكم {مِنْ} ومن وجه آخر وهو قوله: {شَيْءٌ}. وهذا أيضا يوجب
العفو عن شيء من الدم لا عن جميعه، فمن حمله على الجميع لم يوف الكلام
حظه من مقتضاه وموجبه; لأنه يجعله بمنزلة ما لو قال: فمن عفي له عن
الدم وطولب بالدية، فأسقط حكم قوله: {مِنْ} وقوله: {شَيْءٌ} وغير جائز
لأحد تأويل الآية على وجه يؤدي إلى إلغاء شيء من لفظها ما أمكن
استعماله على حقيقته، ومتى استعمل على ما ذكرنا كان موافقا لظاهر الآية
من غير إسقاط منه; لأنه إن كان التأويل ما ذكره الشعبي من نزولها على
السبب، وما فضل من بعضهم على بعض من الديات، فهو موافق للفظ الآية لأنه
عفي له من أخيه بمعنى أنه فضل له شيء من المال فيه التقاضي، وذلك بعض
من جملة وشيء منها، فتناول اللفظ على حقيقته. وإن كان التأويل أنه إن
سهل له بإعطاء شيء من المال فالولي مندوب إلى قبوله موعود بالثواب
عليه، فذلك قد يتناول أيضا للبعض بأن يبذل بعض الدية، وذلك جزء من كل
مما أتلفه. وإن كان التأويل الإخبار بنسخ ما كان على بني إسرائيل من
إيجاب حكم القود، ومع أخذ البدل، فتأويلنا أيضا على هذا الوجه أشد
ملاءمة لمعنى الآية لأنا نقول: إن الآية اقتضت جواز الصلح منهما على ما
يقع الاصطلاح عليه من قليل أو كثير، فذكر البعض، وأفاد به حكم الكل
أيضا كقوله تعالى: {فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا}
[الإسراء: 23] نص عليه هذا القول بعينه، وأراد به ما فوقه، في نظائر
لذلك في القرآن. وإن كان التأويل عفو بعض الأولياء عن نصيبه، فهو أيضا
يواطئ ظاهر الآية لوقوع العفو عن البعض دون الجميع. فعلى أي وجه يصرف
تأويل المتأولين ممن قدمنا قوله فتأويله موافق لظاهر الآية غير تأويل
من تأوله على أن للوالي العفو عن الجميع، وأخذ المال. وليس يمتنع أن
يكون جميع المعاني التي قدمنا ذكرها عن متأوليها مرادة بالآية، فيكون
نزولها على سبب نسخ بها ما كان على بني إسرائيل، وأبيح لنا بها أخذ
قليل المال وكثيره، ويكون الولي مندوبا إلى القبول إذا تسهل له القاتل
بإعطاء المال، وموعودا عليه بالثواب، ويكون السبب الذي نزلت عليه الآية
حصول الفضل من بعض على بعض في
(1/186)
الديات،
فأمروا به بالاتباع بالمعروف، وأمر القاتل بالأداء إليهم بإحسان، ويكون
على اختلاف فيه بيان حكم الدم إذا عفا عنه بعض الأولياء. فهذه الوجوه
كلها على اختلاف معانيها تحتملها الآية، وهي مرادة من غير إسقاط شيء من
لفظها.
فإن قال قائل: وما تأوله المخالفون في إيجاب الدية للولي باختياره من
غير رضى القاتل تحتمله الآية، فوجب أن يكون مرادا; إذ ليس فيه نفي
لتأويلات الآخرين، ويكون قوله: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ} معناه أنه ترك له،
من قولهم: "عفت المنازل": إذا تركت حتى درست، والعفو عن الذنوب ترك
العقوبة عليها، فيفيد ذلك ترك القود إلى الدية. قيل له: إن كان كذلك
فينبغي أن يكون لو ترك الدية، وأخذ القود أن يكون عافيا; لأنه تارك
لأخذ الدية، وقد يسمى ترك المال وإسقاطه عفوا، قال الله: {فَنِصْفُ مَا
فَرَضْتُمْ إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ
عُقْدَةُ النِّكَاحِ} [البقرة: 237] فأطلق اسم العفو على الإبراء من
المال. ومعلوم عند الجميع امتناع إطلاق العفو على من آثر أخذ القود
وترك أخذ الدية، فكذلك العادل عن القود إلى أخذ الدية لا يستحق اسم
العافي; إذ كان إنما اختار أحد شيئين كان مخيرا في اختيار أيهما شاء;
لأن من كان مخيرا بين أحد شيئين فاختار أحدهما كان الذي اختاره هو حق
الواجب له قد تعين عليه حكمه عند فعله كأنه لم يكن غيره، ألا ترى أن من
اختار التكفير بالعتق في كفارة اليمين كان العتق هو كفارته كأنه لم يكن
غيره، وسقط عنه حكم ما عداه أن يكون من فرضه؟ كذلك هذا الولي لو كان
مخيرا في أحد شيئين من قود أو مال ثم اختار أحدهما لم يستحق اسم العافي
لتركه أحدهما إلى الآخر. فلما كان اسم العفو منتفيا عمن ذكرنا لم يجز
تأويل الآية عليه وكانت المعاني التي قدمنا ذكرها أولى بتأويلها. ثم
ليس يخلو الواجب للولي بنفس القتل أن يكون القود والدية جميعا أو القود
دون الدية أو أحدهما على وجه التخيير لا جائز أن يكون حق الأمرين جميعا
بالاتفاق، ولا يجوز أيضا أن يكون الواجب أحدهما على حسب ما يختاره
الولي كما في كفارة اليمين ونحوها، لما بينا من أن الذي أوجبه الله
تعالى في الكتاب هو القصاص، وفي إثبات التخيير بينه وبين غيره زيادة في
النص، ونفي لإيجاب القصاص، ومثله عندنا يوجب النسخ، فإذا الواجب هو
القود لا غيره، فلا جائز له أخذ المال إلا برضى القاتل; لأن كل من له
قبل غيره حق يمكن استيفاءه منه لم يجز له نقله إلى بدل غيره إلا برضى
من عليه الحق. وعلى أن قائل هذا القول مخطئ في العبارة حين قال: الواجب
هو القود، وله أن يأخذ المال لأنه لم يخرجه من أن يكون مخيرا فيه; إذ
قد جعل له أن يستوفي القود إن شاء، وإن شاء المال، فلو قال قائل:
"الواجب هو المال، وله نقله إلى القود بدلا منه" كان مساويا له، فلما
فسد قول هذا القائل من أن
(1/187)
الواجب هو
المال، وله نقله إلى القود لإيجابه التخيير. كذلك قول من قال الواجب هو
القود، وله نقله إلى المال; إذ لم ينفك في الحالين من إيجاب التخيير
بنفس القتل، والله سبحانه إنما كتب على القاتل القصاص بقوله: {كُتِبَ
عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} ولم يقل: كتب عليكم المال في
القتلى، ولا: كتب عليكم القصاص أو المال في القتلى. والقائل بأن الواجب
هو القود، وله نقله إلى المال إنما عبر عن التخيير الذي أوجبه له بغير
اسمه، وأخطأ في العبارة عنه.
فإن قال قائل: هذا كما تقول: إن الواجب هو القصاص، ولهما جميعا نقله
إلى المال بتراضيهما، ولم يكن في جواز تراضيهما على نقله إلى المال
إسقاط لموجب حكم الآية من القصاص. قيل له: من قبل أنا قد بينا بديا أن
القصاص حق للولي على القاتل من غير إثبات تخيير له بين القود وغيره،
وتراضيهما على نقله إلى البدل لا يخرجه من أن يكون هو الحق الواجب دون
غيره لأن ما تعلق حكمه بتراضيهما لا يؤمر في الأصل الذي كان واجبا من
غير خيار، ألا ترى أن الرجل قد يملك العبد والدار، ولغيره أن يشتريه
منه برضاه، وليس في جواز ذلك نفي لملك الأصل لمالكه الأول، ولا موجبا
لأن يكون ملكه موقوفا على الخيار؟ وكذلك الرجل يملك طلاق امرأته، ويملك
الخلع، وأخذ البدل عن الطلاق. وليس في ذلك إثبات ملك الطلاق له بديا،
على أنه مخير في نقله إلى المال من غير رضا المرأة، وأنه لو كان له أن
يطلق أو يأخذ المال بديا من غير رضاها لكان ذلك موجبا لكونه مالكا لأحد
شيئين من طلاق أو مال، ويدل على أن الواجب بالقتل هو القود لا غير حديث
أنس الذي قدمنا إسناده في قصة الربيع حين كسرت ثنية جارية، فقال رسول
الله صلى الله عليه وسلم: "كتاب الله القصاص" فأخبر أن موجب الكتاب هو
القصاص، فغير جائز لأحد إثبات شيء معه، ولا نقله إلى غيره إلا بمثل ما
يجوز به نسخ الكتاب. ولو سلمنا احتمال الآية لما ادعوه من تأويلها في
جواز أخذ المال من غير رضى القاتل في قوله: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ
أَخِيهِ شَيْءٌ} مع احتماله للوجوه التي ذكرنا، كان أكبر أحواله أن
يكون اللفظ مشتركا محتملا للمعاني، فيوجب ذلك أن يكون متشابها، ومعلوم
أن قوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ} محكم ظاهر المعنى بين
المراد لا اشتراك في لفظه، ولا احتمال في تأويله. وحكم المتشابه أن
يحمل على معنى المحكم، ويرد إليه بقوله تعالى: {مِنْهُ آيَاتٌ
مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} [آل
عمران: 7] إلى قوله: {وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ} [آل عمران: 7] فأمر
الله تعالى برد المتشابه إلى المحكم; لأن وصفه للمحكم بأنه أم الكتاب
يقتضي أن يكون غيره محمولا عليه، ومعناه معطوفا عليه; إذ كان أم الشيء
ما منه ابتداؤه وإليه مرجعه. ثم ذم من اتبع المتشابه، واكتفى بما
احتمله اللفظ من تأويله
(1/188)
من غير رد
له إلى المحكم، وحمله على موافقته في معناه، وحكم عليهم بالزيغ في
قلوبهم بقوله: {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ
فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ
وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ} [آل عمران: 7]. وإذا ثبت أن قوله: {كُتِبَ
عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ} محكم. وقوله: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ
شَيْءٌ} متشابه وجب حمل معناه على معنى المحكم من غير مخالفة له ولا
إزالة لشيء من حكمه، وهو أن يكون على أحد الوجوه التي ذكرنا مما لا
ينفي موجب لفظ الآية من القصاص، من غير معنى آخر يضم إليه، ولا عدول
عنه إلى غيره. وكذلك قوله تعالى: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ
فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [البقرة: 194]
إذ كانت النفس مثلا فيما يستحقه الولي وهو القود، فإذا كان المثل هو
القود، وإتلاف نفسه كما أتلف كان بمنزلة متلف المال الذي له مثل، ولا
يعدل عنه إلى غيره إلا بالتراضي لقوله تعالى: {بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى
عَلَيْكُمْ} وبدلالة الأصول عليه.
واحتج من أوجب للولي الخيار بين القود، وأخذ المال من غير رضا القاتل
بأخبار منها: حديث يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة عن أبي هريرة قال: قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم حين فتح مكة: "من قتل له قتيل فهو بخير
النظرين إما أن يقتل، وإما أن يودى"، وحديث يحيى بن سعيد عن أبي ذئب
قال: حدثني سعيد المقبري قال: سمعت أبا شريح الكعبي يقول: قال النبي
عليه السلام في خطبته يوم فتح مكة: "ألا إنكم معشر خزاعة قتلتم هذا
القتيل من هذيل، وإني عاقله، فمن قتل له بعد مقالتي هذه قتيل فأهله بين
خيرتين: بين أن يأخذوا العقل وبين أن يقتلوا" ورواه محمد بن إسحاق، عن
الحارث بن فضيل، عن سفيان، عن أبي العرجاء، عن أبي شريح الخزاعي قال:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من أصيب بدم أو بخبل يعني الجراح
فوليه بالخيار بين إحدى ثلاث: بين العفو أو يقتص أو يأخذ الدية". وهذه
الأخبار غير موجبة لما ذكروا لاحتمالها أن يكون المراد أخذ الدية برضى
القاتل كما قال تعالى: {فَإِمَّا مَنّاً بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً}
[محمد: 4] والمعنى فداء برضى الأسير. فاكتفى بالمحذوف عن ذكره لعلم
المخاطبين عند ذكر المال بأنه لا يجوز إلزامه إياه بغير رضاه. كذلك
قوله: "أو يأخذ الدية". وقوله: "أو يودى" وكما يقول القائل لمن له دين
على غيره: إن شئت فخذ دينك دراهم، وإن شئت دنانير. وكما قال عليه
السلام لبلال حين أتاه بتمر: "أكل تمر خيبر هكذا؟" فقال: لا، ولكنا
نأخذ الصاع منه بالصاعين، والصاعين بالثلاثة، فقال: "لا تفعلوا، ولكن
بع تمرك بعرض ثم خذ بالعرض هذا"، ومعلوم أنه لم يرد أن يأخذ التمر
بالعرض بغير رضى الآخر، ويكون ذكره الدية إبانة عما نسخه الله عما كان
على بني إسرائيل من امتناع أخذ الدية برضى القاتل، وبغير رضاه تخفيفا
عن هذه الأمة على ما روي عن ابن عباس أن القصاص كان في بني إسرائيل،
ولم يكن فيهم أخذ الدية فخفف الله عن هذه الأمة.
(1/189)
ويدل على
ما وصفنا من أن المراد أخذ الدية برضى القاتل أن الأوزاعي قد روى حديث
أبي هريرة، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة، عنه، عن النبي عليه
السلام وقال فيه: "من قتل له قتيل فهو بخير النظرين إما أن يقتل، وإما
أن يفادي". والمفاداة إنما تكون بين اثنين كالمقاتلة، والمضاربة،
والمشاتمة، ونحو ذلك، فدل على أن مراده في سائر الأخبار أخذ الدية برضى
القاتل. وهذه الأخبار تبطل قول من يقول: إن الواجب على القاتل هو
القود، وللولي نقله إلى الدية لأن في جميعها إثبات التخيير للولي بنفس
القتل بين القود وأخذ الدية، ولو كان الواجب هو القود لا غير، وإنما
للولي نقله إلى الدية بعد ثبوته كما ينقل الدين إلى العرض، والعرض إلى
الدين على وجه العوض عنه، وليس هناك خيار موجب بنفس القتل بل الواجب
شيء واحد، وهو القود، والقائل بإيجاب القود بالقتل دون غيره إلا أن
ينقله الولي إلى الدية، مخالف لهذه الآثار.
وقد روى الأنصاري عن حميد الطويل عن أنس بن مالك في قصة الربيع، أن
رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "كتاب الله القصاص"، وذلك ينافي كون
المراد بالكتاب المال أو القصاص.
وقد روى علقمة بن وائل عن أبيه، وثابت البناني عن أنس: أن رجلا قتل
رجلا، فدفعه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ولي المقتول ثم قال:
"أتعفو؟" قال: لا. قال: "أفتأخذ الدية؟" قال: لا قال: "أما إنك إن
قتلته كنت مثله" فمضى الرجل فلحقه الناس فقالوا: إن رسول الله صلى الله
عليه وسلم قال: "أما إنك إن قتلته كنت مثله فعفا عنه". فاحتج الموجبون
للخيار بين القود والمال بهذا الحديث. وهذا لا دلالة فيه على ما ذكروا،
وذلك لأنه يحتمل أن يأخذ الدية برضى القاتل كما قال عليه السلام لامرأة
ثابت بن قيس حين جاءت تشكوه: "أتردين عليه حديقته؟" قالت: نعم. ومعلوم
أن رضى ثابت قد كان مشروطا فيه، وإن لم يكن مذكورا في الخبر; لأن النبي
عليه السلام لم يكن يلزم ثابتا الطلاق، ولا يملكه الحديقة إلا برضاه.
وجائز أن النبي عليه السلام قصد إلى أن يعقد عقدا على مال فيكون موقوفا
على رضى القاتل أو فسخه، وجائز أن يكون أراد أن يؤدي الدية من عنده كما
فعل في قتيل الخزاعي بمكة، وكما تحمل عن اليهود دية عبد الله بن سهل
الذي وجد قتيلا بخيبر. وقوله عليه السلام: "إن قتلته كنت مثله" يحتمل
معنيين: أحدهما: أنك قاتل كما أنه قاتل، لا أنك مثله في المأثم; لأنه
استوفى حقا له فلا يستحق اللوم عليه، والأول فعل ما لم يكن له فكان
آثما، فعلمنا أنه لم يرد كنت مثله في المأثم. والآخر: أنك إذا قتلته
فقد استوفيت حقك منه، ولا فضل لك عليه، وقد ندب الله تعالى إلى الإفضال
بالعفو بقوله تعالى: {فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ}
[المائدة: 45].
فإن قال قائل: لما كان عليه إحياء نفسه وجب أن يحكم عليه بذلك إذا
اختار الولي
(1/190)
أخذ
المال. قيل له: وعلى كل أحد أن يحيي غيره إذا خاف عليه التلف، مثل أن
يرى إنسانا قد قصد غيره بالقتل أو خاف عليه الغرق، وهو يمكنه تخليصه،
أو كان معه طعام، وخاف عليه أن يموت من الجوع، فعليه إحياؤه بإطعامه،
وإن كثرت قيمته. وإن كان على القاتل إعطاء المال لإحياء نفسه فعلى
الولي أيضا إحياؤه إذا أمكنه ذلك، فوجب على هذه القضية إجبار الولي على
أخذ المال إذا بذله القاتل، وهذا يؤدي إلى بطلان القصاص أصلا; لأنه إذا
كان على كل واحد منهما إحياء نفس القاتل فعليهما التراضي على أخذ
المال، وإسقاط القود. وأيضا فينبغي إذا طلب الولي داره أو عبده أو ديات
كثيرة أن يعطيه; لأنه لا يختلف فيما يلزمه إحياء نفسه حكم القليل
والكثير. فلما لم يلزمه إعطاء أكثر من الدية عند القائلين بهذه المقالة
كان بذلك انتقاض هذا الاعتلال وفساده.
واحتج المزني للشافعي في هذه المسألة بأنه لو صالح من حد القذف على مال
أو من كفالة بنفس لبطل الحد والكفالة، ولم يستحق شيئا، ولو صالح من دم
عمد على مال باتفاق الجميع قبل ذلك، فدل ذلك على أن دم العمد مال في
الأصل لولا ذلك لما صح الصلح كما لم يصح عن حد القذف والكفالة.
قال أبو بكر: قد انتظم هذا الاحتجاج الخطأ والمناقضة، فأما الخطأ فهو
أن من أصلنا أن الحد لا يبطل بالصلح ويبطل المال، والكفالة بالنفس فيها
روايتان: إحداهما: لا تبطل أيضا، والأخرى: أنها تبطل، وأما المناقضة
فهي اتفاق الجميع على جواز أخذ المال على الطلاق، ولا خلاف أن الطلاق
في الأصل ليس بمال، وأنه ليس للزوج أن يلزمها مالا عن طلاق بغير رضاها.
وعلى أن الشافعي قد قال فيما حكاه المزني عنه إن عفو المحجور عليه عن
الدم جائز، وليس لأصحاب الوصايا والدين منعه من ذلك; لأن المال لا يملك
في العمد إلا باختيار المجني عليه، فلو كان الدم مالا في الأصل لثبت
فيه حق الغرماء وأصحاب الوصايا وهذا يدل على أن موجب العمد عنده هو
القود لا غير، وأنه لم يوجب له خيارا بين القتل وبين الدية.
فإن قال قائل: قوله تعالى: {وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنَا
لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً} [الإسراء: 33] يوجب لوليه الخيار بين أخذ
القود والمال; إذ كان اسم السلطان يقع عليهما، والدليل عليه أن بعض
المقتولين ظلما تجب فيه الدية، نحو قتيل شبه العمد، والأب إذا قتل
ابنه، وبعضهم يجب فيه القود، وذلك يقتضي أن يكون جميع ذلك مرادا بالآية
لاحتمال اللفظ لهما. وقد تأوله الضحاك بن مزاحم على ذلك، فقال في معنى
قوله: {فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً} [الإسراء: 33] "إنه
إن شاء قتل، وإن شاء عفا، وإن شاء أخذ الدية" فلما احتمل السلطان ما
وصفنا وجب إثبات سلطانه في أخذ المال كهو في أخذ القود
(1/191)
لوقوع
الاسم عليهما ولأنه قد ثبت باتفاق الجميع أن كل واحد منهما مرادا لله
تعالى في حال، وحينئذ يكون تقدير الآية: ومن قتل مظلوما فقد جعلنا
لوليه سلطانا في القود والدية. ولما حصل الاتفاق على أنهما لا يجبان
مجتمعين وجب أن يكون وجوبهما على وجه التخيير، وكما احتججتم في إيجاب
القود بقوله: {فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً} [الإسراء: 33]
لاتفاق الجميع على أن القود مراد، وصار كالمنصوص عليه فيه، وجعلتموه
كعموم لفظ القود، فيلزمكم مثله في إثبات المال لوجودنا مقتولين ظلما
يكون سلطان الولي هو المال قيل له: حمله على القود أولى من حمله على
الدية، وذلك لأنه لما كان السلطان لفظا مشتركا محتملا للمعاني كان
متشابها يجب رده إلى المحكم، وحمله على معناه، وهي آية محكمة في إيجاب
القصاص، وهو قوله: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} فوجب
أن يكون من حيث ثبت أن القود مراد بالسلطان المذكور في هذه الآية أن
يكون معطوفا على ما في الآية المحكمة من ذكر إيجاب القصاص. وليس معك
آية محكمة في إيجاب المال على قاتل العمد، فيكون معنى المتشابه محمولا
عليه، فلذلك وجب الاقتصار بمعنى الاسم على القود دون المال وغيره
لموافقته لمعنى المحكم الذي لا اشتراك فيه، ومن حمله على تخييره في أخذ
الدية أو القود فلم يلجأ إلى أصل له من المحكم يحمله عليه، فلذلك لم
يصح إثبات التخيير مع احتمال اللفظ له.
وفي فحوى الآية ما يدل على أن المراد القود دون ما سواه لأنه قال:
{وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً
فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُوراً} [الإسراء: 33]
يعني، والله أعلم: السرف في القصاص بأن يقتل غير قاتله أو أن يمثل
بالقاتل فيقتله على غير الوجه المستحق من القتل. وفي ذلك دليل على أن
المراد بقوله: سلطانا القود. وأيضا لما ثبت أن القود مراد بالآية انتفت
إرادة المال; لأنه لو كان مرادا مع القود لكان الواجب هما جميعا في
حالة واحدة لا على وجه التخيير; إذ ليس في الآية ذكر التخيير، فلما
امتنع إرادتهما جميعا، وكان القود لا محالة مرادا علمنا أنه لم يرد
المال، وأن إيجابنا للدية في بعض المقتولين ظلما ليس عن هذه الآية،
والله تعالى أعلم.
(1/192)
باب العاقلة هل تعقل العمد
قال الله تعالى: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ
بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ} وقد قدمنا تأويل من
تأوله على عفو بعض الأولياء عن نصيبه من الدم، ووجوب الأرش للباقين،
واحتمال اللفظ لذلك، وفيه دلالة على أن الواجب على القاتل الذي لم يعف
في ماله، وكذلك كل عمد فيه القود فهو على الجاني في ماله، كالأب إذا
قتل ابنه،
(1/192)
وكالجراحة
فيما دون النفس، ولا يستطاع فيها القصاص نحو قطع اليد من نصف الساعد،
والمنقلة والجائفة، فالعامد والمخطئ إذا قتلا أن على العامد نصف الدية
في ماله، والمخطئ على عاقلته، وهو قول أصحابنا وعثمان البتي والثوري
والشافعي. وقال ابن وهب، وابن القاسم عن مالك: هي على العاقلة وهو آخر
قول مالك. قال ابن القاسم: ولو قطع يمين رجل، ولا يمين له كانت دية
اليد في ماله، ولا تحملها العاقلة. وقال الأوزاعي: هو في مال الجاني
فإن لم يبلغ ذلك ماله حمل على عاقلته، وكذلك إذا قتلت المرأة زوجها
متعمدة، ولها منه أولاد فديته في مالها خاصة، فإن لم يبلغ ذلك مالها
حمل على عاقلتها.
قال أبو بكر: دلالة الآية ظاهرة على أن الصلح عن دم العمد، وسقوط القود
بعفو بعض الأولياء يوجب الدية في مال الجاني; لأنه تعالى قال: {فَمَنْ
عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ} وهو يعني القاتل إذا كان المعنى عفو
بعض الأولياء، ثم قال: {فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ} يعني اتباع الولي
للقاتل، ثم قال: {وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ} يعني أداء القاتل،
فاقتضى ذلك وجوبه في مال القاتل. وكذلك تأويل من تأوله على التراضي عن
الصلح على مال ففيه وجوب الأداء على القاتل دون غيره، إذ ليس للعاقلة
ذكر في الآية، وإنما فيها ذكر الولي والقاتل. وروى ابن أبي الزناد عن
أبيه عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة عن ابن عباس قال: لا تعقل
العاقلة عمدا ولا عبدا ولا صلحا ولا اعترافا.
وحدثنا عبد الباقي قال: حدثنا أحمد بن الفضل الخطيب قال: حدثنا إسماعيل
بن موسى قال: حدثنا شريك عن جابر بن عامر قال: اصطلح المسلمون على أن
لا يعقلوا عبدا ولا عمدا ولا صلحا ولا اعترافا. وروى عمرو بن شعيب عن
أبيه عن جده في قصة قتادة بن عبد الله المدلجي الذي قتل ابنه: أن عمر
جعل عليه مائة من الإبل، وأعطاها إخوته، ولم يورثه منها شيئا فجعل ذلك
في ماله لما كان عمدا، ولما ثبت ذلك في النفس، ولم يخالف عمر فيه غيره
من الصحابة كان كذلك حكم ما دونها إذا سقط القصاص.، وروى هشام بن عروة
عن أبيه قال: ليس على العاقلة عقل في عمد وإنما عليهم الخطأ وقال عروة
أيضا: ما كان من صلح فلا تعقله العشيرة إلا أن تشاء. وقال قتادة: كل
شيء لا يقاد منه فهو في مال الجاني. وقال أبو حنيفة عن حماد عن
إبراهيم: لا تعقل العاقلة صلحا ولا عمدا ولا اعترافا.
قوله تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي
الْأَلْبَابِ} فيه إخبار من الله تعالى في إيجاب القصاص حياة للناس
وسببا لبقائهم; لأن من قصد قتل إنسان رده عن ذلك علمه بأنه يقتل به.
ودل على وجوب القصاص عموما بين الحر والعبد والرجل والمرأة
(1/193)
والمسلم
والذمي; إذ كان الله تعالى مريدا لتبقية الجميع، فالعلة الموجبة للقصاص
بين الحرين المسلمين موجودة في هؤلاء، فوجب استواء الحكم في جميعهم.
وتخصيصه لأولي الألباب بالمخاطبة غير ناف مساواة غيرهم لهم في الحكم;
إذ كان المعنى الذي حكم من أجله في ذوي الألباب موجودا في غيرهم، وإنما
وجه تخصيصه لهم أن ذوي الألباب هم الذين ينتفعون بما يخاطبون به،
وينتهون إلى ما يؤمرون به، ويزدجرون عما يزجرون عنه. وهذا كقوله تعالى:
{إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا} [النازعات: 45] هو منذر
لجميع المكلفين، ألا ترى إلى قوله تعالى: {إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ
لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ} [سبأ: 46] ونحو قوله: {هُدىً
لِلْمُتَّقِينَ} [البقرة: 2] وهو هدى للجميع، وخص المتقين لانتفاعهم
به، ألا ترى إلى قوله في آية أخرى {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ
فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ} [البقرة: 185]؟ فعم الجميع به.
وكقوله: {قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ
تَقِيّاً} [مريم: 18] لأن التقي هو الذي يعيذ من استعاذ بالله.
وقد ذكر عن بعض الحكماء أنه قال: قتل البعض إحياء الجميع. وعن غيره:
القتل أقل للقتل و أكثروا القتل ليقل القتل وهو كلام سائر على ألسنة
العقلاء، وأهل المعرفة، وإنما قصدوا المعنى الذي في قوله تعالى:
{وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} ثم إذا مثلت بينه وبينه وجدت بينهما
تفاوتا بعيدا من جهة البلاغة، وصحة المعنى. وذلك يظهر عند التأمل من
وجوه: أحدها: أن قوله تعالى: {فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} هو نظير قولهم:
قتل البعض إحياء للجميع. والقتل أقل للقتل وهو مع قلة عدد حروفه
ونقصانها عما حكي عن الحكماء قد أفاد من المعنى الذي يحتاج إليه، ولا
يستغني عنه الكلام ما ليس في قولهم; لأنه ذكر القتل على وجه العدل
لذكره القصاص، وانتظم مع ذلك الغرض الذي إليه أجري بإيجابه القصاص، وهو
الحياة. وقولهم: القتل أقل للقتل وقتل البعض إحياء الجميع و القتل أنفى
للقتل إن حمل على حقيقته لم يصح معناه; لأنه ليس كل قتل هذه صفته، بل
ما كان منه على وجه الظلم والفساد، فليست هذه منزلته، ولا حكمه. فحقيقة
هذا الكلام غير مستعملة، ومجازه يحتاج إلى قرينة وبيان في أن أي قتل هو
إحياء للجميع. فهذا كلام ناقص البيان مختل المعنى غير مكتف بنفسه في
إفادة حكمه، وما ذكره الله تعالى من قوله: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ
حَيَاةٌ} مكتف بنفسه مفيد لحكمه على حقيقته من مقتضى لفظه مع قلة
حروفه، ألا ترى أن قوله تعالى: {فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} أقل حروفا من
قولهم: قتل البعض إحياء للجميع و القتل أقل للقتل، وأنفى للقتل؟ ومن
جهة أخرى يظهر فضل بيان قوله: {فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} على قولهم:
القتل أقل للقتل، وأنفى للقتل أن في قولهم تكرار اللفظ، وتكرار المعنى
بلفظ غيره أحسن في حد البلاغة،
(1/194)
ألا ترى
أنه يصح تكرار المعنى الواحد بلفظين مختلفين في خطاب واحد، ولا يصح
مثله بلفظ واحد نحو قوله تعالى: {وَغَرَابِيبُ سُودٌ} [فاطر: 27] ونحو
قول الشاعر:
وألفى قولها كذبا ومينا
كرر المعنى الواحد بلفظين، وكان ذلك سائغا، ولا يصح مثله في تكرار
اللفظ. وكذلك قوله: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} لا تكرار فيه مع
إفادته للقتل من جهة القاتل، إذ كان ذكر القصاص يفيد ذلك، ألا ترى أنه
لا يكون قصاصا إلا وقد تقدمه قتل من المقتص منه؟ وفي قولهم ذكر للقتل
وتكرار له في اللفظ، وذلك نقصان في البلاغة، فهذا وأشباهه مما يظهر به
للمتأمل إبانة القرآن في جهة البلاغة والإعجاز من كلام البشر; إذ ليس
يوجد في كلام الفصحاء من جمع المعاني الكثيرة في الألفاظ اليسيرة مثل
ما يوجد في كلام الله تعالى.
(1/195)
باب كيفية القصاص
قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ
الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} وقال في آية أخرى: {وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ
فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا
اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [البقرة: 194] وقال : {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ
فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} [النحل: 126] فأوجب بهذه
الآي استيفاء المثل لم يجعل لأحد ممن أوجب عليه أو على وليه أن يفعل
بالجاني أكثر مما فعل.
واختلف الفقهاء في كيفية القصاص، فقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد وزفر:
على أي وجه قتله لم يقتل إلا بالسيف. وقال ابن القاسم عن مالك: إن قتله
بعصا أو بحجر أو بالنار أو بالتغريق قتله بمثله، فإن لم يمت بمثله فلا
يزال يكرر عليه من جنس ما قتله به حتى يموت، وإن زاد على فعل القاتل
الأول. وقال ابن شبرمة: نضربه مثل ضربه، ولا نضربه أكثر من ذلك، وقد
كانوا يكرهون المثلة ويقولون: السيف يجزي عن ذلك كله، فإن غمسه في
الماء فإني لا أزال أغمسه فيه حتى يموت.، وقال الشافعي: إن ضربه بحجر
فلم يقلع عنه حتى مات فعل به مثل ذلك، وإن حبسه بلا طعام ولا شراب حتى
مات حبس، فإن لم يمت في مثل تلك المدة قتل بالسيف.
قال أبو بكر: لما كان في مفهوم قوله: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ
فِي الْقَتْلَى} وقوله: {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} استيفاء المثل من غير
زيادة عليه، كان محظورا على الولي استيفاء زيادة على فعل الجاني، ومتى
استوفى على مذهب من ذكرنا في التحريق والتغريق والرضخ بالحجارة والحبس
أدى ذلك إلى أن يفعل به أكثر مما فعل; لأنه إذا لم
(1/195)
يمت بمثل
ذلك الفعل قتله بالسيف أو زاد على جنس فعله، وذلك هو الاعتداء الذي زجر
الله عنه بقوله: {فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ
أَلِيمٌ} لأن الاعتداء هو مجاوزة القصاص، والقصاص أن يفعل به مثل فعله
سواء إن أمكن، وإن تعذر فأن يقتله بأوحى وجوه القتل فيكون مقتصا من جهة
إتلاف نفسه غير متعد ما جعل له. وقول مالك بتكرار مثل ذلك الفعل عليه
حتى يموت زائد على فعل القاتل خارج عن معنى القصاص، وقول الشافعي إنه
يفعل به مثل ما فعل ثم يقتله مخالف لحكم الآية; لأن القصاص إن كان من
جهة أن يفعل به مثل ما فعل فقد استوفى فقتله بعد ذلك تعد، ومجاوزة لحد
القصاص، وقال تعالى: {وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ
نَفْسَهُ} [الطلاق: 1]. وإن كان معنى القصاص هو إتلاف نفس من غير
مجاوزة لمقدار الفعل فهو الذي نقوله، فلا ينفك موجب القصاص على الوجه
الذي ذهب إليه مخالفونا من مخالفة الآية لمجاوزة حد القصاص لأن فاعل
ذلك داخل في حد الاعتداء الذي أوعد الله عليه. وكذلك قوله: {فَمَنِ
اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى
عَلَيْكُمْ} [البقرة: 194] وقوله: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا
بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} [النحل: 126] يمنع أن يجرح أكثر من
جراحته أو يفعل به أكثر مما فعل. ويدل على أن المراد به مثل ما فعل لا
زائدا عليه اتفاق الجميع على أن من قطع يد رجل من نصف الساعد أنه لا
يقتص منه لعدم التيقن بالاقتصار على مقدار حقه، وإن كان قد يغلب في
الظن إذا اجتهد أنه قد وضع السكين في موضعه من المجني عليه، ولم يكن
للاجتهاد في ذلك حظ، فكيف يجوز القصاص على وجه نعلم يقينا أنه مستوف
لأكثر من حقه وجان عليه بأكثر من جنايته؟ وأيضا لا خلاف أنه يجوز للولي
أن يقتله ولا يحرقه ولا يغرقه، وهذا يدل على أن ذلك مراده بالآية، وإذا
كان القتل بالسيف مرادا ثبت أن القصاص هو إتلاف نفسه بأيسر وجوه القتل.
وإذا ثبت أن ذلك مراده انتفت إرادة التحريق والتغريق والرضخ، وما جرى
مجرى ذلك; لأن وجوب الاقتصار على قتله بالسيف ينفي وقوع غيره.
فإن قيل: اسم المثل في القصاص يقع على قتله بالسيف، وعلى أن يفعل به
مثل فعله، وله إن لم يمت أن يقتله بالسيف، وله أن يقتصر بديا على قتله
بالسيف، فيكون تاركا لبعض حقه، وله ذلك، قيل له: غير جائز أن يكون
الرضخ والتحريق مستحقا مع قتله بالسيف; لأن ذلك ينافي القصاص، وفعل
المثل، ومن حيث أوجب الله تعالى القصاص لا غير فغير جائز حمله على معنى
ينافي مضمون اللفظ وحكمه. وعلى أن الرضخ بالحجارة والتحريق والتغريق
والرمي لا يمكن استيفاء القصاص به; لأن القصاص إذا كان هو استيفاء
المثل فليس للرضخ حد معلوم حتى يعلم أنه في مقادير أجزاء رضخ القاتل
(1/196)
للمقتول،
وكذلك الرمي والتحريق لم يجز أن يكون ذلك مرادا بذكر القصاص، فوجب أن
يكون المراد إتلاف نفسه بأوحى الوجوه. ويدل على هذا ما روي عن النبي
صلى الله عليه وسلم في نفي القصاص في المنقلة والجائفة لتعذر استيفائه
على مقادير أجزاء الجناية، فكذلك القصاص بالرمي والرضخ غير ممكن
استيفاؤه في معنى الإيلام، وإتلاف الأجزاء التي أتلفها.
فإن قيل: لما كان المثل ينتظم معنيين، وكذلك القصاص: أحدهما إتلاف نفسه
كما أتلف، فيكون القصاص والمثل في هذا الوجه إتلاف نفس بنفس، والآخر:
أن يفعل به مثل ما فعل، استعملنا حكم اللفظ في الأمرين; لأن عمومه
يقتضيهما، فقلنا: نفعل به مثل ما فعل فإن مات، وإلا استوفى المثل من
جهة إتلاف النفس قيل له: لا يجوز أن يكون المراد بالمثل والقصاص جميع
الأمرين بأن يفعل به مثل ما فعل بالمقتول ثم يقتل، وإن كان يجوز أن
يكون المراد كل واحد من المعنيين على الانفراد غير مجموع إلى الآخر;
لأن الاسم يتناوله، وهو غير مناف لحكم الآية وأما إذا جمعهما فغير جائز
أن يكون مرادا على وجه الجمع; لأنه يخرج عن حد القصاص والمثل بل يكون
زائدا عليه، وغير جائز تأويل الآية على معنى يضادها، وينفي حكمها،
فلذلك امتنع إرادة القتل بالسيف بعد الرضخ والتغريق والحبس والإجاعة.
وقد روى سفيان الثوري عن جابر عن أبي عازب عن النعمان بن بشير قال: قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا قود إلا بالسيف"، وهذا الخبر قد حوى
معنيين: أحدهما: بيان مراد الآية في ذكر القصاص والمثل والآخر: أنه
ابتداء عموم يحتج به في نفي القود بغيره. ويدل عليه أيضا ما روى يحيى
بن أبي أنيسة عن الزبير عن جابر، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا
يستقاد من الجراح حتى تبرأ"، وهذا ينفي قول المخالف لنا، وذلك لأنه لو
كان الواجب أن يفعل بالجاني كما فعل لم يكن لاستثنائه وجه، فلما ثبت
الاستثناء دل على أن حكم الجراحة معتبر بما يئول إليه حالها.
فإن قيل: يحيى بن أبي أنيسة لا يحتج بحديثه، قيل له: هذا قول جهال لا
يلتفت إلى جرحهم، ولا تعديلهم، وليس ذلك طريقة الفقهاء في قبول
الأخبار، وعلى أن علي بن المديني قد ذكر عن يحيى بن سعيد أنه قال: يحيى
بن أبي أنيسة أحب إلي في حديث الزهري من حديث محمد بن إسحاق.
ويدل عليه أيضا ما روى خالد الحذاء عن أبي قلابة، عن أبي الأشعث، عن
شداد بن أوس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله كتب
الإحسان على كل شيء فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا
الذبح" فأوجب عموم لفظه أن من له قتل غيره أن يقتله بأحسن وجوه القتل،
وأوحاها وأيسرها، وذلك ينفي تعذيبه، والمثلة به.
(1/197)
ويدل عليه
ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم "أنه نهى أن يتخذ شيء من الحيوان
غرضا", فمنع بذلك أن يقتل القاتل رميا بالسهام.
وحكي أن القسم بن معن حضر مع شريك بن عبد الله عند بعض السلاطين فقال:
ما تقول فيمن رمى رجلا بسهم فقتله؟ قال: يرمى فيقتل، قال: فإن لم يمت
بالرمية الأولى؟ قال: يرمى ثانيا. قال: أفتتخذه غرضا، وقد نهى رسول
الله صلى الله عليه وسلم أن يتخذ شيء من الحيوان غرضا؟ قال شريك لم
تمرق. فقال القسم: يا أبا عبد الله هذا ميدان إن سابقناك فيه سبقتنا،
يعني البذاء، وقام.
ويدل عليه أيضا ما روى عمران بن حصين وغيره: "أن النبي عليه السلام نهى
عن المثلة".
وقال سمرة بن جندب: "ما خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم خطبة إلا
أمرنا فيها بالصدقة ونهانا عن المثلة". وهذا خبر ثابت قد تلقاه الفقهاء
بالقبول واستعملوه، وذلك يمنع المثلة بالقاتل، وقول مخالفينا فيه
المثلة به، وهو يثني عن مراد الآية في إيجاب القصاص، واستيفاء المثل،
فوجب أن يكون القصاص مقصورا على وجه المثلة، ويستعمل الآية على وجه لا
يخالف معنى الخبر. وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم مثل بالعرنيين
فقطع أيديهم وأرجلهم وسمل أعينهم وتركهم في الحرة حتى ماتوا ثم نسخ سمل
الأعين بنهيه عن المثلة، فوجب على هذا أن يكون معنى آية القصاص محمولا
على ما لا مثلة فيه.
واحتج مخالفونا في ذلك بحديث همام عن قتادة عن أنس: "أن يهوديا رضخ رأس
صبي بين حجرين، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يرضخ رأسه بين
حجرين". وهذا الحديث لو ثبت كان منسوخا بنسخ المثلة، وذلك لأن النهي عن
المثلة مستعمل عند الجميع والقود على هذا الوجه مختلف فيه، ومتى، ورد
عنه عليه السلام خبران، واتفق الناس على استعمال أحدهما واختلفوا في
استعمال الآخر كان المتفق عليه منهما قاضيا على المختلف فيه خاصا كان
أو عاما، ومع ذلك فجائز أن يكون قتل اليهودي على وجه الحد كما روى شعبة
عن هشام بن زيد عن أنس قال: عدا يهودي على جارية فأخذ أوضاحا كانت
عليها، ورضخ رأسها فأتى بها أهلها رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي في
آخر رمق، فقال عليه السلام: "من قتلك; فلان؟" فأشارت برأسها أي لا، ثم
قال: "فلان؟" يعني اليهودي، قالت: نعم، فأمر به رسول الله صلى الله
عليه وسلم فرضخ رأسه بين حجرين. فجائز أن يكون قتله حدا لما أخذ المال
وقتل، وقد كان ذلك جائزا على وجه المثلة كما سمل العرنيين ثم نسخ
بالنهي عن المثلة. وقد روى ابن جريج عن معمر عن أيوب عن أبي قلابة عن
أنس: أن رجلا من اليهود رضخ رأس جارية على حلي لها فأمر به النبي صلى
الله عليه وسلم أن يرجم حتى قتل فذكر في هذا
(1/198)
الحديث
الرجم، وليس ذلك بقصاص عند الجميع، وجائز أن يكون اليهودي نقض العهد
ولحق بدار الحرب لقرب محال اليهود كانت حينئذ من المدينة، فأخذ بعد ذلك
فقتله على أنه حربي ناقض للعهد متهم بقتل صبي; لأنه غير جائز أن يكون
قتله بإيماء الصبية وإشارتها أنه قتلها; لأن ذلك لا يوجب قتل المدعى
عليه القتل عند الجميع، فلا محالة قد كان هناك سبب آخر استحق به القتل
لم ينقله الراوي على جهته. ويدل على صحة ما ذكرنا من أن المراد بالقصاص
إتلاف نفسه بأيسر الوجوه، وهو السيف اتفاق الجميع على أنه لو أوجره
خمرا حتى مات لم يجز أن يوجره خمرا، وقتل بالسيف. فإن قيل: لأن شرب
الخمر معصية. قيل له: كذلك المثلة معصية، والله أعلم.
(1/199)
باب القول في وجوب الوصية
قال الله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ
إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ
بِالْمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى الْمُتَّقِينَ}.
قال أبو بكر: لم يختلف السلف ممن روي عنه أن قوله: {خَيْراً} أراد به
مالا، واختلفوا في المقدار المراد بالمال الذي أوجب الله الوصية فيه
حين كانت الوصية فرضا; لأن قوله: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ} معناه فرض عليكم،
كقوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} [البقرة: 183] وقوله:
{إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَوْقُوتاً}
[النساء: 103] يعني فرضا موقتا. وروي عن علي كرم الله وجهه أنه دخل على
مولى له في مرضه وله سبع مائة درهم أو ست مائة درهم فقال: ألا أوصي؟
قال: لا، إنما قال الله تعالى: {إِنْ تَرَكَ خَيْراً} وليس لك كثير
مال، وروي عن علي أنه قال: أربعة آلاف درهم، وما دونها نفقة. وقال ابن
عباس: لا وصية في ثمان مائة درهم. وقالت عائشة رضي الله عنها في امرأة
أرادت الوصية فمنعها أهلها، وقالوا: لها ولد، ومالها يسير، فقالت: كم
ولدها؟ قالوا: أربعة، قالت: فكم مالها؟ قالوا: ثلاثة آلاف، فكأنها
عذرتهم، وقالت: ما في هذا المال فضل. وقال إبراهيم: ألف درهم إلى خمس
مائة درهم وروى همام عن قتادة {إِنْ تَرَكَ خَيْراً} قال: كان يقال:
خير المال ألف درهم فصاعدا، وقال الزهري: هي في كل ما وقع عليه اسم
المال من قليل أو كثير. وكل هؤلاء القائلين فإنما تأولوا تقدير المال
على وجه الاستحباب لا على وجه الإيجاب للمقادير المذكورة، وكان ذلك
منهم على طريق الاجتهاد فيما تلحقه هذه الصفة من المال. ومعلوم في
العادة أن من ترك درهما لا يقال ترك خيرا، فلما كانت هذه التسمية
موقوفة على العادة، وكان طريق التقدير فيها على الاجتهاد وغالب الرأي
مع العلم بأن القدر اليسير لا تلحقه هذه التسمية، وأن
(1/199)
الكثير
تلحقه، فكان طريق الفصل فيها الاجتهاد، وغالب الرأي مع ما كانوا عرفوا
من سنة النبي صلى الله عليه وسلم وقوله: "الثلث، والثلث كثير وأن تدع
ورثتك أغنياء خير من أن تدعهم عالة يتكففون الناس".
واختلف الناس في الوصية المذكورة في هذه الآية هل كانت واجبة أم لا؟
فقال قائلون: إنها لم تكن واجبة، وإنما كانت ندبا وإرشادا. وقال آخرون:
قد كانت فرضا ثم نسخت على الاختلاف منهم في المنسوخ منها، واحتج من
قال: إنها لم تكن واجبة بأن في سياق الآية وفحواها دلالة على نفي
وجوبها، وهو قوله: {الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ
بِالْمَعْرُوفِ} فلما قيل فيها {بِالْمَعْرُوفِ} وإنها على المتقين دل
على أنها غير واجبة من ثلاثة أوجه: أحدها: قوله: {بِالْمَعْرُوفِ} لا
يقتضي الإيجاب، والآخر: قوله: {عَلَى الْمُتَّقِينَ} وليس على كل أحد
أن يكون من المتقين، الثالث: تخصيصه للمتقين بها والواجبات لا يختلف
فيها المتقون، وغيرهم.
قال أبو بكر: ولا دلالة فيما ذكره هذا القائل على نفي وجوبها; لأن
إيجابها بالمعروف لا ينفي وجوبها; لأن المعروف معناه العدل الذي لا شطط
فيه ولا تقصير كقوله تعالى: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ
وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 233] ولا خلاف في وجوب هذا
الرزق والكسوة وقوله تعالى: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [النساء:
19] بل المعروف هو الواجب، قال الله تعالى: {وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ
وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [لقمان: 17] وقال: {يَأْمُرُونَ
بِالْمَعْرُوفِ} [التوبة: 71] فذكر المعروف فيما أوجب الله تعالى من
الوصية لا ينفي وجوبها بل هو يؤكد وجوبها; إذ كان جميع أوامر الله
معروفا غير منكر. ومعلوم أيضا أن ضد المعروف هو المنكر، وأن ما ليس
بمعروف هو منكر، والمنكر مذموم مزجور عنه، فإذا المعروف واجب. وأما
قوله: {حَقّاً عَلَى الْمُتَّقِينَ} ففيه تأكيد لإيجابها; لأن على
الناس أن يكونوا متقين، قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ} [البقرة: 278] ولا خلاف بين المسلمين أن
تقوى الله فرض، فلما جعل تنفيذ هذه الوصية من شرائط التقوى فقد أبان عن
إيجابها. وأما تخصيصه المتقين بالذكر فلا دلالة فيه على نفي وجوبها،
وذلك لأن أقل ما فيه اقتضاء الآية وجوبها على المتقين، وليس فيها نفيها
عن غير المتقين، كما أنه ليس في قوله: {هُدىً لِلْمُتَّقِينَ} [البقرة:
2] نفي أن يكون هدى لغيرهم، وإذا وجبت على المتقين بمقتضى الآية وجب
على غيرهم، وفائدة تخصيصه المتقين بالذكر أن فعل ذلك من تقوى الله،
وعلى الناس أن يكونوا كلهم متقين، فإذا عليهم فعل ذلك.
ودلالة الآية ظاهرة في إيجابها، وتأكيد فرضها; لأن قوله: {كُتِبَ
عَلَيْكُمُ} معناه
(1/200)
فرض عليكم
على ما بينا فيما سلف، ثم أكد بقوله: {بِالْمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى
الْمُتَّقِينَ} ولا شيء في ألفاظ الوجوب آكد من قول القائل: هذا حق
عليك وتخصيصه المتقين بالذكر على وجه التأكيد كما بيناه آنفا، مع اتفاق
أهل التفسير من السلف أنها كانت واجبة بهذه الآية.
وقد روي عن النبي عليه السلام ما يدل على أنها كانت واجبة، وهو ما
حدثنا عبد الباقي بن قانع قال: حدثنا سليمان بن الفضل بن جبريل قال:
حدثنا عبد الله بن أيوب قال: حدثنا عبد الوهاب عن نافع عن ابن عمر قال:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يحل لمؤمن يبيت ثلاثا إلا
ووصيته عنده". وحدثنا عبد الباقي قال: حدثنا بشر بن موسى قال: حدثنا
الحميدي قال: حدثنا سفيان قال: حدثنا أيوب قال: سمعت نافعا عن ابن عمر
قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما حق امرئ مسلم له مال يوصي
فيه تمر عليه ليلتان إلا ووصيته عنده مكتوبة". وقد رواه هشام بن الغازي
عن نافع عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما ينبغي لمسلم
أن يبيت ليلتين إلا ووصيته عنده مكتوبة". وهذا يدل على أن الوصية قد
كانت واجبة.
ثم اختلف القائلون بوجوبها بديا، فقالت منهم طائفة: جميع ما في هذه
الآية من إيجاب الوصية منسوخ منهم ابن عباس، حدثنا أبو محمد جعفر بن
محمد بن أحمد الواسطي قال: حدثنا أبو الفضل جعفر بن محمد بن اليمان
المؤدب قال: حدثنا أبو عبيد القاسم بن سلام قال: حدثنا حجاج عن ابن
جريج، وعثمان بن عطاء الخراساني عن ابن عباس في هذه الآية: {إِنْ
تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ} قال:
نسختها هذه الآية {لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ
وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ
وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيباً
مَفْرُوضاً} [البقرة: 233]. وروى ابن جريج عن عكرمة عن ابن عباس في
قوله تعالى: {إِنْ تَرَكَ خَيْراً} قال: "نسخ من ذلك من يرث ولم ينسخ
من لا يرث". فاختلفت الرواية عن ابن عباس في ذلك: في أحديهما أن الجميع
منسوخ، وفي الأخرى أنه منسوخ ممن يرث من الأقربين دون من لا يرث.
وحدثنا أبو محمد جعفر بن محمد قال: حدثنا أبو الفضل المؤدب قال: حدثنا
أبو عبيد قال: حدثنا أبو مهدي عن عبد الله بن المبارك عن عمارة أبي عبد
الرحمن قال: سمعت عكرمة يقول في هذه الآية: {إِنْ تَرَكَ خَيْراً
الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ}: "نسختها الفرائض".
وقال ابن جريج عن مجاهد: كان الميراث للولد والوصية للوالدين والأقربين
فهي منسوخة.
وقالت طائفة أخرى: قد كانت الوصية واجبة للوالدين والأقربين فنسخت عمن
(1/201)
يرث وجعلت
للوالدين والأقربين الذين لا يرثون رواه يونس وأشعث عن الحسن. وروي عن
الحسن وجابر بن زيد وعبد الملك بن يعلى في الرجل يوصي لغير ذي القرابة،
وله ذو قرابة ممن لا يرثه أن ثلثي الثلث لذي القرابة، وثلث الثلث لمن
أوصى له وقال طاوس: يرد كله إلى ذوي القرابة. وقال الضحاك: "لا وصية
إلا لذي قرابة إلا أن يكون له ذو قرابة".
وقالت طائفة أخرى: "قد كانت الوصية في الجملة واجبة لذي القرابة، ولم
يكن على الموصي أن يوصي بها لجميعهم، بل كان له الاقتصار على الأقربين
منهم، فلم تكن واجبة للأبعدين، ثم نسخت الوصية للأقربين فبقي الأبعدون
على ما كانوا عليه من جواز الوصية لهم أو تركها".
ثم اختلف القائلون بنسخها فيما نسخت به، وقد روينا عن ابن عباس وعكرمة
أن آية المواريث نسختها، وذكر ابن عباس قوله تعالى: {لِلرِّجَالِ
نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ} [النساء: 7].
وقال آخرون: نسخها ما ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا وصية
لوارث" رواه شهر بن حوشب، عن عبد الرحمن بن عثمان، عن عمرو بن خارجة،
عنه عليه السلام قال: "لا وصية لوارث". وروى عمرو بن شعيب عن أبيه عن
جده عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يجوز لوارث وصية" ، وإسماعيل
بن عياش عن شرحبيل بن مسلم قال: سمعت أبا أمامة يقول: سمعت رسول الله
صلى الله عليه وسلم يقول في خطبته عام حجة الوداع: "ألا إن الله قد
أعطى كل ذي حق حقه فلا وصية لوارث" وحجاج بن جريج عن عطاء الخراساني عن
ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يجوز لوارث وصية
إلا أن يجيزها الورثة". وروي ذلك عن جماعة من الصحابة رواه حجاج عن أبي
إسحاق عن الحارث عن علي قال: "لا وصية لوارث" وعبد الله بن بدر عن ابن
عمر قال: "لا يجوز لوارث وصية".
وهذا الخبر المأثور عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك. ووروده من
الجهات التي وصفنا هو عندنا في حيز التواتر، لاستقامته وشهرته في
الأمة، وتلقي الفقهاء إياه بالقبول واستعمالهم له، وجائز عندنا نسخ
القرآن بمثله، إذ كان في حيز ما يوجب العلم والعمل من الآيات. فأما
إيجاب الله تعالى الميراث للورثة فغير موجب نسخ الوصية لجواز اجتماع
الميراث والوصية معا، ألا ترى أنه عليه السلام قد أجازها للوارث إذا
أجازتها الورثة؟ فلم يكن يستحيل اجتماع الميراث والوصية لواحد لو لم
يكن إلا آية الميراث، على أن الله إنما جعل الميراث بعد الوصية، فما
الذي كان يمنع أن يعطى قسطه من الوصية ثم يعطى الميراث بعدها.
(1/202)
وقال
الشافعي في كتاب الرسالة: يحتمل أن تكون المواريث ناسخة للوصية ويحتمل
أن تكون ثابتة معها، فلما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم من طريق
مجاهد، وهو منقطع أنه قال: "لا وصية لوارث" استدللنا بما روي عن النبي
صلى الله عليه وسلم من ذلك على أن المواريث ناسخة للوصية للوالدين
والأقربين مع الخبر المنقطع.
قال أبو بكر: قد أعطى القول باحتمال اجتماع الوصية والميراث فإذا ليس
في نزول آية الميراث ما يوجب نسخ الوصية للوارث، فلم تكن الوصية منسوخة
بالميراث لجواز اجتماعهما، والخبر لم يثبت عنده لأنه ورد من طريق
منقطع، وهو لا يقبل المرسل، ولو ورد من جهة الاتصال والتواتر لما قضى
به على حكم الآية; إذ غير جائز عنده نسخ القرآن بالسنة، فواجب أن تكون
الوصية للوالدين والأقربين ثابتة الحكم غير منسوخة; إذ لم يرد ما يوجب
نسخها.
قال الشافعي: وحكم النبي عليه السلام في ست مملوكين أعتقهم رجل لا مال
له غيرهم، فجزأهم النبي عليه السلام ثلاثة أجزاء، فأعتق اثنين وأرق
أربعة. والذي أعتقهم رجل من العرب، والعرب إنما تملك من لا قرابة بينه
وبينه من العجم، فأجاز لهم النبي صلى الله عليه وسلم الوصية، فدل ذلك
على أن الوصية لو كانت تبطل لغير قرابة بطلت للعبيد المعتقين لأنهم
ليسوا بقرابة للميت وبطلت وصية الوالدين.
قال أبو بكر: هذا كلام ظاهر الاختلال منتقض على أصله، فأما اختلاله
فقوله: إن العرب إنما تملك من لا قرابة بينه وبينه من العجم، وهذا خطأ
من قبل أنه جائز أن تكون أمه أعجمية، فيكون أقرباؤه من قبل أمه عجما،
فيكون العتق الذي أوقعه المريض وصية لأقربائه. ومن جهة أخرى أنه لو ثبت
أن آية المواريث نسخت الوصية للوالدين والأقربين فإنما نسختها لمن كان
منهم وارثا، فأما من لا يرث منهم فليس في إثبات الميراث لغيره ما يوجب
نسخ وصيته، وأما انتقاضه على أصله فإيجابه نسخ الوصية للأقربين بخبر
عمران بن حصين في عتق المريض لعبيده، ومن أصله أن السنة لا تنسخ
القرآن.
وقد روي عن جماعة من الصدر الأول والتابعين تجويز الوصية للأجانب،
وأنها تنفذ على ما أوصى بها، وروي أن عمر أوصى لأمهات أولاده لكل امرأة
منهن بأربعة آلاف درهم. وعن عائشة وإبراهيم وسعيد بن المسيب وسالم بن
عبد الله بن دينار والزهري قالوا: "تنفذ وصيته حيث جعلها". وقد حصل
الاتفاق من الفقهاء بعد عصر التابعين على جواز الوصايا للأجانب
والأقارب.
(1/203)
والذي
أوجب نسخ الوصية عندنا للوالدين والأقربين قوله تعالى في سياق آية
المواريث: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ}
[النساء: 12] فأجازها مطلقة ولم يقصرها على الأقربين دون غيرهم، وفي
ذلك إيجاب نسخها للوالدين والأقربين لأن الوصية لهم قد كانت فرضا، وفي
هذه إجازة تركها لهم، والوصية لغيرهم وجعل ما بقي ميراثا للورثة على
سهام مواريثهم، وليس يجوز ذلك إلا، وقد نسخ تلك الوصية.
فإن قيل: يحتمل أن يريد بهذه الوصية المذكورة في آية المواريث، وإيجاب
المواريث بعدها الوصية الواجبة للوالدين والأقربين فيكون حكمها ثابتا
لمن لا يرث منهم. قيل له: هذا غلط من قبل أنه أطلق الوصية في هذا
الموضع بلفظ منكور يقتضي شيوعها في الجنس، إذ كان ذلك حكم النكرات،
والوصية المذكورة للوالدين والأقربين لفظها لفظ المعرفة، فغير جائز
صرفها إليها; إذ لو أرادها. لقال: "من بعد الوصية" حتى يرجع الكلام إلى
المعرف المعهود من الوصية التي قد علمت، كما قال تعالى: {وَالَّذِينَ
يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ
فَاجْلِدُوهُمْ} [النور: 4] وقال في آية أخرى لما أراد الشهداء
المذكورين: {فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ} [النور: 13] فعرفهم
بالألف واللام; إذ كان المراد أولئك الشهداء. فلما أطلق الوصية في آية
المواريث بلفظ منكور ثبت أنه لم يرد بها الوصية المذكورة للوالدين
والأقربين، وأنها مطلقة جائزة لسائر الناس إلا ما خصته السنة أو
الإجماع من الوصية للوارث أو للقاتل ونحوهما، وفي ثبوت ذلك نسخ الوصية
للوالدين والأقربين.
قال أبو بكر: استدل محمد بن الحسن رحمه الله على أن الوالدين ليسوا من
الأقرباء بقوله تعالى: {الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ
وَالْأَقْرَبِينَ} ولأنهم لا يدلون بغيرهم ورحمهم بأنفسهم، وسائر
الأرحام سواهما إنما يدلون بغيرهم، فالأقربون من يقرب إليه بغيره،
وقال: إن ولد الصلب ليسوا من الأقربين أيضا، لأنه بنفسه يدلي برحمه لا
بواسطة بينه وبين والده ولأنه إذا لم يكن الوالدان من الأقربين، والولد
أقرب إلى والده من الوالد إلى ولده، فهو أحرى أن لا يكون من الأقربين
ولذلك قال فيمن أوصى لأقرباء بني فلان: إنه لا يدخل فيها ولده ولا
والده. ويدخل فيها ولد الولد والجد والإخوة ومن جرى مجراهم، لأن كلا
منهم يدلي إليه بواسطة غير مدل بنفسه وفي معنى الأقرباء خلاف، والله
أعلم.
(1/204)
باب الوصية للوارث إذا أجازتها الورثة
قال أبو بكر: قد بينا نسخ الوصية للورثة بما قدمنا، وقد روي عن النبي
صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا وصية لوارث إلا أن يجيزها الورثة" ،
وفيه بيان أن الأخبار الواردة بأن لا وصية
(1/204)
لوارث من
غير ذكر إجازة الورثة هي محمولة على أن الورثة لم يجيزوها. ويدل أيضا
على أن إجازة الورثة هي محمولة على أن إجازتهم معتبرة بعد الموت لأنهم
في حال حياته ليسوا بورثة، وإنما تحصل لهم هذه السمة بعد موت المورث،
فمتى أجاز وليس بوارث فإجازته باطلة لعموم قوله: "لا وصية لوارث" ودل
على أن الورثة متى أجازت الوصية لم يكن ذلك هبة مستأنفة من جهتهم فتحمل
على أحكام الهبات في شرط القبض والتسليم ونفي الشيوع فيما يقسم،
والرجوع فيها، بل تكون محمولة على أحكام الوصايا الجائزة دون الهبات من
قبل مجيزيها من الورثة. ودل أيضا على جواز العقود الموقوفة التي لها
مجيز لأن الميت عقد الوصية على مال هو للوارث في حال وقوع الوصية.
وجعلها النبي عليه السلام موقوفة على إجازة الوارث، فصار ذلك أصلا فيمن
عقد عقد بيع أو عتق أو هبة أو رهن أو إجارة على مال الغير أنه يقف على
إجازة مالكه; إذ كان عقدا له مالك يملك ابتداءه وإيقاعه، وقد دل أيضا
على أنه; إذ أوصى بأكثر من الثلث كانت موقوفة على إجازة الورثة، كما
وقفها النبي على إجازتهم إذا أوصى بها لوارث فهذه المعاني كلها في ضمن
قوله عليه السلام: "لا وصية لوارث إلا أن يجيزها الورثة".
وقد اختلف الفقهاء فيمن أوصى بأكثر من الثلث فأجازه الورثة قبل الموت،
فقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد وزفر والحسن بن صالح وعبيد الله بن
الحسن: إذا أجازوه في حياته لم يجز ذلك حتى يجيزوه بعد الموت وروي نحو
ذلك عن عبد الله بن مسعود وشريح وإبراهيم. وقال ابن أبي ليلى وعثمان
البتي: ليس لهم أن يرجعوا فيه بعد الموت، وهي جائزة عليهم. وقال ابن
القاسم عن مالك: إذا استأذنهم فكل وارث بائن عن الميت، مثل الولد الذي
قد بان عن أبيه والأخ وابن العم الذين ليسوا في عياله، فإنهم ليس لهم
أن يرجعوا، وأما امرأته وبناته اللاتي لم يبن منه، وكل من في عياله،
وإن كان قد احتلم فلهم أن يرجعوا، وكذلك العم وابن العم، ومن خاف منهم
إن لم يجز لحقه ضرر منه في قطع النفقة إن صح، فلهم أن يرجعوا. وروى ابن
وهب عن مالك في المريض يستأذن ورثته في الوصية لبعض ورثته فأذنوا له
فليس لهم أن يرجعوا في شيء من ذلك، ولو كان استأذنهم في الصحة فلهم أن
يرجعوا إن شاءوا، وإنما يجوز إذنهم في حال المرض لأنه يحجب عن ماله
بحقهم فيجوز ذلك عليهم وقول الليث في ذلك كقول مالك. ولا خلاف بين
الفقهاء أنهم إذا أجازوه بعد الموت فليس لهم أن يرجعوا فيه، وروي عن
طاوس وعطاء أنهم إذا أجازوه في الحياة جاز عليهم.
قال أبو بكر: عموم قوله عليه السلام: "لا وصية لوارث إلا أن يجيزها
الورثة" ينفي
(1/205)
جواز
الوصية في كل حال، فلما خص ذلك بقوله "إلا أن يجيزها الورثة" وهم إنما
يكونون ورثة على الحقيقة بعد الموت لا قبله، فالمخصوص من الجملة
إجازتهم بعد الموت. وما عدا ذلك فهو محمول على عموم بقية الوصية،
والنظر يدل على ذلك; إذ ليسوا مالكين للمال في حال الحياة فلا تعمل
إجازتهم فيه كما لا تجوز هبتهم ولا بيعهم، وإن حدث الموت بعده فالإجازة
أبعد من ذلك، ولما كان الموصى له إنما تقع الوصية له بعد الموت، فكذلك
الإجازة حكمها أن يكون في حال وقوع الوصية، وأن لا تعمل الإجازة قبل
وقوعها. وأيضا لما كان للميت إبطال الوصية في حال الحياة مع كونه
مالكا، فالورثة أحرى بجواز الرجوع عما أجازوه، وإذا جاز لهم الرجوع فقد
علمت أن الإجازة لا تصح.
فإن قيل: لما كان حق الورثة ثابتا في ماله بالمرض ومن أجله منع ذلك في
المرض عن التصرف فيه بأكثر من الثلث كما منع بعد الموت وجب أن يكون حال
المرض حال الموت في باب لزومهم حكم الإجازة إذا أجازوا. قيل له: تصرف
المريض جائز عندنا في جميع ماله بالهبة، والصدقة، والعتق، وسائر معاني
التصرف ووجوهه، وإنما نسخ منها بعد الموت ما زاد على الثلث لثبوت حق
الورثة بالموت، وأما قبل ذلك فلا اعتبار بقول الوارث فيه، ألا ترى أن
الوارث ليس له أن يفسخ عقوده قبل الموت، وإنما ثبت له ذلك بعد الموت
عند ثبوت حقه في ماله؟ فكذلك إجازته قبل موته كلا إجازة، كما لا يعمل
فسخه في عقوده. وأما ما فرق به مالك بين من يخشى ضررا من جهته في ترك
الإجازة وبين من لا يخشى ذلك منه، فلا معنى له من قبل أن خشية الضرر من
جهته لا تمنع صحة عقوده، وقوله: إذ ليس يكسبه ذلك حكم المكره ألا ترى
أنه لو باع منه شيئا طلبه منه، وقال خشيت أن تقطع عني نفقته، وجرايته
بترك إجابته لم يكن ذلك عذرا في إبطال البيع؟ وكذلك لو استوهبه المريض
شيئا فوهبه له لم يكن ما يخافه بترك إجابته مؤثرا في هبته، فكان ذلك
بمنزلة من يخشى من قبله ضررا. فإذا لا اعتبار لخوف الضرر في قطع النفقة
والجراية في إيجاب العتق بين من هو في عياله أو ليس في عياله. والله
الموفق بمنه وكرمه.
(1/206)
باب تبديل الوصية.
قال الله تعالى: {فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ مَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا
إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ} قيل إن الهاء التي في قوله:
{فَمَنْ بَدَّلَهُ} عائدة على الوصية، وجائز فيها التذكير; لأن الوصية،
والإيصاء واحد. وأما الهاء في قوله: {إِثْمُهُ} فإنما هي عائدة على
التبديل المدلول عليه
(1/206)
بقوله:
{فَمَنْ بَدَّلَهُ}. وقوله: {فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ مَا سَمِعَهُ}
يحتمل أن يريد به الشاهد على الوصية، فيكون معناه زجره عن التبديل، على
نحو قوله تعالى: {ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهَادَةِ عَلَى
وَجْهِهَا} [المائدة: 108] ويحتمل أن يريد الوصي لأنه هو المتولي
لإمضائها، والمالك لتنفيذها، فمن أجل ذلك قد أمكنه تغييرها. ويبعد أن
يكون ذلك عموما في سائر الناس; إذ لا مدخل لهم في ذلك، ولا تصرف لهم
فيه، وهو عندنا على المعنيين الأولين من الشاهد والوصي لاحتال اللفظ
لهما، والشاهد إذا احتيج إليه مأمور بأداء ما سمع على وجهه من غير
تغيير ولا تبديل، والوصي مأمور بتنفيذها على حسب ما سمعه مما تجوز
الوصية به.
وروي عن عطاء ومجاهد قالا: هي الوصية تصيب الولي الشاهد.، وقال الحسن:
هي الوصية من سمع الوصية ثم بدلها بعدما سمعها فإنما إثمها على من
بدلها.
قال أبو بكر: وجائز أن يكون الحاكم مرادا بذلك لأن له فيه ولاية وتصرفا
إذا رفع إليه، فيكون مأمورا بإمضائها إذا جازت في الحكم منهيا عن
تبديلها، وفيها الأمر بإمضائها وتنفيذها على الحق والصدق.
وقوله: {فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ مَا سَمِعَهُ} قد اقتضى جواز تنفيذ
الوصي ما سمعه من وصية الموصي، كان عليها شهود أو لم تكن. وهو أصل في
كل من سمع شيئا فجائز إمضاؤه عند الإمكان على مقتضاه وموجبه من غير حكم
حاكم، ولا شهادة شهود فقد دل على أن الميت متى أقر بدين لرجل بعينه عند
الوصية فجائز له أن يقضيه من غير علم وارث ولا حاكم ولا غيره لأن في
تركه ذلك بعد السماع تبديلا لوصية الموصي.
وقوله: {فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ} قد حوى
معان: أحدها: أنه معلوم أن ذلك عطف على الوصية المفروضة كانت للوالدين
والأقربين، وهي لا محالة مضمرة فيه، لولا ذلك لم يستقم الكلام لأن
قوله: {فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ مَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ
عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ} غير مستقل بنفسه في إيجاب الفائدة لما
انتظم من الكناية والضمير اللذين لا بد لهما من مظهر مذكور، وليس في
الآية مظهر غير ما تقدم ذكره في أولها، وإذا كان كذلك فقد أفادت الآية
سقوط الفرض عن الموصي بنفس الوصية، وأنه لا يلحقه بعد ذلك من مأثم
التبديل شيء بعد موته.
وفيه دلالة على بطلان قول من أجاز تعذيب الأطفال بذنوب آبائهم، وهو
نظير قوله: {وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا وَلا تَزِرُ
وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام: 164]. وقد دلت الآية أيضا على أن
من كان عليه دين فأوصى بقضائه أنه قد برئ من تبعته في
(1/207)
الآخرة،
وأن ترك الورثة قضاءه بعد موته لا يلحقه تبعة ولا إثم، وأن إثمه على من
بدله دون من أوصى به.
وفيه الدلالة على أن من كان عليه زكاة ماله فمات ولم يوص به أنه قد صار
مفرطا مانعا مستحقا لحكم مانعي الزكاة; لأنها لو كانت قد تحولت في
المال حسب تحول الديون لكان بمنزلة من أوصى بها عند الموت فينجو من
مأثمها، ويكون حينئذ المبدل لها مستحقا لمأثمها. وكذلك حكى الله تعالى
عن مانع الزكاة عند الموت سؤال الرجعة في قوله: {وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا
رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ
فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ
فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ} [المنافقون: 10] فأخبر
بحصول التفريط وفوات الأداء، إذ لو كان الأداء باقيا على الوارث أو
الوصي من ميراث الميت لكانوا هم المستحقين للوم والتعنيف في تركه وكان
الميت خارجا عن حكم التفريط، فدل ذلك على صحة ما وصفنا من امتناع وجوب
أداء زكاته من ميراثه من غير وصية منه به.
فإن قيل: هل يفترق حكم الموصي عند الله في حال تنفيذ وصيته أو تبديلها،
وهل يكون ما يستحقه من الثواب في الحالين سواء؟ قيل له: إن وصية الموصي
قد تضمنت شيئين: أحدهما: استحقاقه الثواب على الله بوصيته، والآخر: أن
وصول ذلك إلى الموصى له يستوجب منه الشكر لله والدعاء للموصي، وذلك لا
يكون ثوابا للموصي ولكن الموصي يصل إليه من دعاء الموصى له وشكره لله
تعالى جزاء له لا للموصي، فينتفع الموصي بذلك من وجهين: إذا أنفذت
الوصية، ومتى لم تنفذ كان نفعه مقصورا على الثواب الذي استحقه بوصيته
دون غيرها.
فإن قيل: فمن كان عليه دين فلم يوص بقضائه وقضاه الورثة هل يبرأ الميت
من تبعته؟ قيل له: امتناعه من قضاء الدين قد تضمن شيئين. أحدهما: حق
الله تعالى، والآخر: حق الآدمي; فإذا استوفى الآدمي حقه فقد برئ من
تبعته وبقي من حق الآدمي ما أدخل عليه من الظلم والضرر بتأخيره، فإذا
لم يتب منه كان مؤاخذا به في الآخرة وبقي حق الله، وهو الظلم الواقع
منه في حياته لم تكن توبة منه فيه، فهو مؤاخذ به فيما بينه وبين الله
تعالى; ألا ترى أن من غصب من رجل مالا، وأصر على منعه كان مكتسبا بذلك
المأثم من وجهين: أحدهما: حق الله بارتكاب نهيه، والآخر: حق الآدمي
بظلمه له وإضراره به؟ فلو أن الآدمي أخذ حقه منه من غير إرادة الغاصب
لذلك لكان قد برئ من حقه وبقي حق الله يحتاج إلى التوبة منه، فإذا مات
غير تائب كانت تبعته باقية عليه لاحقة به.
وقوله تعالى: {فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ مَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا
إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ} إنما هو فيمن بدل ذلك إذا
وقع على وجه الصحة والجواز والعدل، فأما إذا كانت الوصية جورا
(1/208)
فالواجب
تبديلها وردها إلى العدل، قال الله تعالى: {غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً
مِنَ اللَّهِ} [النساء: 12] فإنما تنفذ الوصية إذا وقعت عادلة غير
جائرة. وقد بين الله تعالى ذلك في الآية التي تليها.
(1/209)
باب الشاهد و الوصي إذا علما الجور في الوصية
...
باب الشاهد والوصي إذا علما الجور في الوصية
قال الله تعالى: {فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفاً أَوْ إِثْماً
فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ}. قال أبو بكر: حدثنا عبد
الله بن محمد بن إسحاق قال: حدثنا الحسن بن أبي الربيع قال: حدثنا عبد
الرزاق قال: أخبرنا معمر عن قتادة في قوله تعالى: {فَمَنْ خَافَ مِنْ
مُوصٍ جَنَفاً أَوْ إِثْماً} قال: "هو الرجل يوصي فيجنف في وصيته
فيردها الولي إلى العدل والحق". وروى أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس
قال: الجنف الخطأ والإثم العمد. وروى ابن أبي نجيح عن مجاهد، وابن طاوس
عن أبيه: {فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفاً أَوْ إِثْماً} قال: "هو
الموصي لابن ابنه يريد لبنيه". وروى المعتمر بن سليمان عن أبيه عن
الحسن في الرجل يوصي للأباعد ويترك الأقارب قال: يجعل وصيته ثلاثة
أثلاث: للأقارب الثلثين، وللأباعد الثلث. وروي عن طاوس في الرجل يوصي
للأباعد قال: ينتزع منهم فيدفع للأقارب إلا أن يكون فيهم فقير.
قال أبو بكر: الجنف الميل عن الحق، وقد حكينا عن الربيع بن أنس أنه
قال: "الجنف الخطأ" ويجوز أن يكون مراده الميل عن الحق على وجه الخطإ،
والإثم ميله عنه على وجه العمد; وهو تأويل مستقيم. وتأوله الحسن على
الوصية للأجنبي، وله أقرباء أن ذلك جنف وميل عن الحق; لأن الوصية كانت
عنده للأقارب الذين لا يرثون. وتأوله طاوس على معنيين، أحدهما: الوصية
للأباعد فترد إلى الأقارب، والآخر: أن من يوصي لابن ابنته يريد ابنته.
وقد نسخ وجوب الوصية للوالدين والأقربين: {فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ
جَنَفاً أَوْ إِثْماً} غير موجب أن يكون هذا الحكم مقصورا على الوصية
المذكورة قبلها; لأنه كلام مستقل بنفسه يصح ابتداء الخطاب به غير مضمن
بما قبله، فهو عام في سائر الوصايا إذا عدل بها عن جهة العدل إلى
الجور، منتظمة للوصية التي كانت واجبة للوالدين والأقربين في حال بقاء
وجوبها، وشاملة لسائر الوصايا غيرها; فمن خاف من سائر الناس من موص
ميلا عن الحق وعدولا إلى الجور فالواجب عليه إرشاده إلى العدل والصلاح.
ولا يختص بذلك الشاهد والوصي والحاكم دون سائر الناس; لأن ذلك من باب
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
فإن قيل: فما معنى قوله تعالى: {فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفاً أَوْ
إِثْماً فَأَصْلَحَ
(1/209)
بَيْنَهُمْ} والخوف إنما يختص بما يمكن وقوعه في المستقبل، وأما الماضي
فلا يكون فيه خوف؟ قيل له: يجوز أن يكون قد ظهر له من أحوال الموصي ما
يغلب معه على ظنه أنه يريد الجور وصرف الميراث عن الوارث، فعلى من خاف
ذلك منه رده إلى العدل ويخوفه ذميم عاقبة الجور أو يدخل بين الموصى له
وبين الورثة على وجه الصلاح. وقد قيل إن معنى قوله: {فَمَنْ خَافَ} أنه
علم أن فيها جورا فيردها إلى العدل. وإنما قال تعالى: {فَلا إِثْمَ
عَلَيْهِ} ولم يقل فعليه ردها إلى العدل والصلاح ولا ذكر له فيه
استحقاق الثواب; لأن أكثر أحوال الداخلين بين الخصوم على وجه الإصلاح
أن يسألوا كل واحد منهما ترك بعض حقه، فيسبق مع هذه الحال إلى ظن
المصلح أن ذلك غير سائغ له; ولأنه إنما يعمل في كثير منه على غالب ظنه
دون الحقيقة، فرخص الله تعالى في الإصلاح بينهم، وأزال ظن الظان
لامتناع جواز ذلك، فلذلك قال: {فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ} في هذا الموضع،
وقد وعد بالثواب على مثله في غيره، فقال تعالى: {لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ
مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ
إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ
اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً} [النساء: 114].
وروي في تغليظ الجنف في الوصية ما حدثنا عبد الباقي بن قانع قال: حدثنا
أحمد بن الحسن قال: حدثنا عبد الصمد بن حسان قال: حدثنا سفيان الثوري
عن عكرمة عن ابن عباس قال: "الإضرار في الوصية من الكبائر" ثم قرأ:
{تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوهَا} [البقرة: 229].
وحدثنا عبد الباقي قال: حدثنا القاسم بن زكريا ومحمد بن الليث قالا:
حدثنا عبد الله بن يوسف قال: حدثنا عمر بن المغيرة عن داود بن أبي هند
عن عكرمة عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الإضرار
في الوصية من الكبائر".
وحدثنا عبد الباقي قال: حدثنا طاهر بن عبد الرحمن بن إسحاق القاضي:
حدثنا يحيى بن معين قال: حدثنا عبد الرزاق قال: أخبرنا معمر عن أشعث عن
شهر بن حوشب عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن
الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة سبعين سنة فإذا أوصى حاف في وصيته فيختم له
بشر عمله فيدخل النار، وإن الرجل ليعمل بعمل أهل النار سبعين سنة فيعدل
في وصيته فيختم له بخير عمله فيدخل الجنة".
وحدثنا محمد بن بكر قال: حدثنا أبو داود قال: حدثنا عبدة بن عبد الله
قال: حدثنا عبد الصمد بن عبد الوارث قال: حدثنا نصر بن علي الحداني
قال: حدثني الأشعث بن جابر قال: حدثني شهر بن حوشب، أن أبا هريرة حدثه،
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن
(1/210)
الرجل
والمرأة ليعملان بطاعة الله ستين سنة ثم يحضرهما الموت فيضاران في
الوصية فتجب لهما النار" ثم قرأ علي أبو هريرة من ههنا: {مِنْ بَعْدِ
وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ} حتى بلغ:
{وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}.
فهذه الأخبار مع ما قدمنا توجب على من علم جنفا في الوصية من موص أن
يرده إلى العدل إذا أمكنه ذلك.
فإن قيل: على ماذا يعود الضمير الذي في قوله: {بَيْنَهُمْ} ؟ قيل له:
لما ذكر الله الموصي أفاد بفحوى الخطاب أن هناك موصى له ووارثا
تنازعوا، فعاد الضمير إليهم بفحوى الخطاب في الإصلاح بينهم; وأنشد
الفراء:
وأدري إذا يممت أرضا ... أريد الخير أيهما يليني
الخير الذي أنا أبتغيه ... أم الشر الذي هو يبتغيني
فكنى في البيت الأول عن الشر بعد ذكر الخير وحده لما في فحوى اللفظ من
الدلالة عليه عند ذكر الخير وغيره.
وقد قيل: إن الضمير عائد على المذكورين في ابتداء الخطاب، وهم الوالدان
والأقربون. وقد أفادت هذه الآية على أن على الوصي والحاكم والوارث وكل
من وقف على جور في الوصية من جهة الخطإ أو العمد ردها إلى العدل، ودل
على أن قوله تعالى: {فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ مَا سَمِعَهُ} خاص في
الوصية العادلة دون الجائرة.
وفيها الدلالة على جواز اجتهاد الرأي والعمل على غالب الظن; لأن الخوف
من الميل يكون في غالب ظن الخائف. وفيها رخصة في الدخول بينهم على وجه
الإصلاح مع ما فيه من زيادة أو نقصان عن الحق بعد أن يكون ذلك
بتراضيهم. والله الموفق.
(1/211)
باب فرض الصيام
قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ
الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ
تَتَّقُونَ} فالله تعالى أوجب علينا فرض الصيام بهذه الآية; لأن قوله
{كُتِبَ عَلَيْكُمُ} معناه فرض عليكم، كقوله: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ
الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ} وقوله: {إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ
عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَوْقُوتاً} [النساء: 103] يعني فرضا
مؤقتا. الصيام في اللغة هو الإمساك، قال الله تعالى: {إِنِّي نَذَرْتُ
لِلرَّحْمَنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيّاً} [مريم:
26] يعني صمتا، فسمى الإمساك عن الكلام صوما. ويقال: خيل صيام إذا كانت
ممسكة عن العلف، و"صامت الشمس نصف النهار" لأنها ممسكة عن السير
والحركة، فهذا حكم هذا اللفظ في اللغة.
(1/211)
وهو في
الشرع: اسم للكف عن الأكل والشرب وما في معناه، وعن الجماع في نهار
الصوم مع نية القربة أو الفرض. وهو لفظ مجمل مفتقر إلى البيان عند
وروده; لأنه اسم شرعي موضوع لمعان لم تكن معقولة في اللغة، إلا أنه بعد
ثبوت الفرض واستقرار أمر الشريعة قد عقل معناه الموضوع له فيها بتوقيف
النبي صلى الله عليه وسلم الأمة عليها.
وقوله تعالى: {كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} يعتوره
معان ثلاثة كل واحد منها مروي عن السلف; قال الحسن والشعبي وقتادة: إنه
كتب على الذين من قبلنا وهم النصارى شهر رمضان أو مقداره من عدد
الأيام، وإنما حولوه وزادوا فيه. وقال ابن عباس والربيع بن أنس والسدي:
كان الصوم من العتمة إلى العتمة ولا يحل بعد النوم مأكل ولا مشرب ولا
منكح، ثم نسخ. وقال آخرون: معناه أنه كتب علينا صيام أيام كما كتب
عليهم صيام أيام، ولا دلالة فيه على مساواته في المقدار بل جائز فيه
الزيادة والنقصان. وروي عن مجاهد وقتادة: الذين من قبلكم أهل الكتاب.
وروى عبد الرحمن بن أبي ليلى عن معاذ بن جبل قال: أحيل الصيام ثلاثة
أحوال، فقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة فجعل الصوم كل شهر
ثلاثة أيام ويوم عاشوراء، ثم إن الله تعالى فرض الصيام بقوله: {كُتِبَ
عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} وذكر نحو قول ابن عباس الذي قدمنا.
قال أبو بكر: لما لم يكن في قوله: {كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ
قَبْلِكُمْ} دلالة على المراد في العدد أو في صفة الصيام أو في الوقت
كان اللفظ مجملا، ولو علمنا وقت صيام من قبلنا وعدده كان جائزا أن يكون
مراده صفة الصيام وما حظر على الصائم فيه بعد النوم، فلم يكن لنا سبيل
إلى استعمال ظاهر اللفظ في احتذاء صوم من قبلنا، وقد عقبه تعالى بقوله:
{أَيَّاماً مَعْدُودَاتٍ} وذلك جائز وقوعه على قليل الأيام وكثيرها،
فلما قال تعالى: في نسق التلاوة: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ
فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى
وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} بين
بذلك عدد الأيام المعدودات ووقتها وأمر بصومها. وقد روي هذا المعنى عن
ابن أبي ليلى. وروي عن ابن عباس وعطاء أن المراد بقوله تعالى:
{أَيَّاماً مَعْدُودَاتٍ} صوم ثلاثة أيام من كل شهر قبل أن ينزل رمضان،
ثم نسخ برمضان.
قوله تعالى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ
فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} قال أبو بكر: ظاهره يقتضي جواز
الإفطار لمن لحقه الاسم سواء كان الصوم يضر أو لا; إلا أنا لا نعلم
خلافا أن المريض الذي لا يضره الصوم غير مرخص له في الإفطار، فقال أبو
حنيفة وأبو يوسف ومحمد: إذا خاف أن تزداد عينه وجعا أو حماه شدة أفطر.
وقال مالك في الموطأ: من أجهده الصوم أفطر وقضى ولا كفارة عليه، والذي
سمعته أن
(1/212)
المريض
إذا أصابه المرض وشق عليه فيه الصيام فيبلغ منه ذلك، فله أن يفطر ويقضي
قال مالك: وأهل العلم يرون على الحامل إذا اشتد عليها الصيام الفطر
والقضاء ويرون ذلك مرضا من الأمراض. وقال الأوزاعي: أي مرض إذا مرض
الرجل حل له الفطر، فإن لم يطق أفطر، فأما إذا أطاق وإن شق عليه فلا
يفطر. وقال الشافعي: إذا ازداد مرض المريض شدة زيادة بينة أفطر، وإن
كانت زيادة محتملة لم يفطر. فثبت باتفاق الفقهاء أن الرخصة في الإفطار
للمريض موقوفة على زيادة المرض بالصوم، وأنه ما لم يخش الضرر فعليه أن
يصوم.
ويدل على أن الرخصة في الإفطار للمريض متعلقة بخوف الضرر ما روى أنس بن
مالك القشيري عن النبي عليه السلام: "إن الله وضع عن المسافر شطر
الصلاة والصوم وعن الحامل والمرضع" ومعلوم أن رخصتهما موقوفة على خوف
الضرر على أنفسهما أو على ولديهما، فدل ذلك على أن جواز الإفطار في
مثله متعلق بخوف الضرر إذ الحامل والمرضع صحيحتان لا مرض بهما. وأبيح
لهما الإفطار لأجل الضرر.
وأباح الله تعالى للمسافر الإفطار، وليس للسفر حد معلوم في اللغة يفصل
به بين أقله وبين ما هو دونه، فإذا كان ذلك كذلك وقد اتفقوا على أن
للسفر المبيح للإفطار مقدارا معلوما في الشرع واختلفوا فيه، فقال
أصحابنا: مسيرة ثلاثة أيام ولياليها وقال آخرون: مسيرة يومين وقال
آخرون: مسيرة يوم ولم يكن للغة في ذلك حظ; إذ ليس فيها حصر أقله بوقت
لا يجوز النقصان منه; لأنه اسم مأخوذ من العادة، وكل ما كان حكمه
مأخوذا من العادة فغير ممكن تحديده بأقل القليل; وقد قيل إن السفر مشتق
من السفر الذي هو الكشف من قولهم سفرت المرأة عن وجهها، وأسفر الصبح
إذا أضاء، وسفرت الريح السحاب إذا قشعته والمسفرة المكنسة; لأنها تسفر
عن الأرض بكنس التراب، وأسفر وجهه إذا أضاء وأشرق، ومنه قوله تعالى:
{وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ} يعني مشرقة مضيئة; فسمي الخروج إلى
الموضع البعيد سفرا; لأنه يكشف عن أخلاق المسافر وأحواله; ومعلوم أنه
إذا كان معنى السفر ما وصفنا أن ذلك لا يتبين في الوقت اليسير واليوم
واليومين; لأنه قد يتصنع في الأغلب لمثل هذه المسافة فلا يظهر فيه ما
يكشفه البعيد من أخلاقه، فإن اعتبر بالعادة علمنا أن المسافة القريبة
لا تسمى سفرا والبعيدة تسمى، إلا أنهم اتفقوا على أن الثلاثة سفر صحيح
فيما يتعلق به من أحكام الشرع. فثبت أن الثلاث سفر وما دونها لم يثبت
لعدم معنى الاسم فيه وفقد التوقيف والاتفاق بتحديده. وأيضا قد روي عن
النبي صلى الله عليه وسلم أخبار تقتضي اعتبار الثلاث في كونها سفرا في
أحكام الشرع، فمنها حديث ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم: "أنه
نهى أن تسافر
(1/213)
امرأة
ثلاثة أيام إلا مع ذي محرم". واختلف الرواة عن أبي سعيد الخدري عن
النبي صلى الله عليه وسلم فقال بعضهم: "ثلاثة أيام" وقال بعضهم:
"يومين" فهذه الألفاظ المختلفة قد رويت في حديث أبي سعيد عن النبي صلى
الله عليه وسلم. واختلف أيضا عن أبي هريرة، فروى سفيان عن عجلان عن
سعيد بن أبي سعيد عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا
تسافر امرأة فوق ثلاثة أيام إلا ومعها ذو محرم" وروى كثير بن زيد، عن
سعيد بن أبي سعيد المقبري، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله
عليه وسلم: "يا نساء المؤمنات لا تخرج امرأة من مسيرة ليلة إلا مع ذي
محرم". وكل واحد من أخبار أبي سعيد وأبي هريرة إنما هو خبر واحد اختلفت
الرواة في لفظه، ولم يثبت أنه عليه السلام قال ذلك في أحوال، فالواجب
أن يكون خبر الزائد أولى وهو الثلاث; لأنه متفق على استعماله وما دونها
مختلف فيه فلا يثبت لاختلاف الرواة فيه. وأخبار ابن عمر لا اختلاف
فيها، فهي ثابتة وفيها ذكر الثلاث، ولو أثبتنا ذكر أخبار أبي سعيد وأبي
هريرة على اختلافها لكان أكثر أحوالها أن تتضاد، وتسقط كأنها لم ترد،
وتبقى لنا أخبار ابن عمر في اعتبار الثلاث من غير معارض.
فإن قيل: أخبار أبي سعيد وأبي هريرة غير متعارضة; لأنا نثبت جميع ما
روي فيها من التوقيت، فنقول: لا تسافر يوما ولا يومين ولا ثلاثة. قيل
له: متى استعملت ما دون الثلاث فقد ألغيت الثلاث وجعلت ورودها وعدمها
بمنزلة، فأنت غير مستعمل لخبر الثلاث مع استعمالك خبر ما دونها، وإذا
لم يكن إلا استعمال بعضها وإلغاء البعض فاستعمال خبر الثلاث أولى لما
فيه من ذكر الزيادة; وأيضا قد يمكن استعمال الثلاث مع إثبات فائدة
الخبر في اليوم واليومين، وهو أنها متى أرادت سفر الثلاث لم تخرج اليوم
ولا اليومين من الثلاث إلا مع ذي محرم وقد يجوز أن يظن ظان أنه لما حد
الثلاث فمباح لها الخروج يوما أو يومين مع غير ذي محرم وإن أرادت سفر
الثلاث، فأبان عليه السلام حظر ما دونها متى أرادتها.
وإذا ثبت تقدير الثلاث في حظر الخروج إلا مع ذي محرم ثبت ذلك تقديرا في
إباحة الإفطار في رمضان من وجهين: أحدهما: أن كل من اعتبر في خروج
المرأة الثلاث اعتبرها في إباحة الإفطار، وكل من قدره بيوم أو يومين
كذلك قدره في الإفطار. والوجه الآخر: أن الثلاث قد تعلق بها حكم وما
دونها لم يتعلق به حكم في الشرع، فوجب تقديرها في إباحة الإفطار; لأنه
حكم متعلق بالوقت المقدر، وليس فيما دون الثلاث حكم يتعلق به، فصار
بمنزلة خروج ساعة من النهار. وأيضا ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم
أنه رخص في المسح للمقيم يوما وليلة وللمسافر ثلاثة أيام ولياليها،
ومعلوم أن ذلك ورد مورد بيان الحكم لجميع المسافرين; لأن ما ورد مورد
البيان فحكمه أن يكون شاملا
(1/214)
لجميع ما
اقتضى البيان من التقدير، فما من مسافر إلا وهو الذي يكون سفره ثلاثا،
ولو كان ما دون الثلاث سفرا في الشرع لكان قد بقي مسافر لم يتبين حكمه
ولم يكن اللفظ مستوعبا لجميع ما اقتضى البيان وذلك يخرجه عن حكم
البيان. ومن جهة أخرى أن المسافر اسم للجنس لدخول الألف واللام عليه،
فما من مسافر إلا وقد انتظمه هذا الحكم، فثبت أن من خرج عنه فليس
بمسافر يتعلق بسفره حكم، وفي ذلك أوضح الدلالة على أن السفر الذي يتعلق
به الحكم هو سفر ثلاث وأن ما دونه لا حكم له في إفطار ولا قصر. ومن جهة
أخرى أن هذا الضرب من المقادير لا يؤخذ من طريق المقاييس، وإنما طريق
إثباته الاتفاق والتوقيف، فلما عدمنا فيما دون الثلاث الاتفاق والتوقيف
وجب الوقوف عند الثلاث لوجود الاتفاق فيه أنه سفر يبيح الإفطار. وأيضا
لما كان لزوم فرض الصوم هو الأصل واختلفوا في مدة رخصة الإفطار، لم يجز
لنا عند الاختلاف ترك الفرض إلا بالإجماع وهو الثلاث; لأن الفروض يحتاط
لها، ولا يحتاط عليها; وقد روي عن عبد الله بن مسعود وعمار وابن عمر
أنه لا يفطر في أقل من الثلاث.
وقوله تعالى: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ
مِسْكِينٍ} اختلف الفقهاء من السلف في تأويله، فروى المسعودي عن عمرو
بن مرة عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن معاذ بن جبل قال: أحيل الصيام على
ثلاثة أحوال ثم أنزل الله: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} إلى قوله:
{وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} فكان من
شاء صام ومن شاء أفطر وأطعم مسكينا وأجزى عنه، ثم أنزل الله الآية
الأخرى {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ} إلى
قوله: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} فأثبت الله
تعالى صيامه على المقيم الصحيح، ورخص فيه للمريض والمسافر، وثبت
الإطعام للكبير الذي لا يستطيع الصيام. وعن عبيد الله بن مسعود وابن
عمر وابن عباس وسلمة بن الأكوع وعلقمة والزهري وعكرمة في قوله:
{وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} قال: كان
من شاء صام ومن شاء أفطر وافتدى وأطعم كل يوم مسكينا، حتى نزل: {فَمَنْ
شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ}. وروي فيه وجه آخر، وهو ما
روى عبد الله بن موسى عن إسرائيل عن أبي إسحاق عن الحارث عن علي كرم
الله وجهه قال: من أتى عليه رمضان وهو مريض أو مسافر فليفطر وليطعم كل
يوم مسكينا صاعا، فذلك قوله: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ
طَعَامُ مِسْكِينٍ}. ووجه آخر، وهو ما روى منصور عن مجاهد عن ابن عباس:
أنه كان يقرؤها: وعلى الذين يطوقونه فدية طعام مسكين قال: الشيخ الكبير
الذي كان يطيق الصوم وهو شاب فأدركه الكبر وهو لا يستطيع أن يصوم من
ضعف، ولا يقدر أن يترك الطعام فيفطر ويطعم عن كل يوم مسكينا نصف صاع.
وعن سعيد بن المسيب مثله.
(1/215)
وكانت
عائشة تقرأ: وعلى الذين يطوقونه. وروى خالد الحذاء عن عكرمة أنه كان
يقرأ: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ} قال إنها ليست بمنسوخة. وروى
الحجاج عن أبي إسحاق عن الحارث عن علي: {وَعَلَى الَّذِينَ
يُطِيقُونَهُ} قال: الشيخ والشيخة.
قال أبو بكر: فقالت الفرقة الأولى من الصحابة والتابعين، وهم الأكثرون
عددا إن فرض الصوم بديا نزل على وجه التخيير لمن يطيقه بين الصيام وبين
الفدية، وإنه نسخ عن المطيق بقوله: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ
فَلْيَصُمْهُ} وقالت الفرقة الثانية: هي غير منسوخة، بل هي ثابتة على
المريض والمسافر يفطران ويقضيان وعليهما الفدية مع القضاء. وكان ابن
عباس وعائشة وعكرمة وسعيد بن المسيب يقرءونها: وعلى الذين يطوقونه
فاحتمل هذا اللفظ معان، منها: ما بينه ابن عباس أنه أراد الذين كانوا
يطيقونه ثم كبروا فعجزوا عن الصوم فعليهم الإطعام. والمعنى الآخر: أنهم
يكلفونه على مشقة فيه، وهم لا يطيقونه لصعوبته، فعليهم الإطعام. ومعنى
آخر; وهو أن حكم التكليف يتعلق عليهم وإن لم يكونوا مطيقين للصوم فيقوم
لهم الفدية مقام ما لحقهم من حكم تكليف الصوم، ألا ترى أن حكم تكليف
الطهارة بالماء قائم على المتيمم، وإن لم يقدر عليه حتى أقيم التراب
مقامه، ولولا ذلك لما كان التيمم بدلا منه. وكذلك حكم تكليف الصلاة
قائم على النائم والناسي في باب وجوب القضاء لا على وجه لزمه بالترك،
فلما أوجب تعالى عليه الفدية في حال العجز والإياس عن القضاء أطلق فيه
اسم التكليف بقوله: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ} إذ كانت الفدية
هي ما قام مقام غيره. فالقراءتان على هذا الوجه مستعملتان إلا أن
الأولى، وهي قوله: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ} لا محالة منسوخة
لما ذكره من روينا عنه من الصحابة وأخبارهم عن كيفية الفرض وصفته بديا،
وأن المطيق للصوم منهم كان مخيرا بين الصيام والإفطار والفدية. وليس
هذا من طريق الرأي; لأنه حكاية حال شاهدوها وعلموا أنها بتوقيف من
النبي صلى الله عليه وسلم إياهم عليها. وفي مضمون الخطاب من أوضح
الدلالة على ذلك ما لو لم يكن معنا رواية عن السلف في معناه لكان كافيا
في الإبانة عن مراده، وهو قوله تعالى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً
أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} فابتدأ تعالى ببيان
حكم المريض والمسافر وأوجب عليهما القضاء إذا أفطرا، ثم عقبه بقوله:
{وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} فغير
جائز أن يكون هؤلاء هم المرضى والمسافرين; إذ قد تقدم ذكر حكمهما وبيان
فرضهما بالاسم الخاص لهما، فغير جائز أن يعطف عليهما بكناية عنهما مع
تقديمه ذكرهما منصوصا معينا; ومعلوم أن ما عطف عليه فهو غيره; لأن
الشيء لا يعطف على نفسه. ويدل على أن المراد المقيمون المطيقون للصوم،
أن المريض المذكور في الآية هو الذي يخاف ضرر الصوم، فكيف يعبر عنه
(1/216)
بإطاقة
الصوم، وهو إنما رخص له لفقد الإطاقة وللضرر المخوف منه؟ ويدل على ذلك
ما ذكره في نسق التلاوة من قوله تعالى: {وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ
لَكُمْ} وليس الصوم خيرا للمريض الخائف على نفسه، بل هو في هذه الحال
منهي عن الصوم. ويدل على أن المريض والمسافر لم يرادا بالفدية وأنه لا
فدية عليهما، أن الفدية ما قام مقام الشيء، وقد نص الله تعالى على
إيجاب القضاء على المريض والمسافر، والقضاء قائم مقام الفرض فلا يكون
الإطعام حينئذ فدية وفي ذلك دلالة على أنه لم يرد بالفدية المريض
والمسافر، فقوله تعالى: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ
طَعَامُ مِسْكِينٍ} منسوخ بما قدمنا. وهذه الآية تدل على أن أصل الفرض
كان الصوم، وأنه جعل له العدول عنه إلى الفدية على وجه البدل عن الصوم;
لأن الفدية ما يقوم مقام الشيء، ولو كان الإطعام مفروضا في نفسه كالصوم
على وجه التخيير لما كان بدلا كما أن المكفر عن يمينه بما شاء من
الثلاثة الأشياء لا يكون ما كفر به منها بدلا ولا فدية عن غيرها. وإن
حمل معناه على قول من قال: المراد به الشيخ الكبير لم يكن منسوخا ولكن
يحتاج إلى ضمير، وهو وعلى الذين كانوا يطيقونه ثم عجزوا بالكبر مع
اليأس عن القضاء وغير جائز إثبات ذلك إلا باتفاق أو توقيف. ومع ذلك فيه
إزالة اللفظ عن حقيقته وظاهره من غير دلالة تدل عليه، وعلى أن في حمله
على ذلك إسقاط فائدة قوله: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ} لأن الذين
كانوا يطيقونه بعد لزوم الفرض، والذين لحقهم فرض الصوم وهم عاجزون عنه
بالكبر سواء في حكمه، ويحمل معناه على أن الشيخ الكبير العاجز عن الصوم
الميئوس من القضاء عليه الفدية، فسقط فائدة قوله: {وَعَلَى الَّذِينَ
يُطِيقُونَهُ} إذ لم يتعلق فيه بذكر الإطاقة حكم ولا معنى. وقراءة من
قرأ: يطوقونه يحتمل الشيخ الميئوس منه القضاء من إيجاب الفدية عليه;
لأن قوله يطوقونه قد اقتضى تكليفهم حكم الصوم مع مشقة شديدة عليهم في
فعله وجعل لهم الفدية قائمة مقام الصوم; فهذه القراءة إذا كان معناها
ما وصفنا فهي غير منسوخة بل هي ثابتة الحكم; إذ كان المراد بها الشيخ
الميئوس منه القضاء العاجز عن الصوم، والله الموفق بمنه وكرمه.
(1/217)
ذكر اختلاف الفقهاء في الشيخ الفاني
قال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد وزفر: "الشيخ الكبير الذي لا يطيق
الصيام يفطر ويطعم عنه كل يوم نصف صاع من حنطة ولا شيء عليه غير ذلك".
وقال الثوري: يطعم ولم يذكر مقداره. وقال المزني عن الشافعي: يطعم مدا
من حنطة كل يوم. وقال ربيعة ومالك: لا أرى عليه الإطعام، وإن فعل فحسن.
قال أبو بكر: قد ذكرنا في تأويل الآية ما روي عن ابن عباس في قراءته:
وعلى
(1/217)
الذين
يطوقونه وأنه الشيخ الكبير، فلولا أن الآية محتملة لذلك لما تأولها ابن
عباس ومن ذكر ذلك عنه عليه، فوجب استعمال حكمها من إيجاب الفدية في
الشيخ الكبير. وقد روي عن علي أيضا أنه تأول قوله: {وَعَلَى الَّذِينَ
يُطِيقُونَهُ} على الشيخ الكبير. وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم:
"من مات وعليه صوم فليطعم عنه وليه مكان كل يوم مسكينا" وإذا ثبت ذلك
في الميت الذي عليه الصيام فالشيخ أولى بذلك من الميت لعجز الجميع عن
الصوم.
فإن قيل: هلا كان الشيخ كالمريض الذي يفطر في رمضان ثم لا يبرأ حتى
يموت ولا يلزمه القضاء؟ قيل له: لأن المريض مخاطب بقضائه في أيام أخر
فإنما تعلق الفرض عليه في أيام القضاء، لقوله: {فَعِدَّةٌ مِنْ
أَيَّامٍ أُخَرَ} فمتى لم يلحق العدة لم يلزمه شيء، كمن لم يلحق رمضان
وأما الشيخ فلا يرجى له القضاء في أيام أخر فإنما تعلق عليه حمل الفرض
في إيجاب الفدية في الحال، فاختلفا من أجل ذلك. وقد ذكرنا قول السلف في
الشيخ الكبير وإيجاب الفدية عليه في الحال من غير خلاف أحد من نظرائهم،
فصار ذلك إجماعا لا يسع خلافه. وأما الوجه في إيجاب الفدية نصف صاع من
بر فهو ما حدثنا عبد الباقي بن قانع قال: حدثنا أخو خطاف قال: حدثنا
محمد بن عبد الله بن سعيد المستملي قال: حدثنا إسحاق الأزرق، عن شريك،
عن ابن أبي ليلى، عن نافع، عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله
عليه وسلم: "من مات وعليه رمضان فلم يقضه فليطعم عنه مكان كل يوم نصف
صاع لمسكين". وإذا ثبت ذلك في المفطر في رمضان إذا مات ثبت في الشيخ
الكبير من وجوه: أحدها: أنه عموم في الشيخ الكبير وغيره; لأن الشيخ
الكبير قد تعلق عليه حكم التكليف على ما وصفنا، فجائز بعد موته أن يقال
إنه قد مات وعليه صيام رمضان فقد تناوله عموم اللفظ. ومن جهة أخرى: أنه
قد ثبت أن المراد بالفدية المذكورة في الآية هذا المقدار، وقد أريد بها
الشيخ الكبير، فوجب أن يكون ذلك هو المقدار الواجب عليه. ومن جهة أخرى:
أنه إذا ثبت ذلك فيمن مات وعليه قضاء رمضان وجب أن يكون ذلك مقدار فدية
الشيخ الكبير; لأن أحدا من موجبي الفدية على الشيخ الكبير لم يفرق
بينهما. وقد روي عن ابن عباس وقيس بن السائب، الذي كان شريك رسول الله
صلى الله عليه وسلم في الجاهلية، وعائشة وأبي هريرة وسعيد بن المسيب في
الشيخ الكبير أنه يطعم عن كل يوم نصف صاع بر وأوجب النبي صلى الله عليه
وسلم على كعب بن عجرة إطعام ستة مساكين كل مسكين نصف صاع بر وهذا يدل
على أن تقدير فدية الصوم بنصف صاع أولى منه بالمد لأن التخيير في الأصل
قد تعلق بين الصوم والفدية في كل واحد منهما. وقد روي عن ابن عمر
وجماعة من التابعين عن كل يوم مد والأول أولى لما رويناه عن
(1/218)
النبي صلى
الله عليه وسلم ولما عضده قول الأكثرين عددا من الصحابة والتابعين، وما
دل عليه من النظر.
وقوله تعالى: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ} قد اختلف في ضمير
كنايته، فقال قائلون: هو عائد على الصوم وقال آخرون: إلى الفدية.
والأول أصح; لأن مظهره قد تقدم والفدية لم يجر لها ذكر، والضمير إنما
يكون لمظهر متقدم. ومن جهة أخرى أن الفدية مؤنثة والضمير في الآية
للمذكر في قوله: {يُطِيقُونَهُ}. وقد دل ذلك على بطلان قول المجبرة
القائلين بأن الله يكلف عباده ما لا يطيقون، وأنهم غير قادرين على
الفعل قبل وقوعه ولا مطيقين له; لأن الله قد نص على أنه مطيق له قبل أن
يفعله بقوله: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ} فوصفه
بالإطاقة مع تركه للصوم والعدول عنه إلى الفدية، ودلالة اللفظ قائمة
على ذلك أيضا إذا كان الضمير هو الفدية; لأنه جعله مطيقا لها وإن لم
يفعلها وعدل إلى الصوم. وقوله عز وجل: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي
أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى
وَالْفُرْقَانِ} يدل على بطلان مذهب المجبرة في قولهم إن الله لم يهد
الكفار لأنه قد أخبر في هذه الآية أن القرآن هدى لجميع المكلفين، كما
قال في آية أخرى: {وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا
الْعَمَى عَلَى الْهُدَى} [فصلت: 17].
وقوله تعالى: {فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ} يجوز أن
يكون ابتداء كلام غير متعلق بما قبله; لأنه قائم بنفسه في إيجاب
الفائدة يصح ابتداء الخطاب به، فيكون حثا على التطوع بالطاعات. وجائز
أن يريد به التطوع بزيادة طعام الفدية; لأن المقدار المفروض منه نصف
صاع، فإن تطوع بصاع أو صاعين فهو خير له. وقد روي هذا المعنى عن قيس بن
السائب، أنه كبر فلم يقدر على الصوم فقال: "يطعم عن كل إنسان لكل يوم
مدين فأطعموا عني ثلاثا". وغير جائز أن يكون المراد أحد ما وقع عليه
التخيير فيه من الصيام أو الإطعام; لأن كل واحد منهما إذا فعله منفردا
فهو فرض لا تطوع فيه، فلم يجز أن يكون واحد منهما مراد الآية. وجائز أن
يكون المراد الجمع بين الصيام والطعام فيكون الفرض أحدهما والآخر
التطوع.
وأما قوله تعالى: {وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ} فإنه يدل على أن
أول الآية فيمن يطيق الصوم من الأصحاء المقيمين غير المرضى ولا
المسافرين ولا الحامل والمرضع وذلك لأن المريض الذي يباح له الإفطار هو
الذي يخاف ضرر الصوم، وليس الصوم بخير لمن كان هذا حاله; لأنه منهي عن
تعريض نفسه للتلف بالصوم; والحامل والمرضع لا تخلوان من أن يضر بهما
الصوم أو بولديهما، وأيهما كان فالإفطار خير لهما والصوم محظور عليهما.
وإن كان لا يضر بهما ولا بولديهما فعليهما الصوم وغير جائز لهما
(1/219)
الفطر،
فعلمنا أنهما غير داخلتين في قوله تعالى: {وَعَلَى الَّذِينَ
يُطِيقُونَهُ} وقوله: {وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ} عائد إلى من
تقدم ذكره في أول الخطاب، وجائز أن يكون قوله: {وَأَنْ تَصُومُوا
خَيْرٌ لَكُمْ} عائدا إلى المسافرين أيضا مع عوده على المقيمين
المخيرين بين الصوم والإطعام، فيكون الصوم خيرا للجميع، إذ كان أكثر
المسافرين يمكنهم الصوم في العادة من غير ضرر وإن كان الأغلب فيه
المشقة; ودلالته واضحة على أن الصوم في السفر أفضل من الإفطار وفيه
الدلالة على أن صوم يوم تطوعا أفضل من صدقة نصف صاع; لأنه في الفرض
كذلك; ألا ترى أنه لما خيره في الفرض بين صوم يوم وصدقة نصف صاع جعل
الصوم أفضل منها؟ فكذلك يجب أن يكون حكمهما في التطوع، والله الموفق.
(1/220)
باب الحامل و المرضع
...
باب الحامل والمرضع
قال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد وزفر والثوري والحسن بن حي: إذا خافتا
على ولديهما أو على أنفسهما فإنهما تفطران وتقضيان ولا كفارة عليهما.
وقال مالك في المرضع إذا خافت على ولدها ولا يقبل الصبي من غيرها:
فإنها تفطر وتقضي وتطعم عن كل يوم مدا مسكينا، والحامل إذا أفطرت لا
إطعام عليها; وهو قول الليث بن سعد. وقال مالك: وإن خافتا على أنفسهما
فهما مثل المريض. وقال الشافعي: إذا خافتا على ولديهما أفطرتا وعليهما
القضاء والكفارة، وإن لم تقدرا على الصوم فهما مثل المريض عليهما
القضاء بلا كفارة وروي عنه في البويطي أن الحامل لا إطعام عليها.
واختلف السلف في ذلك على ثلاثة أوجه; فقال علي كرم الله وجهه: عليهما
القضاء إذا أفطرتا ولا فدية عليهما، وهو قول إبراهيم والحسن وعطاء وقال
ابن عباس: عليهما الفدية بلا قضاء. وقال ابن عمر ومجاهد: عليهما الفدية
والقضاء. والحجة لأصحابنا ما حدثنا جعفر بن محمد بن أحمد الواسطي قال:
حدثنا أبو الفضل جعفر بن محمد بن اليمان قال: حدثنا أبو عبيد القاسم بن
سلام قال: حدثنا إسماعيل بن إبراهيم عن أيوب قال: حدثني أبو قلابة هذا
الحديث، ثم قال: هل لك في صاحب الحديث الذي حدثني؟ قال: فدلني عليه،
فلقيته، فقال: حدثني قريب لي يقال له أنس بن مالك قال: أتيت رسول الله
صلى الله عليه وسلم في إبل لجار لي أخذت، فوافقته وهو يأكل، فدعاني إلى
طعامه فقلت: إني صائم، فقال: "إذا أخبرك عن ذلك أن الله وضع عن المسافر
شطر الصلاة والصوم وعن الحامل والمرضع" قال: فكان يتلهف بعد ذلك يقول:
ألا أكون أكلت من طعام رسول الله صلى الله عليه وسلم حين دعاني. قال
أبو بكر: شطر الصلاة مخصوص به المسافر; إذ لا
(1/220)
خلاف أن
الحمل والرضاع لا يبيحان قصر الصلاة. ووجه دلالته على ما ذكرنا إخباره
عليه السلام بأن وضع الصوم عن الحامل والمرضع هو كوضعه عن المسافر، ألا
ترى أن وضع الصوم الذي جعله من حكم المسافر هو بعينه جعله من حكم
المرضع والحامل; لأنه عطفهما عليه من غير استئناف ذكر شيء غيره؟ فثبت
بذلك أن حكم وضع الصوم عن الحامل والمرضع هو في حكم وضعه عن المسافر لا
فرق بينهما، ومعلوم أن وضع الصوم عن المسافر إنما هو على جهة إيجاب
قضائه بالإفطار من غير فدية فوجب أن يكون ذلك حكم الحامل والمرضع. وفيه
دلالة على أنه لا فرق بين الحامل والمرضع إذا خافتا على أنفسهما أو
ولديهما; إذ لم يفصل النبي صلى الله عليه وسلم بينهما وأيضا لما كانت
الحامل والمرضع يرجى لهما القضاء وإنما أبيح لهما الإفطار للخوف على
النفس أو الولد مع إمكان القضاء، وجب أن تكونا كالمريض والمسافر; فإن
احتج القائلون بإيجاب القضاء والفدية بظاهر قوله: {وَعَلَى الَّذِينَ
يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ } لم يصح لهم وجه الدلالة منه
على ما ادعوه وذلك لما روينا عن جماعة من الصحابة الذين قدمنا ذكرهم أن
ذلك كان فرض المقيم الصحيح، وأنه كان مخيرا بين الصيام والفدية; وبينا
أن ما جرى مجرى ذلك فليس القول فيه من طريق الرأي وإنما يكون توقيفا;
فالحامل والمرضع لم يجر لهما ذكر فيما حكوا، فوجب أن يكون تأويلها
محمولا على ما ذكرنا. وقد ثبت نسخ ذلك بقوله تعالى: {فَمَنْ شَهِدَ
مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} ومن جهة أخرى لا يصح الاحتجاج لهم
به، وهو قوله تعالى في سياق الخطاب {وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ}
ومعلوم أن ذلك خطاب لمن تضمنه أول الآية، وليس ذلك حكم الحامل والمرضع;
لأنهما إذا خافتا الضرر لم يكن الصوم خيرا لهما بل محظور عليهما فعله،
وإن لم تخشيا ضررا على أنفسهما أو ولديهما فغير جائز لهما الإفطار، وفي
ذلك دليل واضح على أنهما لم ترادا بالآية. ودل على بطلان قول من تأول
الآية على الحامل والمرضع من القائلين بإيجاب الفدية والقضاء أن الله
تعالى سمى هذا الطعام فدية، والفدية ما قام مقام الشيء وأجزأ عنه فغير
جائز على هذا الوضع اجتماع القضاء والفدية; لأن القضاء إذا وجب فقد قام
مقام المتروك فلا يكون الإطعام فدية، وإن كان فدية صحيحة فلا قضاء; لأن
الفدية أجزأت عنه، وقامت مقامه.
فإن قيل: ما الذي يمنع أن يكون القضاء والإطعام قائمين مقام المتروك؟
قيل له: لو كان مجموعهما قائمين مقام المتروك من الصوم لكان الإطعام
بعض الفدية ولم يكن جميعها، والله تعالى قد سمى ذلك فدية، وتأويلك يؤدي
إلى خلاف مقتضى الآية. وأيضا إذا كان الأصل المبيح للحامل والمرضع
الإفطار والموجب عليهما الفدية هو قوله تعالى: {وَعَلَى الَّذِينَ
يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} وقد ذكر السلف الذين قدمنا
قولهما أن الواجب
(1/221)
كان أحد
شيئين من فدية أو صيام لا على وجه الجمع، فكيف يجوز الاستدلال به على
إيجاب الجمع بينهما على الحامل والمرضع؟ ومن جهة أخرى أنه معلوم أن في
قوله تعالى: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ
مِسْكِينٍ} حذف الإفطار، كأنه قال: وعلى الذين يطيقونه إذا أفطروا فدية
طعام مسكين فإذا كان الله تعالى إنما اقتصر بالإيجاب على ذكر الفدية
فغير جائز إيجاب غيرها معها لما فيه من الزيادة في النص، وغير جائز
الزيادة في المنصوص إلا بنص مثله; وليستا كالشيخ الكبير الذي لا يرجى
له القضاء فهما كالمريض والمسافر. وإنما يسوغ الاحتجاج بظاهر الآية
لابن عباس لاقتصاره على إيجاب الفدية دون القضاء، ومع ذلك فإن الحامل
والمرضع إذا كانتا إنما تخافان على ولديهما دون أنفسهما فهما تطيقان
الصوم فيتناولهما ظاهر قوله: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ
طَعَامُ مِسْكِينٍ} وكذلك قال ابن عباس; حدثنا محمد بن بكر قال: حدثنا
أبو داود قال: حدثنا موسى بن إسماعيل قال: حدثنا أبان قال: حدثنا
قتادة، أن عكرمة حدثه، أن ابن عباس حدثه في قوله: {وَعَلَى الَّذِينَ
يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} قال: أثبتت للحامل والمرضع.
وحدثنا محمد بن بكر قال: حدثنا أبو داود قال: حدثنا ابن المثنى قال:
حدثنا ابن أبي عدي عن سعيد، عن قتادة، عن عزرة، عن سعيد بن جبير، عن
ابن عباس {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ}
قال: كانت رخصة للشيخ الكبير والمرأة وهما يطيقان الصيام أن يفطرا
ويطعما مكان كل يوم مسكينا، والحبلى والمرضع إذا خافتا على أولادهما
أفطرتا وأطعمتا. فاحتج ابن عباس بظاهر الآية وأوجب الفدية دون القضاء
عند خوفهما على ولديهما; إذ هما تطيقان الصوم فشملهما حكم الآية.
قال أبو بكر: ومن أبى ذلك من الفقهاء ذهب إلى أن ابن عباس وغيره ذكروا
أن ذلك كان حكم سائر المطيقين للصوم في إيجاب التخيير بين الصوم
والفدية، وهو لا محالة قد يتناول الرجل الصحيح المطيق للصوم; فغير جائز
أن يتناول الحامل والمرضع; لأنهما غير مخيرتين; لأنهما إما أن تخافا
فعليهما الإفطار بلا تخيير، أو لا تخافا فعليهما الصيام بلا تخيير وغير
جائز أن تتناول الآية فريقين بحكم يقتضي ظاهرها إيجاب الفدية ويكون
المراد في أحد الفريقين التخيير بين الإطعام والصيام، وفي الفريق الآخر
إما الصيام على وجه الإيجاب بلا تخيير أو الفدية بلا تخيير، وقد
تناولهما لفظ الآية على وجه واحد فثبت بذلك أن الآية لم تتناول الحامل
والمرضع. ويدل عليه أيضا قوله في نسق التلاوة: {وَأَنْ تَصُومُوا
خَيْرٌ لَكُمْ} وليس ذلك بحكم الحامل والمرضع إذا خافتا
(1/222)
على
ولديهما; لأن الصيام لا يكون خيرا لهما. ويدل عليه أيضا ما قدمنا من
حديث أنس بن مالك القشيري في تسوية النبي صلى الله عليه وسلم بين
المريض والمسافر وبين الحامل والمرضع في حكم الصوم.
قوله تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ} قال
أبو بكر: قد بينا فيما سلف قول من قال: إن الفرض الأول كان صوم ثلاثة
أيام من كل شهر بقوله: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} وقوله تعالى:
{أَيَّاماً مَعْدُودَاتٍ} وأنه نسخ بقوله: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي
أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ} وقول من قال: إن شهر رمضان بيان للموجب
بقوله: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ
مِنْ قَبْلِكُمْ} وقوله: {أَيَّاماً مَعْدُودَاتٍ} فيصير تقديره أياما
معدودات هي شهر رمضان فإن كان صوم الأيام المعدودات منسوخا بقوله:
{شَهْرُ رَمَضَانَ} إلى قوله: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ
فَلْيَصُمْهُ} فقد انتظم قوله: {شَهْرُ رَمَضَانَ} نسخ حكمين من الآية
الأولى: أحدهما: الأيام المعدودات التي هي غير شهر رمضان. والآخر:
التخيير بين الصيام والإطعام في قوله: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ
فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} على نحو ما قدمنا ذكره عن السلف، وإن كان
قوله: {شَهْرُ رَمَضَانَ} بيانا لقوله: {أَيَّاماً مَعْدُودَاتٍ} فقد
كان لا محالة بعد نزول فرض رمضان التخيير ثابتا بين الصوم والفدية في
أول أحوال إيجابه، فكان هذا الحكم مستقرا ثابتا، ثم ورد عليه النسخ
بقوله: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} إذ غير جائز
ورود النسخ قبل وقت الفعل والتمكن منه. والصحيح هو القول الثاني،
لاستفاضة الرواية عن السلف بأن التخيير بين الصوم والفدية كان في شهر
رمضان، وأنه نسخ بقوله: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ
فَلْيَصُمْهُ}.
فإن قيل: في فحوى الآية دلالة على أن المراد بقوله: {أَيَّاماً
مَعْدُودَاتٍ} غير شهر رمضان; لأنه لم يرد إلا مقرونا بذكر التخيير
بينه وبين الفدية، ولو كان قوله: {أَيَّاماً مَعْدُودَاتٍ} فرضا مجملا
موقوف الحكم على البيان لما كان لذكر التخيير قبل ثبوت الفرض معنى. قيل
له: لا يمتنع ورود فرض مجملا مضمنا بحكم مفهوم المعنى موقوف على
البيان، فمتى ورد البيان بما أريد منه كان الحكم المضمن به ثابتا معه،
فيكون تقديره: أياما معدودات حكمها إذا بين وقتها ومقدارها أن يكون
المخاطبون به مخيرين بين الصوم والفدية كما قال تعالى: {خُذْ مِنْ
أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ} [التوبة: 103] فاسم الأموال
عموم يصح اعتباره فيما علق به من الحكم، والصدقة مجملة مفتقرة إلى
البيان; فإذا ورد بيان الصدقة كان اعتبار عموم اسم الأموال سائغا فيها،
ولذلك نظائر كثيرة. ويحتمل أن يكون قوله: {وَعَلَى الَّذِينَ
يُطِيقُونَهُ} متأخرا في التنزيل، وإن كان مقدما في التلاوة، فيكون
تقدير الآيات وترتيب معانيها: {أَيَّاماً مَعْدُودَاتٍ} هي شهر
(1/223)
رمضان
{فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ
أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ
مِسْكِينٍ} فيكون هذا حكما ثابتا مستقرا مدة من الزمان، ثم نزل قوله:
{فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} فنسخ به التخيير بين
الفدية والصوم على نحو ما ذكرنا في قوله عز وجل: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى
لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً}
[البقرة: 67] مؤخرا في اللفظ، وكان ذلك يعتوره معنيان: أحدهما: أنه.
وإن كان مؤخرا في التلاوة فهو مقدم في التنزيل، والثاني: أنه معطوف
عليه بالواو، وهي لا توجب الترتيب، فكأن الكل مذكور معا فكذلك قوله:
{أَيَّاماً مَعْدُودَاتٍ} إلى قوله: {شَهْرُ رَمَضَانَ} يحتمل ما
احتملته قصة البقرة.
وأما قوله: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} ففيه عدة
أحكام; منها: إيجاب الصيام على من شهد الشهر دون من لم يشهد، فلو كان
اقتصر على قوله: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ} إلى قوله: {شَهْرُ رَمَضَانَ
الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ} لاقتضى ذلك لزوم الصوم سائر الناس
المكلفين، فلما عقب ذلك بقوله: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ
فَلْيَصُمْهُ} بين أن لزوم صوم الشهر مقصور على بعضهم دون بعض، وهو من
شهد الشهر دون من لم يشهده. وقوله تعالى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ
الشَّهْرَ} يعتوره معان، منها: من كان شاهدا يعني مقيما غير مسافر، كما
يقال للشاهد، والغائب المقيم والمسافر، فكان لزوم الصوم مخصوصا به
المقيمون دون المسافرين. ثم لو اقتصر على هذا لكان المفهوم منه
الاقتصار بوجوب الصوم عليهم دون المسافرين; إذ لم يذكروا، فلا شيء
عليهم من صوم ولا قضاء، فلما قال تعالى: {وَمَنْ كَانَ مَرِيضاً أَوْ
عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} بين حكم المريض والمسافر
في إيجاب القضاء عليهم إذا أفطروا، هذا إذا كان التأويل في قوله:
{فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ} الإقامة في الحضر. ويحتمل قوله:
{فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} أن يكون بمعنى شاهد
الشهر أي علمه، ويحتمل قوله: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ} فمن
شهده بالتكليف; لأن المجنون، ومن ليس من أهل التكليف في حكم من ليس
بموجود في انتفاء لزوم الفرض عنه، فأطلق اسم شهود الشهر عليهم، وأراد
به التكليف، كما قال تعالى: {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ} [البقرة: 18 – 171]
لما كانوا في عدم الانتفاع بما سمعوا بمنزلة الأصم الذي لا يسمع سماهم
بكما عميا، وكذلك قوله: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ
قَلْبٌ} [ق: 37] يعني عقلا; لأن من لم ينتفع بعقله فكأنه لا قلب له; إذ
كان العقل بالقلب; فكذلك جائز أن يكون جعل شهود الشهر عبارة عن كونه من
أهل التكليف; إذ كان من ليس من أهل التكليف بمنزلة من ليس بموجود فيه
في باب سقوط حكمه عنه. ومن الأحكام المستفادة بقوله: {فَمَنْ شَهِدَ
مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} غير ما قدمنا ذكره
(1/224)
تعيين فرض
رمضان، فإن المراد بشهود الشهر كونه فيه من أهل التكليف، وأن المجنون
ومن ليس من أهل التكليف غير لازم له صوم الشهر. والله أعلم بالصواب.
(1/225)
باب ذكر اختلاف الفقهاء فيمن جن رمضان كله أو بعضه
قال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد وزفر والثوري: إذا كان مجنونا في رمضان
كله فلا قضاء عليه، وإن أفاق في شيء منه قضاه كله. وقال مالك بن أنس
فيمن بلغ، وهو مجنون مطبق فمكث سنين ثم أفاق: "فإنه يقضي صيام تلك
السنين ولا يقضي الصلاة". وقال عبيد الله بن الحسن في المعتوه يفيق وقد
ترك الصلاة والصوم فليس عليه قضاء ذلك وقال في المجنون الذي يجن ثم
يفيق أو الذي يصيبه المرة ثم يفيق: أرى على هذا أن يقضي. وقال الشافعي
في البويطي: "ومن جن في رمضان فلا قضاء عليه، وإن صح في يوم من رمضان
قبل أن تغيب الشمس كذلك لا قضاء عليه".
قال أبو بكر: قوله تعالى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ
فَلْيَصُمْهُ} يمنع وجوب القضاء على المجنون الذي لم يفق في شيء من
الشهر; إذ لم يكن شاهد الشهر، وشهوده الشهر كونه مكلفا فيه، وليس
المجنون من أهل التكليف لقوله عليه السلام: "رفع القلم عن ثلاث: عن
النائم حتى يستيقظ، وعن الصغير حتى يحتلم، وعن المجنون حتى يفيق".
فإن قيل: إذا احتمل قوله: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ
فَلْيَصُمْهُ} شهوده بالإقامة وترك السفر دون ما ذكرته من شهوده
بالتكليف، فما الذي أوجب حمله على ما ادعيت دون ما ذكرنا من حال
الإقامة؟ قيل له: لما كان اللفظ محتملا للمعنيين وهما غير متنافيين بل
جائز إرادتهما معا، وكونهما شرطا في لزوم الصوم، وجب حمله عليهما; وهو
كذلك عندنا; لأنه لا يكون مكلفا بالصوم غير مرخص له في تركه إلا أن
يكون مقيما من أهل التكليف. ولا خلاف أن كونه من أهل التكليف شرط في
صحة الخطاب به، وإذا ثبت ذلك، ولم يكن المجنون من أهل التكليف في الشهر
لم يتوجه إليه الخطاب بالصوم، ولم يلزمه القضاء; ويدل عليه ظاهر قول
النبي صلى الله عليه وسلم: "رفع القلم عن ثلاثة: عن النائم حتى يستيقظ،
وعن المجنون حتى يفيق، وعن الصغير حتى يحتلم" ورفع القلم هو إسقاط
التكليف عنه ويدل عليه أيضا أن الجنون معنى يستحق به الولاية عليه إذا
دام به، فكان بمنزلة الصغير إذا دام به الشهر كله في سقوط فرض الصوم.
ويفارق الإغماء هذا المعنى بعينه; لأنه لا يستحق عليه الولاية بالإغماء
إن طال، وفارق المغمى عليه المجنون والصغير وأشبه الإغماء النوم في باب
نفي ولاية غيره عليه من أجله.
فإن قيل: لا يصح خطاب المغمى عليه كما لا يصح خطاب المجنون والتكليف
(1/225)
زائل
عنهما جميعا، فوجب أن لا يلزمه القضاء بالإغماء. قيل له: الإغماء وإن
منع الخطاب بالصوم في حال وجوده فإن له أصلا آخر في إيجاب القضاء، وهو
قوله: {وَمَنْ كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ
أَيَّامٍ أُخَرَ} وإطلاق اسم المريض على المغمى عليه جائز سائغ. فوجب
اعتبار عمومه في إيجاب القضاء عليه، وإن لم يكن مخاطبا به حال الإغماء;
وأما المجنون فلا يتناوله اسم المريض على الإطلاق فلم يدخل فيمن أوجب
الله عليه القضاء. وأما من أفاق من جنونه في شيء من الشهر، فإنما
ألزموه القضاء بقوله: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ}
وهذا قد شهد الشهر; إذ كان من أهل التكليف في جزء منه; إذ لا يخلو
قوله: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ} أن يكون المراد به شهود جميع
الشهر أو شهود جزء منه; وغير جائز أن يكون شرط لزوم الصوم شهود الشهر
جميعه من وجهين: أحدهما: تناقض اللفظ به، وذلك لأنه لا يكون شاهدا
لجميع الشهر إلا بعد مضيه كله، ويستحيل أن يكون مضيه شرطا للزوم صومه
كله; لأن الماضي من الوقت يستحيل فعل الصوم فيه، فعلمنا أنه لم يرد
شهود الشهر جميعه. والوجه الآخر: أنه لا خلاف أن من طرأ عليه شهر
رمضان، وهو من أهل التكليف أن عليه الصوم في أول يوم منه لشهوده جزءا
من الشهر، فثبت بذلك أن شرط تكليف صوم الشهر كونه من أهل التكليف في
شيء منه.
فإن قيل: فواجب إذا كان ذلك على ما وصفت من أن المراد إدراك جزء من
الشهر أن لا يلزمه إلا صوم الجزء الذي أدركه دون غيره; إذ قد ثبت أن
المراد شهود بعض الشهر شرطا للزوم الصوم، فيكون تقديره: فمن شهد بعض
الشهر فليصم ذلك البعض.
قيل له: ليس ذلك على ما ظننت، من قبل أنه لولا قيام الدلالة على أن شرط
لزوم الصوم شهود بعض الشهر لكان الذي يقتضيه ظاهر اللفظ استغراق الشهر
كله في شرط اللزوم. فلما قامت الدلالة على أن المراد البعض دون الجميع
في شرط اللزوم حملناه عليه، وبقي حكم اللفظ في إيجاب الجميع; إذ كان
الشهر اسما لجميعه، فكان تقديره: فمن شهد منكم شيئا من الشهر فليصم
جميعه.
فإن قيل: فإذا أفاق، وقد بقيت أيام من الشهر، يلزمك أن لا توجب عليه
قضاء ما مضى لاستحالة تكليفه صوم الماضي من الأيام، وينبغي أن يكون
الوجوب منصرفا إلى ما بقي من الشهر قيل له: إنما يلزمه قضاء الأيام
الماضية لا صومها بعينها، وجائز لزوم القضاء مع امتناع خطابه بالصوم
فيما أمر به من القضاء، ألا ترى أن الناسي والمغمى عليه والنائم كل
واحد من هؤلاء يستحيل خطابه بفعل الصوم في هذه الأحوال، ولم تكن
استحالة تكليفهم فيها مانعة من لزوم القضاء؟ وكذلك ناسي الصلاة والنائم
عنها، فإن
(1/226)
الخطاب
بفعل الصوم يتوجه إليه على معنيين: أحدهما: فعله في وقت التكليف،
والآخر: قضاؤه في وقت غيره، وإن لم يتوجه إليه الخطاب بفعله في حال
الإغماء والنسيان والله أعلم.
(1/227)
باب الغلام يبلغ و الكافر يسلم في بعض رمضان
...
باب الغلام يبلغ والكافر يسلم في بعض رمضان
قال الله تعالى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} وقد
بينا أن المراد شهود بعضه. واختلف الفقهاء في الصبي يبلغ في بعض رمضان
أو الكافر يسلم، فقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد وزفر ومالك بن أنس في
الموطأ وعبيد الله بن الحسن والليث والشافعي: يصومان ما بقي، وليس
عليهما قضاء ما مضى ولا قضاء اليوم الذي كان فيه البلوغ أو الإسلام.
وقال ابن وهب عن مالك: أحب إلي أن يقضيه. وقال الأوزاعي في الغلام إذا
احتلم في النصف من رمضان: إنه يقضي ما مضى منه، فإنه كان يطيق الصوم
وقال في الكافر إذا أسلم: لا قضاء عليه فيما مضى. وقال أصحابنا: يستحب
لهما الإمساك عما يمسك عنه الصائم في اليوم الذي كان فيه الاحتلام أو
الإسلام.
قال أبو بكر رحمه الله تعالى: قال الله تعالى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ
الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} وقد بينا معناه، وأن كونه من أهل التكليف شرط
في لزومه، والصبي لم يكن من أهل التكليف قبل البلوغ، فغير جائز إلزامه
حكمه. وأيضا الصغر ينافي صحة الصوم، لأن الصغير لا يصح صومه وإنما يؤمر
به على وجه التعلم، وليعتاده ويمرن عليه، ألا ترى أنه متى بلغ لم يلزمه
قضاء الصلاة المتروكة ولا قضاء الصيام المتروك في حال الصغر؟ فدل ذلك
على أنه غير جائز إلزامه القضاء فيما تركه في حال الصغر، ولو جاز
إلزامه قضاء ما مضى من الشهر لجاز إلزامه قضاء الصوم للعام الماضي إذا
كان يطيقه، فلما اتفق المسلمون على سقوط القضاء للسنة الماضية مع
إطاقته للصوم، وجب أن يكون ذلك حكمه في الشهر الذي أدرك في بعضه. وأما
الكافر فهو في حكم الصبي من هذا الوجه لاستحالة تكليفه للصوم إلا على
شرط تقديم الإيمان ومنافاة الكفر لصحة الصوم، فأشبه الصبي; وليسا
كالمجنون الذي يفيق في بعض الشهر في إلزامه القضاء لما مضى من الشهر;
لأن الجنون لا ينافي صحة الصوم، بدلالة أن من جن في صيامه لم يبطل
صومه; وفي هذا دليل على أن الجنون لا ينافي صحة صومه، وأن الكفر
ينافيها فأشبه الصغير من هذا الوجه، وإن اختلفا في باب استحقاق الكافر
العقاب على تركه، والصغير لا يستحقه. ويدل على سقوط القضاء لما مضى عمن
أسلم في بعض رمضان قوله تعالى: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ
يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} [الأنفال: 38] وقوله صلى
الله عليه وسلم: "الإسلام يجب ما قبله" و "الإسلام
(1/227)
يهدم ما
قبله". وإنما قال أصحابنا: يمسك المسلم في بعض رمضان والصبي بقية
يومهما عن الأكل والشرب، من قبل أنه قد طرأ عليهما، وهما مفطران حال لو
كانت موجودة في أول النهار كانا مأمورين بالصيام، فواجب أن يكونا
مأمورين بالإمساك في مثله إذا كانا مفطرين; والأصل فيه ما روي عن النبي
صلى الله عليه وسلم أنه بعث إلى أهل العوالي يوم عاشوراء فقال: "من أكل
فليمسك بقية يومه، ومن لم يأكل فليصم" وروي أنه أمر الآكلين بالقضاء
وأمرهم بالإمساك مع كونهم مفطرين; لأنهم لو لم يكونوا قد أكلوا لأمروا
بالصيام، فاعتبرنا بذلك كل حال تطرأ عليه في بعض النهار، وهو مفطر بما
لو كانت موجودة في أوله كيف يكون حكمه; فإن كان مما يلزمه بها الصوم
أمر بالإمساك، وإن كان مما لا يلزمه لم يؤمر به; ومن أجل ذلك قالوا في
الحائض إذا طهرت في بعض النهار، والمسافر إذا قدم، وقد أفطر في سفره،
إنهما مأموران بالإمساك; إذ لو كانت حال الطهر والإقامة موجودة في أول
النهار كانا مأمورين بالصيام، وقالوا: لو حاضت في بعض النهار لم تؤمر
بالإمساك إذ الحيض لو كان موجودا في أول النهار لم تؤمر بالصيام.
فإن قيل: فهلا أبحت لمن كان مقيما في أول النهار ثم سافر أن يفطر; لأن
حال السفر لو كانت موجودة في أول النهار ثم سافر كان مبيحا للإفطار،
قيل له: لم نجعل ما قدمنا علة للإفطار ولا للصوم، وإنما جعلناه علة
لإمساك المفطر، فأما إباحة الإفطار وحظره فله شرط آخر غير ما ذكرنا.
وقد حوى قوله تعالى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ}
أحكاما أخر غير ما ذكرنا; منها: دلالته على أن من استبان له بعدما أصبح
أنه من رمضان فعليه أن يبتدئ صومه; لأن الآية لم تفرق بين من علمه من
الليل أو في بعض النهار، وهي عامة في الحالين جميعا، فاقتضى ذلك جواز
ترك نية صوم رمضان من الليل; وكذلك المغمى عليه والمجنون إذا أفاقا في
بعض النهار ولم يتقدم لهما نية الصوم من الليل فواجب عليهما أن يبتدئا
الصيام في ذلك الوقت; لأنهما قد شهدا الشهر، وقد جعل الله شهود الشهر
شرطا للزوم الصوم. وفي الآية حكم آخر: تدل أيضا على أن من نوى بصيامه
في شهر رمضان تطوعا أو عن فرض آخر أنه مجزئ عن رمضان لأن الأمر بفعل
الصوم فيه ورد مطلقا غير مقيد بوصف ولا مخصوص بشرط نية الفرض، فعلى أي
وجه صام فقد قضى عهدة الآية وليس عليه غيره. وفيها حكم آخر: تدل أيضا
على لزوم صوم أول يوم من رمضان لمن رأى الهلال وحده دون غيره، وأنه غير
جائز له الإفطار مع كون اليوم محكوما عند سائر الناس أنه من شعبان. وقد
روى روح بن عبادة عن هشام، وأشعث عن الحسن فيمن رأى الهلال وحده: أنه
لا يصوم إلا مع الإمام وروى ابن المبارك عن ابن
(1/228)
جريج، عن
عطاء بن أبي رباح في رجل رأى هلال شهر رمضان قبل الناس بليلة: لا يصوم
قبل الناس ولا يفطر قبلهم، أخشى أن يكون شبه له. فأما الحسن فإنه أطلق
الجواب في أنه لا يصوم، وهذا يدل على أنه، وإن تيقن الرؤية من غير شك
ولا شبهة أنه لا يصوم، وأما عطاء، فإنه يشبه أن يكون أباح له الإفطار
إذا جوز على نفسه الشبهة في الرؤية، وأنه لم يكن رأى حقيقة، وإنما تخيل
له ما ظنه هلالا. وظاهر الآية يوجب الصوم على من رآه; إذ لم يفرق بين
من رآه وحده ومن رآه مع الناس.
وفيها حكم آخر: ومن الناس من يقول إنه إذا لم يكن عالما بدخول الشهر لم
يجزه صومه، ويحتج بقوله تعالى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ
فَلْيَصُمْهُ} قال: فإنما ألزم الفرض على من علم به; لأن قوله: {فَمَنْ
شَهِدَ} بمعنى شاهد وعلم، فمن لم يعلم فهو غير مؤد لفرضه، وذلك كنحو من
يصوم رمضان على شك ثم يصير إلى اليقين ولا اشتباه، كالأسير في دار
الحرب إذا صام شهرا فإذا هو شهر رمضان، فقالوا: لا يجزئ من كان هذا
وصفه; ويحكى هذا القول عن جماعة من السلف. وعن مالك والشافعي فيه
قولان: أحدهما: أنه يجزئ، والآخر: أنه لا يجزئ. وقال الأوزاعي في
الأسير إذا أصاب عين رمضان: أجزأه وكذلك إذا أصاب شهرا بعده. وأصحابنا
يجيزون صومه بعد أن يصادف عين الشهر أو بعده، ولا نعلم خلافا بين
الفقهاء أنه إذا تحرى شهرا وغلب على ظنه أنه رمضان ثم صار إلى اليقين
ولا اشتباه أنه رمضان أنه يجزيه، وكذلك إذا تحرى وقت صلاة في يوم غيم
وصلى على غالب الظن ثم تيقن أنه الوقت يجزيه.
وقوله تعالى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} وإن
احتمل العلم به فغير مانع من جوازه، وإن لم يعلم به، من قبل أن ذلك
إنما هو شرط في لزومه ومنع تأخيره، وأما نفي الجواز فلا دلالة فيه
عليه، ولو كان الأمر على ما قال من منع جوازه لوجب أن لا يجب على من
اشتبهت عليه الشهور، وهو في دار الحرب ولم يعلم برمضان القضاء; لأنه لم
يشاهد الشهر، ولم يعلم به، فلما اتفق المسلمون على لزوم القضاء على من
لم يعلم بشهر رمضان دل ذلك على أنه ليس شرط جواز صومه العلم به كما لم
يكن شرط وجوب قضائه العلم به، ولما كان من وصفنا من فقد علمه بالشهر
شاهدا له في باب لزومه قضاءه إذا لم يصم، وجب أن يكون شاهدا له في باب
جواز صومه متى صادف عينه وأيضا إذا احتمل قوله تعالى: {فَمَنْ شَهِدَ
مِنْكُمُ الشَّهْرَ} أن يعني به كونه من أهل التكليف في الشهر على ما
تقدم بيانه، فواجب أن يجزيه على أي حال شهد الشهر، وهذا شاهد للشهر من
حيث كان من أهل التكليف، فاقتضى ظاهر الآية جوازه وإن لم يكن عالما
بدخوله. واحتج أيضا من أبى جوازه عند فقد العلم بقوله عليه السلام:
"صوموا
(1/229)
لرؤيته
وأفطروا لرؤيته، فإن غم عليكم فأكملوا عدة شعبان ثلاثين" قالوا: فإذا
كان مأمورا بفعل الصوم لرؤية متقدمة، فإنه متى لم يره أن يحكم به أنه
من شعبان فغير جائز له صومه مع الحكم به من شعبان; إذ كان صوم شعبان
غير مجزئ عن رمضان. وهذا أيضا غير مانع جوازه كما لا يمنع وجوب القضاء
إذا علم بعد ذلك أنه من رمضان; وإنما كان محكوما بأنه من شعبان على شرط
فقد العلم، فإذا علم بعد ذلك أنه من رمضان فمتى علم أنه من رمضان فهو
محكوم له به من الشهر وينتقض ما كنا حكمنا به بديا من أنه من شعبان
فكان حكمنا بذلك منتظرا مراعى، وكذلك يكون صوم يومه ذلك مراعى; فإن
استبان أنه من رمضان أجزأه وإن لم يستبن له فهو تطوع.
فإن قيل: وجوب قضائه إذا أفطر فيه غير دال على جوازه إذا صامه; لأن
الحائض يلزمها القضاء ولم يدل وجوب القضاء على الجواز قيل له: إذا كان
المانع من جواز صومه فقد العلم به، فواجب أن يكون هذا المعنى بعينه
مانعا من لزوم قضائه إذا أفطر فيه كالمجنون والصبي; لأنك زعمت أن
المانع من جوازه كونه غير شاهد للشهر وغير عالم به، ومن لم يشهد الشهر
فلا قضاء عليه إن كان حكم الوجوب مقصورا على من شهده دون من لم يشهده،
ولا يختلف على هذا الحد حكم الجواز إذا صام وحكم القضاء إذا أفطر. وأما
الحائض فلا يتعلق عليها حكم تكليف الصوم من جهة شهودها للشهر وعلمها
به; لأنها مع علمها به لا يجزيها صومه، ولم يتعلق مع ذلك وجوب القضاء
بإفطارها; إذ ليس لها فعل في الإفطار; فلذلك لم يجب سقوط القضاء عنها
من حيث لم يجزها صومها.
وفيها وجه آخر من الحكم: وهو أن من الناس من يقول: إذا طرأ عليه شهر
رمضان، وهو مقيم ثم سافر فغير جائز له الإفطار; ويروى ذلك عن علي كرم
الله وجهه وعن عبيدة وأبي مجلز. وقال ابن عباس والحسن وسعيد بن المسيب
وإبراهيم والشعبي: إن شاء أفطر إذا سافر وهو قول فقهاء الأمصار. واحتج
الفريق الأول بقوله تعالى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ
فَلْيَصُمْهُ} وهذا قد شهد الشهر فعليه إكمال صومه بمقتضى ظاهر اللفظ،
وهذا معناه عند الآخرين إلزام فرض الصوم في حال كونه مقيما; لأنه قد
بين حكم المسافر عقيب ذلك بقوله: {وَمَنْ كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَى
سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} ولم يفرق بين من كان مقيما في
أول الشهر ثم سافر وبين من كان مسافرا في ابتدائه، فدل ذلك على أن
قوله: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} مقصور الحكم
على حال الإقامة دون حال السفر بعدها. وأيضا لو كان المعنى فيه ما
ذكروا لوجب أن يجوز لمن كان مسافرا في أول الشهر ثم أقام أن يفطر،
لقوله تعالى: {وَمَنْ كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ
(1/230)
فَعِدَّةٌ
مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} وقد كان هذا مسافرا. وكذلك من كان مريضا في أوله
ثم برئ وجب أن يجوز له الإفطار بقضية ظاهرة; إذ قد حصل له اسم المسافر
والمريض; فلما لم يكن قوله: {وَمَنْ كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ
فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} مانعا من لزوم صومه إذا أقام أو برئ
في بعض الشهر، وكان هذا الحكم مقصورا على حال بقاء السفر والمرض، كذلك
قوله: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ} مقصور على حال بقاء الإقامة،
وقد نقل أهل السير وغيرهم إنشاء النبي صلى الله عليه وسلم السفر في
رمضان في عام الفتح، وصومه في ذلك السفر، وإفطاره بعد صومه، وأمره
الناس بالإفطار، مع آثار مستفيضة وهي مشهورة غير محتاجة إلى ذكر
الأسانيد; وهذا يدل على أن مراد الله في قوله تعالى: {فَمَنْ شَهِدَ
مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} مقصور على حال بقاء الإقامة في إلزام
الصوم وترك الإفطار.
وقوله تعالى: {فَلْيَصُمْهُ} قال أبو بكر رحمه الله: قد تكلمنا في معنى
قوله جل وعلا: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ} وما تضمنه من
الأحكام وحواه من المعاني بما حضر، ونتكلم الآن بمشيئة الله وعونه في
معنى قوله: {فَلْيَصُمْهُ} وما حواه من الأحكام وانتظمه من المعاني،
فنقول: إن الصوم على ضربين: صوم لغوي وصوم شرعي; فأما الصوم اللغوي
فأصله الإمساك، ولا يختص بالإمساك عن الأكل والشرب دون غيرهما، بل كل
إمساك فهو مسمى في اللغة صوما، قال الله تعالى: {إِنِّي نَذَرْتُ
لِلرَّحْمَنِ صَوْماً} [مريم: 26] والمراد الإمساك عن الكلام، يدل عليه
قوله عقيبه: {فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيّاً} [مريم: 26]. وقال
الشاعر:
وخيل صيام يلكن اللجم
وقال النابغة:
خيل صيام وخيل غير صائمة ... تحت العجاج وخيل تعلك اللجما
وتقول العرب: "صام النهار، وصامت الشمس عند قيام الظهرة" لأنها
كالممسكة عن الحركة. وقال امرؤ القيس:
فدعها وسل الهم عنك بجسرة ... ذمول إذا صام النهار وهجرا
فهذا معنى اللفظ في اللغة.
وهو في الشرع يتناول ضربا من الإمساك على شرائط معلومة لم يكن الاسم
يتناوله في اللغة; ومعلوم أنه غير جائز أن يكون الصوم الشرعي هو
الإمساك عن كل شيء لاستحالة كون ذلك من الإنسان; لأن ذلك يوجب خلو
الإنسان من المتضادات حتى لا يكون ساكنا ولا متحركا ولا آكلا ولا تاركا
ولا قائما ولا قاعدا ولا مضطجعا، وهذا
(1/231)
محال لا
يجوز ورود العبادة به; فعلمنا أن الصوم الشرعي ينبغي أن يكون مخصوصا
بضرب من الإمساك دون جميع ضروبه. فالضرب الذي حصل عليه اتفاق المسلمين
هو الإمساك عن الأكل والشرب والجماع، وشرط فيه عامة فقهاء الأمصار مع
ذلك الإمساك عن الحقنة والسعوط والاستقاء عمدا إذا ملأ الفم، ومن الناس
من لا يوجب في الحقنة والسعوط قضاء، وهو قول شاذ والجمهور على خلافه،
وكذلك الاستقاء. وروي عن ابن عباس أنه قال: الفطر مما دخل، وليس مما
خرج وهو قول طاوس وعكرمة; وفقهاء الأمصار على خلافه; لأنهم يوجبون على
من استقاء عمدا القضاء. واختلفوا فيما وصل إلى الجوف من جراحة جائفة أو
آمة، فقال أبو حنيفة: والشافعي: عليه القضاء وقال أبو يوسف ومحمد: لا
قضاء عليه وهو قول الحسن بن صالح. وقد اختلف في ترك الحجامة هل هو من
الصوم؟ فقال عامة الفقهاء: الحجامة لا تفطره وقال الأوزاعي: تفطره.
واختلف أيضا في بلع الحصاة، فقال أصحابنا ومالك والشافعي: تفطره وقال
الحسن بن صالح: لا تفطره. واختلفوا في الصائم يكون بين أسنانه شيء
فيأكله متعمدا، فقال أصحابنا ومالك والشافعي: لا قضاء عليه وروى الحسن
بن زياد عن زفر أنه قال: إذا كان بين أسنانه شيء من لحم أو سويق أو خبز
فجاء على لسانه منه شيء فابتلعه وهو ذاكر فعليه القضاء والكفارة قال:
وقال أبو يوسف: عليه القضاء ولا كفارة عليه وقال الثوري: أستحب له أن
يقضي. وقال الحسن بن صالح: إذا دخل الذباب جوفه فعليه القضاء. وقال
أصحابنا ومالك: لا قضاء عليه ولا خلاف بين المسلمين أن الحيض يمنع صحة
الصوم; واختلفوا في الجنب، فقال عامة فقهاء الأمصار: لا قضاء عليه
وصومه تام مع الجنابة وقال الحسن بن حي مستحب له أن يقضي ذلك اليوم
وكان يقول: يصوم تطوعا، وإن أصبح جنبا وقال في الحائض: "إذا طهرت من
الليل، ولم تغتسل حتى أصبحت فعليها قضاء ذلك اليوم".
فهذه أمور منها متفق عليه في أن الإمساك عنه صوم، ومنها مختلف فيه على
ما بينا. فالمتفق عليه هو الإمساك عن الجماع والأكل والشرب في المأكول
والمشروب، والأصل فيه قوله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ
الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ} [البقرة: 187] إلى قوله {فَالْآنَ
بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا
وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ
الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ
إِلَى اللَّيْلِ} [البقرة: 187] فأباح الجماع والأكل والشرب في ليالي
الصوم من أولها إلى طلوع الفجر، ثم أمر بإتمام الصيام إلى الليل. وفي
فحوى هذا الكلام ومضمونه حظر ما أباحه بالليل مما قدم ذكره من الجماع
والأكل والشرب، فثبت بحكم الآية أن الإمساك عن هذه الأشياء الثلاثة هو
من
(1/232)
الصوم
الشرعي، ولا دلالة فيه على أن الإمساك عن غيرها ليس من الصوم، بل هو
موقوف على دلالته. وقد ثبت بالسنة واتفاق علماء الأمة أن الإمساك عن
غير هذه الأشياء من الصوم الشرعي على ما سنبينه إن شاء الله تعالى ومما
هو من شرائط لزوم الصوم الشرعي - وإن لم يكن هو إمساكا ولا صوما -
الإسلام والبلوغ; إذ لا خلاف أن الصغير غير مخاطب بالصوم في أحكام
الدنيا، فإن الكافر، وإن كان مخاطبا به معاقبا على تركه فهو في حكم من
لم يخاطب به في أحكام الدنيا، فإنه لا يجب عليه قضاء المتروك منه في
حال الكفر. وطهر المرأة عن الحيض من شرائط تكليف صوم الشهر، وكذلك
العقل والإقامة والصحة، وإن وجب القضاء في الثاني. والعقل مختلف فيه
على ما بينا من أقاويل أهل العلم في المجنون في رمضان.
والنية من شرائط صحة سائر ضروب الصوم، وهو على ثلاثة أنحاء: صوم مستحق
العين، وهو صوم رمضان ونذر يوم بعينه. وصوم التطوع، وصوم في الذمة.
فالصوم المستحق العين وصوم التطوع يجوز فيهما ترك النية من الليل إذا
نواه قبل الزوال، وما كان في الذمة فغير جائز إلا بتقدمة النية من
الليل، وقال زفر: يجوز صوم رمضان بغير نية. وقال مالك: يكفي للشهر كله
نية واحدة. وإنما قلنا إن بلع الحصاة ونحوها يوجب الإفطار وإن لم يكن
مأكولا في العادة، وأنه ليس بغذاء ولا دواء، من قبل أن قوله: {ثُمَّ
أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} [البقرة: 187] قد انطوى تحته
الأكل، فهو عموم في جميع ما أكل، ولا خلاف أنه لا يجوز له بلع الحصاة
مع اختلافهم في إيجاب الإفطار واتفاقهم على أن النهي عن بلع الحصاة صدر
عن الآية فيوجب ذلك أن يكون مرادا بها، فاقتضى إطلاق الأمر بالصيام عن
الأكل والشرب دخول الحصاة فيه كسائر المأكولات. فمن حيث دلت الآية على
وجوب القضاء في سائر المأكولات فهي دالة أيضا على وجوبه في أكل الحصاة.
ويدل عليه أيضا قول النبي صلى الله عليه وسلم: "من أكل أو شرب ناسيا
فلا قضاء عليه". وهذا يدل على أن حكم سائر ما يأكله لا يختلف في وجوب
القضاء إذا أكله عمدا، وأما السعوط والدواء الواصل بالجائفة أو الآمة
فالأصل فيه حديث لقيط بن صبرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: "بالغ في
الاستنشاق إلا أن تكون صائما" فأمره بالمبالغة في الاستنشاق ونهاه عنها
لأجل الصوم، فدل ذلك على أن ما وصل بالاستنشاق إلى الحلق أو إلى الدماغ
أنه يفطر، لولا ذلك لما كان لنهيه عنها لأجل الصوم معنى مع أمره بها في
غير الصوم. وصار ذلك أصلا عند أبي حنيفة في إيجاب القضاء في كل ما وصل
إلى الجوف واستقر فيه مما يستطاع الامتناع منه، سواء كان وصوله من مجرى
الطعام والشراب أو من مخارق البدن التي هي خلقة في بنية الإنسان، أو من
غيرها; لأن المعنى في الجميع وصوله إلى الجوف
(1/233)
واستقراره
فيه مع إمكان الامتناع منه في العادة، ولا يلزم على ذلك الذباب والدخان
والغبار يدخل حلقه; لأن جميع ذلك لا يستطاع الامتناع منه في العادة،
ولا يمكن التحفظ منه بإطباق الفم.
فإن قيل: فإن أبا حنيفة لا يوجب بالإفطار في الإحليل القضاء. قيل له:
إنما لم يوجبه; لأنه كان عنده أنه لا يصل إلى المثانة; وقد روي ذلك عنه
منصوصا، وهذا يدل على أن عنده إن وصل إلى المثانة أفطر. وأما أبو يوسف
ومحمد فإنهما اعتبرا وصوله إلى الجوف من مخارق البدن التي هي خلقة في
بنية الإنسان.
وأما وجه إيجاب القضاء على من استقاء عمدا دون من ذرعه القيء، فإن
القياس أن لا يفطره الاستقاء عمدا، لأن الفطر في الأصل هو من الأكل،
وما جرى مجراه من الجماع كما قال ابن عباس إنه لا يفطره الاستقاء عمدا;
لأن الإفطار مما يدخل، وليس مما يخرج والوضوء مما يخرج، وليس مما يدخل،
وكسائر الأشياء الخارجة من البدن لا يوجب الإفطار بالاتفاق، فكان خروج
القيء بمثابتها وإن كان من فعله، إلا أنهم تركوا القياس للأثر الثابت
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك ولا حظ للنظر مع الأثر والأثر
الثابت هو حديث عيسى بن يونس، عن هشام بن حسان، عن محمد بن سيرين، عن
أبي هريرة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من ذرعه القيء لم يفطر
ولا قضاء عليه، ومن استقاء عمدا فعليه القضاء".
فإن قيل: خبر هشام بن حسان عن ابن سيرين في ذلك غير محفوظ، وإنما
الصحيح من هذا الطريق في الأكل ناسيا، قيل له: قد روى عيسى بن يونس
الخبرين معا عن هشام بن حسان، وعيسى بن يونس هو الثقة المأمون المتفق
على ثبته وصدقه. وقد حدثنا محمد بن بكر قال: حدثنا أبو داود قال: روى
أيضا حفص بن غياث عن هشام مثله. وروى الأوزاعي عن يعيش بن الوليد أن
معدان بن أبي طلحة حدثه: أن أبا الدرداء حدثه: "أن النبي صلى الله عليه
وسلم قاء فأفطر", قال: فلقيت ثوبان فذكرت له ذلك، فقال: صدق، وأنا صببت
له وضوءه. وروى وهب بن جرير قال: حدثنا أبي قال: سمعت يحيى بن أيوب
يحدث عن يزيد بن أبي حبيب، عن أبي مرزوق، عن حبيش، عن فضالة بن عبيد
قال: كنت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فشرب ماء، فقلت: يا رسول
الله ألم تك صائما؟ فقال: "بلى ولكني قئت". وإنما تركوا القياس في
الاستقاء لهذه الآثار.
فإن قيل: قد روي أن القيء لا يفطر; وهو ما حدثنا محمد بن بكر قال:
حدثنا أبو داود قال: حدثنا محمد بن كثير قال: حدثنا سفيان عن زيد بن
أسلم، عن رجل من
(1/234)
أصحابه،
عن رجل من الصحابة، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يفطر من قاء
ولا من احتلم ولا من احتجم". قيل له: قد روى هذا الحديث محمد بن أبان
عن زيد بن أسلم عن أبي عبيد الله الصنابحي قال: قال رسول الله صلى الله
عليه وسلم: "من أصبح صائما فذرعه القيء فلم يفطر، ومن احتلم فلم يفطر،
ومن احتجم فلم يفطر". فبين هذا الحديث القيء الذي لا يوجب الإفطار، ولو
لم يذكره على هذا البيان لكان الواجب حمله على معناه، وأن لا يسقط أحد
الحديثين بالآخر وذلك لأنه متى روي عن النبي صلى الله عليه وسلم خبران
متضادان، وأمكن استعمالهما على غير وجه التضاد استعملناهما جميعا، ولم
يلغ أحدهما. وإنما قالوا: إنه إذا استقاء أقل من ملء فيه لم يفطره، من
قبل أنه لا يتناوله اسم القيء; ألا ترى أن من ظهر على لسانه شيء
بالجشاء لا يقال إنه قد تقيأ؟ وإنما يتناوله هذا الاسم عند كثرته
وخروجه; وقد كان أبو الحسن الكرخي رحمه الله تعالى يقول في تقدير ملء
الفم: "هو الذي لا يمكنه إمساكه في الفم لكثرته فيسمى حينئذ قيئا".
وأما الحجامة فإنما قالوا: إنها لا تفطر الصائم; لأن الأصل أن الخارج
من البدن لا يوجب الإفطار، كالبول والغائط والعرق واللبن; ولذلك لو جرح
إنسان أو افتصد لم يفطره، فكانت الحجامة قياس ذلك; ولأنه لما ثبت أن
الإمساك عن كل شيء ليس من الصوم الشرعي، لم يجز لنا أن نلحق به إلا ما
ورد به التوقيف أو اتفقت الأمة عليه. وقد ورد بإباحة الحجامة للصائم
آثار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فمن ذلك: ما حدثنا عبد الباقي بن
قانع قال: حدثنا عبيد بن شريك البزاز قال: حدثنا أبو الجماهر قال:
حدثنا عبد الله بن زيد بن أسلم عن أبيه، عن عطاء بن يسار، عن أبي سعيد
الخدري، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ثلاث لا يفطرن الصائم:
القيء والاحتلام والحجامة". وحدثنا محمد بن بكر قال: حدثنا أبو داود
قال: حدثنا حفص بن عمر قال: حدثنا شعبة عن يزيد بن أبي زياد، عن مقسم،
عن ابن عباس: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم احتجم صائما محرما.
وحدثنا عبد الباقي قال: حدثنا حسين بن إسحاق قال: حدثنا محمد بن عبد
الرحمن بن سهم قال: حدثنا عيسى بن يونس عن أيوب بن محمد اليماني، عن
المثنى بن عبد الله، عن أنس بن مالك قال: مر رسول الله صلى الله عليه
وسلم صبيحة ثماني عشرة من رمضان برجل، وهو يحتجم فقال عليه السلام:
"أفطر الحاجم والمحجوم" ثم أتاه رجل بعد ذلك فسأله عن الحجامة في شهر
رمضان فقال: "إذا تبيغ بأحدكم الدم فليحتجم". وحدثنا عبد الباقي قال:
حدثنا محمد بن الحسن بن حبيب أبو حصن الكوفي قال: حدثنا إبراهيم بن
محمد بن ميمون قال: حدثنا أبو مالك عن الحجاج، عن الحكم، عن مقسم، عن
ابن عباس قال: احتجم رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو صائم فغشي عليه
فلذلك كرهه. وحدثنا محمد بن بكر قال: حدثنا أبو داود
(1/235)
قال:
حدثنا القعنبي قال: حدثنا سليمان يعني ابن المغيرة عن ثابت قال: قال
أنس: ما كنا ندع الحجامة للصائم إلا كراهية الجهد.
فإن قال قائل: قد روى مكحول عن ثوبان عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
"أفطر الحاجم والمحجوم". وروى أبو قلابة عن أبي الأشعث عن شداد بن أوس:
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى على رجل بالبقيع وهو يحتجم وهو
آخذ بيدي لثماني عشرة خلت من رمضان فقال: "أفطر الحاجم والمحجوم". قيل
له: قد اختلف في صحة هذا الخبر، وهو غير صحيح على مذهب أهل النقل; لأن
بعضهم رواه عن أبي قلابة عن أبي أسماء عن ثوبان، وبعضهم رواه عن أبي
قلابة عن شداد بن أوس; ومثل هذا الاضطراب في السند يوهنه. فأما حديث
مكحول فإن أصله عن شيخ من الحي مجهول عن ثوبان; وعلى أنه ليس في قوله:
"أفطر الحاجم والمحجوم" إذا أشار به إلى عين دلالة على وقوع الإفطار
بالحجامة لأن ذكر الحجامة في مثله تعريف لهما، كقولك: أفطر القائم
والقاعد، وأفطر زيد; إذا أشرت به إلى عين; فلا دلالة فيه على أن القيام
يفطر، وعلى أن كونه زيدا يفطره. كذلك قوله: "أفطر الحاجم والمحجوم" لما
أشار به إلى رجلين بأعينهما فلا دلالة فيه على وقوع الفطر بالحجامة،
وجائز أن يكون شاهدهما على حال توجب الإفطار من أكل أو غيره فأخبره
بالإفطار من غير ذكر علته، وجائز أن يكون شاهدهما على غيبة منهما للناس
فقال إنهما أفطرا، كما روى يزيد بن أبان عن أنس أن رسول الله صلى الله
عليه وسلم قال: "الغيبة تفطر الصائم" وليس المعنى فيه عند الفقهاء
الخروج منه، وإنما المراد منه إبطال ثوابه، فاحتمل أن يكون ذكر إفطار
الحاجم والمحجوم لهذا المعنى، وعلى أن الأخبار التي روينا فيها ذكر
تاريخ الرخصة بعد النهي. وجائز أيضا أن يكون النهي عن الحجامة كان لما
يخاف من الضعف، كما نهى عن الصوم في السفر حين رأى رجلا قد ظلل عليه.
وأما وجه قولهم فيمن بلع شيئا بين أسنانه لم يفطره، فهو أن ذلك بمنزلة
أجزاء الماء الباقية في فمه بعد غسل فمه للمضمضة، ومعلوم وصولها إلى
جوفه، ولا حكم لها كذلك والأجزاء الباقية في فمه هي بمنزلة ما وصفنا،
ألا ترى أن من أكل بالليل سويقا أنه لا يخلو إذا أصبح من بقاء شيء من
أجزائه بين أسنانه، ولم يأمره أحد بتقصي إخراجها بالأخلة والمضمضة؟ فدل
ذلك على أن تلك الأجزاء لا حكم لها.
وأما الذباب الواصل إلى جوفه من غير إرادته، فإنما لم يفطره من قبل أن
ذلك في العادة غير متحفظ منه، ألا ترى أنه لا يؤمر بإطباق الفم وترك
الكلام خوفا من وصوله إلى جوفه؟ فأشبه الغبار والدخان يدخل إلى حلقه
فلا يفطره. وليس هو بمنزلة من أوجر ماء وهو صائم مكرها فيفطر، من قبل
أنه ليس للعادة في هذا تأثير; وإنما بينا حكم
(1/236)
وصول
الذباب إلى جوفه معلوما على العادة في فتح الفم بالكلام، وما كان مبنيا
على العادة مما يشق الامتناع عنه فقد خفف الله عن العباد فيه، قال
الله: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 87].
وأما الجنابة فإنها غير مانعة من صحة الصوم، لقوله: {فَالْآنَ
بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا
وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ
الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ
إِلَى اللَّيْلِ} [البقرة: 187] فأطلق الجماع من أول الليل إلى آخره،
ومعلوم أن من جامع في آخر الليل فصادف فراغه من الجماع طلوع الفجر أنه
يصبح جنبا، وقد حكم الله بصحة صيامه بقوله: {ثُمَّ أَتِمُّوا
الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} [البقرة: 187]. وروت عائشة وأم سلمة: "أن
رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصبح جنبا من غير احتلام ثم يصوم
يومه ذلك". وروى أبو سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "ثلاث
لا يفطرن الصائم: القيء، والحجامة، والاحتلام" وهو يوجب الجنابة، وحكم
النبي عليه السلام مع ذلك بصحة صومه، فدل على أن الجنابة لا تنافي صحة
الصوم. وقد روى أبو هريرة خبرا عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:
"من أصبح جنبا فلا يصومن يومه ذلك" إلا أنه لما أخبر برواية عائشة وأم
سلمة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا علم لي بهذا أخبرني به
الفضل بن العباس"، وهذا مما يوهن خبره; لأنه قال بديا: ما أنا قلت ورب
الكعبة من أصبح جنبا فقد أفطر محمد قال ذلك ورب الكعبة وأفتى السائل عن
ذلك بالإفطار، فلما أخبر برواية عائشة وأم سلمة تبرأ من عهدته وقال: لا
علم لي بهذا إنما أخبرني به الفضل. وقد روي عن أبي هريرة الرجوع عن
فتياه بذلك; حدثنا عبد الباقي قال: حدثنا إسماعيل بن الفضل قال: حدثنا
ابن شبابة قال: حدثنا عمرو بن الهيثم قال: حدثنا هشام عن قتادة عن سعيد
بن المسيب: أن أبا هريرة رجع عن الذي كان يفتي من أصبح جنبا فلا يصوم.
وعلى أنه لو ثبت خبر أبي هريرة احتمل أن لا يكون معارضا لرواية عائشة
وأم سلمة، بأن يريد: من أصبح على موجب الجنابة بأن يصبح مخالطا لامرأته
ومتى أمكننا تصحيح الخبرين واستعمالهما معا استعملناهما على ما أمكن من
غير تعارض.
فإن قيل: جائز أن يكون رواية عائشة وأم سلمة مستعملة فيما وردت بأن
يكون النبي صلى الله عليه وسلم مخصوصا بذلك دون أمته; لأنهما أضافتا
ذلك إلى فعله; وخبر أبي هريرة مستعمل في سائر الناس. قيل له: قد عقل
أبو هريرة من روايته مساواة النبي صلى الله عليه وسلم لغيره في هذا
الحكم; لأنه قال حين سمع رواية عائشة وأم سلمة: لا علم لي بهذا وإنما
أخبرني به الفضل بن العباس ولم يقل إن رواية هاتين المرأتين غير معارضة
لروايتي; إذ كانت روايتهما مقصورة على حال النبي صلى الله عليه وسلم
وروايتي إنما هي في غيره من الناس; فهذا يبطل
(1/237)
تأويلك.
وأيضا فإنه صلى الله عليه وسلم مساو للأمة في سائر الأحكام إلا ما خصه
الله تعالى به وأفرده من الجملة بتوقيف للأمة عليه بقوله تعالى:
{فَاتَّبِعُوهُ} [الأنعام: 153 – 155] وقوله: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي
رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب: 21].
فهذه الأمور التي ذكرنا مما تعبدنا فيه بالإمساك عنه في نهار رمضان، هي
من الصوم المراد به في قوله تعالى: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى
اللَّيْلِ} وقوله تعالى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ
فَلْيَصُمْهُ} فهي إذا من الصوم اللغوي والشرعي جميعا. وأما ما ليس
بإمساك مما وصفنا، فإنما هو من شرائطه، ولا يكون الإمساك على الوجوه
التي ذكرنا صوما شرعيا إلا بوجود هذه الشرائط، وذلك الإسلام والبلوغ
والنية وأن تكون المرأة غير حائض، فمتى عدم شيء من هذه الشرائط خرج عن
أن يكن صوما شرعيا. وأما الإقامة والصحة فهما شرط صحة لزومه، ووجود
المرض والسفر لا ينافي صحة الصوم وإنما ينافي لزوم الصوم على جهة
الوجوب، ولو صاما لصح صومهما. وإنما قلنا: البلوغ شرط في صحة لزومه;
لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "رفع القلم عن ثلاثة: عن النائم حتى
يستيقظ، وعن المجنون حتى يفيق، وعن الصبي حتى يحتلم" ولا خلاف أنه لا
يلزمه سائر العبادات، فكذلك الصوم. وقد يؤمر به المراهق على وجه
التعليم ليعتاده وليمرن عليه لقوله تعالى: {قُوا أَنْفُسَكُمْ
وَأَهْلِيكُمْ نَاراً} [التحريم: 6] قيل في التفسير: أدبوهم وعلموهم;
وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "مروهم بالصلاة لسبع،
واضربوهم عليها لعشر" وليس ذلك على وجه التكليف، وإنما هو على وجه
التعليم والتأديب.
وأما الإسلام فإنما كان شرطا في صحة فعله لقوله تعالى: {لَئِنْ
أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} [الزمر: 65] فلا يصح له قربة إلا
على شرط كونه مؤمنا.
وأما العقل، فإن فقدت معه النية والإرادة فإنما ينفى عنه صحة الصوم
لعدم النية، فإن وجدت منه النية من الليل ثم عزب عقله لم ينف ذلك صحة
صومه. وإنما قلنا إن النية شرط في صحة الصوم من قبل أنه لا يكون صوما
شرعيا إلا بأن يكون فاعله متقربا به إلى الله عز وجل ولا تصح القربة
إلا بالنية والقصد لها، قال الله تعالى: {لَنْ يَنَالَ اللَّهَ
لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ}
[الحج: 37] فأخبر عز وجل أن شرط التقوى تحري موافقة أمره. ولما كان شرط
كونه متقيا فعل الصوم من المفروض لم يحصل له ذلك إلا بالنية; لأن
التقوى لا تحصل له إلا بتحري موافقة أمر الله والقصد إليه; وقال تعالى:
{وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ
الدِّينَ} [البينة: 5] ولا يكون إخلاص الدين له إلا بقصده به إليه
راغبا عن أن يريد به غيره. فهذه أصول في تعلق صحة الفروض بالنيات.
(1/238)
ولا خلاف
بين المسلمين في أن من شرط الصلاة والزكاة والحج والكفارات إيجاد النية
لها; لأنها فروض مقصودة لأعيانها، فكان حكم الصوم حكمها لهذه العلة
بعينها.
فإن قيل: جميع ما استدللت به على كون النية شرطا في الصوم وفي سائر
الفروض يلزمك شرط النية في الطهارة; إذ كانت فرضا من الفروض. قيل له:
ليس ذلك على ما ظننت; لأن الطهارة ليست فرضا مقصودا لعينها، وإنما
المقصود غيرها وهي شرط فيه، فقيل لنا: لا تصلوا إلا بطهارة، كما قيل:
لا تصلوا إلا بطهارة من نجاسة، ولا تصلوا إلا بستر العورة; فليست هذه
الأشياء مفروضة لأنفسها، فلم يلزم إيجاد النية لها، ألا ترى أن النية
نفسها لما كانت شرطا لغيرهم، ولم تكن مفروضة لنفسها صحت بغير نية توجد
لها؟ فانفصل بما ذكرنا حكم الفروض المقصودة لأعيانها وحكم ما جعل منها
شرطا لغيره وليس هو بمفروض لنفسه، فلما كانت الطهارة بالماء شرطا
لغيرها، وليست أيضا ببدل عن سواها لم يلزم فيها النية; ولا يلزم على
هذا إيجابنا النية في التيمم; لأنه بدل عن غيره فلا يكون طهورا إلا
بانضمام النية إليه; إذ ليس هو طهورا في نفسه بل هو بدل عن غيره. ولم
يختلف الأمة في أن كل صوم واجب في الذمة فشرط صحته إيجاد النية له،
فوجب أن يكون كذلك حكم صوم رمضان في كون النية شرطا لصحته. وشبه زفر
صوم رمضان بالطهارة في إسقاط النية لهما، من قبل أن الطهارة مفروضة في
أعضاء بعينها فكان الصوم مشبها لها في كونه مفروضا في وقت مستحق العين
له. وهذا عند سائر الفقهاء ليس كذلك; لأن العلة التي ذكرها للطهارة غير
موجودة في الصوم; إذ جعل علة الطهارة أنها مفروضة في موضع بعينه، وهذا
المعنى غير موجود في الصوم; لأنه غير موضوع في موضع بعينه، وإنما هو
موضوع في وقت معين لا في موضع معين. وعلى أن هذه العلة منتقضة بالطواف;
لأنه مفروض في موضع معين، ولو عدا رجل خلف غريم له يوم النحر حوالي
البيت لم يكن طائفا طواف الزيارة، وكذلك لو كان يسقي الناس هناك وبين
الصفا والمروة لم يجزه من الواجب. فإذا كانت هذه العلة غير موجبة للحكم
في معلولها من الطواف والسعي فأن لا يوجب حكمها فيما ليست فيه موجودة
أولى. وعلى أن الطهارة مخالفة للصوم، لما بينا من أنها غير مفروضة
لنفسها، وإنما هي شرط لغيرها لا على وجه البدل، فلم تجب أن تكون النية
شرطا فيها، كأنه قيل: لا تصل إلا، وأنت طاهر من الحدث، ومن النجاسة،
ولا تصل إلا مستور العورة. وليس شرط غسل النجاسة وستر العورة النية،
كذلك الطهارة بالماء; وأما الصوم فإنه مفروض مقصود لعينه كسائر الفروض
التي ذكرنا، فوجب أن يكون شرط صحته إيجاد النية له. ومعنى آخر; وهو أنا
قد علمنا أن الصوم على الصوم على ضربين: منه الصوم اللغوي، ومنه الصوم
الشرعي. وأن أحدهما
(1/239)
إنما
ينفصل من الآخر بالنية مع ما قدمنا من شرائطه، ومتى لم توجد له النية
كان صوما لغويا لا حظ فيه للشرع، فلذلك وجب اعتبار النية في صوم رمضان،
ألا ترى أن من أمسك في يوم من غير رمضان عما يمسك عنه الصائم، ولم يكن
له نية الصوم أن صومه ذلك لا يكون صوم شرع؟ وصوم التطوع مشبه لصوم
رمضان في جواز ترك النية له من الليل، فلما لم يكن صائما متطوعا
بالإمساك دون النية وجب أن يكون صوم رمضان كذلك. ويلزم زفر أن يجعل
المغمى عليه أياما في رمضان إذا لم يأكل ولم يشرب صائما لوجود الإمساك،
وهذا إن التزمه قائل كان قائلا قولا مستشنعا.
وإنما قلنا إنه يحتاج إلى إيجاد النية كل يوم إما من الليل أو قبل
الزوال، من قبل أنا قد بينا أن صوم رمضان لا يصح إلا بنية، ومن حيث
افتقر إلى نية في أول الشهر وجب أن يكون اليوم الثاني مثله; لأنه يخرج
بالليل من الصوم، ومتى خرج منه احتاج في دخوله فيه إلى نية. وقال مالك:
ما لم يكن وجوبه معينا من الصيام لم يصح إلا بنية من الليل، كان وجوبه
في وقت بعينه كأن يعلمه ذلك الوقت صائما، واستغنى عن نية الصيام بذلك;
فإذا قال: لله علي أن أصوم شهرا متتابعا; فصام أول يوم أنه يجزيه باقي
الأيام بغير نية; وهو قول الليث بن سعد. وقال الثوري في صوم التطوع:
إذا نواه في آخر النهار أجزأه. قال: وقال إبراهيم النخعي: له أجر ما
يستقبل وهو مذهب الحسن بن صالح. وقال الثوري: يحتاج في صوم رمضان أن
ينويه من الليل. وقال الأوزاعي: يجزيه نية صوم رمضان بعد نصف النهار.
وقال الشافعي: لا يجزي كل صوم واجب رمضان وغيره إلا بنية من الليل،
ويجزي صوم التطوع بنية قبل الزوال.
فأما الدلالة على بطلان قول من اكتفى بنية واحدة للشهر كله، فهو ما
قدمنا من افتقار صوم اليوم الثاني إلى الدخول فيه، والدخول في الصوم لا
يصح إلا بنية، فوجب أن يكون شرط اليوم الثاني إيجاد النية كاليوم
الأول.
فإن قيل: يكتفي بالنية الأولى، وهي نية لجميع الشهر كما يجتزئ في
الصلاة بنية واحدة في أولها ولا يحتاج إلى تجديد النية لكل ركعة،
والمعنى الجامع بينهما أن الصلاة الواحدة لا تتخلل ركعاتها صلاة أخرى
غيرها كما لا يتخلل صيام شهر رمضان صيام من غيره. قيل له: لو جاز أن
يكتفي بنية واحدة للشهر لجاز أن يكتفي بها لعمره كله، فلما بطل هذا
واحتاج إلى نية لأول يوم لم يجز أن تكون تلك النية لسائر أيام الشهر
كما لا يجوز أن تكون لسائر عمره. وأما تشبيهه بالصلاة فلا معنى له; لأن
الصلاة إنما اكتفي فيها بنية واحدة; لأن الجميع مفعول بتحريمة واحدة.
ألا ترى أنه لا يصح بعضها دون بعض فكانت الركعات كلها مبنية على تلك
التحريمة؟ ألا ترى أنه متى ترك ركعة حتى
(1/240)
خرج منها
بطلت صلاته كلها، وأنه لو ترك صوم يوم من رمضان بأن أفطر فيه لم يبطل
عليه صوم سائر الشهر؟ ومن جهة أخرى أنه لا يخرج من الصلاة بفعل الركعة
الأولى فلم يحتج إلى نية أخرى، إذ النية إنما يحتاج إليها للدخول فيها،
فأما الصوم، فإنه إذا دخل الليل خرج من الصوم; ولذلك قال النبي صلى
الله عليه وسلم: "إذا أقبل الليل من ههنا وغابت الشمس فقد أفطر الصائم"
فاحتاج بعد الخروج من صوم اليوم الأول إلى الدخول في اليوم الثاني، فلم
يصح له ذلك إلا بالنية المتجددة.
وإنما أجاز أصحابنا ترك النية من الليل في كل صوم مستحق العين إذا نواه
قبل الزوال لقوله تعالى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ
فَلْيَصُمْهُ} وهذا قد شهد الشهر، فواجب أن يكون مأمورا بصومه وواجب أن
يجزيه إذا فعل، ما أمر به. ومن جهة السنة، وهو ما روي عن النبي صلى
الله عليه وسلم أنه بعث إلى أهل العوالي يوم عاشوراء فقال: "من أكل
فليمسك، ومن لم يأكل فليصم بقية يومه". وقد روي أنه أمر الآكلين
بالقضاء; حدثنا عبد الباقي بن قانع قال: حدثنا أحمد بن علي بن مسلم
قال: حدثنا محمد بن منهال قال: حدثنا يزيد بن ربيع قال: حدثنا شعبة، عن
قتادة، عن عبد الرحمن بن سلمة، عن عمه قال: أتيت النبي صلى الله عليه
وسلم يوم عاشوراء فقال: "أصمتم يومكم هذا؟" قالوا: لا قال: "فأتموا
يومكم هذا واقضوا" فدل ذلك على معنيين: أحدهما: أن صوم يوم عاشوراء كان
فرضا; ولذلك أمر بالقضاء من أكل، والثاني: أنه فرق بين الآكلين ومن لم
يأكل فأمر الآكلين بالإمساك والقضاء والذين لم يأكلوا بالصوم; فدل ذلك
على أن من الصوم ما كان مفروضا في وقت بعينه فجائز ترك النية من الليل;
لأنه لو كان شرط صحته إيجاد النية له من الليل لما أمرهم بالصيام
ولكانوا حينئذ بمنزلة الآكلين في باب امتناع صحة صومهم ووجوب القضاء
عليهم، فثبت بما وصفنا أنه ليس شرط صحة الصوم المستحق العين وجود النية
له من الليل وأنه جائز له أن يبتدئ النية له في بعض النهار.
فإن قيل: إنما جاز ترك النية له من الليل لأن الفرض لم يكن تقدم قبل
ذلك الوقت، وإنما هو فرض مبتدأ لزمهم في بعض النهار; فلذلك أجزى له مع
ترك النية من الليل، وأما بعد ثبوت فرض الصوم فغير جائز إلا أن يوجد له
نية من الليل. قيل له: لو كان إيجاد النية من الليل من شرائط صحته لوجب
أن يكون عدمها مانعا صحته، كما أنه لما كان ترك الأكل من شرائط صحة
الصوم كان وجوده مانعا منه، وأن لا يختلف في ذلك حكم الفرض المبتدأ في
بعض النهار وحكم ما تقدم فرضه; فلما أمر النبي صلى الله عليه وسلم
الآكلين بالإمساك وأمرهم مع ذلك بالقضاء; لأن ترك الأكل من شرط صحته،
ولم يأمر تاركي النية من الليل بالقضاء، وحكم لهم بصحة صومهم إذا
ابتدءوه في بعض النهار، ثبت
(1/241)
بذلك أن
إيجاد النية من الليل ليس بشرط في الصوم المستحق العين، وصار ذلك أصلا
في نظائره مما يوجبه الإنسان على نفسه من الصوم في وقت بعينه أنه يصح
بنية يحدثها بالنهار قبل الزوال.
فإن قيل: فرض صوم عاشوراء منسوخ برمضان، فكيف يستدل بالمنسوخ على صوم
ثابت الحكم مفروض؟ قيل له: إنه نسخ فرضه فلم ينسخ دلالته فيما دلت عليه
من نظائره، ألا ترى أن فرض التوجه إلى بيت المقدس قد نسخ ولم ينسخ بذلك
سائر أحكام الصلاة؟ وكذلك قد نسخ فرض صلاة الليل، ولم ينسخ سائر أحكام
الصلاة؟ ولم يمنع نسخها من الاستدلال بقوله تعالى: {فَاقْرَأُوا مَا
تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ} [المزمل: 20] في إثبات التخيير في إيجاب
القراءة بما شاء منه، وإن كان ذلك نزل في شأن صلاة الليل، وإنما قالوا:
إنه يجزي أن ينويه قبل الزوال، ولا يجوز بعده، لما روي في بعض الأخبار
أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث إلى أهل العوالي فقال: "من تغدى منكم
فليمسك ومن لم يتغد فليصم!" والغداء على ما قبل الزوال. ثم لا يخلو ذكر
الغداء من وجهين إما أن يكون قال ذلك بالغداة قبل الزوال، أو بين لهم
أن جواز النية متعلق بوجودها قبل الزوال في وقت يسمى غداة، وإلا كان
اقتصر على ذكر الأكل دون ذكر الغداة لو كان حكم ما قبل الزوال وبعده
سواء، فلما أوجب أن يكسو هذا اللفظ فائدته لئلا يخلو كلام النبي صلى
الله عليه وسلم عن فائدة، وجب أن يختلف حكم نيته قبل الزوال وبعده.
وإنما أجازوا ترك النية من الليل في صوم التطوع بما حدثنا عبد الباقي
بن قانع قال: حدثنا إسماعيل بن الفضل بن موسى قال: حدثنا مسلم بن عبد
الرحمن السلمي البلخي قال: حدثنا عمر بن هارون، عن يعقوب بن عطاء، عن
أبيه، عن ابن عباس: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصبح ولم يجمع
للصوم فيبدو له فيصوم. قالت عائشة: كان النبي صلى الله عليه وسلم
يأتينا فيقول: "هل عندكم من طعام؟" فإن كان وإلا قال: "فإني إذا صائم".
فإن قيل: إذا لم يعزم النية من الليل حتى أصبح فقد وجد غير صائم في بعض
النهار، فكان بمنزلة الآكل، فلا يصح له صوم يومه. قيل له: قد ثبت عن
النبي صلى الله عليه وسلم ابتداء صوم التطوع في بعض النهار، واتفق
الفقهاء عليه، ولم يجعلوا ما مضى من النهار عاريا من نية متقدمة مانعا
من صحة صومه، ولم يكن ذلك بمنزلة الأكل في أول النهار في منع صوم
التطوع; فكذلك عدم نية الصوم في المستحق العين من الصيام لا يمنع
ابتداء صومه، ولا يكون عدم النية في أوله بمنزلة وجود الأكل فيه كما لم
يكن ذلك حكمه في التطوع، وأيضا فلو نوى الصوم من الليل ثم عزبت نيته لم
يكن عزوب نيته مانعا من صحة صومه، ولم يكن شرط بقائه استصحاب النية له;
فلذلك جاز ترك النية في أول
(1/242)
النهار
لبعض من الصوم على حسب قيام الدلالة عليه، ولا يمنع ذلك صحة صومه. ولو
ترك الأكل في أول النهار ثم أكل في آخره كان ذلك مبطلا لصومه، ولم يكن
وجود الأكل بمنزلة عزوب النية; فاستوى حكم الأكل في الابتداء والبقاء
واختلف ذلك في حكم النية; فلذلك اختلفا. ولم يمتنع أن يكون غير ناو
للصوم في أوله ثم ينويه في بعض النهار، فيكون ما مضى من اليوم محكوما
له بحكم الصوم كما يحكم له بحكم الصوم مع عزوب النية.
فإن قيل: لما لم يصح له الدخول في الصلاة إلا بنية مقارنة لها، كان
كذلك حكم الصوم. قيل له: هذا غلط; لأنه لا خلاف بين المسلمين في جواز
صوم من نواه من الليل ثم نام فأصبح نائما، وأن صومه تام صحيح من غير
مقارنة نية الصوم بحال الدخول، ولو نوى الصلاة ثم اشتغل عنها ثم تحرم
بالصلاة لم تصح إلا بنية يحدثها عند إرادته الدخول; فلما لم يكن شرط
الدخول في الصوم مقارنة النية له عند الجميع وكان شرط الدخول في الصلاة
مقارنة النية، لم يجز أن يحكم له بحكم الصلاة إلا بعد وجود نية الدخول
في ابتدائها، ولم يجز اعتبار الصوم بالصلاة في حكم النية. وأيضا قد ثبت
عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يبتدئ صوم التطوع في بعض النهار
واتفق الفقهاء على تلقي هذا الخبر بالقبول واستعمالهم له، واتفقوا أيضا
أنه لا يصح له الدخول في صلاة التطوع إلا بنية تقارنها، فعلمنا أن نية
الصوم غير معتبرة بنية الصلاة من الوجه الذي ذكرت.
وأما ما كان من الصوم الواجب في الذمة غير مفروض في وقت معين، فإنه لا
يجوز ترك النية فيه من الليل، والأصل فيه حديث حفصة عن النبي صلى الله
عليه وسلم أنه قال: "لا صيام لمن لم يعزم عليه من الليل" وكان عموم ذلك
يقتضي إيجاد النية من الليل لسائر ضروب الصوم، إلا أنه لما قامت
الدلالة في الصوم المستحق العين وصوم التطوع سلمناه للدلالة له وخصصناه
من الجملة وبقي حكم اللفظ فيما عداه، ولا يختلف على ذلك صوم شهرين
متتابعين وقضاء رمضان; لأن صوم الشهرين المتتابعين غير مستحق العين،
وأي وقت ابتدأ فيه فهو وقت فرضه، فكان كسائر الصوم الواجب في الذمة.
والأحكام المستفادة من قوله: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ
فَلْيَصُمْهُ} إلزام صوم الشهر من كان منهم شاهدا له، وشهود الشهر
ينقسم إلى أنحاء ثلاثة: العلم به، من قولهم: شاهدت كذا وكذا; والإقامة
في الحضر، من قولك: مقيم ومسافر وشاهد وغائب; وأن يكون من أهل التكليف
على ما بينا. ثم أفاد من نسخ فرض أيام معدودات، على قول من قال إن صوم
الأيام المعدودات كان فرضا غير رمضان ثم نسخ به، ونسخ به أيضا التخيير
بين الفدية والصوم للصحيح المقيم، وأفاد أن من رأى الهلال وحده فعليه
صومه. وحكم
(1/243)
آخر: وهو
أن من علم بالشهر بعدما أصبح، أو كان مريضا فبرأ ولم يأكل ولم يشرب، أو
مسافرا قدم; فعليهم صومه; إذ هم شاهدون للشهر. وأفاد أن فرض الصيام
مخصوص بمن شهد الشهر دون غيره، وأن من ليس من أهل التكليف أو ليس بمقيم
أو لم يعلم به فغير لازم له. وأفاد تعيين الشهر لهذا الفرض حتى لا يجوز
تقديمه عليه ولا تأخيره عنه لمن شهده. وأفاد أن مراده بعض الشهر لا
جميعه في شرط لزوم الصوم، وأن الكافر إذا أسلم في بعضه والصبي إذا بلغ
فعليهما صوم بقية الشهر. وأفاد أن من نوى بصيامه تطوعا أجزأه، لورود
الأمر مطلقا بفعل الصوم غير مخصوص بصفة ولا مقيد بشرط، فاقتصر جوازه
على أي وجه صامه. ويحتج به من يقول: إنه إذا صام وهو غير عالم بالشهر
لم يجزه; ويحتج به أيضا من يقول: إذا طرأ عليه شهر رمضان، وهو مقيم ثم
سافر لم يفطر، لقوله تعالى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ
فَلْيَصُمْهُ}.
فهذا الذي حضرنا من ذكر فوائد قوله: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ
الشَّهْرَ} ولا ندفع أن يكون فيه عدة فوائد غيرها لم يحط علمنا بها،
وعسى أن نقف عليها في وقت غيره أو يستنبطها غيرنا.
وأما ما تضمنه قوله: {فَلْيَصُمْهُ} فهو ما قدمنا ذكره من الأمور التي
أمرنا بالإمساك عنها في حال الصوم، منها متفق عليه ومنها مختلف، وما
قدمناه من ذكر شرائطه وإن لم يكن صوما في نفسه. وقد تقدم بيان حكم
المريض والمسافر بعون الله وكرمه.
باب كيفية شهود الشهر
قال الله تعالى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} وقال
تعالى: {سْأَلونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ
وَالْحَجِّ} وحدثنا محمد بن بكر قال: حدثنا أبو داود قال: حدثنا سليمان
بن داود قال: حدثنا حماد عن أيوب عن نافع عن ابن عمر قال: قال رسول
الله صلى الله عليه وسلم: "الشهر تسع وعشرون، ولا تصوموا حتى تروه ولا
تفطروا حتى تروه، فإن غم عليكم فاقدروا له" قال: وكان ابن عمر إذا كان
شعبان تسعا وعشرين نظر له، فإن رئي فذلك، وإن لم ير ولم يحل دون منظره
سحاب أو قترة أصبح مفطرا، وإن حال دون منظره سحاب أو قترة أصبح صائما.
قال: وكان ابن عمر يفطر مع الناس ولا يأخذ بهذا الحساب.
قال أبو بكر: قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "صوموا لرؤيته" موافق
لقوله تعالى: {يَسْأَلونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ
لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} واتفق المسلمون على معنى الآية والخبر في اعتبار
رؤية الهلال في إيجاب صوم رمضان، فدل ذلك على أن رؤية الهلال هي شهود
(1/244)
الشهر.
وقد دل قوله: {يَسْأَلونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ} على أن الليلة التي يرى
فيها الهلال من الشهر المستقبل دون الماضي.
وقد اختلف في معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم: "فإن غم عليكم
فاقدروا له" فقال قائلون: أراد به اعتبار منازل القمر، فإن كان في موضع
القمر، لو لم يحل دونه سحاب وقترة ورئي يحكم له بحكم الرؤية في الصوم
والإفطار، وإن كان على غير ذلك لم يحكم له بحكم الرؤية. وقال آخرون:
فعدوا شعبان ثلاثين يوما أما التأويل الأول فساقط الاعتبار لا محالة
لإيجابه الرجوع إلى قول المنجمين ومن تعاطى معرفة منازل القمر ومواضعه،
وهو خلاف قول الله تعالى: {يَسْأَلونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ
مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ} فعلق الحكم فيه برؤية الأهلة، ولما كانت هذه
عبادة تلزم الكافة لم يجز أن يكون الحكم فيه متعلقا بما لا يعرفه إلا
خواص من الناس ممن عسى لا يسكن إلى قولهم. والتأويل الثاني هو الصحيح،
وهو قول عامة الفقهاء وابن عمر راوي الخبر، وقد ذكر عنه في الحديث أنه
لم يكن يأخذ بهذا الحساب.
وقد بين في حديث آخر معنى قوله فاقدروا له بنص لا تأويل فيه، وهو ما
حدثنا عبد الباقي بن قانع قال: حدثنا محمد بن العباس المؤدب قال: حدثنا
شريح بن النعمان قال: حدثنا فليح بن سليمان عن نافع عن ابن عمر: أن
رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر عنده شهر رمضان فقال: "لا تصوموا حتى
تروا الهلال، فإن غم عليكم فاقدروا ثلاثين" فأوضح هذا الخبر معنى قوله:
"فاقدروا" بما سقط به تأويل المتأولين. ويدل على بطلان تأويلهم أيضا ما
رواه حماد بن سلمة عن سماك بن حرب عن عكرمة عن ابن عباس قال: قال رسول
الله صلى الله عليه وسلم: "صوموا لرؤيته، وأفطروا لرؤيته، فإن حال
بينكم وبين منظره سحاب أو قترة فعدوا ثلاثين" فأمر عليه السلام بعد
ثلاثين مع جواز الرؤية لو لم يحل بيننا وبينه سحاب أو قترة، ولم يوجب
الرجوع إلى قول من يقول لو لم يحل بيننا وبينه حائل من سحاب أو غيره
لرأيناه. وقد روي في ذلك أيضا ما هو أوضح من هذا، وهو ما حدثنا عبد
الله بن جعفر بن أحمد بن فارس قال: حدثنا يونس بن حبيب قال: حدثنا أبو
داود الطيالسي قال: حدثنا أبو عوانة عن سماك عن عكرمة عن ابن عباس، أن
رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "صوموا رمضان لرؤيته فإن حال بينكم
غمامة أو ضبابة فأكملوا عدة شهر شعبان ثلاثين ولا تستقبلوا رمضان بصوم
يوم من شعبان" فأوجب عد شعبان ثلاثين عند حدوث الحائل بيننا وبين رؤيته
من سحاب أو نحوه. فالقائل باعتبار منازل القمر وحساب المنجمين خارج عن
حكم الشريعة. وليس هذا القول مما يسوغ الاجتهاد فيه، لدلالة الكتاب ونص
السنة وإجماع الفقهاء بخلافه، وقوله صلى الله عليه وسلم: "صوموا لرؤيته
وأفطروا لرؤيته، فإن غم عليكم فعدوا
(1/245)
ثلاثين"
هو أصل في اعتبار الشهر ثلاثين، إلا أن يرى قبل ذلك الهلال، فإن كل شهر
غم علينا هلاله فعلينا أن نعده ثلاثين. هذا في سائر الشهور التي يتعلق
بها الأحكام، وإنما يصير إلى أقل من ثلاثين برؤية الهلال; ولذلك قال
أصحابنا: "من آجر داره عشرة أشهر وهو في بعض الشهر أنه يكون تسعة أشهر
بالأهلة وشهر ثلاثين يوما يكمل الشهر الأول من آخر شهر بمقدار نقصانه;
لأن الشهر الأول ابتداؤه بغير هلال فاستوفى له ثلاثين يوما، وسائر
الشهور بالأهلة فلم يعتبر غيرها وقالوا: لو آجره في أول الشهر لكانت
كلها بالأهلة".
وقد اختلف في الشهادة على رؤية الهلال، فقال أصحابنا جميعا تقبل في
رؤية هلال رمضان شهادة رجل عدل إذا كان في السماء علة، وإن لم تكن في
السماء علة لم يقبل إلا شهادة الجماعة الكثيرة التي يوجب خبرها العلم
وقد حكي عن أبي يوسف أنه حد في ذلك خمسين رجلا. وكذلك هلال شوال وذي
الحجة إذا لم يكن بالسماء علة، فإن كان بالسماء علة لم يقبل فيها إلا
شهادة عدلين يقبل مثلهما في الحقوق. وقال مالك والثوري والأوزاعي
والليث والحسن بن حي وعبيد الله: لا يقبل في هلال رمضان وشوال إلا
شهادة عدلين. وقال المزني عن الشافعي: إن شهد على رؤية هلال رمضان عدل
واحد رأيت أن أقبله للأثر فيه، والاحتياط والقياس في ذلك أن لا يقبل
إلا شاهدان، ولا أقبل على رؤية هلال الفطر إلا عدلين.
قال أبو بكر: إنما اعتبر أصحابنا إذا لم يكن بالسماء علة شهادة الجمع
الكثير الذين يقع العلم بخبرهم; لأن ذلك فرض قد عمت الحاجة إليه،
والناس مأمورون بطلب الهلال، فغير جائز أن يطلبه الجمع الكثير ولا علة
بالسماء مع توافي هممهم وحرصهم على رؤيته، ثم يراه النفر اليسير منهم
ولا يراه الباقون مع صحة أبصارهم وارتفاع الموانع عنهم، فإذا أخبر بذلك
النفر اليسير منهم دون كافتهم علمنا أنهم غالطون غير مصيبين، فإما أن
يكونوا رأوا خيالا فظنوه هلالا أو تعمدوا الكذب; إذ جواز ذلك عليهم غير
ممتنع. وهذا أصل صحيح تقضي العقول بصحته وعليه مبنى أمر الشريعة،
والخطأ فيه يعظم ضرره ويتوصل به الملحدون إلى إدخال الشبهة على الأغمار
والحشو وعلى من لم يتيقن ما ذكرنا من الأصل; ولذلك قال أصحابنا: ما كان
من أحكام الشريعة بالناس حاجة إلى معرفته فسبيل ثبوته الاستفاضة والخبر
الموجب للعلم، وغير جائز إثبات مثله بأخبار الآحاد، نحو إيجاب الوضوء
من مس الذكر ومس المرأة والوضوء مما مست النار والوضوء مع عدم تسمية
الله عليه فقالوا: لما كانت البلوى عامة من كافة الناس بهذه الأمور
ونظائرها، فغير جائز أن يكون فيه حكم الله تعالى من طريق التوقيف إلا
وقد بلغ
(1/246)
النبي صلى
الله عليه وسلم ذلك ووقف الكافة عليه، وإذا عرفته الكافة فغير جائز
عليها ترك النقل والاقتصار على ما ينقله الواحد منهم بعد الواحد; لأنهم
مأمورون بنقله، وهم الحجة على ذلك المنقول إليهم، وغير جائز لها تضييع
موضع الحجة; فعلمنا بذلك أنه لم يكن من النبي صلى الله عليه وسلم توقيف
في هذه الأمور ونظائرها. وجائز أن يكون كان منه قول يحتمل المعاني
فحمله الناقلون الأفراد على الوجه الذي ظنوه دون الوجه الآخر، نحو
الوضوء من مس الذكر يحتمل غسل اليد على نحو قوله عليه السلام: "إذا
استيقظ أحدكم من منامه فليغسل يده ثلاثا قبل أن يدخلها في الإناء فإنه
لا يدري أين باتت يده". وقد بينا أصل ذلك في أصول الفقه. وبتضييع هذا
الأصل دخلت الشبهة على قوم في انتحالهم القول بأن النبي صلى الله عليه
وسلم نص على رجل بعينه واستخلفه على الأمة، وأن الأمة كتمت ذلك،
وأخفته; فضلوا وأضلوا وردوا معظم شرائع الإسلام، وادعوا فيه أشياء ليست
لها حقيقة ولا ثبات لا من جهة نقل الجماعات ولا من جهة نقل الآحاد،
وطرقوا للملحدين أن يدعوا في الشريعة ما ليس منها، وسهلوا للإسماعيلية
والزنادقة السبيل إلى استدعاء الضعفة والأغمار إلى أمر مكتوم زعموا حين
أجابوهم إلى تجويز كتمان الإمامة مع عظمها في النفوس وموقعها من
القلوب، فحين سمحت نفوسهم بالإجابة إلى ذلك وضعوا لهم شرائع زعموا أنها
من المكتوم، وتأولوها تأويلات زعموا أن ذلك تأويل الإمام، فسلخوهم من
الإسلام وأدخلوهم في مذهب الخرمية في حال والصابئين في أخرى على حسب ما
صادفوا من قبول المستجيبين لهم وسماحة أنفسهم بالتسليم لهم ما ادعوه.
وقد علمنا أن مجوز كتمان ذلك لا يمكنه إثبات نبوة النبي صلى الله عليه
وسلم ولا تصحيح معجزاته وكذلك سائر الأنبياء; لأن مثلهم مع كثرة عددهم
واختلاف هممهم وتباعد أوطانهم إذا جاز عليهم كتمان أمر الإمامة فجائز
عليهم أيضا التواطؤ على الكذب; إذ كان ما يجوز فيه التواطؤ على الكتمان
فجائز فيه التواطؤ على وضع خبر لا أصل له، فيوجب ذلك أن لا نأمن أن
يكون المخبرون بمعجزات النبي صلى الله عليه وسلم كانوا متواطئين على
ذلك كاذبين فيه كما تواطئوا على كتمان النص على الإمام. ومن جهة أخرى
أن الناقلين لمعجزات النبي صلى الله عليه وسلم هم الذين زعمت هذه
الفرقة الضالة أنها كفرت، وارتدت بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم
بكتمانها أمر الإمام، وأن الذين لم يرتدوا منهم كانوا خمسة أو ستة،
وخبر هذا القدر من العدد لا يوجب العلم ولا تثبت به معجزة، وخبر الجم
الغفير والجمهور الكثير منهم غير مقبول عندهم لجواز اجتماعهم عندهم على
الكذب، فصار صحة النقل مقصورة على العدد اليسير، فلزمهم دفع معجزات
النبي صلى الله عليه وسلم وإبطال نبوته.
فإن قيل أمر الأذان والإقامة ورفع اليدين في تكبير الركوع وتكبيرات
العيدين وأيام
(1/247)
التشريق
مما عمت البلوى به; وقد اختلفوا فيه، فكل من يروي عن النبي صلى الله
عليه وسلم فيه شيئا فإنما يرويه من طريق الآحاد، فلا يخلو حينئذ ذلك من
أحد وجهين: إما أن يكون لم يكن من النبي صلى الله عليه وسلم توقيف
للكافة مع عموم الحاجة إليه. وفي هذا ما يبطل أصلك الذي بنيت عليه من
أن كل ما بالناس إليه حاجة عامة فلا بد أن يكون من النبي صلى الله عليه
وسلم توقيف الأمة عليه، أو أن يكون قد كان من النبي صلى الله عليه وسلم
توقيف للكافة على شيء بعينه فلم تنقله حين ورد إلينا من طريق الآحاد،
وفي ذلك هدم قاعدتك أيضا في اعتبار نقل الكافة فيما عمت به البلوى قيل
له: هذا سؤال من لم يضبط الأصل الذي بنينا عليه الكلام في المسألة،
وذلك أنا قلنا ذلك فيما يلزم الكافة ويكونون متعبدين فيه بفرض لا يجوز
لهم تركه ولا مخالفته، وذلك مثل الإمامة والفروض التي تلزم العامة، أما
ما ليس بفرض فهم مخيرون في أن يفعلوا ما شاءوا منه، وإنما الخلاف بين
الفقهاء فيه في الأفضل منه وليس على النبي صلى الله عليه وسلم توقيفهم
على الأفضل مما خيرهم فيه; وهذا سبيل ما ذكرت من أمر الأذان والإقامة
وتكبير العيدين والتشريق ونحوها من الأمور التي نحن مخيرون فيها، وإنما
الخلاف بين الفقهاء في الأفضل منها; فلذلك جاز ورود بعض الأخبار فيه من
طريق الآحاد، ويحمل الأمر على أن النبي صلى الله عليه وسلم قد كان منه
جميع ذلك تعليما منه وجه التخيير، وليس ذلك مثل ما قد وقفوا عليه وحظر
عليهم مجاوزته وتركه إلى غيره مع عموم بلواهم به، فالذي ذكرناه من
الخبر عن رؤية الهلال إذا لم تكن بالسماء علة من الأصل الذي قدمنا أن
ما عمت به البلوي فسبيل وروده أخبار التواتر الموجبة للعلم; وأما إذا
كان بالسماء علة فإن مثله يجوز خفاؤه على الجماعة حتى لا يراه منهم إلا
الواحد والاثنان من خلل السحاب إذا انجاب عنه لم يستره قبل أن يتبينه
الآخرون; فلذلك قبل فيه خبر الواحد والاثنين ولم يشترط فيه ما يوجب
العلم.
وإنما قبل أصحابنا خبر الواحد في هلال رمضان، لما حدثنا محمد بن بكر
قال: حدثنا أبو داود قال: حدثنا موسى بن إسماعيل قال: حدثنا حماد بن
سلمة، عن سماك بن حرب، عن عكرمة، عن ابن عباس: أنهم شكوا في هلال رمضان
مرة فأرادوا أن لا يقوموا ولا يصوموا، فجاء أعرابي من الحرة فشهد أنه
رأى الهلال، فأتي به النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: "أتشهد أن لا إله
إلا الله وأني رسول الله؟" قال: نعم وشهد أنه رأى الهلال; فأمر بلالا
أن ينادي في الناس، فنادى في الناس أن يقوموا وأن يصوموا. قال أبو
داود: وأن يقوموا، كلمة لم يقلها إلا حماد بن سلمة.
وحدثنا محمد بن بكر قال: حدثنا أبو داود قال: حدثنا محمود بن خالد وعبد
الله بن عبد الرحمن السمرقندي وأنا بحديثه أتقن قالا: حدثنا مروان بن
محمد،
(1/248)
عن عبد
الله بن وهب، عن يحيى بن عبد الله بن سالم، عن أبي بكر بن نافع، عن
أبيه، عن ابن عمر قال: تراءى الناس الهلال، فأخبرت رسول الله صلى الله
عليه وسلم أني رأيته، فصام وأمر الناس بصيامه. وأيضا فإن صوم رمضان فرض
يلزم من طريق الدين، فإذا تعذر وجود الاستفاضة فيه وجب قبول أخبار
الآحاد كأخبار الآحاد المروية عن النبي صلى الله عليه وسلم في أحكام
الشرع الذي ليس من شرطه الاستفاضة، ولذلك قبلوا خبر المرأة والعبد
والمحدود في القذف إذا كان عدلا كما يقبل في الرواية عن رسول الله صلى
الله عليه وسلم مع ما عاضد القياس من الآثار المروية فيه.
وأما هلال شوال وذي الحجة فإنهم لم يقبلوا فيه إلا شهادة رجلين عدلين
ممن تقبل شهادتهم في الأحكام، لما حدثنا محمد بن بكر قال: حدثنا أبو
داود قال: حدثنا محمد بن عبد الرحيم أبو يحيى البزاز قال: أخبرنا سعيد
بن سليمان قال: حدثنا عباد عن أبي مالك الأشجعي قال: حدثنا حسين بن
الحارث الجدلي من جديلة قيس، أن أمير مكة خطب ثم قال عهد إلينا رسول
الله صلى الله عليه وسلم أن ننسك لرؤية الهلال، فإن لم نره وشهد شاهدا
عدل نسكنا بشهادتهما فسألت الحسين بن الحارث: من أمير مكة؟ فقال: لا
أدري. ثم لقيني بعد ذلك فقال: هو الحارث بن حاطب أخو محمد بن حاطب ثم
قال الأمير: إن فيكم من هو أعلم بالله ورسوله مني وشهد هذا من رسول
الله صلى الله عليه وسلم وأومأ بيده إلى رجل. قال الحسين: فقلت لشيخ
إلى جنبي: من هذا الذي أومأ إليه الأمير؟ قال: عبد الله بن عمر; وصدق،
كان أعلم بالله منه فقال: بذلك أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فقوله "أمرنا أن ننسك لرؤية الهلال" إنما هو على صلاة العيد والذبح يوم
النحر لوقوع اسم النسك عليهما دون صوم رمضان; لأن الصوم لا يتناوله هذا
الاسم مطلقا، وقد يتناول الصلاة والذبح، ألا ترى إلى قوله تعالى:
{رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ}
[البقرة: 196] فجعل النسك غير الصيام؟ والدليل على أن النسك يقع على
صلاة العيد حديث البراء بن عازب، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال
يوم النحر: "إن أول نسكنا في يومنا هذا الصلاة ثم الذبح"; فسمى الصلاة
نسكا. وقد سمى الله الذبح نسكا في قوله: {إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي
وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ} [الأنعام: 162] وفي قوله: {أَوْ
صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} [البقرة: 196] فثبت بذلك أن قوله "عهد إلينا
رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ننسك بشهادة شاهدي عدل" قد انتظم صلاة
العيد للفطر والذبح يوم النحر، فوجب أن لا يقبل فيه أقل من شاهدين، ومن
جهة أخرى أن الاستظهار بفعل الفرض أولى من الاستظهار بتركه، فاستظهروا
للفطر بشهادة رجلين لأن الإمساك فيما لا صوم فيه خير من الأكل في يوم
الصوم.
فإن قيل: في هذا ترك الاستظهار; لأنه جائز أن يكون يوم الفطر وقد شهد
به شاهد،
(1/249)
فإذا لم
تقبل شهادته واعتبرت الاستظهار برجلين فلست تأمن أن تكون صائما يوم
الفطر، وفيه مواقعة المحظور وضد الاحتياط. قيل له: إنما حظر علينا
الصوم فيه إذا علمنا أنه يوم الفطر، فأما إذا لم يثبت عندنا أنه يوم
الفطر فالصيام فيه غير محظور، فإذا لم يثبت يوم الفطر ووقفنا بين فعل
الصوم وتركه كان فعله أحوط من تركه لما بينا حتى يثبت أنه يوم الفطر
بشهادة من يقطع الحقوق بشهادته.
وقوله عز وجل: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} يدل
على النهي عن صيام يوم الشك من رمضان; لأن الشاك غير شاهد للشهر; إذ هو
غير عالم به، فغير جائز له أن يصومه عن رمضان ويدل عليه أيضا قوله صلى
الله عليه وسلم: "صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته، فإن غم عليكم فعدوا
شعبان ثلاثين" فحكم لليوم الذي غم علينا هلاله بأنه من شعبان، وغير
جائز أن يصام شعبان عن رمضان مستقبلا. ويدل عليه ما حدثنا عبد الباقي
بن قانع قال: حدثنا الفضل بن المخلد المؤدب قال: حدثنا محمد بن ناصح
قال: حدثنا بقية عن علي القرشي قال: أخبرني أحمد بن عجلان عن صالح مولى
التوأمة عن أبي هريرة قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صوم
يوم الدأدأة. وهو اليوم الذي يشك فيه لا يدرى من شعبان هو أم من رمضان
حدثنا محمد بن بكر: حدثنا أبو داود قال: حدثنا محمد بن عبد الله بن
نمير قال: حدثنا أبو خالد الأحمر عن عمرو بن قيس، عن أبي إسحاق، عن صلة
قال: كنا عند عمار في اليوم الذي يشك فيه، فأتي بشاة، فتنحى بعض القوم،
فقال عمار: "من صام هذا اليوم فقد عصى أبا القاسم صلى الله عليه وسلم".
وحدثنا عبد الباقي قال: حدثنا علي بن محمد قال: حدثنا موسى بن إسماعيل
قال: حدثنا حماد عن محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة قال: قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم: "صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته، ولا
تقدموا بين يديه بصيام يوم ولا يومين إلا أن يوافق ذلك صوما كان يصومه
أحدكم".
ومعاني هذه الآثار موافقة لدلالة قوله تعالى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ
الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} ولا يرى أصحابنا بأسا بأن يصومه تطوعا; لأن
النبي صلى الله عليه وسلم لما حكم بأنه من شعبان فقد أباح صومه تطوعا.
وقد اختلف في الهلال يرى نهارا، فقال أبو حنيفة ومحمد ومالك والشافعي:
إذا رأى الهلال نهارا فهو لليلة المستقبلة ولا فرق عندهم بين رؤيته قبل
الزوال وبعده. وروي مثله عن علي بن أبي طالب وابن عمر وعبد الله بن
مسعود وعثمان بن عفان وأنس بن مالك وأبي وائل وسعيد بن المسيب وعطاء
وجابر بن زيد. وروي عن عمر بن الخطاب فيه روايتان: إحداهما: أنه إذا
رأى الهلال قبل الزوال فهو لليلة الماضية، وإذا رآه بعد الزوال فهو
لليلة المستقبلة; وبه أخذ أبو يوسف والثوري. وروى سفيان الثوري
(1/250)
عن الركين
بن الربيع عن أبيه قال: كنت مع سليمان بن ربيعة ببلنجر فرأيت الهلال
ضحى فأخبرته، فجاء فقام تحت شجرة فنظر إليه، فلما رآه أمر الناس أن
يفطروا.
قال أبو بكر: قال الله تعالى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى
يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ
مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} وقد كان
هذا الرجل مخاطبا بفعل الصوم في آخر رمضان مرادا بقوله تعالى:
{وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ
الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} فواجب أن يكون
داخلا في خطاب قوله: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} لأن
الله تعالى لم يخص حالا من حال، فهو على سائر الأحوال سواء رأى الهلال
بعد ذلك أو لم يره. ويدل عليه أيضا اتفاق الجميع على أن رؤيته بعد
الزوال لم يزل عنه الخطاب بإتمام الصوم بل كان داخلا في حكم اللفظ،
فكذلك رؤيته قبل الزوال لدخوله في عموم اللفظ. ويدل عليه أيضا قول
النبي صلى الله عليه وسلم: "صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته" ومعلوم أن
مراده صوم يستقبله بعد الرؤية; والدلالة على ذلك من وجهين: أحدهما:
استحالة الأمر بصوم يوم ماض، والآخر اتفاق المسلمين على أنه إذا رأى
الهلال في آخر ليلة من شعبان كان عليه صيام ما يستقبل من الأيام. فثبت
أن قوله عليه السلام: "صوموا لرؤيته" إنما هو صوم بعد الرؤية، فمن رأى
الهلال نهارا قبل الزوال في آخر يوم من شعبان لزمه صوم ما يستقبل دون
ما مضى لقصور مراد النبي صلى الله عليه وسلم على صوم يفعله بعد الرؤية.
وأيضا قال النبي صلى الله عليه وسلم: "صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته فإن
غم عليكم فعدوا ثلاثين" فأوجب بذلك اعتبار الثلاثين لكل شهر يخفى علينا
رؤية الهلال فيه، فلو احتمل الهلال الذي رأى نهارا الليلة الماضية
واحتمل الليلة المستقبلة لكان الاحتمال لذلك جاعله في حكم ما خفي علينا
رؤيته، فواجب أن يعد الشهر ثلاثين يوما بقضية قوله عليه السلام.
فإن قيل: لما قال صلى عليه السلام: "وأفطروا لرؤيته" اقتضى ظاهر الأمر
بالإفطار أي وقت رأى الهلال فيه، فلما اتفق الجميع على أنه مزجور عن
الإفطار لرؤيته بعد الزوال خصصناه منه وبقي حكم العموم في رؤيته قبل
الزوال. قيل له: مراده صلى الله عليه وسلم رؤيته ليلا، بدلالة أن رؤيته
بعد الزوال لا توجب له الإفطار; لأنه رآه نهارا، وكذلك حكمه قبل الزوال
لوجود هذا المعنى. وأيضا لو كان ذلك محمولا على حقيقته لاقتضى أن يكون
ما بعد الرؤية من ذلك اليوم من شوال وما قبله من رمضان لحصول اليقين
بأن مراده الإفطار لرؤية متقدمة لا لرؤية متأخرة عنه، لاستحالة أمره
بالإفطار في وقت قد تقدم الرؤية، فيوجب ذلك أن يكون ما بعد الرؤية من
هذا اليوم من شوال، وما قبلها من رمضان، فيكون الشهر تسعة وعشرين يوما،
وبعض يوم.
(1/251)
وقد حكم
النبي صلى الله عليه وسلم للشهر بأحد عددين من ثلاثين أو تسعة وعشرين،
لقوله عليه السلام: "الشهر تسعة وعشرون" وقوله: "الشهر ثلاثون" واتفقت
الأمة على وجوب اعتقاد معنى هذا الخبر في أن الشهر لا ينفك من أن يكون
على أحد العددين اللذين ذكرنا، وأن الشهور التي تتعلق بها الأحكام لا
تكون إلا على أحد وجهين دون أن يكون تسعا وعشرين وبعض يوم، وإنما
النقصان والزيادة بالكسور إنما يكون في غير الشهور الإسلامية، نحو شهور
الروم التي منها ما هو ثمانية وعشرون يوما وربع يوم وهو شباط إلا في
السنة الكبيسة فإنه يكون تسعة وعشرين يوما، ومنها ما هو واحد وثلاثون
ومنها ما هو ثلاثون، وليس ذلك في الشهور الإسلامية. كذلك فلما امتنع أن
يكون الشهر إلا ثلاثين يوما أو تسعة وعشرين يوما علمنا أنه لم يرد
بقوله: "صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته" إلا أن يرى ليلا، وأنه لا اعتبار
برؤيته نهارا لإيجابه كون بعض يوم من هذا الشهر وبعضه من شهر غيره.
وأيضا فإن الذي قال: "صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته" هو الذي قال: "فإن
غم عليكم فعدوا ثلاثين" ورؤيته نهارا في معنى ما قد غمي علينا لاشتباه
الأمر في كونه لليلة الماضية أو المستقبلة، وذلك يوجب عده ثلاثين.
وأيضا قد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "صوموا لرؤيته
وأفطروا لرؤيته فإن حال بينكم وبينه سحاب أو قترة فعدوا ثلاثين" رواه
ابن عباس، وقد تقدم ذكر سنده; فحكم النبي صلى الله عليه وسلم للهلال
الذي قد حال بيننا وبينه حائل من سحاب بحكم ما لم ير لو لم يكن سحاب،
مع العلم بأنه لو لم يكن بيننا وبينه حائل من سحاب لرئي، لولا ذلك لم
يكن لقوله: "فإن حال بينكم وبينه سحاب أو قترة فعدوا ثلاثين" معنى;
لأنه لو كان يستحيل وقوع العلم لنا بأن بيننا وبينه حائلا من سحاب لما
قال عليه السلام: "فإن حال بينكم وبينه سحاب فعدوا ثلاثين" فيجعل ذلك
شرطا لعد ثلاثين مع علمه باليأس من وقوع علمنا بذلك. وإذا كان ذلك كذلك
فقد اقتضى هذا القول من النبي صلى الله عليه وسلم أنا متى علمنا أن
بيننا وبين الهلال حائلا من سحاب لو لم يكن لرأيناه أن نحكم لهذا اليوم
بغير حكم الرؤية، فاعتبار عدم الرؤية من الليل فيما رأيناه نهارا أولى،
فأوجب ذلك أن يكون حكم هذا اليوم حكم ما قبله ويكون من الشهر الماضي
دون المستقبل لعدم الرؤية من الليل، بل هو أضعف أمرا مما حال بيننا
وبين رؤيته سحاب; لأن ذلك قد يحيط العلم به وهذا لا يحيط علمنا بأنه من
الليلة الماضية بل أحاط العلم بأنا لم نره الليلة الماضية مع عدم
الحائل بيننا وبينه من سحاب أو غيره، والله الموفق للصواب.
(1/252)
باب قضاء رمضان
قال الله تعالى: {وَمَنْ كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ
مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ
بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ}.
(1/252)
قال الشيخ
أبو بكر: قد دل ما تلونا من الآية على جواز قضاء رمضان متفرقا من ثلاثة
أوجه: أحدها: أن قوله: {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} قد أوجب
القضاء في أيام منكورة غير معينة، وذلك يقتضي جواز قضائه متفرقا إن شاء
أو متتابعا; ومن شرط فيه التتابع فقد خالف ظاهر الآية من وجهين:
أحدهما: إيجاب صفة زائدة غير مذكورة في اللفظ، وغير جائز الزيادة في
النص إلا بنص مثله، ألا ترى أنه لما أطلق الصوم في ثلاثة أيام في الحج
وسبعة إذا رجع لم يلزمه التتابع; إذ هو غير مذكور فيه؟ والآخر: تخصيصه
القضاء في أيام غير معينة، وغير جائز تخصيص العموم إلا بدلالة. والوجه
الثاني: قوله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ
بِكُمُ الْعُسْرَ} فكل ما كان أيسر عليه فقد اقتضى الظاهر جواز فعله،
وفي إيجاب التتابع نفي اليسر وإثبات العسر، وذلك منتف بظاهر الآية.
والوجه الثالث: قوله تعالى: {وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ} يعني والله
أعلم قضاء عدد الأيام التي أفطر فيها; وكذلك روي عن الضحاك وعبد الله
بن زيد بن أسلم. فأخبر الله أن الذي يريده منا إكمال عدد ما أفطر، فغير
سائغ لأحد أن يشترط فيه غير هذا المعنى لما فيه من الزيادة في حكم
الآية، وقد بينا بطلان ذلك في مواضع.
وقد اختلف السلف في ذلك، فروي عن ابن عباس ومعاذ بن جبل وأبي عبيدة بن
الجراح وأنس بن مالك وأبي هريرة ومجاهد وطاوس وسعيد بن جبير وعطاء
قالوا: "إن شئت قضيته متفرقا وإن شئت متتابعا". وروى شريك عن أبي إسحاق
عن الحارث عن علي قال: اقض رمضان متتابعا فإن فرقته أجزأك. وروى الحجاج
عن أبي إسحاق عن الحارث عن علي في قضاء رمضان قال: لا يفرق وجائز أن
يكون ذلك على وجه الاستحباب، وأنه إن فرق أجزأه، كما رواه شريك وروي عن
ابن عمر في قضاء رمضان: صمه كما أفطرته. وروى الأعمش عن إبراهيم قال:
كانوا يقولون قضاء رمضان متتابع. وروى مالك عن حميد بن قيس المكي قال:
كنت أطوف مع مجاهد فسأله رجل عن صيام من أفطر في رمضان أيتابع؟ قلت: لا
فضرب مجاهد في صدري وقال: إنها في قراءة أبي متتابعات. وقال عروة بن
الزبير: يتابع. وقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد وزفر والأوزاعي
والشافعي: إن شاء تابع وإن شاء فرق. وقال مالك والثوري والحسن بن صالح:
يقضيه متتابعا أحب إلينا، وإن فرق أجزأه. فحصل من إجماع فقهاء الأمصار
جواز قضائه متفرقا، وقد قدمنا ذكر دلالة الآية عليه.
وقد روى حماد عن سلمة، عن سماك بن حرب، عن هارون بن أم هانئ أو ابن بنت
أم هانئ: أن النبي صلى الله عليه وسلم ناولها فضل شرابه فشربت، ثم
قالت: يا رسول الله إني كنت صائمة، وإني كرهت أن أرد سؤرك فقال: "إن
كان من قضاء رمضان فصومي يوما مكانه،
(1/253)
وإن كان
تطوعا فإن شئت فاقضيه، وإن شئت فلا تقضيه" فأمرها رسول الله صلى الله
عليه وسلم بقضاء يوم مكانه ولم يأمرها باستئناف الصوم إن كان ذلك منه
فدل ذلك على معنيين: أحدهما: أن التتابع غير واجب. والثاني: أنه ليس
بأفضل من التفريق; لأنه لو كان أفضل منه لأرشدها النبي صلى الله عليه
وسلم إليه وبينه لها.
ومما يدل على ذلك من طريق النظر أن صوم رمضان نفسه غير متتابع، وإنما
هو في أيام متجاورة، وليس التتابع من شرط صحته، بدلالة أنه لو أفطر منه
يوما لم يلزمه استقبال الصوم وجاز ما صام منه غير متتابع، فإذا لم يكن
أصله متتابعا فقضاؤه أحرى بأن لا يكون متتابعا، ولو كان صوم رمضان
متتابعا لكان إذا أفطر منه يوما لزمه التتابع، ألا ترى أنه إذا أفطر
يوما من الشهرين المتتابعين لزمه استئنافهما؟.
فإن قيل: قد أطلق الله تعالى صيام كفارة اليمين غير معقود بشرط
التتابع، وقد شرطتم ذاك فيه وزدتم في نص الكتاب. قيل له: لأنه قد ثبت
أنه كان في حرف عبد الله "متتابعات" وروى يزيد بن هارون قال: أخبرنا
ابن عون قال: سألت إبراهيم عن الصيام في كفارة اليمين فقال: كما في
قراءتنا "فصيام ثلاثة أيام متتابعات". وروى أبو جعفر الرازي عن الربيع
بن أنس عن أبي العالية قال: كان أبي يقرؤها: "فصيام ثلاثة أيام
متتابعات". وقد بينا ذلك مستقصى في أصول الفقه.
فإن قيل: لما قال الله: {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} وكان الأمر
عندنا جميعا على الفور وجب أن يلزمه القضاء في أول أحوال الإمكان من
غير تأخير، وذلك يقتضي تعجيل قضائه يوما بعد يوم، وفي وجوب ذلك إلزام
التتابع. قيل له: ليس كون الأمر على الفور من لزوم التتابع في شيء، ألا
ترى أن ذلك إنما يلزم على الفور على حسب الإمكان، وأنه لو أمكنه صوم
أول يوم فصامه ثم مرض فأفطر لم يلزمه من كون الأمر على الفور التتابع
ولا استئناف اليوم الذي أفطر فيه؟ فدل ذلك على أن لزوم التتابع غير
متعلق بكون الأمر بالقضاء على الفور دون المهلة، وأن التتابع له صفة
أخرى غيره والله أعلم.
(1/254)
باب في جواز تأخير قضاء رمضان
قال الله تعالى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ
فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} فأوجب العدة في أيام غير معينة في
الآية، فقال أصحابنا: "جائز له أن يصوم أي وقت يشاء" ولا يحفظ عنهم
رواية في جواز تأخيره إلى انقضاء السنة. والذي عندي أنه لا يجوز تأخيره
إلى أن يدخل رمضان آخر، وهو عندي على مذهبهم وذلك لأن الأمر عندهم إذا
كان غير موقت فهو على الفور، وقد بينا ذلك في أصول الفقه. وإذا كان
كذلك فلو لم يكن
(1/254)
قضاء
رمضان موقتا بالسنة لما جاز له التأخير عن ثاني يوم الفطر، إذ غير جائز
أن يلحقه التفريط بالتأخير من غير علم منه بآخر وقت وجوب الفرض الذي لا
يجوز له تأخيره عنه، كما لا يجوز ورود العبارة بفرض مجهول عند المأمور
ثم يلحقه التعنيف واللوم بتركه قبل البيان لا فرق بينهما. وإذا كان
كذلك، وقد علمنا أن مذهبهم جواز تأخير قضاء رمضان عن أول أوقات إمكان
قضائه، ثبت أن تأخيره موقت بمضي السنة، فكان ذلك بمنزلة وقت الظهر لما
كان أوله وآخره معلومين جاز ورود العبادة بفعلها من أوله إلى آخره وجاز
تأخيرها إلى الوقت الذي يخاف فوتها بتركها; لأن آخر وقتها الذي يكون
مفرطا بتأخيرها معلوم.
وقد روي جواز تأخيره في السنة عن جماعة من السلف; وروى يحيى بن سعيد عن
أبي سلمة بن عبد الرحمن قال: قالت عائشة: إن كان ليكون علي الصوم من
شهر رمضان فما استطيع أن أقضيه حتى يأتي شعبان. وروي عن عمر وأبي هريرة
قالا: لا بأس بقضاء رمضان في العشر وكذلك عن سعيد بن جبير. وقال عطاء
وطاوس ومجاهد: اقض رمضان متى شئت. فهؤلاء السلف قد اتفقوا على جواز
تأخيره عن أول أوقات إمكان قضائه.
وقد اختلف الفقهاء فيمن أخر القضاء حتى حضر رمضان آخر، فقال أصحابنا
جميعا: "يصوم الثاني عن نفسه ثم يقضي الأول ولا فدية عليه". وقال مالك
والثوري والشافعي والحسن بن صالح: إن فرط في قضاء الأول أطعم مع القضاء
كل يوم مسكينا. وقال الثوري والحسن بن حي: لكل يوم نصف صاع بر. وقال
مالك والشافعي: كل يوم مدا، وإن لم يفرط بمرض أو سفر فلا إطعام عليه.
وقال الأوزاعي: وإذا فرط في قضاء الأول ومرض في الآخر حتى انقضى ثم مات
فإنه يطعم عن الأول لكل يوم مدين: مدا لتضييعه ومدا للصيام، ويطعم عن
الآخر مدا لكل يوم. واتفق من تقدم ذكر قوله قبل الأوزاعي أنه إذا مرض
في رمضان ثم ما قبل أن يصح أنه لا يجب أن يطعم عنه.
وحدثنا عبد الباقي بن قانع قال: حدثنا محمد بن عبد الله الحضرمي قال:
حدثنا إبراهيم بن إسحاق الضبي قال: حدثنا قيس عن الأسود بن قيس عن أبيه
عن عمر بن الخطاب قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يرى بأسا
بقضاء رمضان في ذي الحجة". وحدثنا عبد الباقي قال: حدثنا بشر بن موسى
قال: حدثنا يحيى بن إسحاق قال: حدثنا ابن لهيعة عن الحارث بن يزيد عن
أبي تميم الجيشاني قال: جمعنا المجلس بطرابلس ومعنا وهيب بن معقل
الغفاري وعمرو بن العاص صاحبا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال عمرو:
أفصل
(1/255)
رمضان،
وقال الغفاري: لا نفرق بين رمضان، فقال عمرو: نفرق بين قضاء رمضان إنما
قال الله تعالى: {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ}. وحدثنا عبد الله بن
عبد ربه البغلاني قال: حدثنا عيسى بن أحمد العسقلاني قال: حدثنا بقية
عن سليمان بن أرقم عن الحسن عن أبي هريرة قال: قال رجل: يا رسول الله
علي أيام من رمضان أفأفرق بينه؟ قال: "نعم أرأيت لو كان عليك دين
فقضيته متفرقا أكان يجزيك؟" قال: نعم قال: "فإن الله أحق بالتجاوز
والعفو".
فهذه الأخبار كلها تنبئ عن جواز تأخير قضاء رمضان عن أول وقت إمكان
قضائه. وقد روي عن جماعة من الصحابة إيجاب الفدية على من أخر قضاء
رمضان إلى العام القابل، منهم ابن عباس; روي عن يزيد بن هارون عن عمرو
بن ميمون بن مهران عن أبيه قال: جاء رجل إلى ابن عباس فقال: مرضت
رمضانين، فقال ابن عباس: أستمر بك مرضك أو صححت فيما بينهما؟ قال: بل
صححت فيما بينهما؟ قال: أكان هذا؟ قال: لا قال: فدعه حتى يكون فقام إلى
أصحابه فأخبرهم، فقالوا: ارجع فأخبره أنه قد كان فرجع هو أو غيره وسأله
فقال: أكان هذا؟ قال: نعم قال: صم رمضانين وأطعم ثلاثين مسكينا وقد روى
روح بن عبادة عن عبد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر في رجل فرط في
قضاء رمضان حتى أدركه رمضان آخر، قال: يصوم الذي أدركه ويطعم عن الأول
كل يوم مدا من بر ولا قضاء عليه وهذا يشبه مذهبه في الحامل أنها تطعم
ولا قضاء عليها مع ذلك. وقد روي عن أبي هريرة مثل قول ابن عباس وقد روي
عن ابن عمر في ذلك قول آخر; روى حماد بن سلمة عن أيوب وحميد عن أبي
يزيد المدني، أن رجلا احتضر فقال لأخيه: إن لله علي دينا وللناس علي
دين فابدأ بدين الله فاقضه ثم اقض دين الناس، إن علي رمضانين لم
أصمهما، فسأل ابن عمر فقال: بدنتان مقلدتان فسأل ابن عباس وأخبره بقول
ابن عمر فقال: يرحم الله أبا عبد الرحمن ما شأن البدن وشأن الصوم؟ أطعم
عن أخيك ستين مسكينا قال أيوب: وكانوا يرون أنه قد كان صح بينهما وذكر
الطحاوي عن ابن أبي عمران قال: سمعت يحيى بن أكثم أنه يقول: وجدته يعني
وجوب الإطعام عن ستة من الصحابة ولم أجد لهم من الصحابة مخالفا وهذا
جائز أن يريد به من مات قبل القضاء.
وقوله تعالى: {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} قد دل على جواز
التفريق، وعلى جواز التأخير وعلى أن لا فدية عليه; لأن في إيجاب الفدية
مع القضاء زيادة في النص، ولا تجوز الزيادة في النص إلا بنص مثله وقد
اتفقوا على أن تأخيره إلى آخر السنة لا يوجب الفدية، وأن الآية إنما
أوجبت قضاء العدة دون غيرها من الفدية، ومعلوم أن قضاء العدة
(1/256)
في السنة
الثانية واجب بالآية، فغير جائز أن يكون المراد في بعض ما انتظمته
الآية القضاء دون الفدية وفي بعضه القضاء والفدية مع دخولهما فيها على
وجه واحد، ألا ترى أنه غير جائز أن يكون على بعض السراق المراد بالآية
القطع وزيادة غرم؟ وكذلك لا يجوز أن يكون بعضهم لا يقطع إلا في عشرة
وبعضهم يقطع فيما دونها، كذلك لا يجوز أن يكون بعض المرادين بقوله:
{فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} مخصوصا بإيجاب القضاء دون الفدية
وبعضهم مراد بالقضاء والفدية.
ومن جهة أخرى غير جائز إثبات الكفارات إلا من طريق التوقيف أو الاتفاق،
وذلك معدوم فيما وصفنا، فلم يجز إثبات الفدية قياسا وأيضا فإن الفدية
ما قام مقام الشيء وأجزأ عنه، فإنما يختص وجوبها بمن لا يجب عليه
القضاء كالشيخ الكبير ومن مات مفرطا قبل أن يقضي، أما اجتماع الفدية
والقضاء فممتنع على ما بينا في باب الحامل والمرضع، فمذهب ابن عمر في
هذا أظهر في إيجابه دون القضاء من مذهب من جمعهما ومن حديث أبي هريرة
عن النبي صلى الله عليه وسلم الذي قدمنا ذكره. على أن تأخيره لا يوجب
الفدية من وجهين: أحدهما: أنه لم يذكر الفدية عند ذكر التفريق، ولو كان
تأخيره يوجب الفدية لبينه صلى الله عليه وسلم. والثاني: تشبيهه إياه
بالدين، ومعلوم أن تأخير الدين لا يلزمه شيئا غير قضائه، فكذلك ما شبهه
به من قضاء رمضان.
فإن قيل: لما اتفقنا على أنه منهي عن تأخيره إلى العام القابل وجب أن
يجعل مفرطا بذلك، فيلزمه الفدية، كما لو مات قبل أن يقضيه لزمته الفدية
بالتفريط. قيل له: إن التفريط لا يلزمه الفدية إنما الذي يلزمه الفدية
فوات القضاء بعد الإمكان بالموت; والدليل على ذلك أنه لو أكل في رمضان
متعمدا كان مفرطا، وإذا قضاه في تلك السنة لم تلزمه الفدية عند الجميع،
فدل ذلك على أن حصول التفريط منه ليس بعلة لإيجاب الفدية.
وحكى علي بن موسى القمي أن داود الأصفهاني قال: يجب على من أفطر يوما
من رمضان لعذر أن يصوم الثاني من شوال، فإن ترك صيامه فقد أثم وفرط
فخرج بذلك عن اتفاق السلف والخلف معا وعن ظاهر قوله تعالى: {فَعِدَّةٌ
مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} وقوله: {وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ} وخالف السنن
التي روينا عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك; قال علي بن موسى: فقلت
له: لم قلت ذلك؟ قال: لأنه إن لم يصم اليوم الثاني من شوال فمات فكل
أهل العلم يقولون إنه آثم مفرط فدل ذلك على أن عليه أن يصوم ذلك اليوم;
لأنه لو كان موسعا له أن يصومه بعد ذلك ما لزمه التفريط إن مات من
ليلته. قال: فقلت له: ما تقول في رجل وجب عليه عتق رقبة فوجد رقبة تباع
بثمن موافق، هل له أن يتعداها
(1/257)
ويشتري
غيرها؟ فقال: لا فقلت: لم؟ قال: لأن الفرض عليه أن يعتق أول رقبة
يجدها، فإذا وجد رقبة لزمه الفرض فيها، وإذا لزمه في أول رقبة لم يجزه
غيرها إذا كان واجدا لها. فقلت: فإن اشترى رقبة غيرها وهو واجد للأولى؟
فقال: لا يجزيه ذلك. قلت: فإن كان عنده رقبة فوجب عليه عتق رقبة هل
يجزيه أن يشتري غيرها؟ قال: لا فقلت: لأن العتق صار عليه فيها دون
غيرها؟ فقال: نعم فقلت: فما تقول إن ماتت هل يبطل عنه العتق كما أن من
نذر أن يعتق رقبة بعينها فماتت يبطل نذره؟ فقال: لا بل عليه أن يعتق
غيرها; لأن هذا إجماع فقلت: وكذلك من وجب عليه رقبة بالإجماع أن له أن
يعتق غيرها. فقال: عمن تحكي هذا الإجماع؟ فقلت له: وعمن تحكي أنت
الإجماع الأول؟ فقال: الإجماع لا يحكى. فقلت: والإجماع الثاني أيضا لا
يحكى وانقطع.
قال أبو بكر: وجميع ما قاله داود من تعيين فرض القضاء باليوم الثاني من
شوال وأن من وجب عليه رقبة فوجدها أنه لا يتعداها إلى غيرها خلاف إجماع
المسلمين كلهم، وما ادعاه على أهل العلم بأنهم يجعلونه مفرطا إذا مات،
وقد أخره عن اليوم الثاني فليس كما ادعى، فإن من جعل له التأخير إلى
آخر السنة لا يجعله مفرطا بالموت; لأن السنة كلها إلى أن يجيء رمضان
ثان وقت القضاء موسع له في التأخير كوقت الصلاة أنه لما كان موسعا عليه
في التأخير من أوله إلى آخره لم يكن مفرطا بتأخيره إن مات قبل مضي
الوقت، فكذلك يقولون في قضاء رمضان.
فإن قيل: لو لم يكن مفرطا لما لزمته الفدية إذا مات قبل مضي السنة ولم
يقضه. قيل له: ليس لزوم الفدية علما للتفريط; لأن الشيخ الكبير يلزمه
الفدية مع عدم التفريط، وقول داود الإجماع لا يحكى خطأ، فإن الإجماع
يحكى كما تحكى النصوص، وكما يحكى الاختلاف، فإن أراد بذلك أن كل واحد
من المجمعين لا يحتاج إلى حكاية أقاويلهم بعد أن ينشر القول عن جماعة
منهم وهم حضور يسمعون ولا يخالفون، فإن ذلك على ما قال; ومع ذلك لا
يجوز إطلاق القول بأن الإجماع لا يحكى; لأن من الإجماع ما يحكى فيه
أقاويل جماعتهم فيكون ما يحكيه من إجماعهم حكاية صحيحة، ومنه ما يحكى
أقاويل جماعة منهم منتشرة مستفيضة مع سماع الآخرين لها وترك إظهار
المخالفة، فهذا أيضا إجماع يحكى; إذ كان ترك الآخرين إظهار النكير
والمخالفة قائما مقام الموافقة; فهذان الضربان من إجماع الخاصة
والفقهاء يحكيان جميعا. وإجماع آخر، وهو ما تشترك فيه الخاصة والعامة
كإجماعهم على تحريم الزنا والربا ووجوب الاغتسال من الجنابة والصلوات
الخمس ونحوها، فهذه أمور قد علم
(1/258)
اتفاق
المسلمين عليها وإن لم يحك عن كل واحد منهم بعينه اعتقاده والتدين به;
فإن عني هذا الضرب من الإجماع فقد يسوغ أن يقال: إن مثله لا يحكى، وقد
يسوغ أن يقال: إن هذا الضرب أيضا يحكى لعلمنا بإجماع أهل الصلاة على
اعتقاده والتدين به، فجائز أن يحكى عنهم اعتقادهم لذلك والتدين به
وأنهم مجمعون عليه، كما إذا ظهر لنا إسلام رجل وإظهار اعتقاده الإيمان
أن يحكى عنه أنه مسلم; وقال الله تعالى: {فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ
مُؤْمِنَاتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ} [الممتحنة: 10].
وبالله التوفيق.
(1/259)
باب الصيام في السفر
قال الله تعالى: {وَمَنْ كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ
مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ
بِكُمُ الْعُسْرَ} في هذه الآية دلالة واضحة على أن الإفطار في السفر
رخصة يسر الله بها علينا، ولو كان الإفطار فرضا لازما لزالت فائدة
قوله: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ} فدل على أن المسافر مخير بين
الإفطار وبين الصوم كقوله تعالى: {فَاقْرَأُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ
الْقُرْآنِ} وقوله: {فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} فكل موضع ذكر
فيه اليسر ففيه الدلالة على التخيير. وروى عبد الرحيم الجزري عن طاوس
عن ابن عباس قال: لا نعيب على من صام ولا على من أفطر; لأن الله قال:
{يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ}
فأخبر ابن عباس أن اليسر المذكور فيه أريد به التخيير، فلولا احتمال
الآية لما تأولها عليه. وأيضا فقال الله: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ
الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} ثم عطف عليه قوله: {وَمَنْ كَانَ مَرِيضاً
أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} فلم يوجب عليه
الإفطار ولا الصوم، والمسافر شاهد للشهر من وجهين: أحدهما: العلم به
وحضوره، والآخر: أنه من أهل التكليف، فهذا يدل على أنه من أهل الخطاب
بصوم الشهر، وأنه مع ذلك مرخص له في الإفطار. وقوله: {وَمَنْ كَانَ
مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} معناه:
فأفطر فعدة من أيام أخر، كقوله تعالى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً
أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ} [البقرة: 196]
المعنى: فحلق ففدية من صيام. ويدل على أن ذلك مضمر فيه اتفاق المسلمين
على أن المريض متى صام أجزأه ولا قضاء عليه إلا أن يفطر، فدل على أن
الإفطار مضمر فيه. وإذا كان كذلك فذلك الضمير بعينه هو مشروط للمسافر
كهو للمريض لذكرهم جميعا في الآية على وجه العطف، وإذا كان الإفطار
مشروطا في إيجاب العدة فمن أوجب على المسافر القضاء إذا صام فقد خالف
حكم الآية.
واتفقت الصحابة ومن بعدهم من التابعين وفقهاء الأمصار على جواز صوم
المسافر غير شيء يروى عن أبي هريرة أنه قال: من صام في السفر فعليه
القضاء وتابعه عليه شواذ من الناس لا يعدون خلافا. وقد ثبت عن النبي
صلى الله عليه وسلم بالخبر المستفيض الموجب
(1/259)
للعلم
"بأنه صام في السفر" وثبت عنه أيضا إباحة الصوم في السفر، منه حديث
هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة: أن حمزة بن عمرو الأسلمي قال لرسول
الله صلى الله عليه وسلم: أصوم في السفر؟ فقال عليه السلام: "إن شئت
فصم وإن شئت فأفطر" وروى ابن عباس وأبو سعيد الخدري وأنس بن مالك وجابر
بن عبد الله وأبو الدرداء وسلمة بن المحبق صيام النبي صلى الله عليه
وسلم في السفر.
واحتج من أبى جواز صوم المسافر وأوجب عليه القضاء بظاهر قوله: {وَمَنْ
كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ}
قالوا: فالعدة واجبة في الحالين; إذ ليس في الآية فرق بين الصائم
والمفطر، وبما روى كعب بن عاصم الأشعري وجابر بن عبد الله وأبو هريرة،
أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ليس من البر الصيام في السفر"، وبما
حدثنا عبد الباقي بن قانع قال: حدثنا محمد بن عبد الله الحضرمي قال:
حدثنا إبراهيم بن منذر الحزامي قال: حدثنا عبد الله بن موسى التيمي عن
أسامة بن زيد، عن الزهري، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، عن أبيه قال: قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الصائم في السفر كالمفطر في الحضر"،
وبما روى أنس بن مالك القشيري عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:
"إن الله وضع عن المسافر شطر الصلاة والصوم وعن الحامل والمرضع".
فأما الآية فلا دلالة لهم فيها، بل هي دالة على جواز صوم المسافر لما
بيناه. وأما ما روي عن النبي عليه السلام أنه قال: "ليس من البر الصيام
في السفر" فإنه كلام خرج عن حال مخصوصة، فهو مقصور الحكم عليها; وهي ما
حدثنا محمد بن بكر قال: حدثنا أبو داود قال: حدثنا أبو الوليد الطيالسي
قال: حدثنا شعبة عن محمد بن عبد الرحمن بن سعد بن زرارة، عن محمد بن
عمرو بن الحسن، عن جابر بن عبد الله: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
رأى رجلا يظلل عليه والزحام عليه، فقال: "ليس من البر الصيام في
السفر". فجائز أن يكون كل من روى ذلك فإنما حكى ما ذكره النبي صلى الله
عليه وسلم في تلك الحال، وساق بعضهم ذكر السبب وحذفه بعضهم واقتصر على
حكاية قوله عليه السلام. وقد ذكر أبو سعيد الخدري في حديثه أنهم صاموا
مع النبي صلى الله عليه وسلم عام الفتح في رمضان، ثم إنه قال لهم:
"إنكم قد دنوتم من عدوكم والفطر أقوى لكم فأفطروا!" فكانت عزيمة من
رسول الله صلى الله عليه وسلم; قال أبو سعيد: لقد رأيتني أصوم مع النبي
صلى الله عليه وسلم قبل ذلك وبعد ذلك; حدثنا محمد بن بكر قال: حدثنا
أبو داود قال: حدثنا أحمد بن صالح قال: حدثنا ابن وهب قال: حدثني
معاوية عن ربيعة بن يزيد، أنه حدثه عن قزعة قال: سألت أبا سعيد الخدري
عن صيام رمضان في السفر; وذكر الحديث. فذكر أيضا في هذا الحديث علة
أمره بالإفطار، وأنها كانت; لأنه أقوى لهم على قتال عدوهم وذلك; لأن
الجهاد كان فرضا عليهم ولم يكن
(1/260)
فعل الصوم
في السفر فرضا، فلم يكن جائزا لهم ترك الفرض لأجل الفضل. وأما حديث أبي
سلمة بن عبد الرحمن عن أبيه، فإن أبا سلمة ليس له سماع من أبيه، فكيف
يجوز ترك الأخبار المتواترة في جواز الصوم بحديث مقطوع لا يثبت عند
كثير من الناس؟ ومع ذلك فجائز أن يكون كلاما خرج على سبب وهو حال لزوم
القتال، مع العلم بالعجز عنه مع فعل الصوم، فكان حكمه مقصورا على تلك
الحال; لمخالفة أمر النبي صلى الله عليه وسلم ولما يؤدي إليه من ترك
الجهاد. وأما قوله: "إن الله وضع عن المسافر شطر الصلاة والصوم وعن
الحامل والمرضع" فإنما يدل على أن الفرض لم يتعين عليه لحضور الشهر،
وأن له أن يفطر فيه، ولا دلالة فيه على نفي الجواز إذا صامه كما لم ينف
جواز صوم الحامل والمرضع.
وقال أصحابنا: "الصوم في السفر أفضل من الإفطار" وقال مالك والثوري:
الصوم في السفر أحب إلينا لمن قوي عليه. وقال الشافعي: إن صام في السفر
أجزأه. ومما يدل على أن الصوم فيه أفضل قوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ
الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ
تَتَّقُونَ أَيَّاماً مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً
أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} إلى قوله: {وَأَنْ
تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ} وذلك عائد إلى جميع المذكور في الآية، إذا
كان الكلام معطوفا بعضه على بعض فلا يخص شيء منه إلا بدلالة، فاقتضى
ذلك أن يكون صوم المسافر خيرا له من الإفطار.
فإن قيل: هو عائد على ما يليه دون ما تقدمه، وهو قوله: {وَعَلَى
الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ}. قيل له: {كُتِبَ
عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} خطابا للجميع من المسافرين والمقيمين، فواجب أن
يكون قوله: {وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ} خطابا لجميع من شمله
الخطاب في ابتداء الآية، غير جائز الاقتصار به على البعض. وأيضا فقد
ثبت جوازه عن الفرض بما قدمناه، وما كان كذلك فهو من الخيرات، وقال
الله: {فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ} [البقرة: 148] ومدح قوما فقال:
{إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ} [الأنبياء: 90]
فالمسارعة إلى فعل الخيرات وتقديمها أفضل من تأخيرها. وأيضا فعل الفروض
في أوقاتها أفضل من تأخيرها إلى غيرها. وأيضا قال النبي صلى الله عليه
وسلم: "من أراد أن يحج فليعجل" فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بتعجيل
الحج، فكذلك ينبغي أن يكون سائر الفرائض المفعولة في وقتها أفضل من
تأخيرها عن وقتها. وحدثنا محمد بن بكر قال: حدثنا أبو داود قال: حدثنا
عقبة بن مكرم قال: حدثنا أبو قتيبة قال: حدثنا عبد الصمد بن حبيب بن
عبد الله الأزدي قال: حدثني حبيب بن عبد الله قال: سمعت سنان بن سلمة
بن المحبق الهذلي يحدث عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"من كانت له حمولة يأوي إلى
(1/261)
شبع فليصم
رمضان حيث أدركه" وحدثنا محمد بن بكر قال: حدثنا أبو داود قال: حدثنا
نصر بن المهاجر قال: حدثنا عبد الصمد بن عبد الوارث قال: حدثنا عبد
الصمد بن حبيب قال: حدثني أبي عن سنان بن سلمة عن سلمة بن المحبق قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من أدركه رمضان في السفر..." فذكر
معناه. فأمره بالصوم في السفر، وهذا على وجه الدلالة على الأفضلية لا
على جهة الإيجاب; لأنه لا خلاف أن الصوم في السفر غير واجب عليه. وقد
روى عثمان بن أبي العاص الثقفي وأنس بن مالك: أن الصوم في السفر أفضل
من الإفطار، والله أعلم.
(1/262)
باب من صام في السفر ثم أفطر
وقد اختلف في من صام في السفر ثم أفطر من غير عذر، فقال أصحابنا: عليه
القضاء ولا كفارة وكذلك لو أصبح صائما ثم سافر فأفطر، أو كان مسافرا
فصام وقدم فأفطر، فعليه القضاء في هذه الوجوه ولا كفارة عليه وذكر ابن
وهب عن مالك في الصائم في السفر إذا أفطر: عليه القضاء والكفارة وقال
مرة: لا كفارة. وروى ابن القاسم عن مالك أن عليه الكفارة وقال: لو أصبح
صائما في حضره ثم سافر فأفطر فليس عليه إلا القضاء وقال الأوزاعي: لا
كفارة على المسافر في الإفطار. وقال الليث: عليه الكفارة.
قال أبو بكر: الأصل في ذلك أن كفارة رمضان تسقطها الشبهة، فهي بمنزلة
الحد; والدليل على ذلك أنها لا تستحق إلا بمأثم مخصوص كالحدود، فلما
كانت الحدود تسقطها الشبهة كانت كفارة رمضان بمثابتها، فإذا ثبت ذلك
قلنا: إنه متى أفطر في حال السفر فإن وجود هذه الحال مانع من وجوب
الكفارة; لأن السفر يبيح الإفطار فأشبه عقد النكاح وملك اليمين في
إباحتهما الوطء وإن كانا غير مبيحين لوطء الحائض، إلا أنهم متفقون على
أن وجود السبب المبيح للوطء في الأصل مانع من وجوب الحد. وإن لم يبح
هذا الوطء بعينه، كذلك السفر وإن لم يبح الإفطار بعد الدخول في الصوم
فإنه يمنع وجوب الكفارة; إذ كان في الأصل قد جعل سببا لإباحة الإفطار;
فلذلك قلنا: إذا أفطر وهو مسافر فلا كفارة عليه وقد روى ابن عباس وأنس
بن مالك وغيرهما: "أن النبي صلى الله عليه وسلم أفطر في السفر بعدما
دخل في الصوم", وذلك لتعليم الناس جواز الإفطار فيه، فغير جائز فيما
كان هذا وصفه إيجاب الكفارة على المفطر فيه. ووجه آخر: وهو أنه لما لم
يكن فعل الصوم مستحقا عليه في السفر أشبه الصائم في قضاء رمضان أو في
صوم نذر أو كفارة، فلا تجب عليه الكفارة بإفطاره فيه; إذ كان لهبديا أن
لا يصومه، ولم يكن لزوم
(1/262)
إتمامه
بالدخول فيه موجبا عليه الكفارة عند الإفطار، فكذلك المسافر إذا صام ثم
أفطر، وأما إذا أصبح مقيما ثم سافر فأفطر فهو كما وصفنا من وجود الحال
المبيحة للإفطار وهي حال السفر، كوجود النكاح وملك اليمين في إباحة
الوطء وإن لم يبح وطء الحائض.
فإن قيل: فهذا لم يكن له في ابتداء النهار ترك الصوم لكونه مقيما
فينبغي أن يوجب عليه الكفارة; إذ كان فعل الصوم مستحقا عليه في ابتداء
النهار. قيل له: لا يجب ذلك; لأنه قد طرأ من الحال ما يمنع وجوب
الكفارة وهو ما وصفنا، وأما إذا كان مسافرا فقدم ثم أفطر فلا كفارة
عليه، لأنه قد كان له أن لا يصوم مبدئا فأشبه الصائم في قضاء رمضان
وكفارة اليمين ونحوها.
واختلف في المسافر يفطر ثم يقدم من يومه والحائض تتطهر في بعض النهار،
فقال أصحابنا والحسن بن صالح والأوزاعي: عليهما القضاء ويمسكان بقية
يومهما عما يمسك عنه الصائم وهو قول عبيد الله بن الحسن، وقال ابن
شبرمة في المسافر إذا قدم ولم يأكل شيئا: إنه يصوم بقية يومه ويقضي،
ولو طهرت المرأة من حيضها فإنها تأكل ولا تصوم. وقال ابن القاسم عن
مالك في المرأة تطهر والمسافر يقدم وقد أفطر في السفر: إنه يأكل ولا
يمسك وهو قول الشافعي; وروي عن جابر بن زيد مثله، وروى الثوري عن عبد
الله أنه قال: من أكل أول النهار فليأكل آخره ولم يذكر سفيان عن نفسه
خلاف ذلك وقال ابن القاسم عن مالك: لو أصبح ينوي الإفطار وهو لا يعلم
أنه من رمضان فإنه يكف عن الأكل والشرب ويقضي، فإن أكل أو شرب بعد أن
علم في يومه ذلك فلا كفارة عليه إلا أن يكون أكل جرأة على ما ذكرت لك،
فتجب عليه الكفارة. قال أبو بكر: لما اتفقوا على أن من غم عليه هلال
رمضان فأكل ثم علم به يمسك عما يمسك عنه الصائم، كذلك الحائض والمسافر،
والمعنى الجامع بينهما أن الحال الطارئة عليهم بعد الإفطار لو كانت
موجودة في أول النهار كانوا مأمورين بالصيام، فكذلك إذا طرأت عليهم وهم
مفطرون أمروا بالإمساك. ويدل على صحة ذلك أيضا أمر النبي صلى الله عليه
وسلم الآكلين يوم عاشوراء بالإمساك مع إيجاب القضاء عليهم، فصار ذلك
أصلا في نظائره مما وصفنا، وأما قول مالك في إيجابه الكفارة عليه إذا
أكل جرأة على ذلك فلا معنى له; لأن هذه كفارة يختص وجوبها بإفساد الصوم
على وصف، وهذا الآكل لم يفسد صوما بأكله فلا تجب عليه فيه كفارة; والله
تعالى أعلم بالصواب.
(1/263)
باب في المسافر يصوم رمضان عن غيره
واختلف في المسافر يصوم رمضان عن واجب غيره، فقال أبو حنيفة: هو عما
(1/263)
نوى فإن
صامه تطوعا فعنه روايتان: إحداهما: أنه عن رمضان، والأخرى: أنه تطوع،
وقال أبو يوسف ومحمد: هو عن رمضان في الوجهين جميعا وقال أصحابنا جميعا
في المقيم إذا نوى بصيامه واجبا غيره أو تطوعا: إنه عن رمضان ويجزيه
وقال الثوري والأوزاعي في امرأة صامت رمضان تطوعا فإذا هو من شهر
رمضان: أجزأها وقالا: من صام في أرض العدو تطوعا وهو لا يعلم أنه رمضان
أجزى عنه وقال مالك والليث: من صام في أول يوم من رمضان وهو لا يعلم
أنه رمضان لم يجزه. وقال الشافعي: ليس لأحد أن يصوم دينا ولا قضاء
لغيره في رمضان، فإن فعل لم يجزه لرمضان ولا لغيره.
قال أبو بكر: نبتدئ بعون الله تعالى بالكلام في المقيم يصوم رمضان
تطوعا، فنقول: الدلالة على صحة قول أصحابنا من طريق الظاهر وجوه:
أحدها: قوله عز وجل: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} إلى قوله: {وَأَنْ
تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ} ولم يخصص صوما، فهو على سائر ما يصومه من
تطوع أو فرض في كونه مجزيا عن الفرض; لأنه لا يخلو الصائم تطوعا أو
واجبا غير أن يكون صوما عما نوى دون رمضان، أو يكون ملغى لا حكم له
بمنزلة من لم يصم، أو مجزيا عن رمضان; فلما كان وقوعه عما نوى وكونه
ملغى مانعين من أن يكون هذا الصيام خيرا له بل يكون وقوعه عن رمضان
خيرا له، وجب أن لا يكون ملغى، ولا عما نوى من غير رمضان. ويدل عليه
أيضا قوله تعالى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} ثم
قال في نسق التلاوة: {وَمَنْ كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ
فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} ومعلوم عند جميع فقهاء الأمصار إضمار
الإفطار فيه، وأن تقديره: فأفطر فعدة من أيام أخر فإنما أوجب القضاء
على المسافر والمريض إذا أفطرا، فثبت بذلك أن من صام من المقيمين ولم
يفطر فلا قضاء عليه، إذ قد تضمنت الآية صيام الجميع من المخاطبين إلا
من أفطر من المرضى والمسافرين، ويدل عليه قول النبي صلى الله عليه
وسلم: "صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته، فإن غم عليكم فعدوا ثلاثين"
فاقتضى ظاهر ذلك جوازه على أي وجه أوقع صومه من تطوع أو غيره. ومن جهة
النظر أن صوم رمضان لما كان مستحق العين في هذا الوقت أشبه طواف
الزيارة في يوم النحر، فعلى أي وجه أوقعه أجزأ عن الفرض، على أنه لو
نواه عن غيره لم يكن عما نواه فلولا أنه قد أجزى عن الفرض لوجب أن
يجزيه عما نوى كصيام سائر الأيام يجزى عما نوى.
فإن قيل: إن صلاة الظهر مستحقة العين لهذا الوقت إذا بقي من الوقت
مقدار ما يصلي فيه الظهر، ولم يوجب ذلك جوازها بنية النفل، قيل له: وقت
الظهر غير مستحق العين لفعلها; لأنه يتسع لفعلها ولغيرها، ولا فرق بين
أول الوقت وآخره، فإذا كان فعل
(1/264)
التطوع في
أوله لا يجزي عن الفرض كذلك في آخره، وأيضا فإنه إذا نوى بصلاته في آخر
الوقت تطوعا أو فرضا غيره كان كما نوى. وقد اتفقنا على أن صوم عين
رمضان لا يجزي عن غيره، فدل أنه مستحق العين لامتناع جواز صوم آخر فيه
ولأنه وقت يستغرق الفرض لا يجوز تقديمه عليه ولا تأخيره عنه، والظهر
لها وقت غير أنه إذا أخره كان جائزا له فعلها فيه.
فإن قيل: قوله عليه السلام: "الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى"
يمنع جواز صوم رمضان بنية التطوع، قيل له: أما قوله عليه السلام:
"الأعمال بالنيات" فلا يصح الاحتجاج به; لأن فيه ضميرا محتملا لمعان من
جواز وفضيلة، وهو غير مذكور في اللفظ، ومتى تنازعنا فيه احتيج إلى
دلالة في إثباته، فسقط الاحتجاج به، وأما قوله: "ولكل امرئ ما نوى" فإن
خصمنا يوافقنا في هذه المسألة أنه ليس له ما نوى من تطوع ولا فرض غيره;
لأنا نقول: لا يكون تطوعا ولا فرضا غير رمضان، وهو يقول: لا يكون عن
رمضان ولا عما نوى; فحصل باتفاق الجميع أن قوله: "ولكل امرئ ما نوى",
غير مستعمل على ظاهره على هذه المسألة، وأيضا قوله: "ولكل امرئ ما نوى"
غير مستعمل عند الجميع على حقيقته; لأنه يقتضي أن من نوى الصوم كان
صائما، ومن نوى الصلاة كان مصليا، وإن لم يفعل شيئا من ذلك، وقد علم
أنه لا يحصل له الصلاة بمجرد النية دون فعلها، وكذلك الصوم وسائر
الفروض والطاعات; فثبت بذلك أن هذا اللفظ غير مكتف بنفسه في إثبات حكمه
إلا بقرينة; فسقط احتجاج المخالف به من وجهين: أحدهما: أن الحكم متعلق
بمعنى محذوف ويحتاج إلى دلالة في إثباته، وما كان هذا وصفه فالاحتجاج
بظاهره ساقط، والوجه الآخر: أن قوله صلى الله عليه وسلم: "ولكل امرئ ما
نوى" يقتضي جواز صومه إذا نواه تطوعا، فإذا جاز صومه وقع عن الفرض
لاتفاقنا أنه إذا لم يجز عن الفرض لم يحصل له ما نوى، فوجب بقضية قوله:
"ولكل امرئ ما نوى", إن يحصل له ما نوى وإلا فقد ألغينا حكم اللفظ
رأسا، وأيضا معلوم من فحوى قوله: "ولكل امرئ ما نوى", ما يقتضيه نيته
من ثواب فرض أو فضيلة أو نحوها فيستحق ذلك; ولأنه غير جائز أن يكون
مراده وقوع الفعل; لأن الفعل حاصل موجود مع وجود النية وعدمها والنية
هي التي تصرف أحكامه على حسب مقتضاها وموجبها من استحقاق ثواب الفرض أو
الفضيلة أو الحمد أو الذم إن كانت النية تقتضي حمده أو ذمه; وإذا كان
ذلك كذلك فليس يخلو القول فيها من أحد معنيين: إما أن يسقط اعتبار حكم
اللفظ في دلالته على جواز الصوم أو بطلانه ووجب طلب الدلالة عليه من
غيره، أو أن يستعمل حكمه فيما يقتضيه مضمونه من إفادة ما يتعلق به من
ثواب أو حمد أو ذم; فإذا وجب استعمال على
(1/265)
ذلك وقد
توجهت نيته إلى ضرب من القرب، فواجب أن يحصل له ذلك; ثم أقل أحواله في
ذلك إن لم يكن ثوابه مثل ثواب ناوي الفرض أن يكون أنقص منه، ونقصان
الثواب لا يمنع جوازه عن الفرض. والدليل عليه قوله صلى الله عليه وسلم:
"إن الرجل ليصلي الصلاة فيكتب له نصفها، ربعها، خمسها، عشرها" فأخبر
بنقصان الثواب مع الجواز، ويدل على صحة ما ذكرنا من تعلق حكم اللفظ
بالثواب والعقاب أو الحمد والذم، قوله صلى الله عليه وسلم: "ولكل امرئ
ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن
كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها فهجرته إلى ما هاجر
إليه".
وزعم الشافعي أن من عليه حجة الإسلام فأحرم ينوي تطوعا، أنه يجزيه من
حجة الإسلام، فأسقط نية التطوع وجعلها للفرض مع قوله إن فرض الحج على
المهلة وإنه غير مستحق الفعل في وقت معين، وذلك أبعد في الجواز من صوم
رمضان لأن صوم رمضان مستحق العين في وقت لا يجوز له تقديمه عليه ولا
تأخيره عنه، فترك ظاهر قوله على أصله "الأعمال بالنيات ولكل امرئ ما
نوى" ولم يلجأ فيه إلى نظر صحيح يعضد مقالته; وكان الواجب على أصلهم
اعتبار ما يدعونه ظاهرا من هذا الخبر، وأما على أصلنا فقد بينا أن
الاحتجاج به ساقط، وأوضحنا عن معناه ومقتضاه وأنه يوجب جوازه عن الفرض;
فسلم لنا ما استدللنا به من الظواهر والنظر ولم يعترض عليه هذا الأثر.
وأما المسافر إذا صام رمضان عن واجب عليه، فإنما أجاز ذلك أبو حنيفة
عما نوى; لأن فعل الصوم غير مستحق عليه في هذا الحال وهو مخير مع
الإمكان من غير ضرر بين فعله وتركه فأشبه سائر الأيام غير رمضان، فلما
كان سائر الأيام جائزا لمن صامه عما نواه فكذلك حكم رمضان للمسافر،
وعلى هذا ينبغي أنه متى نواه تطوعا أن يكون تطوعا على الرواية التي
رويت، وهي أقيس الروايتين.
فإن قيل: على هذا يلزمه أن يجزي صوم المريض الذي يجوز له الإفطار عن
غير رمضان بأن نواه تطوعا أو عن واجب عليه، للعلة التي ذكرتها في
المسافر؟ قيل له: لا يلزم ذلك لعدم العلة التي ذكرتها في المسافر، وذلك
لأن المعنى الذي وجب القول في المسافر بما وصفناه وأنه مخير بين الصوم
وتركه من غير ضرر يلحقه وأشبه ذلك في غير رمضان، وأما المريض فليس كذلك
لأنه لا يجوز له الفطر إلا مع خشية زيادة العلة والضرر اللاحق بالصوم;
فهو لا يخلو من أن لا يضر به الصوم فعليه فعله، أو أن يضره فغير جائز
له الصوم، فلما كان كذلك كان فعل الصوم مستحقا عليه أو تركه من غير
تخيير، فمتى صامه وقع عن الفرض; إذ كانت إباحة الإفطار متعلقة بخشية
الضرر، فمتى
(1/266)
فعل الصوم
فقد زال المعنى وصار بمنزلة الصحيح فأجزى عن صوم الشهر على أي وجه صام،
والله أعلم.
(1/267)
باب في عدد قضاء رمضان
قال الله تعالى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ
فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} فذكر بشر بن الوليد عن أبي يوسف،
وهشام عن محمد، من غير خلاف من أحد من أصحابنا قالوا: إذا صام أهل بلد
تسعة وعشرين يوما للرؤية وفي البلد رجل مريض لم يصم فإنه يقضي تسعة
وعشرين يوما، فإن صام أهل بلد ثلاثين يوما للرؤية وصام أهل بلد تسعة
وعشرين يوما للرؤية فعلم بذلك من صام تسعة وعشرين يوما، فإن عليهم أن
يقضوا يوما وعلى المريض المفطر قضاء ثلاثين يوما وحكى بعض أصحاب مالك
بن أنس عنه أنه يقضي رمضان بالأهلة. وذكر عنه أشهب أنه سئل عمن مرض
سنتين ثم مات عن غير قضاء: أنه يطعم عنه ستين مسكينا لكل مسكين مدا
وقال الثوري فيمن مرض رمضان وكان تسعة وعشرين يوما: إنه يصوم الذي كان
عليه وقال الحسن بن صالح: إن مرض رجل شهر رمضان فأفطره من أوله إلى
آخره ثم ابتدأ شهرا يقضيه فكان هذا الشهر الذي يقضي فيه تسعة وعشرين
يوما أجزأه عن شهر رمضان الذي أفطر وإن كان ثلاثين يوما لأنه جزاء شهر
بشهر، وإن كان ابتداء القضاء على غير استقبال شهر أتم ثلاثين يوما. وإن
كان شهر رمضان تسعة وعشرين يوما لأن الشهر لا يكون تسعة وعشرين يوما
إلا شهرا من أوله إلى آخره.
قال أبو بكر: إذا كان الشهر تسعة وعشرين أو ثلاثين يوما ثم أراد المريض
القضاء، فإنه يقضيه بعدد أيام شهر الصوم الذي أفطر فيه سواء ابتدأ
بالهلال أو من بعض الشهر; وذلك لقوله عز وجل: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ
مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} ومعناه:
فعدد من أيام أخر; يدل عليه قوله صلى الله عليه وسلم: "فإن غم عليكم
فأكملوا العدة ثلاثين" يعني العدد. وإذا كان الله سبحانه قد أوجب عليه
قضاء العدد من أيام أخر، لم يجز الزيادة عليه ولا النقصان منه، سواء
كان الشهر الذي يقضيه ناقصا أو تاما.
فإن قيل: إن كان الذي أفطر فيه شهرا، وقد قال صلى الله عليه وسلم:
"الشهر تسعة وعشرون; الشهر ثلاثون" فأي شهر أتى به فقد قضى ما عليه
لأنه شهر بشهر، قيل له: لم يقل الله تعالى: فشهر من أيام أخر وإنما
قال: {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} فأوجب استيفاء عدد ما أفطر،
فوجب اتباع ظاهر الآية ولم يجز العدول عنها إلى معنى غير مذكور، ويدل
عليه أيضا قوله تعالى: {وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ} يعني العدد; فإذا
كان الشهر الذي أفطر فيه ثلاثين
(1/267)
فعليه
إكمال عدده من غيره، ولو اقتصر على شهر هو تسعة وعشرون لما كان مكملا
للعدة; فثبت بذلك بطلان قول من اعتبر شهرا بشهر وأسقط اعتبار العدد،
ويدل على ذلك اتفاق الجميع على أن إفطاره بعض رمضان يوجب قضاء ما أفطر
بعدده، كذلك يجب أن يكون حكم إفطار جميعه في اعتبار عدده. وأما إذا صام
أهل مصر للرؤية تسعة وعشرين يوما وأهل مصر آخر للرؤية ثلاثين يوما،
فإنما أوجب أصحابنا على الذين صاموا تسعة وعشرين يوما قضاء يوم، لقوله
تعالى: {وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ} فأوجب إكمال عدة الشهر; وقد ثبت
برؤية أهل بلد أن العدة ثلاثون يوما، فوجب على هؤلاء إكمالها; لأن الله
لم يخصص بإكمال العدة قوما دون قوم فهو عام في جميع المخاطبين، ويحتج
له بقوله تعالى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} وقد
أريد بشهود الشهر العلم به; لأن من لا يعلم به فليس عليه صومه; فلما صح
له العلم بأن الشهر ثلاثون يوما برؤية أهل البلد الذين رأوه وجب عليه
صومه.
فإن قيل: إنما هو على من علم به في أوله، قيل له: هو على من علم به في
أوله وبعد انقضائه، ألا ترى أن من كان في دار الحرب فلم يعلم بشهر
رمضان ثم علم بمضيه أن عليه أن يقضيه؟ فدل ذلك على أن الأمر قد تناول
الجميع. ويدل عليه أيضا قوله صلى الله عليه وسلم: "صوموا لرؤيته
وأفطروا لرؤيته فإن غم عليكم فعدوا ثلاثين". والذين صاموا تسعة وعشرين
قد غم عليهم رؤية أولئك، فكان ذلك بمنزلة الحائل بينهم وبين الرؤية،
فوجب عليهم أن يعدوا ثلاثين.
فإن قيل: قوله عليه السلام: "صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته" يوجب اعتبار
رؤية كل قوم في بلدهم دون اعتبار رؤية غيرهم في سائر البلدان، وكل قوم
رأوا الهلال فالفرض عليهم العمل على رؤيتهم في الصيام والإفطار بقوله
عليه السلام: "صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته". ويدل عليه اتفاق الجميع
على أن على أهل كل بلد أن يصوموا لرؤيتهم وأن يفطروا لرؤيتهم، وليس
عليهم انتظار رؤية غيرهم من أهل سائر الآفاق; فثبت بذلك أن كلا منهم
مخاطب برؤية أهل بلده دون غيرهم، قيل له: معلوم أن قوله عليه السلام:
"صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته" عام في أهل سائر الآفاق، وأنه غير مخصوص
بأهل بلد دون غيرهم. وإذا كان كذلك فمن حيث وجب اعتبار رؤية أهل بلد في
الصوم والإفطار وجب اعتبار رؤية غيرهم أيضا، فإذا صاموا للرؤية تسعة
وعشرين يوما وقد صام غيرهم أيضا للرؤية ثلاثين، فعلى هؤلاء قضاء يوم
لوجود الرؤية منهم بما يوجب صوم ثلاثين يوما، وأما المحتج باتفاق
الجميع على أن على كل أهل بلد من الآفاق اعتبار رؤيتهم دون انتظار رؤية
غيرهم، فإنما يوجب ذلك عندنا على شريطة أن لا تكون رؤية غيرهم مخالفة
(1/268)
لرؤيتهم
في حكم العدد، فكلفوا في الحال ما أمكنهم اعتباره ولم يكلفوا ما لا
سبيل لهم إليه في معرفته في ذلك الوقت، فمتى يتبين لهم غيره عملوا عليه
كما لو حال بينهم وبين منظره سحاب أو ضباب وشهد قوم من غيرهم أنهم قد
رأوه قبل ذلك، لزمهم العمل على ما أخبرهم به دون ما كان عندهم من الحكم
بعدم الرؤية.
وقد روي في ذلك حديث يحتج به المخالف في هذه المقالة، وهو ما حدثنا
محمد بن بكر قال: حدثنا أبو داود قال: حدثنا موسى بن إسماعيل قال:
حدثنا إسماعيل بن جعفر قال: حدثني محمد بن أبي حرملة قال: أخبرنا كريب
أن أم الفضل بنت الحارث بعثته إلى معاوية بالشام، قال: فقدمت الشام
فقضيت حاجتها، فاستهل رمضان وأنا بالشام، فرأينا الهلال ليلة الجمعة،
ثم قدمت المدينة في آخر الشهر فسألني ابن عباس ثم ذكر الهلال فقال: متى
رأيتم الهلال؟ فقلت ليلة الجمعة، فقال: أنت رأيته؟ قلت: نعم، ورآه
الناس وصاموا وصام معاوية، فقال: لكنا رأيناه ليلة السبت فلا نزال
نصومه حتى نكمل الثلاثين أو نراه، فقلت: أو لا تكتفي برؤية معاوية
وصيامه؟ فقال: لا، هكذا أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا لا
يدل على ما ذكر لأنه لم يحك جواب النبي صلى الله عليه وسلم وقد سئل عن
هذه بعينها فأجاب به، وإنما قال: هكذا أمرنا رسول الله صلى الله عليه
وسلم ويشبه أن يكون تأول فيه قوله صلى الله عليه وسلم: "صوموا لرؤيته
وأفطروا لرؤيته" على ما قالوا; بل وجه دلالته على ما قلنا ظاهر على ما
قدمنا فلم يصح الاحتجاج به فيما اختلفنا.
وقد ذكر عن الحسن البصري ما حدثنا محمد بن بكر قال: حدثنا أبو داود
قال: حدثنا عبد الله بن معاذ قال: حدثني أبي قال: حدثني الأشعث عن
الحسن في رجل كان بمصر من الأمصار فصام يوم الاثنين وشهد رجلان أنهما
رأيا الهلال ليلة الأحد قال: لا يقضي ذلك اليوم ذلك الرجل ولا أهل
مصره، إلا أن يعلموا أن أهل مصر من الأمصار قد صاموا يوم الأحد فيقضوه،
وليس في هذا الخبر أنهم صاموا لرؤية أو لغيرها. ومسألتنا هي في أهل
بلدين صام كل واحد منهم لرؤية غير رؤية الآخرين.
وقد يحتج المخالف في ذلك بما حدثنا محمد بن بكر قال: حدثنا أبو داود
قال: حدثنا محمد بن عبيد قال: حدثنا حماد في حديث أيوب عن محمد بن
المنكدر عن أبي هريرة ذكر النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فيه قال:
"وفطركم يوم تفطرون وأضحاكم يوم تضحون، وكل عرفة موقف وكل منى منحر وكل
فجاج مكة منحر وكل جمع موقف". وروى أبو خيثمة قال: حدثنا محمد بن الحسن
المدني قال: حدثني عبد الله بن جعفر عن عثمان بن محمد عن المقبري عن
أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "الصوم يوم تصومون
والفطر يوم تفطرون والأضحى يوم تضحون". قالوا: وهذا يوجب أن يكون صوم
كل قوم يوم صاموا وفطرهم
(1/269)
يوم
أفطروا. وهذا قد يجوز أن يريد به ما لم يتبين غيره، ومع ذلك فلم يخصص
به أهل بلد دون غيرهم، فإن وجب أن يعتبر صوم من صام الأقل فيما لزمهم
فهو موجب صوم من صام الأكثر، فيكون ذلك صوما للجميع ويلزم من صام الأقل
قضاء يوم، وقد اختلف مع ذلك في صحة هذا الخبر من طريق النقل، فثبته
بعضهم ولم يثبته الآخرون. وقد تكلم أيضا في معناه، فقال قائلون: معناه
أن الجميع إذا اتفقوا على صوم يوم فهو صومهم، وإذا اختلفوا احتاجوا إلى
دلالة من غيره; لأنه لم يقل صومكم يوم يصوم بعضكم وإنما قال صومكم يوم
تصومون، وذلك يقتضي صوم الجميع وقال آخرون: هذا خطاب لكل واحد في نفسه
وإخبار بأنه متعبد بما عنده دون ما هو عند غيره، فمن صام يوما على أنه
من رمضان فقد أدى ما كلف وليس عليه مما عند غيره شيء; لأن الله تعالى
إنما كلفه بما عنده لا بما عند غيره ولم يكلفه المغيب عند الله أيضا.
قوله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ
الْعُسْرَ} قال أبو بكر: روي عن ابن عباس وقتادة ومجاهد والضحاك أن
اليسر الإفطار في السفر والعسر الصوم فيه وفي المرض، ويحتمل ما ذكر من
الإفطار في السفر لمن يجهده الصوم ويضره، كما روي عن النبي صلى الله
عليه وسلم أنه قال في الرجل الذي ظلل عليه في السفر وهو صائم: "ليس من
البر الصيام في السفر"، فأفادت الآية أن الله يريد منكم من الصوم ما
تيسر لا ما تعسر وشق; لأنه صلى الله عليه وسلم قد صام في السفر وأباح
الصوم فيه لمن لا يضره. ومعلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان متبعا
لأمر الله عاملا بما يريده منه، فدل ذلك على أن قوله: {يُرِيدُ اللَّهُ
بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} غير ناف لجواز الصوم
في السفر بل هو دال على أنه إن كان يضر فالله سبحانه غير مريد منه ذلك
وأنه مكروه له. ويدل على أن من صام في السفر أجزأه ولا قضاء عليه; لأن
في إيجاب القضاء إثبات العسر; ولأن لفظ اليسر يقتضي التخيير كما روي عن
ابن عباس، وإذا كان مخيرا في فعل الصوم وتركه فلا قضاء عليه، ويدل أيضا
على أن المريض والحامل والمرضع وكل من خشي ضرر الصوم على نفسه أو على
الصبي، فعليه أن يفطر; لأن في احتمال ضرر الصوم ومشقته ضربا من العسر،
وقد نفى الله تعالى عن نفسه إرادة العسر بنا; وهو نظير ما روي: "أن
النبي صلى الله عليه وسلم ما خير بين أمرين إلا اختار أيسرهما".
وهذه الآية أصل في أن كل ما يضر بالإنسان ويجهده ويجلب له مرضا أو يزيد
في مرضه، أنه غير مكلف به; لأن ذلك خلاف اليسر، نحو من يقدر على المشي
إلى الحج ولا يجد زادا وراحلة فقد دلت الآية أنه غير مكلف به على هذا
الوجه لمخالفته اليسر. وهو دال أيضا على أن من فرط في قضاء رمضان إلى
القابل فلا فدية عليه، لما فيه من
(1/270)
إثبات
العسر ونفي اليسر، ويدل على أن سائر الفروض والنوافل إنما أمر بفعلها
أو أبيحت له على شريطة نفي العسر والمشقة الشديدة، ويدل أيضا على أن له
أن يقضي رمضان متفرقا; لأنه ذكر ذلك عقيب قوله: {فَعِدَّةٌ مِنْ
أَيَّامٍ أُخَرَ} ودلالة ذلك عليه من وجهين: أحدهما: أن قوله: {يُرِيدُ
اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} قد اقتضى
تخيير العبد في القضاء. والثاني: أن قضاءه متفرقا أولى بمعنى اليسر
وأبعد من العسر، وهو ينفي أيضا إيجاب التتابع لما فيه من العسر، ويدل
على بطلان قول من أوجب القضاء على الفور، ومنعه التأخير; لأنه ينفي
معنى اليسر ويثبت العسر.
وقد دلت الآية على بطلان قول أهل الجبر والقائلين بأن الله يكلف عباده
ما لا يطيقون; لأن تكليف العبد ما لا يطيق وما ليس معه القدرة عليه من
أعسر العسر، وقد نفى الله تعالى عن نفسه إرادة العسر لعباده. ويدل على
بطلان قولهم من وجه آخر: وهو أنه من حمل نفسه على المشقة الشديدة التي
يلحقه ضرر عظيم في الصوم فاعل لما لم يرده الله منه بقضية الآية، وأهل
الجبر يزعمون أن كل ما فعله العبد من معصية أو كفر فإن الله مريده منه،
وقد نفى الله بهذا ما نسبوه إليه من إرادة المعاصي، ويدل أيضا من وجه
آخر على بطلان قولهم، وهو أن الله تعالى قد أخبر في هذه الآية أنه يريد
بهم اليسر ليحمدوه ويشكروه، وأنه لم يرد منهم أن يكفروا ليستحقوا
عقابه; لأن مريد ذلك غير مريد لليسر بل هو مريد للعسر ولما لا يستحق
الشكر والحمد عليه، فهذه الآية دالة من هذه الوجوه على بطلان قول أهل
الجبر وأنهم وصفوا الله تعالى بما نفاه عن نفسه ولا يليق به.
قوله عز وجل: {وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ
عَلَى مَا هَدَاكُمْ} قال أبو بكر: قد دل قوله: {وَلِتُكْمِلُوا
الْعِدَّةَ} على معان: منها أنه متى غم علينا هلال شهر رمضان فعلينا
إكمال العدة ثلاثين يوما أي شهر كان، لبيان النبي صلى الله عليه وسلم
ذلك على الوجه الذي بينا، فقال: "صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته فإن غم
عليكم فأكملوا العدة ثلاثين" فجعل إكمال العدة اعتبار الثلاثين عند
خفاء الهلال. ويدل أيضا على جواز قضاء رمضان متتابعا أو متفرقا،
لإخباره أن الفرض فيه إكمال العدة، وذلك يحصل به متفرقا كان أو
متتابعا، ويدل على أن وجوب قضائه ليس على الفور; لأنه إذا كان المقصد
إكمال العدة وذلك قد يحصل على أي وجه صام، فلا فرق بين فعله على الفور
أو على المهلة مع حصول إكمال العدة، ويدل على أنه لا فدية على من أخر
قضاء رمضان وأنه ليس عليه غير القضاء شيء; لأنه أخبر أن مراده منا
إكمال العدة وقد وجد، وفي إيجاب الفدية زيادة في النص وإثبات ما ليس هو
من المقصد، ويدل على أن من أفطر في شهر رمضان وهو ثلاثون يوما أنه غير
جائز له أن يصوم شهرا بالهلال تسعة وعشرين يوما، لقوله تعالى:
{وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ}
(1/271)
وذلك
يقتضي استيفاء العدد، فالقائل بجواز الاقتصار على نقصان العدد مخالف
لحكم الآية، ويدل على أن أهل بلد إذا صاموا تسعة وعشرين يوما للرؤية
وأهل بلد آخر إذا صاموا للرؤية ثلاثين أن على الذين صاموا تسعة وعشرين
يوما أن يقضوا يوما، لقوله تعالى: {وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ} وقد حصل
عدة رمضان ثلاثين لأهل ذلك البلد فعلى الآخرين أن يكملوها كما كان على
أولئك إكمالها; إذ كان الله لم يخصص بعضا من كل.
وأما قوله: {وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ} فإنه روي عن
ابن عباس أنه كان يقول: حقا على المسلمين إذا نظروا إلى هلال شوال أن
يكبروا لله حتى يفرغوا من عيدهم، وذلك لقوله: {وَلِتُكْمِلُوا
الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ} وروي عن
الزهري عن النبي صلى الله عليه وسلم: "أنه كان يكبر يوم الفطر إذا خرج
إلى المصلى وإذا قضى الصلاة قطع التكبير"، وقد روي عن علي وأبي قتادة
وابن عمر وسعيد بن المسيب وعروة والقاسم وخارجة بن زيد ونافع بن جبير
بن مطعم وغيرهم أنهم كانوا يكبرون يوم العيد إذا خرجوا إلى المصلى.
وروى حنش بن المعتمر عن علي أنه ركب بغلته يوم الأضحى فلم يزل يكبر حتى
أتى الجبانة، وروى ابن أبي ذئب عن شعبة مولى ابن عباس قال: كنت أقود
ابن عباس إلى المصلى فيسمع الناس يكبرون فيقول: ما شأن الناس؟ أكبر
الإمام؟ فأقول: لا، فيقول: أمجانين الناس؟ فأنكر ابن عباس في هذا الخبر
التكبير في طريق المصلى، وهذا يدل على أن المراد عنده التكبير المذكور
في الآية وهو التكبير الذي يكبره الإمام في الخطبة مما يصلح أن يكبر
الناس معه. وما روي عنه أنه حق على المسلمين إذا نظروا إلى هلال شوال
أن يكبروا حتى يفرغوا من عيدهم، فليس فيه دلالة على الجهر به، وجائز أن
يريد به تكبيرهم في أنفسهم، وقد روي عن ابن عمر أنه كان إذا خرج يوم
الفطر ويوم الأضحى يكبر ويرفع صوته حتى يجيء المصلى; وروي عن زيد بن
أسلم أنه تأول ذلك على تكبير يوم الفطر.
واختلف فقهاء الأمصار في ذلك، فروى المعلى عن أبي يوسف عن أبي حنيفة
قال: يكبر الذي يذهب إلى العيد يوم الأضحى ويجهر بالتكبير ولا يكبر يوم
الفطر وقال أبو يوسف: يكبر يوم الأضحى والفطر وليس فيه شيء موقت، لقوله
تعالى: {وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ} وقال عمرو: سألت
محمدا عن التكبير في العيدين، فقال: نعم يكبر وهو قولنا. وقال الحسن بن
زياد عن أبي حنيفة: إن التكبير في العيدين ليس بواجب في الطريق ولا في
المصلى، وإنما التكبير الواجب في صلاة العيد. وذكر الطحاوي أن ابن أبي
عمران كان يحكي عن أصحابنا جميعا أن السنة عندهم في يوم الفطر أن
يكبروا في الطريق إلى المصلى حتى يأتوه، ولم نكن نعرف ما حكاه المعلى
(1/272)
عنهم،
وقال الأوزاعي ومالك: يكبر في خروجه إلى المصلى في العيدين جميعا قال
مالك: ويكبر في المصلى إلى أن يخرج الإمام، فإذا خرج الإمام قطع
التكبير، ولا يكبر إذا رجع وقال الشافعي أحب إظهار التكبير ليلة الفطر
وليلة النحر وإذا عدوا إلى المصلى حتى يخرج الإمام وقال في موضع آخر:
حتى يفتتح الإمام الصلاة.
قال أبو بكر: تكبير الله هو تعظيمه، وذلك يكون بثلاثة معان: عقد
الضمير، والقول، والعمل، فعقد الضمير هو اعتقاد توحيد الله تعالى وعدله
وصحة المعرفة به وزوال الشكوك، وأما القول فالإقرار بصفاته العلى
وأسمائه الحسنى وسائر ما مدح به نفسه، وأما العمل فعبادته بما يعبد من
الأعمال بالجوارح كالصلاة وسائر المفروضات، وكل ذلك غير مقبول إلا بعد
تقدمة الاعتقاد له بالقلب على الحد الذي وصفنا، وأن يتحرى بجميع ذلك
موافقة أمر الله كما قال عز وجل: {وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى
لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ
مَشْكُوراً} [الإسراء: 19] فشرط بديا تحري موافقة أمر الله بذكره إرادة
الآخرة، ولم يقتصر عليه حتى ذكر العمل لله وهو السعي، وعقد ذلك كله
بشريطة الإيمان بقوله: {وَهُوَ مُؤْمِنٌ} [الإسراء: 19] ثم عقبه بذكر
الوعد لمن حصلت له هذه الأعمال نسأل الله تعالى أن يجعلنا من أهل هذه
الآية وأن يوفقنا إلى ما يؤدينا إلى مرضاته.
وإذا كان تكبير الله تعالى ينقسم إلى هذه المعاني التي ذكرنا، وقد
علمنا لا محالة أن اعتقاد التوحيد والإيمان بالله ورسله شرط في سائر
القرب، وذلك غير مختص بشيء من الطاعات دون غيرها، ومعلوم أيضا أن سائر
المفروضات التي يتعلق وجوبها بأسباب أخر غير مبنية على صيام رمضان، ثبت
أن التعظيم المذكور في هذه الآية ينبغي أن يكون متعلقا بإكمال عدة
رمضان، وأولى الأشياء به إظهار لفظ التكبير، ثم جائز أن يكون تكبيرا
يفعله الإنسان في نفسه عند رؤية هلال شوال، وجائز أن يكون المراد ما
تأوله كثير من السلف على أنه التكبير المفعول في الخروج إلى المصلى،
وجائز أن يريد به تكبيرات صلاة العيد; كل ذلك يحتمله اللفظ، ولا دلالة
فيه على بعض دون بعض، فأيها فعل فقد قضى عهدة الآية وفعل مقتضاها، ولا
دلالة في اللفظ على وجوبه; لأن قوله تعالى {وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ}
لا يقتضي الوجوب; إذ جائز أن يتناول ذلك النفل، ألا ترى أنا نكبر الله
أو نعظمه بما نظهره من التكبير نفلا؟ ولا خلاف بين الفقهاء أن إظهار
التكبير ليس بواجب، ومن كبر فإنما فعله استبراء، ومع ذلك فإنه متى فعل
أدنى ما يسمى تكبيرا فقد وافق مقتضى الآية، إلا أن ما روي من ذلك عن
النبي صلى الله عليه وسلم وعن السلف من الصدر الأول والتابعين في
تكبيرهم يوم الفطر في طريق المصلى، يدل على أنه مراد الآية، فالأظهر من
(1/273)
ذلك أن
فعله مندوب إليه ومستحب لا حتما واجبا.
والذي ذكره ابن أبي عمران هو أولى بمذهب أبي حنيفة وسائر أصحابنا، لما
روي عن النبي صلى الله عليه وسلم من طريق الزهري وإن كان مرسلا، وعن
السلف، فلأن ذلك موافق لظاهر الآية; إذ كانت تقتضي تحديد تكبير عند
إكمال العدة، والفطر أولى بذلك من الأضحى، وإذا كان ذلك عنده مسنونا في
الأضحى فالفطر كذلك; لأن صلاتي العيدين لا تختلفان في حكم التكبير
فيهما والخطبة بعدهما وسائر سننهما، فكذلك ينبغي أن تكون سنة التكبير
في الخروج إليهما.
وفي هذه الآية دلالة على بطلان قول أهل الجبر; لأن فيها أن الله قد
أراد من المكلفين إكمال العدة واليسر وليكبروه ويحمدوه ويشكروه على
نعمته، وهدايته لهم إلى هذه الطاعات التي يستحقون بها الثواب الجزيل
فقد أراد من الجميع هذه الطاعات وفعل الشكر وإن كان فيهم من يعصيه ولا
يشكره. فثبت بدلالة هذه الآية أن الله لم يرد من أحد أن يعصيه ولا أن
يترك فروضه وأوامره، بل أراد من الجميع أن يطيعوه ويشكروه، ومع ما دلت
العقول عليه بأن فاعل ما أريد منه مطيع للمريد متبع لأمره، فلو كان
الله تعالى مريدا للمعاصي لكان العصاة مطيعين له، فدلالة العقول موافقة
لدلالة الآية، والله سبحانه وتعالى الموفق للصواب.
(1/274)
باب الأكل و الشرب و الجماع ليلة الصيام
...
باب الأكل والشرب والجماع ليلة الصيام
قال الله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى
نِسَائِكُمْ} إلى قوله: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ}
روي عن ابن عباس أن ذلك كان في الفرض الأول من الصيام بقوله تعالى:
{كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ
قَبْلِكُمْ} وأنه كان صوم ثلاثة أيام من كل شهر، وأنه كان من حين يصلي
العتمة يحرم عليهم الطعام والشراب والجماع إلى القابلة رواه عطية عن
ابن عباس وروى عكرمة عن ابن عباس مثله، ولم يذكر أنه كان في الصوم
الأول. وروى عطاء عن ابن عباس أنه كان إذا صلى العتمة ورقد حرم عليه
الطعام والشراب والجماع، وروى الضحاك أنه كان يحرم ذلك عليهم من حين
يصلون العتمة وعن معاذ أنه كان يحرم ذلك عليهم بعد النوم وكذلك ابن أبي
ليلى عن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم قالوا: ثم إن رجلا من الأنصار
لم يأكل ولم يشرب حتى نام، فأصبح صائما فأجهده الصوم، وجاء عمر وقد
أصاب امرأته بعد ما نام فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل
الله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى
نِسَائِكُمْ} ونسخ به تحريم الأكل والشرب والجماع بعد النوم.
(1/274)
والرفث
المذكور هو الجماع لا خلاف بين أهل العلم فيه واسم الرفث يقع على
الجماع وعلى الكلام الفاحش ويكنى به عن الجماع، قال ابن عباس في قوله:
{فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ} [البقرة: 197] إنه مراجعة النساء بذكر
الجماع; قال العجاج:
عن اللغا ورفث التكلم
فأولى الأشياء بمعنى الآية هو الجماع نفسه; لأن رفث الكلام غير مباح،
ومراجعة النساء بذكر الجماع ليس لها حكم يتعلق بالصوم لا فيما سلف ولا
في المستأنف، فعلم أن المراد هو ما كان محرما عليهم من الجماع فأبيح
لهم بهذه الآية ونسخ به ما تقدم من الحظر.
وقوله تعالى: {هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ} بمعنى
هن كاللباس لكم في إباحة المباشرة وملابسة كل واحد منهما لصاحبه; قال
النابغة الجعدي:
إذا ما الضجيع ثنى عطفه ... تثنت عليه فكانت لباسا
ويحتمل أن يريد باللباس الستر; لأن اللباس هو ما يستر، وقد سمى الله
تعالى الليل لباسا; لأنه يستر كل شيء يشتمل عليه بظلامه، فإن كان
المعنى ذلك، فالمراد كل واحد منهما ستر صاحبه عن التخطي إلى ما يهتكه
من الفواحش، ويكون كل واحد منهما متعففا بالآخر مستترا به.
وقوله تعالى: {عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ
أَنْفُسَكُمْ} ذكر للحال التي خرج عليها الخطاب واعتداد بالنعمة علينا
بالتخفيف بإباحة الجماع والأكل والشرب في ليالي الصوم واستدعاء لشكره
عليها.
ومعنى قوله: {تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ} أي يستأثر بعضكم بعضا في
مواقعة المحظور من الجماع والأكل والشرب بعد النوم في ليالي الصوم،
كقوله: {تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ} [البقرة: 85] يعني يقتل بعضكم بعضا.
ويحتمل أن يريد به كل واحد في نفسه بأنه يخونها، وسماه خائنا لنفسه من
حيث كان ضرره عائدا عليه.
ويحتمل أن يريد به أنه يعمل عمل المستأثر له، فهو يعامل نفسه بعمل
الخائن لها، والخيانة هي انتقاص الحق على جهة المساترة.
وقوله تعالى: {فَتَابَ عَلَيْكُمْ} يحتمل معنيين: أحدهما: قبول التوبة
من خيانتهم لأنفسهم، والآخر: التخفيف عنكم بالرخصة والإباحة، كقوله
تعالى {عَلِمَ أَنْ لَنْ
(1/275)
تُحْصُوهُ
فَتَابَ عَلَيْكُمْ} [المزمل: 20] يعني والله أعلم: خفف عنكم، وكما قال
عقيب ذكر حكم قتل الخطإ: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ
مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ} [النساء: 92] يعني تخفيفه; لأن
قاتل الخطأ لم يفعل شيئا تلزمه التوبة منه.
وقوله تعالى: {وَعَفَا عَنْكُمْ} يحتمل أيضا العفو عن الذنب الذي
اقترفوه بخيانتهم لأنفسهم، ثم لما أحدثوا التوبة منه عفا عنهم في
الخيانة، ويحتمل أيضا التوسعة والتسهيل بإباحة ما أباح من ذلك; لأن
العفو يعبر به في اللغة عن التسهيل، كقول النبي صلى الله عليه وسلم:
"أول الوقت رضوان الله وآخره عفو الله" يعني تسهيله وتوسعته.
وقوله تعالى: {فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ} إباحة للجماع المحظور كان قبل
ذلك في ليالي الصوم، والمباشرة هي إلصاق البشرة بالبشرة، وهي في هذا
الموضع كناية عن الجماع; قال زيد بن أسلم: هي المواقعة والجماع وقال في
المباشرة مرة: هي إلصاق الجلد بالجلد، وقال الحسن: المباشرة النكاح،
وقال مجاهد: الجماع وهو مثل قوله عز وجل: {وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ
وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ}.
وقوله: {وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ}، قال عبد الوهاب عن
أبيه عن ابن عباس قال: الولد، وعن مجاهد والحسن والضحاك والحكم مثله،
وروى معاذ بن هشام قال: حدثني أبي عن عمرو بن مالك عن أبي الجوزاء عن
ابن عباس {وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ} قال ليلة القدر وقال
قتادة في قوله: {وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ} قال: "الرخصة
التي كتب الله لكم".
قال أبو بكر: إذا كان المراد بقوله: {فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ} الجماع،
فقوله: {وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ} لا ينبغي أن يكون
محمولا على الجماع لما فيه من تكرار المعنى في خطاب واحد، ونحن متى
أمكننا استعمال كل لفظ على فائدة مجددة فغير جائز الاقتصار بها على
فائدة واحدة، وقد أفاد قوله: {فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ} إباحة الجماع،
فالواجب أن يكون قوله: {وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ} على
غير الجماع.
ثم لا يخلو من أن يكون المراد به ليلة القدر على ما رواه أبو الجوزاء
عن ابن عباس، أو الولد على ما روي عنه وعن غيره ممن قدمنا ذكره، أو
الرخصة على ما روي عن قتادة، فلما كان اللفظ محتملا لهذه المعاني ولولا
احتماله لها لما تأوله السلف عليها وجب أن يكون محمولا على الجميع،
وعلى أن الكل مراد الله تعالى فيكون اللفظ منتظما لطلب ليلة القدر في
رمضان ولاتباع رخصة الله تعالى ولطلب الولد، فيكون العبد مأجورا على ما
يقصده من ذلك، ويكون الأمر بطلب الولد على معنى ما روي عن
(1/276)
النبي صلى
الله عليه وسلم أنه قال: "تزوجوا الودود الولود فإني مكاثر بكم الأمم
يوم القيامة"، وكما سأل زكريا ربه أن يرزقه ولدا بقوله: {فَهَبْ لِي
مِنْ لَدُنْكَ وَلِيّاً يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ} [مريم:
2].
وقوله: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا} إطلاق من حظر، كقوله: {فَإِذَا قُضِيَتِ
الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ
اللَّهِ} [الجمعة: 10]، وقوله: {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا}
[المائدة: 2]، ونظائر ذلك من الإباحة الواردة بعد الحظر، فيكون حكم
اللفظ مقصورا على الإباحة لا على الإيجاب ولا الندب.
وأما قوله: {حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ
الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} قال أبو بكر: قد اقتضت الآية
إباحة الأكل والشرب والجماع إلى أن يتبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود
من الفجر، روي أن رجالا منهم حملوا ذلك على حقيقة الخيط الأبيض والأسود
وتبين أحدهما من الآخر، منهم عدي بن حاتم حدثنا محمد بن بكر قال: حدثنا
أبو داود قال: حدثنا مسدد قال: حدثنا حصين بن نمير قال وحدثنا أبو داود
قال: حدثنا عثمان بن أبي شيبة قال: حدثنا ابن إدريس المعني عن حصين عن
الشعبي عن عدي بن حاتم قال: لما نزلت هذه الآية: {حَتَّى يَتَبَيَّنَ
لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ} قال: أخذت
عقالا أبيض وعقالا أسود فوضعتهما تحت وسادتي، فنظرت فلم أتبين، فذكرت
ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فضحك فقال: "إن وسادك إذا لعريض
طويل إنما هو الليل والنهار" قال عثمان: إنما هو سواد الليل وبياض
النهار. قال: وحدثنا أبو محمد جعفر بن محمد الواسطي قال: حدثنا أبو
الفضل جعفر بن محمد اليماني قال: حدثنا أبو عبيد قال: حدثنا ابن أبي
مريم عن أبي غسان محمد بن مطرف قال: أخبرنا أبو حازم عن سهل بن سعد
قال: لما نزل قوله: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ
الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ} ولم ينزل {مِنَ
الْفَجْرِ} قال: فكان رجال إذا أرادوا الصوم ربط أحدهم في رجله الخيط
الأبيض والخيط الأسود، فلا يزال يأكل ويشرب حتى يتبينا له، فأنزل الله
بعد ذلك: {مِنَ الْفَجْرِ} فعلموا أنه إنما يعني بذلك الليل والنهار.
قال أبو بكر: إذا كان قوله {مِنَ الْفَجْرِ} مبينا فيه فلا إلباس على
أحد في أنه لم يرد به حقيقة الخيط، لقوله: {مِنَ الْفَجْرِ} ويشبه أن
يكون إنما اشتبه على عدي وغيره ممن حمل اللفظ على حقيقته قبل نزول
قوله: {مِنَ الْفَجْرِ} وذلك لأن الخيط اسم للخيط المعروف حقيقة، وهو
مجاز واستعارة في سواد الليل وبياض النهار، وجائز أن يكون ذلك قد كان
شائعا في لغة قريش ومن خوطبوا به ممن كان بحضرة النبي صلى الله عليه
وسلم عند نزول الآية، وأن عدي بن حاتم ومن أشكل عليه ذلك لم يكونوا
عرفوا هذه اللغة لأنه ليس كل
(1/277)
العرب
تعرف سائر لغاتها. وجائز مع ذلك أن يكونوا عرفوا ذلك اسما للخيط حقيقة
ولبياض النهار وسواد الليل مجازا ولكنهم حملوا اللفظ على الحقيقة، فلما
سألوا النبي صلى الله عليه وسلم أخبرهم بمراد الله تعالى منه، وأنزل
الله تعالى بعد ذلك: {مِنَ الْفَجْرِ} فزال الاحتمال وصار المفهوم من
اللفظ سواد الليل وبياض النهار، وقد كان ذلك اسما لسواد الليل وبياض
النهار في الجاهلية، قبل الإسلام مشهورا ذلك عندهم; قال أبو داود
الإيادي:
ولما أضاءت لنا ظلمة ... ولاح من الصبح خيط أنارا
وقال آخر في الخيط الأسود:
قد كاد يبدو أو بدت تباشره ... وسدف الخيط البهيم ساتره
فقد كان ذلك مشهورا في اللسان قبل نزول القرآن به وقال أبو عبيدة معمر
بن المثنى: الخيط الأبيض هو الصبح والخيط الأسود الليل; قال: والخيط هو
اللون.
فإن قيل: كيف شبه الليل بالخيط الأسود وهو مشتمل على جميع العالم، وقد
علمنا أن الصبح إنما شبه بالخيط لأنه مستطيل أو مستعرض في الأفق، فأما
الليل فليس بينه وبين الخيط تشابه ولا مشاكلة؟ قيل له: إن الخيط الأسود
هو السواد الذي في الموضع قبل ظهور الخيط الأبيض فيه، وهو في ذلك
الموضع مساو للخيط الأبيض الذي يظهر بعده، فمن أجل ذلك سمي الخيط
الأسود.
وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في تحديد الوقت الذي يحرم به
الأكل والشرب على الصائم ما حدثنا محمد بن بكر قال: حدثنا أبو داود
قال: حدثنا مسدد قال: حدثنا حماد بن زيد عن عبد الله بن سوادة القشيري
عن أبيه قال: سمعت سمرة بن جندب يخطب وهو يقول: قال رسول الله صلى الله
عليه وسلم: "لا يمنعنكم من سحوركم أذان بلال ولا بياض الأفق الذي هكذا
حتى يستطير" وحدثنا محمد بن بكر قال: حدثنا أبو داود قال: حدثنا محمد
بن عيسى قال: حدثنا ملازم بن عمرو عن عبد الله بن النعمان قال: حدثني
قيس بن طلق عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كلوا
واشربوا ولا يهيدنكم الساطع المصعد فكلوا واشربوا حتى يعترض لكم
الأحمر". فذكر في هذا الخبر الأحمر، ولا خلاف بين المسلمين أن الفجر
الأبيض المعترض في الأفق قبل ظهور الحمرة يحرم به الطعام والشراب على
الصائم; وقال عليه السلام لعدي بن حاتم: "إنما هو بياض النهار وسواد
الليل" ولم يذكر الحمرة.
فإن قيل: قد روي عن حذيفة قال: "تسحرنا مع رسول الله صلى الله عليه
وسلم وكان نهارا إلا أن الشمس لم تطلع"، قيل له: لا يثبت ذلك عن حذيفة
وهو مع ذلك من أخبار الآحاد،
(1/278)
فلا يجوز
الاعتراض به على القرآن، قال الله تعالى: {حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ
الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ}
فأوجب الصوم والإمساك عن الأكل والشرب بظهور الخيط الذي هو بياض الفجر.
وحديث حذيفة إن حمل على حقيقته كان مبيحا لما حظرته الآية; وقال النبي
صلى الله عليه وسلم في حديث عدي بن حاتم: "هو بياض النهار وسواد الليل"
فكيف يجوز الأكل نهارا في الصوم مع تحريم الله تعالى إياه بالقرآن
والسنة؟ ولو ثبت حديث حذيفة من طريق النقل لم يوجب جواز الأكل في ذلك
الوقت; لأنه لم يعز الأكل إلى النبي صلى الله عليه وسلم وإنما أخبر عن
نفسه أنه أكل في ذلك الوقت لا عن النبي صلى الله عليه وسلم; فكونه مع
النبي صلى الله عليه وسلم في وقت الأكل لا دلالة فيه على علم النبي صلى
الله عليه وسلم بذلك منه وإقراره عليه، ولو ثبت أنه عليه السلام علم
بذلك وأقره عليه احتمل أن يكون ذلك كان في آخر الليل قرب طلوع الفجر
فسماه نهارا لقربه منه، كما حدثنا محمد بن بكر قال: حدثنا أبو داود
قال: حدثنا عمرو بن محمد الناقد قال: حدثنا حماد بن خالد الخياط قال:
حدثنا معاوية بن صالح عن يونس بن سيف عن الحارث بن زياد عن أبي رهم عن
العرباض بن سارية قال: دعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى السحور
في رمضان فقال: "هلم إلى الغداء المبارك" فسمى السحور غداء لقربه من
الغداء. كذلك لا يمتنع أن يكون حذيفة سمى الوقت الذي تسحر فيه نهارا
لقربه من النهار.
قال أبو بكر فقد وضح بما تلونا من كتاب الله وتوقيف نبيه صلى الله عليه
وسلم أن أول وقت الصوم هو طلوع الفجر الثاني المعترض في الأفق، وأن
الفجر المستطيل إلى وسط السماء هو من الليل، والعرب تسميه ذنب السرحان.
وقد اختلف أهل العلم في حكم الشاك في الفجر، فذكر أبو يوسف في الإملاء
أن أبا حنيفة قال: يدع الرجل السحور إذا شك في الفجر أحب إلي، فإن تسحر
فصومه تام وهو قولهم جميعا في الأصل، وقال: إن أكل فلا قضاء عليه وحكى
ابن سماعة عن أبي يوسف عن أبي حنيفة أنه إن أكل وهو شاك قضى يوما وقال
أبو يوسف: ليس عليه في الشك قضاء، وقال الحسن بن زياد عن أبي حنيفة:
أنه إن كان في موضع يستبين الفجر ويرى مطلعه من حيث يطلع ليس هناك علة
فليأكل ما لم يستبن له الفجر، وهو قول الله تعالى: {وَكُلُوا
وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ
الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} وقال: وقال أبو حنيفة: إن كان
في موضع لا يرى فيه الفجر أو كانت مقمرة وهو يشك في الفجر فلا يأكل،
وإن أكل فقد أساء، وإن كان أكبر رأيه أنه أكل والفجر طالع قضى، وإلا لم
يقض، وسواء كان في سفر أو حضر، وهذا قول زفر وأبي يوسف، وبه نأخذ.
وكذلك روي عنهم في الشك في غيبوبة الشمس على هذا الاعتبار.
(1/279)
قال أبو
بكر: وينبغي أن يكون رواية الأصل ورواية الإملاء في كراهيتهم الأكل عند
الشك في الفجر محمولين على ما رواه الحسن بن زياد; لأنه فسر ما أجملوه
في الروايتين الأخريين; ولأنها موافقة لظاهر الكتاب، وقد روي عن ابن
عباس أنه بعث رجلين لينظرا له طلوع الفجر في الصوم فقال أحدهما: قد
طلع، وقال الآخر: لم يطلع، فقال: اختلفتما فأكل، وكذلك روي عن ابن عمر
وذلك في حال أمكن فيها الوصول إلى معرفة طلوع الفجر من طريق المشاهدة;
وقال تعالى: {حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ
الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} فأباح الأكل إلى أن يتبين،
والتبين إنما هو حصول العلم الحقيقي، ومعلوم أن ذلك إنما أمروا به في
حال يمكنهم فيها الوصول إلى العلم الحقيقي بطلوعه. وأما إذا كانت ليلة
مقمرة أو ليلة غيم أو في موضع لا يشاهد مطلع الفجر، فإنه مأمور
بالاحتياط للصوم; إذ لا سبيل له إلى العلم بحال الطلوع، فالواجب عليه
الإمساك استبراء لدينه; لما حدثنا شعبة قال: حدثنا يزيد بن أبي مريم
السلولي قال: سمعت أبا الجوزاء السعدي قال: قلت للحسن بن علي: ما تذكر
من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: كان يقول: "دع ما يريبك إلى ما
لا يريبك، فإن الصدق طمأنينة والكذب ريبة". وحدثنا محمد بن بكر قال:
حدثنا أبو داود قال: حدثنا أحمد بن يونس قال: حدثنا أبو شهاب: حدثنا
ابن عون عن الشعبي قال: سمعت النعمان بن بشير ولا أسمع أحدا بعده يقول
سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن الحلال بين وإن الحرام
بين وبينهما أمور متشابهات; وسأضرب في ذلك مثلا: إن الله حمى حمى وإن
حمى الله ما حرم، وإنه من يرعى حول الحمى يوشك أن يخالطه، وإنه من
يخالط الريبة يوشك أن يجسر". وحدثنا محمد بن بكر قال: حدثنا أبو داود
قال: حدثنا إبراهيم بن موسى الرازي قال: أخبرنا عيسى قال: حدثنا زكريا
عن عامر قال: سمعت النعمان بن بشير يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه
وسلم; بهذا الحديث، قال: "وبينهما أمور متشابهات لا يعلمها كثير من
الناس، فمن اتقى الشبهات استبرأ عرضه ودينه ومن وقع في الشبهات وقع في
الحرام"، فهذه الأخبار تمنع من الإقدام على المشكوك فيه أنه من المباح
أو المحظور، فوجب استعمالها. فمن شك فلا سبيل له إلى تبين طلوع الفجر
في أول ما يطلع حتى يكون مستبرئا لدينه وعرضه مجتنبا للريبة غير مواقع
لحمى الله تعالى، فاستعملنا قوله: {حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ
الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ}
فيمن يمكنه معرفة طلوعه في أول أحواله; فهذا مذهب أصحابنا وحجاجه فيما
ذكرنا، وقال مالك بن أنس: أكره أن يأكل إذا شك في الفجر، وإن أكل فعليه
القضاء وقال الثوري: يتسحر الرجل ما شك حتى يرى الفجر. وقال عبيد الله
بن الحسن والشافعي: "إن أكل شاكا في الفجر فلا شيء عليه".
(1/280)
وأما قول
من قال: إنه يأكل شاكا من غير اعتبار منه بحال إمكان التبين في حال
طلوعه أو تعذر ذلك عليه فذلك إغفال منه; لأن ضريرا لو كان في موضع ليس
بحضرته من يعرفه طلوع الفجر لم يجز له الإقدام على الأكل بالشك وهو لا
يأمن أن يكون قد أصبح، وكذلك من كان في بيت مظلم لا يأمن طلوع الفجر لم
يجز له الإقدام على الأكل بالشك، فإن أجاز هذا وألغى الشك لزمه إلغاء
الشك في كل موضع والإقدام على كل ما لا يأمن أن يكون محظورا من وطء أو
غيره، وفي استعمال ذلك مخالفة لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم من
اجتناب الشبهات وترك الريب إلى اليقين ومخالفة إجماع المسلمين; لأنهم
لا يختلفون أنه غير جائز له الإقدام على وطء امرأة لا يعرفها وهو شاك
في أنها زوجته، وكذلك من طلق إحدى نسائه بعينها ثلاثا ونسيها فغير جائز
له الإقدام على وطء واحدة منهن باتفاق الفقهاء إلا بعد العلم بأنها
ليست المطلقة.
وأما القول بإيجاب القضاء على من أكل شاكا في الفجر، فإنه كما لا يبيح
له الإقدام على المشكوك فيه فكذلك لا يوجب عليه القضاء بالشك; لأنه إذا
كان الأصل براءة الذمة من الفرض فلا جائز إلزامه بالشك.
والذي تضمنته هذه الآية من الحكم من عند قوله: {أُحِلَّ لَكُمْ
لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ} إلى قوله: {مِنَ
الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} نسخ تحريم الجماع والأكل والشرب
في ليالي الصوم بعد العتمة أو بعد النوم.
وفيها الدلالة على نسخ السنة بالقرآن; لأن الحظر المتقدم إنما كان
ثبوته بالسنة لا بالقرآن، ثم نسخ بالإباحة المذكورة في القرآن وفيها
الدلالة على أن الجنابة لا تنافي صحة الصوم لما فيه من إباحة الجماع من
أول الليل إلى آخره مع العلم بأن المجامع في آخر الليل إذا صادف فراغه
من الجماع طلوع الفجر يصبح جنبا، ثم حكم مع ذلك بصحة صومه بقوله:
{ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} وفيها حث على طلب الولد
بقوله: {وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ} مع تأويل من تأوله
واحتمال الآية له وفيها الدلالة على أن ليلة القدر في رمضان لأن ابن
عباس قد تأوله على ذلك، فلولا أنه محتمل له لما جاز أن يتأول عليه
وفيها الندب إلى الترخص برخصة الله لتأويل من تأوله على ما بينا فيما
سلف وفيها الدلالة على أن آخر الليل إلى طلوع الفجر الثاني بقوله:
{أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ} إلى
قوله: {حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ} فثبت أن الليل إلى طلوع الفجر وأن
ما بعد طلوعه فهو من النهار. وفيها الدلالة على إباحة الأكل والشرب
والجماع إلى أن يحصل له الاستبانة واليقين بطلوع الفجر، وأن الشك لا
يحظر عليه ذلك; إذ غير جائز وجود الاستبانة مع الشك; وهذا فيمن يصل إلى
الاستبانة وقت طلوعه، وأما من لا يصل
(1/281)
إلى ذلك
لساتر أو ضعف بصره أو نحو ذلك فغير داخل في هذا الخطاب لما بينا آنفا
قبل هذا الفصل وورود لفظ الإباحة بعد الحظر دليل على أنه لم يرد به
الإيجاب; لأن ذلك حكم لفظ الإطلاق إذا كان وروده بعد الحظر، على نحو ما
ذكرنا من نظائره في قوله: {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا} [المائدة:
2] وقوله: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ}
[الجمعة: 10] ومع ذلك فليس يمتنع أن يكون بعض الأكل والشرب مندوبا وهو
ما يكون في آخر الليل على جهة السحور وقد حدثنا عبد الباقي بن قانع
قال: حدثنا إبراهيم الحربي قال: حدثنا مسدد قال: حدثنا أبو عوانة عن
قتادة عن أنس، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "تسحروا فإن السحور
بركة". وحدثنا محمد بن بكر قال: حدثنا أبو داود قال: حدثنا مسدد قال:
حدثنا عبد الله بن المبارك عن موسى بن علي بن رباح عن أبيه عن أبي قيس
مولى عمرو بن العاص قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن فصلا
بين صيامكم وصيام أهل الكتاب أكلة السحور". وحدثنا عبد الباقي قال:
حدثنا أحمد بن عمرو الزئبقي قال: حدثنا عبد الله بن شبيل قال: حدثنا
عبد الله بن سعيد عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم عن أبيه عن ابن عمر، أن
رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "نعم غداء المؤمن السحور وإن الله
وملائكته يصلون على المتسحرين" فندب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى
السحور، ليس يمتنع أن يكون مراد الله بقوله: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا
حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ
الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} في بعض ما انتظمه أكلة السحور، فيكون
مندوبا إليها بالآية.
فإن قيل: قد تضمنت الآية لا محالة الرخصة في إباحة الأكل، وهو ما كان
منه في أول الليل لا على وجه السحور، فكيف يجوز أن ينتظم لفظ واحد ندبا
وإباحة؟ قيل له: لم يثبت ذلك بظاهر الآية، وإنما استدللنا عليه بظاهر
السنة، فأما ظاهر اللفظ فهو إطلاق إباحة على ما بينا.
وفيها الدلالة على أن الغاية قد لا تدخل في الحكم المقدر بها، بقوله عز
وجل: {حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ} وحال التبين
غير داخلة في إباحة الأكل فيها ولا مرادة بها; ثم قال الله تعالى:
{ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} فجعل الليل غاية الصيام
ولم تدخل فيه، وقد دخلت في بعض المواضع وهو قوله: {وَلا جُنُباً إِلَّا
عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا} [النساء: 43] والغاية مرادة في
إباحة الصلاة بعدها، وكذلك قوله تعالى: {وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى
الْمَرَافِقِ} [المائدة: 6]، {وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ}
[المائدة: 6] قد دخلت الغاية في المراد; وذلك أصل في أن الغاية قد تدخل
في حال ولا تدخل في أخرى وأنها تحتاج إلى دلالة في إسقاط حكمها أو
إثباته.
وأما قوله تعالى: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} فإن
عطفه على ما تقدم ذكره من
(1/282)
إباحة
الجماع والأكل والشرب يدل على أن الصوم المأمور به هو الإمساك عن هذه
الأمور التي ذكر إباحتها ليلا، وقد تقدم بيان ذلك مع ما يقتضيه الصوم
الشرعي من المعاني التي بعضها إمساك وبعضها شرط لكون الإمساك صوما
شرعيا.
وفي قوله: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} دلالة على أن
من حصل مفطرا لغير عذر أنه غير جائز له الأكل بعد ذلك، وأن عليه أن
يمسك عما يمسك عنه الصائم; لأن هذا الإمساك ضرب من الصيام; وقد روي أنه
عليه السلام بعث إلى أهل العوالي يوم عاشوراء فقال: "من أكل فليصم بقية
يومه ومن لم يأكل فليتم صومه" فسمى الإمساك بعد الأكل صوما.
فإن قيل: إذا لم يكن ذلك صوما شرعيا لم يتناوله اللفظ; لأن قوله تعالى:
{ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} المراد به الصوم الشرعي
لا الصوم اللغوي، قيل له: هذا عندنا صوم شرعي قد أمر به النبي صلى الله
عليه وسلم مع إيجابه القضاء، ووجوب القضاء لا يخرجه من أن يكون صوما
مندوبا إليه مستحقا للثواب عليه. وفيه الدلالة على أن من أصبح في رمضان
غير ناو للصوم أن عليه أن يتم صومه ويجزيه من فرضه ما لم يفعل ما ينافي
صحة الصوم من أكل أو شرب أو جماع.
فإن قيل: الذي يقتضيه الظاهر الأمر بإتمام الصوم والإتمام يطلق فيما قد
صح الدخول فيه، وهو فلم يدخل فيه حتى يلحقه الخطاب بالإتمام؟ قيل له:
لما أصبح ممسكا عما يجب على الصائم الإمساك عنه فقد حصل له الدخول في
الصوم لما بينا من أن الإمساك قد يكون صوما شرعيا وإن لم يحصل به قضاء
فرض ولا تطوع; ويدل على أن ذلك صوم مع عدم النية اتفاق جميع فقهاء
الأمصار على أن من أصبح في غير رمضان ممسكا عما يمسك عنه الصائم غير
ناو للصوم أنه جائز له أن يبتدئ نية التطوع، ويجزيه. ولو لم يكن ما مضى
صوما يتعلق به حكم الصوم الشرعي لما جاز أن يثبت له حكم الصوم بإيجاد
النية بعده، ألا ترى أنه لو أكل أو شرب ثم أراد أن ينوي صياما تطوعا لم
يصح له ذلك؟ فثبت بما وصفنا صحة دلالة قوله: {ثُمَّ أَتِمُّوا
الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} على جواز نية صيام رمضان في بعض النهار;
والله تعالى أعلم بالصواب.
(1/283)
باب لزوم صوم التطوع بالدخول فيه
قوله عز وجل: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} يدل على أن
من دخل في صوم التطوع لزمه إتمامه، وذلك لأن قوله: {أُحِلَّ لَكُمْ
لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ} عام في سائر الليالي
التي يريد الناس الصوم في صبيحتها، وغير جائز الاقتصار به على ليالي
(1/283)
صيام
رمضان دون غيره لما فيه من تخصيص العموم بلا دلالة، ولما كان حكم اللفظ
مستعملا في إباحة الأكل والشرب في ليالي صوم التطوع ثبت أنها مرادة
باللفظ، فإذا كان كذلك ثم عطف عليه قوله: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ
إِلَى اللَّيْلِ} اقتضى ذلك لزوم إتمام الصوم الذي صح له الدخول فيه
تطوعا كان ذلك الصوم أو فرضا، وأوامر الله تعالى على الوجوب فغير جائز
لأحد دخل في صوم التطوع أو الفرض الخروج منه بغير عذر; وإذا لزم المضي
فيه وإتمامه بظاهر الآية فقد صح عليه وجوبه، ومتى أفسده لزمه قضاؤه
كسائر الواجبات.
فإن قيل: قد روي أن الآية نزلت في صوم الفرض، فوجب أن يكون مقصور الحكم
عليه، قيل له: نزول الآية على سبب لا يمنع عندنا اعتبار عموم اللفظ;
لأن الحكم عندنا للفظ لا للسبب، ولو كان الحكم في ذلك مقصورا على السبب
لوجب أن يكون خاصا في الذين اختانوا أنفسهم منهم، فلما اتفق الجميع على
عموم الحكم فيهم وفي غيرهم ممن ليس في مثل حالهم، دل ذلك على أن الحكم
غير مقصور على السبب وأنه عام في سائر الصيام كهو في سائر الناس في صوم
رمضان. فصار بما وصفنا وجه الاستدلال بقوله تعالى: {ثُمَّ أَتِمُّوا
الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} على لزوم الصوم بالدخول فيه.
وقد اختلف الفقهاء في ذلك، فقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد وزفر: من
دخل في صيام التطوع أو صلاة التطوع فأفسده أو عرض له فيه ما يفسده
فعليه القضاء وهو قول الأوزاعي إذا أفسده وقال الحسن بن صالح: إذا دخل
في صلاة التطوع فأقل ما يلزمه ركعتان. وقال مالك: إن أفسده هو فعليه
القضاء ولو طرأ عليه ما أخرجه منه فلا قضاء عليه وقال الشافعي رحمه
الله: إن أفسده ما دخل فيه تطوع فلا قضاء عليه وروي عن ابن عباس وابن
عمر مثل قولنا، حدثنا عبد الباقي بن قانع قال: حدثنا بشر بن موسى قال:
حدثنا سعيد بن منصور قال: حدثنا هشيم قال: حدثنا عثمان البتي عن أنس بن
سيرين قال صمت يوما فأجهدت فأفطرت فسألت ابن عباس وابن عمر فأمراني أن
أصوم يوما مكانه. وروى طلحة بن يحيى عن مجاهد قال: هو بمنزلة الصدقة
يخرجها الرجل من ماله فإن شاء أمضاها وإن شاء أمسكها ولم يختلفوا في
الحج والعمرة إذا أحرم بهما تطوعا ثم أفسدهما أن عليه قضاءهما، وإن
أحصر فيهما فقد اختلف الناس فيه أيضا، فقال أصحابنا ومن تابعهم: عليه
القضاء وقال مالك والشافعي: لا قضاء عليه وما قدمنا من دلالة قوله:
{ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} يوجب القضاء، سواء خرج
منه بعذر أو بغير عذر; لأن الآية قد اقتضت الإيجاب بالدخول، وإذا وجب
لم يختلف حكمه في إيجاب القضاء إذا كان خروجه بعذر أو بغير
(1/284)
عذر كسائر
ما أوجبه الله عليه من صيام أو صلاة أو غيرهما كالنذور، ونظير هذه
الآية في إيجاب القرب بالدخول فيها قوله تعالى: {وَجَعَلْنَا فِي
قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً
ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ
رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا} [الحديد: 27]
والابتداع قد يكون بالفعل وقد يكون بالقول. ثم ذم تاركي رعايتها بعد
الابتداع، فدل ذلك على أن من ابتدع قربة بالدخول فيها أو بإيجابها
بالقول أن عليه إتمامها; لأنه متى قطعها قبل إتمامها فلم يرعها حق
رعايتها، والذم لا يستحق إلا بترك الواجبات فدل ذلك على أن لزومها
بالدخول كهو بالنذر والإيجاب بالقول.
ويحتج في مثله أيضا بقوله: {وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ
غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثاً} [النحل: 92] جعله الله مثلا
لمن عهد لله عهدا أو حلف بالله ثم لم يف به ويقضيه; وهو عموم في كل من
دخل في قربة، فيكون منهيا عن نقضها قبل إتمامها لأنه متى نقضها فقد
أفسد ما مضى منها بعد تضمن تصحيحها بالدخول فيها، ويصير بمنزلة ناقضة
غزلها بعد فتلها بقواها، وهذا يوجب أن كل من ابتدأ في حق الله وإن كان
متطوعا بديا فعليه إتمامه والوفاء به لئلا يكون بمنزلة ناقضة غزلها.
فإن قيل: إنما هذه الآية فيمن نقض العهد والأيمان بعد توكيدها; لأنه
قال تعالى: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ} [النحل:
91] ثم عطف عليه قوله: {وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا
مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ} [النحل: 92]. قيل له: نزولها على سبب لا يمنع
اعتبار عموم لفظها، وقد بينا ذلك في مواضع، ويدل عليه أيضا قوله تعالى:
{وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} [محمد: 33] وقد علمنا أن أقل ما يصح
في الفرض من الصوم يوم كامل، وفي الصلاة ركعتان، ولا تصح النوافل ولا
تكون قربة إلا حسب موضوعها في الفروض، بدلالة أنه يحتاج إلى استيفاء
شروطها; ألا ترى أن صوم النفل مثل صوم الفرض في لزوم الإمساك عن الجماع
والأكل والشرب؟ وكذلك صلاة التطوع تحتاج من القراءة والطهارة والستر
إلى مثل ما شرط في الفروض، ولما لم يكن في أصل الفرض ركعة واحدة ولا
صوم بعض يوم، وجب أن يكون كذلك حكم النفل، فمتى دخل في شيء منه ثم
أفسده قبل إتمامه فقد أبطله وأبطل ثواب ما فعله منه; وقوله تعالى:
{وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} [محمد: 33] يمنع الخروج منه قبل
إتمامه لنهي الله تعالى إياه عن إبطاله; وإذ ألزمه إتمامه فقد وجب عليه
قضاؤه إذا خرج منه قبل إتمامه معذورا كان في خروجه أو غير معذور.
ويدل عليه من جهة السنة ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم: "أنه نهى
عن البتيراء" وهو أن يوتر الرجل بركعة فاقتضى هذا اللفظ إيجاب إتمامها،
وإذا وجب إتمامها فقد لزمته،
(1/285)
فمتى
أفسدها أو فسدت عليه بغير اختياره لزمه قضاؤها كسائر الواجبات. ويدل
عليه حديث الحجاج بن عمرو الأنصاري عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه
قال: "من كسر أو عرج فقد حل وعليه الحج من قابل" قال عكرمة: فذكرت ذلك
لابن عباس وأبي هريرة فقالا: صدق فصارت رواته عن النبي صلى الله عليه
وسلم ثلاثة، وذلك يدل على معنيين: أحدهما: إلزامه بالدخول فيه لأنه لم
يفرق بين الفرض والنفل. والثاني: أنه وإن خرج منه بغير اختيار منه فإن
القضاء واجب عليه، ويدل عليه أيضا ما حدثنا محمد بن بكر قال: حدثنا أبو
داود قال: حدثنا أحمد بن صالح قال: حدثنا عبد الله بن وهب قال: أخبرني
حيوة بن شريح عن ابن الهاد عن زميل مولى عروة عن عروة بن الزبير عن
عائشة قالت: أهدي لي ولحفصة طعام، وكنا صائمتين فأفطرنا، ثم دخل رسول
الله صلى الله عليه وسلم فقلنا: يا رسول الله أهديت لنا هدية
فاشتهيناها فأفطرنا، فقال: "لا عليكما صوما مكانه يوما آخر" وهذا يدل
على وجوب القضاء في التطوع; لأنه لم يسألهما عن جهة صومهما، وحدثنا عبد
الباقي بن قانع قال: حدثنا إبراهيم بن عبد الله قال: حدثنا القعنبي
قال: حدثنا عبد الله بن عمر عن ابن شهاب عن عروة عن عائشة أنها قالت:
أصبحت أنا وحفصة صائمتين متطوعتين، فأهدي لنا طعام فأفطرنا، فسألت حفصة
رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "اقضيا يوما مكانه". قال عبد
الباقي: وحدثنا عبد الله بن أسيد الأصبهاني الأكبر قال: حدثنا أزهر بن
جميل قال: حدثنا أبو همام محمد بن الزبرقان، عن عبد الله بن عمر، عن
الزهري عن عروة، عن عائشة نحوه قال عبد الباقي: وحدثنا إسحاق قال:
حدثنا القعنبي عن مالك عن ابن شهاب عن الزهري: أن حفصة وعائشة; وذكر
نحوه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اقضيا مكانه يوما"، وأصحاب
الحديث يتكلمون في إسناد هذا الحديث بأشياء يطعنون بها فيه. أحدها: ما
حدثنا به عبد الباقي بن قانع قال: حدثنا بشر بن موسى قال: حدثنا
الحميدي قال: سمعت سفيان يحدثه عن الزهري فقيل للزهري: هو من حديث
عروة؟ فقال الزهري: ليس هو من حديث عروة قال الحميدي: وأخبرني غير واحد
عن معمر أنه قال: لو كان من حديث الزهري ما نسيته. وهذا الذي ذكروه لا
يبطله عندنا; لأنه جائز أن يريد الزهري بذلك أنه لم يسمعه من عروة
وسمعه من غير عروة; وأكثر أحواله أن يكون مرسلا عن عروة. وإرساله لا
يفسده عندنا، وأما قول معمر لو كان من حديث الزهري ما نسيته فليس بشيء;
لأن النسيان جائز عليه في حديث الزهري كجوازه في حديث غيره، وأكثر
أحواله أن لا يكون معمر قد سمعه من الزهري، وغير معمر قد سمعه من
الزهري ورواه عنه، فلا يفسده أن لا يكون معمر قد رواه عنه. وقد رواه
زميل مولى عروة عن عروة، ويطعنون فيه أيضا بما ذكره ابن جريج أنه قال
للزهري في هذا الحديث: أسمعته من
(1/286)
عروة؟
قال: إنما أخبرنا به رجل بباب عبد الملك، وروي في غير هذا الحديث أن
الرجل سليمان بن أرقم، وكيفما تصرفت به الحال فليس فيه ما يفسده على
مذهب الفقهاء; وما يعترض به أصحاب الحديث من مثل هذا لا يفسد الحديث
ولا يقدح فيه عندهم.
وقد روى أيضا خصيف عن عكرمة عن ابن عباس: أن حفصة وعائشة أصبحتا
صائمتين، فأهدي لهم طعام، فأفطرتا، فأمرهما النبي صلى الله عليه وسلم
أن تقضيا يوما مكانه. وحدثنا عبد الباقي قال: حدثنا عبد الله بن أحمد
بن حنبل قال: حدثنا محمد بن عباد قال: حدثنا حاتم بن إسماعيل عن أبي
حمزة عن الحسن عن أبي سعيد الخدري: أن عائشة وحفصة أصبحتا صائمتين،
فأهدي لهما طعام، فدخل النبي صلى الله عليه وسلم وهما تأكلان فقال:
"ألم تصبحا صائمتين؟" قالتا: بلى قال: "اقضيا يوما مكانه ولا تعودا".
وقد روي من طريق آخر، وهو ما حدثنا عبد الباقي قال: حدثنا إسماعيل بن
الفضل بن موسى قال: حدثنا حرملة قال: حدثنا ابن وهب قال: حدثنا جرير بن
حازم عن يحيى بن سعيد عن عروة عن عائشة قالت: أصبحت أنا وحفصة صائمتين
متطوعتين، فأهدي إلينا طعام، فأعجبنا فأفطرنا، فلما جاء النبي صلى الله
عليه وسلم بدرتني حفصة فسألته وهي ابنة أبيها فقال عليه السلام: "صوما
يوما مكانه" وروى الحجاج بن أرطاة عن الزهري عن عروة عن عائشة مثل ذلك.
وقد روى عبيد الله بن عمر عن نافع عن عبد الله بن عمر هذه القصة وذكر
نحوها إلا أنه لم يذكر تطوعا، فهذه آثار مستفيضة قد رويت من طرق، في
بعضها أنهما أصبحتا صائمتين متطوعتين، وفي بعضها لم يذكر التطوع، وفي
كلها الأمر بالقضاء.
ويدل على وجوب القضاء ما حدثنا محمد بن بكر قال: حدثنا أبو داود قال:
حدثنا مسدد قال: حدثنا عيسى بن يونس قال: حدثنا هشام بن حسان عن محمد
بن سيرين عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من
ذرعه قيء وهو صائم فليس عليه قضاء وإن استقاء فليقض" وفي هذا الحديث ما
يوجب القضاء على الصائم إذا استقاء عمدا; لأنه عليه السلام لم يفرق بين
المتنفل وبين من يصوم فرضا.
ويدل عليه من جهة النظر اتفاق الجميع على أن المتصدق بصدقة تطوعا إذا
قبضها من تصدق بها عليه لا يرجع فيها، لما فيه من إبطال القربة التي
حصلت له بها، فكذلك الداخل في صلاة أو صوم تطوعا غير جائز له الخروج
منها قبل إتمامها، لما فيه من إبطال ما تقدم منه، فهو بمنزلة الصدقة
المقبوضة.
فإن قيل: هو بمنزلة الصدقة التي لم تقبض; لأنه إنما امتنع من فعل باقي
أجزاء الصلاة والصوم بمنزلة الممتنع من تسليم الصدقة، قيل له: لو لم
يكن إلا كذلك لكان كما ذكرت، لكنه لما كان في الخروج منه قبل إتمامه
إبطال ما تقدم لم يكن له سبيل إلى
(1/287)
ذلك، ومتى
فعله لزمه القضاء; ألا ترى أنه لا يصح صوم بعض النهار دون بعض وأن من
أكل في أول النهار لا يصح له صوم بقيته؟ وكذلك من صام أوله ثم أفطر في
باقيه فقد أخرج نفسه من حكم صوم ذلك اليوم رأسا وأبطل به حكم ما فعله
كالراجع في الصدقة المقبوضة، فصار كما إذا رجع في صدقة مقبوضة لزمه
ردها إلى المتصدق بها عليه. ويدل عليه أيضا اتفاق الجميع على أن المحرم
بحج أو عمرة تطوعا متى أفسده لزمه القضاء وكان الدخول فيه بمنزلة
الإيجاب بالقول.
فإن قيل: إنما لزمه القضاء لأن فساده لا يخرجه منه، وليس ذلك كسائر
القرب من الصلاة والصوم; إذ هو يخرج منهما بالإفساد، قيل له: هذا الفرق
لا يمنع تساويهما في جهة الإيجاب بالدخول، ولا يخلو هذا المحرم من أن
يكون قد لزمه الإحرام بالدخول ووجب عليه إتمامه أو لم يلزمه، فإن كان
قد لزمه إتمامه فالواجب عليه القضاء سواء أحصر أو أفسده بفعله; لأن ما
قد وجب لا يختلف حكمه في وقوع الفساد فيه بفعله أو غير فعله مثل النذر
وحجة الإسلام. فمتى اتفقنا على أنه متى أفسده لزمه قضاؤه وجب أن يكون
ذلك حكمه إذا أحصر وتعذر فعله من غير جهته كسائر الواجبات، وعلى أن
السنة قد قضت ببطلان قول الخصم، وهو قول النبي صلى الله عليه وسلم: "من
كسر أو عرج فقد حل وعليه الحج من قابل" فأوجب عليه القضاء مع وقوع
المنع من قبل غيره، وإذا ثبت ذلك في الحج والعمرة وجب مثله في سائر
القرب التي شرط صحتها إتمامها وكان بعضها منوطا ببعض، وذلك مثل الصلاة
والصيام ويجب أن لا يختلف في وجوب قضائه حكم خروجه منها بفعله أو غير
فعله كما في سائر الواجبات.
واحتج من خالف في ذلك بحديث أم هانئ حين ناولها النبي صلى الله عليه
وسلم سؤره فشربته ثم قالت: إني كنت صائمة وكرهت أن أرد سؤرك; فقال
النبي عليه السلام: "إن كان من قضاء رمضان فاقضي يوما مكانه، وإن كان
تطوعا فإن شئت فاقضي وإن شئت فلا تقضي".
وهذا حديث مضطرب السند والمتن جميعا، فأما اضطراب سنده فإن سماك بن حرب
يرويه مرة عمن سمع أم هانئ، ومرة يقول هارون ابن أم هانئ أو ابن ابنة
أم هانئ، ومرة يرويه عن ابني أم هانئ، ومرة عن ابن أم هانئ قال: أخبرني
أهلنا. ومثل هذا الاضطراب في الإسناد يدل على قلة ضبط رواته، وأما
اضطراب المتن فمن قبل ما حدثنا محمد بن بكر قال: حدثنا أبو داود قال:
حدثنا عثمان بن أبي شيبة قال: حدثنا جرير بن عبد الحميد عن يزيد بن أبي
زياد عن عبد الله بن الحارث عن أم هانئ قالت: لما كان يوم الفتح فتح
مكة جاءت فاطمة فجلست عن يسار رسول الله صلى الله عليه وسلم وأم
(1/288)
هانئ عن
يمينه، قال: فجاءت الوليدة بإناء فيه شراب فناولته، فشرب منه ثم ناوله
أم هانئ، فشربت منه ثم قالت: يا رسول الله أفطرت وكنت صائمة فقال لها:
"أكنت تقضين شيئا؟" قالت: لا قال: "فلا يضرك إن كان تطوعا..." فذكر في
هذا الحديث أنه قال: "لا يضرك" وليس في ذلك نفي لوجوب القضاء; لأنا
كذلك نقول إنه لم يضرها; لأنها لم تعلم أنه لا يجوز لها الإفطار، أو
علمت ذلك ورأت اتباع النبي صلى الله عليه وسلم بالشرب، والإفطار أولى
من المضي فيه.
وحدثنا عبد الله بن جعفر بن أحمد بن فارس قال: حدثنا يونس بن حبيب قال:
حدثنا أبو داود الطيالسي قال: حدثنا شعبة قال: أخبرني جعدة رجل من قريش
وهو ابن أم هانئ وكان سماك بن حرب يحدثه يقول: أخبرني ابنا أم هانئ قال
شعبة: فلقيت أنا أفضلهما جعدة فحدثني عن أم هانئ: أن رسول الله صلى
الله عليه وسلم دخل عليها، فناولته شرابا فشرب، ثم ناولها فشربت،
فقالت: يا رسول الله إني كنت صائمة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"الصائم المتطوع أمين نفسه أو أمير نفسه إن شاء صام وإن شاء أفطر" فقلت
لجعدة: سمعته أنت من أم هانئ؟ فقال: أخبرني أهلنا وأبو صالح مولى أم
هانئ عن أم هانئ، ورواه سماك عمن سمع أم هانئ، وذكر فيه أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم قال: "المتطوع بالخيار إن شاء صام وإن شاء أفطر".
وروى سماك عن هارون ابن أم هانئ عن أم هانئ، وقال فيه: "إن كان من قضاء
رمضان فصومي يوما مكانه، وإن كان تطوعا فإن شئت فصومي وإن شئت فأفطري".
ولم يذكر في شيء من هذه الأخبار نفي القضاء، وإنما ذكر فيه أن الصائم
بالخيار وأنه أمين نفسه وأن له أن يفطر في التطوع، ولم يقل: لا قضاء
عليك، وهذا الاختلاف في متنه يدل على أنه غير مضبوط، ولو ثبتت هذه
الألفاظ لم يكن فيها ما ينفي وجوب القضاء; لأن أكثر ما فيها إباحة
الإفطار، وإباحة الإفطار تدل على سقوط القضاء.
وقوله: "الصائم أمين نفسه، والصائم بالخيار" جائز أن يريد به من أصبح
ممسكا عما يمسك عنه الصائم من غير نية للصوم أنه بالخيار في أن ينوي
الصوم التطوع أو يفطر; والممسك عما يمسك عنه الصائم يسمى صائما كما قال
عليه السلام يوم عاشوراء: "من أكل فليصم بقية يومه" ومراده الإمساك عما
يمسك عنه الصائم، كذلك قوله: "الصائم بالخيار، والصائم أمين نفسه" هو
على هذا المعنى. فإن وجد في بعض ألفاظ هذا الحديث "فإن شئت فاقض وإن
شئت فلا تقض" فإنما هو تأويل من الراوي لقوله: "لا يضرك، وإن شئت
فأفطري، والصائم بالخيار"، وإذا كان كذلك لم يثبت نفي القضاء بما ذكرت،
على أنه لو ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم نفي إيجاب القضاء من غير
احتمال
(1/289)
التأويل
مع صحة السند واتساق المتن، لكانت الأخبار الموجبة للقضاء أولى من
وجوه: أحدها أنه متى ورد خبران أحدهما مبيح والآخر حاظر كان خبر الحظر
أولى بالاستعمال، وخبرنا حاظر لترك القضاء، وخبرهم مبيح، فكان خبرنا
أولى من هذا الوجه، ومن جهة أخرى أن الخبر النافي للقضاء وارد على
الأصل، والخبر الموجب له ناقل عنه، والخبر الناقل أولى لأنه في المعنى
وارد بعده كأنه قد علم تاريخه، ومن جهة أخرى، وهو أن ترك الواجب يستحق
به العقاب وفعل المباح لا يستحق به العقاب، فكان استعمال خبر الوجوب
أولى من خبر النفي.
ومما يعارض خبر أم هانئ في إباحة الإفطار، ما حدثنا محمد بن بكر قال:
حدثنا أبو داود قال: حدثنا عبد الله بن سعيد قال: حدثنا أبو خالد عن
هشام عن ابن سيرين عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم: "إذا دعي أحدكم فليجب، فإن كان مفطرا فليطعم، وإن كان صائما
فليصل". قال أبو داود رواه حفص بن غياث أيضا، وحدثنا محمد بن بكر قال:
حدثنا أبو داود قال: حدثنا مسدد قال: حدثنا سفيان عن أبي الزناد عن
الأعرج عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا دعي
أحدكم إلى طعام وهو صائم فليقل إني صائم" فهذان خبران يحظران على
الصائم الإفطار من غير عذر، ولم يفرق النبي صلى الله عليه وسلم بين
الصائم تطوعا أو من فرض، ألا ترى أنه قال في الخبر الأول: "وإن كان
صائما فليصل" والصلاة تنافي الإفطار؟ وفرق أيضا بين المفطر والصائم;
فلو جاز للصائم الإفطار لقال: فليأكل.
فإن قيل: إنما أراد بالصلاة الدعاء والدعاء لا ينافي الأكل، قيل له: بل
هو على الصلاة المعهودة عند الإطلاق، وهي التي بركوع وسجود، وصرفه إلى
الدعاء غير جائز إلا بدلالة، فلو كان المراد الدعاء لكانت دلالته قائمة
على أنه لا يفطر حين فرق بين المفطر والصائم بما ذكرنا، وقوله عليه
السلام في الحديث: "فليقل إني صائم" يدل على أن الصوم يمنعه من الأكل.
وقد علمنا أن النبي صلى الله عليه وسلم قد جعل إجابة الدعوة من حق
المسلم كالسلام وعيادة المريض وشهود الجنازة، فلما منعه الإجابة وقال:
"فليقل إني صائم" دل ذلك على حظر الإفطار في سائر الصيام من غير عذر.
فإن قيل: قد روي عن أبي الدرداء وجابر "أنهما كانا لا يريان بالإفطار
في صيام التطوع بأسا" وأن عمر بن الخطاب دخل المسجد فصلى ركعة ثم
انصرف، فتبعه رجل فقال: يا أمير المؤمنين صليت ركعة واحدة فقال: هو
التطوع، فمن شاء زاد ومن شاء نقص، قيل له: قد روينا عن ابن عباس وابن
عمر إيجاب القضاء على من أفطر في صيام التطوع، وأما ما روي عن أبي
الدرداء وجابر فليس فيه نفي القضاء وإنما فيه إباحة
(1/290)
الإفطار،
وحديث عمر يحتمل أن يريد به من دخل في صلاة يظن أنها عليه ثم ذكر أنها
ليست عليه أنها تكون تطوعا وجائز أن يقطعها، ولم يجب عليه القضاء، وقد
روي عن عبد الله بن مسعود أنه قال: "ما أجزأت ركعة قط".
فإن قيل: قوله تعالى: {فَاقْرَأُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ}
[المزمل: 20] يدل على جواز الاقتصار على ركعة، قيل له: إنما ذلك تخييرا
في القراءة لا في ركعات الصلاة، والتخيير فيها لا يوجب تخييرا في سائر
أركانها، فلا دلالة في ذلك على حكم الركعات; وقال الشافعي: عليه في
الأضحية البدل إذا استهلكها فيلزمه مثله في سائر القرب.
ومن دلالات قوله تعالى: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ}
على الأحكام: أن من أصبح مقيما صائما ثم سافر أنه لا يجوز له الإفطار
في يومه ذلك، بدلالة ظاهر قوله: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى
اللَّيْلِ} ولم يفرق بين من سافر بعد الدخول في الصوم وبين من أقام.
وفيه الدلالة على أن من أكل بعد طلوع الفجر وهو يظن أن عليه ليلا، أو
أكل قبل غروب الشمس وهو يرى أن الشمس قد غابت، ثم تبين أن عليه القضاء،
لقوله: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} وهذا لم يتم
الصيام; لأن الصيام هو الإمساك عن الأكل والشرب والجماع وهو لم يمسك،
فليس هو إذا صائم.
وقد اختلف السلف في ذلك، فقال مجاهد وجابر بن زيد والحكم: "إن صومه تام
ولا قضاء عليه" هذا في المتسحر الذي يظن أن عليه ليلا، وقال مجاهد: لو
ظن أن الشمس قد غابت فأفطر ثم علم أنها لم تغب كان عليه القضاء فرق بين
المتسحر وبين من أكل قبل غروب الشمس على ظن منه ثم علم; قال: لأن الله
تعالى قال: {حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ
الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} فما لم يتبين فالأكل له مباح،
فلا قضاء عليه فيما أكل قبل أن يتبين له طلوع الفجر، وأما الذي أفطر
على ظن منه بغيبوبة الشمس فقد كان صومه يقينا، فلم يكن جائزا له
الإفطار حتى يتبين له غروب الشمس، وقال محمد بن سيرين وسعيد بن جبير
وأصحابنا جميعا ومالك والثوري والشافعي: يقضي في الحالين إلا أن مالكا
قال في صوم التطوع: يمضي فيه وفي الفرض: يقضي. وروى الأعمش عن زيد بن
وهب، أن عمر أفطر هو والناس في يوم غيم ثم طلعت الشمس فقال: ما تجانفنا
لإثم، والله لا نقضيه وروي عنه أنه قال: الخطب يسير نقضي يوما.، وظاهر
قوله: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} يقضي ببطلان
صيامه; إذ لم يتممه; ولم تفصل الآية بين من أكل جاهلا بالوقت أو عالما
به.
فإن قيل: قال الله تعالى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ
لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ
الْفَجْرِ} فما لم يتبين له ذلك فالأكل له مباح. قيل له: لا يخلو هذا
الأكل من
(1/291)
أحد
حالين: إما أن يكون ممن أمكنه استبانة طلوع الفجر والوصول إلى علمه من
جهة اليقين بأن يكون عارفا به وليس بينه وبينه حائل، فإن كان كذلك ثم
لم يستبن فإن هذا لا يكون إلا من تفريطه في تأمله وترك مراعاته، ومن
كانت هذه فغير جائز له الإقدام على الأكل، فإذا أكل فقد فعل ما لم يكن
له أن يفعله; إذ قد كان في وسعه وإمكانه الوصول إلى اليقين والاستبانة،
ففرط فيه ولم يفعله، وتفريطه غير مسقط عنه فرض الصوم، وإن كان هذا
الآكل ممن لا يعرف الفجر بصفته، أو بينه وبينه حائل أو قمر أو ضعف بصر
أو نحو ذلك، فهذا أيضا ممن لا يجوز له العمل على الظن، بل عليه أن يصير
إلى اليقين ولا يأكل وهو شاك، وإذا كان ذلك على ما وصفنا لم يسقط عنه
القضاء بتركه الاحتياط للصوم. وكذلك من أكل على ظن منه بغيبوبة الشمس
في يوم غيم، فهو بهذه المنزلة بمقتضى ظاهر قوله: {ثُمَّ أَتِمُّوا
الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ}.
فإن قيل: لم يكلف تبين الفجر عند الله تعالى وإنما كلف ما عنده، قيل
له: إذا أمكنه الوصول إلى معرفة طلوع الفجر الذي هو عند الله فعليه
مراعاته، فمتى لم يكن هناك حائل استحال أن لا يعلمه، ومع ذلك فإنه إن
غفل أبيح له الأكل في حال غفلته، فإن إباحة الأكل غير مسقطة للقضاء
كالمريض والمسافر وهما أصل في ذلك لأنهما معذوران; والذي اشتبه عليه
طلوع الفجر أو ظنه قد طلع معذور في الأكل، والعذر يسقط القضاء بدلالة
ما وصفنا. ويدل عليه اتفاق الجميع أنه لو غم عليهم الهلال في أول ليلة
من رمضان فأفطروا ثم علموا بعد ذلك أنه كان من رمضان كان عليهم القضاء،
فكذلك من وصفنا أمره، وكذلك الأسير في دار الحرب إذا لم يعلم بشهر
رمضان حتى مضى ثم علم به كان عليه القضاء، ولم يكن مكلفا في حال
الإفطار إلا علمه، ثم لم يكن جهله بالوقت مسقطا للقضاء; فكذلك من خفي
عليه طلوع الفجر وغروب الشمس.
فإن قيل: هلا كان بمنزلة الناسي في سقوط القضاء لأنه لم يعلم في حال
الأكل بوجوب الصوم عليه قيل له: هذا اعتلال فاسد لوجوده فيمن غم عليه
هلال رمضان مع إيجاب الجميع عليه القضاء متى علم أنه من رمضان، وكذلك
الأسير في دار الحرب إذا لم يعلم بالشهر حتى مضى عليه القضاء عند
الجميع مع جهله بوجوب الصوم عليه.
وقال أصحابنا في الآكل ناسيا: "القياس أنه يجب القضاء عليه" ولكنهم
تركوا القياس للأثر; ولو كان ظاهر الآية ينفي صحة صوم الناسي لأنه لم
يتم صومه والله سبحانه قال: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى
اللَّيْلِ} والصوم هو الإمساك ولم يوجد منه ذلك، ألا ترى أنه لو نسي
الصوم رأسا أنه لا خلاف أن عليه القضاء ولم يكن نسيانه مسقطا القضاء
عنه؟
(1/292)
وحدثنا
محمد بن بكر قال: حدثنا أبو داود قال: حدثنا هارون بن عبد الله ومحمد
بن العلاء المعنى قالا: حدثنا أبو أسامة قال: حدثنا هشام بن عروة عن
فاطمة بنت المنذر عن أسماء بنت أبي بكر قالت: أفطرنا يوما في رمضان في
غيم في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم طلعت الشمس قال أبو أسامة:
قلت لهشام: أمروا بالقضاء؟ قال: وبد من ذلك.
وقوله: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} يوجب أيضا إبطال
صوم المكره على الأكل; لأنه لم يتمه على ما قدمنا، وكذلك إبطال صوم من
جن فأكل في حال جنونه; لأن الله تعالى حكم بصحة الصوم لمن أتمه إلى
الليل، فمن وجد منه فعل يحظره الصوم فهو غير متم لصومه إلى الليل
فيلزمه القضاء.
وأما الوقت الذي هو نهاية الصوم ويجب به الإفطار، هو ما حدثنا محمد بن
بكر قال: حدثنا أبو داود قال: حدثنا مسدد قال: حدثنا عبد الله بن داود
عن هشام بن عروة عن أبيه عن عاصم بن عمر عن أبيه قال: قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم: "إذا جاء الليل من ههنا وذهب النهار من ههنا وغابت
الشمس فقد أفطر الصائم". وحدثنا محمد بن بكر قال: حدثنا أبو داود قال:
حدثنا مسدد قال: حدثنا عبد الواحد قال: حدثنا سليمان الشيباني قال:
سمعت عبد الله بن أبي أوفى قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"إذا رأيتم الليل قد أقبل من ههنا فقد أفطر الصائم". وأشار بأصبعه قبل
المشرق. وروى أبو سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إذا
سقط القرص أفطر ولا خلاف في أنه إذا غابت الشمس فقد انقضى وقت الصوم
وجاز للصائم الأكل والشرب والجماع وسائر ما حظره عليه الصوم.
وقوله عليه السلام: "إذا غابت الشمس فقد أفطر الصائم", يوجب أن يكون
مفطرا بغروب الشمس أكل أو لم يأكل لأن الصوم لا يكون بالليل ولذلك نهى
رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الوصال لأنه يترك الطعام والشراب وهو
مفطر والوصال أن يمكث يومين أو ثلاثة لا يأكل شيئا ولا يشرب فإنه أكل
أو شرب في أي وقت كان شيئا قليلا فقد خرج من الوصال وقد روى ابن الهاد
عن عبد الله بن خباب عن أبي سعيد الخدري عن رسول الله صلى الله عليه
وسلم: أنه نهى عن الوصال، قالوا: يا رسول الله إنك تواصل فقال: "إنكم
لستم كهيئتي، إني أبيت لي مطعم يطعمني وساق يسقيني; فأيكم واصل فمن
السحر إلى السحر". فأخبر أنه إذا أكل أو شرب سحرا فهو غير مواصل، وأخبر
عليه السلام أنه لا يواصل; لأن الله يطعمه ويسقيه، وفي حديث أبي هريرة
عن النبي صلى الله عليه وسلم حين قيل له: إنك تواصل فقال: "إني أبيت
يطعمني ربي ويسقيني" ومن الناس من يقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم
كان مخصوصا بإباحة الوصال دون أمته، وقد أخبر عليه السلام أن الله
يطعمه ويسقيه، ومن كان كذلك فلم يواصل. والله أعلم بالصواب.
(1/293)
باب الاعتكاف
قال الله تعالى: {وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي
الْمَسَاجِدِ} ومعنى الاعتكاف في أصل اللغة هو اللبث، قال الله: {مَا
هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ} [الأنبياء:
52] وقال تعالى: {فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ} [الشعراء: 71]، وقال
الطرماح:
فباتت بنات الليل حولي عكفا ... عكوف البواكي بينهن صريع
ثم نقل في الشرع إلى معان أخر مع اللبث لم يكن الاسم يتناولها في
اللغة; منها الكون في المسجد، ومنها الصوم، ومنها ترك الجماع رأسا ونية
التقرب إلى الله عز وجل، ولا يكون معتكفا إلا بوجود هذه المعاني، وهو
نظير ما قلنا في الصوم إنه اسم للإمساك في اللغة ثم زيد فيه معان أخر
لا يكون الإمساك صوما شرعيا إلا بوجودها. وأما شرط اللبث في المسجد
فإنه للرجال خاصة دون النساء، وأما شرط كونه في المسجد في الاعتكاف
فالأصل فيه قوله عز وجل: {وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ
فِي الْمَسَاجِدِ} فجعل من شرط الاعتكاف الكون في المسجد.
وقد اختلف السلف في المسجد الذي يجوز الاعتكاف فيه على أنحاء. وروي عن
أبي وائل عن حذيفة أنه قال لعبد الله: رأيت ناسا عكوفا بين دارك ودار
الأشعري لا تعير. وقد علمت أن لا اعتكاف إلا في المساجد الثلاثة أو في
المسجد الحرام فقال عبد الله: لعلهم أصابوا وأخطأت وحفظوا ونسيت، وروى
إبراهيم النخعي أن حذيفة قال: لا اعتكاف إلا في ثلاثة مساجد: المسجد
الحرام، والمسجد الأقصى، ومسجد النبي صلى الله عليه وسلم، وروي عن
قتادة عن سعيد بن المسيب: لا اعتكاف إلا في مسجد نبي، وهذا موافق لمذهب
حذيفة; لأن المساجد الثلاثة هي مساجد الأنبياء عليهم السلام. وقول آخر;
وهو ما روى إسرائيل عن أبي إسحاق عن الحارث عن علي قال: لا اعتكاف إلا
في المسجد الحرام أو مسجد النبي عليه السلام. وروي عن عبد الله بن
مسعود وعائشة وإبراهيم وسعيد بن جبير وأبي جعفر وعروة بن الزبير: لا
اعتكاف إلا في مسجد جماعة فحصل من اتفاق جميع السلف أن من شرط الاعتكاف
الكون في المسجد على اختلاف منهم في عموم المساجد وخصوصها على الوجه
الذي بينا; ولم يختلف فقهاء الأمصار في جواز الاعتكاف في سائر المساجد
التي تقام فيها الجماعات إلا شيء يحكى عن مالك ذكره عنه ابن عبد الحكم
قال: لا يعتكف أحد إلا في المسجد الجامع أو في رحاب المساجد التي تجوز
فيها الصلاة. وظاهر قوله: {وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ}
يبيح الاعتكاف في سائر المساجد لعموم اللفظ، واقتصر به على بعضها فعليه
بإقامة
(1/294)
الدلالة،
وتخصيصه بمساجد الجماعات لا دلالة عليه، كما أن تخصيص من خصه بمساجد
الأنبياء لما لم يكن عليه دليل سقط اعتباره.
فإن قيل: قوله عليه السلام: "لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: مسجد
الحرام ومسجد بيت المقدس ومسجدي هذا" يدل على اعتبار تخصيص هذه
المساجد، وكذلك قوله عليه السلام: "صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة
في غيره إلا المسجد الحرام" يدل على اختصاص هذين المسجدين بالفضيلة دون
غيرهما، قيل له: لعمري إن هذا القول من النبي صلى الله عليه وسلم في
تخصيصه المساجد الثلاثة في حال والمسجدين في حال دليل على تفضيلهما على
سائر المساجد. وكذلك نقول كما قال عليه السلام إلا أنه لا دلالة فيه
على نفي جواز الاعتكاف في غيرهما كما لا دلالة على نفي جواز الجمعات
والجماعات في غيرهما، فغير جائز لنا تخصيص عموم الآية بما لا دلالة فيه
على تخصيصهما; وقول مالك في الرواية التي رويت عنه في تخصيص مساجد
الجمعات دون مساجد الجماعات لا معنى له، وكما لا تمتنع صلاة الجمعة في
سائر المساجد كذلك لا يمتنع الاعتكاف فيها، فكيف صار الاعتكاف مخصوصا
بمساجد الجمعات دون مساجد الجماعات؟
وقد اختلف الفقهاء في موضع اعتكاف النساء، فقال أبو حنيفة وأبو يوسف
ومحمد وزفر: لا تعتكف المرأة إلا في مسجد بيتها، ولا تعتكف في مسجد
جماعة وقال مالك: تعتكف المرأة في مسجد الجماعة ولا يعجبه أن تعتكف في
مسجد بيتها، وقال الشافعي: العبد والمرأة والمسافر يعتكفون حيث شاءوا;
لأنه لا جمعة عليهم.
قال أبو بكر: روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا تمنعوا
إماء الله مساجد الله، وبيوتهن خير لهن" فأخبر أن بيتها خير لها، ولم
يفرق بين حالها في الاعتكاف وفي الصلاة، ولما جاز للمرأة الاعتكاف
باتفاق الفقهاء وجب أن يكون ذلك في بيتها لقوله عليه السلام: "وبيوتهن
خير لهن" فلو كانت ممن يباح لها الاعتكاف في المسجد لكان اعتكافها في
المسجد أفضل ولم يكن بيوتهن خيرا لهن لأن الاعتكاف شرطه الكون في
المساجد لمن يباح له الاعتكاف فيه. ويدل عليه أيضا قوله عليه السلام:
"صلاة المرأة في دارها أفضل من صلاتها في مسجدها، وصلاتها في بيتها
أفضل من صلاتها في دارها، وصلاتها في مخدعها أفضل من صلاتها في بيتها"
، فلما كانت صلاتها في بيتها أفضل من صلاتها في المسجد كان اعتكافها
كذلك.
ويدل على كراهة الاعتكاف في المساجد للنساء ما حدثنا محمد بن بكر قال:
حدثنا أبو داود قال: حدثنا عثمان بن أبي شيبة قال: حدثنا أبو معاوية
ويعلى بن عبيد،
(1/295)
عن يحيى
بن سعيد، عن عمرة، عن عائشة قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم
إذا أراد أن يعتكف صلى الفجر ثم دخل معتكفه، قالت: وإنه أراد مرة أن
يعتكف في العشر الأواخر من رمضان، قالت: فأمر ببنائه فضرب، فلما رأيت
ذلك أمرت ببنائي فضرب، قالت: وأمر غيري من أزواج النبي صلى الله عليه
وسلم ببنائه فضرب، فلما صلى الفجر نظر إلى الأبنية فقال: "ما هذه آلبر
تردن؟" قالت: ثم أمر ببنائه فقوض وأمر أزواجه بأبنيتهن فقوضت، ثم أخر
الاعتكاف إلى العشر الأول; يعني من شوال. وهذا الخبر يدل على كراهية
الاعتكاف للنساء في المسجد بقوله: "آلبر تردن؟" يعني أن هذا ليس من
البر، ويدل على كراهية ذلك منهن أنه لم يعتكف في ذلك الشهر ونقض بناءه
حتى نقضن أبنيتهن. ولو ساغ لهن الاعتكاف عنده لما ترك الاعتكاف بعد
العزيمة ولما جوز لهن تركه وهو قربة إلى الله تعالى، وفي هذا دلالة على
أنه قد كره اعتكاف النساء في المساجد.
فإن قيل: قد روى سفيان بن عيينة هذا الحديث عن يحيى بن سعيد عن عمرة عن
عائشة وقالت فيه: فاستأذنت النبي صلى الله عليه وسلم في الاعتكاف فأذن
لي، ثم استأذنته زينب فأذن لها، فلما صلى الفجر رأى في المسجد أربعة
أبنية فقال: " ما هذا؟" فقالوا: لزينب وحفصة وعائشة فقال: "آلبر تردن؟"
فلم يعتكف. فأخبرت في هذا الحديث بإذن رسول الله صلى الله عليه وسلم
قيل له: ليس فيه أنه أذن لهن في الاعتكاف في المسجد، ويحتمل أن يكون
الإذن انصرف إلى اعتكافهن في بيوتهن، ويدل عليه أنه لما رأى أبنيتهن في
المسجد ترك الاعتكاف حتى تركن أيضا، وهذا يدل على أن الإذن بديا لم يكن
إذنا لهن في الاعتكاف في المسجد، وأيضا فلو صح أن الإذن بديا انصرف إلى
فعله في المسجد لكانت الكراهة دالة على نسخه وكان الآخر من أمره أولى
مما تقدم.
فإن قيل: لا يجوز أن يكون ذلك نسخا للإذن لأن النسخ عندكم لا يجوز قبل
التمكن من الفعل، قيل له: قد كن مكن من الفعل لأدنى الاعتكاف; لأنه من
حين طلوع الفجر من ذلك اليوم إلى أن صلى النبي صلى الله عليه وسلم
وأنكر فعلهن ذلك فقد حصل التمكين من الاعتكاف، فلذلك جاز ورود النسخ
بعده.
وأما قول الشافعي فيمن لا جمعة عليه إن له أن يعتكف حيث شاء فلا معنى
له; لأنه ليس للاعتكاف تعلق بالجمعة، وقد وافقنا الشافعي على جواز
الاعتكاف في سائر المساجد فيمن عليه جمعة ومن ليست عليه لا يختلفان في
موضع الاعتكاف، وإنما كره ذلك للمرأة في المسجد لأنها تصير لابثة مع
الرجال في المسجد وذلك مكروه لها سواء كانت معتكفة أو غير معتكفة، فأما
من سواها فلا يختلف الحكم فيه لقوله تعالى: {وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي
الْمَسَاجِدِ} فلم يخصص من عليه جمعة من غيرهم، فلا يختلف في
(1/296)
الاعتكاف
من عليه جمعة ومن ليست عليه لأنه نافلة ليس بفرض على أحد.
وقد اختلف الفقهاء في مدة الاعتكاف، فقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد
وزفر والشافعي: له أن يعتكف يوما وما شاء وقد اختلفت الرواية عن
أصحابنا في من دخل في الاعتكاف من غير إيجاب، بالقول في إحدى
الروايتين: هو معتكف ما دام في المسجد وله أن يخرج متى شاء بعد أن يكون
صائما في مقدار لبثه فيه والرواية الأخرى، وهي في غير الأصول أن عليه
أن يتمه يوما. وروى ابن وهب عن مالك قال: ما سمعت أن أحدا اعتكف دون
عشر، ومن صنع ذلك لم أر عليه شيئا وذكر ابن القاسم عن مالك أنه كان
يقول: "الاعتكاف يوم وليلة" ثم رجع وقال: "لا اعتكاف أقل من عشرة" أيام
وقال عبيد الله بن الحسن: لا أستحب أن يعتكف أقل من عشرة أيام قال أبو
بكر: تحديد مدة الاعتكاف لا يصح إلا بتوقيف أو اتفاق وهما معدومان،
فالموجب لتحديده متحكم قائل بغير دلالة. فإن قيل: تحديد العشرة لما روي
أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعتكف العشر الأواخر من رمضان، وروي
أنه اعتكف العشر الأواخر من شوال في بعض السنين، ولم يرو أنه اعتكف أقل
من ذلك، قيل له: لم يختلف الفقهاء أن فعل النبي صلى الله عليه وسلم
للاعتكاف ليس على الوجوب وأنه غير موجب على أحد اعتكافا، فإذا لم يكن
فعله للاعتكاف على الوجوب فتحديد العشرة أولى أن لا يثبت بفعله، ومع
ذلك فإنه لم ينف عن غيره، فنحن نقول: إن اعتكاف العشرة جائز ونفي ما
دونها يحتاج إلى دليل، وقد أطلق الله تعالى ذكر الاعتكاف فقال: {وَلا
تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} ولم يحده
بوقت ولم يقدره بمدة، فهو على إطلاقه وغير جائز تخصيصه بغير دلالة،
والله أعلم.
(1/297)
باب الاعتكاف هل يجوز بغير صوم
قال الله تعالى: {وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي
الْمَسَاجِدِ} وقد بينا أن الاعتكاف اسم شرعي، وما كان هذا حكمه من
الأسماء فهو بمنزلة المجمل الذي يفتقر إلى البيان.
وقد اختلف السلف في ذلك، فروى عطاء عن ابن عمر عن ابن عباس وعائشة
قالوا: المعتكف عليه الصوم، وقال سعيد بن المسيب عن عائشة: من سنة
المعتكف أن يصوم. وروى حاتم بن إسماعيل عن جعفر بن محمد عن أبيه عن علي
قال: لا اعتكاف إلا بصوم وهو قول الشعبي وإبراهيم ومجاهد، وقال آخرون:
يصح بغير صوم; روى الحكم عن علي وعبد الله، وقتادة عن الحسن وسعيد،
وأبو معشر عن إبراهيم قالوا: إن شاء صام وإن شاء لم يصم وروى طاوس عن
ابن عباس مثله.
واختلف أيضا فقهاء الأمصار، فقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد وزفر ومالك
(1/297)
والثوري
والحسن بن صالح: لا اعتكاف إلا بصوم وقال الليث بن سعد: الاعتكاف في
رمضان، والجوار في غير رمضان، ومن جاور فعليه ما على المعتكف من الصيام
وغيره، وقال الشافعي: يجوز الاعتكاف بغير صوم.
قال أبو بكر: لما كان الاعتكاف اسما مجملا لما بينا كان مفتقرا إلى
البيان، فكل ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم في اعتكافه فهو وارد
مورد البيان، فيجب أن يكون على الوجوب; لأن فعله إذا ورد مورد البيان
فهو على الوجوب إلا ما قام دليله، فلما ثبت عن النبي صلى الله عليه
وسلم: "لا اعتكاف إلا بصوم" وجب أن يكون الصوم من شروطه التي لا يصح
إلا به، كفعله في الصلاة لأعداد الركعات والقيام والركوع والسجود لما
كان على وجه البيان كان على الوجوب.
ومن جهة السنة ما حدثنا محمد بن بكر قال: حدثنا أبو داود قال: حدثنا
أحمد بن إبراهيم قال: حدثنا عبد الله بن بديل بن ورقاء الليثي عن عمرو
بن دينار عن ابن عمر: أن عمر جعل عليه أن يعتكف في الجاهلية ليلة أو
يوما عند الكعبة، فسأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "اعتكف وصم".
وحدثنا محمد بن بكر قال: حدثنا أبو داود قال: حدثنا عبد الله بن عمر بن
محمد بن أبان بن صالح القرشي قال: حدثنا عمرو بن محمد عن عبد الله بن
بديل بإسناده، نحوه، وأمر النبي صلى الله عليه وسلم على الوجوب، فثبت
بذلك أنه من شروط الاعتكاف.
ويدل عليه أيضا قول عائشة رضي الله عنها: "من سنة المعتكف أن يصوم".
ويدل عليه من جهة النظر اتفاق الجميع على لزومه بالنذر. فلولا ما
يتضمنه من الصوم لما لزم بالنذر; لأن ما ليس له أصل في الوجوب لا يلزم
بالنذر ولا يصير واجبا، كما أن ما ليس له أصل في القرب لا يصير قربة
وإن تقرب به، ويدل عليه أن الاعتكاف لبث في مكان فأشبه الوقوف بعرفة،
والكون بمنى لما كان لبثا في مكان لم يصر قربة إلا بانضمام معنى آخر
إليه هو في نفسه قربة، فالوقوف بعرفة الإحرام والكون بمنى الرمي.
فإن قيل: لو كان من شرطه الصوم لما صح بالليل لعدم الصوم فيه، قيل له:
قد اتفقوا على أن من شرطه اللبث في المسجد ثم لا يخرجه من الاعتكاف
خروجه لحاجة الإنسان وللجمعة، ولم ينف ذلك كون اللبث في المسجد شرطا
فيه، كذلك من شرطه الصوم وصحته بالليل مع عدم الصوم غير مانع أن يكون
من شرطه، وكذلك اللبث بمنى قربة لأجل الرمي، ثم يكون اللبث بالليل بها
قربة لرمي يفعله في غد، كذلك الاعتكاف بالليل صحيح بصوم يستقبله في غد،
والله أعلم.
(1/298)
باب ما يجوز للمعتكف أن يفعله
قال الله تعالى: {وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي
الْمَسَاجِدِ} يحتمل اللفظ حقيقة المباشرة التي هي إلصاق البشرة
بالبشرة من أي موضع كان من البدن ويحتمل أن تكون كناية عن الجماع كما
كان المسيس كناية عن الجماع، وحقيقته المس باليد وبسائر الأعضاء وكما
قال: {فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ}
والمراد الجماع، فلما اتفق الجميع أن هذه الآية قد حظرت الجماع على
المعتكف وأنه مراد بها، وجب أن تنتفي إرادة المباشرة التي هي حقيقة
لامتناع كون لفظ واحد حقيقة مجازا.
وقد اختلف الفقهاء في مباشرة المعتكف، فقال أصحابنا: لا بأس بها إذا لم
تكن بشهوة وأمن على نفسه، ولا ينبغي أن يباشرها بشهوة ليلا ولا نهارا،
فإن فعل فأنزل فسد اعتكافه، فإن لم ينزل لم يفسد وقد أساء وقال ابن
القاسم عن مالك: إذا قبل امرأته فسد اعتكافه وقال المزني عن الشافعي:
إن باشر فسد اعتكافه وقال في موضع آخر: لا يفسد الاعتكاف من الوطء إلا
ما يوجب الحد.
قال أبو بكر: قد بينا أن مراد الآية في المباشرة هو الوطء دون المباشرة
باليد والقبلة، وكذلك قال أبو يوسف، إن قوله: {وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ
وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} إنما هو على الجماع. وروي عن
الحسن البصري قال: المباشرة النكاح، وقال ابن عباس: إذا جامع المعتكف
فسد اعتكافه. وقال الضحاك: كانوا يجامعون وهم معتكفون حتى نزل: {وَلا
تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} وقال قتادة:
كان الناس إذا اعتكفوا خرج الرجل منهم فباشر أهله ثم رجع إلى المسجد،
فنهاهم الله عن ذلك بقوله: {وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ
عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} وهذا من قولهم يدل على أنهم عقلوا من
مراد الآية الجماع دون اللمس والمباشرة باليد.
ويدل على أن المباشرة لغير شهوة مباحة للمعتكف، حديث الزهري عن عروة عن
عائشة أنها كانت ترجل رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو معتكف
فكانت لا محالة تمس بدن رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدها، فدل على
أن المباشرة لغير شهوة غير محظورة على المعتكف وأيضا لما ثبت أن
الاعتكاف بمعنى الصوم في باب حظر الجماع ولم يكن الصوم مانعا من
المباشرة أو القبلة لغير شهوة إذا أمن على نفسه. وروي ذلك عن النبي صلى
الله عليه وسلم في آثار مستفيضة، وجب أن لا يمنع الاعتكاف القبلة لغير
شهوة ولما كانت المباشرة والقبلة لشهوة محظورتين في الصوم وجب أن يكون
ذلك حكمهما في الاعتكاف، ولما كانت المباشرة في الصوم إذا حدث عنها
إنزال فسد الصوم وجب أن يفسد الاعتكاف; لأن
(1/299)
الاعتكاف
والصوم قد جريا مجرى واحدا في اختصاصهما بحظر الجماع دون دواعيه من
الطيب ودون اللباس.
فإن قيل: المحرم إذا قبل بشهوة لزمه دم وإن لم ينزل، فهلا أفسدت
الاعتكاف بمثله قيل له: ليس الإحرام بأصل للاعتكاف، ألا ترى أنه ممنوع
في الإحرام من الجماع ودواعيه من الطيب ومحظور عليه اللبس والصيد
وإزالة التفث عن نفسه وليس يحظر ذلك عليه الاعتكاف؟ فثبت بذلك أن
الإحرام ليس بأصل للاعتكاف، وأن الإحرام أكبر حرمة فيما يتعلق به من
الأحكام، فلما كان المحرم ممنوعا من الاستمتاع وقد حصل له ذلك
بالمباشرة وإن لم ينزل، وجب عليه دم لحصول الاستمتاع بما هو محظور
عليه، فأشبه الاستمتاع بالطيب واللباس، فلزمه من أجل ذلك دم.
فإن قيل: فلا يفسد اعتكافه وإن حدث عنها إنزال كما لا يفسد إحرامه، قيل
له: لم نجعل ما وصفنا علة في فساد الاعتكاف حتى يلزمنا علتها، وإنما
أفسدنا اعتكافه بالإنزال عن المباشرة كما أفسدنا صومه، وأما الإحرام
فهو مخصوص في إفساده بالجماع في الفرج وسائر الأمور المحظورة في
الإحرام لا يفسده، ألا ترى أن اللبس والطيب والصيد كل ذلك محظور في
الإحرام ولا يفسده إذا وقع فيه؟ فالإحرام في باب البقاء مع وجود ما
يحظره أكبر من الاعتكاف والصوم; ألا ترى أن بعض الأشياء التي يحظرها
الصوم يفسده مثل الأكل والشرب وكذلك يفسد الاعتكاف؟ فلذلك قلنا إن
المباشرة في الاعتكاف إذا حدث عنها إنزال أفسدته كما تفسد الصوم، ومتى
لم يحدث عنها لم يكن لها تأثير في إفساد الاعتكاف كما لم تؤثر في إفساد
الصوم.
واختلف فقهاء الأمصار في أشياء من أمر المعتكف، فقال أصحابنا: لا يخرج
المعتكف من المسجد في اعتكاف واجب ليلا ولا نهارا إلا لما لا بد منه من
الغائط والبول وحضور الجمعة، ولا يخرج لعيادة مريض ولا لشهود جنازة
قالوا: ولا بأس بأن يبيع ويشتري ويتحدث في المسجد ويتشاغل بما لا مأثم
فيه ويتزوج وليس فيه صمت وبه قال الشافعي. وقال ابن وهب عن مالك: لا
يعرض المعتكف لتجارة ولا غيرها بل يشتغل باعتكافه، ولا بأس أن يأمر
بصنعته ومصلحة أهله وبيع ماله أو شيئا لا يشغله في نفسه. ولا بأس به
إذا كان خفيفا; قال مالك: ولا يكون معتكفا حتى يجتنب ما يجتنب المعتكف،
ولا بأس بنكاح المعتكف ما لم يكن الوقاع وقال ابن القاسم عن مالك: لا
يقوم المعتكف إلى رجل يعزيه بمصيبة، ولا يشهد نكاحا يعقد في المسجد
يقوم إليه في المسجد، ولكن لو غشيه ذلك في مجلسه لم أر به بأسا، ولا
يقوم إلى الناكح فيهنئه، ولا يتشاغل في مجلس العلم ولا يكتب العلم في
المجلس وكرهه ويشتري ويبيع إذا كان
(1/300)
خفيفا.
وقال سفيان الثوري: المعتكف يعود المريض ويشهد الجمعة وما لا يحسن به
أن يصنعه في المسجد أتى أهله فصنعه، ولا يدخل سقفا إلا أن يكون ممره
فيه، ولا يجلس عند أهله، وليوصهم بحاجته وهو قائم أو يمشي، ولا يبيع
ولا يبتاع، وإن دخل سقفا بطل اعتكافه، وقال الحسن بن صالح: وإذا دخل
المعتكف بيتا ليس فيه طريقه أو جامع بطل اعتكافه، ويحضر الجنازة ويعود
المريض ويأتي الجمعة ويخرج للوضوء ويدخل بيت المريض، ويكره أن يبيع
ويشتري.
قال أبو بكر: روى الزهري عن سعيد بن المسيب وعروة بن الزبير عن عائشة
قالت: "إن من السنة في المعتكف أن لا يخرج إلا لحاجة الإنسان، ولا يتبع
الجنازة، ولا يعود مريضا، ولا يمس امرأة ولا يباشرها". وعن سعيد بن
المسيب ومجاهد قالا: لا يعود المعتكف مريضا ولا يجيب دعوة ولا يشهد
جنازة وروى مجاهد عن ابن عباس قال: ليس على المعتكف أن يعود مريضا ولا
يتبع جنازة.
فهؤلاء السلف من الصحابة والتابعين قد روي عنهم في المعتكف ما وصفنا،
وروي عن غيرهم خلاف ذلك. وروى أبو إسحاق عن عاصم بن ضمرة عن علي قال:
المعتكف يشهد الجمعة ويعود المريض ويتبع الجنازة وروي مثله عن الحسن
وعامر وسعيد بن جبير، وروى سفيان بن عيينة عن عمار بن عبد الله بن يسار
عن أبيه عن علي أنه لم ير بأسا أن يخرج المعتكف ويبتاع. وحدثنا محمد بن
بكر قال: حدثنا أبو داود قال: حدثنا القعنبي، عن مالك، عن ابن شهاب، عن
عروة بن الزبير، عن عمرة بنت عبد الرحمن، عن عائشة قالت: "كان رسول
الله صلى الله عليه وسلم إذا اعتكف يدني إلي رأسه فأرجله، وكان لا يدخل
البيت إلا لحاجة الإنسان", فهذا الحديث يقتضي حظر الخروج إلا لحاجة
الإنسان، مما وصفنا من أن فعل النبي صلى الله عليه وسلم للاعتكاف وارد
مورد البيان، وفعله إذا ورد مورد البيان فهو على الوجوب، فأوجب ما
ذكرنا من فعله حظر الخروج على المعتكف إلا لحاجة الإنسان. وإنما يعنى
به البول والغائط، ولما كان من شرط الاعتكاف اللبث في المسجد، وبذلك
قرنه الله تعالى عند ذكره في قوله: {وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ
عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} وجب أن لا يخرج إلا لما لا بد منه من
حاجة الإنسان وقضاء فرض الجمعة; ولأنه معلوم أنه لم يعقد على نفسه
اعتكافا هو متنفل بإيجابه، وهو يريد ترك شهود الجمعة وهي فرض عليه،
فصار حضورها مستثنى من اعتكافه.
فإن قيل: أليس في قوله: {وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ}
دلالة على أن من شرطه دوام اللبث فيه؟ لأنه إنما ذكر في الحال التي
يكونون عليه وعلق به حظر الجماع إذا كانوا بهذه الصفة، ولا دلالة على
حظر الخروج من المسجد في حال الاعتكاف، قيل له:
(1/301)
هذا خطأ
من وجهين: أحدهما: أنه معلوم أن حظر الجماع على المعتكف غير متعلق
بكونه في المسجد لأنه لا خلاف بين أهل العلم أنه ليس له أن يجامع
امرأته في بيته في حال الاعتكاف. وقد حكينا عن بعض السلف أن الآية نزلت
فيمن كان يخرج من المسجد في حال اعتكافه إلى بيته ويجامع، فلما كان ذلك
كذلك ثبت أن ذكر المسجد في هذا الموضع إذا لم يعلق به حظره الجماع إنما
هو لأن ذلك شرط الاعتكاف ومن أوصافه التي لا يصح إلا به، والوجه الآخر:
أن الاعتكاف لما كان أصله في اللغة اللبث في الموضع، ثم ذكر الله تعالى
الاعتكاف، فاللبث لا محالة مراد به وإن أضيف إليه معان أخر لم يكن
الاسم لها في اللغة، كما أن الصوم لما كان في اللغة هو الإمساك ثم نقل
في الشرع إلى معان أخر لم يخرجه ذلك من أن يكون من شرطه وأوصافه التي
لا يصح إلا به. فثبت أن الاعتكاف هو اللبث في المسجد، فواجب على هذا أن
لا يخرج إلا لما لا بد منه أو لشهود الجمعة; إذ كانت فرضا، مع ما عاضد
هذه المقالة ما قدمنا من السنة، ولما لم يتعين فرض شهود الجنازة وعيادة
المريض لم يجز له الخروج لهما.
وروى عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه عن عائشة قالت: "كان رسول الله صلى
الله عليه وسلم يمر بالمريض وهو معتكف فما يعرج عليه، يسأل عنه ويمضي",
وروى الزهري عن عمرة عن عائشة مثله من فعلها، ولما اتفق الجميع ممن
ذكرنا قوله أنه غير جائز للمعتكف أن يخرج فينصرف في سائر أعمال البر من
قضاء حوائج الناس والسعي على عياله وهو من البر، وجب أن يكون كذلك حكم
عيادة المريض، وكما لا يجيبه إلى دعوته كذلك عيادته لأنهما سواء في
حقوق بعضهم على بعض; فالكتاب والأثر والنظر يدل على صحة ما وصفنا.
فإن احتج محتج بما روى الهياج الخراساني قال: حدثنا عنبسة بن عبد
الرحمن عن عبد الخالق عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"المعتكف يتبع الجنازة ويعود المريض، وإذا خرج من المسجد قنع رأسه حتى
يعود إليه" قيل له: هذا حديث مجهول السند، لا يعارض به حديث الزهري عن
عمرة عن عائشة. وأما قول من قال: إنه إن دخل سقفا بطل اعتكافه فتخصيصه
السقف دون غيره لا دلالة عليه، ولا فرق بين السقف وغيره من الفضاء، فإن
كونه في الفضاء والصحراء لا يفسد اعتكافه، فكذلك السقف مثله، وأما
البيع والشراء من غير إحضار السلعة والميزان فلا بأس عندهم به، وإنما
أرادوا البيع بالقول فحسب لا إحضار السلع والأثمان; وإنما جاز ذلك لأنه
مباح، فهو كسائر كلامه في الأمور المباحة. وقد روي عن النبي صلى الله
عليه وسلم: "أنه نهى عن صمت يوم إلى الليل" فإذا كان الصمت محظورا فهو
لا محالة مأمور بالكلام، فسائر ما ينافي الصمت من مباح الكلام قد
انتظمه اللفظ.
(1/302)
وحدثنا
محمد بن بكر قال: حدثنا أبو داود قال: حدثنا أحمد بن محمد المروزي قال:
حدثنا عبد الرزاق قال: أخبرنا معمر، عن الزهري، عن علي بن الحسين، عن
صفية، قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم معتكفا فأتيته أزوره
ليلا، فحدثته ثم قمت فانقلبت، فقام معي ليقلبني وكان مسكنها في دار
أسامة بن زيد فمر رجلان من الأنصار، فلما رأيا النبي صلى الله عليه
وسلم أسرعا، فقال عليه السلام: "على رسلكما إنها صفية بنت حيي" قالا:
سبحان الله يا رسول الله قال: "إن الشيطان يجري من الإنسان مجرى الدم،
فخشيت أن يقذف في قلوبكما شيئا، أو قال: شرا" فتشاغل في اعتكافه
بمحادثة صفية ومشى معها إلى باب المسجد، وهذا يبطل قول من قال: لا
يتشاغل بالحديث ولا يقوم فيمشي إلى أملاك في المسجد، وحدثنا محمد بن
بكر قال: حدثنا أبو داود قال: حدثنا سليمان بن حرب ومسدد قالا: حدثنا
حماد بن زيد عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة قالت: "كان رسول الله
صلى الله عليه وسلم يكون معتكفا في المسجد فيناولني رأسه من خلال
الحجرة فأغسل رأسه وأرجله وأنا حائض". وقد حوى هذا الخبر أحكاما: منها:
إباحة غسل الرأس وهو في المسجد، ومنها جواز المباشرة واللمس بغير شهوة
للمعتكف، ومنها جواز غسل الرأس في حال الاعتكاف، وغسل الرأس إنما هو
لإصلاح البدن، فدل ذلك على أن للمعتكف أن يفعل ما فيه صلاح بدنه، ودل
أيضا على أنه له أن يشتغل بما فيه صلاح ماله، كما أبيح له الاشتغال
بإصلاح بدنه; لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "قتال المؤمن كفر
وسبابه فسق، وحرمة ماله كحرمة دمه". ودل أيضا على أن للمعتكف أن يتزين;
لأن ترجيل الرأس من الزينة، ويدل على أن من كان في المسجد فأخرج رأسه
فغسله كان غاسلا له في المسجد، وهو يدل على قولهم فيمن حلف لا يغسل رأس
فلان في المسجد أنه يحنث إن أخرج رأسه من المسجد فغسله والحالف خارج
المسجد، وأنه إنما يعتبر موضع المغسول لا الغاسل; لأن الغسل لا يكون
إلا وهو متصل به يقتضي وجود المغسول، ولذلك قالوا فيمن حلف لا يضرب
فلانا في المسجد: إنه يعتبر وجود المضروب في المسجد لا الضارب. ويدل
أيضا على طهارة يد الحائض وسؤرها وأن حيضها لا يمنع طهارة بدنها، وهو
كقوله عليه السلام: "ليس حيضك في يدك"، والله أعلم.
(1/303)
باب ما يحله حكم الحاكم و ما لا يحله
...
باب ما يحله حكم الحاكم وما لا يحله
قال الله تعالى: {وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ
بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا
فَرِيقاً مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْأِثْمِ}. والمراد، والله أعلم:
لا يأكل بعضكم مال بعض بالباطل، كما قال تعالى: {وَلا تَقْتُلُوا
أَنْفُسَكُمْ} [النساء: 29] وقوله: {وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ}
[الحجرات: 11] يعني بعضكم بعضا، وكما قال عليه السلام: "أموالكم
وأعراضكم
(1/303)
عليكم
حرام" يعني أموال بعضكم على بعض، أكل المال بالباطل على وجهين: أحدهما:
أخذه على وجه الظلم والسرقة والخيانة والغصب وما جرى مجراه، والآخر:
أخذه من جهة محظورة، نحو الثمار وأجرة الغناء والقيان والملاهي
والنائحة وثمن الخمر والخنزير والحر وما لا يجوز أن يتملكه وإن كان
بطيبة نفس من مالكه; وقد انتظمت الآية حظر أكلها من هذه الوجوه كلها.
ثم قوله: {وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ} فيما يرفع إلى الحاكم
فيحكم به في الظاهر ليحلها، مع علم المحكوم له أنه غير مستحق له في
الظاهر; فأبان تعالى أن حكم الحاكم به لا يبيح أخذه، فزجر عن أكل بعضنا
لمال بعض بالباطل، ثم أخبر أن ما كان منه بحكم الحاكم فهو في حيز
الباطل الذي هو محظور عليه أخذه; وقال في آية أخرى: {يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ
بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ}
[النساء: 29] فاستثنى من الجملة ما وقع من التجارة بتراض منهم به ولم
يجعله من الباطل، وهذا هو في التجارة الجائزة دون المحظورة.
وما تلونا من الآي أصل في أن حكم الحاكم له بالمال لا يبيح له أخذ
المال الذي لا يستحقه، وبمثله وردت الأخبار والسنة عن النبي صلى الله
عليه وسلم; حدثنا عبد الباقي بن قانع قال: حدثنا بشر بن موسى قال:
حدثنا الحميدي قال: حدثنا عبد العزيز بن أبي حازم، عن أسامة بن زيد، عن
عبد الله بن رافع، عن أم سلمة قالت: كنت عند رسول الله صلى الله عليه
وسلم فجاء رجلان يختصمان في مواريث وأشياء قد درست، فقال رسول الله صلى
الله عليه وسلم: "إنما أقضي بينكما برأي فيما لم ينزل علي فيه، فمن
قضيت له بحجة أراها فاقتطع بها قطعة ظلما فإنما يقتطع قطعة من النار
يأتي بها إسطاما يوم القيامة في عنقه" فبكى الرجلان، فقال كل واحد
منهما: يا رسول الله حقي له، فقال عليه السلام: "لا، ولكن اذهبا فتوخيا
للحق ثم استهما وليحلل كل واحد منكما صاحبه". ومعنى هذا الخبر مواطئ
لما ورد به نص التنزيل في أن حكم الحاكم له بالمال لا يبيح له أخذه وقد
حوى هذا الخبر معاني أخر، منها أن النبي صلى الله عليه وسلم قد كان
يقضي برأيه واجتهاده فيما لم ينزل به وحي لقوله عليه السلام: "أقضي
بينكما برأي فيما لم ينزل علي فيه". وقد دل ذلك أيضا على أن الذي كلف
الحاكم من ذلك الأمر الظاهر، وأنه لم يكلف المغيب عند الله تعالى وفيه
الدلالة على أن كل مجتهد فيما يسوغ فيه الاجتهاد مصيب; إذ لم يكلف غير
ما أداه إليه اجتهاده. ألا ترى أن النبي صلى الله عليه وسلم قد أخبر
أنه مصيب في حكمه بالظاهر وإن كان الأمر في المغيب خلافه ولم يبح مع
ذلك للمقضي له أخذ ما قضى له به؟ ودل أيضا على أن الحاكم جائز له أن
يعطي إنسانا مالا ويأمر له به وإن لم يسع المحكوم له أخذه إذا علم أنه
غير مستحق، ودل أيضا على جواز الصلح عن غير إقرار; لأن واحدا منهما لم
يقر بالحق
(1/304)
وإنما بذل
ماله لصاحبه، فأمرهما النبي صلى الله عليه وسلم بالصلح وأن يستهما
عليه، والاستهام هو الاقتسام ويدل على أن القسمة في العقار وغيره واجبة
إذا طلبها أحدهما. ويدل أيضا على أن الحاكم يأمر بالقسمة ويدل على جواز
البراءة من المجاهيل أيضا; لأنه أخبر بجهالة المواريث التي قد درست ثم
أمرهما مع ذلك بالتحليل. وعلى أنه لو لم يذكر فيه أنها مواريث قد درست
لكان يقتضي قوله: "وليحلل كل واحد منكما صاحبه" جواز البراءة من
المجاهيل لعموم اللفظ; إذ لم يفرق بين المجهول من ذلك والمعلوم ودل
أيضا على جواز تراضي الشريكين على القسمة من غير حكم الحاكم ودل أيضا
على أن من له قبل رجل حق فوهبه له فلم يقبله أنه لا يصح ويعود الملك
إلى الواهب لأن كل واحد منهما رد ما وهبه الآخر وجعل حق نفسه لصاحبه;
ولما لم يفرق في ذلك بين الأعيان والديون وجب أن يستوي حكم الجميع إذا
رد البراءة والهبة في وجوب بطلانهما ويدل أيضا على أن قول القائل:
لفلان من مالي ألف درهم أنه هبة منه وليس بإقرار; لأنه عليه السلام لم
يجعل قول كل واحد منهما: الذي لي له إقرارا; لأنه لو جعل إقرارا لجاز
عليه ولم يحتاجا بعد ذلك إلى الصلح والتحليل والقسمة; وكذلك قال
أصحابنا فيمن قال: لفلان من مالي ألف درهم. ويدل أيضا على جواز التحري
والاجتهاد في موافقة الحق وإن لم يكن يقينا، لقوله عليه السلام:
"وتوخيا للحق" أي تحريا واجتهدا ويدل أيضا على أن الحاكم جائز له أن
يرد الخصوم للصلح إذا رأى ذلك، وأن لا يحملهما على مر الحكم; ولهذا قال
عمر: "ردوا الخصوم كي يصطلحوا".
وحدثنا محمد بن بكر قال: حدثنا أبو داود قال: حدثنا محمد بن كثير قال:
أخبرنا سفيان، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن زينب بنت أم سلمة، عن أم
سلمة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنما أنا بشر وإنكم
تختصمون إلي ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من صاحبه فأقضي له على نحو
مما أسمع منه، فمن قضيت له من حق أخيه بشيء فلا يأخذ منه شيئا فإنما
أقطع له قطعة من النار".
وحدثنا محمد بن بكر قال: حدثنا أبو داود قال: حدثنا الربيع بن نافع
قال: حدثنا ابن المبارك، عن أسامة بن زيد، عن عبد الله بن رافع مولى أم
سلمة، عن أم سلمة قالت: أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلان
يختصمان في مواريث لهما لم تكن لهما بينة إلا دعواهما، فقال النبي صلى
الله عليه وسلم فذكر نحوه، فبكى الرجلان، وقال كل واحد منهما: حقي لك،
فقال لهما النبي صلى الله عليه وسلم: "أما إذ فعلتما ما فعلتما فاقتسما
وتوخيا الحق ثم استهما ثم تحالا".
وهذان الحديثان في معنى الحديث الذي قدمناه في حظر أخذ ما يحكم له به
الحاكم إذا علم أنه غير مستحق له; وفيهما فوائد أخر، منها: أن قوله في
حديث زينب
(1/305)
بنت أم
سلمة "أقضي له على نحو مما أسمع " يدل على جواز إقرار المقر بما أقر به
على نفسه; لإخباره أنه يقضي بما يسمع; وكذلك قد اقتضى الحكم بمقتضى ما
يسمعه من شهادة الشهود واعتبار لفظهما فيما يقتضيه ويوجبه وقال في حديث
عبد الله بن رافع هذا: "اقتسما وتوخيا الحق ثم استهما" وهذا الاستهام
هو القرعة التي يقرع بها عند القسمة. وفيه دلالة على جواز القرعة في
القسمة.
والذي ورد التنزيل من حظر ما حكم له به الحاكم إذا علم المحكوم له أنه
غير محكوم له بحق قد اتفقت الأمة عليه فيمن ادعى حقا في يدي رجل وأقام
بينة فقضى له، أنه غير جائز له أخذه وأن حكم الحاكم لا يبيح له ما كان
قبل ذلك محظورا عليه.
واختلفوا في حكم الحاكم بعقد أو فسخ عقد بشهادة شهود إذا علم المحكوم
له أنهم شهود زور، فقال أبو حنيفة: "إذا حكم الحاكم ببينة بعقد أو فسخ
عقد مما يصح أن يبتدأ فهو نافذ ويكون كعقد نافذ عقداه بينهما وإن كان
الشهود شهود زور". وقال أبو يوسف ومحمد والشافعي: حكم الحاكم في الظاهر
كهو في الباطن. وقال أبو يوسف: فإن حكم بفرقة لم تحل للمرأة أن تتزوج
ولا يقربها زوجها أيضا.
قال أبو بكر: روي نحو قول أبي حنيفة عن علي وابن عمر والشعبي، ذكر أبو
يوسف عن عمرو بن المقدام عن أبيه أن رجلا من الحي خطب امرأة وهو دونها
في الحسب، فأبت أن تزوجه، فادعى أنه تزوجها وأقام شاهدين عند علي،
فقالت: إني لم أتزوجه، قال: قد زوجك الشاهدان; فأمضى عليهما النكاح.
قال أبو يوسف: وكتب إلي شعبة بن الحجاج يرويه عن زيد أن رجلين شهدا على
رجل أنه طلق امرأته بزور، ففرق القاضي بينهما، ثم تزوجها أحد الشاهدين،
قال الشعبي: ذلك جائز، وأما ابن عمر فإنه باع عبدا بالبراءة، فرفعه
المشتري إلى عثمان، فقال عثمان: أتحلف بالله ما بعته وبه داء كتمته؟
فأبى أن يحلف; فرده عليه عثمان، فباعه من غيره بفضل كثير، فاستجاز ابن
عمر بيع العبد مع علمه بأن باطن ذلك الحكم خلاف ظاهر، وأن عثمان لو علم
منه مثل علم ابن عمر لما رده، فثبت بذلك أنه كان من مذهبه أن فسخ
الحاكم العقد يوجب عوده إلى ملكه وإن كان في الباطن خلافه.
ومما يدل على صحة قول أبي حنيفة في ذلك حديث ابن عباس في قصة هلال بن
أمية ولعان النبي صلى الله عليه وسلم بينهما، ثم قال: "إن جاءت به على
صفة كيت وكيت فهو لهلال بن أمية، وإن جاءت به على صفة أخرى فهو لشريك
ابن سحماء الذي رميت به" فجاءت به على الصفة المكروهة، فقال النبي صلى
الله عليه وسلم: "لولا ما مضى من الأيمان لكان لي ولها شأن" ولم تبطل
الفرقة الواقعة بلعانهما مع علمه بكذب المرأة وصدق الزوج، فصار ذلك
أصلا
(1/306)
في أن
العقود وفسخها متى حكم بها الحاكم مما لو ابتدأ أيضا بحكم الحاكم وقع.
ويدل على ذلك أيضا أن الحاكم مأمور بإمضاء الحكم عند شهادة الشهود
الذين ظاهرهم العدالة، ولو توقف عن إمضاء الحكم بما شهد به الشهود من
عقد أو فسخ عقد لكان آثما تاركا لحكم الله تعالى; لأنه إنما كلف الظاهر
ولم يكلف علم الباطن المغيب عند الله تعالى، وإذا مضى الحكم بالعقد صار
ذلك كعقد مبتدأ بينهما، وكذلك إذا حكم بالفسخ صار كفسخ فيما بينهما;
وإنما نفذ العقد والفسخ إذا تراضى المتعاقدان بحكم الله عز وجل بذلك،
وكذلك حكم الحاكم.
فإن قيل: فلو حكم بشهادة عبيد لم ينفذ حكمه إذا تبين مع كونه مأمورا
بإمضاء الحكم به، قيل له: إنما لم ينفذ حكمه من قبل أن الرق معنى يصح
ثبوته من طريق الحكم، وكذلك الشرك والحد في القذف، فجاز فسخ حكم الحاكم
به بعد وقوعه; ألا ترى أنه يصح قيام البينة به والخصومة فيه عند
الحاكم؟ فلذلك جاز أن لا ينفذ حكم الحاكم بشهادة هؤلاء، لوجود ما ذكرنا
من المعاني التي يصح إثباتها، من طريق الحكم، وأما الفسق وجرح الشهادة
من قبل أنهم شهود زور، فليس هو معنى يصح إثباته من طريق الحكم ولا تقبل
فيه الخصومة، فلم ينفسخ ما أمضاه الحاكم، فإن ألزمنا على العقد وفسخه
الحكم بملك مطلق ولم نبح له أخذه لم يلزمنا ذلك; لأن الحاكم عندنا إنما
يحكم له بالتسليم لا بالملك; لأنه لو حكم بالملك لاحتيج إلى ذكر جهة
الملك في شهادة الشهود، فلما اتفق الجميع على أنه تقبل شهادة الشهود من
غير ذكر جهة الملك دل ذلك على أن المحكوم به هو التسليم، والحكم
بالتسليم ليس بسبب لنقل الملك; فلذلك كان الشيء باقيا على ملك مالكه.
وقوله: {لِتَأْكُلُوا فَرِيقاً مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْأِثْمِ
وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} يدل على أن ذلك فيمن علم أنه أخذ ما ليس له،
فأما من لم يعلم فجائز له أن يأخذه بحكم الحاكم له بالمال إذا قامت
بينة، وهذا يدل على أن البينة إذا قامت بأن لأبيه الميت على هذا ألف
درهم أو أن هذه الدار تركها الميت ميراثا، أنه جائز للوارث أن يدعي ذلك
ويأخذه بحكم الحاكم له به وإن لم يعلم صحة ذلك; إذ هو غير عالم بأنه
مبطل فيما يأخذه، والله تعالى إنما ذم العالم به إذا أخذه بقوله:
{لِتَأْكُلُوا فَرِيقاً مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْأِثْمِ
وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ}.
ومما يدل على نفاذ حكم الحاكم بما وصفنا من العقود وفسخها، اتفاق
الجميع على أن ما اختلف فيه الفقهاء إذا حكم الحاكم بأحد وجوه الاختلاف
نفذ حكمه وقطع ما أمضاه تسويغ الاجتهاد في رده، ووسع المحكوم له أخذه
ولم يسع المحكوم عليه منعه.
(1/307)
وإن كان
اعتقادهما خلافه، كنحو الشفعة بالجوار والنكاح بغير ولي ونحوهما من
اختلاف الفقهاء.
قوله تعالى: {يَسْأَلونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ
لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ}، وإنما يسمى هلالا في أول ما يرى وما قرب منه
لظهوره في ذلك الوقت بعد خفائه; ومنه الإهلال بالحج، وهو إظهار
التلبية، واستهلال الصبي: ظهور حياته بصوت أو حركة، ومن الناس من يقول:
إن الإهلال هو رفع الصوت، وإن إهلال الهلال من ذلك لرفع الصوت بذكره
عند رؤيته، والأول أبين وأظهر. ألا ترى أنهم يقولون: تهلل وجهه: إذا
ظهر منه البشر والسرور، وليس هناك صوت مرفوع؟ وقال تأبط شرا:
وإذا نظرت إلى أسرة وجهه ... برقت كبرق العارض المتهلل
يعني الظاهر.
وقد اختلف أهل اللغة في الوقت الذي يسمى هلالا، فمنهم من قال: يسمى
هلالا لليلتين من الشهر، ومنهم من قال: يسمى لثلاث ليال ثم يسمى قمرا،
وقال الأصمعي: يسمى هلالا حتى يحجر، وتحجيره أن يستدير بخطة دقيقة،
ومنهم من يقول: يسمى هلالا حتى يبهر ضوءه سواد الليل، فإذا غلب ضوءه
سمي قمرا. قالوا: وهذا لا يكون إلا في الليلة السابعة، وقال الزجاج:
الأكثر يسمونه هلالا لابن ليلتين.
وقيل: إن سؤالهم وقع عن وجه الحكمة في زيادة الأهلة ونقصانها، فأجابهم:
إنها مقادير لما يحتاج إليه الناس في صومهم وحجهم وعدد نسائهم ومحل
الديون وغير ذلك من الأمور، فكانت هذه منافع عامة لجميعهم وبها عرفوا
الشهور والسنين وما لا يحصيه من المنافع والمصالح غير الله تعالى.
وفي هذه الآية دلالة على جواز الإحرام بالحج في سائر السنة، لعموم
اللفظ في سائر الأهلة أنها مواقيت للحج، ومعلوم أنه لم يرد به أفعال
الحج، فوجب أن يكون المراد الإحرام.
وقوله تعالى: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} لا ينفي ما قلنا; لأن
قوله: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} فيه ضمير لا يستغني عنه
الكلام، وذلك لاستحالة كون الحج أشهرا; لأن الحج هو فعل الحاج، وفعل
الحاج لا يكون أشهرا; لأن الأشهر إنما هي مرور الأوقات، ومرور الأوقات
هو فعل الله ليس بفعل للحاج، والحج فعل الحاج; فثبت أن في الكلام ضميرا
لا يستغنى عنه; ثم لا يخلو ذلك الضمير من أن يكون فعل الحج أو الإحرام
بالحج. وليس لأحد صرفه إلى أحد المعنيين دون الآخر إلا بدلالة، فلما
كان في اللفظ
(1/308)
هذا
الاحتمال لم يجز تخصيص قوله تعالى: {قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ
وَالْحَجِّ} به; إذ غير جائز لنا تخصيص العموم بالاحتمال، والوجه
الآخر: أنه إن كان المراد إحرام الحج فليس فيه نفي لصحة الإحرام في
غيرها، وإنما فيها إثبات الإحرام فيها; وكذلك نقول: إن الإحرام جائز
فيها بهذه الآية وجائز في غيرها بالآية الأخرى; إذ ليس في إحداهما ما
يوجب تخصيص الأخرى; والذي يقتضيه ظاهر اللفظ أن يكون المراد أفعال الحج
لا إحرامه، إلا أن فيه ضمير حرف الظرف وهو في فمعناه حينئذ: الحج في
أشهر معلومات وفيه تخصيص أفعال الحج في هذه الأشهر دون غيرها، وكذلك
قال أصحابنا فيمن أحرم بالحج قبل أشهر الحج فطاف له وسعى بين الصفا
والمروة قبل أشهر الحج إن سعيه ذلك لا يجزيه وعليه أن يعيده; لأن أفعال
الحج لا تجزي قبل أشهر الحج فعلى هذا يكون معنى قوله: {الْحَجُّ
أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} أن أفعاله في أشهر الحج معلومات.
وقوله تعالى: {يَسْأَلونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ
لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} عموم في إحرام الحج لا في أفعال الحج الموجبة،
وغير جائز أن يكون مراده في قوله: {قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ
وَالْحَجِّ} أهلة مخصوصة بأشهر الحج. كما لا يجوز أن تكون هذه الأهلة
في مواقيت الناس وآجال ديونهم وصومهم وفطرهم مخصوصة بأشهر الحج دون
غيرها; فلما ثبت عموم المراد في سائر الأهلة فيما تضمنه اللفظ من
مواقيت الناس، وجب أن يكون ذلك حكمه في الحج; لأن الأهلة المذكورة
لمواقيت الناس هي بعينها الأهلة المذكورة للحج، وعلى أنا لو حملناه على
أفعال الحج وجعلناها مقصورة المعنى على المذكور في الآية في قوله
تعالى: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} لأدى ذلك إلى إسقاط فائدته
وإزالة حكمه وتخصيص لفظه بغير دلالة توجب الاقتصار به على معنى قوله:
{الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ}، فلما وجب أن يوفى كل لفظ حقه مما
اقتضاه من الحكم والفائدة; وجب أن يكون محمولا على سائر الأهلة وأنها
مواقيت لإحرام الحج وسنتكلم في المسألة عند بلوغنا إليها إن شاء الله.
وقوله: {قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ} قد دل على أن العدتين إذا
وجبتا من رجل واحد يكتفى فيهما بمضيها لهما جميعا ولا تستأنف لكل واحد
منهما حيضا ولا شهورا غير مدة الأخرى; لأن الله تعالى لم يخصص إحداهما
حين جعلها وقتا لجميع الناس ببعضه دون بعض، ومضي مدة العدة هو وقت لكل
واحدة منهما لقوله: {فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ
تَعْتَدُّونَهَا} فجعل العدة حقا للزوج، ثم لما كانت العدة مرور
الأوقات، وقد جعل الله الأهلة وقتا للناس كلهم وجب أن يكتفى بمضي مدة
واحدة للعدتين; ألا
(1/309)
ترى أن
قوله تعالى: {قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ} قد عقل من مفهوم خطابه
أنها تكون مدة لإجارة جميع الناس ومحلا لجميع ديونهم، وإن كان واحد
منهم لا يحتاج إلى أن يختص لنفسه ببعض الأهلة دون بعض؟ كذلك مفهوم
الآية في العدة قد اقتضى مضي مدة واحدة لرجلين. وقد دل قوله تعالى:
{قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ} على أن العدة إذا كان ابتداؤها
بالهلال وكانت بالشهور أنه إنما يجب استيفاؤها بالأهلة ثلاثة أشهر إن
كانت ثلاثة، وإن كانت عدة الوفاة فأربعة أشهر بالأهلة وأن لا تعتبر عدد
الأيام، وكذلك يدل على أن شهر الصوم معتبر بالهلال في ابتدائه
وانتهائه، وأنه إنما يرجع إلى العدد عند فقد رؤية الهلال، ويدل أيضا
على أن من آلى من امرأته في أول الشهر أن مضي الأربعة الأشهر معتبر
بالأهلة في إيقاع الطلاق دون اعتبار الثلاثين، وكذلك هذا في الإجارات
والأيمان وآجال الديون، متى كان ابتداؤها بالهلال كان جميعها كذلك وسقط
اعتبار عدد الثلاثين; وبذلك حكم النبي صلى الله عليه وسلم: "صوموا
لرؤيته وأفطروا لرؤيته فإن غم عليكم فعدوا ثلاثين" بالرجوع إلى اعتبار
العدد عند فقد الرؤية.
وأما قوله تعالى: {وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ
ظُهُورِهَا} فإنه قد قيل فيه ما حدثنا عبد الله بن إسحاق المروزي قال:
حدثنا الحسن بن أبي الربيع الجرجاني قال أخبرنا عبد الرزاق قال: أخبرنا
معمر عن الزهري قال: كان ناس من الأنصار إذا أهلوا بالعمرة لم يحل
بينهم وبين السماء شيء ويتحرجون من ذلك، وكان الرجل يخرج مهلا بالعمرة
فيبدو له الحاجة بعدما يخرج من بيته فيرجع ولا يدخل من باب الحجرة من
أجل سقف الباب أن يحول بينه وبين السماء، فيفتح الجدار من ورائه ثم
يقوم على حجرته فيأمر بحاجته فيخرج من بيته وبلغنا أن رسول الله صلى
الله عليه وسلم أهل من الحديبية بالعمرة فدخل حجرته، فدخل في إثره رجل
من الأنصار من بني سلمة، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "إني أحمس"
قال الزهري: وكانت الحمس لا يبالون ذلك فقال الأنصاري: وأنا أحمس يقول
وأنا على دينك فأنزل الله تعالى: {وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا
الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا}.
وروى ابن عباس والبراء وقتادة وعطاء: "أنه كان قوم من الجاهلية إذا
أحرموا نقبوا في ظهور بيوتهم نقبا يدخلون منه ويخرجون، فنهوا عن التدين
بذلك وأمروا أن يأتوا البيوت من أبوابها". وقيل فيه إنه مثل ضربه الله
لهم بأن يأتوا البر من وجهه، وهو الوجه الذي أمر الله تعالى به، وليس
يمتنع أن يكون مراد الله تعالى به جميع ذلك، فيكون فيه بيان أن إتيان
البيوت من ظهورها ليس بقربة إلى الله تعالى، ولا هو مما شرعه ولا ندب
إليه، ويكون مع ذلك مثلا أرشدنا به إلى أن نأتي الأمور من مأتاها الذي
أمر الله تعالى به
(1/310)
وندب
إليه، وفيه بيان أن ما لم يشرعه قربة ولا ندب إليه لا يصير قربة ولا
دينا بأن يتقرب به متقرب ويعتقده دينا ونظيره من السنة ما روي عن النبي
صلى الله عليه وسلم من نهيه عن صمت يوم إلى الليل، وأنه رأى رجلا في
الشمس فقال: "ما شأنه؟" فقيل: إنه نذر أن يقوم في الشمس; فأمره بأن
يتحول إلى الفيء، وأنه عليه السلام نهى عن الوصال لأن الليل لا صوم
فيه، فنهى أن يعتقد صومه وترك الأكل فيه قربة، وهذا كله أصل في أن من
نذر ما ليس بقربة لم يلزمه بالنذر ولا يصير قربة بالإيجاب ويدل أيضا
على أن ما ليس له أصل في الوجوب وإن كان قربة لا يصير واجبا بالنذر،
نحو عيادة المريض وإجابة الدعوة والمشي إلى المسجد والقعود فيه، والله
تعالى أعلم.
(1/311)
باب فرض الجهاد
قال الله تعالى: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ
يُقَاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ
الْمُعْتَدِينَ}.
قال أبو بكر: لم تختلف الأمة أن القتال كان محظورا قبل الهجرة بقوله:
{ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ
عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا
الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ}
[فصلت: 34 – 35] وقوله: {فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ} [المائدة: 13]
وقوله: {وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل: 125] وقوله:
{فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ} [آل عمران:
20] وقوله: {وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاماً}
[الفرقان: 63]. وروى عمرو بن دينار، عن عكرمة، عن ابن عباس، أن عبد
الرحمن بن عوف وأصحابا له كانت أموالهم بمكة فقالوا: يا رسول الله كنا
في عزة ونحن مشركون فلما آمنا صرنا أذلاء، فقال عليه السلام: "إني أمرت
بالعفو فلا تقاتلوا القوم" فلما حوله إلى المدينة أمروا بالقتال فكفوا،
فأنزل الله: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا
أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا
كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ
النَّاسَ} [النساء: 77]. وحدثنا جعفر بن محمد الواسطي قال: حدثنا أبو
الفضل جعفر بن محمد بن اليمان قال: حدثنا أبو عبيد قال: حدثنا عبد الله
بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس في قوله عز وجل: {لَسْتَ
عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ} [الغاشية: 22] وقوله: {وَمَا أَنْتَ
عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ} [ق: 5] وقوله: {فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ}
[المائدة: 13] وقوله: {قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ
لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ} [الجاثية: 14] قال: نسخ هذا كله قوله
تعالى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} [التوبة:
5] وقوله تعالى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا
بِالْيَوْمِ الْآخِرِ} [التوبة: 29] إلى قوله: {صَاغِرُونَ} [التوبة:
29].
(1/311)
وقد اختلف
السلف في أول آية نزلت في القتال، فروي عن الربيع بن أنس وغيره أن
قوله: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ}
أول آية نزلت. وروي عن جماعة آخرين، منهم أبو بكر الصديق والزهري وسعيد
بن جبير: أن أول آية نزلت في القتال {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ
بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا} [الحج: 39] الآية; وجائز أن يكون {وَقَاتِلُوا
فِي سَبِيلِ اللَّهِ} أول آية نزلت في إباحة قتال من قاتلهم، والثانية
في الإذن في القتال عامة لمن قاتلهم ومن لم يقاتلهم من المشركين.
وقد اختلف في معنى قوله: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ
يُقَاتِلُونَكُمْ} فقال الربيع بن أنس: هي أول آية نزلت في القتال
بالمدينة، وكان النبي صلى الله عليه وسلم بعد ذلك يقاتل من قاتله من
المشركين ويكف عمن كف عنه إلى أن أمر بقتال الجميع.
قال أبو بكر: وهو عنده بمنزلة قوله: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ
فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} وقال محمد بن
جعفر بن الزبير أمر أبو بكر بقتال الشمامسة لأنهم يشهدون القتال وأن
الرهبان من رأيهم أن لا يقاتلوا، فأمر أبو بكر رضي الله عنه عنه بأن لا
يقاتلوا وقد قال الله تعالى: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ
الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ} فكانت الآية على تأويله ثابتة الحكم ليس
فيها نسخ، وعلى قول الربيع بن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم
والمسلمين كانوا مأمورين بعد نزول الآية بقتال من قاتل دون من كف، سواء
كان ممن يتدين بالقتال أو لا يتدين. وروي عن عمر بن عبد العزيز في
قوله: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ}
أنه في النساء والذرية ومن لم ينصب لك الحرب منهم، كأنه ذهب إلى أن
المراد به من لم يكن من أهل القتال في الأغلب لضعفه وعجزه; لأن ذلك حال
النساء والذرية; وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في آثار شائعة
النهي عن قتل النساء والولدان. وروي عنه أيضا النهي عن قتل أصحاب
الصوامع رواه داود بن الحصين عن عكرمة عن ابن عباس عن النبي صلى الله
عليه وسلم، فإن كان معنى الآية على ما قال الربيع بن أنس أنه أمر فيها
بقتال من قاتل والكف عمن لا يقاتل، فإن قوله: {قَاتِلُوا الَّذِينَ
يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ} [التوبة: 123] ناسخ لمن يلي، وحكم الآية
كان باقيا فيمن لا يلينا منهم، ثم لما نزل قوله: {وَاقْتُلُوهُمْ
حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ}
إلى قوله: {وَلا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} فكان
ذلك أعم من الأول الذي فيه الأمر بقتال من يلينا دون من لا يلينا، إلا
أن فيه ضربا من التخصيص بحظره القتال عند المسجد الحرام إلا على شرط أن
يقاتلونا فيه بقوله: {وَلا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ
الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ
فَاقْتُلُوهُمْ} ثم أنزل الله فرض قتال المشركين كافة بقوله:
{وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ
كَافَّةً} [التوبة: 36] وقوله: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ
كُرْهٌ لَكُمْ} [البقرة:
(1/312)
216]
وقوله تعالى: {فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا
الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} [التوبة: 5]. فمن الناس من
يقول إن قوله: {وَلا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ}
منسوخ بقوله: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ}،
ومنهم من يقول: هذا الحكم ثابت، لا يقاتل في الحرم إلا من قاتل، ويؤيد
ذلك ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال يوم فتح مكة: "إن مكة
حرام حرمها الله يوم خلق السموات والأرض" فإن ترخص مترخص بقتال رسول
الله صلى الله عليه وسلم فيها، فإنما أحلت له ساعة من نهار ثم عادت
حراما إلى يوم القيامة فدل ذلك على أن حكم الآية باق غير منسوخ وأنه لا
يحل أن نبتدئ فيها بالقتال لمن لم يقاتل، وقد كان القتال محظورا في
الشهر الحرام بقوله: {يَسْأَلونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ
فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ} [البقرة: 217]، ثم نسخ
بقوله {فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا
الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} [التوبة: 5]، ومن الناس من
يقول: هو غير منسوخ والحظر باق.
وأما قوله: {وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ
مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ} فإنه أمر بقتل المشركين إذا أظفرنا بهم،
وهي عامة في قتال سائر المشركين من قاتلنا منهم ومن لم يقاتلنا بعد أن
يكونوا من أهل القتال; لأنه لا خلاف أن قتل النساء والذراري محظور، وقد
نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم وعن قتل أهل الصوامع فإن كان المراد
بقوله: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ}
الأمر بقتال من قاتلنا ممن هو من أهل القتال دون من كف عنا منهم، وكان
قوله: {وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} نهيا
عن قتال من لم يقاتلنا، فهي لا محالة منسوخة بقوله: {وَاقْتُلُوهُمْ
حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ} لإيجابه قتل من حظر قتله في الآية الأولى
بقوله: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ
وَلا تَعْتَدُوا} إذ كان الاعتداء في هذا الموضع هو قتال من لم يقاتل.
وقوله: {وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ} يعني والله أعلم:
من مكة إن أمكنكم ذلك; لأنهم قد كانوا آذوا المسلمين بمكة حتى اضطروهم
إلى الخروج فكانوا مخرجين لهم، وقد قال الله تعالى: {وَإِذْ يَمْكُرُ
بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ
يُخْرِجُوكَ} [الأنفال: 30]، فأمرهم الله تعالى عند فرضه القتال
بإخراجهم إذا تمكنوا من ذلك; إذ كانوا منهيين عن القتال فيها إلا أن
يقاتلوهم، فيكون قوله: {وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ} عاما
في سائر المشركين إلا فيمن كان بمكة، فإنهم أمروا بإخراجهم منها إلا
لمن قاتلهم، فإنه أمر بقتالهم حينئذ; والدليل على ذلك قوله في نسق
التلاوة: {وَلا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى
يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ} فثبت أن قوله: {وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ
ثَقِفْتُمُوهُمْ} فيمن كان بغير مكة.
(1/313)
وقوله:
{وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ} روي عن جماعة من السلف أن
المراد بالفتنة ههنا الكفر، وقيل إنهم كانوا يفتنون المؤمنين بالتعذيب
ويكرهونهم على الكفر، ثم عيروا المؤمنين بأن قتل واقد بن عبد الله وهو
من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم عمرو بن الحضرمي وكان مشركا في
الشهر الحرام، وقالوا: قد استحل محمد القتال في الشهر الحرام; فأنزل
الله {وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ} يعني كفرهم وتعذيبهم
المؤمنين في البلد الحرام وفي الشهر الحرام أشد وأعظم مأثما من القتل
في الشهر الحرام.
وأما قوله: {وَلا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى
يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ} فإن المراد بقوله: {حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ
فِيهِ} حتى يقتلوا بعضكم، كقوله: {وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ}
[الحجرات: 11] يعني بعضكم بعضا; إذ غير جائز أن يأمر بقتلهم بعد أن
يقتلوهم كلهم، وقد أفادت الآية حظر القتل بمكة لمن لم يقتل فيها، فيحتج
بها في حظر قتل المشرك الحربي إذا لجأ إليها ولم يقاتل، ويحتج أيضا
بعمومها فيمن قتل ولجأ إلى الحرم في أنه لا يقتل; لأن الآية لم تفرق
بين من قتل وبين من لم يقتل في حظر قتل الجميع، فلزم بمضمون الآية أن
لا نقتل من وجدنا في الحرم سواء كان قاتلا أو غير قاتل إلا أن يكون قد
قتل في الحرم، فحينئذ يقتل بقوله: {فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ
فَاقْتُلُوهُمْ}.
فإن قيل: هو منسوخ بقوله: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ
وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ} ، قيل له: إذا أمكن استعمالها لم يثبت
النسخ، لا سيما مع اختلاف الناس في نسخه، فيكون قوله: {وَقَاتِلُوهُمْ
حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ} في غير الحرم، نظيره في حظر قتل من لجأ
إلى الحرم وإن كان جانيا، قوله: {وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِناً} [آل
عمران: 97] وقد تضمن ذلك أمنا من خوف القتل، فدل على أن المراد: من
دخله وقد استحق القتل أنه يأمن بدخوله، وكذلك قوله: {وَإِذْ جَعَلْنَا
الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْناً} [البقرة: 125] كل ذلك دال
على أن اللاجئ إلى الحرم المستحق للقتل يأمن به ويزول عنه القتل بمصيره
إليه ومع ذلك فإن قوله: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ
وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ} إذا كان نازلا مع أول الخطاب عند قوله:
{وَلا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} فغير جائز أن
يكون ناسخا له لأن النسخ لا يصح إلا بعد التمكن من الفعل، وغير جائز
وجود الناسخ والمنسوخ في خطاب واحد، وإذا كان الجميع مذكورا في خطاب
واحد على ما يقتضيه نسق التلاوة ونظام التنزيل، فغير جائز لأحد إثبات
تاريخ الآيتين وتراخي نزول إحداهما عن الأخرى إلا بالنقل الصحيح. ولا
يمكن أحدا دعوى نقل صحيح في ذلك; وإنما روي ذلك عن الربيع بن أنس فقال:
هو منسوخ بقوله: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ} وقال
قتادة: هو منسوخ بقوله: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ
وَجَدْتُمُوهُمْ} [التوبة: 5]، وجائز أن يكون ذلك،
(1/314)
تأويلا
منه ورأيا; لأن قوله: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ
وَجَدْتُمُوهُمْ} لا محالة نزل بعد سورة البقرة لا يختلف أهل النقل في
ذلك، وليس فيه مع ذلك دلالة على النسخ لإمكان استعمالهما بأن يكون
قوله: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} [التوبة: 5] مرتبا على قوله: {وَلا
تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} فيصير قوله: اقتلوا
المشركين حيث وجدتموهم إلا عند المسجد الحرام، إلا أن يقاتلوكم فيه فإن
قاتلوكم فاقتلوهم، ويدل عليه أيضا حديث ابن عباس وأبي شريح الخزاعي
وأبي هريرة، أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب يوم فتح مكة فقال: "أيها
الناس إن الله تعالى حرم مكة يوم خلق السموات والأرض لم تحل لأحد قبلي
ولا تحل لأحد بعدي، وإنما أحلت لي ساعة من نهار ثم عادت حراما إلى يوم
القيامة" وفي بعض الأخبار: "فإن ترخص مترخص بقتال رسول الله صلى الله
عليه وسلم فإنما أحلت لي ساعة من نهار" فثبت بذلك حظر القتال في الحرم
إلا أن يقاتلوا، وقد روى عبد الله بن إدريس عن محمد بن إسحاق قال:
حدثني سعيد بن أبي سعيد المقبري عن أبي شريح الخزاعي هذا الحديث، وقال
فيه: "وإنما أحل لي القتال بها ساعة من نهار"، ويدل عليه أيضا ما روي
عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه خطب يومئذ حين قتل رجل من خزاعة رجلا
من هذيل، ثم قال: "إن أعتى الناس على الله ثلاثة رجل قتل غير قاتله،
ورجل قتل في الحرم، ورجل قتل بذحل الجاهلية" وهذا يدل على تحريم القتل
في الحرم لمن لم يجن فيه من وجهين: أحدهما: عموم الذم للقاتل في الحرم،
والثاني: قد ذكر معه قتل من لم يستحق القتل، فثبت أن المراد قتل من
استحق القتل فلجأ، وأن ذلك إخبار منه بأن الحرم يحظر قتل من لجأ إليه.
وهذه الآي التي تلوناها في حظر قتل من لجأ إلى الحرم في أن دلالتها
مقصورة على حظر القتل فحسب ولا دلالة فيها على حكم ما دون النفس; لأن
قوله: {وَلا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} مقصور على
حكم القتل; وكذلك قوله: {وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِناً} [آل عمران: 97]
وقوله: {مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْناً} [البقرة: 125] ظاهره الأمن من
القتل، وإنما يدخل ما سواه فيه بدلالة لأن قوله: {وَمَنْ دَخَلَهُ} [آل
عمران: 97] اسم للإنسان، وقوله: {كَانَ آمِناً} [آل عمران: 97] راجع
إليه، فالذي اقتضت الآية أمانه هو الإنسان لا أعضاؤه، ومع ذلك فإن كان
اللفظ مقتضيا للنفس فما دونها، فإنما خصصنا ما دونها بدلالة وحكم اللفظ
باق في النفس، ولا خلاف أيضا أن من لجأ إلى الحرم وعليه دين أنه يحبس
به وأن دخوله الحرم لا يعصمه من الحبس، كذلك كل ما لم يكن نفسا من
الحقوق فإن الحرم لا يعصمه منه قياسا على الديون.
وأما قوله عز وجل: {فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ
رَحِيمٌ} يعني فإن انتهوا عن الكفر
(1/315)
فإن الله
يغفر لهم; لأن قوله: {فَإِنِ انْتَهَوْا} شرط يقتضي جوابا، وهذا يدل
على أن قاتل العمد له توبة; إذ كان الكفر أعظم مأثما من القتل، وقد
أخبر الله أنه يقبل التوبة منه ويغفر له.
وقوله تعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ
الدِّينُ لِلَّهِ} يوجب فرض قتال الكفار حتى يتركوا الكفر قال ابن عباس
وقتادة ومجاهد والربيع بن أنس: الفتنة ههنا الشرك. وقيل: إنما سمي
الكفر فتنة لأنه يؤدي إلى الهلاك كما يؤدي إليه الفتنة. وقيل: إن
الفتنة هي الاختبار، والكفر عند الاختبار إظهار الفساد، وأما الدين فهو
الانقياد لله بالطاعة، وأصله في اللغة ينقسم إلى معنيين: أحدهما:
الانقياد، كقول الأعشى:
هو دان الرباب إذ كر هو الدين ... دراكا بغزوة وصيال
ثم دانت بعد الرباب وكانت ... كعذاب عقوبة الأقوال
والآخر: العادة، من قول الشاعر:
تقول وقد درأت لها وضيني ... أهذا دينه أبدا وديني
والدين الشرعي هو الانقياد لله عز وجل والاستسلام له على وجه المداومة
والعادة. وهذه الآية خاصة في المشركين دون أهل الكتاب لأن ابتداء
الخطاب جرى بذكرهم في قوله عز وجل: {وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ
ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ} وذلك صفة
مشركي أهل مكة الذين أخرجوا النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فلم
يدخل أهل الكتاب في هذا الحكم; وهذا يدل على أن مشركي العرب لا يقبل
منهم إلا الإسلام أو السيف، لقوله: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ
فِتْنَةٌ} يعني كفرا {وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ} ودين الله هو
الإسلام، لقوله: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْأِسْلامُ} [آل
عمران: 19].
وقوله: {فَإِنِ انْتَهَوْا فَلا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ}
المعنى: فلا قتل إلا على الظالمين. يعني والله أعلم: القتل المبدوء
بذكره في قوله: {وَقَاتِلُوهُمْ} وسمى القتل الذي يستحقونه بكفرهم
عدوانا لأنه جزاء الظلم فسمي باسمه، كقوله تعالى: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ
سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} [الشورى: 40] وقوله: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ
فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} وإن لم يكن
الجزاء اعتداء ولا سيئة.
قوله تعالى: {الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ
وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ} روي عن الحسن أن مشركي العرب قالوا للنبي صلى
الله عليه وسلم: أنهيت عن قتالنا في الشهر الحرام؟ قال: "نعم". وأراد
المشركون أن يغيروه في الشهر الحرام فيقاتلوه، فأنزل الله تعالى:
{الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ}
يعني إن استحلوا منكم في الشهر الحرام شيئا فاستحلوا منهم
(1/316)
مثله،
وروى ابن عباس والربيع بن أنس وقتادة والضحاك: أن قريشا لما ردت رسول
الله صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية محرما في ذي القعدة عن البلد
الحرام في الشهر الحرام، فأدخله الله مكة في العام المقبل في ذي
القعدة، فقضى عمرته وأقصه بما حيل بينه وبينه في يوم الحديبية. ويمتنع
أن يكون المراد الأمرين، فيكون إخبارا بما أقصه الله من الشهر الحرام
الذي صده المشركون عن البيت بشهر مثله في العام القابل. وقد تضمن مع
ذلك إباحة القتال في الشهر الحرام إذا قاتلهم المشركون لأن لفظا واحدا
لا يكون خبرا وأمرا، ومتى حصل على أحد المعنيين انتفى الآخر. إلا أنه
جائز أن يكون إخبارا بما عوض الله نبيه من فوات العمرة في الشهر الحرام
الذي صده المشركون عن البيت شهرا مثله في العام القابل، وكانت حرمة
الشهر الذي أبدل كحرمة الشهر الذي فات; فلذلك قال: {وَالْحُرُمَاتُ
قِصَاصٌ} ثم عقب تعالى ذلك بقوله: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ
فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} فأفاد أنهم
إذا قاتلوهم في الشهر الحرام فعليهم أن يقاتلوهم فيه وإن لم يجز لهم أن
يبتدئوهم بالقتال. وسمى الجزاء اعتداء لأنه مثله في الجنس وقدر
الاستحقاق على ما يوجبه فسمي باسمه على وجه المجاز لأن المعتدي في
الحقيقة هو الظالم.
وقوله تعالى: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ
بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} عموم في أن من استهلك لغيره مالا
كان عليه مثله وذلك المثل ينقسم إلى وجهين: أحدهما: مثله في جنسه وذلك
في المكيل والموزون والمعدود، والآخر: مثله في قيمته; لأن النبي صلى
الله عليه وسلم قضى في عبد بين رجلين أعتقه أحدهما وهو موسر أن عليه
ضمان نصف قيمته، فجعل المثل اللازم بالاعتداء هو القيمة، فصار أصلا في
هذا الباب وفي أن المثل قد يقع على القيمة ويكون اسما لها. ويدل على أن
المثل قد يكون اسما لما ليس هو من جنسه إذا كان في وزانه وعروضه في
المقدار المستحق من الجزاء، أن من اعتدى على غيره بقذف لم يكن المثل
المستحق عليه أن يقذف بمثل قذفه بل يكون المثل المستحق عليه هو جلد
ثمانين، وكذلك لو شتمه بما دون القذف كان عليه التعزير وذلك مثل لما
نال منه، فثبت بذلك أن اسم المثل قد يقع على ما ليس من جنسه بعد أن
يكون في وزانه وعروضه في المقدار المستحق من طريق الجزاء. ويحتج بذلك
في أن من غصب ساجة فأدخلها في بنائه أن عليه قيمتها لأن القيمة قد
تناولها اسم المثل، فمن حيث كان الغاصب معتديا بأخذها كان عليه مثلها
لحق العموم.
فإن قيل: إذا نقصنا بناءه وأخذناها بعينها فقد اعتدينا عليه بمثل ما
اعتدى. قيل له: أخذ ملكه بعينه لا يكون اعتداء على الغاصب، كما أن من
له عند رجل وديعة فأخذها لم
(1/317)
يكن
معتديا عليه، وإنما الاعتداء عليه أن يزيل من ملكه مثل ما أزال أو يزيل
يده عن مثل ما أزال عنه يد المغصوب منه، فأما أخذ ملكه بعينه فليس فيه
اعتداء على أحد ولا فيه أخذ المثل. ويحتج به في إيجاب القصاص فيما يمكن
استيفاء المماثلة والمساواة فيه دون ما لم يعلم فيه استيفاء المماثلة،
وذلك نحو قطع اليد من نصف الساعد والجائفة والآمة في سقوط القصاص فيها
لتعذر استيفاء المثل; إذ كان الله تعالى إنما أمرنا باستيفاء المثل.
ويحتج به أبو حنيفة فيمن قطع يد رجل وقتله أن لوليه أن يقطع يده ثم
يقتله، لقوله: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ
بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} فله أن يفعل به مثل ما فعل بمقتضى
الآية.
وقوله تعالى: {وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا تُلْقُوا
بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} قال أبو بكر: قد قيل فيه وجوه:
أحدها ما حدثنا محمد بن بكر قال: حدثنا أبو داود قال: حدثنا أحمد بن
عمرو بن السرح: قال حدثنا ابن وهب عن حيوة بن شريح، وابن لهيعة عن يزيد
بن أبي حبيب، عن أسلم أبي عمران قال: غزونا بالقسطنطينية وعلى الجماعة
عبد الرحمن بن الوليد والروم ملصقو ظهورهم بحائط المدينة، فحمل رجل على
العدو، فقال الناس: مه مه، لا إله إلا الله، يلقي بيديه إلى التهلكة،
فقال أبو أيوب: إنما نزلت هذه الآية فينا معشر الأنصار، لما نصر الله
نبيه وأظهر دينه الإسلام قلنا: هلم نقيم في أموالنا ونصلحها، فأنزل
الله تعالى: {وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا تُلْقُوا
بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} فالإلقاء بالأيدي إلى التهلكة أن
نقيم في أموالنا فنصلحها وندع الجهاد; قال أبو عمران: فلم يزل أبو أيوب
يجاهد في سبيل الله حتى دفن بالقسطنطينية. فأخبر أبو أيوب أن الإلقاء
بالأيدي إلى التهلكة هو ترك الجهاد في سبيل الله، وأن الآية في ذلك
نزلت. وروي مثله عن ابن عباس وحذيفة والحسن وقتادة ومجاهد والضحاك.
وروي عن البراء بن عازب وعبيدة السلماني: الإلقاء بالأيدي إلى التهلكة
هو اليأس من المغفرة بارتكاب المعاصي. وقيل: هو الإسراف في الإنفاق حتى
لا يجد ما يأكل ويشرب فيتلف. وقيل: هو أن يقتحم الحرب من غير نكاية في
العدو وهو الذي تأوله القوم الذي أنكر عليهم أبو أيوب وأخبر فيه
بالسبب. وليس يمتنع أن يكون جميع هذه المعاني مرادة بالآية لاحتمال
اللفظ لها وجواز اجتماعها من غير تضاد ولا تناف فأما حمله على الرجل
الواحد يحمل على حلبة العدو، فإن محمد بن الحسن ذكر في السير الكبير أن
رجلا لو حمل على ألف رجل وهو وحده لم يكن بذلك بأس إذا كان يطمع في
نجاة أو نكاية، فإن كان لا يطمع في نجاة ولا نكاية فإني أكره له ذلك
لأنه عرض نفسه للتلف من غير منفعة للمسلمين. وإنما ينبغي للرجل أن يفعل
هذا إذا كان يطمع في نجاة أو
(1/318)
منفعة
للمسلمين، فإن كان لا يطمع في نجاة ولا نكاية ولكنه يجزئ المسلمين بذلك
حتى يفعلوا مثل ما فعل فيقتلون وينكون في العدو فلا بأس بذلك إن شاء
الله لأنه لو كان على طمع من النكاية في العدو ولا يطمع في النجاة لم
أر بأسا أن يحمل عليهم، فكذلك إذا طمع أن ينكى غيره فيهم بحملته عليهم
فلا بأس بذلك، وأرجو أن يكون فيه مأجورا; وإنما يكره له ذلك إذا كان لا
منفعة فيه على وجه من الوجوه وإن كان لا يطمع في نجاة ولا نكاية، ولكنه
مما يرهب العدو، فلا بأس بذلك لأن هذا أفضل النكاية وفيه منفعة
للمسلمين. والذي قال محمد من هذه الوجوه صحيح لا يجوز غيره; وعلى هذه
المعاني يحمل تأويل من تأول في حديث أبي أيوب أنه ألقى بيده إلى
التهلكة بحمله على العدو; إذ لم يكن عندهم في ذلك منفعة، وإذا كان كذلك
فلا ينبغي أن يتلف نفسه من غير منفعة عائدة على الدين ولا على
المسلمين. فأما إذا كان في تلف نفسه منفعة عائدة على الدين فهذا مقام
شريف مدح الله به أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: {إِنَّ
اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ
بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ
فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ} [التوبة: 111] وقال: {وَلا تَحْسَبَنَّ
الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ
عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} [آل عمران: 169] وقال: {وَمِنَ النَّاسِ
مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ} [البقرة: 207] في
نظائر ذلك من الآي التي مدح الله فيها من بذل نفسه لله. وعلى ذلك ينبغي
أن يكون حكم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أنه متى رجا نفعا في
الدين فبذل نفسه فيه حتى قتل كان في أعلى درجات الشهداء، قال الله
تعالى: {وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ
عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} [لقمان:
17]. وقد روي عن عكرمة عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه
قال: "أفضل الشهداء حمزة بن عبد المطلب ورجل تكلم بكلمة حق عند سلطان
جائر فقتله". وروى أبو سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه
قال: "أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر". وحدثنا محمد بن بكر قال:
حدثنا أبو داود قال: حدثنا عبد الله بن الجراح، عن عبد الله بن يزيد،
عن موسى بن علي بن رباح، عن أبيه، عن عبد العزيز بن مروان قال: سمعت
أبا هريرة يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "شر ما في
الرجل شح هالع وجبن خالع" وذم الجبن يوجب مدح الإقدام والشجاعة فيما
يعود نفعه على الدين وإن أيقن فيه بالتلف; والله تعالى أعلم بالصواب.
(1/319)
باب العمرة هي فرض أم تطوع
قال الله تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} واختلف
السلف في تأويل هذه الآية، فروي عن علي وعمر وسعيد بن جبير وطاوس
قالوا: إتمامهما أن تحرم بهما من دويرة أهلك. وقال مجاهد: إتمامهما
بلوغ آخرهما بعد الدخول فيهما وقال سعيد بن جبير
(1/319)
وعطاء: هو
إقامتهما إلى آخر ما فيهما لله تعالى لأنهما واجبان كأنهما تأولا ذلك
على الأمر بفعلهما، كقوله لو قال حجوا واعتمروا. وروي عن ابن عمر وطاوس
قالا: إتمامهما إفرادهما وقال قتادة إتمام العمرة الاعتمار في غير أشهر
الحج وروي عن علقمة في قوله تعالى: {وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} قال: لا
تجاوز بها البيت.
وقد اختلف السلف في وجوب العمرة فروي عن عبد الله بن مسعود وإبراهيم
النخعي والشعبي أنها تطوع قال مجاهد في قوله: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ
وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} قال: ما أمرنا به فيهما. وقالت عائشة وابن عباس
وابن عمر والحسن وابن سيرين: هي واجبة وروي نحوه عن مجاهد. وروي عن
طاوس عن أبيه قال: "العمرة واجبة".
واحتج من أوجبها بظاهر قوله: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ
لِلَّهِ} قالوا: واللفظ يحتمل إتمامهما بعد الدخول فيهما ويحتمل الأمر
بابتداء فعلهما، فالواجب حمله على الأمرين، بمنزلة عموم يشتمل على
مشتمل فلا يخرج منه شيء إلا بدلالة.
قال أبو بكر: ولا دلالة في الآية على وجوبها، وذلك لأن أكثر ما فيها
الأمر بإتمامهما، وذلك إنما يقتضي نفي النقصان عنهما إذا فعلت; لأن ضد
التمام هو النقصان لا البطلان، ألا ترى أنك تقول للناقص إنه غير تام
ولا تقول مثله لما لم يوجد منه شيء؟ فعلمنا أن الأمر بالإتمام إنما
اقتضى نفي النقصان، ولذلك قال علي وعمر: إتمامهما أن تحرم بهما من
دويرة أهلك يعني الأبلغ في نفي النقصان الإحرام بهما من دويرة أهلك.
وإذا كان على ما وصفنا كان تقديره: أن لا يفعلهما ناقصين. وقوله: لا
يفعلهما ناقصين لا يدل على الوجوب لجواز إطلاق ذلك على النوافل، ألا
ترى أنك تقول: لا تفعل الحج التطوع ولا العمرة التطوع ناقصين ولا صلاة
النفل ناقصة؟ فإذا كان الأمر بالإتمام يقتضي نفي النقصان فلا دلالة فيه
إذا على وجوبها. ويدل على صحة ذلك أن العمرة التطوع والحج النفل مرادان
بهذه الآية في النهي عن فعلهما ناقصين، ولم يدل ذلك على وجوبهما في
الأصل. وأيضا فإن الأظهر من لفظ الإتمام إنما يطلق بعد الدخول فيه، قال
الله عز وجل: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ
الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ
ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} فأطلق عليه لفظ الإتمام
بعد الدخول; قال النبي صلى الله عليه وسلم: "ما أدركتم فصلوا، وما
فاتكم فأتموا" فأطلق لفظ الإتمام عليها بعد الدخول فيها. ويدل على أن
المراد إيجاب إتمامهما بعد الدخول فيهما، أن الحج والعمرة النافلتين
يلزمه إتمامهما بعد الدخول فيهما بالآية، فكان بمنزلة قوله: أتموهما
بعد الدخول فيهما فغير جائز إذا ثبت أن المراد لزوم الإتمام بعد الدخول
حمله على الابتداء لتضاد المعنيين، ألا ترى أنه إذا أراد به الإلزام
بالدخول انتفى أن يريد به الإلزام قبل الدخول؟
(1/320)
لأن
إلزامه قبل الدخول ناف لكونه واجبا بالدخول، ألا ترى أنه لا يجوز أن
يقال إن حجة الإسلام إنما تلزم الدخول وإن صلاة الظهر متعلق لزومها
بالدخول فيها؟ وهذا يدل على أنه غير جائز إرادة إيجابهما بالدخول
وإيجابهما ابتداء قبل الدخول فيهما; فثبت بما وصفنا أنه لا دلالة في
هذه الآية على وجوب العمرة قبل الدخول فيها.
ومما يدل على أنها ليست بواجبة ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه
قال: "العمرة هي الحج الأصغر". وروي عن عبد الله بن شداد ومجاهد قالا:
"العمرة هي الحج الأصغر". وإذا ثبت أن اسم الحج يتناول العمرة، ثم ثبت
عن النبي صلى الله عليه وسلم ما حدثنا محمد بن بكر قال: حدثنا أبو داود
قال: حدثنا زهير بن حرب وعثمان بن أبي شيبة قالا: حدثنا يزيد بن هارون
عن سفيان بن حسين، عن الزهري، عن أبي سنان الدؤلي، عن ابن عباس: أن
الأقرع بن حابس سأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله الحج
في كل سنة أو مرة واحدة؟ قال: "بل مرة واحدة فمن زاد فتطوع" فلما سمى
النبي صلى الله عليه وسلم العمرة في الخبر الأول حجا وقال للأقرع "الحج
مرة واحدة فمن زاد فتطوع" انتفى بذلك وجوب العمرة; إذ كانت قد تسمى
حجا.
ويدل عليه ما حدثنا عبد الباقي بن قانع قال: حدثنا يعقوب بن يوسف
المطوعي قال: حدثنا أبو عبد الرحمن عن عبد الله بن عمر قال: حدثنا عبد
الرحمن بن سليمان، عن حجاج بن أرطاة، عن محمد بن المنكدر، عن جابر بن
عبد الله قال: سأل رجل النبي صلى الله عليه وسلم عن الصلاة والحج
أواجب؟ قال: "نعم" وسأله عن العمرة أهي واجبة؟ قال: "لا ولأن تعتمر خير
لك". ورواه أيضا عباد بن كثير عن محمد بن المنكدر مثل حديث الحجاج
وحدثنا عبد الباقي بن قانع قال: حدثنا بشر بن موسى قال: حدثنا ابن
الأصبهاني قال: حدثنا شريك وجرير وأبو الأحوص عن معاوية بن إسحاق عن
أبي صالح قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الحج جهاد والعمرة
تطوع". ويدل عليه أيضا حديث جعفر بن محمد عن أبيه عن جابر عن النبي صلى
الله عليه وسلم قال: "دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة" ومعناه أنه
ناب عنها لأن أفعال العمرة موجودة في أفعال الحج وزيادة; ولا يجوز أن
يكون المراد أن وجوبها كوجوب الحج لأنه حينئذ لا تكون العمرة بأولى أن
تدخل في الحج من الحج بأن يدخل في العمرة; إذ هما جميعا واجبان، كما لا
يقال دخلت الصلاة في الحج لأنها واجبة كوجوب الحج.
ويدل عليه حديث جابر: أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أصحابه حين
أحرموا بالحج أن يحلوا منه بعمرة، وأن سراقة بن مالك قال: أعمرتنا هذه
لعامنا هذا أم للأبد؟ فقال: "بل للأبد" ومعلوم أن هذه كانت عمل عمرة
يحلل بها من إحرام الحج كما يتحلل الذي يفوته الحج
(1/321)
بعمل عمرة
وهي غير مجزية عن فرض العمرة عند من يراها فرضا، فدل ذلك على أن العمرة
غير مفروضة لأنها لو كانت مفروضة لما قال: "عمرتكم هذه للأبد" وفيه
إخبار بأنه لا عمرة عليهم غيرها ويدل على أن ما يتحلل به من إحرام الحج
ليس بعمرة أنه لو بقي الذي يفوته الحج على إحرامه حتى تحلل منه بعمرة
في أشهر الحرم وحج من عامه، أنه لا يكون متمتعا.
ومما يحتج به لذلك من طريق النظر بأن الفروض مخصوصة بأوقات يتعلق
وجوبها بوجودها كالصلاة والصيام والزكاة والحج، فلو كانت العمرة فرضا
لوجب أن تكون مخصوصة بوقت، فلما لم تكن مخصوصة بوقت كانت مطلقة له أن
يفعلها متى شاء، فأشبهت الصلاة التطوع والصوم النفل.
فإن قيل: إن الحج النفل مخصوص بوقت ولم يدل ذلك على وجوبه. قيل له: هذا
لا يلزم; لأنا قلنا إن من شرط الفروض التي تلزم كل أحد في نفسه كونها
مخصوصة بأوقات، وما ليس مخصوصا بوقت فليس بفرض، وليس يمتنع على ذلك أن
يكون بعض النوافل مخصوصا بوقت وبعضها مطلق غير مخصوص بوقت; فكل ما كان
غير مخصوص بوقت فهو نافلة وما هو مخصوص بوقت فعلى ضربين: منه فرض، ومنه
نفل.
ومما يحتج به أيضا من طريق الأثر، ما حدثنا عبد الباقي بن قانع قال:
حدثنا إسماعيل بن الفضل قال: حدثنا هشام بن عمار قال: حدثنا الحسن بن
يحيى الخشني قال: حدثنا عمر بن قيس قال: حدثني طلحة بن موسى، عن عمه
إسحاق بن طلحة، عن طلحة بن عبد الله، أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم
يقول: "الحج جهاد والعمرة تطوع". وحدثنا عبد الباقي قال: حدثنا أحمد بن
بحتر العطار قال: حدثنا محمد بن بكر قال: حدثنا محمد بن الفضل بن عطية،
عن سالم الأفطس، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى
الله عليه وسلم: "الحج جهاد والعمرة تطوع".
واحتج من رآها واجبة بما روى ابن لهيعة عن عطاء عن جابر قال: قال رسول
الله صلى الله عليه وسلم: "الحج والعمرة فريضتان واجبتان". وبما روى
الحسن عن سمرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أقيموا الصلاة وآتوا
الزكاة وحجوا واعتمروا واستقيموا يستقم لكم" وأمره على الوجوب. وبما
روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سئل عن الإسلام، فذكر الصلاة
وغيرها ثم قال: "وأن تحج وتعتمر". ويقول صبي بن معبد: وجدت الحج
والعمرة مكتوبتين علي قال ذلك لعمر فلم ينكر عليه، وقال له اجمعهما.
وبحديث أبي رزين رجل من بني عامر أنه قال: يا رسول الله إن أبي شيخ
كبير لا يستطيع الحج والعمرة ولا الظعن؟ قال: "احجج عن أبيك واعتمر".
(1/322)
فأما حديث
جابر في وجوب العمرة من طريق ابن لهيعة فهو ضعيف كثير الخطإ، يقال
احترقت كتبه فعول على حفظه وكان سيئ الحفظ، وإسناد حديث جابر الذي
رويناه في عدم وجوبها أحسن من إسناد حديث ابن لهيعة ولو تساويا لكن
أكبر أحوالهما أن يتعارضا فيسقطا جميعا ويبقى لنا حديث طلحة وابن عباس
من غير معارض.
فإن قال قائل: ليس حديث الحجاج عن محمد بن المنكدر عن جابر الذي رويته
في نفي الإيجاب بمعارض لحديث ابن لهيعة عن عطاء عن جابر في إيجابها;
لأن حديث الحجاج وارد على الأصل وحديث ابن لهيعة ناقل عنه، ومتى ورد
خبران أحدهما ناف والآخر مثبت فالمثبت منهما أولى، وكذلك إذا كان
أحدهما موجبا والآخر غير موجب; لأن الإيجاب يقتضي حظر تركه ونفيه لا
حظر فيه والخبر الحاظر أولى من المبيح. قيل له: هذا لا يجب من قبل أن
حديث ابن لهيعة في إيجابها لو كان ثابتا لورد النقل به مستفيضا لعموم
الحاجة إليه ولوجب أن يعرفه كل من عرف وجوب الحج; إذ كان وجوبها كوجوب
الحج ومن خوطب به فهو مخاطب بها، فغير جائز فيما كان هذا وصفه أن يكون
وروده من طريق الآحاد مع ما في سنده من الضعف ومعارضة غيره إياه. وأيضا
فمعلوم أن الروايتين وردتا عن رجل واحد، فلو كان خبر الوجوب متأخرا في
التاريخ عن خبر نفيه لبينه جابر في حديثه، ولقال: قال النبي صلى الله
عليه وسلم في العمرة إنها تطوع ثم قال بعد ذلك إنها واجبة; إذ غير جائز
أن يكون عنده الخبران جميعا مع علمه بتاريخهما فيطلق الرواية تارة
بالإيجاب وتارة بضده من غير ذكر تاريخ; فدل ذلك على أن هذين الخبرين
وردا متعارضين، وإنما يعتبر خبر المثبت والنافي على ما ذكرنا من
الاعتبار إذا وردت الروايتان من جهتين. وأما حديث سمرة وقوله فاعتمروا
فإنه على الندب بالدلائل التي قدمنا. فأما قوله حين سئل عن الإسلام
فذكر الصلاة وغيرها ثم قال: "وأن تحج وتعتمر" فإن النوافل من الإسلام،
وكذلك كل ما يتقرب به إلى الله تعالى لأنه من شرائعه; وقد روي أن
الإسلام بضع وسبعون خصلة منها إماطة الأذى عن الطريق. وأما قول صبي بن
معبد لعمر: وجدت الحج والعمرة مكتوبين علي وسكوت عمر عنه وتركه النكير
عليه، فإنه إنما قال هما مكتوبان علي ولم يقل مكتوبتان على الناس،
فظاهره يقتضي أن يكون نذرهما فصارا مكتوبين عليه بالنذر. وأيضا فإنه
إنما قاله تأويلا منه للآية، وفيها مساغ للتأويل، فلم ينكره عمر
لاحتمالها له، وهو بمنزلة قول القائل بوجوب العمرة فلا يستحقون النكير;
إذ كان الاجتهاد سائغا فيه. وأما قول النبي صلى الله عليه وسلم للرجل
الذي سأله عن الحج عن أبيه وقوله: "حج عن أبيك واعتمر" فلا دلالة فيه
على وجوبها لأنه لا خلاف أن هذا القول لم يخرج مخرج الإيجاب; إذ ليس
عليه أن يحج عن أبيه ولا أن يعتمر.
(1/323)
ومن الناس
من يحتج لإيجاب العمرة بقوله تعالى: {وَافْعَلُوا الْخَيْرَ} [الحج:
77] لأنها خير، فظاهر اللفظ يقتضي إيجاب جميع الخير. وهذا يسقط من
وجوه: أحدها: أنه يحتاج أن يثبت أن فعل العمرة مع اعتقاد وجوبها خير
لأن من لا يراها واجبة فغير جائز أن يفعلها على أنها واجبة، ولو فعلها
على هذا الاعتقاد لم يكن ذلك خيرا، كمن صلى تطوعا واعتقد فيه الفرض.
وآخر: وهو أن قوله: {وَافْعَلُوا الْخَيْرَ} [الحج: 77] لفظ مجمل
لاشتماله على المجمل الذي لا يلزم استعماله بورود اللفظ، ألا ترى أنه
يدخل فيه الصلاة والزكاة والصوم وهذه كلها فروض مجملة؟ ومتى انتظم
اللفظ ما هو مجمل فهو مجمل يحتاج في إثبات حكمه إلى دليل من غيره. ووجه
آخر: وهو أن الخير بالألف واللام لفظ جنس لا يمكن استغراقه، فيتناول
أدنى ما يقع عليه الاسم كقولك: إن شربت الماء وتزوجت النساء فإذا فعل
أدنى ما يسمى به فقد قضى عهدة اللفظ. وأيضا فقد علمنا مع ورود اللفظ أن
المراد البعض لتعذر استيعاب الكل، فصار كقوله: افعلوا بعض الخير فيحتاج
إلى بيان في لزوم الأمر.
واحتج من أوجبها بأنا لم نجد شيئا يتطوع به إلا وله أصل في الفرض، فلو
كانت العمرة تطوعا لكان لها أصل في الفرض. فيقال له: العمرة إنما هي
الطواف والسعي ولذلك أصل في الفرض. فإن قيل: لا يوجد طواف وسعي مفردا
فرضا غير العمرة، وإنما يوجد ذلك في الفرض تابعا. قيل له: قد يتطوع
بالطواف بالبيت وإن لم يكن له أصل في الفرض مفردا، فكذلك العمرة يتطوع
بها إذا كانت طوافا وسعيا وإن لم يكن لها أصل في الفرض.
واحتج الشافعي بأنه لما جاز الجمع بينها وبين الحج دل على أنها فرض
لأنها لو كانت تطوعا ما جاز أن يعمل مع عمل الحج، كما لا يجمع بين
صلاتين إحداهما فرض والأخرى تطوع ويجمع بين عمل أربع ركعات فرض. قال
أبو بكر: وهذه قضية فاسدة يبطل عليه القول بوجوب العمرة لأنه يقال له:
لما جاز الجمع بينهما ولم يجز بين صلاتي فرض دل على أنها ليست بفرض;
وأما قوله: ويجمع بين عمل أربع ركعات فإن الأربع كلها صلاة واحدة كالحج
الواحد المشتمل على سائر أركانه كالطواف الواحد المشتمل على سبعة
أشواط، وهو مع ذلك منتقض على أصله لأنه لو اعتمر ثم حج حجة الفريضة
وقرن معها عمرة كانت العمرة تطوعا والحج فرضا فقد صح الجمع بين الفرض
والنفل في الحج والعمرة، فانتقض بذلك استدلال من استدل بجواز جمعها إلى
الحج على وجوبها.
واحتج الشافعي أيضا بأنه لما جعل لها ميقات كميقات الحج دل على أنها
فرض.
(1/324)
فيقال له:
إذا اعتمر عمرة الفريضة ورجع إلى أهله ثم أراد أن يرجع للعمرة كان لها
ميقات كميقات الحج وهي تطوع، فشرط الميقات ليس بدلالة على الوجوب،
وكذلك الحج التطوع له ميقات كميقات الواجب.
واحتج أيضا بوجوب الدم على القارن ولم يبين منه وجه الدلالة على
الوجوب، ولكن ادعى دعوى عارية من البرهان; ومع ذلك فإنه منتقض لأنه لو
قرن حجة فريضة مع عمرة تطوع لكان عليه دم، فكذلك لو جمع بينهما وهما
نافلتان لوجب الدم.
قوله تعالى: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ}
قال الكسائي وأبو عبيدة وأكثر أهل اللغة: الإحصار المنع بالمرض أو ذهاب
النفقة، والحصر حصر العدو، ويقال: أحصره المرض وحصره العدو. وحكي عن
الفراء أنه أجاز كل واحد منهما مكان الآخر، وأنكره أبو العباس المبرد
والزجاج وقالا: هما مختلفان في المعنى، ولا يقال في المرض حصره ولا في
العدو أحصره. قالا: وإنما هذا كقولهم حبسه: إذا جعله في الحبس، وأحبسه:
أي عرضه للحبس، وقتله: أوقع به القتل، وأقتله: أي عرضه للقتل، وقبره:
دفنه في القبر، وأقبره: عرضه للدفن في القبر; وكذلك حصره: حبسه وأوقع
به الحصر، وأحصره: عرضه للحصر.
وروى ابن أبي نجيح عن عطاء عن ابن عباس قال: لا حصر إلا حصر عدو، فأما
من حبسه الله بكسر أو مرض فليس بحصر فأخبر ابن عباس أن الحصر يختص
بالعدو وأن المرض لا يسمى حصرا; وهذا موافق لقول من ذكرنا قولهم من أهل
اللغة في معنى الاسم. ومن الناس من يظن أن هذا يدل من قوله على أن
المريض لا يجوز له أن يحل ولا يكون محصرا; وليس في ذلك دلالة على ما ظن
لأنه إنما أخبر عن معنى الاسم ولم يخبر عن معنى الحكم، فأعلم أن اسم
الإحصار يختص بالمرض والحصر يختص بالعدو.
وقد اختلف السلف في حكم المحصر على ثلاثة أنحاء: روي عن ابن مسعود وابن
عباس: "العدو والمرض سواء يبعث بدم ويحل به إذا نحر في الحرم" وهو قول
أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد وزفر والثوري. والثاني: قول ابن عمر: إن
المريض لا يحل ولا يكون محصرا إلا بالعدو وهو قول مالك والليث
والشافعي. والثالث: قول ابن الزبير وعروة بن الزبير: إن المرض والعدو
سواء لا يحل إلا بالطواف ولا نعلم لهما موافقا من فقهاء الأمصار.
قال أبو بكر: ولما ثبت بما قدمته من قول أهل اللغة أن اسم الإحصار يختص
بالمرض، وقال الله: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ
الْهَدْيِ} وجب أن يكون اللفظ
(1/325)
مستعملا
فيما هو حقيقة فيه وهو المرض، ويكون العدو داخلا فيه بالمعنى. فإن قيل
فقد حكي عن الفراء أنه أجاز فيهما لفظ الإحصار. قيل له لو صح ذلك كانت
دلالة الآية قائمة في إثباته في المرض لأنه لم يدفع وقوع الاسم على
المرض، وإنما أجازه في العدو، فلو وقع الاسم على الأمرين لكان عموما
فيهما موجبا للحكم في المريض والمحصور بالعدو جميعا. فإن قيل: لم تختلف
الرواة أن هذه الآية نزلت في شأن الحديبية، وكان النبي صلى الله عليه
وسلم وأصحابه ممنوعين بالعدو، فأمرهم الله بهذه الآية بالإحلال من
الإحرام، فدل على أن المراد بالآية هو العدو قيل له لما كان سبب نزول
الآية هو: العدو، ثم عدل عن ذكر الحصر وهو يختص بالعدو إلى الإحصار
الذي يختص بالمرض، دل ذلك على أنه أراد إفادة الحكم في المرض ليستعمل
اللفظ على ظاهره; ولما أمر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه بالإحلال
وحل هو، دل على أنه أراد حصر العدو من طريق المعنى لا من جهة اللفظ،
فكان نزول الآية مفيدا للحكم في الأمرين. ولو كان مراد الله تعالى
تخصيص العدو بذلك دون المرض لذكر لفظا يختص به دون غيره; ومع ذلك لو
كان اسما للمعنيين لم يكن نزوله على سبب موجبا للاقتصار بحكمه عليه، بل
كان الواجب اعتبار عموم اللفظ دون السبب.
ويدل عليه من جهة السنة ما حدثنا محمد بن بكر قال: حدثنا أبو داود قال:
حدثنا مسدد قال: حدثنا يحيى عن حجاج الصواف قال: حدثني يحيى بن أبي
كثير عن عكرمة قال: سمعت الحجاج بن عمرو الأنصاري قال: قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم: "من كسر أو عرج فقد حل وعليه الحج من قابل" قال
عكرمة: فسألت ابن عباس وأبا هريرة فقالا: صدق. ومعنى قوله "فقد حل" فقد
جاز له أن يحل، كما يقال: حلت المرأة للزوج، يعني جاز لها أن تتزوج.
فإن قيل: روى حماد وابن زيد عن أيوب عن عكرمة أنه قال في المحصر يبعث
بالهدي: فإذا بلغ الهدي محله حل وعليه الحج من قابل وقال: رضي الله
سبحانه بالقصاص من عباده ويأخذ منهم العدو أن عليه حجا مكان حج وإحراما
مكان إحرام. فزعم هذا القائل أنه لو كان عند عكرمة هذا الحديث لما كان
قال: يبعث بالهدي ولقال: يحل كما روي في الخبر. وهذا القائل إنما غلط
حين ظن أن المعنى في قوله: حل وقوع الإحلال بنفس الإحصار; وليس هو كما
ظن وإنما معناه أنه جاز له أن يحل كما ذكرنا مثله فيما يطلقه الناس من
قولهم: حلت المرأة للأزواج يريدون به: قد جاز لها أن تحل بالتزويج.
ويدل عليه من جهة النظر أن المحصر بالعدو لما جاز له الإحلال لتعذر
وصوله إلى
(1/326)
البيت
وكان ذلك موجودا في المرض، وجب أن يكون بمنزلته وفي حكمه. ألا ترى أنه
متى لم يتعذر وصوله إلى البيت بمنع العدو لم يجز له أن يحل؟ فدل ذلك
على أن المعنى فيه تعذر وصوله إلى البيت. ويدل على ذلك موافقة مخالفينا
إيانا على أن المرأة إذا منعها زوجها من حجة التطوع بعد الإحرام، جاز
لها الإحلال وكانت بمنزلة المحصر مع عدم العدو; وكذلك من حبس في دين أو
غيره فتعذر عليه الوصول إلى البيت كان في حكم المحصر; فكذلك المريض.
ويدل عليه أن سائر الفروض لا يختلف حكمها في كون المنع منها بالعدو أو
المرض، ألا ترى أن الخائف جائز له فعل الصلاة بالإيماء أو قاعدا إذا
تعذر عليه فعلها قائما كما يجوز ذلك للمريض؟ فكذلك المضي في الإحرام
واجب أن لا يختلف حكمه عند تعذر الوصول إلى البيت لمرض كان ذلك أو لخوف
عدو، وكذلك هذا في استقبال القبلة إذا كان خائفا أو مريضا، وكذلك من
عدم الماء أو كان مريضا، ومن لا يجد ما يحتمل به للجهاد، ومن كان
مريضا; لم يختلف حكم الإعذار في سقوط الفرض، كذلك ينبغي أن لا يختلف
حكمها في باب سقوط فرض المضي على الإحرام وجواز الإحلال منه، والمعنى
في الجميع تعذر الفعل.
فإن قيل: لما قال تعالى: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ
الْهَدْيِ} ثم عقب ذلك بقوله: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ
بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ} دل
ذلك من وجهين على أن المريض غير مراد بذكر الإحصار; لأنه لو كان كذلك
لما استأنف له ذكرا مع كونه في أول الخطاب، والوجه الآخر أنه لو كان
مرادا له لكان يحل بذلك الدم ولم يكن يحتاج إلى فدية. قيل له: لما قال
الله تعالى: {وَلا تَحْلِقُوا رُؤُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ
مَحِلَّهُ} منعه الإحلال مع وجود الإحصار إلى وقت بلوغ الهدي محله وهو
ذبحه في الحرم، فأبان عن حكم المريض قبل بلوغ الهدي محله، وأباح له حلق
الرأس مع إيجاب الفدية. ووجه آخر: وهو أنه ليس كل مرض يمنع الوصول إلى
البيت، ألا ترى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لكعب بن عجرة: "أتؤذيك
هوام رأسك؟" قال: نعم فأنزل الله الآية، ولم تكن هوام رأسه مانعته من
الوصول إلى البيت، فرخص الله له في الحلق وأمره بالفدية، وكذلك المرض
المذكور في الآية جائز أن يكون المرض الذي ليس معه إحصار، والله سبحانه
إنما جعل المرض إحصارا إذا منع الوصول إلى البيت، فليس في ذكره حكم
المريض بما وصف ما يمنع كون المرض إحصارا. ووجه آخر: وهو قوله: {فَمَنْ
كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً} يجوز أن يكون عائدا إلى أول الخطاب، كما عاد
إليه حكم الإحصار وهو قوله: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ
لِلَّهِ} ثم عطف عليه قوله: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ} فبين حكمهم إذا
أحصروا، ثم عقبه بقوله: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً} يعني: أي
المحرمون بالحج
(1/327)
والعمرة;
فبين حكمهم إذا مرضوا قبل الإحصار كما بين حكمهم عند الإحصار; فليس إذا
في قوله: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً} دلالة على أن المرض لا يكون
إحصارا.
فإن قيل: لما قال في سياق الآية: {فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ
بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ} دل على أن مراده العدو المخوف; لأن
الأمن يقتضي الخوف. قيل له: ما الذي يمنع أن يكون المراد الأمن من ضرر
المرض المخوف؟ ولم جعلته مخصوصا بالعدو دون المرض والأمن والخوف
موجودان فيهما؟ وقد روي عن عروة بن الزبير في قوله: {فَإِذَا
أَمِنْتُمْ} يعني: إذا أمنت من كسرك ووجعك فعليك أن تأتي البيت.
فإن قيل: الفرق بين العدو والمرض أن المحصر بعدو إن لم يمكنه أن يتقدم
أمكنه الرجوع، والمرض لا يختلف حاله في التقدم والرجوع. قيل له: فهذا
أحرى أن يكون محصرا لتعذر الأمرين عليه، فهو أعذر ممن يمكنه الرجوع وإن
تعذر عليه المضي للخوف. ويقال أيضا: ما تقول في المحصر بالعدو إذا كان
محيطا به ولم يمكنه الرجوع ولا التقدم أليس جائزا له الإحلال بلا خلاف
بين الفقهاء فقد انتقضت علتك في الفرق بينهما; ومع ذلك فقد قال الشافعي
في المحرمة إذا منعها زوجها والمحبوس إنهما محصران وجائز لهما الإحلال
وحال التقدم والرجوع لهما سواء لأنهما ممنوعان من الأمرين. وزعم
الشافعي أن الفرق بين المريض والخائف أن الله تعالى قد أباح للخائف في
القتال أن يتحيز إلى فئة فينتقل بذلك من الخوف إلى الأمن. فيقال له:
وكذلك قد أباح للمريض ترك القتال رأسا بقوله: {لَيْسَ عَلَى
الضُّعَفَاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضَى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ
مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ} فكانت رخصة المريض أوسع من رخصة الخائف لأن
الخائف غير معذور في ترك حضور القتال والمريض معذور فيه. وإنما عذر
الخائف أن يتحيز إلى فئة ولم يعذر في ترك القتال رأسا، فالمريض أولى
بالعذر في الإحلال من إحرامه.
قال الشافعي: فلما قال الله تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ
وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} ثم قال في شأن المحصر الخائف ما قال، وجب أن لا
يزول فرض تمام الحج والعمرة إلا عن الخائف. فيقال له: الذي قال:
{وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} هو الذي قال: {فَإِنْ
أُحْصِرْتُمْ} وهو عموم في الخائف وغيره، فلا يخرج شيء منه إلا بدلالة،
فما الدلالة على تخصيصه بالخائف دون غيره؟ وقد نقضت ذلك بإطلاقك للمرأة
الإحلال إذا منعها زوجها وليست بخائفة، وكذلك المحبوس لا يخاف القتل.
وقال المزني: جعل الإحلال رخصة للخائف من العدو ولا يشبه به غيره، كما
جعل المسح على الخفين خاصا لا يشبه به القفازين. فيقال له: إن كان
المعنى فيه أنه
(1/328)
رخصة
فينبغي أن لا يقاس على شيء من الرخص، فإذا رخص النبي صلى الله عليه
وسلم الاستنجاء بالأحجار وجب أن لا يشبه به غيره في جواز الاستنجاء
بالخرق والخشب، ولما كان حلق الرأس من أذى رخصة وجب أن لا يشبه به
الأذى في البدن في إباحة الحلق والفدية، ويلزمه أن لا يشبه بالخائف
المحبوس والمرأة إذا منعها زوجها; وجميع ما ذكرنا ينقض اعتلاله.
فصل
قال أبو بكر رضي الله عنه: والإحصار من الحج والعمرة سواء; وحكي عن
محمد بن سيرين أن الإحصار يكون من الحج دون العمرة، وذهب إلى أن العمرة
غير موقتة وأنه لا يخشى الفوات وقد تواترت الأخبار بأن النبي صلى الله
عليه وسلم كان محرما بالعمرة عام الحديبية وأنه أحل من عمرته بغير طواف
ثم قضاها في العام القابل في ذي القعدة وسميت عمرة القضاء. وقال الله
تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} ثم قال: {فَإِنْ
أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} وذلك حكم عائد إليهما
جميعا، وغير جائز الاقتصار على أحدهما دون الآخر، لما فيه من تخصيص حكم
اللفظ بغير دلالة.
وقوله تعالى: {فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} قال أبو بكر: قد
اختلف السلف في ذلك، فروي عن عائشة وابن عمر أنهما قالا: "لا يكون
الهدي إلا من الإبل والبقر". وقال ابن عباس شاة. واختلف فقهاء الأمصار
فيه، فقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد وزفر ومالك والشافعي: الهدي من
الأصناف الثلاثة: الإبل والبقر والغنم وهو قول ابن شبرمة، قال ابن
شبرمة: والبدن من الإبل خاصة. وقال أصحابنا والشافعي: من الإبل والبقر.
واختلفوا في السن، فقال أصحابنا والشافعي: لا يجزي في الهدي من الإبل
والبقر والغنم إلا الثني فصاعدا إلا الجذع من الضأن فإنه يجزي. وقال
مالك: لا يجزي من الهدي إلا الثني فصاعدا. وقال الأوزاعي: "يهدي الذكور
من الإبل، ويجوز الجذع من الإبل والبقر، ويجزي كل واحد منهما عن سبعة".
قال أبو بكر: الهدي اسم لما يهدى إلى البيت على وجه التقرب به إلى الله
تعالى، وجائز أن يسمى به ما يقصد به الصدقة وإن لم يهد إلى البيت; قال
النبي صلى الله عليه وسلم: "المبكر إلى الجمعة كالمهدي بدنة، ثم الذي
يليه كالمهدي بقرة، ثم الذي يليه كالمهدي شاة، ثم الذي يليه كالمهدي
دجاجة، ثم الذي يليه كالمهدي بيضة" فسمى الدجاجة والبيضة هديا وإن لم
يرد به إهداءه إلى البيت، وإنما أراد به الصدقة وإخراجها مخرج القربة;
ولذلك قال أصحابنا فيمن قال: "لله علي أن أهدي ثوبي هذا أو داري هذه"
أن عليه أن يتصدق به
(1/329)
واتفق
الفقهاء على أن ما عدا هذه الأصناف الثلاثة من الإبل والبقر والغنم ليس
من الهدي المراد بقوله: {فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} واختلفوا
فيما أريد به منها على ما ذكرنا; وظاهر الآية يقتضي دخول الشاة فيه
لوقوع الاسم عليها; ولم يختلفوا في معنى قوله: {هَدْياً بَالِغَ
الْكَعْبَةِ} [المائدة: 95] أن الشاة منه وأنه يكون هديا في جزاء الصيد
وروى إبراهيم عن الأسود عن عائشة: "أن النبي صلى الله عليه وسلم أهدى
غنما مرة". وروى الأعمش عن أبي سفيان عن جابر قال: "كان فيما أهدى رسول
الله صلى الله عليه وسلم غنم مقلدة".
فإن قيل: الرواية عن عائشة في هدي الغنم لا يصح; لأن القاسم قد روى
عنها أنها كانت لا ترى الغنم مما يستيسر من الهدي. قيل له: إنما معناه
أنه لا يصير محرما بها وأن هدي الإبل والبقر يوجب الإحرام إذا أراده
وقلدهما، وأما اعتبار الثني فلما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في
قصة أبي بردة بن نيار حين ضحى قبل الصلاة، فأمره النبي صلى الله عليه
وسلم بإعادتها، فقال: عندي جذعة من المعز خير من شاتي لحم، فقال: "تجزي
عنك ولا تجزي عن أحد بعدك" فمنع الجذع في الأضحية; والهدي مثلها، لأن
أحدا لم يفرق بينهما. وإنما أجازوا الجذع من الضأن لما روي عن النبي
عليه السلام أنه أمر بأن يضحى بالجذع من الضأن إذا فرض له ستة أشهر،
وقد بينا ذلك في شرح المختصر.
وقد اختلفوا في جواز الشركة في دم الهدايا الواجبة، فقال أصحابنا
والشافعي: تجوز البدنة عن سبعة والبقرة عن سبعة. وقال مالك: "يجوز ذلك
في التطوع ولا يجزي في الواجب". وروى جابر عن النبي صلى الله عليه
وسلم: أنه جعل يوم الحديبية البدنة عن سبعة والبقرة عن سبعة وتلك كانت
واجبة لأنها كانت عن إحصار. ولما اتفقوا على جوازها عن سبعة في التطوع
كان الواجب مثله لأنهما لا يختلفان في الجواز في سائر الوجوه; ويدل
عليه قوله: {فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} ظاهره يقتضي التبعيض،
فوجب أن يجزي بعض الهدي بحق الظاهر، والله أعلم.
(1/330)
باب المحصر أين يذبح الهدي
قال الله تعالى: {وَلا تَحْلِقُوا رُؤُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ
الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} واختلف السلف في المحل ما هو، فقال عبد الله بن
مسعود وابن عباس وعطاء وطاوس ومجاهد والحسن وابن سيرين: هو الحرم وهو
قول أصحابنا والثوري. وقال مالك والشافعي: محله الموضع الذي أحصر فيه
فيذبحه ويحل. والدليل على صحة القول الأول أن المحل اسم لشيئين: يحتمل
أن يراد به الوقت، ويحتمل أن يراد به المكان; ألا ترى أن محل الدين هو
وقته الذي تجب المطالبة به؟ وقال النبي صلى الله عليه وسلم لضباعة بنت
الزبير: "اشترطي في الحج وقولي:
(1/330)
محلي حيث
حبستني" فجعل المحل في هذا الموضع اسما للمكان. فلما كان محتملا
للأمرين ولم يكن هدي الإحصار في العمرة موقتا عند الجميع وهو لا محالة
مراد بالآية، وجب أن يكون مراده المكان، فاقتضى ذلك أن لا يحل حتى يبلغ
مكانا غير مكان الإحصار; لأنه لو كان موضع الإحصار محلا للهدي لكان
بالغا محله بوقوع الإحصار ولأدى ذلك إلى بطلان الغاية المذكورة في
الآية، فدل ذلك على أن المراد بالمحل هو الحرم لأن كل من لا يجعل موضع
الإحصار محلا للهدي فإنما يجعل المحل الحرم، ومن جعل محل الهدي موضع
الإحصار أبطل فائدة الآية وأسقط معناها. ومن جهة أخرى، وهو أن قوله:
{وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعَامُ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ}
[الحج: 30] إلى قوله: {لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً
ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج: 33] ودلالته على
صحة قولنا في المحل من وجهين: أحدهما: عمومه في سائر الهدايا، والآخر:
ما فيه من بيان معنى المحل الذي أجمل ذكره في قوله: {حَتَّى يَبْلُغَ
الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} فإذا كان الله قد جعل المحل البيت العتيق، فغير
جائز لأحد أن يجعل المحل غيره.
ويدل عليه قوله في جزاء الصيد: {هَدْياً بَالِغَ الْكَعْبَةِ}
[المائدة: 95] فجعل بلوغ الكعبة من صفات الهدي، فلا يجوز شيء منه دون
وجوده فيه. كما أنه لما قال في الظهار وفي القتل: {فَصِيَامُ
شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ} [النساء: 92] فقيدهما بفعل التتابع، لم
يجز فعلهما إلا على هذا الوجه. وكذلك قوله: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ
مُؤْمِنَةٍ} [النساء: 92] لا يجوز إلا على الصفة المشروطة. وكذلك قال
أصحابنا في سائر الهدايا التي تذبح: إنها لا تجوز إلا في الحرم.
ويدل عليه أيضا قوله في سياق الخطاب بعد ذكر الإحصار: {فَمَنْ كَانَ
مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ
صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} فأوجب على المحصر دما ونهاه عن
الحلق حتى يذبح هديه، فلو كان ذبحه في الحل جائزا لذبح صاحب الأذى هديه
عن الإحصار وحل به واستغنى عن فدية الأذى، فدل ذلك على أن الحل ليس
بمحل الهدي.
فإن قيل: هذا فيمن لا يجد هدي الإحصار. قيل له: لا يجوز أن يكون ذلك
خطابا فيمن لا يجد الدم; لأنه خيره بين الصيام والصدقة والنسك، ولا
يكون مخيرا بين الأشياء الثلاثة إلا وهو واجد لها لأنه لا يجوز التخيير
بين ما يجد وبين ما لا يجد، فثبت بذلك أن محل الهدي هو الحرم دون محل
الإحصار.
ومن جهة النظر، لما اتفقوا في جزاء الصيد أن محله الحرم وأنه لا يجزي
في
(1/331)
غيره، وجب
أن يكون كذلك حكم كل دم تعلق وجوبه بالإحرام، والمعنى الجامع بينهما
تعلق وجوبهما بالإحرام.
فإن قيل: قال الله تعالى: {هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ
الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفاً أَنْ يَبْلُغَ
مَحِلَّهُ} [الفتح: 25]، وذلك في شأن الحديبية، وفيه دلالة على أن
النبي عليه السلام وأصحابه نحروا هديهم في غير الحرم، لولا ذلك لكان
بالغا محله. قيل له: هذا من أدل شيء على أن محله الحرم; لأنه لو كان
موضع الإحصار هو الحل محلا للهدي لما قال: {وَالْهَدْيَ مَعْكُوفاً
أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ} [الفتح: 25]، فلما أخبر عن منعهم الهدي عن
بلوغ محله دل ذلك على أن الحل ليس بمحل له; وهذا يصلح أن يكون ابتداء
دليل في المسألة.
فإن قيل: فإن لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه ذبحوا الهدي في
الحل، فما معنى قوله: {وَالْهَدْيَ مَعْكُوفاً أَنْ يَبْلُغَ
مَحِلَّهُ} [الفتح: 25]؟ قيل له: لما حصل أدنى منع جاز أن يقال إنهم
منعوا، وليس يقتضي ذلك أن يكون أبدا ممنوعا; ألا ترى أن رجلا لو منع
رجلا حقة جاز أن يقال: منعه حقه كما يقال حبسه، ولا يقتضي ذلك أن يكون
أبدا محبوسا؟ فلما كان المشركون منعوا الهدي بديا من الوصول إلى الحرم
جاء إطلاق الاسم عليهم بأنهم منعوا الهدي عن بلوغ محله وإن أطلقوا بعد
ذلك; ألا ترى أنه قد وصف المشركين بصد المسلمين عن المسجد الحرام وإن
كانوا قد أطلقوا لهم بعد ذلك الوصول إليه في العام القابل، وقال الله
عز وجل: {قَالُوا يَا أَبَانَا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ} [يوسف: 63]
وإنما منعوه في وقت وأطلقوه في وقت آخر؟ فكذلك منعوا الهدي بديا، ثم
لما وقع الصلح بين النبي صلى الله عليه وسلم وبينهم أطلقوه حتى ذبحه في
الحرم. وقيل إن النبي صلى الله عليه وسلم ساق البدن ليذبحها بعد الطواف
بالبيت، فلما منعوه من ذلك قال الله تعالى: {وَالْهَدْيَ مَعْكُوفاً
أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ} [الفتح: 25] لقصوره عن الوقت المقصود فيه
ذبحه. ويحتمل أن يريد به المحل المستحب فيه الذبح، وهو عند المروة أو
بمنى، فلما منع ذلك أطلق ما فيه ما وصفت. وقد ذكر المسور بن مخرمة
ومروان بن الحكم أن الحديبية بعضها في الحل وبعضها في الحرم، وأن مضرب
النبي عليه السلام كان في الحل ومصلاه كان في الحرم، فإذا أمكنه أن
يصلي في الحرم فلا محالة قد كان الذبح ممكنا فيه. وقد روي أن ناجية بن
جندب الأسلمي قال للنبي صلى الله عليه وسلم: ابعث معي الهدي حتى آخذ به
في الشعاب والأودية فأذبحها بمكة، ففعل. وجائز أن يكون بعث معه بعضه
ونحر هو بعضه في الحرم، والله أعلم.
(1/332)
باب وقت ذبح هدي الإحصار
قال الله تعالى: {فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} ولم يختلف أهل
العلم ممن أباح
(1/332)
الإحلال
بالهدي أن ذبح هدي العمرة غير موقت وأنه له أن يذبحه متى شاء ويحل. وقد
كان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه محصرين بالحديبية وكانوا محرمين
بالعمرة، فحلوا منها بعد الذبح، وكان ذلك في ذي القعدة. واختلفوا في
هدي الإحصار في الحج، فقال أبو حنيفة ومالك والشافعي له أن يذبحه متى
شاء ويحل قبل يوم النحر. وقال أبو يوسف والثوري ومحمد: لا يذبح قبل يوم
النحر. وظاهر قوله: {فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} يقتضي جوازه
غير موقت، وفي إثبات التوقيت تخصيص اللفظ، وذلك غير جائز إلا بدليل.
فإن قيل: لما قال تعالى: {وَلا تَحْلِقُوا رُؤُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ
الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} والمحل اسم يقع على التوقيت، وجب أن يكون موقتا.
قيل له: قد بينا أن المحل اسم للموضع، وإن كان قد يقع على الوقت فقد
اتفق الجميع على أن المكان مراد بذكر المحل; فإذا بلغ الحرم وذبح جاز
بظاهر الآية، وحينئذ يصير شرط الوقت زيادة فيه لأن أكثر أحواله أن يكون
الاسم لما تناولهما جميعا فواجب أن يجزي بأيهما وجد لأنه جعل بلوغ
المحل غاية الإحرام، وقد وجد بذبحه في الحرم. ولما قال تعالى:
{وَالْهَدْيَ مَعْكُوفاً أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ} [الفتح: 25] وكان
هذا المحل هو الحرم، ثم قال في هذه القصة بعينها: {حَتَّى يَبْلُغَ
الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} وجب أن يكون هو المحل المذكور في الآية الأخرى،
وهو الحرم.
ومما يدل على أنه غير موقت، أن قوله عز وجل: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ
فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} عائد إلى الحج والعمرة المبدوء
بذكرهما في قوله: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} والهدي
المذكور للحج هو المذكور للعمرة، واتفق الجميع على أنه لم يرد به
التوقيت للعمرة فكذلك الحج; إذ قد أريد باللفظ الإطلاق.
ويدل عليه أيضا قوله تعالى: {حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ}
والمراد بمحله للعمرة هو الحرم دون الوقت، فصار كالمنطوق به فيه،
فاقتضى ذلك جواز ذبحه في الحرم أي وقت شاء في العمرة، فكذلك هو للحج.
وأيضا لما كان الإطلاق قد تناول العمرة لم يجز أن يكون مقيدا للحج;
لأنه دخل فيهما على وجه واحد بلفظ واحد، فغير جائز أن يراد في بعض ما
انتظمه اللفظ الوقت وفي بعضه المكان، كما لا يجوز أن يريد بقوله:
{وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ} [المائدة: 38] في بعضهم سارق العشرة وفي
بعضهم سارق ربع دينار.
ويدل على ذلك من جهة السنة حديث الحجاج بن عمرو الأنصاري عن النبي صلى
الله عليه وسلم: "من كسر أو عرج فقد حل وعليه الحج من قابل" ومعناه:
فقد جاز له أن يحل; إذ لا خلاف أنه لا يحل بالكسر والعرج.
(1/333)
ويدل عليه
حديث ضباعة بنت الزبير، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لها: "اشترطي
وقولي: إن محلي حيث حبستني" ومعنى ذلك إعلامها أن ذلك محلها، بدلالة
الأصول أن موجب الإحرام لا ينتفي بالشرط ثم لم يوقت المحل.
ويحتج له من جهة النظر باتفاق الجميع على أن العمرة التي تحلل بها عند
الفوات لا وقت لها إذا وجبت، كذلك هذا الدم لما وجب عند الإحصار وجب أن
يكون غير موقت; لأنه يقع به إحلال على وجه الفسخ كعمرة الفوات.
قوله تعالى: {وَلا تَحْلِقُوا رُؤُوسَكُمْ} هو نهي عن حلق الرأس في
الإحرام للحاج والمعتمر جميعا; لأنه معطوف على قوله: {وَأَتِمُّوا
الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} قد اقتضى حظر حلق بعضنا رأس بعض وحلق
كل واحد رأس نفسه، لاحتمال اللفظ للأمرين، كقوله تعالى: {وَلا
تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} [النساء: 29] اقتضى النهي عن قتل كل واحد منا
لنفسه ولغيره. فيدل ذلك على أن المحرم محظور عليه حلق رأس غيره، ومتى
فعله لزمه الجزاء، ويدل على أن الذبح مقدم على الحلق في القران والتمتع
لأنه عموم في كل من عليه حلق وهدي في وقت واحد، فيحتج فيمن حلق قبل أن
يذبح أن عليه دما لمواقعته المحظور في تقديم الحلق على الهدي.
وقد اختلفوا في المحصر هل عليه حلق أم لا؟ فقال أبو حنيفة ومحمد: لا
حلق عليه. وقال أبو يوسف في إحدى الروايتين: يحلق، فإن لم يحلق فلا شيء
عليه وروي عنه أنه لا بد من الحلق. ولم يختلفوا في المرأة تحرم تطوعا
بغير إذن زوجها، والعبد يحرم بغير إذن مولاه، أن للزوج والمولى أن
يحللاهما بغير حلق ولا تقصير، وذلك بأن يفعل بهما أدنى ما يحظره
الإحرام من طيب أو لبس. وهذا يدل على أن الحلق غير واجب على المحصر لأن
هذين بمنزلة المحصر، وقد جاز لمن يملك إحلالهما أن يحللهما بغير حلق،
ولو كان الحلق واجبا وهو ممكن لكان عليه أن يحلل العبد بالحلق والمرأة
بالتقصير. وأيضا فالحلق إنما ثبت نسكا مرتبا على قضاء المناسك، ولم
يثبت على غير هذا الوجه، فغير جائز إثباته نسكا إلا عند قيام الدلالة;
إذ قد ثبت أن الحلق في الأصل ليس بنسك; ويقاس بهذه العلة على العبد
والمرأة أن المولى والزوج لما جاز لهما إحلال العبد والمرأة بغير حلق
ولا تقصير إذا لم يفعلا سائر المناسك التي رتب عليها الحلق، وجب أن
يجوز لسائر المحصرين الإحلال بغير حلق لهذه العلة.
ويدل على ذلك أيضا قول النبي صلى الله عليه وسلم لعائشة حين أمرها برفض
العمرة قبل استيعاب أفعالها: "انقضي رأسك وامتشطي ودعي العمرة واغتسلي
وأهلي بالحج" فلم يأمرها بالحلق ولا بالتقصير حين لم تستوعب أفعال
العمرة، فدل ذلك على أن من جاز له الإحلال من
(1/334)
إحرامه
قبل قضاء المناسك فليس عليه الإحلال بالحلق.
وفيه دليل على أن الحلق مرتب على قضاء المناسك كترتيب سائر أفعال
المناسك بعضها على بعض، وقد احتج محمد لذلك بأنه لما سقط عنه سائر
المناسك سقط الحلق. ويحتمل ذلك من قوله وجهين: أحدهما: أن يكون مراده
المعنى الذي ذكرنا أن الحلق مرتب على قضاء المناسك، فلما سقط عنه سائر
المناسك سقط الحلق. ويحتمل أنه لما كان الحلق إذا وجب في الإحرام كان
نسكا، وقد سقط عن المحصر سائر المناسك، وجب أن يسقط عنه الحلق. فإن
قيل: إنما سقط عنه سائر المناسك لتعذر فعلها، والحلق غير متعذر فعليه
فعله. قيل له: هذا غلط لأن المحصر لو أمكنه الوقوف بالمزدلفة ورمي
الجمار ولم يمكنه الوصول إلى البيت ولا الوقوف بعرفة لا يلزمه الوقوف
بالمزدلفة ولا رمي الجمار مع إمكانهما لأنهما مرتبان على مناسك
تتقدمهما. كذلك لما كان الحلق مرتبا على أفعال أخر، لم يكن فعله قبلهما
نسكا فقد سقط بما ذكرنا اعتراض السائل لوجودنا مناسك يمكنه فعلها، ولم
تلزمه مع ذلك عند كونه محصرا.
فإن احتج محتج لأبي يوسف بقوله: {وَلا تَحْلِقُوا رُؤُوسَكُمْ حَتَّى
يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} فجعل بلوغه محله غاية لزوال الحظر،
وواجب أن يكون حكم الغاية بضد ما قبلها، فيكون تقديره: ولا تحلقوا
رءوسكم حتى يبلغ الهدي محله فإذا بلغ فاحلقوا وذلك يقتضي وجوب الحلق.
قيل له: هذا غلط; لأن الإباحة هي ضد الحظر كما أن الإيجاب ضده، فليست
في صرفه إلى أحد الضدين وهو الإيجاب بأولى من الآخر وهو الإباحة. وأيضا
فإن ارتفاع الحظر غير موجب لفعل ضده على جهة الإيجاب، وإنما الذي
يقتضيه زوال الحظر بقاء الشيء على ما كان عليه قبله فيكون بمنزلته قبل
الإحرام، فإن شاء حلق وإن شاء ترك; ألا ترى أن زوال حظر البيع بفعل
الجمعة وزوال حظر الصيد بالإحلال لم يقتض إيجاب البيع ولا الاصطياد
وإنما اقتضى إباحتهما؟
ويحتج لأبي يوسف بقول النبي صلى الله عليه وسلم: "رحم الله المحلقين"
ثلاثا، ودعا للمقصرين مرة، وذلك في عمرة الحديبية عند الإحصار; فدل ذلك
على أنه نسك، وإذا كان نسكا وجب فعله كما يجب عند قضاء المناسك لغير
المحصر. والجواب: أن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم اشتد عليهم الحلق
والإحلال قبل الطواف بالبيت، فلما أمرهم النبي صلى الله عليه وسلم
بالإحلال توقفوا رجاء أن يمكنهم الوصول وأعاد عليهم القول; ثم إن النبي
صلى الله عليه وسلم بدأ فنحر هديه وحلق رأسه، فلما رأوه كذلك حلق بعض
وقصر بعض، فدعا للمحلقين لمبالغتهم في متابعة النبي صلى الله عليه وسلم
ومسارعتهم إلى أمره، ولما قيل له: يا رسول الله دعوت للمحلقين ثلاثا
(1/335)
وللمقصرين
مرة فقال: "إنهم لم يشكوا" ومعنى ذلك أنهم لم يشكوا أن الحلق أفضل من
التقصير، فاستحقوا من الثواب بعلمهم لذلك ما لم يستحقه الآخرون.
فإن قيل: فكيفما جرى الأمر فقد أمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بالحلق
وأمره على الوجوب، ودعاؤه للفريقين من المحلقين والمقصرين دليل على أنه
نسك، وما ذكرته من أن القوم كرهوا الحلق قبل الوصول إلى البيت وأن
النبي صلى الله عليه وسلم أمرهم به، ليس بناف وجه الدلالة منه على كونه
نسكا. فإنه يقال: قد روى المسور بن مخرمة ومروان بن الحكم قصة الحديبية
فقالا فيه: فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: "أحلوا وانحروا" وذكر
في بعض الأخبار الحلق. فنستعمل اللفظين، فنقول: ما حل به من شيء فهو
حلال، لقوله صلى الله عليه وسلم: "أحلوا" وقوله: "احلقوا" المقصد به
الإحلال لا تعيينه بالحلق دون غيره، وإنما استحقوا الثواب لإحلالهم
وائتمارهم لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان الحلق أفضل من
التقصير لجدهم واجتهادهم في متابعة أمره صلى الله عليه وسلم والله أعلم
بالصواب.
(1/336)
باب ما يجب على المحصر بعد إحلاله من الحج بالهدي
قال الله تعالى بعد ما ذكر في شأن المحصر: {فَمَنْ تَمَتَّعَ
بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ}
واختلف السلف وفقهاء الأمصار في المحصر بالحج إذا حل بالهدي، فروى سعيد
بن جبير عن ابن عباس، ومجاهد عن عبد الله بن مسعود قالا: عليه عمرة
وحجة، فإن جمع بينهما في أشهر الحج فعليه دم وهو متمتع، وإن لم يجمعهما
في أشهر الحج فلا دم عليه وكذلك قال علقمة والحسن وإبراهيم وسالم
والقاسم ومحمد بن سيرين، وهو قول أصحابنا. وروى أيوب عن عكرمة عن ابن
عباس قال: أمر الله بالقصاص أو يأخذ منكم العدوان حجة بحجة وعمرة
بعمرة. وروي عن الشعبي قال: عليه حجة. وإنما يوجب أبو حنيفة عليه حجة
وعمرة إذا أحل بالدم ثم لم يحج من عامه ذلك، فلو أنه أحل من إحرامه قبل
يوم النحر ثم زال الإحصار فأحرم بالحج وحج من عامه لم يكن عليه عمرة
وذلك لأن هذه العمرة إنما هي التي تلزم بالفوات لأن من فاته الحج فعليه
أن يتحلل بعمل عمرة، فلما حصل حجه فائتا كان عليه عمرة للفوات، والدم
الذي عليه في الإحصار إنما هو للإحلال ولا يقوم مقام العمرة التي تلزم
بالفوات، وذلك لأنه ليس في الأصول عمرة يقوم مقامها دم، ألا ترى أن من
نذر عمرة لم ينب عنه دم لا في حال العذر ولا في حال الإمكان؟ وكذلك من
يجعل العمرة فريضة لا يجعل الدم نائبا عنها بحال; فلما كان الفوات قد
ألزمه عمل عمرة لم يجز أن ينوب عنها دم، فثبت بذلك أن الدم إنما هو
للإحلال فحسب. ويدل على ذلك أن العمرة التي
(1/336)
تلزم
بالفوات غير جائز فعلها قبل الفوات لعدم وقتها وسببها، ودم الإحصار
يجوز ذبحه والإحلال به قبل الفوات، باتفاق منا ومن مخالفينا، فدل ذلك
على أن الدم هو للإحلال لا على أنه قائم مقام العمرة. ولا يسوغ لمالك
والشافعي أن يجعلا دم الإحصار قائما مقام العمرة الواجبة بالفوات;
لأنهما يقولان: "الذي يفوته الحج عليه مع عمرة الفوات هدي" فهدي
الإحصار عندهما هو الذي يلزم بالفوات، فلا يقوم مقام العمرة كما لا
يقوم مقامه بعد الفوات.
فإن قيل: فأنت تجيز صوم ثلاثة أيام المتعة بعد إحرام العمرة قبل يوم
النحر، وهو بدل من الهدي، والهدي نفسه لا يجوز ذبحه قبل يوم النحر. قيل
له: إنما جاز ذلك لوجود سبب المتعة وهو العمرة، فجاز تقديم بعض الصوم
على وقت ذبح الهدي، ولم يوجد للمحصر سبب للزوم العمرة لأن سببه إنما هو
طلوع الفجر يوم النحر قبل الوقوف بعرفة، فلذلك لم يقم الدم مقام العمرة
التي تلزم بالفوات. ويدل على أن الدم غير قائم مقام العمرة التي تلزم
بالفوات أنه يلزم المعتمر وهو لا يخشى الفوات لأنها غير موقتة; فدل ذلك
على أن هذا الدم لا يتعلق بالفوات وأنه موضوع لتعجيل الإحلال بدلالة
أنه لم يختلف فيه حكم ما يخشى فوته وحكم ما لا يخشى فوته في لزوم الدم.
فإن قيل: في حديث الحجاج بن عمرو الأنصاري عن النبي صلى الله عليه وسلم
أنه قال: "من كسر أو عرج فقد حل وعليه الحج من قابل" ولم يذكر فيه
عمرة، ولو كانت واجبة معه لذكرها كما ذكر وجوب قضاء الحج. قيل له: ولم
يذكر دما، ومع ذلك فلا يجوز له أن يحل إلا بدم; وإنما أراد عليه السلام
الإخبار عن الإحصار بالمرض ووجوب قضاء ما يحل فيه.
وقد ذهب عبد الله بن مسعود وابن عباس في رواية سعيد بن جبير إلى أن
قوله عقيب ذكر حكم المحصر: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى
الْحَجِّ} أراد به العمرة التي تجب بالإحلال من الحج إذا جمعها إلى
الحج الذي أحل منه في أشهر الحج فعليه الفداء. وروي عن ابن عباس قول
آخر في المحصر، وهو ما رواه عبد الرزاق قال: حدثنا الثوري عن ابن أبي
نجيح عن عطاء ومجاهد عن ابن عباس قال: الحبس حبس العدو، فإن حبس وليس
معه هدي حل مكانه، وإن كان معه هدي حل به ولم يحل حتى ينحر الهدي وليس
عليه حجة ولا عمرة. وقد روي عن عطاء إنكار ذلك على رواية رواها محمد بن
بكر قال: أخبرنا ابن جريج عن عمرو بن دينار قال: قال ابن عباس: ليس على
من حصره العدو هدي حسب أنه قال: ولا حج ولا عمرة قال ابن جريج: فذكرت
ذلك لعطاء قلت: هل سمعت ابن عباس يقول ليس على المحصر هدي ولا قضاء
إحصاره؟ قال: لا; وأنكره. وهذه رواية لعمري منكرة خلاف نص التنزيل وما
ورد بالنقل المتواتر عن الرسول صلى الله عليه وسلم،
(1/337)
قال الله
تعالى: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلا
تَحْلِقُوا رُؤُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ}. وقوله:
{فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} على أحد وجهين: أحدهما: فعليه ما
استيسر من الهدي، والآخر: فليهد ما استيسر من الهدي; فاقتضى ذلك إيجاب
الهدي على المحصر متى أراد الإحلال، ثم عقبه بقوله: {وَلا تَحْلِقُوا
رُؤُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} فكيف يسوغ لقائل أن
يقول جائز له الإحلال بغير هدي مع ورود النص بإيجابه ومع نقل إحصار
النبي صلى الله عليه وسلم بالحديبية وأمره إياهم بالذبح والإحلال.
واختلف الفقهاء في المحصر إذا لم يحل حتى فاته الحج ووصل إلى البيت،
فقال أصحابنا والشافعي: عليه أن يتحلل بالعمرة، ولا يصح له فعل الحج
بالإحرام الأول. وقال مالك: يجوز له أن يبقى حراما حتى يحج في السنة
الثانية، وإن شاء تحلل بعمل عمرة. والدليل على أنه غير جائز له أن يفعل
بذلك الإحرام الأول حجا بعد الفوات اتفاق الجميع على أن له أن يتحلل
بعمل عمرة، فلولا أن إحرامه قد صار بحيث لا يفعل به حجا لما جاز له
التحلل منه; ألا ترى أنه غير جائز له أن يتحلل منه في السنة الأولى حين
أمكنه فعل الحج به؟ وفي ذلك دليل على أن إحرامه قد صار بحيث لا يفعل به
حجا. وأيضا فإن فسخ الحج منسوخ بقوله تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ
وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} فعلمنا حين جاز له الإحلال أن موجبه في هذه
الحال هو عمل العمرة لا عمل الحج; لأنه لو أمكنه عمل الحج فجعله عمرة
بالإحلال لكان فاسخا لحجه مع إمكان فعله، وهذا لم يكن قط إلا في السنة
التي حج فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم نسخ. وهو معنى قول عمر:
متعتان كانتا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا أنهى عنهما
وأضرب عليهما: متعة النساء ومتعة الحج فأراد بمتعة الحج فسخه على نحو
ما أمر النبي صلى الله عليه وسلم به أصحابه في حجة الوداع.
واختلفوا أيضا فيمن أحصر وهو محرم بحج تطوع أو بعمرة تطوع، فقال
أصحابنا: عليه القضاء سواء كان الإحصار بمرض أو عدو إذا حل منهما
بالهدي. وأما مالك والشافعي فلا يريان الإحصار بالمرض ويقولان: إن أحصر
بعدو فحل فلا قضاء عليه في الحج ولا العمرة.
والدليل على وجوب القضاء قوله تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ
وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} وذلك يقتضي الإيجاب بالدخول، ولما وجب بالدخول
صار بمنزلة حجة الإسلام والنذر، فيلزمه القضاء بالخروج منه قبل إتمامه
سواء كان معذورا فيه أو غير معذور لأن ما قد وجب لا يسقطه العذر، فلما
اتفقوا على وجوب القضاء بالإفساد وجب عليه مثله بالإحصار. ويدل عليه من
جهة السنة حديث الحجاج بن عمرو الأنصاري: "من كسر أو عرج فقد حل وعليه
الحج من قابل" ولم يفرق بين حجة الإسلام والتطوع. وأيضا فإن من
(1/338)
ترك
موجبات الإحرام لا يختلف فيه المعذور وغيره في ترك لزوم حكمه; والدليل
عليه أن الله تعالى قد عذر حالق رأسه من أذى ولم يخله من إيجاب فدية،
سواء كان ذلك في إحرام فريضة أو تطوع; فكذلك ينبغي أن يكون حكم المحصر
بحجة فرض أو نفل في وجوب القضاء، وواجب أيضا أن يستوي حكم إفساده إياه
بالجماع وخروجه منه بإحصار، كما لم يخل من إيجاب كفارة في الجنايات
الواقعة في الإحرام المعذور وغيره. ويدل على وجوب القضاء على المحصر
وإن كان معذورا اتفاق الجميع أن على المريض القضاء إذا فاته الحج وإن
كان معذورا في الفوات، كما يلزمه لو قصد إلى الفوات من غير عذر.
والمعنى في استواء حكم المعذور وغير المعذور ما لزمه من الإحرام
بالدخول وهو موجود في المحصر، فوجب أن لا يسقط عنه القضاء. ويدل عليه
أيضا قصة عائشة حين حاضت وهي مع النبي صلى الله عليه وسلم في حجة
الوداع وكانت محرمة بعمرة، فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: "انقضي
رأسك وامتشطي وأهلي بالحج ودعي العمرة" ثم لما فرغت من الحج أمر عبد
الرحمن بن أبي بكر فأعمرها من التنعيم، وقال: "هذه مكان عمرتك" فأمرها
بقضاء ما رفضته من العمرة للعذر، فدل ذلك على أن المعذور في خروجه من
الإحرام لا يسقط عنه القضاء. ويدل عليه أيضا أن النبي صلى الله عليه
وسلم لما أحصر هو وأصحابه بالحديبية وكانوا محرمين بالعمرة وقضوها في
العام المقبل، سميت عمرة القضاء، ولو لم تكن لزمت بالدخول ووجب القضاء
لما سميت عمرة القضاء ولكانت تكون حينئذ عمرة مبتدأة، وفي ذلك دليل على
لزوم القضاء بالإحلال والله الموفق.
(1/339)
باب المحصر لا يجد هديا
قال الله تعالى: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ
الْهَدْيِ} واختلف أهل العلم في المحصر لا يجد هديا، فقال أصحابنا: لا
يحل حتى يجد هديا فيذبح عنه وقال عطاء يصوم عشرة أيام ويحل كالمتمتع
إذا لم يجد هديا وللشافعي فيه قولان: أحدهما: أنه لا يحل أبدا إلا
بهدي، والآخر: إذا لم يقدر على شيء حل وأهراق دما إذا قدر عليه، وقيل:
إذا لم يقدر أجزأه وعليه الطعام أو صيام إن لم يجد ولم يقدر.
قال أبو بكر: واحتج محمد لذلك بأن هدي المتعة منصوص عليه وكذلك حكم
المتمتع منصوص عليه فيما يلزم من هدي أو صيام إن لم يجد هديا،
والمنصوصات لا يقاس بعضها على بعض، ووجه آخر وهو أنه غير جائز إثبات
الكفارات بالقياس فلما كان الدم مذكورا للمحصر لم يجز لنا إثبات شيء
غيره قياسا لأن ذلك دم جناية على وجه الكفارة لامتناع جواز إثبات
الكفارة قياسا، وأيضا فإن فيه ترك المنصوص عليه
(1/339)
بعينه
لأنه قال: {وَلا تَحْلِقُوا رُؤُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ
مَحِلَّهُ} فمن أباح له الحلق قبل بلوغ الهدي محله فقد خالف النص ولا
يجوز ترك النص بالقياس والله أعلم.
(1/340)
باب إحصار أهل مكة
قال أبو بكر: روي عن عروة بن الزبير والزهري أنهما قالا: ليس على أهل
مكة إحصار إنما إحصارهم أن يطوفوا بالبيت وكذلك قال أصحابنا إذا أمكنهم
الوصول إلى البيت، وذلك لأنه لا يخلو من أن يكون محرما بحج أو عمرة،
فإن كان معتمرا فالعمرة إنما هي الطواف والسعي وليس بمحصر عن ذلك، وإن
كان حاجا فله أن يؤخر الخروج إلى عرفات إلى آخر وقته لو لم يكن محصرا،
فإذا فاته الوقوف فقد فاته الحج وعليه أن يتحلل بعمرة فيكون مثل
المعتمر فلا يكون محصرا; والله أعلم.
(1/340)
باب المحرم يصيبه أذى من رأسه أو مرض
قال الله تعالى: {وَلا تَحْلِقُوا رُؤُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ
الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً
مِنْ رَأْسِهِ} إلى آخر الآية، يعني والله أعلم: فمن كان منكم مريضا من
المحرمين محصرين أو غير محصرين فأصابه مرض أو أذى في رأسه ففدية من
صيام; فدل ذلك على أن المحصر لا يجوز له الحلق قبل بلوغ الهدي محله،
وأنه إذا كان مريضا أو به أذى من رأسه فحلق فعليه الفدية، وإن كان غير
محصر فهو في حكم المحصر الذي لم يبلغ هديه محله، فدل ذلك على التسوية
بين المحصرين وغير المحصرين في أن كل واحد منهم لا يجوز له الحلق في
الإحرام إلا على الشرط المذكور.
وقوله تعالى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً} عنى المرض الذي يحتاج
فيه إلى لبس أو شيء يحظره الإحرام فيفعل ذلك لدفع الأذى ويفتدي. وكذلك
قوله: {أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ} إنما هو على أذى يحتاج فيه إلى
استعمال بعض ما يحظره الإحرام من حلق أو تغطية، فأما إن كان مريضا أو
به أذى في رأسه لا يحتاج فيه إلى حلق ولا إلى استعمال بعض ما يحظره
الإحرام فهو في هذه الحال بمنزلة الصحيح في حظر ما يحظره الإحرام.
وقد روي في أخبار متظاهرة عن كعب بن عجرة: أن النبي صلى الله عليه وسلم
مر به في عام الحديبية والقمل تتناثر على وجهه، فقال: "أتؤذيك هوام
رأسك؟" فقلت: نعم، فأمره بالفدية. فكان كثرة القمل من الأذى المراد
بالآية ولو كان به قروح في رأسه أو خراج فاحتاج إلى شده أو تغطيته كان
ذلك حكمه في جواز الفدية، وكذلك سائر الأمراض التي تصيبه ويحتاج إلى
لبس الثياب جاز له أن يستبيح ذلك ويفتدي لأن الله لم يخصص شيئا من ذلك،
فهو عام في الكل.
(1/340)
باب التمتع بالعمرة إلى الحج
قال الله تعالى: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا
اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} قال أبو بكر: هذا الضرب من التمتع ينتظم
معنيين: أحدهما: الإحلال والتمتع إلى النساء، والآخر: جمع العمرة إلى
الحج في أشهر الحج; ومعناه الارتفاق بهما وترك إنشاء سفرين لهما وذلك
لأن العرب في الجاهلية كانت لا تعرف العمرة في أشهر الحج وتنكرها أشد
الإنكار، ويروى عن ابن عباس وعن طاوس أن ذلك عندهم كان من أفجر الفجور;
ولذلك رجع النبي صلى الله عليه وسلم حين أمرهم أن يحلوا بعمرة على
عادتهم كانت في ذلك، حدثنا عبد الباقي بن قانع قال: حدثنا الحسن بن
المثنى قال: حدثنا عفان قال: حدثنا وهيب قال: حدثنا عبد الله بن طاوس
عن أبيه عن ابن عباس قال: كانوا يرون العمرة في أشهر الحج من أفجر
الفجور في الأرض ويجعلون المحرم صفرا، ويقولون: إذا برئ الدبر وعفا
الأثر وانسلخ صفر حلت العمرة لمن اعتمر. فلما قدم النبي صلى الله عليه
وسلم صبيحة رابعه مهلين بالحج أمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن
يحلوا، فتعاظم ذلك عندهم قالوا: يا رسول الله أي الحل؟ قال: "الحل
كله". فمتعة الحج تنتظم هذين المعنيين: إما استباحة التمتع بالنساء
بالإحلال، وإما الارتفاق بالجمع بين العمرة والحج في أشهر الحج
والاقتصار بهما على سفر واحد بعد أن كانوا لا يستحلون ذلك في الجاهلية
ويفردون لكل واحد سفرا. ويحتمل التمتع بالعمرة إلى الحج الانتفاع بهما
بجمعهما في أشهر الحج واستحقاق الثواب بهما إذا فعلا على هذا الوجه،
فدل ذلك على زيادة نفع وفضيلة تحصل لفاعلهما.
والمتعة على أربعة أوجه: أحدها: القارن، والمحرم بعمرة في أشهر الحج
إذا حج من عامه في سفر واحد لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام،
والمحصر على قول من لا يرى له الإحلال ولكنه يمكث على إحرامه حتى يصل
إلى البيت فيتحلل من حجه بعمل العمرة بعد فوت الحج، وفسخ الحج بالعمرة.
وقد اختلف في تأويل قوله تعالى: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى
الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ
(1/343)
الْهَدْيِ} فقال ابن مسعود وعلقمة: هو عطف على قوله: {فَإِنْ
أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} يعني الحاج إذا أحصر
فحل من إحرامه بهدي أن عليه قضاء عمرة وحجة، فإن هو تمتع بهما وجمع
بينهما في أشهر الحج في سفر واحد فعليه دم آخر للتمتع، وإن اعتمر في
أشهر الحج ثم عاد إلى أهله ثم حج من عامه فلا دم عليه. قال عبد الله بن
مسعود: سفران وهدي أو هديان وسفر يعني بقوله سفران وهدي أن هذا المحصر
إن اعتمر بعد إحلال من الحج في أشهر الحج ورجع إلى أهله ثم عاد فحج من
عامه فعليه هدي واحد وهو هدي الإحصار، وذلك لأنه فعلهما في سفرين; أو
هديان وسفر، يعني إذا لم يرجع بعد العمرة في أشهر الحج إلى أهله فعليه
هدي للتمتع، والهدي الأول للإحصار، فذلك هديان وسفر. وقال ابن عباس
فيما رواه ابن جريج عن عطاء، أن ابن عباس كان يقول بجميع الآية المحصر
والمخلى سبيله، يعني قوله: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى
الْحَجِّ} قال عطاء: وإنما سميت متعة من أجل أنه اعتمر في أشهر الحج
ولم تسم متعة من أجل أنه يحل أن يتمتع إلى النساء. فكأن مذهب ابن عباس
أن الآية قد انتظمت الأمرين: من المحصرين إذا أرادوا قضاء الحج مع
العمرة التي لزمت بالفوات، ومن غير المحصرين ممن أراد التمتع بالعمرة
إلى الحج; فكان عند عبد الله بن مسعود أن ذلك لما كان معطوفا على
المحصرين فحكمه أن يكونوا هم المرادين به فيفيد إيجاب عمرة بالفوات،
ويفيد الحكم بأنه إذا جمعهما مع قضاء الحج الفائت في سفر واحد في أشهر
الحج فعليه دم، وإن فعلهما في سفرين فلا دم عليه. وليس مذهب ابن مسعود
في ذلك مخالفا لقول ابن عباس إلا أن ابن عباس قال: الآية عامة في
المحصرين وغيرهم; وهي مقيدة في المحصرين بما ذكره ابن مسعود ومقيدة في
غير المحصرين في جواز التمتع لهم وبيان حكمهم إذا تمتعوا. وقال ابن
مسعود: الآية في فحواها خاصة في المحصرين وإن كان غير المحصرين إذا
تمتعوا كانوا بمنزلتهم.
والقارن والذي يعتمر في أشهر الحج ويحج من عامه في سفر واحد متمتعان من
وجهين: أحدهما الارتفاق بالجمع بينهما في سفر واحد، والآخر: حصول فضيلة
الجمع; فيدل ذلك على أن ذلك أفضل من الإفراد بكل واحد منهما في سفر أو
تفريقهما بأن يفعل العمرة في غير أشهر الحج. وقد روي عن أصحاب النبي
صلى الله عليه وسلم في هذه المتعة روايات ظاهرها يقتضي الاختلاف في
إباحتها، وإذا حصلت كان الاختلاف في الأفضل لا في الحظر والإباحة; فممن
روي عنه النهي عن ذلك عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان وأبو ذر والضحاك بن
قيس. حدثنا جعفر بن محمد بن اليمان المؤدب قال: حدثنا أبو عبيد قال:
حدثنا ابن أبي مريم، عن مالك بن
(1/344)
أنس، عن
ابن شهاب، أن محمد بن عبد الله بن الحارث بن نوفل حدثه أنه سمع سعد بن
أبي وقاص والضحاك بن قيس عام حج معاوية وهما يتذاكران التمتع بالعمرة
إلى الحج، فقال الضحاك: لا يصنع ذلك إلا من جهل أمر الله تعالى. قال
سعد: بئس ما قلت يا ابن أخي فقال الضحاك: فإن عمر بن الخطاب قد نهى
عنه. قال سعد: صنعها رسول الله صلى الله عليه وسلم وصنعناها معه.
وحدثنا جعفر بن محمد الواسطي قال: حدثنا جعفر بن محمد بن اليمان قال:
حدثنا أبو عبيد قال: حدثنا حجاج، عن شعبة، عن قتادة قال: سمعت جري بن
كليب يقول: رأيت عثمان ينهى عن المتعة وعلي يأمر بها، فأتيت عليا فقلت:
إن بينكما لشرا أنت تأمر بها وعثمان ينهى عنها فقال: ما بيننا إلا خير،
ولكن خيرنا أتبعنا لهذا الدين. وقد روي عن عثمان أنه لم يكن ذلك منه
على وجه النهي ولكن على وجه الاختيار، وذلك لمعان أحدها: الفضيلة ليكون
الحج في أشهره المعلومة له ويكون العمرة في غيرها من الشهور، والثاني:
أنه أحب عمارة البيت وأن يكثر زواره في غيرها من الشهور، والثالث: أنه
رأى إدخال الرفق على أهل الحرم بدخول الناس إليهم فقد جاءت بهذه الوجوه
أخبار مفسرة عنه; حدثنا جعفر بن محمد المؤدب قال: حدثنا أبو الفضل جعفر
بن محمد بن اليمان المؤدب قال: حدثنا أبو عبيد قال: حدثني يحيى بن
سعيد، عن عبد الله، عن نافع، عن ابن عمر قال: قال عمر بن الخطاب: أن
تفرقوا بين الحج والعمرة فتجعلوا العمرة في غير أشهر الحج أتم لحج
أحدكم وأتم لعمرته. قال أبو عبيد: وحدثنا عبد الله بن صالح، عن الليث،
عن عقيل، عن ابن شهاب، عن سالم، عن عبد الله، عن أبيه قال: كان عمر
يقول: إن الله قال: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ}
وقال: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} فأخلصوا أشهر الحج للحج
واعتمروا فيما سواها من الشهور وذلك لأن من اعتمر في أشهر الحج لم تتم
عمرته إلا بهدي، ومن اعتمر في غير أشهر الحج تمت عمرته إلا أن يتطوع
بهدي غير واجب. فأخبر في هذا الخبر بجهة اختياره للتفريق بينهما. قال
أبو عبيد: وحدثنا أبو معاوية هشام عن عروة عن أبيه قال: إنما كره عمر
العمرة في أشهر الحج إرادة أن لا يتعطل البيت في غير أشهر الحج. فذكر
في هذا الخبر وجها آخر لاختياره التفريق بينهما. قال أبو عبيد: وحدثنا
هشيم قال: حدثنا أبو بشر عن يوسف بن ماهك قال: إنما نهى عمر عن المتعة
لمكان أهل البلد ليكون موسمان في عام فيصيبهم من منفعتهما. فذكر في هذا
الخبر أنه اختاره لمنفعة أهل البلد.
وقد روي عن عمر اختيار المتعة على غيرها; حدثنا جعفر بن محمد قال:
حدثنا جعفر بن محمد بن اليمان قال: حدثنا أبو عبيد قال: حدثنا عبد
الرحمن بن مهدي، عن سفيان، عن سلمة بن كهيل، عن طاوس، عن ابن عباس قال:
سمعت عمر يقول: "لو
(1/345)
اعتمرت ثم
اعتمرت ثم اعتمرت ثم حججت لتمتعت ففي هذا الخبر اختياره للمتعة، فثبت
بذلك أنه لم يكن ما كان منه في أمر المتعة على وجه النهي، وإنما كان
على وجه اختيار المصلحة لأهل البلد تارة ولعمارة البيت أخرى.
وبين الفقهاء خلاف في الأفضل من إفراد كل واحد منهما أو القران أو
التمتع، فقال أصحابنا: القران أفضل ثم التمتع ثم الإفراد. وقال
الشافعي: الإفراد أفضل والقران والتمتع حسنان. وقد روى عبيد الله عن
نافع عن ابن عمر: لأن أعتمر في شوال أو في ذي القعدة أو في ذي الحجة في
شهر يجب علي فيه الهدي أحب إلي من أن أعتمر في شهر لا علي فيه الهدي.
وقد روى قيس بن مسلم عن طارق بن شهاب قال: سألت ابن مسعود امرأة أرادت
أن تجمع مع حجها عمرة، فقال: أسمع الله يقول: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ
مَعْلُومَاتٌ} ما أراها إلا أشهر الحج. ولا دلالة في هذا الخبر على أنه
كان يرى الإفراد أفضل من التمتع والقران، وجائز أن يكون مراده البيان
عن الأشهر التي يصح فيها التمتع بالجمع بين الحج والعمرة. وقال علي كرم
الله وجهه: تمام العمرة أن تحرم من حيث ابتدأت من دويرة أهلك فهذا يدل
على أنه أراد التمتع والقران بأن يبدأ بالعمرة من دويرة أهله إلى الحج
لا يلم بأهله وتأوله أبو عبيد القاسم بن سلام على أنه يخرج من منزله
ناويا العمرة خالصة لا يخلطها بالحج، قال: لأنه إذا أحرم بها من دويرة
أهله كان خلاف السنة; لأن النبي صلى الله عليه وسلم قد وقت المواقيت.
وهذا تأويل ساقط; لأنه قد روي عن علي: تمامهما أن تحرم بهما من دويرة
أهلك فنص على الإحرام بهما من دويرة أهله، والذي ذكره من السنة على
خلاف ما ظن، لأن السنة إنما قضت بحظر مجاورتها إلا محرما لمن أراد دخول
مكة، فأما الإحرام بها قبل الميقات فلا خلاف بين الفقهاء فيه وروي عن
الأسود بن يزيد قال: خرجنا عمارا، فلما انصرفنا مررنا بأبي ذر فقال:
أحلقتم الشعث وقضيتم التفث أما إن العمرة من مدركم وتأوله أبو عبيد على
ما تأول عليه حديث علي. وإنما أراد أبو ذر أن الأفضل إنشاء العمرة من
أهلك كما روي عن علي تمامهما أن تحرم بهما من دويرة أهلك.
وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أخبار متواترة أنه قرن بين الحج
والعمرة; حدثنا جعفر بن محمد الواسطي قال: حدثنا جعفر بن محمد بن
اليمان قال: حدثنا أبو عبيد قال: حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن أبي
وائل، عن صبي بن معبد: أنه كان نصرانيا فأسلم، فأراد الجهاد، فقيل له:
ابدأ بالحج; فأتى أبا موسى الأشعري فأمره أن يهل بالحج والعمرة جميعا،
ففعل، فبينما هو يلبي بهما; إذ مر زيد بن صوحان وسلمان بن ربيعة فقال
أحدهما: هذا أضل من بعيره فسمعهما صبي فكبر عليه، فلما قدم على عمر بن
الخطاب
(1/346)
ذكر له
ذلك، فقال عمر: إنهما لا يقولان شيئا هديت لسنة نبيك صلى الله عليه
وسلم. قال أبو عبيد: وحدثنا ابن أبي زائدة، عن الحجاج بن أرطاة، عن
الحسن بن سعيد، عن ابن عباس قال: أنبأني أبو طلحة: "أن رسول الله صلى
الله عليه وسلم جمع بين حجة وعمرة". قال: وحدثنا أبو عبيد قال: حدثنا
الحجاج عن شعبة قال: حدثني حميد بن هلال قال: سمعت مطرف بن عبد الله بن
الشخير يقول: قال عمران بن الحصين: "إن رسول الله صلى الله عليه وسلم
جمع بين حجة وعمرة ثم لم ينه عنه حتى مات ولم ينزل قرآن بتحريمه". قال:
وحدثنا أبو عبيد قال: حدثنا هشيم قال: أخبرنا حميد عن بكر بن عبد الله
قال: سمعت أنس بن مالك يقول: "سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يلبي
بالحج والعمرة"; قال بكر: فحدثت ابن عمر بذلك قال: لبى بالحج وحده; قال
بكر: فلقيت أنس بن مالك فحدثته بقول ابن عمر، فقال: ما يعدونا إلا
صبياننا، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لبيك عمرة وحجا".
قال أبو بكر: وجائز أن يكون ابن عمر سمع النبي صلى الله عليه وسلم
يقول: "لبيك بحجة" وسمعه أنس في وقت آخر يقول: "لبيك بعمرة وحجة" وكان
قارنا، وجائز للقارن أن يقول مرة: لبيك بعمرة وحجة، وتارة. لبيك بحجة،
وأخرى: لبيك بعمرة; فليس في حديث ابن عمر نفي لما رواه أنس.
وقالت عائشة: اعتمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أربع عمر أحدها مع
حجة الوداع وروى يحيى بن أبي كثير، عن عكرمة، عن ابن عباس: سمعت عمر بن
الخطاب يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول وهو بوادي
العقيق: "أتاني الليلة آت من ربي فقال: صل في هذا الوادي المبارك وقل
حجة وعمرة". وروي "عمرة في حجة". وفي حديث جابر وغيره: أن النبي صلى
الله عليه وسلم أمر أصحابه أن يجعلوا حجهم عمرة، وقال: "لو استقبلت من
أمري ما استدبرت لما سقت الهدي ولجعلتها عمرة". وقال لعلي: "بماذا
أهللت؟" قال: بإهلال كإهلال النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "إني سقت
الهدي ولا أحل إلى يوم النحر". فلو لم يكن هديه هدي تمتع أو قران لما
منعه الإحلال لأن هدي التطوع لا وقت له يجوز ذبحه متى شاء; فدل ذلك على
أن هديه كان هدي قران، ولذلك منعه الإحلال لأنه لا يجوز ذبحه قبل يوم
النحر.
فهذه الأخبار توجب كون النبي صلى الله عليه وسلم قارنا، ورواية من روى
أنه كان مفردا غير معارض لها من وجوه: أحدها: أنها ليست في وزن الأخبار
التي فيها ذكر القران في الاستفاضة والشيوع. والثاني: أن الراوي
للإفراد أكثر ما أخبر أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "لبيك
بحجة" وذلك لا ينفي كونه قارنا; لأنه جائز للقارن أن يذكر الحج وحده
تارة وتارة العمرة وحدها وأخرى يذكرهما. والثالث: أنهما لو تساويا في
النقل والاحتمال
(1/347)
لكان خبر
الزائد أولى. وإذا ثبت بما ذكرنا أن النبي صلى الله عليه وسلم كان
قارنا، وقد قال صلى الله عليه وسلم: "خذوا عني مناسككم" فأولى الأمور
وأفضلها الاقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم فيما فعله، لا سيما
وقد قال لهم: "خذوا عني مناسككم" وقال الله تعالى: {وَاتَّبِعُوهُ}
[الأعراف: 158] وقال: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ
أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب:21] ولأنه عليه السلام لا يختار من
الأعمال إلا أفضلها. وفي ذلك دليل على أن القران أفضل من التمتع ومن
الإفراد. ويدل عليه أن فيه زيادة نسك وهو الدم لأن دم القران عندنا دم
نسك وقربة يؤكل منه كالأضحية، بدلالة قوله: {فَكُلُوا مِنْهَا
وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ
وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ}
[الحج: 29] وليس شيء من الدماء ترتب عليه هذه الأفعال إلا دم القران
والتمتع. ويدل عليه قوله: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى
الْحَجِّ}. وقد بينا أن التمتع يجوز أن يكون اسما للحج للنفع الذي يحصل
له بجمعه بينهما والفضيلة التي يستحقها به، ويجوز أن يكون اسما
للارتفاق بالجمع من غير إحداث سفر آخر، وهو عليهما جميعا، فجائز أن
يكون المعنيان جميعا مرادين بالآية، فينتظم القارن والمتمتع من وجهين:
أحدهما: الفضيلة الحاصلة بالجمع، والثاني: الارتفاق بالجمع من غير
إحداث سفر ثان.
وهذه المتعة مخصوص بها من لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام، لقوله:
{ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ}
ومن كان وطنه المواقيت فما دونها إلى مكة فليس له متعة ولا قران وهو
قول أصحابنا فإن قرن أو تمتع فهو مخطئ وعليه دم ولا يأكل منه; لأنه ليس
بدم متعة وإنما هو دم جناية; إذ لا متعة لمن كان من أهل هذه المواضع
لقوله: {ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ
الْحَرَامِ}. وقد روي عن ابن عمر أنه قال: إنما التمتع رخصة لمن لم يكن
أهله حاضري المسجد الحرام. وقال بعضهم: إنما معنى ذلك لمن لم يكن أهله
حاضري المسجد الحرام لا دم عليهم إذا تمتعوا، ومع ذلك فلهم أن يتمتعوا
بلا هدي. فظاهر الآية يوجب خلاف ما قالوه; لأنه تعالى قال: {ذَلِكَ
لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} والمراد
المتعة، ولو كان المراد الهدي لقال: ذلك على من لم يكن أهله حاضري
المسجد الحرام. فإن قيل: يجوز أن يكون معنى ذلك: على من لم يكن أهله
حاضري المسجد الحرام; لأن اللام قد تقام مقام على كما قال تعالى:
{لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ} [الرعد: 25] ومعناه:
وعليهم اللعنة. قيل له: لا يجوز إزالة اللفظ عن حقيقته وصرفه إلى
المجاز إلا بدلالة، ولكل واحدة من هذه الأدوات معنى هي موضوعة له حقيقة
فـ"على" حقيقتها خلاف حقيقة "اللام" فغير جائز حملها عليها إلا بدلالة،
وأيضا فإن التمتع لأهل سائر
(1/348)
الآفاق
إنما هو تخفيف من الله تعالى وإزالة المشقة عنهم في إنشاء سفر لكل واحد
منهما وأباح لهم الاقتصار على سفر واحد في جمعهما جميعا; إذ لو منعوا
عن ذلك لأدى ذلك إلى مشقة وضرر، وأهل مكة لا مشقة عليهم ولا ضرر في فعل
العمرة في غير أشهر الحج.
ويدل عليه أن اسم التمتع يقتضي الارتفاق بالجمع بينهما وإسقاط تجديد
سفر العمرة على ما روي من تأويله عمن قدمنا قوله، وهو مشبه لمن أوجب
على نفسه المشي إلى بيت الله الحرام، فإن ركب لزمه دم لارتفاقه
بالركوب، غير أن هذا الدم لا يؤكل منه ودم المتعة يؤكل منه; فاختلافهما
من هذا الوجه لا يمنع اتفاقهما من الوجه الذي ذكرنا. وقد حكي عن طاوس
أنه قال: ليس على أهل مكة متعة فإن فعلوا وحجوا فعليهم ما على الناس
وجائز أن يريد به أن عليهم الهدي ويكون هدي جناية لا نسكا. واتفق أهل
العلم السلف منهم والخلف أنه إنما يكون متمتعا بأن يعتمر في شهر الحج
ويحج من عامه ذلك، ولو أنه اعتمر في هذه السنة ولم يحج فيها وحج في عام
قابل أنه غير متمتع ولا هدي عليه.
واختلف أهل العلم في من اعتمر في أشهر الحج ثم رجع إلى أهله وعاد فحج
من عامه، فقال أكثرهم: إنه ليس بمتمتع، منهم سعيد بن المسيب وعطاء
وطاوس ومجاهد وإبراهيم والحسن في إحدى الروايتين، وهو قول أصحابنا
وعامة الفقهاء. وروى أشعث عن الحسن أنه قال: من اعتمر في أشهر الحج ثم
حج من عامه فهو متمتع رجع أو لم يرجع. ويدل على صحة القول الأول أن
الله تعالى خص أهل مكة بأن لم يجعل لهم متعة وجعلها لسائر أهل الآفاق،
وكان المعنى فيه إلمامهم بأهاليهم بعد العمرة مع جواز الإحلال منها،
وذلك موجود في من رجع إلى أهله لأنه قد حصل له إلمام بأهله بعد العمرة
فكان بمنزلة أهل مكة. وأيضا فإن الله جعل على المتمتع الدم بدلا من أحد
السفرين اللذين اقتصر على أحدهما، فإذا فعلهما جميعا لم يكن الدم قائما
مقام شيء، فلا يجب.
واختلفوا أيضا فيمن لم يرجع إلى أهله وخرج من مكة حتى جاوز الميقات،
فقال أبو حنيفة: هو متمتع إن حج من عامه ذلك لأنه إذا لم يحصل له إلمام
بأهله بعد العمرة فهو بمنزلة كونه بمكة. وروي عن أبي يوسف أنه ليس
بمتمتع لأن ميقاته الآن في الحج ميقات أهل بلد لأن الميقات قد صار بينه
وبين أهل مكة فصار بمنزلة عوده إلى أهله. والصحيح هو الأول لما بينا.
واختلف أهل العلم فيمن ينشئ العمرة في رمضان ويدخل مكة في شوال أو
قبله، فروى قتادة عن أبي عياض قال: "عمرته في الشهر الذي يهل فيه".
وقال الحسن
(1/349)
والحكم:
عمرته في الشهر الذي يحل فيه وروي عن إبراهيم مثله. وقال عطاء وطاوس:
عمرته في الشهر الذي دخل فيه الحرم وروي عن الحسن وإبراهيم رواية أخرى،
قالا: عمرته في الشهر الذي يطوف فيه وهو قول مجاهد، وكذلك قال أصحابنا:
إنه يعتبر الطواف، فإن فعل أكثر الطواف في رمضان فهو غير متمتع، وإن
فعل أكثره في شوال فهو متمتع وذلك لأن من أصلهم أن فعل الأكثر بمنزلة
الكل في باب امتناع ورود الفساد عليها، فإذا تمت عمرته في رمضان فهو
غير جامع بينهما في أشهر الحج وبقاء الإحرام لا حكم له، ألا ترى أنه لو
أحرم بعمرة فأفسدها ثم حل منها ثم حج من عامه لم يكن متمتعا؟ لأن
العمرة لم تتم في أشهر الحج مع اجتماع إحراميهما في أشهر الحج، وكذلك
لو قرن ثم وقف بعرفات قبل أن يطوف لعمرته لم يكن متمتعا، فلا اعتبار
إذا باجتماع الإحرامين في أشهر الحج، وإنما الواجب اعتبار فعل العمرة
مع الحج في أشهر الحج. وكذلك قول من قال عمرته في الشهر الذي يهل فيه
لا معنى له، لما بينا من سقوط اعتبار الإحرام دون أفعالها، والله أعلم
بالصواب.
(1/350)
باب ذكر اختلاف أهل العلم في حاضري المسجد الحرام
قال أبو بكر: اختلف الناس في ذلك على أربعة أوجه: فقال عطاء ومكحول: من
دون المواقيت إلى مكة وهو قول أصحابنا، إلا أن أصحابنا يقولون: أهل
المواقيت بمنزلة من دونها. وقال ابن عباس ومجاهد هم أهل الحرم وقال
الحسن وطاوس ونافع وعبد الرحمن الأعرج هم أهل مكة وهو قول مالك بن أنس.
وقال الشافعي هم من كان أهله دون ليلتين وهو حينئذ أقرب المواقيت، وما
كان وراءه فعليهم المتعة.
قال أبو بكر: لما كان أهل المواقيت فمن دونها إلى مكة لهم أن يدخلوها
بغير إحرام، وجب أن يكونوا بمنزلة أهل مكة، ألا ترى أن من خرج من مكة
فما لم يجاوز الميقات فله الرجوع ودخولها بغير إحرام وكان تصرفهم في
الميقات فما دونه بمنزلة تصرفهم في مكة؟ فوجب أن يكونوا بمنزلة أهل مكة
في حكم المتعة. ويدل على أن الحرم وما قرب منه أهله من حاضري المسجد
الحرام قوله تعالى: {إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ
الْحَرَامِ} [التوبة: 7] وليس أهل مكة منهم; لأنهم كانوا قد أسلموا حين
فتحت، فإنما نزلت الآية بعد الفتح في حجة أبي بكر وهم بنو مدلج وبنو
الدئل، وكانت منازلهم خارج مكة في الحرم وما قرب منه.
فإن قيل: كيف يكون أهل ذي الحليفة من حاضري المسجد الحرام وبينهم
وبينها
(1/350)
مسيرة عشر
ليال؟ قيل له: إنهم وإن لم يكونوا من حاضري المسجد الحرام فهم في حكمهم
في باب جواز دخولهم مكة بغير إحرام، وفي باب أنهم متى أرادوا الإحرام
أحرموا من منازلهم، كما أن أهل مكة إذا أرادوا الإحرام أحرموا من
منازلهم; فيدل ذلك على أن المعنى حاضرو المسجد الحرام ومن في حكمهم;
وقال الله عز وجل في شأن البدن: {ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ
الْعَتِيقِ} [الحج: 33] وقال عليه السلام: "منى منحر وفجاج مكة منحر".
فكان مراد الله تعالى بذكر البيت ما قرب من مكة وإن كان خارجا منها.
وقال تعالى: {وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ
سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ} [الحج: 25] وهي مكة وما قرب
منها. فهاتان المتعتان قد بينا حكمهما، وهما القران والتمتع. وأما
المتعة الثالثة فإنها على قول عبد الله بن الزبير وعروة بن الزبير أن
يحصر الحاج المفرد بمرض أو أمر يحبسه فيقدم فيجعلها عمرة ويتمتع بحجة
إلى العام المقبل ويحج، فهذا المتمتع بالعمرة إلى الحج; فكان من مذهبه
أن المحصر لا يحل ولكنه يبقى على إحرامه حتى يذبح عنه الهدي يوم النحر
يوم يحلق، ويبقى على إحرامه حتى يقدم مكة فيتحلل من حجه بعمل عمرة.
وهذا خلاف قول الله تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ
لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} ثم
قال: {وَلا تَحْلِقُوا رُؤُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ
مَحِلَّهُ} ولم يفرق بين الحج والعمرة فيما أباح من الإحلال بالحلق،
ولا خلاف أن هذا الحلق للإحلال من العمرة فكذلك الحج; والنبي صلى الله
عليه وسلم وأصحابه حين أحصروا بالحديبية حلق هو وحل وأمرهم بالإحلال.
ومع ذلك فإن عمل العمرة الذي يلزم بالفوات ليس بعمرة وإنما هو عمل عمرة
مفعول بإحرام الحج، والله سبحانه إنما قال: {فَمَنْ تَمَتَّعَ
بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ} وليس الذي يفوته الحج بالمعتمر، وأيضا
فإنه قال: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا
اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} وهو إنما أوجب عليه الهدي ليصل به إلى
الحلق يوم النحر، سواء حج بعد ذلك أو لم يحج، ألا ترى أنه لو لم يحج
إلا بعد عشر سنين لكان الهدي قائما؟ فدل ذلك على أن المتمتع المذكور في
الآية ليس هو ما ذهب إليه ابن الزبير; لأن ما في الآية من ذلك إنما
يتعلق الهدي فيه بفعل العمرة والحج، والدم الذي يلزمه بالإحصار غير
متعلق بوجود الحج بعد العمرة. وهذه المتعة هي الإحلال إلى النساء، إلا
على الوجه الذي ذكرناه من الجمع بين العمرة والحج في أشهر الحج. وأما
المتعة الرابعة فهي فسخ الحاج إذا طاف له قبل يوم النحر; وما نعلم أحدا
من الصحابة قال بذلك غير ابن عباس فإنه حدثنا جعفر بن محمد الواسطي
قال: حدثنا جعفر بن محمد بن اليمان قال: حدثنا أبو عبيد قال: حدثنا
يحيى بن سعيد عن ابن جريج قال: أخبرني عطاء عن ابن عباس قال: "لا يطوف
بالبيت أحد إلا أحل" قال: قلت: إنما هذا بعد المعرف، قال: كان ابن عباس
يراه قبل وبعد، قال: قلت: من أين كان يأخذ هذا؟
(1/351)
فقال: من
أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع، أمرهم أن يحلوا، ومن
قول الله: {ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج: 33].
قال أبو عبيد: وحدثنا حجاج عن شعبة عن قتادة قال: سمعت أبا حسان الأعرج
يقول: قال رجل لابن عباس: ما هذه الفتيا التي قد شعبت الناس يعني: فرقت
بينهم في الفتيا أنه من طاف فقد حل؟ فقال: "سنة نبيكم صلى الله عليه
وسلم وإن رغمتم".
قال أبو بكر: وقد وردت آثار متواترة في أمر النبي صلى الله عليه وسلم
أصحابه في حجة الوداع بفسخ الحج، ولم يكن معه منهم هدي ولم يحل هو عليه
السلام وقال: "إني سقت الهدي ولا أحل إلى يوم النحر". ثم أمرهم فأحرموا
بالحج يوم التروية حين أرادوا الخروج إلى منى; وهي إحدى المتعتين
اللتين قال عمر بن الخطاب: متعتان كانتا على عهد رسول الله صلى الله
عليه وسلم أنا أنهى عنهما وأضرب عليهما متعة الحج، ومتعة النساء. وقال
طارق بن شهاب عن أبي موسى في قصة نهي عمر بن الخطاب عن هذه المتعة قال:
فقلت يا أمير المؤمنين ما هذا الذي أحدثت في شأن النساء؟ فقال: إن نأخذ
بكتاب الله فإن الله يقول: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ
لِلَّهِ} وإن نأخذ بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه عليه السلام
ما حل حتى نحر الهدي. فأخبر عمر أن هذه المتعة منسوخة بقوله:
{وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} وهذا من قوله يدل على
جواز نسخ السنة بالقرآن. وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أن ذلك
كان خاصا لأولئك; حدثنا جعفر بن محمد الواسطي قال: حدثنا جعفر بن محمد
بن اليمان قال: حدثنا أبو عبيد قال: حدثنا نعيم عن عبد العزيز بن محمد،
عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن، عن الحارث بن بلال بن الحارث، عن أبيه
بلال بن الحارث المزني قال قلت يا رسول الله فسخ الحج لنا أو لمن
بعدنا؟ قال: "لا بل لنا خاصة". وقال أبو ذر: لم يكن فسخ الحج بعمرة إلا
لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. وروي عن علي وعثمان وجماعة من
الصحابة إنكار فسخ الحج بعد النبي صلى الله عليه وسلم. وفي قول عمر
"متعتان كانتا على عهد رسول الله". وعلم الصحابة بها ما يوجب أن يكونوا
قد علموا من نسخها مثل علمه، لولا ذلك ما أقروه على النهي عن سنة النبي
عليه السلام وعلم الصحابة من غير ثبوت النسخ. وقد روي عن جابر من طرق
صحيحة أن سراقة بن مالك قال: يا رسول الله أعمرتنا هذه لعامنا أم
للأبد؟ فقال: "هي لأبد الأبد، دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة"
فأخبر في هذا الحديث أن العمرة التي فسخوا بها الحج كانت خاصة في تلك
الحال، وأن مثلها لا يكون. وأما قوله: "دخلت العمرة في الحج إلى يوم
القيامة" فإنه مما حدثنا به جعفر بن محمد الواسطي قال: حدثنا جعفر بن
محمد بن اليمان قال: حدثنا أبو عبيد قال: حدثنا يحيى بن سعيد، عن جعفر
بن محمد، عن أبيه، عن جابر، عن
(1/352)
النبي صلى
الله عليه وسلم. قال أبو عبيد: وقوله: "دخلت العمرة في الحج إلى يوم
القيامة". يفسر تفسيرين: أحدهما: أن يكون دخول العمرة في الحج هو الفسخ
بعينه، وذلك أنه يهل الرجل بالحج ثم يحل منه بعمرة إذا طاف بالبيت.
والآخر: أن يكون دخول العمرة في الحج هو المتعة نفسه، وذلك أن يفرد
الرجل العمرة في أشهر الحج ثم يحل منها بحج من عامه. قال أبو بكر: وكلا
الوجهين ملبس غير لائق باللفظ، والذي يقتضيه ظاهره أن الحج نائب عن
العمرة والعمرة داخلة فيه، فمن فعل الحج فقد كفاه عن العمرة، كما تقول
الواحد داخل في العشرة يعني أن العشرة مغنية عنه وموفية عليه فلا يحتاج
إلى استئناف حكمه ولا ذكره. وقد قيل في أمر النبي صلى الله عليه وسلم
أصحابه بالإحلال معنى آخر، وهو ما رواه عمر بن ذر عن مجاهد في قصة
إحلال النبي صلى الله عليه وسلم وقال في آخره: قلت لمجاهد: أكانوا
فرضوا الحج وأمرهم أن يهلوا أو ينتظرون ما يؤمرون به؟ قال: أهلوا
بإهلال النبي صلى الله عليه وسلم وانتظروا ما يؤمرون به. وكذلك قال كل
واحد من علي وأبي موسى: أهللت بإهلال كإهلال النبي صلى الله عليه وسلم.
وكذلك كان إحرام النبي صلى الله عليه وسلم بديا. ويدل عليه قوله: "لو
استقبلت من أمري ما استدبرت ما سقت الهدي ولجعلتها عمرة" فكأنه خرج
ينتظر ما يؤمر به، وبه أمر أصحابه. ويدل عليه قوله: "أتاني آت من ربي
في هذا الوادي المبارك وهو وادي العقيق فقال: صل في هذا الوادي المبارك
وقل حجة في عمرة" فهذا يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج ينتظر
ما يؤمر به، فلما بلغ الوادي أمر بحجة في عمرة; ثم أهل أصحاب النبي صلى
الله عليه وسلم بالحج وظنوا أن النبي صلى الله عليه وسلم أحرم بذلك،
فجاز لهم مثله، فلما أحرم منهم من أحرم بالحج لم يكن إحرامه صحيحا وكان
موقوفا كما كان إحرام علي وأبي موسى موقوفا. ونزل الوحي وأمروا بالمتعة
بأن يطوفوا بالبيت ويحلوا ويعملوا عمل العمرة ويحرموا بالحج، كما يؤمر
من يحرم بشيء لا يسميه أنه يجعله عمرة إن شاء، وإن لم تكن تسميتهم الحج
تسمية صحيحة; إذ كانوا مأمورين بانتظار أمر النبي صلى الله عليه وسلم
فكان وجه الخصوص لأولئك الصحابة أنهم أحرموا بالحج ولم يصح تعيينهم له،
فكانوا بمنزلة من أحرم بشيء بعينه لزمه حكمه وليس له صرفه إلى غيره.
وقد أنكر قوم أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم أمر بفسخ الحج على حال،
واحتجوا بما روى زيد بن هارون قال: حدثنا محمد بن عمر عن يحيى بن عبد
الرحمن بن حاطب أن عائشة قالت: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم
أنواعا، فمنا من أهل بحج مفردا ومنا من أهل بعمرة ومنا من أهل بحج
وعمرة، فمن أهل بالحج مفردا لم يحل مما أحرم عليه حتى يقضي مناسك الحج.
ومن أهل بعمرة فطاف بالبيت وسعى بين الصفا والمروة وحل من حرمه
(1/353)
حتى
يستقبل حجا. وحدثنا جعفر بن محمد الواسطي قال: حدثنا جعفر بن محمد بن
اليمان قال: حدثني أبو عبيد قال: حدثني عبد الرحمن بن مهدي، عن مالك بن
أنس، عن أبي الأسود، عن عروة، عن عائشة قالت: خرجنا مع رسول الله صلى
الله عليه وسلم فمنا من أهل بالحج ومنا من أهل بالحج والعمرة ومنا من
أهل بالعمرة قالت: وأهل رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحج; فأما من
أهل بالعمرة فطاف بالبيت وسعى وأحل، وأما من أهل بالحج أو بالحج
والعمرة فلم يحل إلى يوم النحر. قال: وحدثنا أبو عبيد قال: حدثني عبد
الرحمن، عن مالك، عن أبي الأسود، عن سليمان بن يسار، مثل ذلك، إلا أنه
لم يذكر إهلال النبي صلى الله عليه وسلم.
وقد روي عن عائشة خلاف ذلك; حدثنا جعفر بن محمد قال: حدثنا جعفر بن
محمد بن اليمان قال: حدثنا أبو عبيد قال: حدثنا يزيد عن يحيى بن سعيد:
أن عمرة بنت عبد الرحمن أخبرته أنها سمعت عائشة تقول: خرجنا مع رسول
الله صلى الله عليه وسلم لخمس بقين من ذي القعدة ونحن لا نرى إلا الحج،
فلما قربنا أو دنونا أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم من لم يكن معه
هدي أن يجعلها عمرة. قالت: فأحل الناس كلهم إلا من كان معه هدي. قال:
وحدثنا أبو عبيد قال: حدثنا ابن صالح، عن الليث، عن يحيى بن سعيد، عن
عمرة، عن عائشة، عن النبي صلى الله عليه وسلم مثل ذلك، وزاد فيه: قال
يحيى: فذكرت ذلك للقاسم بن محمد، فقال: جاءتك بالحديث على وجهه. وهذا
هو الصحيح لما ورد فيه من الآثار المتواترة في أمر النبي صلى الله عليه
وسلم أصحابه بفسخ الحج، وقول عمر بحضرة الصحابة متعتان كانتا على عهد
رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا أنهى عنهما وأضرب عليهما متعة النساء
ومتعة الحج وهو يعني هذه المتعة، فلم يظهر من أحد منهم إنكاره ولا
الخلاف عليه.
ولو تعارضت أخبار عائشة لكان سبيلها أن تسقط كأنه لم يرو عنها شيء
وتبقى الأخبار الأخر في أمر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه بفسخ الحج
من غير معارض، ويكون منسوخا بقوله: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ
وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} على ما روي عن عمر رضي الله عنه.
قوله: {فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} قال أبو بكر: الهدي المذكور
ههنا مثل الهدي المذكور للإحصار; وقد بينا أن أدناه شاة، وأن من شاء
جعله بقرة أو بعيرا فيكون أفضل. وهذا الهدي لا يجزي إلا يوم النحر،
لقوله تعالى: {فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ
ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا
بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج: 28 – 29] وقضاء التفث وطواف الزيارة لا
يكون قبل يوم النحر ولما رتب هذه الأفعال على ذبح هذه البدن دل على
أنها بدن القران والتمتع، لاتفاق الجميع على أن سائر الهدايا لا تترتب
عليها هذه الأفعال وأن له أن ينحرها متى شاء، فثبت أن هدي المتعة غير
مجزئ
(1/354)
قبل يوم
النحر، ويدل عليه أيضا قوله عليه السلام: "لو استقبلت من أمري ما
استدبرت ما سقت الهدي ولجعلتها عمرة" وقد كان عليه السلام قارنا، وقد
ساق الهدي وأخبر أنه لو استقبل من أمره ما استدبر ما ساق الهدي، ولو
جاز ذبح هدي المتعة قبل يوم النحر لذبحه وحل كما أمر أصحابه، وكان لا
يكون مستدركا في المستدبر شيئا قد فاته. وقال لعلي حين قال أهللت
بإهلال كإهلال النبي صلى الله عليه وسلم: "إني سقت الهدي وإني لا أحل
إلى يوم النحر" ويدل عليه قوله عليه السلام: "خذوا عني مناسككم" وهو
عليه السلام نحر بدنة يوم النحر فلزم اتباعه ولم يجز تقديمه على وقته.
والله سبحانه وتعالى أعلم.
(1/355)
باب صوم التمتع
قال الله تعالى: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي
الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ} قال أبو بكر: قد اختلف في معنى
قوله: {فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ} فروي عن علي أنه قبل
يوم التروية بيوم ويوم التروية ويوم عرفة. وقالت عائشة وابن عمر: من
حين أهل بالحج إلى يوم عرفة قال ابن عمر: ولا يصومهن حتى يحرم قال
عطاء: يصومهن في العشر حلالا إن شاء وهو قول طاوس; وقالا: لا يصومهن
قبل أن يعتمر قال عطاء: وإنما يؤخرهن إلى العشر لأنه لا يدري عسى يتيسر
له الهدي. قال أبو بكر: هذا يدل على أن ذلك عندهما على جهة الاستحباب
لا على جهة الإيجاب، فيكون بمنزلة استحبابنا لمن لا يجد الماء تأخير
التيمم إلى آخر الوقت إذا رجا وجود الماء. وقول علي وعطاء وطاوس يدل
على جواز صومهن في العشر حلالا أو حراما، لأنهم لم يفرقوا بين ذلك;
وأصحابنا يجيزون صومهن بعد إحرامه بالعمرة ولا يجيزونه قبل ذلك، وذلك
لأن الإحرام بالعمرة هو سبب التمتع، قال الله: {فَمَنْ تَمَتَّعَ
بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ} فمتى وجد السبب جاز تقديمه على وقت
الوجوب، كتعجيل الزكاة لوجود النصاب وتعجيل كفارة القتل لوجود الجراحة.
ويدل على جواز تقديمه قبل وقت وجوبه لوجود سببه، أنا قد علمنا أن وجوب
الهدي متعلق بوجوب تمام الحج، وذلك إنما يكون بالوقوف بعرفة; لأن قبل
ذلك يجوز ورود الفساد عليه فلا يكون الهدي واجبا عليه. وإذا كان كذلك
وقد جاز عند الجميع صوم ثلاثة أيام بعد الإحرام بالحج وإن لم يكن
الإحرام به موجبا له; إذ كان وجوبه متعلقا بتمام الحج والعمرة جميعا،
ثبت جوازه بعد وجود سببه وهو العمرة، ولا فرق بين إحرام الحج وإحرام
العمرة إذا فعله بعد إحرام الحج، إنما هو لأجل وجود سببه وذلك موجود
بعد إحرام العمرة.
فإن قيل: لو كان ما ذكرت سببا للجواز لوجب أن يجوز السبعة أيضا لوجود
(1/355)
السبب.
قيل له: لو لزمنا ذلك على قولنا في جوازه بعد إحرام العمرة للزمك مثله
في إجازتك له بعد إحرام الحج; لأنك تجيز صوم الثلاثة الأيام بعد إحرام
الحج ولا تجيز السبعة.
فإن قيل: فإذا كان الصيام بدلا من الهدي والهدي لا يجوز ذبحه قبل يوم
النحر فكيف جاز الصوم؟ قيل له: لا خلاف في جواز الصوم قبل يوم النحر،
وقد ثبت بالسنة امتناع جواز ذبح الهدي قبل يوم النحر، وأحدهما ثابت
بالاتفاق وبدليل قوله: {فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ}
والآخر ثابت بالسنة، فالاعتراض عليهما بالنظر ساقط. وأيضا فإن الصوم
يقع مراعى منتظر به شيئان: أحدهما: إتمام العمرة والحج في أشهر الحج،
والثاني: أن لا يجد الهدي حتى يحل; فإذا وجد المعنيان صح الصوم عن
المتعة، وإذا عدم أحدهما بطل أن يكون صوم المتعة وصار تطوعا. وأما
الهدي فقد رتب عليه أفعال أخر من حلق وقضاء التفث وطواف الزيارة، فلذلك
اختص بيوم النحر.
فإن قيل: قال الله: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ
فِي الْحَجِّ} فلا يجوز تقديمه على الحج قيل له: لا يخلو قوله:
{فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ} من أحد معان: إما أن يريد
به في الأفعال التي هي عمدة للحج، وما سماه النبي صلى الله عليه وسلم
حجا وهو الوقوف بعرفة; لأنه قال: "الحج عرفة". أو أن يريد في إحرام
الحج أو في أشهر الحج; لأن الله تعالى قال: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ
مَعْلُومَاتٌ} وغير جائز أن يكون المراد فعل الحج الذي لا يصح إلا به
لأن ذلك إنما هو يوم عرفة بعد الزوال ويستحيل صوم الثلاثة الأيام فيه،
ومع ذلك فلا خلاف في جوازه قبل يوم عرفة; فبطل هذا الوجه وبقي من وجوه
الاحتمال في إحرام الحج أو في أشهر الحج، وظاهره يقتضي جواز فعله بوجود
أيهما كان لمطابقته اللفظ في الآية. وأيضا قوله: {فَصِيَامُ ثَلاثَةِ
أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ} معلوم أن جوازه معلق بوجود سببه لا بوجوبه،
فإذا كان هذا المعنى موجودا عند إحرامه بالعمرة وجب أن يجزئ ولا يكون
ذلك خلاف الآية، كما أن قوله: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً
فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} [النساء: 92] لا يمنع جواز تقديمها
على القتل لوجود الجراحة، وكذلك قوله: "لا زكاة في مال حتى يحول عليه
الحول" لم يمنع جواز تعجيلها لوجود سببها وهو النصاب، فكذلك قوله:
{فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ} غير مانع جواز تعجيله لأجل
وجود سببه الذي به جاز فعله في الحج.
فإن قيل: لم نجد بدلا يجوز تقديمه على وقت المبدل عنه، ولما كان الصوم
بدلا من الهدي لم يجز تقديمه عليه. قيل له: هذا اعتراض على الآية لأن
نص التنزيل قد أجاز ذلك في الحج قبل يوم النحر، وأيضا فإنا لم نجد ذلك
فيما تقدم البدل كله على
(1/356)
وقت
المبدل عنه، وهاهنا إنما جاز تقديم بعض الصيام على وقت الهدي وهو صوم
الثلاثة الأيام، والسبعة التي معها غير جائز تقديمها عليه لأنه تعالى
قال: {وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ} فإنما أجيز له من ذلك مقدار ما يحل
به يوم النحر إذا لم يجد الهدي. وأيضا فإن الصوم لما كان بدلا من الهدي
وهدي العمرة يصح إيجابه بعد إحرام العمرة ويتعلق به حكم التمتع في باب
المنع من الإحلال إلى أن يذبحه، فكذلك يجوز الصيام بدلا منه من حيث صح
هديا للمتعة، ويدل أيضا على صحة كونه عن المتعة أنه متى بعث بهدي
المتعة ثم خرج يريد الإحرام أنه يصير محرما قبل أن يلحقه، فدل ذلك على
صحة هدي المتعة بالسوق، فكذلك يصح الصوم بدلا منه إذا لم يجد.
فإن قيل فقد يصح هديا قبل أن يحرم بالعمرة ولا يجوز الصوم في تلك
الحال. قيل له قبل إحرام المتعة لم يتعلق به حكم المتعة، والدليل على
ذلك أنه لا تأثير له في هذه الحال في حكم الإحرام ووجوده وعدمه سواء،
فلم يصح الصوم معه قبل إحرام العمرة، فإذا أحرم بعمرة ثبت لها حكم
الهدي في منعه الإحلال، فلذلك جاز الصوم في تلك الحال كما صح هديا
للمتعة. ويدل على جواز تقديم الصوم على إحرام الحج أن سنة المتمتع أن
يحرم بالحج يوم التروية، وبذلك أمر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه
حين أحلوا من إحرامهم بعمرة، ولا يكون إلا وقد تقدم الصوم قبل ذلك.
(1/357)
باب المتمتع إذا لم يصم قبل يوم النحر
قال الله تعالى: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي
الْحَجِّ} واختلف السلف فيمن لم يجد الهدي ولم يصم الأيام الثلاثة قبل
يوم النحر، فقال عمر بن الخطاب وابن عباس وسعيد بن جبير وإبراهيم
وطاوس: لا يجزيه إلا الهدي وهو قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد. وقال
ابن عمر وعائشة: يصوم أيام منى وهو قول مالك. وقال علي بن أبي طالب:
يصوم بعد أيام التشريق وهو قول الشافعي.
قال أبو بكر: قد ثبت عن النبي عليه السلام النهي عن صوم يوم الفطر ويوم
النحر وأيام التشريق في أخبار متواترة مستفيضة، واتفق الفقهاء على
استعمالها، وأنه غير جائز لأحد أن يصوم هذه الأيام عن غير صوم المتعة
لا من فرض ولا من نفل، فلم يجز صومها عن المتعة لعموم النهي عن الجميع.
ولما اتفقوا على أنه لا يجوز أن يصوم يوم النحر وهو من أيام الحج للنهي
الوارد فيه، كذلك لا يجوز الصوم أيام منى، ولما لم يجز أن يصومهن عن
قضاء رمضان لقوله: {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} وكان الحظر
المذكور في هذه الأخبار قاضيا على إطلاق الآية موجبا لتخصيص القضاء في
غيرها، وجب أن يكون ذلك
(1/357)
حكم صوم
التمتع، وأن يكون قوله تعالى: {فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي
الْحَجِّ} في غير هذه الأيام. قال أبو بكر: وأيضا لما قال: {فَصِيَامُ
ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ} ولم يكن صوم هذه الأيام في الحج لأن
الحج فائت في هذا الوقت، لم يجز أن يصومها.
فإن قيل: لما قال: {فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ} وهذه من
أيام الحج، وجب أن يجوز صومهن فيها. قيل له: لا يجب ذلك من وجوه: أحدها
أن نهي النبي عليه السلام عن صوم هذه الأيام قاض عليه ومخصص له كما خص
قوله تعالى: {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} نهيه عن صيام هذه
الأيام. والثاني: أنه لو كان جائزا لا أنه من أيام الحج لوجب أن يكون
صوم يوم النحر أجوز لأنه أخص بأفعال الحج من هذه الأيام. والثالث: أن
النبي صلى الله عليه وسلم خص يوم عرفة بالحج بقوله: "الحج عرفة" فقوله:
{فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ} يقتضي أن يكون آخرها يوم
عرفة. والرابع: أنه روي أن يوم الحج الأكبر يوم عرفة. وروي أنه يوم
النحر; وقد اتفقوا أنه لا يصوم يوم النحر مع أنه يوم الحج، فما لم يسم
يوم الحج من الأيام المنهي عن صومها أحرى أن لا يصوم فيها; وأيضا فإن
الذي يبقى بعد يوم النحر، إنما هو من توابع الحج، وهو رمي الجمار، فلا
اعتبار به في ذلك، فليس هو إذا من أيام الحج، فلا يكون صومها صوما في
الحج. وأما القول في صومها بعد أيام منى، فإن أصحابنا لم يجيزوه لقوله
تعالى: {فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ
فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ} فجعل أصل الفرض هو الهدي
ونقله إلى صوم مقيد بصفة وقد فات، فوجب أن يكون الواجب هو الهدي،
كقوله: {فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ} [النساء: 92] وقوله:
{فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ}، فغير جائز وقوعها عن الكفارة إلا
على الصفة المشروطة.
فإن قيل: أكثر ما فيه إيجاب فعله في وقت، فلا يسقطه فواته، كقوله
تعالى: {أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} [الإسراء: 78] و
{حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى} [البقرة: 238]
وقوله: {وَقُرْآنَ الْفَجْرِ} وما جرى مجرى ذلك من الفروض المخصوصة
بأوقاتها ثم لم يكن فواتها مسقطا لها. فالجواب عن هذا من وجهين:
أحدهما: أن كل فرض مخصوص بوقت فإن فوات الوقت يسقطه، وإنما يحتاج إلى
دلالة أخرى في إيجاب فرض آخر لأن المفروض في هذا الوقت الثاني هو غير
المفروض في الوقت الأول، ولولا قول النبي عليه السلام: "من نام عن صلاة
أو نسيها فليصلها إذا ذكرها" لما وجب قضاء الصلوات إذا فاتت عن
أوقاتها، وكذلك لولا قوله: {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} لما وجب
قضاء صوم رمضان بعد فواته عن وقته، ولما كان صوم الثلاثة الأيام مخصوصا
بوقت ومعقودا بصفة وهو فعله في الحج ثم لم يفعله على الصفة المشروطة
وفي الوقت المخصوص به لم يجز إيجاب قضائه وإقامة غيره مقامه إلا
بتوقيف. والثاني: أن صوم
(1/358)
الثلاثة
الأيام جعل بدلا من الهدي عند عدمه بهذه الشريطة، فغير جائز إثباته
بدلا إلا على هذا الوصف، ألا ترى أن التيمم لما كان بدلا عن الماء لم
يجز لنا أن نقيم غير التراب مقام التراب عند عدمه مثل الدقيق والأشنان
ونحوهما؟ كذلك لما جعل الصوم بدلا عن الهدي على أن يفعله على صفة، لا
يجوز أن نقيم مقامه صوما غيره على غير تلك الصفة; وليس كذلك حكم
الصلوات الفوائت; لأنا لم نقم القضاء بدلا منها عند عدمها وإنما هي
فروض ألزمها عند الفوات.
فإن قيل شرط الله تعالى صوم الظهار قبل المسيس فإن مسها لم ينتقل إلى
العتق، كذلك صوم هذه الأيام وإن كان مشروطا في الحج فإن فواته فيه لا
يسقط ولا يوجب الرجوع إلى الهدي قيل له: من قبل أن صوم الظهار مشروط
قبل المسيس والنهي عن المسيس قائم قبله وبعده، فالصفة التي علق بها فعل
البدل موجودة، فلذلك جاز، والحج الذي علق به جواز البدل الذي هو الصوم
غير موجود لأن الحج قد فات ففات فعل الصوم بفواته; وأيضا فإن ظاهره
يقتضي سقوطه بوجود قبل المسيس، ولولا قيام الدلالة من غير الآية على
جوازه لما أجزناه. ومن الناس من لا يوجب كفارة الظهار بعد المسيس،
وأظنه مذهب طاوس، ولكنه قد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم نهي
المظاهر عن الجماع بعد المسيس حتى يكفر; والله أعلم.
(1/359)
ذكر اختلاف الفقهاء فيمن دخل في صوم المتعة ثم وجد الهدي
قال أصحابنا: إذا وجد الهدي بعد دخوله في الصوم أو بعدما صام قبل أن
يحل فعليه الهدي ولا يجزيه غيره وهو قول إبراهيم النخعي. وقال مالك
والشافعي: إذا دخل في الصوم ثم وجد الهدي أجزأه الصوم وليس عليه هدي
وروي مثله عن الحسن والشعبي. وقال عطاء: "إذا صام يوما ثم أيسر فعليه
الهدي، وإن صام ثلاثة أيام ثم أيسر فليس عليه هدي وليصم السبعة".
والدليل على صحة القول الأول قوله تعالى: {فَمَنْ تَمَتَّعَ
بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ
لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ} ففرض الهدي
قائم عليه ما لم يحل أو يمضي أيام النحر التي هي مسنونة للحلق، فمتى
وجده فعليه أن يهدي وبطل صومه. ومعلوم أن الهدي مشروط للإحلال لأنه لا
يجوز أن يحل قبل ذبح الهدي، لقوله تعالى: {وَلا تَحْلِقُوا رُؤُوسَكُمْ
حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} فمتى لم يحل حتى وجد الهدي فعليه
الهدي لأن الله تعالى لم يفرق في إيجابه الهدي بين حاله قبل دخوله في
الصوم وبعده. ويدل على أن الهدي مشروط للإحلال قوله تعالى: {فَكُلُوا
مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ
(1/359)
الْفَقِيرَ ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ}
[الحج: 28] فأمرهم بقضاء التفث بعد ذبح الهدي; فإذا كان كذلك وجب أن
يراعى وقوع الإحلال، فإن صام رجل ثم وجد الهدي لم ينتقض صومه ولم يلزمه
الهدي لوجود المعنى الذي من أجله شرط الهدي ثم نقل عند عدمه إلى البدل،
وهو بمنزلة المتيمم إذا وجد الماء بعد فراغه من الصلاة، والعاري إذا
وجد ثوبا، والمظاهر إذا فرغ من الصوم ثم وجد الرقبة; لأن الفرض قد سقط
عنه فلا ينتقض حكم المفعول منه. وأما قبل الفراغ من هذه الأشياء التي
ذكرنا فإن حكم البدل مراعى، فإن تم وفرغ منه فقد وقع موقع البدل وأجزى
عن أصل الفرض، وإن وجد الأصل قبل الفراغ مما شرط له انتقض حكمه وعاد
إلى أصل فرضه، ألا ترى أن دخوله في الصلاة مراعى ومنتظر بها آخرها لأن
ما يفسد آخرها يفسد أولها؟ فوجب أن يكون حكم التيمم بعد دخوله في
الصلاة منتظرا مراعى، وكذلك صوم الظهار إذا دخل فيه فهو مراعى منتظر;
ألا ترى أنه لو أفطر فيه يوما انتقض كله وعاد إلى أصل فرضه؟ كذلك إذا
وجد الرقبة وهو في الصوم وجب أن ينتقض صومه عن الظهار ويعود إلى أصل
فرضه، كما لو تيمم ولم يدخل في الصلاة حتى وجد الماء انتقض تيممه لأنه
وقع مراعى على شريطة أن لا يجد الماء حتى يقضي به الفرض.
وزعم بعض المخالفين أنه إذا ابتدأ بصوم الظهار فقد سقط عنه فرض الرقبة
لصحة الجزء المفعول، وكذلك الداخل في الصلاة بالتيمم فقد سقط عنه فرض
الطهارة بالماء لهذه الصلاة، وكذلك إذا دخل في صوم التمتع فقد سقط عنه
فرض الهدي; لأن الجزء المفعول منه قد صح، وفي الحكم بصحة ذلك إسقاط فرض
الأصل. قال: وليس كذلك المتيمم إذا وجد الماء قبل دخوله في الصلاة لأن
التيمم غير مفروض في نفسه وإنما هو مفروض لأجل الصلاة وهو مراعى، فمتى
وجد الماء قبل دخوله في الصلاة بطل تيممه، والذي في عروض التيمم بعد
الدخول دخوله في الصوم. وهذا الذي قاله شديد الاختلال ظاهر الفساد; لأن
الفرض لم يسقط بدخوله في صوم المتعة ولا في صوم الظهار ولا في الصلاة،
بل دخوله مراعى موقوف الحكم على آخره; والدليل عليه أنه متى أفسد باقي
الصلاة فسد ما قبله، وكذلك إذا فسد باقي صوم الظهار فسد ما تقدم منه،
وكذلك لو دخل في صوم المتعة ثم أفسده في أول يوم منه فسد; فإن كان
واجدا للهدي لم يجزه الصوم بالاتفاق، فقوله: لما حكمنا بصحة الجزء
المفعول من البدل سقط عنه فرض الأصل خطأ; لأن الحكم لم يقع بصحته،
وإنما حكمه أن يكون منتظرا به آخره، فإن تم مع عدم فرض الأصل ثبت حكمه،
وإن وجد الأصل قبل تمامه بطل حكمه وعاد الأصل إلى فرضه. ومن حيث حكم
للمتيمم بحكم الانتظار إلى أن يدخل في الصلاة، وجب
(1/360)
أن يكون
حكمه بعد الدخول في الصلاة لأن الصلاة المفعولة به منتظر بها الفراغ
منها، فوجب أن لا يختلف حكمه في وجود الماء قبل دخوله في الصلاة وبعده;
وكذلك سائر ما ذكرنا من صوم التمتع وصوم الظهار ونحوه. وقالوا جميعا في
الصغيرة المدخول بها إذا فارقها زوجها: إن عدتها الشهور وإنه لا يختلف
حكمها عند عدم الحيض في وجوب انتظار عدة الطلاق أو بعده بعد وجوب
الشهور في انتقالها إلى الحيض. وكذلك قالوا في الماسح على الخفين إذا
خرج وقت مسحه وهو في الصلاة أو قبلها وتساوى حكم الحالين من الابتداء
والبقاء في منع الصلاة ولزوم غسل الرجلين. وكذلك قال الشافعي في
المستحاضة إذا زالت استحاضتها وهي في الصلاة أو قبل دخولها فيها في
استواء حكم الحالين في باب المنع منها إلا بعد تجديد الطهارة لها. وذكر
بعض أصحاب مالك أن المرأة إذا طلقها زوجها طلاقا رجعيا ثم مات عنها،
كانت عليها عدة الوفاة، لأنها كانت في حكم الزوجات عند الموت، قال: فلو
أن رجلا كانت تحته أمة وطلقها كانت عليها عدة الأمة، فإن عتقت وهي في
العدة لم تنتقل عدتها إلى عدة الحرة وإن كان زوجها يملك رجعتها قال:
لأنه لم يحدث هناك شيء يجب به عدة كما حدث الموت في المسألة التي
قبلها، وهو موجب للعدة ويلزمه على هذا أن لا تنتقل عدة الصغيرة إذا
حاضت لأنه لم يحدث ما يوجب العدة وهو وجود الحيض كما لا يجب العتق كما
اقتضاه اعتلاله.
قوله تعالى: {وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ} روي عن عطاء قال: إن شاء
صامهن بمكة وإن شاء إذا رجع إلى أهله. وروى الحسن قال: إن شاء صام في
الطريق وإن شاء إذا رجع إلى أهله وكذلك قال مجاهد وسعيد بن جبير. وقال
ابن عمر والشعبي: يصومهن إذا رجع إلى أهله.
وقوله تعالى: {إِذَا رَجَعْتُمْ} محتمل للرجوع من منى وللرجوع إلى
أهله، فهو على أول الرجوعين وهو الرجوع من منى. ويدل عليه أن الله حظر
صيام أيام التشريق وأباح السبعة بعد الرجوع، فالأولى أن يكون المراد
الوقت الذي أباح فيه الصوم بعد حظره وهو انقضاء أيام التشريق.
قوله تعالى: {تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ} قال أبو بكر: قد قيل فيه
وجوه: منها: أنها كاملة في قيامها مقام الهدي فيما يستحق من الثواب،
وذلك لأن الثلاثة قد قامت مقام الهدي في باب جواز الإحلال بها يوم
النحر قبل صيام السبعة، فكان جائزا أن يظن ظان أن الثلاثة قد قامت مقام
الهدي في باب استكمال الثواب، فأعلمنا الله أن العشرة بكمالها هي
القائمة مقامه في استحقاق ثوابه وأن الحكم قد تعلق بالثلاثة في جواز
الإحلال بها; وفي تلك أعظم الفوائد
(1/361)
في الحث
على فعل السبعة والأمر بتعجيلها بعد الرجوع لاستكمال ثواب الهدي. وقيل
فيه: إنه أزال احتمال التخيير وأن تكون الواو فيه بمعنى أو إذ كانت
الواو قد تكون في معنى أو في بعض المواضع، فأزال هذا الاحتمال بقوله:
{تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ} وقيل: المعنى تأكيده في نفس المخاطب
والدلالة على انقطاع التفصيل في العدد، كما قال الشاعر 1:
ثلاث واثنتين فهن خمس ... وسادسة تميل إلى شمام 2
وجعل الشافعي هذا أحد أقسام البيان، وذكر أنه من البيان الأول; ولم
يجعل أحد من أهل العلم ذلك من أقسام البيان لأن قوله ثلاثة وسبعة غير
مفتقر إلى البيان ولا إشكال على أحد فيه، فجاعله من أقسام البيان مغفل
في قوله.
قوله تعالى: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} قال أبو بكر: قد اختلف
السلف في أشهر الحج ما هي، فروي عن ابن عباس وابن عمر والحسن وعطاء
ومجاهد: أنها شوال وذو القعدة وعشر من ذي الحجة وروي عن عبد الله بن
مسعود: أنها شوال وذو القعدة وذو الحجة. وروي عن ابن عباس وابن عمر في
رواية أخرى مثله، وكذلك روي عن عطاء ومجاهد. وقال قائلون: وجائز أن لا
يكون ذلك اختلافا في الحقيقة، وأن يكون مراد من قال وذو الحجة أنه بعضه
لأن الحج لا محالة إنما هو في بعض الأشهر لا في جميعها لأنه لا خلاف
أنه ليس يبقى بعد أيام منى شيء من مناسك الحج. وقالوا: ويحتمل أن يكون
من تأوله على ذي الحجة كله مراده أنها لما كانت هذه أشهر الحج كان
الاختيار عنده فعل العمرة في غيرها كما روي عن عمر وغيره من الصحابة
استحبابهم لفعل العمرة في غير أشهر الحج على ما قدمنا. وحكى الحسن بن
أبي مالك عن أبي يوسف قال شوال وذو القعدة وعشر ليال من ذي الحجة لأن
من لم يدرك الوقوف بعرفة حتى طلع الفجر من يوم النحر فحجه فائت.
ولا تنازع بين أهل اللغة في تجويز إرادة الشهرين وبعض الثالث، بقوله:
{أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "أيام منى
ثلاثة" وإنما هي يومان وبعض الثالث ويقولون: حججت عام كذا وإنما الحج
في بعضه، ولقيت فلانا سنة كذا وإنما كان لقاؤه في بعضها، وكلمته يوم
الجمعة والمراد البعض وذلك من مفهوم الخطاب إذا تعذر استغراق الفعل
للوقت كان المعقول منه البعض.
قال أبو بكر: ولقول من قال إنها شوال وذو القعدة وذو الحجة وجه آخر،
وهو شائع
ـــــــ
1 قوله: "قال الشاعر" وهو الفرزوق.
2 قوله: "إلى شمام" هكذا في ديوانه وهو الصحيح. فليراجع "لمصححه".
(1/362)
مستقيم،
وهو ينتظم القولين من المختلفين في معنى الأشهر المعلومات; وهو أن أهل
الجاهلية قد كانوا ينسئون الشهور فيجعلون صفرا المحرم ويستحلون المحرم
على حسبما يتفق لهم من الأمور التي يريدون فيها القتال، فأبطل الله
تعالى النسيء وأقر وقت الحج على ما كان ابتداؤه عليه يوم خلق السموات،
كما قال عليه السلام يوم حجة الوداع: "ألا إن الزمان قد استدار كهيئته
يوم خلق الله السماوات والأرض، السنة اثنا عشر شهرا منها أربعة حرم
شوال وذو القعدة وذو الحجة ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان".
قال الله تعالى: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} يعني بها هذه الأشهر
التي ثبت وقت الحج فيها دون ما كان أهل الجاهلية عليه من تبديل الشهور
وتأخير الحج وتقديمه. وقد كان وقت الحج معلقا عندهم بأشهر الحج وهذه
الثلاثة التي يأمنون فيها واردين وصادرين، فذكر الله هذه الأشهر
وأخبرنا باستقرار أمر الحج وحظر بذلك تغييرها وتبديلها إلى غيرها.
وفيه وجه آخر: وهو أن الله لما قدم ذكر التمتع بالعمرة إلى الحج ورخص
فيه وأبطل به ما كانت العرب تعتقده من حظر العمرة في هذه الأشهر، قال:
{الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} فأفاد بذلك أن الأشهر التي يصح فيها
التمتع بالعمرة إلى الحج وثبت حكمه فيها هذه الأشهر، وأن من اعتمر في
غيرها ثم حج لم يكن له حكم التمتع; والله أعلم.
(1/363)
باب الإحرام بالحج قبل أشهر الحج
قال أبو بكر: قد اختلف السلف في جواز الإحرام قبل أشهر الحج، فروى مقسم
عن ابن عباس قال: من سنة الحج أن لا يحرم بالحج قبل أشهر الحج وأبو
الزبير عن جابر قال: لا يحرم الرجل بالحج قبل أشهر الحج وروى مثله عن
طاوس وعطاء ومجاهد وعمرو بن ميمون وعكرمة. وقال عطاء: من أحرم بالحج
قبل أشهر الحج فليجعلها عمرة وقال علي رضي الله عنه في قوله تعالى:
{وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} : إن إتمامهما أن تحرم
بهما من دويرة أهلك ولم يفرق بين من كان بين دويرة أهله وبين مكة مسافة
بعيدة أو قريبة. فدل ذلك على أنه كان من مذهبه جواز الإحرام بالحج قبل
أشهر الحج وما رواه مقسم عن ابن عباس أن من سنة الحج أن لا تحرم بالحج
قبل أشهر الحج يدل ظاهره على أنه لم يرد بذلك حتما واجبا. وروي عن
إبراهيم النخعي وأبي نعيم جواز الإحرام بالحج قبل أشهر الحج، وهو قول
أصحابنا جميعا ومالك والثوري والليث بن سعد. وقال الحسن بن صالح بن حي:
إذا أحرم بالحج قبل أشهر الحج جعله عمرة، فإذا أدركته أشهر الحج قبل أن
يجعلها عمرة مضى في الحج وأجزأه. وقال الأوزاعي: يجعلها عمرة وقال
الشافعي: يكون عمرة.
(1/363)
قال أبو
بكر: قد قدمنا فيما سلف ذكر وجه الدلالة على جواز ذلك من قوله تعالى:
{يَسْأَلونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ
وَالْحَجِّ} وأن ذلك عموم في كون الأهلة كلها وقتا للحج. ولما كان
معلوما أنها ليست ميقاتا لأفعال الحج، وجب أن يكون حكم اللفظ مستعملا
في إحرام الحج، فاقتضى ذلك جوازه عند سائر الأهلة; وغير جائز الاقتصار
على بعضها دون بعض، لاتفاق الجميع على أن إرادة الله تعالى عموم جميع
الأهلة فيما جعله مواقيت للناس، وأنه لم يرد به بعض الأهلة دون بعض.
فمن حيث انتظم فيما جعله مواقيت للناس جميعا، وجب أن يكون ذلك حكمها
فيما جعله للحج منها; إذ هما جميعا قد انطويا تحت لفظ واحد.
فإن قيل: لما جعلها مواقيت للحج والحج في الحقيقة هو الأفعال الموجبة
بالإحرام ولم يكن الإحرام هو الحج، وجب أن يحمل على حقيقته، فتكون
الأهلة التي هي مواقيت للحج شوالا وذا القعدة وذا الحجة لأن هذه الأشهر
هي التي تصح فيها أفعال الحج لأنه لو طاف وسعى للحج قبل أشهر الحج لم
يصح عند الجميع، فيكون لفظ الحج مستعملا على حقيقته.
قيل له: هذا غلط لما فيه من إسقاط حكم اللفظ رأسا، وذلك لأن قوله:
{يَسْأَلونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ
وَالْحَجِّ} يقتضي أن تكون الأهلة نفسها ميقاتا للحج، وفروض الحج
ثلاثة: الإحرام والوقوف بعرفة وطواف الزيارة، ومعلوم أن الأهلة ليست
ميقاتا للوقوف ولا لطواف الزيارة; إذ هما غير مفعولين في وقت الهلال،
فلم تبق الأهلة ميقاتا إلا للإحرام دون غيره من فروضه; ولو حملناه على
ما ذكرت لم يكن شيء من هذه الفروض متعلقا بالأهلة ولا كانت الأهلة
ميقاتا لها، فيؤدي ذلك إلى إسقاط ذكر الأهلة وزوال فائدته.
فإن قيل: إذا كانت معرفة وقت الوقوف متعلقة بالهلال جاز أن يقال إن
الهلال ميقات له.
قيل له: ليس ذلك كما ظننت; لأن الهلال له وقت معلوم على ما قدمنا فيما
سلف، ولا يسمى بعد مضي ذلك الوقت هلالا، ألا ترى أنه لا يقال للقمر
ليلة الوقوف هلالا؟ والله تعالى إنما جعل الهلال نفسه ميقاتا للحج،
وأنت إنما تجعل غير الهلال ميقاتا، وفي ذلك إسقاط حكم اللفظ ودلالته،
ألا ترى أنه إذا جعل محل الدين هلال شهر كذا كان الهلال نفسه وقتا
لثبوت حق المطالبة ووجوب أدائه إليه لا ما بعده من الأيام؟ وكذلك
الإجارات إذا عقدت على الأهلة فإنما يعتبر فيها وقت رؤية الهلال، وذلك
مفهوم من اللفظ لا يشكل مثله على ذي فهم. وأما قوله إن الحج هو اسم
للأفعال الموجبة بالإحرام وإن الإحرام لا يسمى حجا فإن الإحرام إذا كان
سببا لتلك الأفعال ولا يصح حكمها إلا به، فجائز أن
(1/364)
يسمى
باسمه، على ما بينا في أول الكتاب من تسمية الشيء باسم غيره إذا كان
سببا أو مجاورا; فسمي الإحرام حجا على هذا الوجه. وأيضا فإنه إذا كان
جائزا إضمار الإحرام حتى يكون في معنى: {قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ
لِلنَّاسِ} ولإحرام الحج على نحو قوله: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ}
ومعناه: أهل القرية. وقوله {وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى} ومعناه:
ولكن البر بر من اتقى; وجب استعماله على هذا المعنى ليصح إثبات حكم
اللفظ في جعله الأهلة مواقيت الحج. وأيضا لما كان الحج في اللغة اسما
للقصد وإن كان في الشرع قد علق به أفعال أخر يصح إطلاق الاسم عليه، لم
يمتنع أن يسمى الإحرام حجا; لأن أول قصد يتعلق به حكم هو الإحرام، وقبل
الإحرام لا يتعلق بذلك القصد حكم، فجائز من أجل ذلك أن يسمى الإحرام
حجا; إذ هو أوله، فيكون قوله: {يَسْأَلونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ
هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} منتظما للإحرام وغيره من أفعال
الحج ومناسكه لو خلينا وظاهره. فلما خصت الأفعال بأوقات محصورة خصصناها
من الجملة وبقي حكم اللفظ في الإحرام. ويدل على أن الحج في اللغة هو
القصد قول الشاعر:
يحج مأمومة في قعرها لجف
يعني يقصدها ليعرف مقدارها. وليس يجب من حيث علق بالقصد أفعال أخر لا
يستحق القصد اسم الحج في الشرع إلا بها إسقاط اعتبار القصد فيه ألا ترى
أن الصوم في أصل اللغة اسم للإمساك وهو في الشرع اسم لمعان أخر معه ولم
يسقط مع ذلك اعتبار الإمساك في صحته؟ وكذلك الاعتكاف اسم اللبث وهو في
الشرع اسم لمعان أخر مع اللبث؟ فكان معنى الاسم الموضوع له معتبرا، وإن
ألحقت به في الشرع معان أخر لا يثبت حكم الاسم في الشرع إلا بوجودها.
وكذلك الحج لما كان اسما في اللغة للقصد ثم كان حكم ذلك القصد متعلقا
بالإحرام وما قبله لا حكم له، جاز أن يكون الإحرام مسمى بهذا الاسم كما
سمي به الطواف والوقوف بعرفة وأفعال المناسك، فوجب بحق العموم كون
الأهلة كلها ميقاتا للإحرام. وقد اقتضى العموم ذلك لسائر أفعال الحج
لولا قيام الدلالة على تخصيصها بأوقات محصورة دليل آخر، وهو قوله:
{الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} وقد قدمنا ذكر أقاويل السلف في
الأشهر، وأن منهم من قال شوال وذو القعدة وعشر من ذي الحجة وقال آخرون
شوال وذو القعدة وذو الحجة فحصل من اتفاقهم أن يوم النحر من أشهر الحج،
فوجب بعموم قوله: {أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} جواز الإحرام بالحج يوم
النحر; وإذا صح يوم النحر جاز في سائر السنة، لأن أحدا لم يفرق في
جوازه بين يوم النحر وبين سائر أيام السنة.
فإن قيل: إن من قال عشر من ذي الحجة إنما أراد به عشر ليال لم يجعل يوم
النحر منها، لأنه يكون الحج فائتا بطلوع الفجر من يوم النحر.
(1/365)
قيل له:
قول من قال عشرا إن كان مراده عشر ليال فإن ذكر الليالي يقتضي دخول ما
بإزائها من الأيام، كقوله في موضع: {ثَلاثَ لَيَالٍ سَوِيّاً} وقد أراد
الأيام; ألا ترى إلى قوله في موضع آخر عند ذكر هذه القصة بعينها:
{ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزاً}. وقال تعالى: {وَالَّذِينَ
يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً يَتَرَبَّصْنَ
بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً} وهي أربعة أشهر وعشرة
أيام. وقد روي عن علي بن أبي طالب وعبد الله بن شداد وعبد الله بن أبي
أوفى في آخرين: أن يوم الحج الأكبر هو يوم النحر. ويستحيل أن يكون يوم
النحر يوم الحج الأكبر ولا يكون من أشهر الحج، ومع ذلك فإن قوله:
{الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} يقتضي ظاهره استيعاب الشهور الثلاثة
ولا ينقص شيء منه إلا بدلالة; فثبت بذلك أن يوم النحر من أشهر الحج،
وقد أباح الله الإحرام فيه بقوله: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ}
فوجب أن يصح ابتداء الإحرام فيه، وإذا صح فيه صح في سائر أيام السنة
بالاتفاق.
وفي هذه الآية دلالة من وجه آخر على جواز الإحرام قبل دخول أشهر الحج،
وهو قوله في سياق الخطاب: {فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ} ومعنى فرض
الحج فيهن إيجابه فيهن لأن سائر الأفعال موجبة به، ولم يوقت للفرض وقتا
وإنما وقته للفعل، لأن الفرض المذكور في هذا الموضع هو لا محالة غير
الحج الذي علقه به، وإذا كان كذلك كان الوقت وقتا لأفعال المناسك
وألزمه إياها بفرض غير موقت وجب أن يصح فعل إحرام الحج قبل أشهر الحج
يوجب أفعال المناسك.
ويدلك على ما ذكرنا أنه يصح أن يبدأ حجا بنذر قبل أشهر الحج، فيكون
موجبا للحج في وقته المشروط وإن كان إيجابه قبله. ومن قال لله علي أن
أصوم غدا كان في هذا الوقت موجبا لصوم غد قبل وجوده، فكذلك جائز أن
يقال لمن أحرم بالحج قبل أشهر الحج: إنه موجب للحج في أشهر الحج، وإن
كان فرضه وابتداء إحرامه في غيره، فاقتضى ظاهر: قوله تعالى: {فَمَنْ
فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ} إيجاب فعل الحج بفرض قبلهن أو فيهن; إذ كان
ظاهر اللفظ يتناول الفروض في الوقتين.
ويدل عليه من جهة السنة حديث ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم
قال: "من أراد الحج فليتعجل" وذلك على الإحرام وأفعاله إلا ما قام
دليله مما لا يجوز تقديمه على وقته.
ويدل عليه أيضا قوله في ذكر المواقيت: "هن لأهلهن ولمن مر عليهن من غير
أهلهن ممن أراد الحج والعمرة" وذلك عموم في جواز الإحرام بالحج في أي
وقت مر عليهن من السنة.
ويدل عليه من جهة النظر اتفاق الجميع على بقاء إحرام الحج بكماله بعد
طلوع الفجر يوم النحر قبل رمي الجمار، ولو كان الإحرام بالحج لا يجوز
قبل أشهر الحج
(1/366)
لوجب أن
لا يبقى بكماله في الوقت الذي لا يصح فيه ابتداء الإحرام. وفي بقاء
إحرامه يوم النحر قبل رمي الجمار دليل على جواز ابتدائه وذلك لأن مناسك
الحج محصورة بأوقات غير جائز تقديمها عليها، فلو لم يكن يوم النحر وقتا
للإحرام لما جاز بقاؤه فيه; ألا ترى أن الجمعة لما كانت محصورة بوقت لا
يجوز تقديمها عليه لم يجز أن تبقى الجمعة بعد الدخول فيها في وقت لا
يصح ابتداؤها فيه؟ نحو أن يدخل في الجمعة ثم يدخل وقت العصر قبل الفراغ
منها، فتبطل ولا يبقى حكمها بعد خروج الوقت كما لا يصح ابتداؤها فيه;
فكذلك إحرام الحج، لو كان محصورا بأشهر الحج لما صح بقاؤه بكماله بعد
انقضائه كما لا يصح عند مخالفينا ابتداؤه، فلما صح بقاؤه في يوم النحر
صح ابتداؤه.
ويدل على ذلك اتفاق الجميع على جواز الإحرام بالحج في وقت يتراخى عنه
أفعاله ولا يصح إيقاعها فيه، فوجب أن يجوز تقديمه على أشهر الحج كما صح
فعله فيها; لأن موجبه من الأفعال متراخ عنه.
وأيضا لو كان الإحرام موقتا لوجب أن يتصل به موجب أفعاله، كما أن إحرام
الصلاة لما كان موقتا كان موجبه من فرضه متصلا به ولم يجز تراخيه عنه.
ويحتج لذلك أيضا باتفاق الجميع على أن المتمتع هو الجامع بين أفعال
العمرة والحج في سفر واحد ممن ليس من حاضري المسجد الحرام، ولا يختلف
حكم إحرام العمرة بأن يكون في أشهر الحج أو قبله فيما يقتضيه حكم
المتمتع، كذلك يجب أن لا يختلف حكم إحرام الحج في كونه في أشهر الحج أو
قبله. والمعنى الجامع بينهما أن حكم كل واحد من موجب الإحرامين من
الأفعال متعلق بوقوعه في أشهر الحج، فوجب استواء حكم الإحرامين في
الوجه الذي ذكرنا كما استوى حكم أفعالهما في صحة وقوعهما في أشهر الحج.
واحتج من أبى تجويز الإحرام بالحج قبل أشهر الحج بظاهر قوله تعالى:
{الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} وقد ذكرنا وجه الدلالة منه على جوازه
قبل أشهر الحج; ومع ذلك فإن قوله: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ}
حكمه متعلق بضمير لا يستغني عنه الكلام، وذلك أنه معلوم أن الحج لا
يكون أشهرا; لأن الحج هو فعل الحاج والأشهر هي فعل الله تعالى، وغير
جائز أن يكون فعل الله هو فعل العبد، فثبت أن فيه ضميرا، ويحتمل أن
يكون الضمير فعل الحج في أشهر معلومات، وليس في شيء منه نفي لجواز
إحرامه قبل أشهر الحج، إنما يفيد أن فعل الحج في هذه الأشهر وأن
الإحرام جائز فيها، وليس في تجويز الإحرام فيها نفي لجوازه في غيرها.
(1/367)
فإن قيل:
قد تضمن ذلك الأمر بإحرام الحج أو أفعاله فيها، فغير جائز فعلها في
غيرها.
قيل له: هذا غلط لأنه ليس في اللفظ دلالة على الأمر، وإنما فيه الدلالة
على جوازه فيها، فأما الإيجاب فلا دلالة عليه من اللفظ; وإذا كان كذلك
فأكثر ما فيه تجويز إحرام الحج وأفعاله في هذه الأشهر، وليس فيه نفي
لجوازه في غيرها.
فإن قيل: فإذا كان الإحرام جائزا في سائر السنة فلا معنى لتوقيت الأشهر
له. وهذا المذهب يؤدي إلى إسقاط فائدة التوقيت.
قيل له: ليس كذلك، بل فيه عدة فوائد، منها: أنه أفاد أن أفعال الحج
مخصوصة بهذه الأشهر، ألا ترى أنا نقول إنه لو كان طاف وسعى قبل أشهر
الحج أنه لا يعتد به ويعيده؟ ومنها: أن التمتع إنما يتعلق حكمه بفعل
العمرة مع الحج في هذه الأشهر، حتى لو قدم طواف العمرة على أشهر الحج
وحج من عامه لم يكن متمتعا، ولذلك قال أصحابنا فيمن قرن ودخل مكة قبل
أشهر الحج وطاف للعمرة وسعى ومضى على قرانه إنه ليس بمتمتع وليس عليه
دم القران فأفادت الآية أن هذه الأشهر هي التي يتعلق بها حكم التمتع
إذا جمع بين العمرة والحج فيها. ومع ذلك فلو كان قوله تعالى: {الْحَجُّ
أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} يوجب الاقتصار به عليها دون غيرها من الشهور،
لوجب أن نصرفه إلى أفعال الحج دون إحرامه ليسلم لنا عموم قوله:
{يَسْأَلونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ
وَالْحَجِّ} في جواز الإحرام في سائر الأهلة، ولو حملناه على الإحرام
لأدى ذلك إلى إسقاط فائدة قوله: {قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ
وَالْحَجِّ} والاقتصار به على معنى قوله: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ
مَعْلُومَاتٌ} ومع ذلك فلا نكون مستعملين له لأن الله قد أخبر أنه جعل
الأهلة وقتا للحج، ومتى قصرناه على أشهر الحج لم يتعلق حكمه بالأهلة
وكان متعلقا بأوقات أخر غيرها، مثل يوم عرفة للوقوف ويوم النحر للطواف
والرمي ونحوه. وأيضا فغير جائز أن يريد الإحرام وأفعاله، ومتى أراد
الأفعال انتفى الإحرام لامتناع إرادتهما بلفظ واحد; لأن أحدهما هو
المقصود بعينه وهو أفعال المناسك والآخر سبب له سمي باسمه على طريق
المجاز، فغير جائز أن يرادا جميعا بلفظ واحد; ألا ترى أن من أحرم ولم
يقف فجائز أن يقال إنه لم يحج ومتى وقف أطلق عليه اسم الحاج؟ وأيضا لما
قال تعالى: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} وقال النبي صلى الله عليه
وسلم: "الحج عرفة" وجب أن يكون ذلك تعريفا للحج المذكور في قوله:
{الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} فتكون الألف واللام لتعريف المعهود،
فيصير حينئذ تقدير الآية مع الخبر: الحج الذي هو الوقوف بعرفة في أشهر
معلومات ويكون فائدة ذكر الأشهر ما قدمنا. وأيضا لو صح إرادة الوقت
للإحرام وجب استعماله في الأشهر على الندب وقوله: {مَوَاقِيتُ
لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} على الجواز، حتى يوفى كل واحد من اللفظين حظه من
الفائدة وقسطه من الحكم.
(1/368)
فإن قيل:
إذا أراد به الإحرام لم يجز تقديمه على وقته، ويصير بمنزلة قوله:
{أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} وقوله: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ
طَرَفَيِ النَّهَارِ} ونحو ذلك من الآي التي فيها توقيت العبادات.
قيل له: قد بينا أن قوله: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} لا دلالة
فيه على الوجوب لأنه ليس بأمر، وفيه ضمير يحتاج في إثباته إلى دلالة من
غيره لاحتماله أن يكون المراد جواز الحج، ويحتمل أن يريد به فضيلة
الحج; فليس في ظاهر اللفظ دليل على أن المراد بالتوقيت المذكور فيه
لماذا هو، فلذلك لم يصح الاستدلال على توقيت الإحرام بالأشهر على جهة
الإيجاب. وأما الصلاة فإن الله تعالى نص فيها على الأوقات المذكورة
بلفظ يقتضي الإيجاب فيها من غير احتمال لغيرها بقوله: {أَقِمِ
الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} وما جرى مجراه من الأوامر الموقتة.
ووجه آخر: وهو أنا سلمنا لهم أن ذلك وقت الإحرام لم تلزم الصلاة عليه،
من قبل أن تقديم إحرام الصلاة على وقتها إنما لم يجز من حيث اتصلت
فروضها وأركانها بالإحرام وسائر فروضها غير جائزة متراخية عن تحريمتها،
فلذلك كان حكم تحريمتها حكم سائر أفعالها، ولا خلاف في جواز إحرام الحج
في وقت يتراخى عنه سائر أفعاله، وغير جائز شيء من فروضه عقيب إحرامه،
فلذلك اختلفا.
ومن جهة أخرى: وهو أن كونه منهيا عن فعل الإحرام لا يمنع صحة لزومه،
وكون الصلاة منهيا عنها يمنع صحة الدخول فيها. والدليل على ذلك أن من
تحرم بالصلاة محدثا أو غير مستقبل القبلة عامدا أو عاريا وهو يجد ثوبا،
لم يصح دخوله فيها، ولو أحرم بالحج وهو مخالط لامرأته أو لابس ثيابا،
كان إحرامه واقعا ولزمه حكمه مع مقارنة ما يفسده; فلم يجز اعتبار أحكام
إحرام الحج بالصلاة.
ووجه آخر: وهو أن ترك بعض فروض الصلاة يفسدها، مثل الحدث والكلام
والمشي وما جرى ومجرى ذلك. وترك بعض فروض الإحرام لا يفسده; لأنه لو
تطيب أو لبس أو اصطاد لم يفسده مع كون ترك هذه الأمور فرضا فيه.
وأيضا وجدنا من فروض الحج ما يفعل بمد أشهر الحج ويكون مفعولا في وقته
وهو طواف الزيارة، ولم نجد شيئا من فروض الصلاة يفعل بعد خروج وقتها
إلا على وجه القضاء، فلم يجز أن تكون الصلاة أصلا للإحرام. ويمكن أن
يجعل ذلك دليلا في أصل المسألة بأن يقال: لما كان بعض فروض الحج مفعولا
بعد أشهر الحج ويكون ذلك وقتا له، كذلك جائز أن يكون إحرامه قبل أشهر
الحج ويكون ذلك وقتا; لأنه لو لم يجز تقديمه على أشهر الحج لما جاز
تأخير شيء من فروضه عنه كالصلاة.
(1/369)
فإن قيل:
لما اتفق الجميع على أن من فاته الحج لا يجوز أن يفعل بإحرامه ذلك حجا
في القابل وكان عليه أن يتحلل بعمل عمرة، دل ذلك على أن الإحرام بالحج
في غير أشهر الحج يوجب عمرة وأنه غير جائز أن يفعل به حجا. قيل له فقد
جاز أن يبقى إحرامه كاملا بعد أشهر الحج وهو يوم النحر قبل رمي الجمار،
حتى زعم الشافعي أنه إن جامع يوم النحر قبل رمي الجمار فسد حجه. وقد
ذكرنا فيما سلف وجه الاستدلال من ذلك على جواز الإحرام بالحج قبل أشهر
الحج; إذ لم يكن يوم النحر عنده من أشهر الحج وقد جاز إبقاء إحرامه
بكماله فيه، فدل على معنيين: أحدهما: سقوط سؤال السائل لنا واعتراضه
بما ذكره; إذ قد جاز وجود إحرام صحيح بالحج قبل أشهر الحج والمعنى
الثاني: أنه دل على جواز ابتداء إحرام الحج قبل أشهر الحج; إذ قد جاز
بقاؤه فيه على ما بيناه فيما سلف.
وأما قول الشافعي في أن المحرم بالحج قبل أشهر الحج يكون محرما بعمرة،
فإنه قول ظاهر الاختلال والفساد; لأنه لا يخلو من أن يلزمه إحرام الحج
على ما عقده على نفسه أو لا يلزمه، فإن لم يلزمه كان كمن لم يحرم
وبمنزلة من أحرم بالظهر قبل دخول وقتها فلا يلزمه شيء ولا يكون داخلا
فيها ولا في غيرها; وإن يلزمه الحج فقد جاز أداء الإحرام بالحج قبل
أشهر الحج، وإذا صح إحرامه وأمكنه المضي فيه لم يجز له أن يتحلل منه
بعمرة. فإن قيل: هو بمنزلة من فاته الحج فيلزمه أن يتحلل بعمرة.
قيل له: ليس ذلك بعمرة وإنما هو عمل عمرة يتحلل به من إحرام الحج، ألا
ترى أن من فاته الحج وهو بمكة أنه غير مأمور بالخروج منها إلى الحل
لأجل ما لزمه من عمل العمرة؟ إذ كان وقت العمرة لمن كان بمكة الحل، ولو
أراد أن يبتدئ عمرة لأمر بالخروج إلى الحل; فدل ذلك على أن ما يفعله
بعد الفوات ليس بعمرة وإنما هو عمل عمرة يتحلل به من إحرام الحج وإحرام
الحج باق مع الفوات. وأيضا فالذي فاته قد لزمه إحرام الحج، وإنما احتاج
إلى الإحلال منه بعمل عمرة فهل يقول الشافعي إن المحرم بالحج قبل أشهر
الحج قد لزمه الحج ويتحلل منه بعمل عمرة ويوجب عليه قضاء الحج؟ فإذا لم
يكن عنده محرما بالحج فقد لزمه في ذلك شيئان: أحدهما: أنه لزمه عمرة لم
يعقدها على نفسه ولم ينوها، والثاني: أنه جعله بمنزلة الذي يفوته الحج
بعد الإحرام، وهذا لم يحرم قط به، فألزمه عمرة لا سبب لها، وقد قال
النبي صلى الله عليه وسلم: "الأعمال بالنيات وإنما لامرئ ما نوى" فإذا
أحرم ونوى الحج فواجب أن يلزمه ما نوى بقضية قوله عليه السلام: "وإنما
لامرئ ما نوى".
(1/370)
قوله
تعالى: {فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ} قال أبو بكر: قد اختلف السلف
في تأويله، فقال ابن عباس رواية والحسن وقتادة فمن أحرم وروى شريك عن
أبي إسحاق عن ابن عباس: {فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ} قال:
التلبية وكذلك روي عن عبد الله بن مسعود وابن عمر وإبراهيم النخعي
وطاوس ومجاهد وعطاء وقالت عمرة عن عائشة: لا إحرام إلا لمن أهل ولبى.
قال أبو بكر: قول من تأول قوله تعالى: {فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ
الْحَجَّ} على من أحرم لا يدل على أنه رأى الإحرام جائزا بغير تلبية;
لأنه جائز أن يقول فمن أحرم وشرط الإحرام أن يلبي فلم يثبت عن أحد من
السلف جواز الدخول في الإحرام بغير تلبية أو ما يقوم مقامها من تقليد
الهدي وسوقه. وأصحابنا لا يجيزون الدخول في الإحرام إلا بالتلبية أو
تقليد الهدي وسوقه، والدليل على ذلك حديث قراد بن أبي نوح قال: حدثنا
نافع عن ابن عمر، عن ابن أبي مليكة عن عائشة أن النبي صلى الله عليه
وسلم دخل عليها وهي كأنها حزينة فقال: "ما لك؟" فقالت: لا أنا قضيت
عمرتي وألفاني الحج عاركا، قال: "ذلك شيء كتبه الله على بنات آدم فحجي
وقولي ما يقول المسلمون في حجهم" وذلك يدل على وجوب التلبية; لأنها
الذي يقوله المسلمون عند الإحرام وأمره عليه السلام على الوجوب ويدل
عليه قوله عليه السلام: "خذوا عني مناسككم". والتلبية من المناسك، وقد
فعلها عند الإحرام، ويدل عليه قوله عليه السلام: "أتاني جبريل عليه
السلام فقال: مر أمتك يرفعوا أصواتهم بالتلبية فإنها من شعائر الحج"
فيضمن ذلك معنيين: فعل التلبية، ورفع الصوت بها، وقد اتفقوا على أن رفع
الصوت غير واجب، فبقي حكمه في فعل التلبية ويدل عليه أن الحج، والعمرة
ينتظمان أفعالا متغايرة مختلفة مفعولة بتحريمة واحدة، فأشبهت الصلاة
لما تضمنت أفعالا متغايرة مختلفة مفعولة بتحريمة واحدة كان شرط الدخول
فيها الذكر، كذلك الحج والعمرة واجب أن يكون الدخول فيهما بالذكر، أو
ما يقوم مقامه وقال أصحابنا: إذا قلد بدنة وساقها وهو يريد الإحرام فقد
أحرم، وقد روى ابنا جابر عن أبيهما عن النبي صلى الله عليه وسلم: "أن
من قلد بدنة فقد أحرم". واختلف السلف في ذلك فقال ابن عمر: إذا قلد
بدنة فقد أحرم، وكذلك روي عن علي وقيس بن سعد وابن مسعود وابن عباس
وطاوس وعطاء ومجاهد والشعبي ومحمد بن سيرين وجابر بن زيد وسعيد بن جبير
وإبراهيم، وهذا على أنه قلدها وساقها، وهو يريد الإحرام; لأنه لا خلاف
أنه إذا لم يرد الإحرام لا يكون محرما، وقد روي عن النبي صلى الله عليه
وسلم أنه قال: "إني قلدت الهدي فلا أحل إلى يوم النحر" فأخبر أن تقليد
الهدي وسوقه كان المانع له من الإحلال، فدل على أن لذلك تأثيرا في
الإحرام وأنه قائم مقام التلبية في باب الدخول فيه
(1/371)
كما كان
له تأثير في منع الإحلال، والدليل على أن التقليد بانفراده لا يوجب
الإحرام، ما روت عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم: "أنه كان يبعث
بهديه ويقيم فلا يحرم عليه شيء" وكذلك قالت عائشة: لا يحرم إلا من أهل
ولبى تعني ممن لم يسق هديه ولم يخرج معه.
قوله تعالى: {فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ}
اختلف السلف في تأويل الرفث، فقال ابن عمر: هو الجماع وروي عن ابن عباس
مثله. وروي عنه أنه التعريض بالنساء، وكذلك عن ابن الزبير. وروي عن ابن
عباس أنه أنشد في إحرامه:
وهن يمشين بنا هميسا ... إن يصدق الطير ننك لميسا
فقيل له في ذلك، فقال: إنما الرفث مراجعة النساء بذكر الجماع. قال
عطاء: الرفث الجماع فما دونه من قول الفحش. وقال عمرو بن دينار: هو
الجماع فما دونه من شأن النساء.
قال أبو بكر: قد قيل: إن أصل الرفث في اللغة هو الإفحاش في القول،
وبالفرج الجماع، وباليد الغمز للجماع. وإذا كان كذلك فقد تضمن نهيه عن
الرفث في الحج هذه الوجوه كلها وحصل من اتفاق جميع من روي عنه تأويله
أن الجماع مراد به في هذه الآية.
ويدل على أن الرفث الفحش في المنطق قوله عليه السلام: "إذا كان يوم صوم
أحدكم فلا يرفث ولا يجهل، فإن جهل عليه فليقل إني صائم"، والمراد فحش
القول. وإن كان المراد بالرفث هو التعريض بذكر النساء في الإحرام،
فاللمس، والجماع أولى أن يكون محظورا، كما قال الله تعالى: {فَلا
تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا} [الإسراء: 23] عقل منه النهي
عن السب، والضرب. وقد ذكر الله تعالى الرفث في شأن الصوم فقال:
{أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ} ولا
خلاف أنه أريد به الجماع، وعقل منه إباحة ما دونه، كما أن حظره الرفث
في الحج وهو التعريض، والمس قد عقل به حظر ما فوقه من الجماع; لأن حظر
القليل يدل على الكثير من جنسه. وإباحة الكثير تدل على إباحة القليل من
جنسه، وقد روي عن محمد بن راشد قال: خرجنا حجاجا فمررنا بالرويثة فإذا
بها شيخ يقال له أبو هرم قال: سمعت أبا هريرة يقول: للمحرم من امرأته
كل شيء إلا الجماع قال: فأهوى رجل منا إلى امرأته فقبلها; فقدمنا مكة
فذكرنا ذلك لعطاء فقال: قاتله الله قعد على طريق من طرق المسلمين
يفتنهم بالضلالة; ثم قال للذي قبل امرأته: أهرق دما. وهذا شيخ مجهول.
وما ذكره قد اتفقت الأمة على خلافه، وعلى أن من قبل امرأته في إحرامه
بشهوة فعليه دم. وروي ذلك عن علي وابن عباس وابن عمر والحسن وعطاء
وعكرمة وإبراهيم وسعيد بن المسيب وسعيد بن جبير ذلك وهو قول فقهاء
(1/372)
الأمصار.
ولما ثبت بما ذكرنا حظر مراجعة النساء بذكر الجماع في حال الإحرام،
والتعريض به، واللمس وذلك كله من دواعي الجماع، دل ذلك على أن الجماع
ودواعيه محظورة على المحرم، وذلك دليل على حظر التطيب لهذا المعنى
بعينه، ولما ورد فيه من السنة. وأما الفسوق فروي عن ابن عمر قال:
الفسوق السباب والجدال: المراء. وقال ابن عباس: الجدال أن تجادل صاحبك
حتى تغيظه، والفسوق المعاصي وروي عن مجاهد: {وَلا جِدَالَ فِي
الْحَجِّ} قال: قد أعلم الله تعالى أشهر الحج فليس فيها شك ولا خلاف.
قال أبو بكر: جميع ما ذكر من هذه المعاني عن المتقدمين جائز أن يكون
مراد الله تعالى، فيكون المحرم منهيا عن السباب، والمماراة في أشهر
الحج وفي غير ذلك وعن الفسوق وسائر المعاصي، فتضمنت الآية الأمر بحفظ
اللسان، والفرج عن كل ما هو محظور من الفسوق، والمعاصي. والمعاصي،
والفسوق وإن كانت محظورة قبل الإحرام فإن الله نص على حظرها في الإحرام
تعظيما لحرمة الإحرام; ولأن المعاصي في حال الإحرام أعظم وأكبر عقابا
منها في غيرها، كما قال عليه السلام: "إذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث
ولا يجهل، فإن جهل عليه فليقل إني امرؤ صائم". وقد روي أن الفضل بن
العباس كان رديف رسول الله صلى الله عليه وسلم من المزدلفة إلى منى،
فكان يلاحظ النساء وينظر إليهن، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يصرف
وجهه بيده من خلفه وقال: "إن هذا يوم من ملك سمعه وبصره غفر له" ومعلوم
حظر ذلك في غير ذلك اليوم، ولكنه خص اليوم تعظيما لحرمته، فكذلك
المعاصي، والفسوق، والجدال، والرفث كل ذلك محظور ومراد بالآية، سواء
كان مما حظره الإحرام، أو كان محظورا فيه وفي غيره بعموم اللفظ; ويكون
تخصيصه إياها بحال الإحرام تعظيما للإحرام، وإن كانت محظورة في غيره.
وقد روى مسعود عن منصور عن أبي حازم عن أبي هريرة عن النبي صلى الله
عليه وسلم قال: "من حج فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه" وهذا
موافق لدلالة الآية; وذلك لأن الله تعالى لما نهى عن المعاصي، والفسوق
في الحج فقد تضمن ذلك الأمر بالتوبة منها; لأن الإصرار على ذلك هو من
الفسوق، والمعاصي، فأراد الله تعالى أن يحدث الحاج توبة من الفسوق،
والمعاصي حتى يرجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه على ما روي عن النبي صلى
الله عليه وسلم.
وقوله تعالى: {وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} قد تضمن النهي عن مماراة
صاحبه ورفيقه وإغضابه وحظر الجدال في وقت الحج على ما كان عليه أمر
الجاهلية; لأنه قد استقر على وقت واحد وأبطل به النسيء الذي كان أهل
الجاهلية عليه; وهو معنى قوله عليه السلام: "ألا إن الزمان قد استدار
كهيئته يوم خلق السموات الأرض" يعني عود الحج إلى الوقت الذي
(1/373)
جعله الله
له، واتفق ذلك في حجة النبي عليه السلام.
وقوله: {فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} وإن كان
ظاهره الخبر، فهو نهي عن هذه الأفعال، وعبر بلفظ النفي عنها; لأن
المنهي عنه سبيله أن يكون منفيا غير مفعول وهو كقوله في الأمر:
{وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ} [البقرة: 233] و
{يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ} [البقرة: 228] وما جرى مجراه صيغته
صيغة الخبر ومعناه الأمر.
وقوله تعالى: {وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى} روي
عن مجاهد والشعبي أن أناسا من أهل اليمن كانوا لا يتزودون في حجهم حتى
نزلت {وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى} وقال سعيد بن
جبير: الزاد الكعك، والزيت. وقيل فيه: إن قوما كانوا يرمون بأزوادهم
يتسمون بالمتوكلة، فقيل لهم: تزودوا من الطعام ولا تطرحوا كلكم على
الناس وقيل فيه: إن معناه أن تزودوا من الأعمال الصالحة، فإن خير الزاد
التقوى.
قال أبو بكر: لما احتملت الآية الأمرين من زاد الطعام وزاد التقوى، وجب
أن يكون عليهما; إذ لم تقم دلالة على تخصيص زاد من زاد. وذكر التزود من
الأعمال الصالحة في الحج; لأنه أحق شيء بالاستكثار من أعمال البر فيه
لمضاعفة الثواب عليه، كما نص على حظر الفسوق والمعاصي فيه، وإن كانت
محظورة في غيره، تعظيما لحرمة الإحرام وإخبارا أنها فيه أعظم مأثما;
فجمع الزادين في مجموع اللفظ من الطعام ومن زاد التقوى، ثم أخبر أن زاد
التقوى خيرهما لبقاء نفعه ودوام ثوابه. وهذا يدل على بطلان مذهب
المتصوفة الذين يتسمون بالمتوكلة في تركهم التزود، والسعي في المعاش.
وهو يدل على أن من شرط استطاعة الحج الزاد، والراحلة; لأنه خاطب بذلك
من خاطبه بالحج، وعلى هذا المعنى قال النبي عليه السلام حين سئل عن
الاستطاعة: هي "الزاد، والراحلة". والله الموفق.
(1/374)
باب التجارة في الحج
قال الله عقيب ذكر الحج، والتزود له: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ
تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ} يعني المخاطبين بأول الآية وهم
المأمورون بالتزود للحج وأباح لهم التجارة فيه وروى أبو يوسف عن العلاء
بن السائب عن أبي أمامة قال: قلت لابن عمر: إني رجل أكري الإبل إلى مكة
أفيجزي من حجتي؟ قال: ألست تلبي فتقف وترمي الجمار؟ قلت: بلى. قال: سأل
رجل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن مثل ما سألتني، فلم يجبه حتى أنزل
الله هذه الآية: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً
مِنْ رَبِّكُمْ} فقال: "أنتم حاج". وقال عمرو بن دينار: قال ابن عباس:
كانت ذو المجاز وعكاظ متجرا للناس في
(1/374)
الجاهلية،
فلما كان الإسلام تركوا حتى نزلت: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ
تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ} في مواسم الحج. وروى سعيد بن جبير
عن ابن عباس قال: أتاني رجل فقال: إني آجرت نفسي من قوم على أن أخدمهم
ويحجون بي، فهل لي من حج؟ فقال ابن عباس: هذا من الذين قال الله تعالى:
{لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا} [البقرة: 202] وروي نحو ذلك عن جماعة
من التابعين، منهم الحسن وعطاء ومجاهد وقتادة، ولا نعلم أحدا روي عنه
خلاف ذلك إلا شيئا رواه سفيان الثوري عن عبد الكريم عن سعيد بن جبير
قال: سأله رجل أعرابي فقال: إني أكري إبلي وأنا أرد الحج، أفيجزيني؟
قال: لا، ولا كرامة. وهذا قول شاذ خلاف ما عليه الجمهور وخلاف ظاهر
الكتاب في قوله: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً
مِنْ رَبِّكُمْ} فهذا في شأن الحاج; لأن أول الخطاب فيهم، وسائر ظواهر
الآي المبيحة لذلك دالة على مثل ما دلت عليه هذه الآية نحو قوله:
{وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ
اللَّهِ} [المزمل: 20] وقوله: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ
يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ} [الحج: 27] إلى قوله:
{لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ} [الحج: 28] ولم يخصص شيئا من المنافع
دون غيرها، فهو عام في جميعها من منافع الدنيا، والآخرة وقال تعالى:
{وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا} [البقرة: 275] ولم
يخصص منه حال الحج. وجميع ذلك يدل على أن الحج لا يمنع التجارة، وعلى
هذا أمر الناس من عصر النبي عليه السلام إلى يومنا هذا في مواسم منى
ومكة في أيام الحج; والله أعلم.
(1/375)
باب الوقوف بعرفة
قال الله تعالى: {فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا
اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ} قال أبو بكر: قد دل ذلك على أن
مناسك الحج الوقوف بعرفة، وليس في ظاهره دلالة على أنه من فروضه، فلما
قال في سياق الخطاب: {ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ}
أبان بذلك عن فرض الوقوف ولزومه وذلك لأن أمره بالإفاضة مقتض للوجوب،
ولا تكون الإفاضة فرضا إلا والكون بها فرضا حتى يفيض منها; إذ لا يتوصل
إلى الإفاضة إلا بكونه قبلها هناك.
وقد اختلف في تأويل قوله: {ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ
النَّاسُ} فروي عن عائشة وابن عباس وعطاء والحسن ومجاهد وقتادة والسدي:
أنه أراد الإفاضة من عرفة، قالوا: وذلك; لأن قريشا ومن دان دينها يقال
لهم الحمس كانوا يقفون بالمزدلفة ويقف سائر العرب بعرفات، فلما جاء
الإسلام أنزل الله تعالى على نبيه: {ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ
أَفَاضَ
(1/375)
النَّاسُ}
فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم قريشا ومن دان دينها أن يأتوا عرفات
فيقفوا بها مع الناس ويفيضوا من حيث أفاض الناس. وحكي عن الضحاك أنه
أراد به الوقوف بالمزدلفة وأن يفيضوا من حيث أفاض إبراهيم عليه السلام.
وقيل: إنه إنما قال: {النَّاسُ} وأراد إبراهيم وحده، كما قال تعالى:
{الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ} [آل عمران: 173] وكان رجلا واحدا.
ولأن إبراهيم عليه السلام لما كان الإمام المقتدى به سماه الله تعالى
أمة كان بمنزلة الأمة التي تتبع سنته، جاز إطلاق اسم الناس، والمراد به
هو وحده. والتأويل الأول هو الصحيح لاتفاق السلف عليه، والضحاك لا
يزاحم به هؤلاء، فهو قول شاذ. وإنما ذكر الناس هاهنا وأمر قريشا
بالإفاضة من حيث أفاض الناس; لأنهم كانوا أعظم الناس، وكانت قريش ومن
دان دينها قليلة بالإضافة إليهم; فلذلك قال: {مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ
النَّاسُ}.
فإن قيل: لما قال: {فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ} ثم عقب ذلك
بقوله: {ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ} و"ثم" يقتضي
الترتيب لا محالة، علمنا أن هذه الإفاضة هي بعد الإفاضة من عرفات، وليس
بعدها إفاضة إلا من المزدلفة وهي المشعر الحرام، فكان حمله على ذلك،
أولى منه على الإفاضة من عرفة; ولأن الإفاضة من عرفة قد تقدم ذكرها فلا
وجه لإعادتها. قيل له: إن قوله تعالى: {ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ
أَفَاضَ النَّاسُ} عائد إلى أول الكلام، وهو الخطاب بذكر الحج وتعليم
مناسكه وأفعاله، فكأنه قال: يا أيها المأمورون بالحج من قريش بعد ما
تقدم ذكرنا له أفيضوا من حيث أفاض الناس فيكون ذلك راجعا إلى صلة خطاب
المأمورين، وهو كقوله تعالى: {ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ
تَمَاماً عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ} [الأنعام: 154]، والمعنى: بعد ما
ذكرنا لكم أخبرنا كم أنا آتينا موسى الكتاب تماما على الذي أحسن. ويجوز
أن يكون ثم بمعنى الواو فيكون تقديره: وأفيضوا من حيث أفاض الناس; كما
قال تعالى: {ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا} [البلد: 17] معناه:
وكان من الذين آمنوا، وقوله: {ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا
يَفْعَلُونَ} [يونس: 46] معناه: والله شهيد. فإذا كان ذلك سائغا في
اللغة ثم روي عن السلف ما ذكرنا، لم يجز العدول عنه إلى غيره. وأما
قولك إن ذكر عرفات قد تقدم في قوله: {فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ
عَرَفَاتٍ} فلا يكون لقوله: {ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ
النَّاسُ} وجه فليس كذلك; لأن قوله: {فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ
عَرَفَاتٍ} لا دلالة فيه على إيجاب الوقوف، وقوله: {ثُمَّ أَفِيضُوا
مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ} هو أمر لمن لم يكن يقف بعرفة من قريش
فقد أفاد به من إيجاب الوقوف ما لم يتضمنه قوله: {فَإِذَا أَفَضْتُمْ
مِنْ عَرَفَاتٍ} إذ لا دلالة في قوله: {فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ
عَرَفَاتٍ} على فرض الوقوف. ومع ذلك فلو اقتصر
(1/376)
على قوله:
{فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ} لكان جائزا أن يظن ظان أنه خطاب
لمن كان يقف بها دون من لم يكن يرى الوقوف بها، فيكون التاركون للوقوف
على جملة أمرهم في الوقوف بالمزدلفة دون عرفات، فأبطل ظن الظان لذلك
بقوله: {ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ}.
واتفقت الأمة مع ذلك على أن تارك الوقوف بعرفة لا حج له، ونقلته عن
النبي عليه السلام قولا وعملا. وروى بكير بن عطاء عن عبد الرحمن بن
يعمر الديلي قال: سئل رسول الله: كيف الحج؟ قال: "الحج يوم عرفة، من
جاء عرفة ليلة جمع قبل الصبح، أو يوم جمع فقد تم حجه". وروى الشعبي عن
عروة بن مضرس الطائي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال بالمزدلفة:
"من صلى معنا هذه الصلاة ووقف معنا هذا الموقف وقد وقف بعرفة قبل ذلك
ليلا، أو نهارا فقد تم حجه وقضى تفثه". وقد روي عن ابن عباس وابن عمر،
وابن الزبير وجابر: إذا وقف قبل طلوع الفجر فقد تم حجه، والفقهاء
مجمعون على ذلك.
وقد اختلف الفقهاء في من لم يقف بعرفة ليلا، فقال سائرهم: إذا وقف
نهارا فقد تم حجه، وإن دفع منها قبل غروب الشمس فعليه دم عند أصحابنا
إن لم يرجع قبل الإمام، وقال مالك بن أنس: إن لم يرجع حتى طلع الفجر
بطل حجه وأصحابه يزعمون أنه قال ذلك; لأن مذهبه أن فرض الوقوف بالليل
دون النهار، وأن الوقوف نهارا غير مفروض وإنما هو مسنون. وروي عن ابن
الزبير أن من دفع من عرفات قبل غروب الشمس فسد حجه.
والدليل على صحة القول الأول قوله عليه السلام في حديث عروة بن مضرس:
"وأفاض من عرفة قبل ذلك ليلا، أو نهارا فقد تم حجه وقضى تفثه" فحكم
بصحة حجه وإتمامه بوقوفه في أحد الوقتين من ليل، أو نهار. ويدل عليه
أيضا قوله تعالى: {ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ}
و"حيث" اسم للموضع، وهو عرفات، فكان بمنزلة قوله: "أفيضوا من عرفات"
ولم يخصصه بليل ولا نهار، وليس فيه ذكر للوقت، فاقتضى ذلك جوازه في أي
وقت وقف فيه. ويدل عليه من جهة النظر أنا وجدنا سائر المناسك ابتداؤها
بالنهار، وإنما يدخل فيه الليل تبعا، ولم نجد شيئا منها يختص بالليل
حتى لا يصح فعله في غيره فقول من جعل فرض الوقوف بالليل خارج عن
الأصول، ألا ترى أن طواف الزيارة، والوقوف بالمزدلفة، والرمي، والذبح،
والحلق كل ذلك مفعول بالنهار؟ وإنما يفعل بالليل على أنه يؤخر عن وقته
على وجه التبع للنهار، فوجب أن يكون ذلك حكم الوقوف بعرفة وأيضا قد
نقلت الأمة وقوف النبي عليه السلام نهارا إلى يومنا هذا، وأنه دفع منها
عند سقوط الفرض، وهذا يدل على أن وقت الوقوف هو النهار، ووقت
(1/377)
الغروب هو
الدفع، فاستحال أن يكون الدفع هو وقت الفرض، ووقت الوقوف لا يكون وقتا
للفرض. وأيضا لما قيل يوم عرفة ونقلت هذه التسمية عن النبي عليه السلام
في أخبار كثيرة، منها: "إن الله تعالى يباهي ملائكته يوم عرفة" ومنها:
"إن صيام يوم عرفة يعدل صيام سنة" ولذلك أطلقت الأمة ذلك عليه، دل على
أن النهار وقت الفرض فيه، وأن الوقوف ليلا إنما يفعله من وقف فائتا;
ألا ترى أنه لما قيل يوم الجمعة، ويوم الأضحى، ويوم الفطر كانت هذه
الأفعال واقعة في هذه الأيام نهارا ولذلك أضيفت إليها؟ فدل ذلك على أن
فرض الوقوف يوم عرفة، وأنه يفعل ليلا على وجه القضاء لما فاته، كما
يرمي الجمار ليلا على وجه القضاء لما فاته نهارا، وكذلك الطواف،
والذبح، والحلق.
واختلف في موضع الوقوف، فروى جبير بن مطعم أن النبي عليه السلام قال:
"كل عرفات موقف وارفعوا عن عرنة، وكل مزدلفة موقف وارفعوا عن محسر".
وروى جابر عن النبي عليه السلام أنه قال: "كل عرفة موقف". وقال ابن
عباس: "ارتفعوا عن وادي عرفة، والمنبر عن مسيلة فما فوق ذلك موقف". ولم
يختلف رواة الأخبار أن النبي عليه السلام دفع من عرفة بعد غروب الشمس;
وقد روي أن أهل الجاهلية كانوا يدفعون منها إذا صارت الشمس على رءوس
الجبال كأنها عمائم الرجال في وجوههم، وأنهم كانوا يدفعون من المزدلفة
بعد طلوع الشمس، فخالفهم النبي عليه السلام ودفع من عرفات بعد الغروب
ومن المزدلفة قبل الطلوع. وروى سلمة بن كهيل عن الحسن العرني عن ابن
عباس قال: خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس يوم عرفة فقال: "يا
أيها الناس ليس البر في إيجاف الخيل ولا في إيضاع الإبل ولكن سيرا حسنا
جميلا، ولا توطئوا ضعيفا ولا تؤذوا مسلما". وروى هشام بن عروة عن أبيه
عن أسامة بن زيد قال: "كان سيرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حين
يدفع من عرفات العنق، غير أنه كان إذا وجد فجوة نص". والله أعلم.
(1/378)
باب الوقوف بجمع
قال الله تعالى: {فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا
اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ} ولم يختلف أهل العلم أن المشعر
الحرام هو المزدلفة وتسمى جمعا. فمن الناس من يقول: إن هذا الذكر هو
صلاة المغرب، والعشاء اللتين يجمع بينهما بالمزدلفة، والذكر الثاني في
قوله: {وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ} هو الذكر المفعول عند الوقوف
بالمزدلفة غداة جمع، فيكون الذكر الأول غير الثاني. والصلاة تسمى ذكرا،
قال النبي عليه السلام: "من نام عن صلاة، أو نسيها فليصلها إذا ذكرها"
وتلا عند ذلك قوله تعالى: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي} [طه: 214]
فسمى الصلاة ذكرا، فعلى هذا قد اقتضت الآية تأخير صلاة المغرب إلى أن
(1/378)
تجمع مع
العشاء بالمزدلفة. وروي عن أسامة بن زيد وكان رديف رسول الله من عرفات
إلى المزدلفة أنه قال للنبي عليه السلام في طريق المزدلفة: الصلاة
فقال: "الصلاة أمامك" فلما أتى المزدلفة صلاها مع العشاء الآخرة،
والأخبار عن النبي عليه السلام متواترة في جمع النبي عليه السلام بين
المغرب، والعشاء بالمزدلفة.
وقد اختلف في من صلى المغرب قبل أن يأتي المزدلفة فقال أبو حنيفة ومحمد
لا تجزيه وقال أبو يوسف: تجزيه. وظاهر قوله تعالى: {فَإِذَا أَفَضْتُمْ
مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ}
إذا كان المراد به الصلاة يمنع جوازها قبله، وكذلك قول النبي صلى الله
عليه وسلم: "الصلاة أمامك" وحمله على ذلك أولى من حمله على الذكر
المفعول في حال الوقوف بجمع; لأن قوله تعالى: {وَاذْكُرُوهُ كَمَا
هَدَاكُمْ} هو الذكر في موقف جمع، فواجب أن نحمل الذكر الأول على
الصلاة حتى نكون قد وفينا كل واحد من الذكرين حظه من الفائدة ولا يكون
تكرارا. وأيضا فإن قوله: {فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ
الْحَرَامِ} هو أمر يقتضي الإيجاب، والذكر المفعول بجمع ليس بواجب عند
الجميع ومتى حمل على فعل صلاة المغرب بجمع كان محمولا على مقتضاه من
الوجوب، فوجب حمله عليه.
وقد اختلف أهل العلم في الوقوف بالمزدلفة، هل هو من فروض الحج أم لا،
فقال قائلون: هو من فروض الحج ومن فاته فلا حج له كمن فاته الوقوف
بعرفة وقال جمهور أهل العلم حجه تام ولا يفسده ترك الوقوف بالمزدلفة.
واحتج من لم يجعله من فروضه بما روي عن النبي عليه السلام في حديث عبد
الرحمن بن يعمر الديلي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "الحج
عرفة فمن وقف قبل أن يطلع الفجر فقد تم حجه". وقال في بعض الأخبار: "من
أدرك عرفة فقد أدرك الحج، ومن فاته عرفة فقد فاته الحج" فحكم بصحة حجه
بإدراك عرفة ولم يشترط معه الوقوف بجمع ويدل عليه ما روى ابن عباس وابن
عمر ونقله الناس، قائلين له: إن النبي عليه السلام قدم ضعفة أهله بليل
وفي بعض الأخبار ضعفة الناس من المزدلفة ليلا وقال لهم: "لا ترموا جمرة
العقبة حتى تطلع الشمس". فلو كان الوقوف بها فرضا لما رخص لهم في تركه
للضعف، كما لا يرخص في الوقوف بعرفة لأجل الضعف.
فإن قيل: لأنهم كانوا وقفوا ليلا وهو وقت الوقوف بها، وروى سالم بن عمر
وهو أحد من روى حديث تقديم ضعفة الناس من المزدلفة: فكان يقدم ضعفة
أهله من المزدلفة فيقفون عند المشعر الحرام بليل، فيذكرون ما بدا لهم
ثم يدفعون قيل له: وقت الوقوف بها بعد طلوع الفجر، وقد نقل الناس وقوف
النبي عليه السلام بها بعد طلوع
(1/379)
الفجر ولم
يأمر النبي عليه السلام ضعفة أهله بالوقوف حين عجلهم منها ليلا، ولو
كان ذلك وقت الوقوف لأمرهم به، ولم يرخص لهم في تركه مع إمكانه من غير
عذر; وما روي عن ابن عمر فإنما هو من فعله ليس عن النبي عليه السلام
ولم يقل ابن عمر أيضا: إن هذا وقت الوقوف، وإنما كان ذلك على وجه
الاستحباب للذكر قبل الرجوع إلى منى. ويدل على أن وقت الوقوف بعد طلوع
الفجر أنا وجدنا سائر أفعال المناسك إنما وقتها بالنهار، والليل دخل
فيه على وجه التبع على ما بينا.
واحتج من جعل الوقوف بها فرضا بظاهر قوله تعالى: {فَإِذَا أَفَضْتُمْ
مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ}
فظاهره يقتضي الوجوب. ويحتجون أيضا بحديث مطرف بن طريف عن الشعبي عن
عروة بن مضرس، عن النبي عليه السلام قال: "من أدرك جمعا، والإمام واقف
فوقف مع الإمام ثم أفاض مع الناس فقد أدرك الحج، ومن لم يدرك فلا حج
له"، وبما روى يعلى بن عبيد قال: حدثنا سفيان عن بكير بن عطاء عن عبد
الرحمن بن يعمر الديلي قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم واقفا
بعرفات، فأقبل ناس من أهل نجد فسألوه عن الحج، فقال: "الحج يوم عرفة
ومن أدرك جمعا قبل الصبح فقد أدرك الحج".
فأما قوله: {فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ} فلا
دلالة فيه على ما ذكروا وذلك لأنه أمر بالذكر، وقد اتفق الجميع على أن
الذكر هناك غير مفروض، فإن تركه لا يوجب نقصا في الحج، وليس للوقوف ذكر
في الآية، فسقط الاحتجاج به، ومع ذلك فقد بينا أن المراد بهذا الذكر هو
فعل صلاة المغرب هناك. وأما حديث مطرف بن طريف عن الشعبي، فإنه قد رواه
خمسة من الرواة غير مطرف، منهم زكريا بن أبي زائدة وعبد الله بن أبي
السفر وسيار وغيرهم عن الشعبي عن عروة عن النبي عليه السلام ذكروا فيه
أنه عليه السلام قال: "من صلى معنا هذه الصلاة ووقف معنا هذا الموقف
وأفاض قبل ذلك من عرفة ليلا، أو نهارا فقد تم حجه وقضى تفثه" ولم يذكر
منهم أحد أنه قال فلا حج له. ومع ذلك فقد اتفقوا أن ترك الصلاة هناك لا
يفسد الحج، وقد ذكرها النبي صلى الله عليه وسلم فكذلك الوقوف.
وقوله: "فلا حج له" يحتمل أن يريد به نفي الفضل لا نفي الأصل، كما قال
عليه السلام: "لا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه"، وكما روى عمر "من
قدم نفله فلا حج له". وأما حديث عبد الرحمن بن يعمر الديلي عن النبي
صلى الله عليه وسلم فإنه قد روى هذا الحديث محمد بن كثير عن سفيان عن
بكير بن عطاء عن عبد الرحمن بن يعمر الديلي عن النبي صلى الله عليه
وسلم وقال فيه: "من وقف قبل أن يطلع الفجر فقد تم حجه" فعلمنا أن
المراد بذلك
(1/380)
الوقوف
بعرفة في شرط إدراك الحج، وأن رواية من روى "من أدرك جمعا قبل الصبح"
وهم، وكيف لا يكون وهما وقد نقلت الأمة عن النبي صلى الله عليه وسلم
وقوفه بها بعد طلوع الفجر ولم يرو عنه أنه أمر أحدا بالوقوف بها ليلا؟
ومع ذلك فقد عارضته الأخبار الصحيحة التي رويت من قوله: "من صلى معنا
هذه الصلاة ثم وقف معنا هذا الموقف" وسائر أخبار عبد الرحمن بن يعمر
أنه قال: "من أدرك عرفة فقد أدرك الحج وقد تم حجه، ومن فاته عرفة فقد
فاته الحج" وذلك ينفي رواية من شرط معه الوقوف بالمزدلفة، وأظن الأصم
وابن علية القائلين بهذه المقالة.
واحتجوا فيه من طريق النظر، بأنه لما كان في الحج وقوفان واتفقنا على
فرضية أحدهما وهو الوقوف بعرفة، وجب أن يكون الآخر فرضا; لأن الله عز
وجل ذكرهما في القرآن; كما أنه لما ذكر الركوع، والسجود كانا فرضين في
الصلاة. فيقال له: أما قولك إنهما لما كانا مذكورين في القرآن كانا
فرضين فإنه غلط فاحش; لأنه يقتضي أن يكون كل مذكور في القرآن فرضا،
وهذا خلف من القول. وعلى أن الله تعالى لم يذكر الوقوف وإنما قال:
{فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ} ، والذكر ليس
بمفروض عند الجميع، فكيف يكون الوقوف فرضا؟ فالاحتجاج به من هذا الوجه
ساقط. فإن كان أوجبه قياسا على الوقوف بعرفة، فإنه يطالب بالدلالة على
صحة العلة الموجبة لهذا القياس، وذلك معدوم; ويقال له: أليس قد طاف
النبي صلى الله عليه وسلم حين قدم مكة وسعى، ثم طاف أيضا يوم النحر
وطاف للصدر وأمر به؟ فهل وجب أن يكون لهذا الطواف كله حكم واحد في باب
الإيجاب؟ فإذا جاز أن يكون بعض الطواف ندبا وبعضه واجبا، فما ينكر أن
يكون حكم الوقوف كذلك فيكون بعضه ندبا وبعضه واجبا؟ قوله تعالى:
{فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ
آبَاءَكُمْ}. قضاء المناسك هو فعلها على تمام، ومثله قوله: {فَإِذَا
قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً}
[النساء: 103] وقوله: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي
الْأَرْضِ} [الجمعة: 10]، ومنه قوله عليه السلام: "فما أدركتم فصلوا،
وما فاتكم فاقضوا" يعني افعلوه على التمام.
وقوله: {فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ} قد قيل فيه
وجهان: أحدهما: الأذكار المفعولة في سائر أحوال المناسك، كقوله: {إِذَا
طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا
الْعِدَّةَ} [الطلاق: 1] وهو مأمور به قبل الطلاق، على مجرى قولهم:
"إذا حججت فطف بالبيت، وإذا أحرمت فاغتسل، وإذا صليت فتوضأ" وقوله
تعالى: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ}
[المائدة: 6] وإنما هو قبل الصلاة; وكذلك قوله: {فَإِذَا قَضَيْتُمْ
مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ} جائز أن يريد الأذكار المسنونة
بعرفات والمزدلفة
(1/381)
وعند
الرمي، والطواف. وقيل فيه: إن أهل الجاهلية كانوا يقفون عند قضاء
المناسك فيذكرون مآثرهم ومفاخر آبائهم، فأبدلهم الله به ذكره وشكره على
نعمه، والثناء عليه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم بعرفات: "إن الله
قد أذهب عنكم نخوة الجاهلية وتعظمها بالآباء، الناس من آدم وآدم من
تراب، لا فضل لعربي على عجمي إلا بالتقوى" ثم تلا {يَا أَيُّهَا
النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ
شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ
أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: 13] فكان خروج الكلام على حال لأهل الجاهلية في
ذكرهم آباءهم، والله أعلم.
(1/382)
باب أيام منى و النفر فيها
...
باب أيام منى والنفر فيها
قال الله عز وجل: {وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ
فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ}. قال أبو بكر:
روى سفيان وشعبة عن بكير بن عطاء عن عبد الرحمن بن يعمر الديلي قال:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أيام منى ثلاثة أيام التشريق، فمن
تعجل في يومين فلا إثم عليه، ومن تأخر فلا إثم عليه". واتفق أهل العلم
على أن قوله بيان لمراد الآية في قوله: {أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ} ولا
خلاف بين أهل العلم أن المعدودات أيام التشريق; وقد روي ذلك عن علي
وعمر وابن عباس وابن عمر وغيرهم، إلا شيء رواه ابن أبي ليلى عن المنهال
عن زر عن علي قال: المعدودات: يوم النحر ويومان بعده واذبح في أيها
شئت. وقد قيل: إن هذا وهم، والصحيح عن علي أنه قال ذلك في المعلومات.
وظاهر الآية ينفي ذلك أيضا; لأنه قال: {فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي
يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ} وذلك لا يتعلق بالنحر وإنما يتعلق
برمي الجمار المفعول في أيام التشريق. وأما المعلومات فقد روي عن علي
وابن عمر: أن المعلومات يوم النحر ويومان بعده، واذبح في أيها شئت قال
ابن عمر: المعدودات أيام التشريق، وقال سعيد بن جبير عن ابن عباس:
المعلومات: العشر، والمعدودات أيام التشريق. وقد روى ابن أبي ليلى عن
الحكم عن مقسم عن ابن عباس: المعلومات: يوم النحر وثلاثة أيام بعده
أيام التشريق، والمعدودات يوم النحر وثلاثة أيام بعده التشريق وروى عبد
الله بن موسى: أخبرنا عمارة بن ذكوان عن مجاهد عن ابن عباس قال:
المعدوات أيام العشر، والمعلومات أيام النحر فقوله: المعدودات إنها
أيام العشر، لا شك في أنه خطأ ولم يقل به أحد، وهو خلاف الكتاب، قال
الله تعالى: {فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ}
وليس في العشر حكم يتعلق بيومين دون الثلاث. وقد روي عن ابن عباس
بإسناد صحيح أن المعلومات العشر، والمعدودات أيام التشريق، وهو قول
الجمهور من التابعين، منهم الحسن ومجاهد وعطاء والضحاك وإبراهيم في
آخرين منهم. وقد روي عن أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد: أن المعلومات
العشر، والمعدودات
(1/382)
أيام
التشريق. وذكر الطحاوي عن شيخه أحمد بن أبي عمران، عن بشر بن الوليد
قال: كتب أبو العباس الطوسي إلى أبي يوسف يسأله عن الأيام المعلومات،
فأملى علي أبو يوسف جواب كتابه: اختلف أصحاب رسول الله صلى الله عليه
وسلم، فروي عن علي وابن عمر أنها أيام النحر، وإلى ذلك أذهب; لأنه قال:
{عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ} [الحج: 28 – 34]،
وذكر شيخنا أبو الحسن الكرخي عن أحمد القاري عن محمد، عن أبي حنيفة، أن
المعلومات العشر; وعن محمد: أنها أيام النحر الثلاثة: يوم الأضحى
ويومان بعده.
قال أبو بكر: فحصل من رواية أحمد القاري عن محمد، ورواية بشر بن الوليد
عن أبي يوسف، أن المعلومات يوم النحر ويومان بعده، ولم تختلف عن أبي
حنيفة أن المعلومات أيام العشر، والمعدودات أيام التشريق; وهو قول ابن
عباس المشهور وقوله تعالى: {عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ
الْأَنْعَامِ} [الحج: 28 - 34] لا دلالة فيه على أن المراد أيام النحر
لاحتماله أن يريد: لما رزقهم من بهيمة الأنعام، كقوله:
{وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ} [البقرة: 185]،
والمعنى: لما هداكم. وأيضا يحتمل أن يريد بها أيام العشر; لأن فيها يوم
النحر، وفيه الذبح، ويكون بتكرار السنين عليه أياما. وذكر أهل اللغة أن
المعدودات منفصلة عن المعلومات بدلالة اللفظ على افتراقهما في باب
العدد، وذلك; لأن وصفها بالمعدودات دلالة التقليل، كقوله تعالى:
{بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ} [يوسف: 20] وإنما يوصف بالعدد إذا أريد
به التقليل; لأنه يكون نقيض كثرة; فهو كقولك: قليل وكثير; فعرفت
المعدودات بالتقليل، وقيل للأخرى معلومات فعرفت بالشهرة; لأنها عشرة.
ولم يختلف أهل العلم أن أيام منى ثلاثة بعد يوم النحر، وأن للحاج أن
يتعجل في اليوم الثاني منها إذا رمى الجمار وينفر، وأن له أن يتأخر إلى
اليوم الثالث حتى يرمي الجمار فيه ثم ينفر. واختلف فيمن لم ينفر حتى
غابت الشمس من اليوم الثاني، فروي عن عمر وابن عمر وجابر بن زيد والحسن
وإبراهيم: أنه إذا غابت الشمس من اليوم الثاني قبل أن ينفر فلا ينفر
حتى يرمي الجمار من الغد. وروي عن الحسن البصري: أن له أن ينفر في
اليوم الثاني إذا رمى وقت الظهر كله، فإن أدركته صلاة العصر بمنى، فليس
له أن ينفر إلى اليوم الثالث. وقال أصحابنا: إنه إذا لم ينفر حتى غابت
الشمس فلا ينبغي له أن ينفر حتى يرمي جمرة اليوم الثالث، ولا يلزمه ذلك
إلا أن يصبح بمنى فحينئذ يلزمه رمي اليوم الثالث ولا يجوز تركه. ولا
نعلم خلافا بين الفقهاء أن من أقام بمنى إلى اليوم الثالث أنه لا يجوز
له النفر حتى يرمي، وإنما قالوا: إنه لا يلزمه رمي اليوم الثالث
بإقامته بمنى إلى أن يمسي، من قبل أن الليلة التي تلي اليوم
(1/383)
الثاني هي
تابعة له حكمها حكمه، وليس حكمها حكم الذي بعدها، ألا ترى أنه لو ترك
الرمي في اليوم الأول رماه في ليلته ولم يكن مؤخرا له عن وقته؟ لأنه
عليه السلام رخص للرعاة أن يرموا ليلا، فكان حكم الليلة حكم اليوم الذي
قبلها ولم يكن حكمها حكم الذي بعدها; فلذلك قالوا: إن إقامته في اليوم
الثاني بمنى إلى أن يمسي بمنزلة إقامته بها نهارا، وإذا أقام حتى يصبح
من اليوم الثالث لزمه الرمي بلا خلاف. وهذا مما يستدل به على صحة قول
أبي حنيفة في تجويزه رمي اليوم الثالث قبل الزوال; إذ قد صار وقتا
للزوم الرمي، ويستحيل أن يكون وقتا لوجوبه ثم لا يصح فعله فيه.
وأما قوله تعالى: {فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ
عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى} فإنه
قد قيل فيه وجهان: أحدهما: فلا إثم عليه لتكفير سيئاته وذنوبه بالحج
المبرور; وروي نحوه عن عبد الله بن مسعود، ومثله ما روي عن النبي عليه
السلام أنه قال: "من حج فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه". والوجه
الثاني: أنه لا مأثم عليه في التعجيل; وروي نحوه عن الحسن وغيره، وقال:
{وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ} لأنه مباح له التأخير. وقوله:
{لِمَنِ اتَّقَى} يحتمل لمن اتقى ما نهى الله عنه في الإحرام بقوله:
{فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ}، وإن لم يتق
فغير موعود بالثواب.
قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ
الدُّنْيَا} الآية قال أبو بكر: فيه تحذير من الاغترار بظاهر القول وما
يبديه من حلاوة المنطق والاجتهاد في تأكيد ما يظهره، فأخبر الله تعالى
أن من الناس من يظهر بلسانه ما يعجبك ظاهره {وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى
مَا فِي قَلْبِهِ} وهذه صفة المنافقين، مثل قوله تعالى: {قَالُوا
نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ
لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ}
[المنافقون: 1] {اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً} [المجادلة: 16]
وقوله: {وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ
يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ} [المنافقون: 4] فأعلم الله تعالى
نبيه ضمائرهم لئلا يغتر بظاهر أقوالهم، وجعله عبرة لنا في أمثالهم لئلا
نتكل على ظاهر أمور الناس وما يبدونه من أنفسهم. وفيه الأمر بالاحتياط
فيما يتعلق بأمثالهم من أمور الدين، والدنيا، فلا نقتصر فيما أمرنا
بائتمان الناس عليه من أمر الدين، والدنيا على ظاهر حال الإنسان دون
البحث عنه. وفيه دليل على أن عليه استبراء حال من يراد للقضاء والشهادة
والإمامة، وما جرى مجرى ذلك، في أن لا يقبل منهم ظاهرهم حتى يسأل ويبحث
عنهم; إذ قد حذرنا الله تعالى أمثالهم في توليتهم على أمور المسلمين،
ألا ترى أنه عقبه بقوله: {وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ
لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ}؟ فكان ذكر التولي
في هذا الموضع إعلاما لنا أنه غير جائز الاقتصار على ظاهر ما يظهره دون
الاستبراء لحاله من غير جهته.
(1/384)
قوله
تعالى: {وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ} وهو وصف له بالمبالغة في شدة
الخصومة، والفتل للخصم بها عن حقه وإحالته إلى جانبه; ويقال: لده عن
كذا إذا حبسه; وعلى هذا المعنى قال النبي عليه السلام: "إنكم تختصمون
إلي، ولعل بعضكم يكون ألحن بحجته من بعض، وإنما أقضي بما أسمع، فمن
قضيت له من حق أخيه فإنما أقطع له قطعة من النار"، فكان معنى قوله:
{وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ} أنه أشد المخاصمين خصومة.
وقوله: {وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ} نص على بطلان مذهب أهل
الإجبار; لأن ما لا يحبه الله فهو لا يريده، وما لا يريده فهو لا يحبه;
فأخبر الله تعالى في هذه الآية أنه لا يحب الفساد، وهذا يوجب أن لا
يفعل الفساد; لأنه لو فعله لكان مريدا له ومحبا له; وهو مثل قوله:
{وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبَادِ} [غافر: 31] فنفى عن نفسه
فعل الظلم; لأنه لو فعله لكان مريدا، لاستحالة أن يفعل ما لا يريد.
ويدل على أن محبته لكون الفعل هي إرادته له، أنه غير جائز أن يحب كونه
ولا يريد أن يكون، بل يكره أن يكون; وهذا هو التناقض، كما لو قال:
"يريد الفعل ويكرهه" لكان مناقضا مختلا في كلامه; ويدل عليه قوله
تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي
الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور: 19]، والمعنى: "إن
الذين يريدون" فدل على أن المحبة هي الإرادة; وقد روي عن النبي صلى
الله عليه وسلم أنه قال: "إن الله أحب لكم ثلاثا وكره لكم ثلاثا: أحب
لكم أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا وأن تناصحوا من ولاه الله أمركم;
وكره لكم القيل والقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال"، فجعل الكراهة في
مقابلة المحبة، فدل أن ما أراده فقد أحبه، كما أن ما كرهه فلم يرده; إذ
كانت الكراهة في مقابلة الإرادة كما هي في مقابلة المحبة، فلما كانت
الكراهة نقيضا لكل واحدة من الإرادة، والمحبة دل على أنهما سواء.
قوله تعالى: {فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} فإن العزيز
هو المنيع القادر على أن يمنع; لأن أصل العزة الامتناع، ومنه يقال: أرض
عزاز، إذا كانت ممتنعة بالشدة، والصعوبة. وأما الحكيم فإنه يطلق في صفة
الله تعالى على معنيين: أحدهما: العالم، وإذا أريد به ذلك جاز أن يقال:
لم يزل حكيما والمعنى الآخر: من الفعل المتقن المحكم، وإذا أريد به ذلك
لم يجز أن يقال: لم يزل حكيما كما لا يجوز أن يقال لم يزل فاعلا فوصفه
لنفسه بأنه حكيم يدل على أنه لا يفعل الظلم، والسفه، والقبائح ولا
يريدها; لأن من كان كذلك فليس بحكيم عند جميع أهل العقل; وفيه دليل على
بطلان قول أهل الجبر.
وقوله تعالى: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي
ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلائِكَةُ} هذا من المتشابه الذي أمرنا
الله برده إلى المحكم في قوله: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ
الْكِتَابَ مِنْهُ
(1/385)
آيَاتٌ
مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا
الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ
مِنْهُ} [آل عمران: 7]. وإنما كان متشابها لاحتماله حقيقة اللفظ،
وإتيان الله واحتماله أن يريد أمر الله ودليل آياته، كقوله في موضع
آخر: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ
يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ} [الأنعام: 158]
فجميع هذه الآيات المتشابهة محمولة على ما بينه في قوله: {أَوْ
يَأْتِيَ رَبُّكَ} [الأنعام: 158]، لأن الله تعالى لا يجوز عليه
الإتيان ولا المجيء ولا الانتقال ولا الزوال; لأن ذلك من صفات الأجسام
ودلالات الحدث. وقال تعالى في آية محكمة: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ}
[الشورى: 11]، وجعل إبراهيم عليه السلام ما شهده من حركات النجوم
وانتقالها وزوالها دليلا على حدوثها، واحتج به على قومه، فقال الله عز
وجل: {وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ}
[الأنعام: 83] يعني في حدث الكواكب، والأجسام; تعالى الله عن قول
المشبهة علوا كبيرا.
فإن قيل: فهل يجوز أن يقال: "جاء ربك" بمعنى جاء كتابه، أو جاء رسوله،
أو ما جرى مجرى ذلك؟ قيل له: هذا مجاز، والمجاز لا يستعمل إلا في موضع
يقوم الدليل عليه، وقد قال تعالى: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي
كُنَّا فِيهَا} [يوسف: 82] وهو يريد أهل القرية، وقال: {إِنَّ
الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [الأحزاب: 57] وهو يعني،
أولياء الله. والمجاز إنما يستعمل في الموضع الذي يقوم الدليل على
استعماله فيه، أو فيما لا يشتبه معناه على السامع.
وقوله عز وجل: {وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ} فيه وجهان:
أحدهما: أنه لما كانت الأمور كلها قبل أن يملك العباد شيئا منها له
خاصة، ثم ملكهم كثيرا من الأمور، ثم تكون الأمور كلها في الآخرة إليه
دون خلقه، جاز أن يقول: ترجع إليه الأمور. والمعنى الآخر: أن يكون
بمعنى قوله: {أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ} [الشورى: 53]
يعني أنه لا يملكها غيره، لا على أنها لم تكن إليه ثم صارت إليه، لكن
على أنه لا يملكها أحد سواه، كما قال لبيد:
وما المرء إلا كالشهاب وضوئه ... يحور رمادا بعد إذ هو ساطع
وإنما عنى أنه يصير رمادا لا على أنه كان رمادا مرة ثم رجع إلى ما كان.
قوله تعالى: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ
النَّبِيِّينَ} الآية، قيل فيه: إنهم كانوا أمة واحدة على الكفر، وإن
كانوا مختلفين في مذاهبهم وجائز أن يكون فيهم مسلمون إلا أنهم قليلون
في نفسهم، وجائز إذا كان كذلك إطلاق اسم الأمة على الجماعة لانصرافه
(1/386)
إلى الأعم
الأكثر، وقال قتادة، والضحاك: كانوا أمة واحدة على الحق فاختلفوا.
وقوله: {فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ
مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ} فإن عبد الله بن طاوس يروي عن أبيه عن أبي
هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "نحن الآخرون السابقون
يوم القيامة، بيد أن كل أمة أوتوا الكتاب قبلنا وأوتيناه من بعدهم،
فهذا يومهم الذي اختلفوا فيه، فهدانا الله له، ولليهود غد وللنصارى بعد
غد". وروى الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة عن النبي عليه السلام نحوه;
إلا أنه قال: "هدانا الله له، يوم الجمعة لنا وغدا لليهود وبعد غد
للنصارى". ففي هذا الحديث أن المراد بقوله: {فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ
آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ} هو يوم الجمعة; وعموم اللفظ يقتضي
سائر الحق الذي هدي له المؤمنون، ويكون يوم الجمعة أحدها; والله سبحانه
وتعالى أعلم بالصواب.
(1/387)
باب من يبدأ به في النفقة عليه
قال الله تعالى: {يَسْأَلونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا
أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ} الآية.
فالسؤال واقع عن مقدار ما ينفق، والجواب صدر عن القليل، والكثير مع
بيان من تصرف إليه النفقة، فقال تعالى: {قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ
خَيْرٍ} فذاك يتناول القليل، والكثير لشمول اسم الخير لجميع الإنفاق
الذي يطلب به وجه الله، وبين فيمن تصرف إليه بقوله: {فَلِلْوَالِدَيْنِ
وَالْأَقْرَبِينَ} ومن ذكر في الآية، وأن هؤلاء أولى من غيرهم ممن ليس
هو في منزلتهم بالقرب والفقر وقد بين في آية أخرى ما يجب عليه فيه
النفقة، وهو قوله: {وَيَسْأَلونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ}
فروي عن ابن عباس قال: ما يفضل عن أهلك، وقال قتادة: "العفو الفضل".
فأخبر في هذه الآية أن النفقة فيما يفضل عن نفسه وأهله وعياله; وعلى
هذا المعنى قال عليه السلام: "خير الصدقة ما كان عن ظهر غنى" وفي خبر
آخر: "خير الصدقة ما أبقت غنى، وابدأ بمن تعول"، فهذا موافق لقوله:
{وَيَسْأَلونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ} [البقرة: 219].
وقد روي عن النبي عليه السلام أخبار في التبدئة بالأقرب في النفقة،
فمنها حديث ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم: "اليد العليا خير
من اليد السفلى وابدأ بمن تعول; أمك وأبوك وأختك وأخوك وأدناك فأدناك";
وروى مثله ثعلبة بن زهدم وطارق عن النبي عليه السلام وقد دل ذلك على
معنى الآية في قوله: {قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ
فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ} وإنما المراد بها تقديم الأقرب
فالأقرب في الإنفاق. وروي عن الحسن البصري أن الآية في الزكاة والتطوع
جميعا، وأنها ثابتة الحكم غير منسوخة عليه. وقال السدي: هي منسوخة بفرض
الزكاة. قال أبو بكر: هي ثابتة الحكم عامة في الفرض والتطوع، أما الفرض
فلم يرد به الوالدين
(1/387)
ولا
الولد، وإن سفلوا لقيام الدلالة عليه، وأما التطوع فهي عامة في الجميع،
ومتى أمكننا استعمالهما مع فرض الزكاة فغير جائز الحكم بنسخها، وكذلك
حكم سائر الآيات متى أمكن الجمع بين جميعها في أحكامها من غير إثبات
نسخ لها لم يجز لنا الحكم بنسخ شيء منها. وليس يمتنع أن يكون المراد به
النفقة على الوالدين، والأقربين إذا كانوا محتاجين، وذلك إذا كان الرجل
غنيا; لأن قوله تعالى: {قُلِ الْعَفْوَ} [البقرة: 219] قد دل على أن
النفقة إنما تجب عليه فيما يفضل; فإذا كان هو وعياله محتاجين لا يفضل
عنهم شيء فليس عليه نفقة.
وقد دلت الآية على معان: منها أن القليل، والكثير من النفقة يستحق به
الثواب على الله تعالى إذا أراد بها وجه الله; وينتظم ذلك الصدقات من
النوافل والفروض. ومنها أن الأقرب فالأقرب، أولى بذلك، بقوله:
{فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ} مع بيان النبي عليه السلام لمراد
الله بقوله: "ابدأ بمن تعول أمك وأباك وأختك وأخاك وأدناك فأدناك" وفيه
الدلالة على وجوب نفقة الوالدين، والأقربين عليه.
فإن قيل: فينبغي أن يلزمه نفقة المساكين وابن السبيل وجميع من ذكر في
الآية. قيل له: قد اقتضى ظاهرها ذلك، وخصصنا بعضها من النفقة التي
تستحقها الأقارب بدلالة، وهم داخلون في الزكاة والتطوع. وحدثنا عبد
الباقي بن قانع قال: حدثنا معاذ بن المثنى قال: حدثنا محمد بن بكر قال:
حدثنا سفيان عن مزاحم بن زفر عن مجاهد عن أبي هريرة قال: "دينار أعطيته
في سبيل الله، ودينار أعطيته مسكينا، ودينار أعطيته في رقبة، ودينار
أنفقته على أهلك، فإن الدينار الذي أنفقته على أهلك أعظمها أجرا". وقد
روي ذلك مرفوعا إلى النبي عليه السلام; حدثنا عبد الباقي قال: حدثنا
محمد بن يحيى المروزي قال: حدثنا عاصم بن علي قال: حدثنا المسعودي عن
مزاحم بن زفر عن مجاهد عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم نحوه.
وحدثنا عبد الباقي قال: حدثنا معاذ بن المثنى قال: حدثنا محمد بن كثير
قال: حدثنا شعبة عن عدي بن ثابت عن عبد الله بن زيد، عن ابن مسعود عن
النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن المسلم إذا أنفق نفقة على أهله كانت
له صدقة" فهذه الآثار موافقة لمعنى قوله: {وَيَسْأَلونَكَ مَاذَا
يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ} وقد اختلف في المراد به، فقال ابن عباس
وقتادة: الفضل عن الغنى. وقال الحسن وعطاء: "الوسط من غير إسراف". وقال
مجاهد: "أراد به الصدقة المفروضة".
قال أبو بكر: إذا كان العفو ما فضل فجائز أن يريد به الزكاة المفروضة
في أنها لا تجب إلا فيما فضل عن مقدار الحاجة وحصل به الغنى، وكذلك
سائر الصدقات الواجبة، ويجوز أن يريد به الصدقة التطوع، فيتضمن ذلك
الأمر بالإنفاق على نفسه
(1/388)
وعياله،
والأقرب فالأقرب منه، ثم بعد ذلك ما يفضل يصرفه إلى الأجانب. ويحتج به
في أن صدقة الفطر وسائر الصدقات لا تجب على الفقير; إذ كان الله تعالى
إنما أمرنا بالإنفاق من العفو، والفاضل عن الغنى.
قوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ} هذا
يدل على فرض القتال; لأن قوله: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ} بمعنى فرض عليكم،
كقوله: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} [البقرة: 186] ثم لا يخلو
القتال المذكور في الآية من أن يرجع إلى معهود قد عرفه المخاطبون، أو
لم يرجع إلى معهود; لأن الألف، واللام تدخلان للجنس، أو للمعهود، فإن
كان المراد قتالا قد عرفوه رجع الكلام إليه، نحو قوله تعالى:
{وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ
كَافَّةً} [التوبة: 36] وقوله: {وَلا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ
الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ
قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ} [البقرة: 191]. فإن كان كذلك، فإنما هو
أمر بقتال على وصف، وهو أن نقاتل المشركين إذا قاتلونا، فيكون حينئذ
كلاما مبنيا على معهود قد علم حكمه مكرر ذكره تأكيدا، وإن لم يكن راجعا
إلى معهود فهو لا محالة مجمل مفتقر إلى البيان، وذلك أنه معلوم عند
وروده أنه لم يأمرنا بقتال الناس كلهم فلا يصح اعتقاد العموم فيه، وما
لا يصح اعتقاد العموم فيه فهو مجمل مفتقر إلى البيان. وسنبين اختلاف
أهل العلم في فرض الجهاد وكيفيته عند مصيرنا إلى قوله: {فَاقْتُلُوا
الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} [التوبة: 5] إن شاء الله
تعالى.
وقوله: {وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ} معناه: مكروه لكم; أقيم فيه المصدر مقام
المفعول، كقولك: "فلان رضى" أي: مرضي.
وقوله تعالى: {يَسْأَلونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ
قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ
بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} قد تضمنت هذه الآية تحريم القتال في
الشهر الحرام، ونظيره في الدلالة على مثله قوله: {الشَّهْرُ الْحَرَامُ
بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ} [البقرة: 194] وقوله:
{إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْراً فِي
كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا
أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا
فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ} [التوبة: 36]. وحدثنا جعفر بن محمد الواسطي
قال: حدثنا جعفر بن محمد بن اليمان قال: حدثنا أبو عبيد قال: حدثنا
حجاج عن الليث بن سعد قال: حدثني أبو الزبير عن جابر بن عبد الله قال:
لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يغزو في الشهر الحرام إلا أن
يغزى، فإذا حضر ذلك أقام حتى ينسلخ.
وقد اختلف في نسخ ذلك، فقالت طائفة: حكمه باق لم ينسخ; وممن قال ذلك
عطاء بن أبي رباح، حدثنا جعفر بن محمد قال: حدثنا أبو عبيد قال: حدثنا
حجاج عن
(1/389)
ابن جريج
قال: قلت لعطاء: ما لهم إن ذلك لم يكن يحل لهم أن يغزوا في الشهر
الحرام ثم غزوهم بعد فيه. قال: فحلف لي ما يحل للناس أن يغزوا في الحرم
ولا في الشهر الحرام إلا أن يقاتلوا، قال: وما نسخت. وروى سليمان بن
يسار وسعيد بن المسيب: أن القتال جائز في الشهر الحرام وهو قول فقهاء
الأمصار. والأول منسوخ بقوله: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ
وَجَدْتُمُوهُمْ} [التوبة: 5] وقوله: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا
يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ} [التوبة: 29] الآية;
لأنها نزلت بعد حظر القتال في الشهر الحرام.
وقد اختلف في السائلين عن ذلك من هم، فقال الحسن وغيره: إن الكفار
سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك على جهة العيب للمسلمين
باستحلالهم القتال في الشهر الحرام. وقال آخرون: "المسلمون سألوا عن
ذلك ليعلموا كيف الحكم فيه". وقيل: إنها نزلت على سبب وهو قتل واقد بن
عبد الله عمرو بن الحضرمي مشركا، فقال المشركون: قد استحل محمد القتال
في الشهر الحرام، وقد كان أهل الجاهلية يعتقدون تحريم القتال في هذه
الأشهر، فأعلمهم الله تعالى بقاء حظر القتال في الشهر الحرام وأرى
المشركين مناقضة بإقامتهم على الكفر مع استعظامهم القتل في الشهر
الحرام، مع أن الكفر أعظم الإجرام ومع إخراج أهل المسجد الحرام منه وهم
المؤمنون; لأنهم أولى بالمسجد الحرام من الكفار لقوله: {إِنَّمَا
يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ
الْآخِرِ} [التوبة: 18] فأعلمهم الله أن الكفر بالله وبالمسجد الحرام،
وهو أن الله جعل المسجد للمؤمنين ولعبادتهم إياه فيه، فجعلوه لأوثانهم
ومنعوا المسلمين منه، فكان ذلك كفرا بالمسجد الحرام، وأخرجوا أهله منه
وهم المؤمنون; لأنهم أولى به من الكفار، فأعلمهم الله أن الكفار مع هذا
الإجرام أولى بالعيب من قتل رجل من المشركين في الشهر الحرام.
(1/390)
باب تحريم الخمر
قال الله تعالى: {يَسْأَلونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ
فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ
مِنْ نَفْعِهِمَا}. هذه الآية قد اقتضت تحريم الخمر لو لم يرد غيرها في
تحريمها لكانت كافية مغنية وذلك لقوله: {قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ
كَبِيرٌ}، والإثم كله محرم بقوله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ
رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْأِثْمَ}
فأخبر أن الإثم محرم، ولم يقتصر على إخباره بأن فيها إثما حتى وصفه
بأنه كبير، تأكيدا لحظرها.
وقوله: {وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ} لا دلالة فيه على إباحتها; لأن المراد
منافع الدنيا; وإن في سائر المحرمات منافع لمرتكبيها في دنياهم، إلا أن
تلك المنافع لا تفي بضررها من
(1/390)
العقاب
المستحق بارتكابها. فذكره لمنافعها غير دال على إباحتها لا سيما وقد
أكد حظرها مع ذكر منافعها بقوله في سياق الآية: {وَإِثْمُهُمَا
أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا} يعني أن ما يستحق بهما من العقاب أعظم من
النفع العاجل الذي ينبغي منهما.
ومما نزل في شأن الخمر قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا
تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا
تَقُولُونَ} [النساء: 43].
وليس في هذه الآية دلالة على تحريم ما لم يسكر منها، وفيها الدلالة على
تحريم ما يسكر منها; لأنه إذا كانت الصلاة فرضا نحن مأمورون بفعلها في
أوقاتها، فكل ما أدى إلى المنع منها فهو محظور، فإذا كانت الصلاة
ممنوعة في حال السكر وكان شربها مؤديا إلى ترك الصلاة، كان محظورا; لأن
فعل ما يمنع من الفرض محظور.
ومما نزل في شأن الخمر مما لا مساغ للتأويل فيه قوله تعالى: {إِنَّمَا
الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ
عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ} [المائدة: 90] إلى قوله: {فَهَلْ
أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} [المائدة: 91] فتضمنت هذه الآيات ذكر تحريمها من
وجوه: أحدها قوله: {رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ} [المائدة: 91]
وذلك لا يصح إطلاقه إلا فيما كان محظورا محرما، ثم أكده بقوله:
{فَاجْتَنِبُوهُ} [المائدة: 91] وذلك أمر يقتضي لزوم اجتنابه، ثم قال
تعالى: {فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} [المائدة: 91] ومعناه: فانتهوا.
فإن قيل: ليس في قوله تعالى: {فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ} دلالة على
تحريم القليل منها; لأن مراد الآية ما يلحق من المأثم بالسكر وترك
الصلاة، والمواثبة، والقتال، فإذا حصل المأثم بهذه الأمور فقد وفينا
ظاهر الآية مقتضاها من التحريم، ولا دلالة فيه على تحريم القليل منها.
قيل له: معلوم أن في مضمون قوله: {فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ} ضمير
شربها; لأن جسم الخمر هو فعل الله تعالى ولا مأثم فيها، وإنما المأثم
مستحق بأفعالنا فيها، فإذا كان الشرب مضمرا كان تقديره: في شربها وفعل
الميسر إثم كبير، فيتناول ذلك شرب القليل منها، والكثير، كما لو قال:
حرمت الخمر لكان معقولا أن المراد به شربها، والانتفاع بها، فيقتضي ذلك
تحريم قليلها وكثيرها. وقد روي في ذلك حديث; حدثنا جعفر بن محمد
الواسطي قال: حدثنا جعفر بن محمد بن اليمان قال: حدثنا أبو عبيد: حدثنا
عبد الله بن صالح عن معاوية بن صالح عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في
قوله: {يَسْأَلونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا
إِثْمٌ كَبِيرٌ} قال: الميسر: هو القمار، كان الرجل في الجاهلية يخاطر
على أهله وماله. قال: وقوله تعالى: {لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ
وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} [النساء: 43]
قال: "كانوا لا يشربونها عند الصلاة، فإذا
(1/391)
صلوا
العشاء شربوها، ثم إن ناسا من المسلمين شربوها فقاتل بعضهم بعضا
وتكلموا بما لا يرضي الله عز وجل، فأنزل الله: {إِنَّمَا الْخَمْرُ
وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ
الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ} [المائدة: 90]، قال: فالميسر: القمار،
والأنصاب: الأوثان، والأزلام: كانوا يستقسمون بها. قال: وحدثنا أبو
عبيد قال: حدثنا عبد الرحمن بن مهدي عن سفيان عن أبي إسحاق عن أبي
ميسرة قال: قال عمر: اللهم بين لنا في الخمر فنزلت: {لا تَقْرَبُوا
الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ}
[النساء: 43]، فقال: "اللهم بين لنا في الخمر" فنزلت: {قُلْ فِيهِمَا
إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ
نَفْعِهِمَا} فقال: اللهم بين لنا في الخمر فنزلت: {إِنَّمَا الْخَمْرُ
وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ
الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ} [المائدة: 90] إلى قوله: {فَهَلْ
أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} [المائدة: 91] فقال عمر: انتهينا، إنها تذهب
المال وتذهب العقل. قال: وحدثنا أبو عبيد قال: حدثنا هشيم قال: أخبر
المغيرة عن أبي رزين قال: شربت الخمر بعد الآية التي نزلت في البقرة
وبعد الآية التي في النساء، فكانوا يشربونها حتى تحضر الصلاة، فإذا
حضرت تركوها، ثم حرمت في المائدة في قوله: {فَهَلْ أَنْتُمْ
مُنْتَهُونَ} [المائدة: 91]، فانتهى القوم عنها فلم يعودوا فيها.
فمن الناس من يظن أن قوله: {قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ
لِلنَّاسِ} لم يدل على التحريم; لأنه لو كان دالا لما شربوه، ولما
أقرهم النبي صلى الله عليه وسلم ولما سأل عمر البيان بعد. وليس هذا
كذلك عندنا وذلك لأنه جائز أن يكونوا تأولوا في قوله: {وَمَنَافِعُ
لِلنَّاسِ} جواز استباحة منافعها، فإن الإثم مقصور على بعض الأحوال دون
بعض، فإنما ذهبوا عن حكم الآية بالتأويل. وأما قوله: إنها لو كانت
حراما لما أقرهم النبي صلى الله عليه وسلم على شربها فإنه ليس في شيء
من الأخبار علم النبي صلى الله عليه وسلم بشربها ولا إقرارهم عليه بعد
علمه. وأما سؤال عمر رضي الله عنه: بيانا بعد نزول هذه الآية، فإنه كان
للتأويل فيه مساغ، وقد علم هو وجه دلالتها على التحريم، ولكنه سأل
بيانا يزول معه احتمال التأويل، فأنزل الله تعالى: {إِنَّمَا الْخَمْرُ
وَالْمَيْسِرُ} [المائدة: 90] الآية.
ولم يختلف أهل النقل في أن الخمر قد كانت مباحة في أول الإسلام، وأن
المسلمين قد كانوا يشربونها بالمدينة ويتبايعون بها مع علم النبي صلى
الله عليه وسلم بذلك وإقرارهم عليه، إلى أن حرمها الله تعالى. فمن
الناس من يقول: إن تحريمها على الإطلاق إنما ورد في قوله: {إِنَّمَا
الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ
عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ} إلى قوله: {فَهَلْ أَنْتُمْ
مُنْتَهُونَ} [المائدة: 91]، وقد كانت محرمة قبل ذلك في بعض الأحوال،
وهي أوقات الصلاة، بقوله: {لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ
سُكَارَى} [النساء: 43]
(1/392)
وأن بعض
منافعها قد كان مباحا وبعضها محظورا بقوله: {قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ
كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ} إلى أن أتم تحريمها بقوله:
{فَاجْتَنِبُوهُ} [المائدة: 90] وقوله: {فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ}
[المائدة: 91]. وقد بينا ما يقتضيه ظاهر كل واحد من حكم الآيات من حكم
التحريم.
وقد اختلف فيما يتناوله اسم الخمر من الأشربة، فقال الجمهور الأعظم من
الفقهاء: اسم الخمر في الحقيقة يتناول الني المشتد من ماء العنب. وزعم
فريق من أهل المدينة ومالك والشافعي أن كل ما أسكر كثيره من الأشربة
فهو خمر. والدليل على أن اسم الخمر مخصوص بالني المشتد من ماء العنب
دون غيره وأن غيره إن سمي بهذا الاسم فإنما هو محمول عليه ومشبه به على
وجه المجاز حديث أبي سعيد الخدري قال: أتي النبي صلى الله عليه وسلم
بنشوان فقال له: "أشربت خمرا؟" فقال: ما شربتها منذ حرمها الله ورسوله،
قال: "فماذا شربت؟" قال: الخليطين; قال: فحرم رسول الله صلى الله عليه
وسلم الخليطين. فنفى الشارب اسم الخمر عن الخليطين بحضرة النبي صلى
الله عليه وسلم فلم ينكره عليه، ولو كان ذلك يسمى خمرا من جهة لغة، أو
شرع لما أقره عليه; إذ كان في نفي التسمية التي علق بها حكم نفي الحكم;
ومعلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يقر أحدا على حظر مباح ولا على
استباحة محظور، وفي ذلك دليل على أن اسم الخمر منتف عن سائر الأشربة
إلا من الني المشتد من ماء العنب; لأنه إذا كان الخليطان لا يسميان
خمرا مع وجود قوة الإسكار منهما علمنا أن الاسم مقصور على ما وصفنا.
ويدل عليه ما حدثنا عبد الباقي بن قانع قال: حدثنا محمد بن زكريا
العلائي قال: حدثنا العباس بن بكار قال: حدثنا عبد الرحمن بن بشير
الغطفاني عن أبي إسحاق عن الحارث عن علي رضي الله عنه قال: سألت رسول
الله صلى الله عليه وسلم عن الأشربة عام حجة الوداع، فقال: "حرام الخمر
بعينها، والسكر من كل شراب". قال عبد الباقي: وحدثنا محمد بن زكريا
العلائي قال: حدثنا شعيب بن واقد قال: حدثنا قيس عن قطن عن منذر عن
محمد ابن الحنفية عن علي عن النبي صلى الله عليه وسلم نحوه. وحدثنا عبد
الباقي قال: حدثنا حسين بن إسحاق قال: حدثنا عياش بن الوليد قال: حدثنا
علي بن عباس قال: حدثنا سعيد بن عمارة قال: حدثنا الحارث بن النعمان
قال: سمعت أنس بن مالك يحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
"الخمر بعينها حرام، والسكر من كل شراب". وقد روى عبد الله بن شداد عن
ابن عباس من قوله مثل ذلك، وروي عنه أيضا مرفوعا إلى النبي صلى الله
عليه وسلم.
وقد حوى هذا الخبر معاني: منها أن اسم الخمر مخصوص بشراب بعينه دون
غيره، وهو الذي لم يختلف في تسميته بها دون غيرها من ماء العنب، وأن
غيرها من
(1/393)
الأشربة
غير مسمى بهذا الاسم، لقوله: "والسكر من كل شراب". وقد دل أيضا على أن
المحرم من سائر الأشربة هو ما يحدث عنده السكر، لولا ذلك لما اقتصر
منها على السكر دون غيره، ولما فصل بينها وبين الخمر في جهة التحريم،
ودل أيضا على أن تحريم الخمر حكم مقصور عليها غير متعد إلى غيرها قياسا
ولا استدلالا; إذ علق حكم التحريم بعين الخمر دون معنى فيها سواها،
وذلك ينفي جواز القياس عليها; لأن كل أصل ساغ القياس عليه فليس الحكم
المنصوص عليه مقصورا عليه ولا متعلقا به بعينه، بل يكون الحكم منصوبا
على بعض أوصافه مما هو موجود في فروعه فيكون الحكم تابعا للوصف جاريا
معه في معلولاته.
ومما يدل على أن سائر الأشربة المسكرة لا يتناولها اسم الخمر قوله صلى
الله عليه وسلم في حديث أبي هريرة عنه: "الخمر من هاتين الشجرتين:
النخلة، والعنبة". فقوله: "الخمر" اسم للجنس لدخول الألف، واللام عليه،
فاستوعب به جميع ما يسمى بهذا الاسم، فلم يبق شيء من الأشربة يسمى به
إلا وقد استغرقه ذلك، فانتفى بذلك أن يكون ما يخرج من غير هاتين
الشجرتين يسمى خمرا. ثم نظرنا فيما يخرج منهما، هل جميع الخارج منهما
مسمى باسم الخمر أم لا؟ فلما اتفق الجميع على أن كل ما يخرج منهما من
الأشربة غير مسمى باسم الخمر; لأن العصير والدبس، والخل ونحوه من هاتين
الشجرتين ولا يسمى شيء منه خمرا، علمنا أن مراده بعض الخارج من هاتين
الشجرتين. وذلك البعض غير مذكور في الخبر، فاحتجنا إلى الاستدلال على
مراده من غيره في إثبات اسم الخمر للخارج منهما، فسقط الاحتجاج به في
تحريم جميع الخارج منهما وتسميته باسم الخمر. ويحتمل مع ذلك أن يكون
مراده أن الخمر أحدهما، كقوله تعالى: {يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ
وَالْمَرْجَانُ} [الرحمن: 22]، {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْأِنْسِ
أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ} [الأنعام: 130] والمراد أحدهما،
فكذلك جائز أن يكون المراد في قوله: "الخمر من هاتين الشجرتين" أحدهما;
فإن كان المراد هما جميعا. فإن ظاهر اللفظ يدل على أن المسمى بهذا
الاسم هو أول شراب يصنع منهما; لأنه لما كان معلوما أنه لم يرد بقوله:
"من هاتين الشجرتين" بعض كل واحدة منهما; لاستحالة كون بعضها خمرا، دل
على أن المراد أول خارج منهما من الأشربة; لأن "من" يعتورها معان في
اللغة، منها التبعيض، ومنها الابتداء، كقولك: خرجت من الكوفة و هذا
كتاب من فلان وما جرى مجرى ذلك، فيكون معنى من في هذا الموضع على
ابتداء ما يخرج منهما، وذاك إنما يتناول العصير المشتد. والدبس السائل
من النخل إذا اشتد، ولذلك قال أصحابنا فيمن حلف لا يأكل من هذه النخلة
شيئا إنه على رطبها وتمرها ودبسها; لأنهم حملوا من على ما ذكرنا من
الابتداء.
(1/394)
قال أبو
بكر: ويدل على ما ذكرنا من انتفاء اسم الخمر عن سائر الأشربة إلا ما
وصفنا، ما روي عن ابن عمر أنه قال: لقد حرمت الخمر يوم حرمت وما
بالمدينة يومئذ منها شيء وابن عمر رجل من أهل اللغة، ومعلوم أنه قد كان
بالمدينة السكر وسائر الأنبذة المتخذة من التمر; لأن تلك كانت أشربتهم;
ولذلك قال جابر بن عبد الله: نزل تحريم الخمر وما يشرب الناس يومئذ إلا
البسر، والتمر وقال أنس بن مالك: كنت ساقي عمومتي من الأنصار حين نزل
تحريم الخمر، فكان شرابهم يومئذ الفضيخ، فلما سمعوا أراقوها. فلما نفى
ابن عمر اسم الخمر عن سائر الأشربة التي كانت بالمدينة، دل ذلك على أن
الخمر عنده كانت شراب العنب النيء المشتد، وأن ما سواها غير مسمى بهذا
الاسم. ويدل عليه أن العرب كانت تسمي الخمر سبيئة ولم تكن تسمي بذلك
سائر الأشربة المتخذة من تمر النخل; لأنها كانت تجلب إليها من غير
بلادها; ولذلك قال الأعشى:
وسبيئة مما يعتق بابل ... كدم الذبيح سلبتها جريالها
وتقول: سبأت الخمر، إذا شريتها; فنقلوا الاسم إلى المشري بعد أن كان
الأصل إنما هو بجلبها من موضع إلى موضع على عادتها في الاتساع في
الكلام. ويدل عليه أيضا قول أبي الأسود الدؤلي وهو رجل من أهل اللغة
حجة فيما قال منها فقال:
دع الخمر تشربها الغواة فإنني ... رأيت أخاها مغنيا لمكانها
فإن لا تكنه أو يكنها فإنه ... أخوها غذته أمه بلبانها
فجعل غيرها من الأشربة أخا لها بقوله: "رأيت أخاها مغنيا لمكانها"
ومعلوم أنه لو كان يسمى خمرا لما سماه أخا لها. ثم أكده بقوله: "فإن لا
تكنه أو يكنها فإنه أخوها" فأخبر أنها ليست هو.
فثبت بما ذكرنا من الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن
الصحابة وأهل اللغة أن اسم الخمر مخصوص بما وصفنا ومقصور عليه دون
غيره.
ويدل على ذلك أنا وجدنا بلوى أهل المدينة بشرب الأشربة المتخذة من
التمر، والبسر كانت أعم منها بالخمر، وإنما كانت بلواهم بالخمر خاصة
قليلة لقلتها عندهم، فلما عرف الكل من الصحابة تحريم الني المشتد
واختلفوا فيما سواها. وروي عن عظماء الصحابة مثل عمر وعبد الله وأبي ذر
وغيرهم شرب النبيذ الشديد، وكذلك سائر التابعين ومن بعدهم من أخلافهم
من الفقهاء من أهل العراق لا يعرفون تحريم هذه الأشربة ولا يسمونها
باسم الخمر، بل ينفونه عنها، دل ذلك على معنيين: أحدهما أن اسم الخمر
لا
(1/395)
يقع عليها
ولا يتناولها; لأن الجميع متفقون على ذم شارب الخمر وأن جميعها محرم
محظور، والثاني: أن النبيذ غير محرم; لأنه لو كان محرما لعرفوا تحريمه
كمعرفتهم بتحريم الخمر; إذ كانت الحاجة إلى معرفة تحريمها أمس منها إلى
معرفة تحريم الخمر لعموم بلواهم بها دونها، وما عمت البلوى من الأحكام
فسبيل وروده نقل التواتر الموجب للعلم، والعمل، وفي ذلك دليل على أن
تحريم الخمر لم يعقل به تحريم هذه الأشربة ولا عقل الخمر اسما لها.
واحتج من زعم أن سائر الأشربة التي يسكر كثيرها خمر بما روي عن ابن عمر
عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "كل مسكر خمر" وبما روي عن
الشعبي عن النعمان بن بشير عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:
"الخمر من خمسة أشياء: التمر، والعنب، والحنطة، والشعير، والعسل"، وروي
عن عمر من قوله نحوه. وبما روي عن عمر: "الخمر ما خامر العقل" ، وبما
روي عن طاوس عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "كل مخمر
خمر وكل مسكر حرام"، وبما روي عن أنس قال: كنت ساقي القوم حيث حرمت
الخمر في منزل أبي طلحة وما كان خمرنا يومئذ إلا الفضيخ، فحين سمعوا
تحريم الخمر أهراقوا الأواني وكسروها. وقالوا: فقد سمى النبي صلى الله
عليه وسلم هذه الأشربة خمرا، وكذلك عمر وأنس، وعقلت الأنصار من تحريم
الخمر تحريم الفضيخ وهو نقيع البسر; ولذلك أراقوها وكسروا الأواني، ولا
تخلو هذه التسمية من أن تكون واقعة على هذه الأشربة من جهة اللغة أو
الشرع، وأيهما كان فحجته ثابتة، والتسمية صحيحة، فثبت بذلك أن ما أسكر
من الأشربة كثيره فهو خمر وهو محرم بتحريم الله إياها من طريق اللفظ.
والجواب عن ذلك وبالله التوفيق: أن الأسماء على ضربين ضرب سمي به الشيء
حقيقة لنفسه وعبارة عن معناه، والضرب الآخر ما سمي به الشيء مجازا،
فأما الضرب الأول فواجب استعماله حيثما وجد. وأما الضرب الآخر فإنما
يجب استعماله عند قيام الدلالة عليه; نظير الضرب الأول قوله تعالى:
{يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ
مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ
وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ
يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيماً} [النساء:
26 – 27] فأطلق لفظ الإرادة في هذه المواضع حقيقة. ونظير الضرب الثاني
قوله: {فَوَجَدَا فِيهَا جِدَاراً يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ} [الكهف: 77]
فإطلاق لفظ الإرادة في هذا الموضع مجاز لا حقيقة، ونحو قوله: {إِنَّمَا
الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ} [المائدة: 90] فاسم الخمر في هذا الموضع
حقيقة فيما أطلق فيه. وقال في موضع آخر: {إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ
خَمْراً} [يوسف: 36] فأطلق اسم الخمر في هذا الموضع مجازا; لأنه إنما
يعصر العنب لا الخمر. ونحو قوله: {رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ
(1/396)
الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا} [النساء: 75] فاسم القرية فيها
حقيقة، وإنما أراد البنيان. ثم قوله: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي
كُنَّا فِيهَا} [يوسف: 82] مجاز; لأنه لم يرد بها ما وضع اللفظ له
حقيقة، وإنما أراد أهلها. وتنفصل الحقيقة من المجاز بأن ما لزم مسمياته
فلم ينتف عنه بحال فهو حقيقة فيه، وما جاز انتفاؤه عن مسمياته فهو
مجاز، ألا ترى أنك إذا قلت: إنه ليس للحائط إرادة كنت صادقا ولو قال:
إن الله لا يريد شيئا، والإنسان العاقل ليست له إرادة كان مبطلا في
قوله؟ وكذلك جائز أن تقول: إن العصير ليس بخمر وغير جائز أن يقال: إن
الني المشتد من ماء العنب ليس بخمر ونظائر ذلك كثيرة في اللغة، والشرع.
والأسماء الشرعية في معنى أسماء المجاز لا تتعدى بها مواضعها التي سميت
بها، فلما وجدنا اسم الخمر قد ينتفي عن سائر الأشربة سوى الني المشتد
من ماء العنب، علمنا أنها ليست بخمر في الحقيقة.
والدليل على جواز انتفاء اسم الخمر عما وصفنا حديث أبي سعيد الخدري
قال: أتي رسول الله صلى الله عليه وسلم بنشوان فقال: "أشربت خمرا؟"
فقال: والله ما شربتها منذ حرمها الله ورسوله قال: فماذا شربت؟ قال:
شربت الخليطين; فحرم رسول الله صلى الله عليه وسلم الخليطين يومئذ.
فنفى اسم الخمر عن الخليطين بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم فأقره عليه
ولم ينكره، فدل ذلك على أنه ليس بخمر، وقال ابن عمر: حرمت الخمر وما
بالمدينة يومئذ منها شيء فنفى اسم الخمر عن أشربة تمر النخل مع وجودها
عندهم يومئذ. ويدل عليه قول النبي صلى الله عليه وسلم: "الخمر من هاتين
الشجرتين" وهو أصح إسنادا من الأخبار التي ذكر فيها أن الخمر من خمسة
أشياء; فنفى بذلك أن يكون ما خرج من غيرهما خمرا، إذ كان قوله: "الخمر
من هاتين الشجرتين" اسما للجنس مستوعبا لجميع ما يسمى بهذا الاسم; فهذا
الخبر معارض ما روي من أن الخمر من خمسة أشياء، وهو أصح إسنادا منه.
ويدل عليه أنه لا خلاف أن مستحل الخمر كافر وأن مستحل هذه الأشربة لا
تلحقه سمة الفسق، فكيف بأن يكون كافرا فدل ذلك على أنها ليست بخمر في
الحقيقة. ويدل عليه أن خل هذه الأشربة لا يسمى خل خمر، وأن خل الخمر هو
الخل المستحيل من ماء العنب الني المشتد. فإذا ثبت بما ذكرنا انتفاء
اسم الخمر عن هذه الأشربة، ثبت أنه ليس باسم لها في الحقيقة، وأنه إن
ثبت تسميتها باسم الخمر في حال فهو على جهة التشبيه بها عند وجود السكر
منها، فلم يجز أن يتناولها إطلاق تحريم الخمر لما وصفنا من أن أسماء
المجاز لا يجوز دخولها تحت إطلاق أسماء الحقائق; فينبغي أن يكون قوله
"الخمر من خمسة أشياء" محمولا على الحال التي يتولد منها السكر، فسماها
باسم الخمر في تلك الحال; لأنها قد عملت عمل الخمر في توليد السكر
واستحقاق الحد. ويدل عليه أن هذه التسمية إنما
(1/397)
تستحقها
في حال توليدها السكر قول عمر: الخمر ما خامر العقل وقليل النبيذ لا
يخامر العقل; لأن ما خامر العقل هو ما غطاه، وليس ذلك بموجود في قليل
ما أسكر كثيره من هذه الأشربة. وإذا ثبت بما وصفنا أن اسم الخمر مجاز
في هذه الأشربة، فلا يستعمل إلا في موضع يقوم الدليل عليه، فلا يجوز أن
ينطوي تحت إطلاق تحريم الخمر; ألا ترى أنه صلى الله عليه وسلم قد سمى
فرسا لأبي طلحة ركبه لفزع كان بالمدينة فقال: وجدناه بحرا فسمى الفرس
بحرا; إذ كان جوادا واسع الخطو؟ ولا يعقل بإطلاق اسم البحر على الفرس
الجواد. وقال النابغة للنعمان بن المنذر:
فإنك شمس والملوك كواكب ... إذا طلعت لم يبد منهن كوكب
ولم تكن الشمس اسما له ولا الكواكب اسما للملوك. فصح بما وصفنا أن اسم
الخمر لا يقع على هذه الأشربة التي وصفنا، وأنه مخصوص بماء العنب الني
المشتد حقيقة، وإنما يسمى به غيرها مجازا والله أعلم.
(1/398)
باب تحريم الميسر
قال الله تعالى: {يَسْأَلونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ
فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ} قال أبو بكر: دلالته على تحريم الميسر كهي
على ما تقدم من بيانه. ويقال: إن اسم الميسر في أصل اللغة إنما هو
للتجزئة، وكل ما جزأته فقد يسرته; يقال للجازر: الياسر; لأنه يجزئ
الجزور، والميسر الجزور نفسه إذا تجزى. وكانوا ينحرون جزورا ويجعلونه
أقساما يتقامرون عليها بالقداح على عادة لهم في ذلك، فكل من خرج له قدح
نظروا إلى ما عليه من السمة فيحكمون له بما يقتضيه أسماء القداح; فسمي
على هذا سائر ضروب القمار ميسرا. وقال ابن عباس وقتادة ومعاوية بن صالح
وعطاء وطاوس ومجاهد: الميسر القمار، وقال عطاء وطاوس ومجاهد: حتى لعب
الصبيان بالكعاب، والجوز. وروي عن علي بن زيد عن القاسم عن أبي أمامة
عن أبي موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "اجتنبوا هذه الكعاب
الموسومة التي يزجر بها زجرا فإنها من الميسر" وروى سعيد بن أبي هند عن
أبي موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من لعب بالنرد فقد عصى
الله ورسوله". وروى حماد بن سلمة عن قتادة عن حلاس أن رجلا قال لرجل:
إن أكلت كذا وكذا بيضة فلك كذا وكذا، فارتفعا إلى علي فقال: هذا قمار;
ولم يجزه.
ولا خلاف بين أهل العلم في تحريم القمار وأن المخاطرة من القمار; قال
ابن عباس: إن المخاطرة قمار وإن أهل الجاهلية كانوا يخاطرون على المال،
والزوجة، وقد كان ذلك مباحا إلى أن ورد تحريمه. وقد خاطر أبو بكر
الصديق المشركين حين نزلت:
(1/398)
{الم
غُلِبَتِ الرُّومُ} [الروم: 1 -2] وقال له النبي صلى الله عليه وسلم:
"زد في الخطر وأبعد في الأجل" ثم حظر ذلك ونسخ بتحريم القمار. ولا خلاف
في حظره إلا ما رخص فيه من الرهان في السبق في الدواب، والإبل، والنصال
إذا كان الذي يستحق واحدا إن سبق ولا يستحق الآخر إن سبق. وإن شرط أن
من سبق منهما أخذ ومن سبق أعطى فهذا باطل، فإن أدخلا بينهما رجلا إن
سبق استحق، وإن سبق لم يعط فهذا جائز، وهذا الدخيل الذي سماه النبي صلى
الله عليه وسلم محللا. وقد روى أبو هريرة عن النبي: "لا سبق إلا في خف
أو حافر أو نصل". وروى ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم: "أنه سابق
بين الخيل". وإنما خص ذلك; لأن فيه رياضة للخيل وتدريبا لها على الركض،
وفيه استظهار وقوة على العدو، قال الله تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا
اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} روي أنها الرمي {وَمِنْ رِبَاطِ
الْخَيْلِ} [الأنفال: 60]، فظاهر قوله: {وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ}
[الأنفال: 60] يقتضي جواز السبق بها لما فيه من القوة على العدو، وكذلك
الرمي.
وما ذكره الله تعالى من تحريم الميسر وهو القمار يوجب تحريم القرعة في
العبيد يعتقهم المريض ثم يموت; لما فيه من القمار وإحقاق بعض، وإنجاح
بعض; وهذا هو معنى القمار بعينه. وليست القرعة في القسمة كذلك; لأن كل
واحد يستوفي نصيبه لا يحقق واحد منهم; والله أعلم.
(1/399)
باب التصرف في مال اليتيم
قال الله تعالى: {وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلاحٌ
لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ}. قال أبو بكر:
اليتيم المنفرد عن أحد أبويه فقد يكون يتيما من الأم مع بقاء الأب، وقد
يكون يتيما من الأب مع بقاء الأم; إلا أن الأظهر عند الإطلاق هو اليتيم
من الأب، وإن كانت الأم باقية، ولا يكاد يوجد الإطلاق في اليتيم من
الأم إذا كان الأب باقيا. وكذلك سائر ما ذكر الله من أحكام الأيتام
إنما المراد بها الفاقدون لآبائهم وهم صغار، ولا يطلق ذلك عليهم بعد
البلوغ إلا على وجه المجاز لقرب عهدهم باليتم. والدليل على أن اليتيم
اسم للمنفرد تسميتهم للمرأة المنفردة عن الزوج يتيمة سواء كانت كبيرة،
أو صغيرة; قال الشاعر:
إن القبور تنكح الأيامى ... النسوة الأرامل اليتامى
وتسمى الرابية يتيمة لانفرادها عما حواليها; قال الشاعر يصف ناقته:
قوداء يملك رحلها ... مثل اليتيم من الأرانب
يعني الرابية. ويقال: درة يتيمة; لأنها مفردة لا نظير لها. وكتاب لابن
المقفع في
(1/399)
مدح أبي
العباس السفاح واختلاف مذاهب الخوارج وغيرهم يسمى اليتيمة; قال أبو
تمام:
وكثير عزة يوم بين ينسب ... وابن المقفع في اليتيمة يسهب
وإذا كان اليتيم اسما للانفراد كان شاملا لمن فقد أحد أبويه صغيرا، أو
كبيرا، إلا أن الإطلاق إنما يتناول ما ذكرنا من فقد الأب في حال الصغر.
حدثنا جعفر بن محمد قال: حدثنا جعفر بن محمد بن اليمان قال: حدثنا أبو
عبيد قال: حدثنا عبد الله بن صالح، عن معاوية بن صالح، عن علي بن أبي
طلحة، عن ابن عباس في قوله عز وجل: {وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الْيَتَامَى
قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ} قال: إن الله تعالى لما أنزل: {إِنَّ
الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً إِنَّمَا
يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً} [النساء:
10] كره المسلمون أن يضموا اليتامى إليهم وتحرجوا أن يخالطوهم وسألوا
النبي صلى الله عليه وسلم عنه، فأنزل الله: {وَيَسْأَلونَكَ عَنِ
الْيَتَامَى} إلى قوله: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لاعْنَتَكُمْ}، قال: لو
شاء الله لأحرجكم وضيق عليكم، ولكنه وسع ويسر فقال: {وَمَنْ كَانَ
غَنِيّاً فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ
بِالْمَعْرُوفِ} [النساء: 6]. وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم:
"ابتغوا بأموال اليتامى لا تأكلها الصدقة" ، ويروى ذلك موقوفا على عمر
وعن عمر وعائشة وابن عمر وشريح وجماعة من التابعين: "دفع مال اليتيم
مضاربة، والتجارة به".
وقد حوت هذه الآية ضروبا من الأحكام، أحدها قوله: {قُلْ إِصْلاحٌ
لَهُمْ خَيْرٌ} فيه الدلالة على جواز خلط ماله بماله، وجواز التصرف فيه
بالبيع، والشرى إذا كان ذلك صلاحا، وجواز دفعه مضاربة إلى غيره، وجواز
أن يعمل ولي اليتيم مضاربة أيضا. وفيه الدلالة على جواز الاجتهاد في
أحكام الحوادث; لأن الإصلاح الذي تضمنته الآية إنما يعلم من طريق
الاجتهاد وغالب الظن; ويدل على أن لولي اليتيم أن يشتري من ماله لنفسه
إذا كان خيرا لليتيم وذلك بأن ما يأخذه اليتيم أكثر قيمة مما يخرج عن
ملكه، وهو قول أبي حنيفة; ويبيع أيضا من مال نفسه لليتيم; لأن ذلك من
الإصلاح له. ويدل أيضا على أن له تزويج اليتيم إذا كان ذلك من الإصلاح،
وذلك عندنا فيمن كان ذا نسب منه دون الوصي الذي لا نسب بينه وبينه; لأن
الوصية نفسها لا يستحق بها الولاية في التزويج، ولكنه قد اقتضى ظاهره
أن للقاضي أن يزوجه ويتصرف في ماله على وجه الإصلاح. ويدل على أن له أن
يعلمه ما له فيه صلاح من أمر الدين، والأدب ويستأجر له على ذلك وأن
يؤاجره ممن يعلمه الصناعات، والتجارات ونحوها; لأن جميع ذلك قد يقع على
وجه الإصلاح; ولذلك قال أصحابنا: إن كل من كان اليتيم في حجره من ذوي
(1/400)
الرحم
لمحرم فله أن يؤاجره ليعلم الصناعات. وقال محمد: له أن ينفق عليه من
ماله. وقالوا إنه إذا وهب لليتيم مال فلمن هو في حجره أن يقبضه له لما
له فيه من الصلاح. فظاهر الآية قد اقتضى جميع ذلك كله.
وقوله: {وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ}
إنما عني بالمضمرين في قوله: {وَيَسْأَلونَكَ} القوام على الأيتام
الكافلين لهم، وذلك ينتظم كل ذي رحم محرم; لأن له إمساك اليتيم وحفظه
وحياطته وحضانته. وقد انتظم قوله: {قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ} سائر
الوجوه التي ذكرنا من التصرف في ماله على وجه الإصلاح، والتزويج،
والتقويم، والتأديب.
وقوله: {خَيْرٌ} قد دل على معان: منها إباحة التصرف على اليتامى من
الوجوه التي ذكرنا، ومنها أن ذلك مما يستحق به الثواب; لأنه سماه خيرا
وما كان خيرا فإنه يستحق به الثواب. ومنها أنه لم يوجبه وإنما وعد به
الثواب، فدل على أنه ليس بواجب عليه التصرف في ماله بالتجارة ولا هو
مجبر على تزويجه; لأن ظاهر اللفظ يدل على أن مراده الندب والإرشاد.
وقوله: {وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ} فيه إباحة خلط ماله
بماله، والتجارة، والتصرف فيه، ويدل على أنه له أن يخالط اليتيم بنفسه
في الصهر، والمناكحة وأن يزوجه بنته، أو يزوج اليتيمة بعض ولده، فيكون
قد خلط اليتامى بنفسه وعياله واختلط هو بهم فقد انتظم قوله: {وَإِنْ
تُخَالِطُوهُمْ} إباحة خلط ماله بماله، والتصرف فيه وجواز تزويجه بعض
ولده ومن يلي عليه، فيكون قد خلطه بنفسه. والدليل على أن اسم المخالطة
يتناول جميع ذلك قولهم: فلان خليط فلان إذا كان شريكا، وإذا كان يعامله
ويبايعه ويشاريه ويداينه، وإن لم يكن شريكا. وكذلك يقال: قد اختلط فلان
بفلان إذا صاهره وذلك كله مأخوذ من الخلطة التي هي الاشتراك في الحقوق
من غير تمييز بعضهم من بعض فيها. وهذه المخالطة معقودة بشريطة الإصلاح
من وجهين: أحدهما: تقديمه ذكر الإصلاح فيما أجاب به من أمر اليتامى،
والثاني: قوله عقيب ذكر المخالطة: {وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ
مِنَ الْمُصْلِحِ}.
وإذا كانت الآية قد انتظمت جواز خلطه مال اليتيم بماله في مقدار ما
يغلب في ظنه أن اليتيم يأكله على ما روي عن ابن عباس فقد دل على جواز
المناهدة التي يفعلها الناس في
(1/401)
الأسفار
فيخرج كل واحد منهم شيئا معلوما فيخلطونه ثم ينفقونه وقد يختلف أكل
الناس، فإذا كان الله قد أباح في أموال الأيتام فهو في مال العقلاء
البالغين بطيبة أنفسهم أجوز; ونظيره في تجويزه المناهدة قوله تعالى في
قصة أهل الكهف: {فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى
الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَاماً} [الكهف: 19]
فكان الورق لهم جميعا لقوله: بورقكم فأضافه إلى الجماعة وأمره بالشراء
ليأكلوا جميعا منه.
وقوله: {وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ} قد دل على ما ذكرنا من
جواز المشاركة، والخلطة، على أنه يستحق الثواب بما يتحرى فيه الإصلاح
من ذلك; لأن قوله: {فَإِخْوَانُكُمْ} قد دل على ذلك; إذ هو مندوب إلى
معونة أخيه وتحري مصالحه لقوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ
إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ} [الحجرات: 10] وقال النبي
صلى الله عليه وسلم: "والله في عون العبد ما دام العبد في عون أخيه"
فقد انتظم قوله: {فَإِخْوَانُكُمْ} الدلالة على الندب، والإرشاد
واستحقاق الثواب بما يليه منه.
وقوله: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لاعْنَتَكُمْ} يعني به لضيق عليكم في
التكليف فيمنعكم من مخالطة الأيتام، والتصرف لهم في أموالهم، ولأمركم
بإفراد أموالكم عن أموالهم، أو لأمركم على جهة الإيجاب بالتصرف لهم
وطلب الأرباح بالتجارات لهم; ولكنه وسع ويسر وأباح لكم التصرف لهم على
وجه الإصلاح ووعدكم الثواب عليه ولم يلزمكم ذلك على جهة الإيجاب فيضيق
عليكم، تذكيرا بنعمه وإعلاما منه اليسر، والصلاح لعباده.
وقوله: {فَإِخْوَانُكُمْ} يدل على أن أطفال المؤمنين هم مؤمنون في
الأحكام; لأن الله تعالى سماهم إخوانا لنا، والله تعالى قد قال:
{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات: 10]. والله تعالى أعلم.
(1/402)
باب نكاح المشركات
قال الله تعالى: {وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ}
حدثنا جعفر بن محمد الواسطي قال: حدثنا جعفر بن محمد بن اليمان قال:
حدثنا أبو عبيد قال: حدثنا عبد الله بن صالح عن معاوية بن صالح عن أبي
طلحة عن ابن عباس في قوله: {وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى
يُؤْمِنَّ} قال: ثم استثنى أهل الكتاب فقال: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ
الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ
أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلا مُتَّخِذِي
أَخْدَانٍ} [المائدة: 5]، قال: عفائف غير زوان. فأخبر ابن عباس أن
قوله: {وَلا تَنْكِحُوا
(1/402)
الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ} مرتب على قوله: {وَالْمُحْصَنَاتُ
مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [المائدة: 5] وأن
الكتابيات مستثنيات منهن. وروي عن ابن عمر أنها عامة في الكتابيات
وغيرهن; حدثنا جعفر بن محمد قال: حدثنا جعفر بن محمد بن اليمان قال:
حدثنا أبو عبيد قال: حدثنا يحيى بن سعيد عن عبيد الله بن نافع عن ابن
عمر: أنه كان لا يرى بأسا بطعام أهل الكتاب وكره نكاح نسائهم. قال أبو
عبيد: وحدثنا عبد الله بن صالح عن الليث قال: حدثنا نافع عن ابن عمر،
أنه كان إذا سئل عن نكاح اليهودية، والنصرانية قال: إن الله حرم
المشركات على المسلمين قال: فلا أعلم من الشرك شيئا أكبر أو قال: أعظم
من أن تقول: ربها عيسى، أو عبد من عبيد الله. فكرهه في الحديث الأول
ولم يذكر التحريم، وتلا في الحديث الثاني الآية ولم يقطع فيها بشيء،
وإنما أخبر أن مذهب النصارى شرك. قال: وحدثنا أبو عبيد قال: حدثنا علي
بن سعيد عن أبي المليح عن ميمون بن مهران قال: قلت لابن عمر: إنا بأرض
يخالطنا فيها أهل الكتاب فننكح نساءهم ونأكل طعامهم؟ قال: فقرأ علي آية
التحليل وآية التحريم، قال: إني أقرأ ما تقرأ فننكح نساءهم ونأكل
طعامهم، قال: فأعاد علي آية التحليل وآية التحريم. قال أبو بكر: عدوله
بالجواب بالإباحة، والحظر إلى تلاوة الآية دليل على أنه كان واقفا في
الحكم غير قاطع فيه بشيء، وما ذكر عنه من الكراهة يدل على أنه ليس على
وجه التحريم كما يكره تزوج نساء أهل الحرب من الكتابيات لا على وجه
التحريم.
وقد روي عن جماعة من الصحابة، والتابعين إباحة نكاح الكتابيات; حدثنا
جعفر بن محمد الواسطي قال: حدثنا جعفر بن محمد بن اليمان قال: حدثنا
أبو عبيد قال: حدثني سعيد بن أبي مريم عن يحيى بن أيوب ونافع بن يزيد
عن عمر مولى عفرة قال: سمعت عبد الله بن علي بن السائب يقول: إن عثمان
تزوج نائلة بنت الفرافصة الكلبية وهي نصرانية على نسائه; وبهذا الإسناد
من غير ذكر نافع: أن طلحة بن عبيد الله تزوج يهودية من أهل الشام. وروي
عن حذيفة أيضا أنه تزوج يهودية وكتب إليه عمر أن خل سبيلها، فكتب إليه
حذيفة: أحرام هي؟ فكتب إليه عمر: لا، ولكن أخاف أن تواقعوا المومسات
منهن. وروي عن جماعة من التابعين إباحة تزويج الكتابيات، منهم الحسن
وإبراهيم والشعبي; ولا نعلم عن أحد من الصحابة، والتابعين تحريم
نكاحهن، وما روي عن ابن عمر فيه فلا دلالة فيه على أنه رآه محرما وإنما
فيه عنه الكراهة، كما روي كراهة عمر لحذيفة تزويج الكتابية من غير
تحريم. وقد تزوج عثمان وطلحة وحذيفة الكتابيات، ولو كان ذلك محرما عند
الصحابة لظهر منهم نكير، أو خلاف، وفي ذلك دليل على اتفاقهم على جوازه.
(1/403)
وقوله:
{وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ} غير موجب لتحريم
الكتابيات من وجهين; أحدهما: أن ظاهر لفظ المشركات إنما يتناول عبدة
الأوثان منهم عند الإطلاق ولا يدخل فيه الكتابيات إلا بدلالة، ألا ترى
إلى قوله: {مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ
وَلا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ
رَبِّكُمْ} [البقرة: 105] وقال: {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ
أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ} [البينة: 1] ففرق
بينهم في اللفظ. وظاهره يقتضي أن المعطوف غير المعطوف عليه إلا أن تقوم
الدلالة على شمول الاسم للجميع، وأنه أفرد بالذكر لضرب من التعظيم، أو
التأكيد كقوله تعالى: {مَنْ كَانَ عَدُوّاً لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ
وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ} [البقرة: 98] فأفردهما بالذكر
تعظيما لشأنهما مع كونهما من جملة الملائكة. إلا أن الأظهر أن المعطوف
غير المعطوف عليه إلا أن تقوم الدلالة على أنه من جنسه، فاقتضى عطفه
أهل الكتاب على المشركين أن يكونوا غيرهم، وأن يكون التحريم مقصورا على
عبدة الأوثان من المشركين. والوجه الآخر: أنه لو كان عموما في الجميع،
لوجب أن يكون مرتبا على قوله: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ
أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [المائدة: 5] وأن لا تنسخ إحداهما
بالأخرى ما أمكن استعمالهما.
فإن قيل: قوله: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ
مِنْ قَبْلِكُمْ} [المائدة: 5] إنما أراد به اللاتي أسلمن من أهل
الكتاب، كقوله تعالى: {وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ
بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ} [آل عمران: 199]: {مِنْ أَهْلِ
الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ
اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ} [آل عمران: 113]. قيل له: هذا خلف من
القول دال على غباوة قائله، والمحتج به، وذلك من وجهين: أحدهما: أن هذا
الاسم إذا أطلق فإنما يتناول الكفار منهم، كقوله {مِنَ الَّذِينَ
أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ} [التوبة:
29] وقوله: {وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ
بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ} [آل عمران: 75] وما جرى مجرى ذلك من
الألفاظ المطلقة، فإنما يتناول اليهود، والنصارى، ولا يعقل به من كان
من أهل الكتاب فأسلم إلا بتقييد ذكر الإيمان، ألا ترى أن الله تعالى
لما أراد به من أسلم منهم ذكر الإسلام مع ذكره أنهم من أهل الكتاب
فقال: {لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ}
[آل عمران: 113] {وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ
بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ} [آل عمران: 199]، والوجه الآخر:
أنه ذكر في الآية المؤمنات، وقد انتظم ذكر المؤمنات اللاتي كن من أهل
الكتاب فأسلمن ومن كن مؤمنات في الأصل; لأنه قال: {وَالْمُحْصَنَاتُ
مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا
الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [المائدة: 5] فكيف يجوز أن يكون مراده
بالمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من المؤمنات المبدوء بذكرهن وربما
احتج بعض القائلين بهذه المقالة بما روي عن علي بن أبي طلحة
(1/404)
قال: أراد
كعب بن مالك أن يتزوج امرأة من أهل الكتاب، فسأل رسول الله صلى الله
عليه وسلم فنهاه وقال: "إنها لا تحصنك" قال: فظاهر النهي يقتضي الفساد.
فيقال: إن هذا حديث مقطوع من هذا الطريق ولا يجوز الاعتراض بمثله على
ظاهر القرآن في إيجاب نسخه ولا تخصيصه، وإن ثبت فجائز أن يكون على وجه
الكراهية، كما روي عن عمر من كراهته لحذيفة تزويج اليهودية لا على وجه
التحريم; ويدل عليه قوله: "إنها لا تحصنك" ونفي التحصين غير موجب لفساد
النكاح; لأن الصغيرة لا تحصنه وكذلك الأمة ويجوز نكاحهما.
وقد اختلف في تزويج الكتابية الحربية، فحدثنا جعفر بن محمد الواسطي
قال: حدثنا جعفر بن محمد بن اليمان قال: حدثنا أبو عبيد قال: حدثنا
عباد بن العوام عن سفيان بن حسين عن الحكم عن مجاهد عن ابن عباس قال:
لا تحل نساء أهل الكتاب إذا كانوا حربا قال: وتلا هذه الآية:
{قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ
الْآخِرِ} إلى قوله: {وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة: 29] قال الحكم:
فحدثت به إبراهيم فأعجبه. وقال أبو بكر: يجوز أن يكون ابن عباس رأى ذلك
على وجه الكراهية، وأصحابنا يكرهونه من غير تحريم; وقد روي عن علي أنه
كره نساء أهل الحرب من أهل الكتاب. وقوله تعالى: {وَالْمُحْصَنَاتُ
مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [المائدة: 5] لم
يفرق فيه بين الحربيات، والذميات; وغير جائز تخصيصه بغير دلالة. وقوله
تعالى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا
بِالْيَوْمِ الْآخِرِ} [التوبة: 29] لا تعلق له بجواز النكاح ولا
فساده، ولو كان وجوب القتال علة لفساد النكاح لوجب أن لا يجوز نكاح
نساء الخوارج وأهل البغي لقوله تعالى: {فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي
حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ} [الحجرات: 9]. فبان بما وصفنا
أنه لا تأثير لوجوب القتال في إفساد النكاح، وأن ما كرهه أصحابنا لقوله
تعالى: {لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ
يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا
آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ}
[المجادلة: 22]، والنكاح يوجب المودة لقوله تعالى: {وَجَعَلَ
بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً} [الروم: 21] فلما أخبر أن النكاح سبب
المودة، والرحمة ونهانا عن موادة أهل الحرب، كرهوا ذلك. وقوله:
{يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [المجادلة: 22] إنما هو
في أهل الحرب دون أهل الذمة; لأنه لفظ مشتق من كونهم في حد ونحن في حد،
وكذلك المشاقة وهو أن يكونوا في شق ونحن في شق، وهذه صفة أهل الحرب دون
أهل الذمة فلذلك كرهوه. ومن جهة أخرى وهو أن ولده ينشأ في دار الحرب
على أخلاق أهلها، وذلك منهي عنه، قال صلى الله عليه وسلم: "أنا بريء من
كل مسلم بين ظهراني المشركين" وقال صلى الله عليه وسلم: "أنا بريء من
كل مسلم مع مشرك".
(1/405)
فإن قيل:
ما أنكرت أن يكون قوله تعالى: {لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ
بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ
وَرَسُولَهُ} [المجادلة: 22] مخصصا لقوله: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ
الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [المائدة: 5] قاصرا
لحكمه على الذميات منهن دون الحربيات؟ قيل له: الآية إنما اقتضت النهي
عن الوداد، والتحاب، فأما نفس عقد النكاح فلم تتناوله الآية، وإن كان
قد يصير سببا للموادة، والتحاب، فنفس العقد ليس هو الموادة، والتحاب
إلا أنه يؤدي إلى ذلك فاستحسنوا له غيرهن.
فإن قيل: لما قال عقيب تحريم نكاح المشركات: {أُولَئِكَ يَدْعُونَ
إِلَى النَّارِ} دل على أنه لهذه العلة حرم نكاحهن، وذلك موجود في نكاح
الكتابيات الذميات، والحربيات منهن، فوجب تحريم نكاحهن لهذه العلة
كتحريم نكاح المشركات. قيل له: معلوم أن هذه ليست علة موجبة لتحريم
النكاح; لأنها لو كانت كذلك لكان غير جائز إباحتهن بحال، فلما وجدنا
نكاح المشركات قد كان مباحا في أول الإسلام إلى أن نزل تحريمهن مع وجود
هذا المعنى وهو دعاء الكافرين لنا إلى النار. دل على أن هذا المعنى ليس
بعلة موجبة لتحريم النكاح; وقد كانت امرأة نوح وامرأة لوط كافرتين تحت
نبيين من أنبياء الله تعالى، قال الله تعالى: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً
لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كَانَتَا
تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ
يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَقِيلَ ادْخُلا النَّارَ
مَعَ الدَّاخِلِينَ} [التحريم: 10] فأخبر بصحة نكاحهما مع وجود الكفر
منهما، فثبت بذلك أن الكفر ليس بعلة موجبة لتحريم النكاح; وإن كان الله
تعالى قد قال في سياق تحريم المشركات: {أُولَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى
النَّارِ} فجعله علما لبطلان نكاحهن، وما كان كذلك من المعاني التي
تجري مجرى العلل الشرعية، فليس فيه تأكيد فيما يتعلق به الحكم من الاسم
فيجوز تخصيصه كتخصيص الاسم. وإذا كان قوله: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ
الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} [المائدة: 5] يجوز به تخصيص التحريم
الذي علق بالاسم، جاز أيضا تخصيص الحكم المنصوب على المعنى الذي أجري
مجرى العلل الشرعية، ونظير ذلك قوله: {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ
أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ
وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ} [المائدة: 91] فذكر
ما يحدث عن شرب الخمر من هذه الأمور المحظورة وأجراها مجرى العلة; وليس
بواجب إجراؤها في معلولاتها لأنه لو كان كذلك لوجب أن يحرم سائر
البياعات والمناكحات وعقود المداينات لإرادة الشيطان إيقاع العداوة
والبغضاء بيننا في سائرها وأن يصدنا بها عن ذكر الله، فلما لم يجب
اعتبار المعنى في سائر ما وجد فيه بل كان مقصور الحكم على المذكور دون
غيره كان كذلك حكم سائر
(1/406)
العلل
الشرعية المنصوص عليها منها والمقتضية والمستدل عليها، وهذا مما يستدل
به على تخصيص العلل الشرعية، فوجب بما وصفنا أن يكون حكم التحريم
مقصورا فيما وصفنا على المشركات منهن دون غيرهن، ويكون ذكر دعائهم
إيانا إلى النار تأكيدا للحظر في المشركات غير متعد به إلى سواهن; لأن
الشرك والدعاء إلى النار هما علما تحريم النكاح وذلك غير موجود في
الكتابيات. وقد قيل إن ذلك في مشركي العرب المحاربين كانوا لرسول الله
صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين، فنهوا عن نكاحهن لئلا يمكن بهم إلى مودة
أهاليهن من المشركين فيؤدي ذلك إلى التقصير منهم في قتالهم دون أهل
الذمة الموادين الذين أمرنا بترك قتالهم. إلا أنه إن كان كذلك فهو يوجب
تحريم نكاح الكتابيات الحربيات لوجود هذا المعنى، ولا نجد بدا من
الرجوع إلى حكم معلول هذه العلة بما قدمنا.
وقوله تعالى: {وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ} يدل على
جواز نكاح الأمة مع وجود الطول إلى الحرة; لأن الله تعالى أمر المؤمنين
بتزويج الأمة المؤمنة بدلا من الحرة المشركة التي تعجبهم ويجدون الطول
إليها; وواجد الطول إلى الحرة المشركة هو واجده إلى الحرة المسلمة، إذ
لا فرق بينهما في العادة في المهور، فإذا كان كذلك وقد قال الله تعالى:
{وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ}
ولا يصح الترغيب في نكاح الأمة المؤمنة وترك الحرة المشركة إلا وهو
يقدر على تزويج الحرة المسلمة، فتضمنت الآية جواز نكاح الأمة مع وجود
الطول إلى الحرة. ويدل من وجه آخر على ذلك، وهو أن النهي عن نكاح
المشركات عام في واجد الطول وغير واجده للغني والفقير منهم، ثم عقب ذلك
بقوله: {وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ} فأباح نكاحها
لمن حظر عليه نكاح المشركة، فكان عموما في الغني والفقير موجبا لجواز
نكاح الأمة للفريقين.
(1/407)
باب الحيض
قوله تعالى: {وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذىً
فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ} والمحيض قد يكون اسما للحيض
نفسه، ويجوز أن يسمى به موضع الحيض كالمقيل والمبيت هو موضع القيلولة
وموضع البيتوتة. ولكن في فحوى اللفظ ما يدل على أن المراد بالمحيض في
هذا الموضع هو الحيض، لأن الجواب ورد بقوله: {هُوَ أَذىً} وذلك صفة
لنفس الحيض لا للموضع الذي فيه. وكانت مسألة القوم عن حكمه وما يجب
عليهم فيه، وذلك لأنه قد كان قوم من اليهود يجاورونهم بالمدينة وكانوا
يجتنبون مؤاكلة
(1/407)
النساء
ومشاربتهن ومجالستهن في حال الحيض، فأرادوا أن يعلموا حكمه في الإسلام،
فأجابهم الله بقوله هذا: {هُوَ أَذىً} يعني أنه نجس وقذر. ووصفه له
بذلك قد أفاد لزوم اجتنابه; لأنهم كانوا عالمين قبل ذلك بلزوم اجتناب
النجاسات، فأطلق فيه لفظا عقلوا منه الأمر بتجنبه. ويدل على أن الأذى
اسم يقع على النجاسات قول النبي صلى الله عليه وسلم: "إذا أصاب نعل
أحدكم أذى فليمسحها بالأرض وليصل فيها فإنه لها طهور" فسمى النجاسة
أذى، وأيضا لما كان معلوما أنه لم يرد بقوله: {قُلْ هُوَ أَذىً}
الإخبار عن حاله في تأذي الإنسان به; لأن ذلك لا فائدة فيه، علمنا أنه
أراد الإخبار بنجاسته ولزوم اجتنابه، وليس كل أذى نجاسة، قال الله
تعالى: {وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذىً مِنْ مَطَرٍ}
[النساء: 102] والمطر ليس بنجس، وقال: {وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ
أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذىً
كَثِيراً} [آل عمران: 186] وإنما كان الأذى المذكور في الآية عبارة عن
النجاسة ومفيدا لكونه قذرا يجب اجتنابه، لدلالة الخطاب عليه ومقتضى
سؤال السائلين عنه.
وقد اختلف الفقهاء فيما يلزم اجتنابه من الحائض بعد اتفاقهم على أن له
أن يستمتع منها بما فوق المئزر، وورد به التوقيف عن النبي صلى الله
عليه وسلم روته عائشة وميمونة: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يباشر
نساءه وهن حيض فوق الإزار. واتفقوا أيضا على أن عليه اجتناب الفرج
منها، واختلفوا في الاستمتاع منها بما تحت الإزار بعد أن يجتنب شعار
الدم; فروي عن عائشة وأم سلمة: أن له أن يطأها فيما دون الفرج وهو قول
الثوري ومحمد بن الحسن، وقالا: يجتنب موضع الدم وروي مثله عن الحسن
والشعبي وسعيد بن المسيب والضحاك. وروي عن عمر بن الخطاب وابن عباس: أن
له منها ما فوق الإزار وهو قول أبي حنيفة وأبي يوسف والأوزاعي ومالك
والشافعي.
قال أبو بكر: قوله تعالى: {فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ
وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ} قد انتظم الدلالة من وجهين على
حظر ما تحت الإزار: أحدهما: قوله: {فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي
الْمَحِيضِ} ظاهره يقتضي لزوم اجتنابها فيما تحت المئزر وفوقه، فلما
اتفقوا على إباحة الاستمتاع منها بما فوقه سلمناه للدلالة، وحكم الحظر
قائم فيما دونه; إذ لم تقم الدلالة عليه. والوجه الآخر قوله: {وَلا
تَقْرَبُوهُنَّ} وذلك في حكم اللفظ الأول في الدلالة على مثل ما دل
عليه، فلا يخص منه عند الاختلاف إلا ما قامت الدلالة عليه. ويدل عليه
أيضا من جهة السنة حديث يزيد بن أبي أنيسة عن أبي إسحاق عن عمير مولى
عمر بن الخطاب: أن نفرا من أهل العراق سألوا عمر عما يحل لزوج
(1/408)
الحائض
منها وغير ذلك، فقال: سألت عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "لك
منها ما فوق الإزار وليس لك ما تحته". ويدل عليه أيضا حديث الشيباني عن
عبد الرحمن بن الأسود عن أبيه عن عائشة قالت: كانت إحدانا إذا كانت
حائضا أمرها النبي صلى الله عليه وسلم أن تتزر في فور حيضها ثم
يباشرها، فأيكم يملك إربه كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يملك
إربه؟. وروى الشيباني أيضا عن عبد الله بن شداد عن ميمونة زوج النبي
صلى الله عليه وسلم عنه مثله.
ومن أباح له ما دون المئزر احتج بحديث حماد بن سلمة عن ثابت عن أنس: أن
اليهود كانوا يخرجون الحائض من البيت ولا يؤاكلونها ولا يجامعونها في
بيت، فسئل النبي صلى الله عليه وسلم فأنزل الله تعالى: {وَيَسْأَلونَكَ
عَنِ الْمَحِيضِ} الآية، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "جامعوهن
في البيوت واصنعوا كل شيء إلا النكاح". وبما روي عن عائشة أن النبي صلى
الله عليه وسلم قال لها: "ناوليني الخمرة" فقالت: إني حائض، فقال:
"ليست حيضتك في يدك" قالوا: وهذا يدل على أن كل عضو منها ليس في الحيض
حكمه حكم ما كان فيه قبل الحيض في الطهارة وفي جواز الاستمتاع. والجواب
عن ذلك لمن رأى حظر ما دون مئزرها، أن قوله في حديث أنس إنما فيه ذكر
سبب نزول الآية وما كانت اليهود تفعله، فأخبر عن مخالفتهم في ذلك، وأنه
ليس علينا إخراجها من البيت وترك مجالستها. وقوله: "اصنعوا كل شيء إلا
النكاح" جائز أن يكون المراد به الجماع فيما دون الفرج لأنه ضرب من
النكاح والمجامعة، وحديث عمر الذي ذكرناه قاض عليه متأخر عنه، والدليل
على ذلك أن في حديث أنس إخبارا عن حال نزول الآية، وحديث عمر بعد ذلك;
لأنه لم يخبر عن حال نزول الآية، وقد أخبر فيه أنه سأل النبي صلى الله
عليه وسلم عما يحل من الحائض، وذلك لا محالة بعد حديث أنس من وجهين:
أحدهما: أنه لم يسأل عما يحل منها إلا، وقد تقدم تحريم إتيان الحائض.
والثاني: أنه لو كان السؤال في حال نزول الآية عقيبها لاكتفى بما ذكره
أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "اصنعوا كل شيء إلا النكاح".
وفي ذلك دليل على أن سؤال عمر كان بعد ذلك. ومن جهة أخرى أنه لو تعارض
حديث عمر وحديث أنس لكان حديث عمر أولى بالاستعمال لما فيه من حظر
الجماع فيما دون الفرج، وفي ظاهر حديث أنس الإباحة، والحظر والإباحة
إذا اجتمعا فالحظر أولى. ومن جهة أخرى، وهو أن خبر عمر يعضده ظاهر
القرآن، وهو قوله تعالى: {فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ
وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ}، وخبر أنس يوجب تخصيصه، وما
يوافق القرآن من الأخبار فهو أولى مما يخصه. ومن جهة أخرى، وهو أن خبر
أنس مجمل عام ليس فيه بيان إباحة موضع بعينه، وخبر عمر مفسر فيه بيان
لحكم الموضعين مما تحت الإزار وما فوقه; والله أعلم.
(1/409)
باب بيان معنى الحيض و مقداره
...
باب بيان معنى الحيض ومقداره
قال أبو بكر: الحيض اسم لمقدار من الدم يتعلق به أحكام، منها: تحريم
الصلاة والصوم وحظر الجماع وانقضاء العدة واجتناب دخول المسجد ومس
المصحف وقراءة القرآن، وتصير المرأة به بالغة. فإذا تعلق بوجود الدم
هذه الأحكام كان له مقدار ما سمي حيضا، وإذا لم يتعلق به هذه الأحكام
لم يسم حيضا، ألا ترى أن الحائض ترى الدم في أيامها وبعد أيامها على
هيئة واحدة فيكون ما في أيامها منه حيضا لتعلق هذه الأحكام به مع
وجوده، وما بعد أيامها فليس بحيض لفقد هذه الأحكام مع وجوده؟ وكذلك
نقول في الحامل: إنها لا تحيض، وهي قد ترى الدم، ولكن ذلك الدم لما لم
يتعلق به ما ذكرنا من الأحكام لم يسم حيضا، فالمستحاضة قد ترى الدم
السائل دهرا، ولا يكون حيضا، وإن كان كهيئة الدم الذي يكون مثله حيضا
إذا رأته في أيامها فالحيض اسم لدم يفيد في الشرع تعلق هذه الأحكام به
إذا كان له مقدار ما; والنفاس والحيض فيما يتعلق بهما من تحريم الصلاة
والصوم وجماع الزوج واجتناب ما يجتنبه الحائض سواء، وإنما يختلفان من
وجهين: أحدهما: أن مقدار مدة الحيض ليس هو مقدار مدة النفاس، والثاني:
أن النفاس لا تأثير له في انقضاء العدة ولا في البلوغ. وكان أبو الحسن
يحد الحيض بأنه الدم الخارج من الرحم الذي تكون به المرأة بالغة في
ابتدائه بها، وما تعتاده النساء في الوقت بعد الوقت. وإنما أراد بذلك
عندنا أن تكون بالغة في ابتدائه بها إذا لم يكن قد تقدم بلوغها قبل ذلك
من جهة السن أو الاحتلام أو الإنزال عند الجماع، فأما إذا تقدم بلوغها
قبل ذلك بما وصفنا ثم رأت دما، فهو حيض إذا رأته مقدار مدة الحيض وإن
لم تصر بالغة في ابتدائه بها.
وقد اختلف الفقهاء في مقدار مدة الحيض، فقال أصحابنا: أقل مدة الحيض
ثلاثة أيام وأكثره عشرة وهو قول سفيان الثوري، وهو المشهور عن أصحابنا
جميعا. وقد روي عن أبي يوسف ومحمد: إذا كان يومين وأكثر اليوم الثالث
فهو حيض والمشهور عن محمد مثل قول أبي حنيفة. وقال مالك: لا وقت لقليل
الحيض، ولا لكثيره. وحكى عبد الرحمن بن مهدي عن مالك أنه كان يرى أن
أكثر الحيض خمسة عشر يوما; حدثنا عبد الله بن جعفر بن فارس قال: حدثنا
هارون بن سليمان الجزار قال: حدثنا عبد الرحمن بن مهدي بذلك. وقال
الشافعي: أقل الحيض يوم وليلة وأكثره خمسة عشر يوما. وروى عبد الرحمن
بن مهدي، عن حماد بن سلمة، عن علي بن ثابت، عن محمد بن زيد، عن سعيد بن
جبير قال: الحيض إلى ثلاثة عشر، فإذا زادت فهي استحاضة. وقال عطاء: إذا
زادت على خمسة عشر فهي استحاضة. وقد كان
(1/410)
أبو حنيفة
يقول بقول عطاء: إن أقل الحيض يوم وليلة وأكثره خمسة عشر. ثم رجع عنه
إلى ما ذكرنا.
ومما يحتج به للقائلين بأن أقله ثلاثة أيام وأكثره عشرة، حديث القاسم
عن أبي أمامة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أقل الحيض ثلاثة أيام
وأكثره عشرة" فإن صح هذا الحديث فلا معدل عنه لأحد. ويدل عليه أيضا
حديث عثمان بن أبي العاص الثقفي وأنس بن مالك أنهما قالا: الحيض ثلاثة
أيام، أربعة أيام، إلى عشرة أيام، وما زاد فهو استحاضة. ويدل ذلك على
ما وصفنا من وجهين: أحدهما: أن القول إذا ظهر عن جماعة من الصحابة
واستفاض، ولم يوجد له منهم مخالف فهو إجماع وحجة على من بعدهم; وقد روي
ما وصفنا عن هذين الصحابيين من غير خلاف ظهر من نظرائهم عليهم، فثبتت
حجته. والثاني: أن هذا الضرب من المقادير التي هي حقوق الله تعالى،
وعبادات محضة طريق إثباتها التوقيف أو الاتفاق، مثل أعداد ركعات
الصلوات المفروضات وصيام رمضان ومقادير الحدود وفرائض الإبل في
الصدقات، ومثله مقدار مدة الحيض والطهر، ومنه مقدار المهر الذي هو
مشروط في عقد النكاح والقعود قدر التشهد في آخر الصلاة، فمتى روي عن
صحابي فيما كان هذا وصفه قول في تحديد شيء من ذلك وإثبات مقداره فهو
عندنا توقيف; إذ لا سبيل إلى إثباته من طريق المقاييس.
فإن قيل: ليس يمتنع أن يكون مقدار الحيض معتبرا بعادات النساء، فيجب
الرجوع إليها فيه; ويدل عليه قوله صلى الله عليه وسلم لحمنة بنت جحش:
"تحيضي في علم الله ستا أو سبعا كما تحيض النساء في كل شهر" فردها إلى
العادة وأثبتها ستا أو سبعا. فجائز على هذا أن يكون قول من قال بالعشرة
في أكثره وبالثلاث في أقله إنما صدر عن العادة عنده. قيل له: إنما
الكلام بيننا وبين مخالفينا في الأقل الذي لا نقص عنه، وفي الأكثر الذي
لا يزاد عليه، وقد اتفق الجميع على المذكور من العدد. وفي قصة حمنة هو
ست أو سبع، ليس بحد في ذلك، وأنه لا اعتبار به في إثبات التحديد; فسقط
الاحتجاج به في موضع الخلاف. وقوله لحمنة: "تحيضي في علم الله ستا أو
سبعا كما تحيض النساء في كل شهر" يصلح أن يكون دليلا مبتدأ لصحة قولنا،
من قبل: أن قوله: "كما تحيض النساء في كل شهر" لما كان مستوعبا لجنس
النساء اقتضى أن يكون ذلك حكم جميع النساء، وذلك ينفي أن يكون حيض
امرأة أقل من ذلك; فلولا قيام دلالة الإجماع على أن الحيض قد يكون
ثلاثا لما جاز لأحد أن يجعل الحيض أقل من ست أو سبع، فلما حصل الاتفاق
على كون الثلاث حيضا خصصناه من عموم الخبر وبقي حكم ما دون الثلاث
منفيا بمقتضى الخبر، ويحتج بمثله في أكثر الحيض. ويدل على ذلك أيضا ما
روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه
(1/411)
قال: "ما
رأيت ناقصات عقل ودين أغلب لعقول ذوي الألباب منهن" فقيل: ما نقصان
دينهن؟ فقال: "تمكث إحداهن الأيام والليالي لا تصلي" فدل على أن مدة
الحيض ما يقع عليه اسم الأيام والليالي، وأقلها ثلاثة أيام وأكثرها
عشرة أيام. ويدل عليه حديث الأعمش عن حبيب بن أبي ثابت عن عروة عن
عائشة، أنه صلى الله عليه وسلم قال لفاطمة بنت أبي حبيش: "اجتنبي
الصلاة أيام محيضك ثم اغتسلي وتوضئي لكل صلاة" وروى الحكم عن أبي جعفر،
أن سودة قالت للنبي صلى الله عليه وسلم: إني أستحاض، فأمرها أن تقعد
أيام حيضها، فإذا مضت توضأت لكل صلاة وصلت. وفي بعض ألفاظ حديث فاطمة
بنت أبي حبيش: "دعي الصلاة بعدد الأيام التي كنت تحيضين فيها ثم
اغتسلي" وفي حديث أم سلمة عنه صلى الله عليه وسلم في المرأة التي سألته
أنها تهراق الدم، فقال: "لتنظر عدد الليالي والأيام التي كانت تحيضهن
من الشهر فلتترك الصلاة قدر ذلك من الشهر ثم لتغتسل ولتصل". وروى شريك،
عن أبي اليقظان، عن عدي بن ثابت، عن أبيه، عن جده، عنه صلى الله عليه
وسلم قال: "المستحاضة تدع الصلاة أيام حيضها ثم تغتسل وتتوضأ لكل
صلاة". وفي بعض ألفاظ هذا الحديث: "تدع الصلاة أيام أقرائها". وأمر
النبي صلى الله عليه وسلم فاطمة بنت أبي حبيش والمرأة التي روت قصتها
أم سلمة أن تدع الصلاة أيام حيضها من غير مسألة منه لها عن مقدار حيضها
قبل ذلك، وجب بذلك أن تكون مدة الحيض ما يقع عليه اسم الأيام، وهو ما
بين الثلاثة إلى العشرة; ولو كان الحيض يكون أقل من ثلاث لما أجابها
بذكر الأيام والليالي، وقال في حديث عدي بن ثابت: "المستحاضة تدع
الصلاة أيام حيضها" وذلك لفظ عام في سائر النساء; واسم الأيام إذا
أطلقت في عدد محصور يقع أقله على ثلاثة وأكثره على عشرة، ولا بد من أن
يكون له عدد محصور يضاف إليه الأيام، فوجب أن يكون عدده ما ذكره النبي
صلى الله عليه وسلم ووجه آخر: هو أنه متى تقدمت معرفة الوقت الذي أضيفت
إليه الأيام فإن اسم الأيام لا يتناول عددا محصورا، نظيره قول القائل
أيام السنة فلا تختص بالثلاثة ولا بالعشرة; وقوله: {أَيَّاماً
مَعْدُودَاتٍ} لم تختص بما بين الثلاثة إلى العشرة; لأنه قال: {كُتِبَ
عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ}
فلما أضافها إلى الوقت الذي قد تقررت معرفته عند المخاطبين، لم تختص
بما بين الثلاثة إلى العشرة. وقوله: "تدع الصلاة أيام حيضها وأيام
أقرائها" لم يتقدم عند السامعين عدد أيامها، فيكون ذكر الأيام راجعا
إليها دون ما تختص به من العدد، فوجب أن يكون محمولا على ما يختص به من
هذا العدد، وهو ما بين الثلاثة إلى العشرة، وإنما كان ذلك كذلك; لأن
اسم الأيام قد تطلق ويراد بها وقتا مبهما، كما يطلق اسم الليالي على
وقت مبهم، ولا يراد به سواد الليل، فإذا تقدمت معرفة الوقت المضاف إليه
الأيام فذكر الأيام فيه بمعنى الوقت المبهم الذي لا يراد به عدد; قال
الشاعر:
(1/412)
ليالي
تصطاد الرجال بفاحم
ولم يرد به سواد الليل دون بياض النهار. وقال آخر:
وأذكر أيام الحمى ثم أنثني ... على كبدي من خشية أن تصدعا
وليست عشيات الحمى برواجع ... إليك ولكن خل عينيك تدمعا
ولم يرد بذكر الأيام بياض النهار، ولا بذكر العشيات أواخره، وإنما أراد
وقتا قد تقررت معرفته عند المخاطب; وكقوله تعالى: {فَأَصْبَحَ مِنَ
النَّادِمِينَ} [المائدة: 31] ولم يرد به أول النهار دون آخره.
وقال الشاعر:
أصبحت عاذلتي معتله
ولم يرد به الصباح دون المساء. وقال لبيد:
وأمسى كأحلام النيام نعيمهم ... وأي نعيم خلته لا يزايل
ولم يرد به المساء دون الصباح، وإنما أراد وقتا مبهما. وهذا أشهر في
اللغة من أن يحتاج فيه إلى الإكثار من الشواهد. فلما انقسم اسم الأيام
إلى هذين المعنيين، قلنا فيما تقررت معرفته إذا أضيف إليه الأيام
فمعناه الوقت، وما كان منه حكما مبتدأ فهو محمول على ما تصح إضافة
الأيام إليه، فمعناها إذا عين، وهو ما بين الثلاثة إلى العشرة. ووجه
آخر: وهو أنه لما كان في مفهوم لسان العرب أن اسم الأيام إذا أضيف إلى
عدد لم يقع إلا على ما بين الثلاثة إلى العشرة، ولا يفارق هذا العدد
اسم الأيام بحال; لأنك إذا قلت: أحد عشر لم تقل أياما، وإنما تقول: أحد
عشر يوما، وكذلك إذا أطلقت أيام الشهر فقلت ثلاثين، لم يحسن عليه اسم
الأيام، وقلت: ثلاثين يوما; فلما كان اسم الأيام مع ذكر العدد المضاف
لا يقع إلا على ما بين الثلاثة إلى العشرة علمنا أنها حقيقة فيه محمولة
على حقيقته، ولا تصرف عنه إلى غيره إلا بدلالة; لأنه مجاز من حيث جاز
أن ينفى عنه اسم الأيام بحال، وهو إذا عين عدده أضيفت الأيام إليه.
فإن قيل: لما قال: "دعي الصلاة أيام أقرائك" فجعل الأيام، وأقلها ثلاثة
للأقراء، وهي جمع أقله ثلاثة، حصل لكل يوم قرء. قيل له: المراد بقوله:
" أيام أقرائك", حيضة واحدة، بدلالة أن من كانت عادتها في الحيض ما بين
الثلاثة إلى العشرة، مراده ذلك لا محالة; ومعلوم أن المراد في مثلهما
بقوله: "أقرائك" حيضة واحدة، فكذلك من لا عادة لها. ويدل على ذلك قوله
: "ثم اغتسلي وتوضئي لكل صلاة" ومعلوم أن مراده: عند
(1/413)
مضي كل
حيضة; فعلمنا أن المراد بقوله: "أيام أقرائك" أيام حيضك. وأيضا قال في
حديث الأعمش الذي ذكرنا: "أيام محيضك" وفي غيره: "أيام حيضك" وقال:
"فلتدع الصلاة الأيام والليالي التي كانت تقعد" وقال: "نقصان دينهن
تمكث إحداهن الأيام والليالي لا تصلي" ولم يذكر الأقراء في هذه
الأخبار، وإنما ذكر الحيض، فوجب بمقتضاها أن يكون الحيض أياما وأن ما
لا يقع عليه اسم الأيام فليس بحيض; لأنه صلى الله عليه وسلم قصد إلى
بيان حكم جميع النساء في الحيض. وقد حدث محمد بن شجاع قال: حدثنا يحيى
بن أبي بكير قال: حدثنا إسرائيل، عن عثمان بن سعيد، عن عبد الله بن أبي
مليكة، عن فاطمة بنت أبي حبيش، ذكرت قصتها، فقال رسول الله صلى الله
عليه وسلم لعائشة: "مري فاطمة فلتمسك كل شهر عدد أيام أقرائها ثم
تغتسل" فأبان في هذا الحديث عن مراده بذكر الأقراء وأنها حيضة في كل
شهر; لأنه قال: "تمسك كل شهر عدد أيام أقرائها" وقد أخبر في حديث آخر
أن عادة النساء في كل شهر حيضة واحدة بقوله لحمنة: "تحيضي في علم الله
ستا أو سبعا كما تحيض النساء في كل شهر".
فإن قيل: كيف يجوز أن تسمى الحيضة الواحدة أقراء، والحيضة الواحدة إنما
هي قرء واحد، فينبغي أن تكون الأقراء اسما لجماعة حيض قيل له: لما كان
القرء اسما لدم الحيض جاز أن تسمى الحيضة الواحدة أقراء على أنها عبارة
عن أجزاء الدم، كما يقال ثوب أخلاق، يراد به العبارة عن كل قطعة منه;
وقال الشاعر:
جاء الشتاء وقميصي أخلاق ... شراذم يضحك منه التواق
فسمى القميص الواحد أخلاقا; لأنه أراد العبارة عن كل قطعة منه. كذلك
جاز أن تسمى الحيضة الواحدة أقراء عبارة بها عن أجزاء الدم.
فإن قيل: إن اسم الأيام قد يقع على يومين، فيجب أن يجعل أقل الحيض
يومين لوقوع الاسم عليها. قيل له: إنما يطلق اسم الأيام عليهما مجازا
وحقيقتها ثلاثة فما فوقها، وحكم اللفظ أن يحمل على حقيقته حتى تقوم
الدلالة على جواز صرفه إلى المجاز. ودليل آخر: وهو أن مدة أقل الحيض
وأكثره لما لم يكن لنا سبيل إلى إثبات مقدارها من طريق المقاييس، وكان
طريقها التوقيف والاتفاق على ما تقدم من بيانه في هذا الباب، ثم اتفق
الجميع على أن الثلاث حيض وكذلك العشر واختلفوا فيما دون الثلاث وفوق
العشر، أثبتنا ما اتفقوا عليه ولم نثبت ما اختلفوا فيه لعدم ما يوجبه
من توقيف أو اتفاق.
فإن قيل فقد اتفق الجميع على أن المبتدأة تترك الصلاة في أول ما ترى
الدم وإن
(1/414)
كانت
رؤيته يوما وليلة، فدل على أن اليوم والليلة حيض، ومن ادعى أن ذلك الدم
لم يكن حيضا احتاج إلى دلالة; لأنه قد حكم له بحكم الحيض بديا، فلا
ينقض هذا الحكم إلا بدلالة توجب نقضه، وهذا يوجب أن يكون الحيض يوما
وليلة. قيل له: وقد اتفقوا على أنها تترك الصلاة إذا رأته وقت صلاة،
فينبغي أن يكون ذلك دليلا على أن مدة الحيض وقت صلاة، فلما لم يدل
أمرنا إياها بترك الصلاة إذا رأت الدم وقت صلاة على أن أقل الحيض وقت
صلاة، بل كان حكم ذلك الدم مراعى منتظرا به استكمال مدة الحيض على
اختلافهم فيها، كذلك اليوم والليلة.
فإن قيل: لما قال الله تعالى: {وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ
مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ} فقد أوجب علينا الرجوع إلى
قولها حين وعظها بترك الكتمان. قيل له: ليس هذا من مسألتنا في شيء،
وإنما هو كلام في قبول خبرها إذا أخبرت عما خلق الله في رحمها، ونحن
نجعل القول قولها في ذلك; وأما الحكم بأن ذلك لدم حيض أو ليس بحيض فليس
ذلك إليها; لأن ذلك حكم، وليس الحكم مخلوقا في رحمها فنرجع إلى قولها.
قال أبو بكر: وجميع ما قدمنا من ذلك منتظم دلالة على بطلان قول من حد
مقدار أقل الحيض بيوم وليلة، وعلى بطلان قول من لم يجعل لقليل الحيض
ولا لكثيره مقدارا معلوما، وعلى فساد قول من اعتبر عادة نسائها. ويدل
على بطلان قول من أسقط اعتبار المقدار في قليله وكثيره، أنه لو كان
كذلك لوجب أن يكون الحيض هو الدم الموجود منها، فيجب على هذه القضية أن
لا تكون في الدنيا مستحاضة لوجود الدم وكون جميعه حيضا. وقد علمنا
بطلان ذلك بالسنة واتفاق الأمة، فإن فاطمة بنت حبيش قالت للنبي صلى
الله عليه وسلم: إني أستحاض فلا أطهر فأخاف أن لا يكون لي في الإسلام
حظ. واستحيضت حمنة سبع سنين; فلم يقل الشارع لهما إن جميع ذلك حيض، بل
أخبرهما أن منه ما هو حيض ومنه ما هو استحاضة. فلا بد من أن يكون لما
كان منه حيضا مقدار موقت، وهو ما أخبر عن مقداره بذكر الأيام. ويلزم
أيضا من لا يجعل لأقل الحيض ولا لأكثره مقدارا معلوما، أن يجعل دم
المبتدأة إذا استمر بها كله حيضا وإن رأته سنة لفقد عادة الحيض منها
ووجود الدم في رحمها. وهذا خلف من القول متفق على بطلانه.
فإن قيل: لما كان النفاس مثل الحيض فيما يتعلق به من الحكم ولم يكن
لأقله حد معلوم، فكذلك الحيض قيل له: إنما أثبتنا ذلك نفاسا بالاتفاق
ولم نقس عليه الحيض; إذ ليس طريق إثباته المقاييس.
وقد احتج الفريقان من مثبتي القليل والكثير من الدم حيضا وممن قدره
بيوم وليلة
(1/415)
بقوله
تعالى: {فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ} وقول النبي صلى الله
عليه وسلم: "إذا أقبلت الحيضة فدعي الصلاة"; إذ كان ظاهره يقتضي القليل
والكثير; لأنه ليس في اللفظ توقيت، فإذا رأت الدم يوما وليلة فقد
تناوله الظاهر فيقال لهم: إنما يجب أن يثبت ذلك حيضا حتى يعتزلها فيه;
إذ ليس في اللفظ دلالة على كيفية الحيض ولا على معناه وصفته، فإذا ثبت
أنه حيض حينئذ أجري فيه حكم الآية والخبر، ومتى اختلفوا فيه لم يكن في
هذه الآية دليل على معناه، ودعوى الخصم لا تكون دليلا في المسألة.
فإن قيل: قد بين الشارع علامة دم الحيض وصفته بما يغني عن اعتبار
المقدار معه، بقوله: "دم الحيض هو الأسود المحتدم" فمتى وجد الدم بهذه
الصفة كان حيضا. قيل له: لا خلاف أن الدم الذي ليست هذه صفته قد يكون
حيضا إذا رأته في أيامها أو رأته وهي مبتدأة، وقد يوجد على هذه الصفة
بعد أيامها أو في أيامها، فيكون ما في أيامها منه حيضا وما بعد أيامها
استحاضة; فغير جائز أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم جعل وجود هذه
الصفة علما للحيض ودليلا عليه وهي توجد مع عدمه وتعدم مع وجوده، وإنما
وجه ذلك عندنا أنه علم ذلك من حال امرأة بعينها وأن حيضها أبدا يكون
بهذه الصفة، فأخبر عن حكمها خاصة دون غيرها، فلم يجز اعتباره في غيرها.
وقد احتج الفريقان أيضا من مثبتي مقدار أقل الحيض يوما وليلة ومن نافي
تقديره بقوله تعالى: {وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذىً}
فزعم من أسقط اعتبار المقدار أنه لما وصف الحيض بكونه أذى فحيثما وجد
الأذى فهو حيض بغير اعتبار التوقيف، إذ ليس في الآية ذكر المقدار، ومن
قال باليوم والليلة يقول: إن ظاهره يقتضي وجود الأذى في اليوم والليلة
حيضا وفيما دونه، وخصصنا ما دونه بدلالة، فبقي حكم اللفظ في اليوم
والليلة. فيقال لهم: ينبغي أن يثبت الحيض أولا حتى تثبت هذه الصفة وهي
كونه أذى; لأنه تعالى إنما جعل الحيض أذى ولم يجعل الأذى حيضا، وقد
علمنا أنه ليس كل أذى حيضا وإن كان كل حيض أذى، كما أنه ليس كل نجاسة
حيضا وإن كان كل حيض نجاسة، فوجب أن يثبت الحيض حتى يكون أذى. وأيضا
معلوم أنه لو كان مراده أن يجعل الأذى اسم المحيض أنه لم يرد به أن كل
أذى حيض; لأن سائر ضروب الأذى ليست بحيض، فيحصل حينئذ المراد أذى منكرا
إذ يحتاج في معرفته إلى دلالة من غيره، حتى إذا حصلت لنا معرفته حكمنا
فيه بحكم الحيض. وأيضا فإن الأذى اسم مشترك يقع على أشياء مختلفة
المعاني، وما كان هذا وصفه من الأسماء فليس يجوز أن يكون عموما.
واحتج بعض من جعل أكثر الحيض خمسة عشر يوما أن النبي صلى الله عليه
وسلم قال: "ما رأيت
(1/416)
ناقصات
عقل ودين أغلب لعقول ذوي الألباب منهن" فقيل: وما نقصان دينهن؟ فقال:
"تمكث إحداهن نصف عمرها لا تصلي" قال: وهذا يدل على أن الحيض خمسة عشر
يوما، ويكون الطهر خمسة عشر يوما; لأنه أقل الطهر، فيكون الحيض نصف
عمرها; ولو كان أكثر الحيض أقل من ذلك لم توجد امرأة لا تصلي نصف
عمرها. فيقال له: لم يرو أحد نصف عمرها وإنما روي على وجهين: أحدهما:
"شطر عمرها" والآخر: "تمكث إحداهن الأيام والليالي لا تصلي" فأما ذكر
نصف عمرها فلم يوجد في شيء من الأخبار. وقوله: "شطر عمرها" لا دلالة
فيه على أنه أراد النصف; لأن الشطر هو بمنزلة قوله طائفة و بعض ونحو
ذلك. قال الله تعالى: {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ
الْحَرَامِ} [البقرة: 144] وإنما أراد ناحيته وجهته، ولم يرد نصفه. وقد
بين مقدار ذلك الشطر في قوله صلى الله عليه وسلم: "تمكث إحداهن الأيام
والليالي لا تصلي" فوجب أن يكون هو المراد دون غيره. ومع ذلك فإنه لا
يوجد في الدنيا امرأة تكون حائضا نصف عمرها; لأن ما مضى من عمرها قبل
البلوغ من عمرها وهو طهر بلا حيض، فلو جاز أن يكون الحيض بعد البلوغ
خمسة عشر يوما إلى انقضاء عمرها وكان طهرها مع ذلك خمسة عشر، لما حصل
الحيض نصف عمرها; فعلمنا بطلان قول من زعم أن حيضها قد يكون نصف عمرها.
(1/417)
ذكر الاختلاف في أقل مدة الطهر
قال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد وزفر والثوري والحسن بن صالح والشافعي:
أقل الطهر خمسة عشر يوما وهو قول عطاء. وأما مالك بن أنس فإنه لا يوقت
فيه شيئا في إحدى الروايات، وفي رواية عبد الملك بن حبيب عنه أن الطهر
لا يكون أقل من خمسة عشر. وقال الأوزاعي: قد يكون الطهر أقل من خمسة
عشر، ويرجع فيه إلى مقدار طهر المرأة قبل ذلك. وقد حكي عن الشافعي أنه
علم أن طهر المرأة أقل من خمسة عشر جعل القول قولها. وذكر الطحاوي عن
أبي عمران عن يحيى بن أكثم أنه قال: أقل الطهر تسعة عشر يوما واحتج فيه
بأن الله تعالى جعل عدل كل حيضة وطهر شهرا، والحيض في العادة أقل من
الطهر، فلم يجز أن يكون الحيض خمسة عشر، فوجب أن يكون عشرة وأن يكون
باقي الشهر طهرا وهو تسعة عشر; لأن الشهر قد يكون تسعة وعشرين يوما.
وقد حكينا عن سعيد بن جبير أن الطهر أقله ثلاثة عشر يوما. والدليل على
أن أقله خمسة عشر يوما أنه لما كان أكثر الحيض عشرة أيام، وقد جعل الله
تعالى الشهر الواحد بدلا من حيض وطهر، وجب أن يكون الطهر أكثر منه; لأن
النبي صلى الله عليه وسلم قال لحمنة: "تحيضي في علم الله ستا أو سبعا
كما تحيض النساء في كل شهر" فأثبت الست أو السبع حيضا وجعل في الشهر
طهرا، اقتضى ذلك أن يكون هذا حكم جميع
(1/417)
النساء ما
لم تقم الدلالة على خمسة عشر يوما ولم تقم على عشرة ولا على ثلاثة عشر،
فلا يكون ذلك طهرا صحيحا. وأيضا لما كان الطهر من الحيض يلزم به
الصلوات، أشبه الإقامة، فلما كان أقل الإقامة عندنا خمسة عشر يوما ولم
يكن لأكثرها غاية، وجب أن يكون الطهر من الحيض كذلك. وأيضا فإن طريق
إثبات مقدار الطهر التوقيت أو الاتفاق، وقد ثبت باتفاق فقهاء السلف أن
خمسة عشر يكون طهرا صحيحا واختلفوا فيما دونها، وقفنا عند الاتفاق ولم
نثبت ما دونها طهرا لعدم التوقيف والاتفاق فيه. وأما ما حكي عن يحيى بن
أكثم من تقديره الطهر تسعة عشر يوما، فإنه يفسد من وجوه: أحدها: أن
اتفاق السلف قد سبقه في كون الطهر خمسة عشر فلا يكون خلافا عليهم ولأن
من تقدمه اختلفوا فيه على ثلاثة أوجه: قال عطاء: خمسة عشر يوما وقال
سعيد بن جبير: ثلاثة عشر يوما وقال مالك في بعض الروايات: خمسة عشر وفي
بعضها: عشرة ولم يقل أحد منهم تسعة عشر. ويفسد من جهة أنه أثبت له
مقدارا من غير توقيف ولا اتفاق، وذلك غير جائز فيما هذا وصفه. وأما
احتجاجه بما قدمنا ذكره فلا معنى له ولا يوجب ما ذكرنا، وذلك; لأنه
معلوم أن ما أقامه الله من الشهر الواحد مقام حيضة وطهر غير مانع وجود
حيضة وطهر في أقل من شهر; لأنه لو كان حيضها ثلاثة أيام حصل لها حيضة
وطهر في أقل من شهر، وإذا لم يدل إيجاب الله تعالى شهرا عن حيضة وطهر
على وجود حيضة وطهر في أقل منه وجاز نقصان الحيض عن عشرة حتى تستوفى
لها حيضة وطهر في أقل من شهر وتنقضي عدتها بالحيض في أقل من ثلاثة أشهر
وإن لم يجز أن تنقضي عدتها إذا كانت بالشهور في أقل من ثلاثة أشهر، لم
يمتنع أن ينقص الطهر بعد استيفاء الحيضة عشرا فيكون أقل من تسعة عشر
يوما. فبان بما وصفنا أن ما ذكره ليس بدليل على وجوب الاقتصار في أقل
الطهر على تسعة عشر يوما وإنما يدل ذلك على أن الطهر قد يكون هذا
القدر، ولا دلالة فيه على أنه لا يكون أقل منه، والله أعلم.
(1/418)
ذكر الاختلاف في الطهر العارض في حال الحيض
قال أصحابنا جميعا فيمن ترى يوما دما ويوما طهرا: إن ذلك كدم متصل
وكذلك قال أبو يوسف: إذا كان الطهر بين الدمين أقل من خمسة عشر فهو كدم
متصل. وقال محمد: إذا كان الطهر الذي بين الدمين أقل من ثلاثة أيام فهو
كدم متصل، وإذا كان ثلاثة أيام أو أكثر من العشرة فإنه ينظر إلى الدمين
والطهر الذي بينهما، فإن كان الطهر أكثر منهما فصل بين الدمين، وإن
كانا سواء أو أقل فهو كدم متصل، ومتى كان الطهر أكثر من الدمين ففصل
بينهما اعتبر كل واحد من الدمين بنفسه، فإن كان الأول منهما ثلاثة أيام
فإنه يكون حيضا، وكذلك إن لم يكن الأول ثلاثا وكان الآخر منهما ثلاثا
(1/418)
فالآخر
حيض، وإن لم يكن واحد منهما ثلاثا فليس واحد منهما بحيض. وقال مالك:
إذا رأت يوما دما ويوما طهرا أو يومين ثم رأت دما كذلك، فإنه تلغى أيام
الطهر وتضم أيام الدم بعضها إلى بعض، فإن دام بها ذلك استظهرت بثلاثة
أيام على أيام حيضها، فإن رأت في خلال أيام الاستظهار أيضا طهرا ألغاه
حتى يحصل ثلاثة أيام دم الاستظهار، وأيام الطهر تصلي وتصوم ويأتيها
زوجها، ويكون ما جمع من أيام الدم بعضه إلى بعض حيضة واحدة، ولا يعتد
بأيام الطهر في عدة من طلاق. فإذا استظهرت بثلاثة أيام بعد أيام حيضها
تتوضأ لكل صلاة وتغتسل كل يوم إذا انقطع عنها من أيام الطهر; وإنما
أمرت بالغسل; لأنها لا تدري لعل الدم لا يرجع إليها. وحكى الربيع عن
الشافعي نحو ذلك.
قال أبو بكر: معلوم أن الحائض لا ترى الدم أبدا سائلا وكذلك المستحاضة،
إنما تراه في وقت وينقطع في وقت; ولا خلاف أن انقطاع دمها ساعة ونحوها
لا يخرجها من حكم الحيض في وقت رؤية الطهر وانقطاع الدم في مثل هذا
الوقت، وأن ذلك كله كدم متصل كما قالوا جميعا في انقطاعه ساعة ونحوها
ولأن الطهر الذي بينهما ليس بطهر صحيح عند الجميع; لأن أحدا لا يجعل
الطهر الصحيح يوما ولا يومين، ولم يقل أحد: إن الطهر الذي بين الحيضتين
يكون أقل من عشرة أيام على ما بيناه فيما سلف. وأيضا لو كان طهر اليوم
واليومين الذي بين الدمين طهرا يوجب الصلاة والصوم، لوجب أن يكون كل
واحد من الدمين حيضة تامة، فلما اتفق الجميع على أن هذا القدر من الطهر
غير معتد به في الفصل بين الدمين وجعل كل واحد منهما حيضة تامة، وجب أن
يسقط حكمه ويصير مع ما قبله وبعده من الدم كدم متصل.
وقد اختلف في الصفرة والكدرة في أيام الحيض، فروي عن أم عطية الأنصارية
قالت: كنا لا نعتد بالصفرة ولا بالكدرة بعد الغسل شيئا. واتفق فقهاء
الأمصار على أن الصفرة في أيام الحيض حيض، منهم أبو حنيفة وأبو يوسف
ومحمد وزفر ومالك والليث وعبيد الله بن الحسن والشافعي. واختلفوا في
الكدرة، فقال جميع من قدمنا ذكرهم: إنها حيض في أيام الحيض وإن لم
يتقدمها دم. وقال أبو يوسف: لا تكون الكدرة حيضا إلا بعد الدم. وقد روي
عن عائشة وأسماء بنت أبي بكر قالتا: لا تصلي الحائض حتى ترى القصة
البيضاء. ولم يختلفوا في أن الكدرة حيض بعد الدم، فلما كان وجودها عقيب
الدم دليلا على أن الكدرة من اختلاط أجزاء الدم، وجب أن يكون ذلك حكمها
إذا وجدت في أيام الحيض وإن لم يتقدمها دم، وأن يكون الوقت المعتاد فيه
الدم دلالة على أن الكدرة من اختلاط أجزاء الدم بالبياض. والدليل على
أن للوقت تأثيرا في ذلك، أن المرأة ترى الدم في أيام حيضها وبعدها،
فيكون ما رأته في أيامها حيضا وما بعد أيامها
(1/419)
غير حيض
وكان الوقت علما لكونه حيضا ودلالة عليه، فكذلك يجب أن يكون الوقت
دليلا على أن الكدرة من أجزاء دم الحيض وأن يكون حيضا.
وقد اختلف في حيض المبتدأة إذا رأت الدم واستمر بها، فقال أصحابنا
جميعا عشرة منها حيض وما زاد فهو استحاضة إلى آخر الشهر، فيكون حيضها
عشرة وطهرها عشرين. ولم يذكر عنهم خلاف في الأصول. وقال بشر بن الوليد
عن أبي يوسف: تأخذ في الصلاة بالثلاث أقل الحيض، وفي الزوج بالعشرة،
ولا تقضي صوما عليها إلا بعد العشرة، وتصوم العشر من رمضان وتقضي سبعا
منها. وقال إبراهيم النخعي: تقعد مثل أيام نسائها. وقال مالك: تقعد ما
تقعد نحوها من النساء ثم هي مستحاضة بعد ذلك. وقال الشافعي: حيضها أقل
ما يكون يوما وليلة.
والدليل على صحة القول الأول اتفاق الجميع على أنها مأمورة بترك الصلاة
إلى أكثر الحيض على اختلافهم فيه، فصارت محكوما لها بحكم الحيض في هذه
الأيام ومثلها يجوز أن يكون حيضا، فوجب أن تكون العشرة كلها حيضا لوقوع
الحكم لها بذلك وعدم عادتها لخلافه، ألا ترى أن الكل يقولون: إن الدم
لو انقطع عن العشرة لكان كله حيضا؟ فثبت أن العشرة محكوم لها فيها لحكم
الحيض، وغير جائز نقض ذلك إلا بدلالة. وأيضا فلو كان ما زاد على الأقل
مشكوكا فيه بعد وجود الزيادة على الأكثر، لكان الأولى أن لا ينقض ما
حكمنا به حيضا بالشك، ألا ترى أنه صلى الله عليه وسلم حكم للشهر الذي
يغم الهلال في آخره بثلاثين بقوله: "فإن غم عليكم فعدوا ثلاثين" لما
كان ابتداء الشهر يقينا لم يحكم بانقضائه بالشك.
فإن قيل: فمن كانت لها عادة دون العشرة فزاد الدم ردت إلى أيام عادتها
ولم يكن حكمنا لها بديا في الزيادة بحكم الحيض مانعا من اعتبار أيامها،
وكذلك من رأت الدم في أول أيامها كانت مأمورة بترك الصلاة ولو دون
الثلاث، فإن انقطع ما دون الثلاث حكمنا بأن ما رأته لم يكن حيضا، وإن
تم ثلاثا كان حيضا. قيل له: أما التي كان لها أيام معروفة فإن حكم
الزيادة لم يقع إلا مراعى معتبرا بانقطاعه في العشرة، لقوله صلى الله
عليه وسلم: "المستحاضة تدع الصلاة أيام أقرائها" فاقتضى ذلك كون
الزيادة مراعاة، لعلمنا بأن لها أياما معروفة. وأما المبتدأة فلم يكن
لها قبل ذلك أيام يجب اعتبارها، فلذلك كانت رؤيتها الدم في العشرة غير
مراعاة، بل عندنا أن ما رأته المبتدأة في العشرة فهو كالعادة يصير ذلك
أياما لها في العدد والوقت، وإذا كان كذلك لم يجز أن يكون الدم الذي
رأته المبتدأة في العشر مراعى بل واجب أن يحكم لها فيه بحكم الحيض; إذ
كان مثله يكون حيضا. وأما من رأت الدم في أول أيامها وحكمنا لها فيه
بحكم الحيض في باب الأمر بترك
(1/420)
الصلاة
والصيام، ثم انقطاعه دون الثلاث يخرجه عن كونه حيضا فلأن ذلك وقع مراعى
في الابتداء; لعلمنا بأن لأقل الحيض مقدارا متى قصر عنه لم يكن الدم
الذي رأته حيضا، فمن أجل ذلك وقع مراعى. وليس لمبتدأة بعد رؤيتها للدم
ثلاثا حال يجب مراعاتها، فوجب أن تكون العشرة كلها حيضا لعدم الدلالة
الموجبة للاقتصار به على ما دونها. وأما أبو يوسف فإنه جعلها بمنزلة من
كان حيضها خمسا أو ستا فكانت شاكة في الستة. وقالوا جميعا: إنها تأخذ
بالأقل في الصلاة، وكذلك الميراث والرجعة، وتأخذ في الأزواج بالأكثر
احتياطا، وكذلك المبتدأة. قال أبو بكر: وليس هذا نظيرا لمسألتنا، من
قبل أن هذه قد كانت لها أيام معلومة، وقد تيقنا الخمسة وشككنا في
الستة، فاحتطنا لها في الصلاة والصوم، واحتطنا أيضا في الأزواج فلم
نبحها لهم بالشك، والمبتدأة ليس لها أيام يجب اعتبارها، فما رأته من
الدم الذي يكون مثله حيضا فهو حيض ولا معنى لردها إلى أقل الحيض; إذ
ليس معنا دلالة توجب ذلك. ويفسد هذا القول أيضا من جهة أن أقل الحيض
ليس بعادة لها، فلا فرق بينه وبين ما زاد عليه في امتناع وجوب الرد
إليه، فوجب حينئذ اعتبار الأكثر لوقوع الحكم بكونه حيضا وعدم الدلالة
على نقض هذا الحكم. ويدل أيضا على صحة قول أبي حنيفة أن الله تعالى جعل
عدة الآيسة والصغيرة ثلاثة أشهر بدلا من الحيض، فجعل مكان كل حيضة وطهر
شهرا. فدل ذلك على أنه إذا استمر بها الدم ولم تكن لها عادة فواجب أن
تستوفى لها حيضة وطهر; ومعلوم أنه ليس لأكثر الطهر حد معلوم، ولأكثر
الحيض مقدار معلوم، فوجب أن يستوفى لها أكثر الحيض ويكون بقية الشهر
طهرا; لأنه ليس مقدار من الطهر في بقية الشهر بالاعتبار أولى من غيره،
فوجب أن يكون المعتبر من الطهر لبقية الشهر هو الذي يبقى بعد أكثر
الحيض; ألا ترى أنك إذا نقصت الحيض من العشرة احتجت أن تزيد ما نقصته
منها في الطهر؟ وليس زيادة الطهر بأن يكون سبعة بأولى من أن يكون خمسة
أو ستة، فوجب أن يعتبر أكثر الحيض ويجعل الباقي من الشهر طهرا. ويدل
على وجوب استيفاء حيضة وطهر في الشهر لهذه المبتدأة قوله صلى الله عليه
وسلم لحمنة: "تحيضي في علم الله ستا أو سبعا كما تحيض النساء في كل
شهر" فأخبر أن عادة النساء في كل شهر حيضة وطهر.
فإن قيل: فهلا اعتبرت لها ستا أو سبعا كما قال صلى الله عليه وسلم قيل
له: لم نقل ذلك لوجوه أحدها: أنا لا نعلم أحدا من أهل العلم قال ذلك في
المبتدأة. والثاني: أن هذه كانت عادة المرأة المخاطبة بذلك أعني ستا أو
سبعا فلا يعتبر بها غيرها; فاستدلالنا من الخبر بما وصفنا صحيح; لأنا
أردنا إثبات الحيضة والطهر في الشهر المتعارف المعتاد. وأما قول من
قال: إنها تقعد مثل حيض نسائها فلا معنى له; لأن النبي صلى الله عليه
وسلم لم
(1/421)
يرد
المستحاضة إلى وقت نسائها، وإنما رد واحدة إلى عادتها فقال: "تقعد أيام
أقرائها" وأمر أخرى أن تقعد في علم الله ستا أو سبعا، وأمر أخرى أن
تغتسل لكل صلاة، ولم يقل لواحدة منهن اقعدي أيام نسائك. وأيضا فإن أيام
نسائها والأجنبيات ومن كان دون سنها وفوقها سواء، وقد يتفقن في السن مع
اختلاف عاداتهن في الحيض، فليس لنسائها في ذلك خصوصية دون غيرهن.
وقد تنازع أهل العلم في قوله تعالى: {وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى
يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ} فمن الناس من يقول: إن
انقطاع الدم يوجب إباحة وطئها; ولم يفرقوا في ذلك بين أقل الحيض
وأكثره. ومنهم من لا يجوز وطأها إلا بعد الاغتسال في أقل الحيض وأكثره،
وهو مذهب الشافعي. وقال أصحابنا: "إذا انقطع دمها وأيامها دون العشرة
فهي في حكم الحائض حتى تغتسل إذا كانت واجدة للماء أو يمضي عليها وقت
الصلاة، فإذا كان أحد هذين خرجت من الحيض وحل لزوجها وطؤها وانقضت
عدتها إن كانت آخر حيضة وإذا كانت أيامها عشرة ارتفع حكم الحيض بمضي
العشرة وتكون حينئذ بمنزلة امرأة جنب في إباحة وطء الزوج وانقضاء العدة
وغير ذلك".
واحتج من أباح وطأها في سائر الأحوال عند مضي أيام حيضها وانقطاع دمها
قبل الاغتسال بقوله: {وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ} و"حتى"
تقتضي أن يكون حكم ما بعدها بخلافها، فذلك عموم في إباحة وطئها بانقطاع
الدم كقوله تعالى: {حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ} [القدر: 5]
{فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ}
[الحجرات: 9] {وَلا جُنُباً إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى
تَغْتَسِلُوا} [النساء: 43] فكانت هذه نهايات لما قدر بها، وكان حكم ما
بعدها بخلافها، فكذلك قوله: {حَتَّى يَطْهُرْنَ} إذا قرئ بالتخفيف
فمعناها انقطاع الدم. وقالوا: قد قرئ: "حتى يطهرن" بالتشديد، وهو يحتمل
ما يحتمله قوله: {حَتَّى يَطْهُرْنَ} بالتخفيف، فيراد به انقطاع الدم;
إذ جائز أن يقال: طهرت المرأة وتطهرت، إذا انقطع دمها، كما يقال: تقطع
الحبل وتكسر الكوز، والمعنى: انقطع وانكسر، ولا يقتضي ذلك فعلا من
الموصوف بذلك.
واحتج من حظر وطأها في كل حال حتى تغتسل بقوله: {فَإِذَا تَطَهَّرْنَ
فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ} فشرط في إباحته شيئين:
أحدهما: انقطاع الدم، والآخر: الاغتسال; لأن قوله: {فَإِذَا
تَطَهَّرْنَ} لا يحتمل غير الغسل وهو كقول القائل: لا تعط زيدا شيئا
حتى يدخل الدار، فإذا دخلها وقعد فيها فأعطه دينارا فيعقل به أن
استحقاق الدينار موقوف على الدخول والقعود جميعا. وكقوله تعالى: {فَلا
تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ فَإِنْ
طَلَّقَهَا فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا} فشرط الأمرين
في إحلالها للأول،
(1/422)
فلا تحل
له بأحدهما كذلك قوله تعالى: {فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ} مشروط
في إباحة الوطء المعنيان وهو الطهر الذي يكون بانقطاع الدم، والاغتسال.
قال أبو بكر: قوله تعالى: {حَتَّى يَطْهُرْنَ} إذا قرئ بالتخفيف فإنما
هو انقطاع الدم لا الاغتسال; لأنها لو اغتسلت وهي حائض لم تطهر، فلا
يحتمل قوله: {حَتَّى يَطْهُرْنَ} إلا معنى واحدا وهو انقطاع الدم الذي
به يكون الخروج من الحيض، وإذا قرئ بالتشديد احتمل الأمرين من انقطاع
الدم ومن الغسل لما وصفنا آنفا فصارت قراءة التخفيف محكمة وقراءة
التشديد متشابهة، وحكم المتشابه أن يحمل على المحكم ويرد إليه، فيحصل
معنى القراءتين على وجه واحد، وظاهرهما يقتضي إباحة الوطء بانقطاع الدم
الذي هو خروج من الحيض وأما قوله: {فَإِذَا تَطَهَّرْنَ} فإنه يحتمل ما
احتملته قراءة التشديد في قوله: "حتى يطهرن" من المعنيين، فيكون بمنزلة
قوله: {وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ
فَأْتُوهُنَّ} ويكون كلاما سائغا مستقيما، كما تقول لا تعطه حتى يدخل
الدار فإذا دخلها فأعطه ويكون تأكيدا لحكم الغاية، وإن كان حكمها بخلاف
ما قبلها. وإذا كان للاحتمال فيه مساغ على الوجه الذي ذكرنا وكان واجبا
حمل الغاية على حقيقتها، فالذي يقتضيه ظاهر التلاوة إباحة وطئها
بانقطاع الدم الذي يخرج به من الحيض. ومن جهة أخرى: فيها احتمال وهو أن
يكون معنى قوله: {فَإِذَا تَطَهَّرْنَ}: فإذا حل لهن أن يتطهرن بالماء
أو التيمم، كقوله: "إذا غابت الشمس فقد أفطر الصائم" معناه: قد حل له
الإفطار، وقوله: "من كسر أو عرج فقد حل وعليه الحج من قابل" معناه فقد
جاز له أن يحل، وكما يقال للمطلقة إذا انقضت عدتها: إنها قد حلت
للأزواج، ومعناه قد حل لها أن تتزوج. وعلى هذا المعنى قال النبي صلى
الله عليه وسلم لفاطمة بنت قيس: "إذا حللت فآذنيني" وإذا احتمل ذلك لم
تزل الغاية عن حقيقتها بحظر الوطء بعدها. وأما قوله تعالى: {فَلا
تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ} فإن
الغاية في هذا الموضع مستعملة على حقيقتها، ونكاح الزوج الثاني وهو
وطؤه إياها هو الذي يرفع التحريم الواقع بالثلاث، ووطء الزوج الثاني
مشروط لذلك وقد ارتفع ذلك بالوطء قبل طلاقه إياها، وطلاق الزوج الثاني
غير مشروط في رفع التحريم الواقع بالثلاث، فإذا لا دليل للشافعي في
الآية على الحد الذي ذكرنا على صحة مذهبه، ولا على نفي قول مخالفيه.
وأما على مذهبنا فإن الآية مستعملة على ما احتملت من التأويل على
حقيقتها في الحالتين اللتين يمكن استعمالهما، فنقول: إن قوله:
{يَطْهُرْنَ} إذا قرئ بالتخفيف، فهو مستعمل على حقيقته فيمن كانت
أيامها عشرا، فيجوز للزوج استباحة وطئها بمضي العشر، وقوله: يطهرن
بالتشديد، وقوله: {فَإِذَا تَطَهَّرْنَ} مستعملان في الغسل إذا كانت
أيامها
(1/423)
دون العشر
ولم يمض وقت الصلاة لقيام الدلالة على أن مضي وقت الصلاة يبيح وطأها
على ما سنبينه فيما بعد، ولا يكون فيه استعمال واحد من الفعلين على
المجاز، بل هما مستعملان على الحقيقة في الحالين.
فإن قيل: هلا كانت القراءتان كالآيتين تستعملان معا في حال واحدة قيل
له: لو جعلناهما كالآيتين كان ما ذكرنا أولى من قبل أنه لو وردت آيتان
تقتضي إحداهما انقطاع غاية الدم لإباحة الوطء والأخرى تقتضي الغسل غاية
لها، لكان الواجب استعمالهما على حالين على أن تكون كل واحدة منهما
مقرة على حقيقتها فيما اقتضته من حكم الغاية، ولا يمكن ذلك إلا
باستعمالهما في حالين على الوجه الذي بينا، ولو استعملناهما على ما
يقول المخالف كان فيه إسقاط إحدى الغايتين; لأنه يقول إنها وإن طهرت
وانقطع دمها لم يحل له أن يطأها حتى تغتسل فلو جعلنا ذلك دليلا مبتدأ
كان سائغا مقنعا، وإنما اعتبر أصحابنا فيمن كان أيامها دون العشر
فانقطع دمها بما وصفنا من قبل أنه جائز أن يعاودها الدم فيكون حيضا; إذ
ليس كل طهر تراه المرأة يكون طهرا صحيحا; لأن الحائض ترى الدم سائلا
مرة ومنقطعا مرة، فليس في انقطاعه في وقت يجوز أن يكون حائضا فيه وقوع
الحكم بزوال الحيض، فقالوا: إن انقطاع الدم فيمن وصفنا حالها معتبر
بأحد شيئين: إما باغتسال فيزول عنها حكم الحيض بالاتفاق وباستباحتها
الصلاة وذلك ينافي حكم الحيض، أو بمضي وقت صلاة فيلزمها فرض الصلاة،
ولزوم فرضها مناف لبقاء حكم الحيض; إذ غير جائز أن يلزم الحائض فرض
الصلاة، فإذا انتفى حكم الحيض وثبت حكم الطهر ولم يبق إلا الاغتسال لم
يمنع الوطء، بمنزلة امرأة جنب جائز لزوجها وطؤها، وعلى هذا المعنى
عندنا ما روي عن الصحابة في اعتبار الاغتسال في انقضاء العدة. وقد روى
عيسى الخياط عن الشعبي عن ثلاثة عشر رجلا من الصحابة الخبر فالخبر،
منهم أبو بكر وعمر وابن مسعود وابن عباس، قالوا: الرجل أحق بامرأته ما
لم تغتسل من حيضتها الثالثة وروي مثله عن علي وعبادة بن الصامت وأبي
الدرداء. وأما إذا كانت أيامها عشرة فإنه غير جائز عندنا وجود الحيض
بعد العشرة، فوجب الحكم بانقضائه لامتناع جواز بقاء حكمه، والله تعالى
إنما منع من وطء الحائض أو ممن يجوز أن تكون حائضا فأما مع ارتفاع حكم
الحيض وزواله فهو غير ممنوع من وطء زوجته; لأنه تعالى قال:
{فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى
يَطْهُرْنَ} وقد طهرت لا محالة، ألا ترى أنها منقضية العدة إن كانت
معتدة وأن حكمها حكم سائر الطاهرات ولا تأثير لوجوب الاغتسال عليها في
منع وطئها على ما بينا؟
فإن قيل: إذا انقطع دمها فيما دون العشرة فقد وجب عليها الغسل، ولزوم
الغسل
(1/424)
ينافي
بقاء حكم الحيض; إذ غير جائز لزوم الغسل على الحائض كما قلت في لزوم
فرض الصلاة. قيل له: إذا كان الغسل من موجبات الحيض فلزومه غير مناف
لحكمه وبقائه، ألا ترى أن السلام لما كان من موجبات تحريمه الصلاة لم
يكن لزومه بانتهائه إلى آخرها نافيا لبقاء حكمها؟ وكذلك الحلق لما كان
من موجبات الإحرام لم يكن لزومه نافيا لبقاء إحرامه ما لم يحلق؟ كذلك
الغسل لما كان من موجبات الحيض لم يكن وجوبه عليها مانعا من بقاء حكم
الحيض. وأما الصلاة فليست من موجبات الحيض، وإنما هو حكم آخر يختص
لزومه بالطاهر من النساء دون الحائض، ففي لزومها نفي لحكم الحيض. وقوله
تعالى: {حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ} لما احتمل الغسل صار
كقوله: {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا} [المائدة: 6]، ويدل
على أن على الحائض الغسل بعد انقضاء حيضها، وقد روي ذلك عن النبي صلى
الله عليه وسلم واتفقت الأمة عليه.
قوله تعالى: {فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ
اللَّهُ} قال أبو بكر: هو إطلاق من حظر وإباحة، وليس هو على الوجوب
كقوله تعالى: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي
الْأَرْضِ} [الجمعة: 10] {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا} [المائدة:
2] وهو إباحة وردت بعد حظر وقوله: {مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ}
قال ابن عباس ومجاهد وقتادة والربيع بن أنس: "يعني في الفرج" وهو الذي
أمر بتجنبه في الحيض في أول الخطاب في قوله: {فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ
فِي الْمَحِيضِ} وقال السدي والضحاك: "من قبل الطهر دون الحيض" وقال
ابن الحنفية: "من قبل النكاح دون الفجور".
قال أبو بكر: هذا كله مراد الله تعالى; لأنه مما أمر الله به، فانتظمت
الآية جميع ذلك.
قوله: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ
الْمُتَطَهِّرِينَ} روي عن عطاء: المتطهرين بالماء للصلاة وقال مجاهد:
المتطهرين من الذنوب قال أبو بكر: المتطهرين بالماء أشبه; لأنه قد تقدم
في الآية ذكر الطهارة، فالمراد بها الطهارة بالماء للصلاة في قوله:
{فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ} فالأظهر أن يكون قوله: {وَيُحِبُّ
الْمُتَطَهِّرِينَ} مدحا لمن تطهر بالماء للصلاة، وقال تعالى: {فِيهِ
رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ
الْمُطَّهِّرِينَ} [التوبة: 108] وروي أنه مدحهم; لأنهم كانوا يستنجون
بالماء.
قوله تعالى: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى
شِئْتُمْ} الحرث: المزدرع، وجعل في هذا الموضع كناية عن الجماع. وسمى
النساء حرثا; لأنهن مزدرع الأولاد وقوله: {فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى
شِئْتُمْ} يدل على أن إباحة الوطء مقصورة على الجماع في الفرج; لأنه
موضع الحرث.
(1/425)
واختلف في
إتيان النساء في أدبارهن، فكان أصحابنا يحرمون ذلك وينهون عنه أشد
النهي، وهو قول الثوري والشافعي فيما حكاه المزني. قال الطحاوي: وحكى
لنا محمد بن عبد الله بن عبد الحكيم، أنه سمع الشافعي يقول: ما صح عن
رسول الله صلى الله عليه وسلم في تحريمه ولا تحليله شيء والقياس أنه
حلال. وروى أصبغ بن الفرج عن ابن القاسم عن مالك قال: ما أدركت أحدا
أقتدي به في ديني يشك فيه أنه حلال يعني وطء المرأة في دبرها، ثم قرأ
{نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} قال:
فأي شيء أبين من هذا؟ وما أشك فيه قال ابن القاسم: فقلت لمالك بن أنس:
إن عندنا بمصر الليث بن سعد يحدثنا عن الحارث بن يعقوب، عن أبي الحباب
سعيد بن يسار قال: قلت لابن عمر: ما تقول في الجواري أنحمض لهن؟ فقال:
وما التحميض؟ فذكرت الدبر، قال: ويفعل ذلك أحد من المسلمين؟ فقال مالك:
فأشهد على ربيعة بن أبي عبد الرحمن يحدثني عن أبي الحباب سعيد بن يسار
أنه سأل ابن عمر عنه، فقال: لا بأس به. قال ابن القاسم: فقال رجل في
المجلس: يا أبا عبد الله فإنك تذكر عن سالم أنه قال كذب العبد وكذب
العلج على أبي يعني نافعا كما كذب عكرمة على ابن عباس؟ فقال مالك:
وأشهد على يزيد بن رومان يحدثني عن سالم عن أبيه أنه كان يفعله.
قال أبو بكر: قد روى سليمان بن بلال، عن زيد بن أسلم، عن ابن عمر: أن
رجلا أتى امرأته في دبرها فوجد في نفسه من ذلك، فأنزل الله تعالى:
{نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ}، إلا أن زيد بن زيد
بن أسلم لا يعلم له سماع من ابن عمر. وروى الفضل بن فضالة، عن عبد الله
بن عباس، عن كعب بن علقمة، عن أبي النضر، أنه قال لنافع مولى ابن عمر:
إنه قد أكثر عليك القول أنك تقول عن ابن عمر أنه أفتى أن تؤتى النساء
في أدبارهن قال نافع: كذبوا علي إن ابن عمر عرض المصحف يوما حتى بلغ:
{نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ} فقال: يا نافع هل تعلم من أمر هذه الآية؟
قلت: لا قال: إنا كنا معشر قريش نجبي النساء، وكانت نساء الأنصار قد
أخذن عن اليهود أنما يؤتين على جنوبهن، فأنزل الله هذه.
فهذا يدل على أن السبب غير ما ذكره زيد بن أسلم عن ابن عمر; لأن نافعا
قد حكي عنه غير ذلك السبب. وقال ميمون بن مهران أيضا: قال ذلك نافع
يعني تحليل وطء النساء في أدبارهن بعدما كبر وذهب عقله.
قال أبو بكر: المشهور عن مالك إباحة ذلك وأصحابه ينفون عنه هذه المقالة
لقبحها وشناعتها، وهي عنه أشهر من أن يندفع بنفيهم عنه. وقد حكى محمد
بن سعيد عن أبي سليمان الجوزجاني قال: كنت عند مالك بن أنس، فسئل عن
النكاح في الدبر،
(1/426)
فضرب بيده
إلى رأسه وقال: "الساعة اغتسلت منه". وقد رواه عنه ابن القاسم على ما
ذكرنا; وهو مذكور في الكتب الشرعية. ويروى عن محمد بن كعب القرظي: أنه
كان لا يرى بذلك بأسا، ويتأول فيه قوله تعالى: {أَتَأْتُونَ
الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ
رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ} [الشعراء: 165] مثل ذلك إن كنتم تشتهون
وروي عن ابن مسعود أنه قال: "محاش النساء حرام". وقال عبد الله بن عمر:
وهي اللوطية الصغرى. وقد اختلف عن ابن عمر فيه، فكأنه لم يرو عنه فيه
شيء، لتعارض ما روي عنه فيه. وظاهر الكتاب يدل على أن الإباحة مقصورة
على الوطء في الفرج الذي هو موضع الحرث، وهو الذي يكون منه الولد. وقد
رويت عن النبي صلى الله عليه وسلم آثار كثيرة في تحريمه رواه خزيمة بن
ثابت وأبو هريرة وعلي بن طلق كلهم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه
قال: "لا تأتوا النساء في أدبارهن". وروى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده
عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "هي اللوطية الصغرى" يعني إتيان
النساء في أدبارهن. وروى حماد بن سلمة، عن حكيم الأثرم، عن أبي تميمة،
عن أبي هريرة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من أتى حائضا أو
امرأة في دبرها فقد كفر بما أنزل على محمد". وروى ابن جريج عن محمد بن
المنكدر عن جابر، أن اليهود قالوا للمسلمين: من أتى امرأته وهي مدبرة
جاء ولده أحول; فأنزل الله تعالى: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا
حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"مقبلة ومدبرة ما كان في الفرج" وروت حفصة بنت عبد الرحمن عن أم سلمة
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "في صمام واحد". وروى مجاهد عن
ابن عباس مثله في تأويل الآية، قال: "إنما يعني كيف شئت في موضع
الولد". وروى عكرمة عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم: "لا ينظر الله إلى رجل أتى امرأته في دبرها". وذكر ابن طاوس عن
أبيه قال: سئل ابن عباس عن الذي يأتي امرأته في دبرها، فقال: هذا
يسألني عن الكفر وقد روي عن ابن عمر في قوله: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ
لَكُمْ} قال: كيف شئت إن شئت عزلا أو غير عزل رواه أبو حنيفة عن كثير
الرياحي الأصم عن ابن عمر، وروي نحوه عن ابن عباس. وهذا عندنا في ملك
اليمين وفي الحرة إذا أذنت فيه; وقد روي ذلك على ما ذكرنا من مذهب
أصحابنا عن أبي بكر وعمر وعثمان وابن مسعود وابن عباس وآخرين غيرهم.
فإن قيل: قوله عز وجل: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ
إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ}
[المؤمنون: 5 - 6] يقتضي إباحة وطئهن في الدبر، لورود الإباحة مطلقة
غير مقيدة ولا مخصوصة. قيل له: لما قال الله تعالى: {فَأْتُوهُنَّ مِنْ
حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ} ثم قال في نسق التلاوة: {فَأْتُوا
حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} أبان بذلك موضع المأمور به وهو موضع
الحرث، ولم يرد إطلاق الوطء بعد حظره إلا في موضع الولد، فهو مقصور
(1/427)
عليه دون
غيره، وهو قاض مع ذلك على قوله تعالى: {إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ
أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} [المؤمنون: 6] كما كان حظر وطء
الحائض قاضيا على قوله: {إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ} [المؤمنون: 6]
فكانت هذه الآية مرتبة على ما ذكر من حكم الحائض.
ومن يحظر ذلك يحتج بقوله: {قُلْ هُوَ أَذىً} فحظر وطء الحائض للأذى
الموجود في الحيض وهو القذر والنجاسة، وذلك موجود في غير موضع الولد في
جميع الأحوال، فاقتضى هذا التعليل حظر وطئهن إلا في موضع الولد ومن
يبيحه يجيب عن ذلك بأن المستحاضة يجوز وطؤها باتفاق من الفقهاء، مع
وجود الأذى هناك وهو دم الاستحاضة وهو نجس كنجاسة دم الحيض وسائر
الأنجاس ويجيبون أيضا على تخصيصه إباحة موضع الحرث، باتفاق الجميع على
إباحة الجماع فيما دون الفرج وإن لم يكن موضعا للولد، فدل على أن
الإباحة غير مقصورة على موضع الولد. ويجابون عن ذلك بأن ظاهر الآية
يقتضي كون الإباحة مقصورة على الوطء في الفرج، وأنه هو الذي عناه الله
تعالى بقوله: {مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ} إذ كان معطوفا عليه،
ولولا قيام دلالة الإجماع لما جاز الجماع فيما دون الفرج، ولكنا سلمناه
للدلالة وبقي حكم الحظر فيما لم تقم الدلالة عليه.
قوله تعالى: {وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ}
الآية. قد قيل: فيه وجهان: أحدهما: أن تجعل يمينه مانعة من البر
والتقوى والإصلاح بين الناس، فإذا طلب منه ذلك قال: قد حلفت فيجعل
اليمين معترضة بينه وبين ما هو مندوب إليه أو هو مأمور به من البر
والتقوى والإصلاح، فإن حلف حالف أن لا يفعل ذلك فليفعل وليدع يمينه.
ويروى ذلك عن مجاهد وسعيد بن جبير وإبراهيم والحسن وطاوس، وهو نظير
قوله تعالى: {وَلا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ
أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ
فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [النور: 22]. وروى أشعث عن ابن سيرين قال حلف أبو
بكر في يتيمين كانا في حجره كانا فيمن خاض في أمر عائشة، أحدهما مسطح
وقد شهد بدرا، أن لا يصلهما وأن لا يصيبا منه خيرا، فنزلت هذه الآية:
{وَلا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ} [النور: 22] فكسا أحدهما
وحمل الآخر وقد ورد معناه في السنة أيضا. وقد روى أنس بن مالك وعدي بن
حاتم وأبو هريرة عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قال: "من حلف على
يمين فرأى غيرها خيرا منها فليأت الذي هو خير وليكفر عن يمينه" وهذا هو
معنى قوله تعالى: {وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ}
على التأويل الذي ذكرنا; لأن معناه على هذا التأويل: أن لا يمنع بيمينه
من فعل ما هو خير بل يفعل الذي هو خير ويدع يمينه. والوجه الثاني: أن
يكون قوله: {عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ} يريد به كثرة الحلف،
(1/428)
وهو ضرب
من الجرأة على الله تعالى وابتذال لاسمه في كل حق وباطل; لأن تبروا في
الحلف بها وتتقوا المأثم فيها. وروي نحوه عن عائشة: من أكثر ذكر شيء
فقد جعله عرضة، يقول القائل: قد جعلني عرضة للوم. وقال الشاعر:
لا تجعليني عرضة اللوائم
وقد ذكر الله تعالى مكثري الحلف بقوله: {وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ
مَهِينٍ} [القلم: 10] فالمعنى: لا تعترضوا اسم الله وتبذلوه في كل شيء;
لأن تبروا إذا حلفتم وتتقوا المأثم فيها إذا قلت أيمانكم; لأن كثرتها
تبعد من البر والتقوى وتقرب من المآثم والجرأة على الله تعالى. فكأن
المعنى: إن الله ينهاكم عن كثرة الأيمان والجرأة على الله تعالى لما في
توقي ذلك من البر والتقوى والإصلاح فتكونون بررة أتقياء، لقوله:
{كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران:110] وإذا
كانت الآية محتملة للمعنيين وليسا متضادين، فالواجب حملها عليهما
جميعا، فتكون مفيدة لحظر ابتذاله اسم الله تعالى واعتراضه باليمين في
كل شيء حقا كان أو باطلا، ويكون مع ذلك محظورا عليه أن يجعل يمينه عرضة
مانعة من البر والتقوى والإصلاح وإن لم يكثر، بل الواجب عليه أن لا
يكثر اليمين، ومتى حلف لم يحتجر بيمينه عن فعل ما حلف عليه إذا كان
طاعة وبرا وتقوى وإصلاحا، كما قال صلى الله عليه وسلم: "من حلف على
يمين فرأى غيرها خيرا منها فليأت الذي هو خير وليكفر عن يمينه".
قوله تعالى: {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ
} الآية. قال أبو بكر رحمه الله: قد ذكر الله تعالى اللغو في مواضع،
فكان المراد به معاني مختلفة على حسب الأحوال التي خرج عليها الكلام،
فقال تعالى: {لا تَسْمَعُ فِيهَا لاغِيَةً} [الغاشية: 11] يعني: كلمة
فاحشة قبيحة. و {لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً وَلا تَأْثِيماً}
[الواقعة: 25] على هذا المعنى وقال: {وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ
أَعْرَضُوا عَنْهُ} [القصص: 55] يعني: الكفر والكلام القبيح. وقال:
{وَالْغَوْا فِيهِ} يعني: الكلام الذي لا يفيد شيئا ليشغلوا السامعين
عنه وقال: {وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَاماً} [الفرقان:
72] يعني الباطل. ويقال: لغا في كلامه يلغو، إذا أتى بكلام لا فائدة
فيه.
وقد روي في لغو اليمين معان عن السلف، فروي عن ابن عباس أنه قال: هو
الرجل يحلف على الشيء يراه كذلك فلا يكون. وكذلك روي عن مجاهد
وإبراهيم، قال مجاهد: {وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ
الْأَيْمَانَ}: "أن تحلف على الشيء وأنت تعلم" وهذا في معنى قوله:
{بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ} وقالت عائشة: "هو قول الرجل لا والله
وبلى والله" وروي عنها مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم وذلك عندنا
في النهي عن اليمين على الماضي،
(1/429)
رواه عنها
عطاء أنها قالت: قول الرجل فعلنا والله كذا وصنعنا والله كذا وروي مثله
عن الحسن والشعبي. وقال سعيد بن جبير: هو الرجل يحلف على الحرام فلا
يؤاخذه الله بتركه. وهذا التأويل موافق لتأويل من تأول قوله: {عُرْضَةً
لِأَيْمَانِكُمْ} أن يمتنع باليمين من فعل مباح أو يقدم بها على فعل
محظور.
وإذا كان اللغو محتملا لهذه المعاني، ومعلوم أنه لما عطف قوله:
{وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ} أن مراده ما عقد قلبه فيه على
الكذب والزور، وجب أن تكون هذه المؤاخذة هي عقاب الآخرة وأن لا تكون
الكفارة المستحقة بالحنث; لأن تلك الكفارة غير متعلقة بكسب القلب،
لاستواء حال القاصد بها للخير والشر وتساوي حكم العمد والسهو; فعلم أن
مراده: ما يستحق من العقاب بقصده إلى اليمين الغموس، وهي اليمين على
الماضي قال القاصد بها خلافها إلى الكذب; فينبغي أن يكون اللغو هي التي
لا يقصد بها إلى الكذب وهي على الماضي ويظن أنه كما حلف عليه، فسماها
لغوا من حيث لم يتعلق بها حكم في إيجاب كفارة ولا في استحقاق عقوبة;
وهي التي روي معناها عن ابن عباس وعائشة أنها قول الرجل لا والله وبلى
والله في عرض كلامه وهو يظن أنه صادق، فكان بمنزلة اللغو من الكلام
الذي لا فائدة فيه ولا حكم له. ويحتمل أن يريد به ما قال سعيد بن جبير
فيمن حلف على الحرام فلا يؤاخذه الله بتركه يعني به عقاب الآخرة وإن
كانت الكفارة واجبة إذا حنث. وقال مسروق: كل يمين ليس له الوفاء بها
فهي لغو لا تجب فيها كفارة وهذا موافق لقول سعيد بن جبير، والأولى الذي
قدمنا. إلا أن سعيدا يوجب الكفارة ومسروقا لا يوجبها وإن حنث. وقد روي
عن ابن عباس رواية أخرى، وهي أن لغو اليمين ما تجب فيه الكفارة منها.
وروي مثله عن الضحاك. وروي عن ابن عباس أن لغو اليمين حنث النسيان.
(1/430)
باب الإيلاء
قال الله تعالى: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ
أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ} قال أبو بكر: الإيلاء في اللغة هو الحلف يقولون:
آلى يؤلي إيلاء وألية; قال كثير:
قليل الألايا حافظ ليمينه ... وإن بدرت منه الألية برت
فهذا أصله في اللغة. وقد اختص في الشرع بالحلف على ترك الجماع الذي
يكسب الطلاق بمضي المدة، حتى إذا قيل آلى فلان من امرأته عقل به ذلك.
وقد اختلف فيما يكون به موليا على وجوه: أحدها: ما روي عن علي وابن
عباس رواية الحسن وعطاء: أنه إذا حلف أن لا يقربها لأجل الرضاع لم يكن
موليا، وإنما
(1/430)
يكون
موليا إذا حلف أن لا يجامعها على وجه الضرار والغضب. والثاني: ما روي
عن ابن عباس: أن كل يمين حالت دون الجماع إيلاء; ولم يفرق بين الرضا
والغضب، وهو قول إبراهيم وابن سيرين والشعبي. والثالث: ما روي عن سعيد
بن المسيب: أنه في الجماع وغيره من الصفات، نحو أن يحلف أن لا يكلمها
فيكون موليا. وقد روى جعفر بن برقان عن يزيد بن الأصم قال: تزوجت فلقيت
ابن عباس فقال: بلغني أن في حلقها شيئا قال: تالله لقد خرجت وما أكلمها
قال: عليك بها قبل أن تمضي أربعة أشهر. فهذا يدل على موافقة قول سعيد
بن المسيب، ويدل على موافقة ابن عمر في أن الهجران من غير يمين هو
الإيلاء والرابع: قول ابن عمر أنه إن هجرها فهو إيلاء، ولم يذكر الحلف.
فأما من فرق بين حلفه على ترك جماعها ضرارا وبينه على غير وجه الضرار،
فإنه ذهب إلى أن الجماع حق لها ولها المطالبة به وليس له منعها حقها من
ذلك، فإذا حلف على ترك حقها من الجماع كان موليا حتى تصل إلى حقها من
الفرقة; إذ ليس له إلا إمساكها بمعروف أو تسريح بإحسان. وأما إذا قصد
الصلاح في ذلك، بأن تكون مرضعة فحلف أن لا يجامعها لئلا يضر ذلك
بالصبي، فهذا لم يقصد منع حقها ولا هو غير ممسك لها بمعروف فلا يلزم
التسريح بالإحسان ولا يتعلق بيمينه حكم الفرقة.
وقوله: {فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} يستدل به من
اعتبر الضرار; لأن ذلك يقتضي أن يكون مذنبا يقتضي الفيء غفرانه. وهذا
عندنا لا يدل على تخصيصه من كان هذا وصفه; لأن الآية قد شملت الجميع،
وقاصد الضرر أحد من شمله العموم، فرجع هذا الحكم إليه دون غيره. ويدل
على استواء حال المطيع والعاصي في ذلك أنهما يستويان في وجوب الكفارة
بالحنث، كذلك يجب أن يستويا في إيجاب الطلاق بمضي المدة. وأيضا سائر
الأيمان المعقودة لا يختلف فيه حكم المطيع والعاصي فيما يتعلق بها من
إيجاب الكفارة، وجب أن يكون كذلك حكم الطلاق; لأنهما جميعا يتعلقان
باليمين. وأيضا لا يختلف حكم الرجعة على وجه الضرار وغيره، وكذلك
الإيلاء، وفقهاء الأمصار على خلاف ذلك; لأن الآية لم تفرق بين المطيع
والعاصي فهي عامة في الجميع. وأما قول من قال إنه إذا قصد ضرارها بيمين
على الكلام ونحوه فلا معنى له; لأن قوله: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ
نِسَائِهِمْ} لا خلاف أنه قد أضمر فيه اليمين على ترك الجماع، لاتفاق
الجميع على أن الحالف على ترك جماعها مول، فترك الجماع مضمر في الآية
عند الجميع فأثبتناه، وما عدا ذلك من ترك الكلام ونحوه لم تقم الدلالة
على إضماره في الآية فلم يضمره. ويدل على ما بيناه قوله: {فَإِنْ
فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} ومعلوم عند الجميع أن المراد
بالفيء هو الجماع ولا خلاف بين السلف فيه فدل ذلك على أن
(1/431)
المضمر في
قوله: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ} هو الجماع دون غيره.
وأما ما روي عن ابن عمر من أن الهجران يوجب الطلاق، فإنه قول شاذ،
وجائز أن يكون مراده إذا حلف ثم هجرها مدة الإيلاء، وهو مع ذلك خلاف
الكتاب، قال الله تعالى: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ}
والألية اليمين على ما بينا، وهجرانها ليس بيمين، فلا يتعلق به وجوب
الكفارة. وروى أشعث عن الحسن: أن أنس بن مالك كانت عنده امرأة في خلقها
سوء، فكان يهجرها خمسة أشهر وستة أشهر ثم يرجع إليها ولا يرى ذلك
إيلاء.
وقد اختلف السلف وفقهاء الأمصار بعدهم في المدة التي إذا حلف عليها
يكون موليا، فقال ابن عباس وسعيد بن جبير وعطاء: إذا حلف على أقل من
أربعة أشهر ثم تركها أربعة أشهر لم يجامعها لم يكن موليا. وهو قول
أصحابنا ومالك والشافعي والأوزاعي. وروي عن عبد الله بن مسعود وإبراهيم
والحكم وقتادة وحماد: أنه يكون موليا، إن تركها أربعة أشهر بانت وهو
قول ابن شبرمة والحسن بن صالح، قال الحسن بن صالح: وكذلك إن حلف أن لا
يقربها في هذا البيت فهو مول، فإن تركها أربعة أشهر بانت بالإيلاء، وإن
قربها في غيره قبل المدة سقط الإيلاء، ولو حلف أن لا يدخل هذه الدار
وفيها امرأته ومن أجلها حلف فهو مول.
قال أبو بكر: قال الله تعالى: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ
تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ} والإيلاء هو اليمين وقد ثبت بما قدمنا
أن ترك جماعها بغير يمين لا يكسبه حكم الإيلاء، وإذا حلف على أقل من
أربعة أشهر فمضت مدة اليمين كان تاركا لجماعها فيما بقي من مدة الأربعة
الأشهر التي هي التربص بغير يمين; وترك جماعها بغير يمين لا تأثير له
في إيجاب البينونة، وما دون الأربعة أشهر لا يكسبه حكم البينونة; لأن
الله تعالى قد جعل له تربص أربعة أشهر، فلم يبق هناك معنى يتعلق به
إيجاب الفرقة، فكان بمنزلة تارك جماعها بغير يمين فلا يلحقه حكم
الإيلاء. وأما قول الحسن بن صالح إنه إذا حلف أن لا يقربها في هذا
البيت أنه يكون موليا فلا معنى له; لأن الإيلاء كل يمين في زوجة يمنع
جماعها أربعة أشهر لا يحنث على ما بينا، وهذه اليمين لم تمنعه جماعها
هذه المدة; لأنه يمكنه الوصول إلى جماعها بغير حنث بأن يقربها في غير
ذلك البيت.
وقد اختلف أيضا فيمن حلف على أربعة أشهر سواء، فقال أبو حنيفة وزفر
وأبو يوسف ومحمد والثوري: هو مول، فإن لم يقربها في المدة حتى مضت بانت
بالإيلاء. وروى عطاء عن ابن عباس قال: كان إيلاء أهل الجاهلية السنة
والسنتين، فوقت الله تعالى لهم أربعة أشهر، فمن كان إيلاؤه دون ذلك
فليس بمول. وقال مالك والشافعي: إذا حلف على أربعة أشهر فليس بمول حتى
يحلف على أكثر من ذلك. قال
(1/432)
أبو بكر:
هذا قول يدفعه ظاهر الكتاب، وهو قوله تعالى: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ
مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ} فجعل هذه المدة تربصا
للفيء فيها ولم يجعل له التربص أكثر منها، فمن امتنع من جماعها باليمين
هذه المدة أكسبه ذلك حكم الإيلاء الطلاق، ولا فرق بين الحلف على
الأربعة الأشهر وبينه على أكثر منها; إذ ليس له تربص أكثر من هذه
المدة، ومع ذلك فإن ظاهر الكتاب يقتضي كونه موليا في حلفه على أربعة
أشهر وأقل منها وأكثر منها; لأن مدة الحلف غير مذكورة في الآية، وإنما
خصصنا ما دونها بدلالة وبقي حكم اللفظ في الأربعة الأشهر وما فوقها.
فإن قيل: إذا حلف على أربعة أشهر سواء لم يصح تعلق الطلاق بها; لأنك
توقع الطلاق بمضيها ولا إيلاء هناك. قيل له: لا يمتنع; لأن مضي المدة
إذا كان سببا للإيقاع لم يجب اعتبار بقاء اليمين في حال وقوعه، ألا ترى
أن مضي الحول لما كان سببا لوجوب الزكاة فليس بواجب أن يكون الحول
موجودا في حال الوجوب بل يكون معدوما منقضيا؟ وأن من قال لامرأته إن
كلمت فلانا فأنت طالق كانت هذه يمينا معقودة؟ فإن كلمته طلقت في الحال،
وقد انحلت فيها اليمين، وبطلت كذلك مضي مدة الإيلاء لما كان سببا لوقوع
الطلاق لم يمتنع وقوعه واليمين غير موجودة.
وقوله تعالى: {فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} قال
أبو بكر: الفيء في اللغة هو الرجوع إلى الشيء، ومنه قوله تعالى:
{حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا
بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ} [الحجرات: 9] يعني حتى ترجع من البغي إلى
العدل الذي هو أمر الله. وإذا كان الفيء الرجوع إلى الشيء اقتضى ظاهر
اللفظ أنه إذا حلف أن لا يجامعها على وجه الضرر ثم قال لها: قد فئت
إليك وقد أعرضت عما عزمت عليه من هجران فراشك باليمين أن يكون قد فاء
إليها، سواء كان قادرا على الجماع أو عاجزا. هذا هو مقتضى ظاهر اللفظ،
إلا أن أهل العلم متفقون على أنه إذا أمكنه الوصول إليها لم يكن فيؤه
إلا الجماع.
واختلفوا فيمن آلى وهو مريض أو بينه وبينها مسيرة أربعة أشهر أو هي
رتقاء أو صغيرة أو هو مجبوب، فقال أصحابنا: إذا فاء إليها بلسانه ومضت
المدة والعذر قائم فذلك فيء صحيح ولا تطلق بمضي المدة، ولو كان محرما
بالحج وبينه وبين الحج أربعة أشهر لم يكن فيؤه إلا الجماع. وقال زفر:
فيؤه بالقول وقال ابن القاسم: إذا آلى وهي صغيرة لا تجامع مثلها لم يكن
موليا حتى تبلغ الوطء، ثم يوقف بعد مضي أربعة أشهر مذ بلغت الوطء وهو
رأي ابن القاسم بن عمرو، ولم يروه عن مالك. وقال ابن وهب عن مالك في
المولي إذا وقف عند انقضاء الأربعة الأشهر ثم راجع امرأته: "إنه إن
(1/433)
لم يصبها
حتى تنقضي عدتها فلا سبيل له إليها ولا رجعة، إلا أن يكون له عذر من
مرض أو سجن أو ما أشبه ذلك، فإن ارتجاعه إياها ثابت عليها وإن مضت
عدتها ثم تزوجها بعد ذلك، فإن لم يصبها حتى ينقضي أربعة أشهر وقف
أيضا". قال إسماعيل بن إسحاق: قال مالك: إن مضى الأربعة الأشهر وهو
مريض أو محبوس لم يوقف حتى يبرأ; لأنه لا يكلف ما لا يطيق. وقال مالك:
لو مضت أربعة أشهر وهو غائب إن شاء كفر عن يمينه وسقط عنه الإيلاء.
وقال إسماعيل: وإنما قال ذلك في هذا الموضع; لأن الكفارة قبل الحنث
جائزة عنده، وإن كان لا يستحب أن يكون إلا بعد الحنث. وقال الأشجعي عن
الثوري في المولي إذا كان له عذر من مرض أو كبر أو حبس أو كانت حائضا
أو نفساء: فليفئ بلسانه، يقول: قد فئت إليك، يجزيه ذلك وهو قول الحسن
بن صالح. وقال الأوزاعي: إذا آلى من امرأته ثم مرض أو سافر فأشهد على
الفيء من غير جماع وهو مريض أو مسافر ولا يقدر على الجماع فقد فاء،
فليكفر عن يمينه وهي امرأته، وكذلك إن ولدت في الأربعة الأشهر أو حاضت
أو طرده السلطان فإنه يشهد على الفيء ولا إيلاء عليه. وقال الليث بن
سعد: إذا مرض بعد الإيلاء ثم مضت أربعة أشهر فإنه يوقف كما يوقف صحيح
فإما فاء وإما طلق، ولا يؤخر إلى أن يصح. وقال المزني عن الشافعي: إذا
آلى المجبوب ففيؤه بلسانه وقال في الإملاء: لا إيلاء على المجبوب قال:
ولو كانت صبية فآلى منها استؤنفت به أربعة أشهر بعدما تصير إلى حال
يمكن جماعها، والمحبوس يفيء باللسان، ولو أحرم لم يكن فيؤه إلا الجماع،
ولو آلى وهي بكر فقال لا أقدر على افتضاضها أجل أجل العنين.
قال أبو بكر: الدليل على أنه إذا لم يقدر على جماعها في المدة كان فيؤه
باللسان قوله: {فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} وهذا
قد فاء; لأن الفيء الرجوع إلى الشيء، وهو قد كان ممتنعا من وطئها
بالقول وهو اليمين، فإذا فاء بالقول فقال قد فئت إليك فقد رجع عما منع
نفسه منه بالقول إلى ضده، فتناوله العموم; وأيضا لما تعذر جماعها قام
القول فيه مقام الوطء في المنع من البينونة. وأما تحريم الوطء بالإحرام
والحيض فليس بعذر، أما الإحرام فلأنه كان يفعله ولا يسقط حقها من
الوطء، وأما الحيض والنفاس فإن الله جعل للمولي تربص أربعة أشهر مع
علمه بوجود الحيض فيها; واتفق السلف على أن المراد الفيء بالجماع في
حال إمكان الجماع، فلم يجز أن ينقله عنه إلى غيره مع إمكان وطئها،
وتحريم الوطء لا يخرجه من إمكانه، فصار بمنزلة الإحرام والظهار ونحو
ذلك; لأنه منع من الوطء بتحريمه لا بالعجز وتعذره ولأن حقها باق في
الجماع. ويدل على ذلك أنه لو أبانها بخلع وهو مول منها لم يكن التحريم
الواقع موجبا لجواز فيئه
(1/434)
بالقول،
وهو مع ذلك لو وطئها في هذا الحال بطل الإيلاء.
فإن قيل: إذا كان الفيء بالقول لا يسقط اليمين فواجب بقاؤها; إذ لا
تأثير للفيء بالقول في إسقاطها. قيل له: هذا غير واجب، من قبل أنه جائز
بقاء اليمين، وبطلان الإيلاء من جهة ما تعلق به من الطلاق، ألا ترى أنه
إذا طلقها ثلاثا ثم عادت إليه بعد زوج كانت اليمين باقية لو وطئها حنث
ولم يلحقها بها طلاق وإن ترك وطأها؟ وكذلك لو أن رجلا قال لامرأة
أجنبية والله لا أقربك لم يكن إيلاء، فإن تزوجها كانت اليمين باقية لو
وطئها لزمته الكفارة ولا يكون موليا في حكم الطلاق، فليس بقاء اليمين
إذا علة في حكم الطلاق، فجاز من أجل ذلك أن يفيء إليها بلسانه، فيسقط
حكم الطلاق في هذه اليمين ويبقى حكم الحنث بالوطء. وإنما شرط أصحابنا
في صحة الفيء بالقول وجود العذر في المدة كلها، ومتى كان الوطء مقدورا
عليه في شيء من المدة لم يكن فيؤه عندهم إلا الجماع، من قبل أن الفيء
بالقول قائم مقام الوطء عند عدمه لئلا يقع الطلاق بمضي المدة، فمتى قدر
على الوطء في المدة بطل الفيء بالقول، كالمتيمم إذا أقيم تيممه مقام
الطهارة بالماء في إباحة الصلاة كان متى وجد الماء قبل الفراغ منها بطل
تيممه وعاد إلى أصل فرضه سواء كان وجوده للماء في أول الصلاة أو في
آخرها، كذلك القدرة على الوطء في المدة تبطل حكم الفيء بالقول. وقال
محمد: إذا فاء بالقول لوجود العذر في المدة ثم انقضت المدة والعذر قائم
فقد بطل حكم الإيلاء منها، فكان بمنزلة من حلف على أجنبية أن لا يقربها
ثم تزوجها فيكون يمينه باقية; إن قربها حنث وإن ترك جماعها أربعة أشهر
لم تطلق.
قوله تعالى: {وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ
عَلِيمٌ} قال أبو بكر: اختلف السلف في عزيمة الطلاق إذا لم يفئ على
ثلاثة أوجه: فقال ابن عباس عزيمة الطلاق انقضاء الأربعة الأشهر وهو قول
ابن مسعود وزيد بن ثابت وعثمان بن عفان، وقالوا: إنها تبين بتطليقة.
واختلف عن علي وابن عمر وأبي الدرداء، فروي عنهم مثل قول الأولين، وروي
عنهم أنه يوقف بعد مضي المدة فإما أن يفيء إليها وإما أن يطلقها; وهو
قول عائشة وأبي الدرداء. والقول الثالث قول سعيد بن المسيب وسالم بن
عبد الله وأبي بكر بن عبد الرحمن والزهري وعطاء وطاوس، قالوا: إذا مضت
أربعة أشهر فهي تطليقة رجعية. وذهب أصحابنا إلى قول ابن عباس ومن
تابعه، فقالوا: إذا مضت أربعة أشهر قبل أن يفيء بانت بتطليقة; وهو قول
الثوري والحسن بن صالح. وقال مالك والليث والشافعي بما روي عن أبي
الدرداء وعائشة: إنه يوقف بعد مضي المدة فإما أن يفيء وإما أن يطلق
ويكون تطليقة رجعية إذا طلق. قال مالك: ولا تصح رجعته حتى
(1/435)
يطأها في
العدة. وقال الشافعي: لو عفت عن ذلك بعد المدة كان لها بعد ذلك أن تطلب
ولا يؤجل في الجماع أكثر من يوم. وقال الأوزاعي بقول سعيد بن المسيب
وسالم ومن تابعهما أنها تطلق واحدة رجعية بمضي المدة.
قال أبو بكر: قوله تعالى: {وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ فَإِنَّ اللَّهَ
سَمِيعٌ عَلِيمٌ} يحتمل الوجوه التي حصل عليها اختلاف السلف، ولولا
احتماله لها لما تأولوه عليها; لأنه غير جائز تأويل اللفظ المؤول على
ما لا احتمال فيه; وقد كان السلف من أهل اللغة عالمين بما يحتمل من
الألفاظ والمعاني المختلفة وما لا يحتملها، فلما اختلفوا فيه على هذه
الوجوه دل ذلك على احتمال اللفظ لها. ومن جهة أخرى، وهي أن هذا
الاختلاف قد كان شائعا مستفيضا فيما بينهم من غير نكير ظهر من واحد
منهم على غيره، فصار ذلك إجماعا منهم على توسع الاجتهاد في حمله على
أحد هذه الوجوه، وإذا ثبت ذلك احتجنا أن ننظر في الأولى من هذه
الأقاويل وأشبهها بالحق، فوجدنا ابن عباس قد قال عزيمة الطلاق انقضاء
الأربعة الأشهر قبل الفيء إليها فسمى ترك الفيء حتى تمضي المدة عزيمة
الطلاق، فوجب أن يصير ذلك اسما له; لأنه لم يخل من أن يكون قاله شرعا
أو لغة، وأي الوجهين كان فحجته ثابتة واعتبار عمومه واجب; إذ كانت
أسماء الشرع لا تؤخذ إلا توقيفا. وإذا كان هكذا، وقد علمنا أن حكم الله
في المولي أحد شيئين: إما الفيء وإما عزيمة الطلاق، وجب أن يكون الفيء
مقصورا على الأربعة الأشهر وأنه فائت بمضيها فتطلق; لأنه لو كان الفيء
باقيا لما كان مضي المدة عزيمة للطلاق. ومن جهة أخرى، وهو أنه معلوم أن
العزيمة إنما هي في الحقيقة عقد القلب على الشيء، تقول: عزمت على كذا
أي عقدت قلبي على فعله وإذا كان كذلك وجب أن يكون مضي المدة أولى بمعنى
عزيمة الطلاق من الوقف; لأن الوقف يقتضي إيقاع طلاق بالقول إما أن
يوقعه الزوج وإما أن يطلقها القاضي عليه على قول من يقول بالوقف; وإذا
كان كذلك كان وقوع الفرقة بمضي المدة لتركه الفيء فيها أولى بمعنى
الآية; لأن الله لم يذكر إيقاعا مستأنفا وإنما ذكر عزيمة، فغير جائز أن
نزيد في الآية ما ليس فيها. ووجه آخر، وهو أنه لما قال: {لِلَّذِينَ
يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ
فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ
فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} اقتضى ذلك أحد أمرين من فيء أو عزيمة
طلاق لا ثالث لهما، والفيء إنما هو مراد في المدة مقصور الحكم عليها;
والدليل عليه قوله تعالى: {فَإِنْ فَاءُوا} والفاء للتعقيب يقتضي أن
يكون الفيء عقيب اليمين; لأنه جعل الفيء عقيب اليمين; لأنه جعل الفيء
لمن له تربص أربعة أشهر وإذا كان حكم الفيء مقصورا على المدة ثم فات
بمضيها وجب حصول الطلاق; إذ غير جائز له أن يمنع الفيء
(1/436)
والطلاق
جميعا. ويدل على أن المراد الفيء في المدة اتفاق الجميع على صحة الفيء
فيها، فدل على أنه مراد فيها، فصار تقديره: فإن فاءوا فيها وكذلك قرئ
في حرف عبد الله بن مسعود; فحصل الفيء مقصورا عليها دون غيرها، وتمضي
المدة بفوت الفيء، وإذا فات الفيء حصل الطلاق.
فإن قيل: لما قال تعالى: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ
تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا} فعطف بالفاء على التربص
في المدة، دل على أن الفيء مشروط بعد التربص وبعد مضي المدة، وأنه متى
ما فاء فإنما عجل حقا لم يكن عليه تعجيله كمن عجل دينا مؤجلا. قيل له:
لولا أن الفيء مراد الله تعالى لما صح وجوده فيها وكان يحتاج بعد هذا
الفيء إلى فيء بعد مضيها، فلما صح الفيء في هذه المدة دل على أنه مراد
الله بالآية، ولذلك بطل معه عزيمة الطلاق. ثم قولك إن المراد بالفيء
إنما هو بعد المدة مع قولك: إن الفيء في المدة صحيح كهو بعدها تبطل معه
عزيمة الطلاق مناقضة منك في اللفظ، كقولك: إنه مراد في المدة غير مراد
فيها، وقولك إنه كالدين المؤجل إذا عجله لا يزيل عنك ما وصفنا من
المناقضة; لأن الدين المؤجل لا يخرجه التأجيل من حكم اللزوم ولولا ذلك
لما صح البيع بثمن مؤجل; لأن ما تعلق ملكه من الأثمان على وقت مستقبل
لا يصح عقد البيع عليه. ألا ترى أنه لو قال: بعتكه بألف درهم لا يلزمك
إلا بعد أربعة أشهر كان البيع باطلا؟ والتأجيل الذي ذكرت لا يخرجه من
أن يكون الثمن واجبا ملكا للبائع، ومتى عجله وأسقط الأجل كان ذلك من
موجب العقد; إلا أنه مخالف للفيء في الإيلاء من قبل أن فوات الفيء يوجب
الطلاق، وإذا كان الفيء مرادا في المدة فواجب أن يكون فواته فيها موجبا
للطلاق على ما بينا. وأيضا فإن قوله تعالى: {فَإِنْ فَاءُوا} فيه ضمير
المولي المبدوء بذكره في الآية، وهو الذي له تربص أربعة أشهر، والذي
يقتضيه الظاهر إيقاع الفيء عقيب اليمين. ودليل آخر، وهو قوله:
{تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ} كقوله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ
يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة: 228] فلما
كانت البينونة واقعة بمضي المدة في تربص الأقراء، وجب أن يكون كذلك حكم
تربص الإيلاء من وجوه: أحدها أنا لو وقفنا المولي لحصل التربص أكثر من
أربعة أشهر، وذلك خلاف الكتاب، ولو غاب المولي عن امرأته سنة أو سنتين
ولم ترفعه المرأة ولم تطالب بحقها لكان التربص غير مقدر بوقت، وذلك
خلاف الكتاب. والوجه الثاني: أنه لما كانت البينونة واقعة بمضي المدة
في تربص الأقراء وجب مثله في الإيلاء، والمعنى الجامع بينهما ذكر
التربص في كل واحدة من المدتين. والوجه الثالث: أن كل واحدة من المدتين
واجبة عن قوله وتعلق بها حكم البينونة، فلما تعلقت في إحداهما بمضيها
كانت الأخرى مثلها للمعنى الذي ذكرناه.
(1/437)
فإن قيل:
تأجيل العنين حولا بالاتفاق، وتخيير امرأته بعد مضي الحول إذا لم يصل
إليها في الحول، ولم يوجب ذلك زيادة في الأجل; كذلك ما ذكرت من حكم
الإيلاء إيجاب الوقف بعد المدة لا يوجب زيادة فيها. قيل له: ليس في
الكتاب ولا في السنة تقدير أجل العنين، وإنما أخذ حكمه من قول السلف;
والذين قالوا إنه يؤجل حولا هم الذين خيروها بمضيه قبل الوصول إليها
ولم يوقعوا الطلاق قبل مضي المدة، ومدة الإيلاء مقدرة بالكتاب من غير
ذكر التخيير معها، فالزائد فيها مخالف لحكمه. وأيضا فإن أجل العنين
إنما يوجب لها الخيار بمضيه، وأجل المولي عندك إنما يوجب عليه الفيء،
فإن قال: أفيء لم يفرق بينهما، ولو قال العنين: أنا أجامعها بعد ذلك لم
يلتفت إلى قوله وفرق بينهما باختيارها.
فإن قيل: لما لم يكن الإيلاء بصريح الطلاق ولا كناية عنه، فالواجب أن
لا يقع الطلاق. قيل له: وليس اللعان بصريح الطلاق ولا كناية عنه، فيجب
على قول المخالف أن لا توقع الفرقة حتى يفرق الحاكم. ولا يلزمنا على
أصلنا; لأن الإيلاء يجوز أن يكون كناية عن الفرقة; إذ كان قوله لا
أقربك يشبه كناية الطلاق; ولما كان أضعف أمرا من غيرها فلا يقع به
الطلاق إلا بانضمام أمر آخر إليه وهو مضي المدة على النحو الذي يقوله;
إذ قد وجدنا من الكنايات ما لا يقع فيه الطلاق بقول الزوج إلا بانضمام
معنى آخر إليه، وهو قول الزوج لامرأته: قد خيرتك وقول: أمرك بيدك فلا
يقع الطلاق فيه إلا باختيارها. فكذلك لا يمتنع أن يقال في الإيلاء: إنه
كناية، إلا أنه أضعف حالا من سائر الكنايات، فلا يقع فيه الطلاق باللفظ
دون انضمام معنى آخر إليه. فأما اللعان فلا دلالة فيه على معنى
الكنايات; لأن قذفه إياها بالزنا وتلاعنهما لا يصلح أن يكون عبارة عن
البينونة بحال. وأيضا فإن اللعان مخالف للإيلاء من جهة أن حكمه لا يثبت
إلا عند الحاكم، والإيلاء يثبت حكمه بغير الحاكم، فكذلك ما يتعلق به من
الفرقة. وبهذا المعنى فارق العنين أيضا لأن تأجيله متعلق بالحاكم،
والإيلاء يثبت حكمه من غير حاكم، فكذلك ما يتعلق به من حكم الفرقة.
واحتج من قال بالوقف بقوله تعالى: {وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ فَإِنَّ
اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} أنه لما قال: {سَمِيعٌ عَلِيمٌ} دل على أن
هناك قولا مسموعا وهو الطلاق. قال أبو بكر: وهذا جهل من قائله، من قبل
أن السميع لا يقتضي مسموعا; لأن الله تعالى لم يزل سميعا ولا مسموع.
وأيضا قال الله تعالى: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاعْلَمُوا
أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} وليس هناك قول; لأن النبي صلى الله
عليه وسلم قال: "لا تتمنوا لقاء العدو، فإذا لقيتموهم فاثبتوا وعليكم
بالصمت" وأيضا جائز أن يكون ذلك راجعا إلى أول الكلام، وهو قوله تعالى:
{لِلَّذِينَ
(1/438)
يُؤْلُونَ
مِنْ نِسَائِهِمْ} فأخبر أنه سامع لما تكلم به عليم بما أضمره وعزم
عليه. ومما يدل على وقوع الفرقة بمضي المدة أن القائلين بالوقف يثبتون
هناك معاني أخر غير مذكورة في الآية، إذ كانت الآية إنما اقتضت أحد
شيئين من فيء أو طلاق، وليس فيها ذكر مطالبة المرأة ولا وقف القاضي
الزوج على الفيء أو الطلاق، فلم يجز لنا أن نلحق بالآية ما ليس فيها
ولا أن نزيد فيها ما ليس منها، وقول مخالفينا يؤدي إلى ذلك ولا يوجب
الاقتصار على موجب حكم الآية، وقولنا يوجب الاقتصار على حكم الآية من
غير زيادة فيها، فكان أولى. ومعلوم أيضا أن الله تعالى إنما حكم في
الإيلاء بهذا الحكم لإيصال المرأة إلى حقها من الجماع أو الفرقة، وهو
على معنى قوله تعالى: {فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ
بِإِحْسَانٍ} [البقرة: 229] وقول من قال بالوقف يقول: إن لم يفئ أمره
بالطلاق، فإذا طلق لم يخل من أن يجعله طلاقا بائنا أو رجعيا، فإن جعله
بائنا فإن صريح الطلاق لا يكون بائنا عند أحد فيما دون الثلاث، وإن
جعله رجعيا فلا حظ للمرأة في ذلك; لأنه متى شاء راجعها فتكون امرأته
كما كانت، فلا معنى لإلزامه طلاقا لا تملك به المرأة بضعها وتصل به إلى
حقها.
وأما قول مالك إنه لا يصح رجعته حتى يطأها في العدة فقول شديد الاختلال
من وجوه: أحدها: أنه قال: إذا طلقها طلاقا رجعيا، والطلاق الرجعي لا
تكون الرجعة فيه موقوفة على معنى غيرها. والثاني: أنه إذا منعه الرجعة
إلا بعد الوطء فقد نفى أن يكون رجعيا، وهو لو راجعها لم تكن رجعة.
والثالث: أنه محظور عليه الوطء بعد الطلاق عنده ولا تقع الرجعة فيه
بنفس الوطء، فكيف يباح له وطؤها.
وأما قول من قال إنه تقع تطليقة رجعية بمضي المدة فإنه قول ظاهر الفساد
من وجوه: أحدها: ما قدمنا ذكره في الفصل الذي قبل هذا. والثاني: أن
سائر الفرق الحادثة في الأصول بغير تصريح فإنها توجب البينونة، من ذلك
فرقة العنين واختيار الأمة وردة الزوج واختيار الصغيرين، فلما لم يكن
منه تصريح بإيقاع الطلاق وجب أن يكون بائنا.
وقد اختلف في إيلاء الذمي، فقال أصحابنا جميعا: إذا حلف بعتق أو طلاق
أن لا يقربها فهو مول، وإن حلف بصدقة أو حج لم يكن موليا، وإن حلف
بالله كان موليا في قول أبي حنيفة ولم يكن موليا في قول صاحبيه. وقال
مالك: لا يكون موليا في شيء من ذلك. وقال الأوزاعي إيلاء الذمي صحيح
ولم يفصل بين شيء من ذلك. وقال الشافعي: الذمي كالمسلم فيما يلزمه من
الإيلاء.
قال أبو بكر: لما كان معلوما أن الإيلاء إنما يثبت حكمه لما يتعلق
بالحنث من الحق الذي يلزمه، فواجب على هذا أن يصح إيلاء الذمي إذا كان
بالعتق والطلاق; لأن
(1/439)
ذلك يلزمه
كما يلزم المسلم; وأما الصدقة والصوم والحج فلا يلزمه إذا حنث; لأنه لو
أوجبه على نفسه لم يلزمه بإيجابه، ولأنه لا يصح منه فعل هذه القرب;
لأنه لا قربة له، ولذلك لم يلزمه الزكوات والصدقات الواجبة على
المسلمين في أموالهم في أحكام الدنيا، فوجب على هذا أن لا يكون موليا
بحلفه بالحج والعمرة والصدقة والصيام; إذ لا يلزمه بالجماع شيء فكان
بمنزلة من لم يحلف; وقوله تعالى: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ
نِسَائِهِمْ} يقتضي عموم المسلم والكافر، ولكنا خصصناه بما وصفنا. وأما
إذا حلف بالله تعالى، فإن أبا حنيفة جعله موليا وإن لم تلزمه كفارة في
أحكام الدنيا، من قبل أن حكم; تسمية الله تعالى قد تعلق على الكافر كهي
على المسلم، بدلالة أن إظهار الكافر تسمية الله تعالى على الذبيحة يبيح
أكلها كالمسلم، ولو سمى الكافر باسم المسيح لم تؤكل; فثبت حكم تسميته
وصار كالمسلم في حكمها، فكذلك الإيلاء; لأنه يتعلق به حكمان: أحدهما:
الكفارة، والآخر: الطلاق; فثبت حكم التسمية عليه في باب الطلاق. ومن
الناس من يزعم أن الإيلاء لا يكون إلا بالحلف بالله عز وجل، وأنه لا
يكون بحلفه بالعتاق والطلاق والصدقة ونحوها; وهذا غلط من قائله; لأن
الإيلاء إذا كان هو الحلف وهو حالف بهذه الأمور ولا يصل إلى جماعها إلا
بعتق أو طلاق أو صدقة يلزمه، وجب أن يكون موليا كحلفه بالله; لأن عموم
اللفظ ينتظم الجميع; إذ كان من حلف بشيء منه فهو مول.
فصل
ومما تفيد هذه الآية من الأحكام ما استدل به منها محمد بن الحسن على
امتناع جواز الكفارة قبل الحنث، فقال: لما حكم للمولي بأحد حكمين من
فيء أو عزيمة الطلاق، فلو جاز تقديم الكفارة على الحنث لسقط الإيلاء
بغير فيء ولا عزيمة طلاق; لأنه إن حنث لا يلزمه بالحنث شيء، ومتى لم
يلزم الحالف بالحنث شيء لم يكن موليا، وفي جواز تقديم الكفارة إسقاط
حكم الإيلاء بغير ما ذكر الله، وذلك خلاف الكتاب. والله الموفق للصواب.
(1/440)
باب الأقراء
قال الله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ
ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} اختلف السلف في المراد بالقرء المذكور في هذه الآية،
فقال علي وعمر وعبد الله بن مسعود وابن عباس وأبو موسى: هو الحيض
وقالوا: هو أحق بها ما لم تغتسل من الحيضة الثالثة. وروى وكيع عن عيسى
الحافظ عن الشعبي عن ثلاثة عشر رجلا من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم
الخبر فالخبر، منهم أبو بكر وعمر وابن مسعود وابن عباس، قالوا: الرجل
أحق بامرأته ما لم
(1/440)
تغتسل من
الحيضة الثالثة وهو قول سعيد بن جبير وسعيد بن المسيب. وقال ابن عمر
وزيد بن ثابت وعائشة: إذا دخلت في الحيضة الثالثة فلا سبيل له عليها
قالت عائشة: الأقراء الأطهار. وروي عن ابن عباس رواية أخرى: أنها إذا
دخلت في الحيضة الثالثة فلا سبيل له عليها ولا تحل للأزواج حتى تغتسل.
وقال أصحابنا جميعا: الأقراء الحيض وهو قول الثوري والأوزاعي والحسن بن
صالح. إلا أن أصحابنا قد قالوا: لا تنقضي عدتها إذا كانت أيامها دون
العشرة حتى تغتسل من الحيضة الثالثة أو يذهب وقت صلاة وهو قول الحسن بن
صالح، إلا أنه قال: اليهودية والنصرانية في ذلك مثل المسلمة. وهذا لم
يقله أحد ممن جعل الأقراء الحيض غير الحسن بن صالح. وقال أصحابنا:
الذمية تنقضي عدتها بانقطاع الدم من الحيضة الثالثة، لا غسل عليها، فهي
في معنى من اغتسلت فلا تنتظر بعد انقطاع الدم شيئا آخر. وقال ابن
شبرمة: إذا انقطع من الحيضة الثالثة بطل الرجعة ولم يعتبر الغسل. وقال
مالك والشافعي: الأقراء الأطهار، فإذا طعنت في الحيضة الثالثة فقد بانت
وانقطعت الرجعة.
قال أبو بكر: قد حصل من اتفاق السلف وقوع اسم الأقراء على المعنيين من
الحيض ومن الأطهار من وجهين: أحدهما: أن اللفظ لو لم يكن محتملا لهما
لما تأوله السلف عليهما; لأنهم أهل اللغة والمعرفة بمعاني الأسماء وما
يتصرف عليه المعاني من العبارات، فلما تأولها فريق على الحيض وآخرون
على الأطهار علمنا وقوع الاسم عليهما. ومن جهة أخرى أن هذا الاختلاف قد
كان شائعا بينهم مستفيضا، ولم ينكر واحد منهم على مخالفيه في مقالته،
بل سوغ له القول فيه، فدل ذلك على احتمال اللفظ لمعنيين وتسويغ
الاجتهاد فيه. ثم لا يخلو من أن يكون الاسم حقيقة فيهما، أو مجازا
فيهما، أو حقيقة في أحدهما مجازا في الآخر; فوجدنا أهل اللغة مختلفين
في معنى القرء في أصل اللغة، فقال قائلون منهم: هو اسم للوقت; حدثنا
بذلك أبو عمرو غلام ثعلب عن ثعلب أنه كان إذا سئل عن معنى القرء لم
يزدهم على الوقت، وقد استشهد لذلك بقول الشاعر:
يا رب مولى حاسد مباغض ... علي ذي ضغن وضب فارض
له قروء كقروء الحائض
يعني: وقتا تهيج فيه عداوته. وعلى هذا تأولوا قول الأعشى:
وفي كل عام أنت جاشم غزوة ... تشد لأقصاها عزيم عزائكا
مورثة مالا وفي الحي رفعة ... لما ضاع فيها من قروء نسائكا
(1/441)
يعني: وقت
وطئهن. ومن الناس من يتأوله على الطهر نفسه، كأنه قال: لما ضاع فيها من
طهر نسائك. وقال الشاعر:
كرهت العقر عقر بني شليل ... إذا هبت لقارئها الرياح
يعني: لوقتها في الشتاء. وقال آخرون: هو الضم والتأليف، ومنه قوله:
تريك إذا دخلت على خلاء ... وقد أمنت عيون الكاشحينا
ذراعي عيطل أدماء بكر ... هجان اللون لم تقرأ جنينا
يعني: لم تضم في بطنها جنينا. ومنه قولهم: قريت الماء في الحوض إذا
جمعته، و قروت الأرض إذا جمعت شيئا إلى شيء وسيرا إلى سير. ويقولون: ما
قرأت الناقة سلى قط أي ما اجتمع رحمها على ولد قط. ومنه: أقرأت النجوم
إذا اجتمعت في الأفق. ويقال: أقرأت المرأة إذا حاضت، فهي مقرئ، ذكره
الأصمعي والكسائي والفراء. وحكي عن بعضهم أنه قال: هو الخروج من شيء
إلى شيء وهذا قول ليس عليه شاهد من اللغة ولا هو ثابت عمن يوثق به من
أهلها، وليس فيما ذكرنا من الشواهد ما يليق بهذا المعنى، فهو ساقط
مردود. ثم يقول: وإن كانت حقيقته الوقت فالحيض أولى به; لأن الوقت إنما
يكون وقتا لما يحدث فيه، والحيض هو الحادث، وليس الطهر شيئا أكثر من
عدم الحيض، وليس هو شيء حادث، فوجب أن يكون الحيض أولى بمعنى الاسم.
وإن كان هو الضم والتأليف فالحيض أولى به; لأن دم الحيض إنما يتألف
ويجتمع من سائر أجزاء البدن في حال الحيض، فمعناه أولى بالاسم أيضا.
فإن قيل: إنما يتألف الدم ويجتمع في أيام الطهر ثم يسيل في أيام الحيض.
قيل له: أحسنت إن الأمر كذلك، ودلالته قائمة على ما ذكرنا; لأنه قد صار
القرء اسما للدم، إلا أنك زعمت أنه يكون اسما له في حال الطهر وقلنا
يكون اسما له في حال الحيض، فلا مدخل إذا للطهر في تسميته بالقرء; لأن
الطهر ليس هو الدم. ألا ترى أن الطهر قد يكون موجودا مع عدم الدم تارة
ومع وجوده أخرى على أصلك؟ فإذا القرء اسم للدم وليس باسم للطهر، ولكنه
لا يسمى بهذا الاسم إلا بعد ظهوره; لأنه لا يتعلق به حكم إلا في هذه
الحال; ومع ذلك فلا يتيقن كونه في الرحم في حال الطهر فلم يجز كونه في
حال الطهر أن نسميه باسم القرء; لأن القرء اسم يتعلق به حكم ولا حكم له
قبل سيلانه وقبل العلم بوجوده. وأيضا فمن أين لك العلم باجتماع الدم في
حال الطهر واحتباسه فيه ثم سيلانه في وقت الحيض؟ فإن هذا قول عار من
دليل يقوم عليه، ويرده ظاهر الكتاب. قال الله تعالى: {وَيَعْلَمُ مَا
فِي الْأَرْحَامِ} [لقمان: 34] فاستأثر
(1/442)
تعالى
بعلم ما في الأرحام ولم يطلع عباده عليه، فمن أين لك القضاء باجتماع
الدم في حال الطهر ثم سيلانه في وقت الحيض؟ وما أنكرت ممن قال إنما
يجتمع من سائر البدن ويسيل في وقت الحيض لا قبل ذلك ويكون أولى بالحق
منك؟ لأنا قد علمنا يقينا وجوده في هذا الوقت ولم نعلم وجوده في وقت
قبله فلا يحكم به لوقت متقدم، وإذ قد بينا وقوع الاسم عليهما وبينا
حقيقة ما يتناوله هذا الاسم في اللغة، فليدل على أنه اسم للحيض دون
الطهر في الحقيقة وأن إطلاقه على الطهر إنما هو مجاز واستعارة. وإن كان
ما قدمنا من شواهد اللغة وما يحتمله اللفظ من حقيقتها كافية في الدلالة
على أن حقيقته تختص بالحيض دون الطهر، فنقول: لما وجدنا أسماء الحقائق
التي لا تنتفي عن مسمياتها بحال ووجدنا أسماء المجاز قد يجوز أن تنتفي
عنها في حال وتلزمها في أخرى، ثم وجدنا اسم القرء غير منتف عن الحيض
بحال ووجدناه قد ينتفي عن الطهر; لأن الطهر موجود في الآيسة والصغيرة
وليستا من ذوات الأقراء، علمنا أن اسم القرء للطهر الذي بين الحيضتين
مجاز وليس بحقيقة، سمي بذلك لمجاورته للحيض كما يسمى الشيء باسم غيره
إذا كان مجاورا له وكان منه بسبب; ألا ترى أنه حين جاور الحيض سمي به
وحين لم يجاوره لم يسم به؟ فدل ذلك على أنه مجاز في الطهر حقيقة في
الحيض.
ومما يدل على أن المراد الحيض دون الطهر، أنه لما كان اللفظ محتملا
للمعنيين واتفقت الأمة على أن المراد أحدهما، فلو أنهما تساويا في
الاحتمال لكان الحيض أولاها وذلك لأن لغة النبي صلى الله عليه وسلم
وردت بالحيض دون الطهر بقوله: "المستحاضة تدع الصلاة أيام أقرائها"
وقال لفاطمة بنت أبي حبيش: "فإذا أقبل قرؤك فدعي الصلاة، وإذا أدبر
فاغتسلي وصلي ما بين القرء إلى القرء". فكان لغة النبي صلى الله عليه
وسلم أن القرء الحيض، فوجب أن لا يكون معنى الآية إلا محمولا عليه; لأن
القرآن لا محالة نزل بلغته صلى الله عليه وسلم وهو المبين عن الله عز
وجل مراد الألفاظ المحتملة للمعاني ولم يرد لغته بالطهر، فكان حمله على
الحيض أولى منه على الطهر.
ويدل عليه ما حدثنا محمد بن بكر البصري قال: حدثنا أبو داود قال: حدثنا
محمد بن مسعود قال: حدثنا أبو عاصم، عن ابن جريج، عن مظاهر بن أسلم، عن
القاسم بن محمد، عن عائشة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "طلاق
الأمة ثنتان وقرؤها حيضتان" قال أبو عاصم: فحدثني مظاهر قال: حدثني به
القاسم عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله، إلا أنه قال:
"وعدتها حيضتان". وحدثنا عبد الباقي بن قانع قال: حدثنا محمد بن شاذان
قال: حدثنا معلى قال: حدثنا عمرو بن شبيب، عن عبد الله بن عيسى، عن
عطية، عن
(1/443)
ابن عمر،
عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "تطليق الأمة تطليقتان وعدتها
حيضتان" فنص على الحيضتين في عدة الأمة، وذلك خلاف قول مخالفينا; لأنهم
يزعمون أن عدتها طهران ولا يستوعبون لها حيضتين; وإذا ثبت أن عدة الأمة
حيضتان كانت عدة الحرة ثلاث حيض. وهذان الحديثان وإن كان ورودهما من
طريق الآحاد فقد اتفق أهل العلم على استعمالهما في أن عدة الأمة على
النصف من عدة الحرة، فأوجب ذلك صحته. ويدل عليه أيضا حديث أبي سعيد
الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في سبايا أوطاس: "لا توطأ
حامل حتى تضع ولا حائل حتى تستبرئ بحيضة" ومعلوم أن أصل العدة موضوع
للاستبراء، فلما جعل النبي صلى الله عليه وسلم استبراء الأمة بالحيضة
دون الطهر وجب أن تكون العدة بالحيض دون الطهر; إذ كل واحد منهما موضوع
في الأصل للاستبراء أو لمعرفة براءة الرحم من الحبل; وإن كان قد تجب
العدة على الصغيرة والآيسة; لأن الأصل للاستبراء، ثم حمل عليه غيره من
الآيسة والصغيرة لئلا يترخص في التي قاربت البلوغ وفي الكبيرة التي قد
يجوز أن تحيض وترى الدم بترك العدة، فأوجب على الجميع العدة احتياطا
للاستبراء الذي ذكرنا. ويدل عليه أيضا قوله تعالى: {وَاللَّائِي
يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ
فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ} [الطلاق: 4] فأوجب الشهور عند عدم
الحيض; فأقامها مقامها، فدل ذلك على أن الأصل هو الحيض; كما أنه لما
قال: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} [النساء: 43] علمنا أن
الأصل الذي نقل عنه إلى الصعيد هو الماء. ويدل عليه أن الله حصر
الأقراء بعدد يقتضي استيفاءه للعدة، وهو قوله تعالى: {ثَلاثَةَ
قُرُوءٍ} واعتبار الطهر فيه يمنع استيفاءها بكمالها فيمن طلقها للسنة;
لأن طلاق السنة أن يوقعه في طهر لم يجامعها فيه، فلا بد إذا كان كذلك
من أن يصادف طلاقه طهرا قد مضى بعضه ثم تعتد بعده بطهرين آخرين، فهذان
طهران وبعض الثالث، فلما تعذر استيفاء الثلاث إذا أراد طلاق السنة
علمنا أن المراد الحيض الذي يمكن استيفاء العدد المذكور في الآية
بكماله; وليس هذا كقوله تعالى: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ}
فالمراد شهران وبعض الثالث; لأنه لم يحصرها بعدد وإنما ذكرها بلفظ
الجمع، والأقراء محصورة بعدد لا يحتمل الأقل منه. ألا ترى أنه لا يجوز
أن تقول: رأيت ثلاثة رجال ومرادك رجلان، وجائز أن تقول: رأيت رجالا
والمراد رجلان؟ وأيضا فإن قوله تعالى: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ
مَعْلُومَاتٌ} معناه عمل الحج في أشهر معلومات، ومراده في بعضها; لأن
عمل الحج لا يستغرق الأشهر وإنما يقع في بعض الأوقات منها فلم يحتج فيه
إلى استيفاء العدد. وأما الأقراء فواجب استيفاؤها للعدة، فإن كانت
الأقراء الأطهار فواجب أن يستوفى العدد المذكور كما يستغرق الوقت كله،
فيكون جميع أوقات الطهر عدة إلى انقضاء عددها، فلم يجز
(1/444)
الاقتصار
به على ما دون العدد المذكور، فوجب أن يكون المراد الحيض إذا أمكن
استيفاء العدد عند إيقاع طلاق السنة. وكما لم يجز الاقتصار في عدة
الآيسة والصغيرة على شهرين وبعض الثالث بقوله تعالى: {فَعِدَّتُهُنَّ
ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ} كذلك لما ذكر ثلاثة قروء لم يجز أن تكون اثنتين
وبعض الثالث.
فإن قيل: إذا طلقها في الطهر فبقيته قرء تام. قيل له: فينبغي أن تنقضي
عدتها بوجود جزء من الطهر الثالث إذا كان الجزء منه قرءا تاما. فإن
قيل: القرء هو الخروج من حيض إلى طهر أو من طهر إلى حيض، إلا أنهم قد
اتفقوا أنه لو طلقها وهي حائض لم يكن خروجها من حيض إلى طهر معتدا به
قرءا، فإذا ثبت أن خروجها من حيض إلى طهر غير مراد بقي الوجه الآخر وهو
خروجها من طهر إلى حيض، ويمكن استيفاء ثلاثة أقراء كاملة إذا طلقها في
الحيض. قيل له: قول القائل القرء هو خروج من طهر إلى حيض أو من حيض إلى
طهر قول يفسد من وجوه: أحدها: أن السلف اختلفوا في معنى قوله تعالى:
{يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} فقال منهم قائلون:
هي الحيض. وقال آخرون: هي الأطهار. ولم يقل أحد منهم: إنه خروج من حيض
إلى طهر أو من طهر إلى حيض; فقول القائل بما وصفت خارج عن إجماع السلف،
وقد انعقد الإجماع منهم بخلافه، فهو ساقط. ومن جهة أخرى أن أهل اللغة
اختلفوا في معناه في أصل اللغة على ما قدمنا من أقوالهم فيه، ولم يقل
منهم أحد فيما ذكر من حقيقته ما يوجب احتمال خروجها من حيض إلى طهر أو
من طهر إلى حيض، فيفسد من هذا الوجه أيضا. ويفسد أيضا من جهة أن كل من
ادعى معنى لاسم من طريق اللغة فعليه أن يأتي بشاهد منها عليه أو رواية
عن أهلها فيه، فلما عري هذا القول من دلالة اللغة ورواية فيها سقط. ومن
جهة أخرى: وهي أنه لو كان القرء اسما للانتقال على الوجه الذي ذكرت
لوجب أن يكون قد سمي به في الأصل غيره على وجه الحقيقة ثم ينتقل من
الانتقال من طهر إلى حيض; إذ معلوم أنه ليس باسم موضوع له في أصل اللغة
وإنما هو منقول من غيره، فإذا لم يسم شيء من ضروب الانتقال بهذا الاسم
علمنا أنه ليس باسم له. وأيضا لو كان كذلك لوجب أن يكون انتقالها من
الطهر إلى الحيض قرءا ثم انتقالها من الحيض إلى الطهر قرءا ثانيا ثم
انتقالها من الطهر الثاني إلى الحيض قرءا ثالثا، فتنقضي عدتها بدخولها
في الحيضة الثانية; إذ ليس بحيض على أصلك اسم القرء بالانتقال من الحيض
إلى الطهر دون الانتقال من الطهر إلى الحيض. فإن قيل: الظاهر يقتضيه،
إلا أن دلالة الإجماع منعت منه. قيل له: ما أنكرت ممن قال لك إن المراد
الانتقال من الحيض إلى الطهر، إلا أنه إذا طلقها في الحيض لم يعتد
بانتقالها من الحيض إلى الطهر فيه بدلالة الإجماع، وحكم اللفظ باق بعد
(1/445)
ذلك في
سائر الانتقالات من الحيض إلى الطهر؟ فإذا لم يمكنه الانفصال مما ذكرنا
وتعارضا سقطا وزال الاحتجاج به. فإن قيل: اعتبار خروجها من طهر إلى حيض
أولى من اعتبار خروجها من حيض إلى طهر; لأن في انتقالها من طهر إلى حيض
دلالة على براءة رحمها من الحبل، وخروجها من حيض إلى طهر غير دال على
ذلك; لأنه قد يجوز أن تحبل المرأة في آخر حيضها; ويدل عليه قول تأبط
شرا:
ومبرأ من كل غبر حيضة ... وفساد مرضعة وداء مغيل
يعني أن أمه لم تحبل به في بقية حيضها. فيقال له: قولك: إنه يجوز أن
تحبل به في بقية حيضها قول خطأ; لأن الحبل لا يجامعه الحيض، قال النبي
صلى الله عليه وسلم: "لا توطأ حامل حتى تضع ولا حائل حتى تستبرئ بحيضة"
فجعل وجود الحيض علما لبراءة رحمها من الحبل، فثبت أن الحمل والحيض لا
يجتمعان، ومتى حملت المرأة وهي حائض ارتفع الحيض، ولا يكون الدم
الموجود مع الحبل حيضا وإنما يكون دم استحاضة; وإذا كان كذلك فقولك إن
خروجها من الحيض إلى الطهر لا دلالة فيه على براءة رحمها قول خطأ. وأما
استشهاده بقول تأبط شرا فإنه من العجائب، وما علم هذا الشاعر الجاهل
بذلك وقد قال الله تعالى: {وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ} [لقمان:
34] وقال تعالى: {عَالِمُ الْغَيْبِ} [الأنعام: 37] يعني أنه استأثر
بعلم ذلك دون خلقه وأن الخلق لا يعلمون منه إلا ما علمهم، مع دلالة قول
النبي صلى الله عليه وسلم على انتفاء اجتماع الحيض والحبل. ومع ذلك فإن
ما ذكره هذا القائل دلالة على صحة قولنا; لأنه إذا كانت العدة بالأقراء
إنما هي لاستبراء الرحم من الحبل، والطهر لا استبراء فيه; لأن الحمل
طهر، وجب أن يكون الاعتبار بالحيض التي هي علم لبراءة الرحم من الحبل;
إذ ليس في الطهر دلالة عليه. ويدل على أن العدة بالأقراء استبراء أنها
لو رأت الدم ثم ظهر بها حبل كانت العدة هي الحبل، فدل ذلك على أن العدة
لذوات الأقراء إنما هي استبراء من الحبل، والاستبراء من الحبل إنما
يكون بالحيض لا بالطهر من وجهين: أحدهما: أن عدة الشهور للصغيرة
والآيسة طهر صحيح وليس باستبراء، والمعنى الآخر: أن الطهر مقارن للحبل،
فدل على أن الاستبراء لا يقع بما يقارنه وإنما يقع بما ينافيه وهو
الحيض، فيكون دلالة على براءة رحمها من الحبل، فوجب أن تكون العدة
بالحيض دون الأطهار.
واحتج من اعتبر الأطهار بقوله تعالى: {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ}
وقول النبي صلى الله عليه وسلم لعمر حين طلق ابنه امرأته حائضا: "مره
فليراجعها ثم ليدعها حتى تطهر ثم ليطلقها إن شاء فتلك العدة التي أمر
الله أن تطلق لها النساء". قال: فهذا يدل من وجهين على أنها بالأطهار:
أحدهما: قوله بعد ذكره الطلاق في الطهر: "فتلك العدة التي
(1/446)
أمر الله
أن تطلق لها النساء" وذلك إشارة إلى الطهر دون الحيض، فدل على أن العدة
بالأطهار دون الحيض. والثاني: قوله تعالى: {وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ}
[الطلاق: 1] وذلك عقيب الطلاق في الطهر، فوجب أن يكون المحصى هو بقية
الطهر، وهو الذي يلي الطلاق. فيقال له: أما قولك "فتلك العدة التي أمر
الله أن تطلق لها النساء" فإن اللام قد تدخل في ذلك لحال ماضية
ومستقبلة، ألا ترى إلى قوله صلى الله عليه وسلم: "صوموا لرؤيته" يعني
لرؤية ماضية؟ وقال تعالى: {وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا
سَعْيَهَا} [الإسراء: 19] يعني الآخرة؟ فاللام ههنا للاستقبال
والتراخي; ويقولون: تأهب للشتاء; يعني وقتا مستقبلا متراخيا عن حال
التأهب، وإذا كان اللفظ محتملا للماضي والمستقبل، ومتى تناول المستقبل
فليس في مقتضاه وجوده عقيب المذكور بلا فصل. وإذا كان كذلك ووجدنا قوله
صلى الله عليه وسلم لابن عمر فيه ذكر حيضة ماضية والحيضة المستقبلة
معلومة وإن لم تكن مذكورة، وذلك في قوله: "مره فليراجعها ثم ليدعها حتى
تطهر ثم تحيض ثم تطهر ثم ليطلقها إن شاء، فتلك العدة التي أمر الله أن
يطلق لها النساء" فاحتمل أن يكون ذلك إشارة إلى الحيضة الماضية، فيدل
ذلك على أن العدة إنما هي الحيض. وجائز أن يريد حيضة مستقبلة; إذ هي
معلوم كونها على مجرى العادة، فليس الطهر حينئذ بأولى بالاعتبار من
الحيض; لأن الحيض في المستقبل وإن لم يكن مذكورا فجائز أن يراد به إذا
كان معلوما، كما أنه لم يذكر طهرا بعد الطلاق وإنما ذكر طهرا قبله;
ولكن الطهر لما كان معلوما وجوده بعد الطلاق إذا طلقها فيه على مجرى
العادة جاز عندك رجوع الكلام إليه وإرادته باللفظ; ومع ذلك فجائز أن
تحيض عقيب الطلاق بلا فصل، فليس إذا في اللفظ دلالة على أن المعتبر في
الاعتداد به هو الطهر دون الحيض. ومع ذلك فقد دل على أنه لو طلقها في
آخر الطهر فحاضت عقيب الطلاق بلا فصل أن عدتها ينبغي أن تكون الحيض دون
الطهر بمقتضى لفظه صلى الله عليه وسلم; إذ ليس في اللفظ ذكر حيض بعد
الطلاق ولا طهر، فإذا حاضت عقيب الطلاق كان ذلك عدتها. ثم لم يفرق أحد
في اعتبار الحيض بين وجوده عقيب الطلاق ومتراخيا عنه، فأوجب ذلك أن
يكون الحيض هو المعتد به من الأقراء دون الطهر.
فإن قيل: الحيضة الماضية غير جائز أن تكون مرادة بالخبر; لأن ما قبل
الطلاق من الحيض لا يكون عدة. قيل له: إذا كانت تعتد به بعد الطلاق جاز
أن يسميها عدة، كما قال تعالى: {حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ}
فسماه زوجا قبل النكاح. ويلزم مخالفنا من ذلك ما لزمنا; لأنه ذكر الطهر
وأمره أن يطلقها فيه ولم يذكر الطهر الذي بعد الطلاق فقد سمى الطهر
الذي قبله عدة; لأنه به تعتد عندك، فما أنكرت أن تسمى الحيضة التي قبل
(1/447)
الطلاق
عدة إذ كانت بها تعتد؟ وأما قوله تعالى: {وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ}
[الطلاق: 1] فإن الإحصاء ليس بمختص بالطهر دون الحيض; لأن كل ذي عدد
فالإحصاء يلحقه.
فإن قيل: إذا كان الذي يلي الطلاق هو الطهر وقد أمرنا بالإحصاء، فأوجب
أن ينصرف الأمر بالإحصاء إليه; لأن الأمر على الفور. قيل له: هذا غلط;
لأن الإحصاء إنما ينصرف إلى أشياء ذوي عدد، فأما شيء واحد قبل انضمام
غيره إليه فلا عبرة بإحصائه، فإذا لزوم الإحصاء يتعلق بما يوجد في
المستقبل من الأقراء متراخيا عن وقت الطلاق، ثم حينئذ الطهر لا يكون
أولى به من الحيض; إذ كانت سمة الإحصاء تتناولهما جميعا وتلحقهما على
وجه واحد. وأيضا فيلزمك على هذا أن تقول إنها لو حاضت عقيب الطلاق أن
تكون عدتها بالحيض للزوم الإحصاء عقيبه، والذي يليه في هذه الحال
الحيض، فينبغي أن يكون هو العدة.
وقال بعض المخالفين ممن صنف في أحكام القرآن: قوله تعالى:
{فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} [الطلاق: 1] معناه: في عدتهن، كما
يقول الرجل كتب لغرة الشهر، معناه: في هذا الوقت. وهذا غلط; لأن في هي
ظرف، واللام وإن كانت متصرفة على معان فليس في أقسامها التي تتصرف
عليها وتحتملها كونها ظرفا، والمعاني التي تنقسم إليها لام الإضافة
خمسة: منها لام الملك، كقولك: له مال ولام الفعل كقولك له كلام وله
حركة ولام العلة كقولك قام; لأن زيدا جاءه، وأعطاه; لأنه سأله ولام
النسبة كقولك له أب وله أخ ولام الاختصاص كقولك له علم وله إرادة ولام
الاستغاثة كقولك يا لبكر ويا لدارم ولام كي وهو قوله تعالى:
{وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا} [الأنعام: 113] ولام العاقبة، كقوله
تعالى: {لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً} [القصص: 8] فهذه المعاني
التي تنقسم إليها هذه اللام ليس في شيء منها ما ذكره هذا القائل; وهو
مع ذلك ظاهر الفساد; لأنه إذا كان قوله تعالى: {فَطَلِّقُوهُنَّ
لِعِدَّتِهِنَّ} [الطلاق: 1] معناه: في عدتهن، فينبغي أن تكون العدة
موجودة حتى يطلقها فيها، كما لو قال قائل طلقها في شهر رجب لم يجز له
أن يطلقها قبل أن يوجد منه شيء; فبان بذلك فساد قول هذا القائل
وتناقضه.
ومما يدل على أن قوله تعالى: {وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ} [الطلاق: 1] لا
دلالة فيه على أنه الطهر الذي مسنون فيه طلاق السنة، أنه لو طلقها بعد
الجماع في الطهر لكان مخالفا للسنة ولم يختلف حكم ما تعتد به عند
الفريقين بكونه جميعا من حيض أو طهر، فدل ذلك على أنه لا تعلق لإيقاع
طلاق السنة في وقت الطهر بكونه عدة محصاة منها; ويدل عليه أنه لو طلقها
وهي حائض لكانت معتدة عقيب الطلاق، ونحن مخاطبون بإحصاء
(1/448)
عدتها،
فدل على أنه لا تعلق للزوم الإحصاء ولا لوقت طلاق السنة بكونه هو
المعتد به دون غيره.
وقال القائل الذي قدمنا ذكر اعتراضه في هذا الفصل: وقد اعتبرتم يعني
أهل العراق معاني أخر غير الأقراء، من الاغتسال أو مضي وقت الصلاة،
والله تعالى إنما أوجب العدة بالأقراء وليس الاغتسال ولا مضي وقت
الصلاة في شيء. فيقال له: لم نعتبر غير الأقراء التي هي عندنا، ولكنا
لم نتيقن انقضاء الحيض والحكم بمضيه إلا بأحد معنيين لمن كانت أيامها
دون العشرة: وهو الاغتسال واستباحة الصلاة به، فتكون طاهرا بالاتفاق
على ما روي عن عمر وعلي وعبد الله وعظماء السلف من بقاء الرجعة إلى أن
تغتسل، أو يمضي عليها وقت الصلاة فيلزمها فرضها، فيكون لزوم فرض الصلاة
منافيا لبقاء حكم الحيض. وهذا إنما هو كلام في مضي الحيضة الثالثة
ووقوع الطهر منها، وليس ذلك من الكلام في المسألة في شيء، ألا ترى أنا
نقول: إن أيامها إذا كانت عشرة انقضت عدتها بمضي العشرة اغتسلت أو لم
تغتسل؟ لحصول اليقين بانقضاء الحيضة; إذ لا يكون الحيض عندنا أكثر من
عشرة، فالملزم لنا ذلك على اعتبار الحيض مغفل في إلزامه واضع للأقراء
في غير موضعها.
قال أبو بكر رحمه الله: وقد أفردنا لهذه المسألة كتابا واستقصينا القول
فيها أكثر من هذا، وفيما ذكرناه ههنا كفاية.
وهذا الذي ذكره الله تعالى من العدة ثلاثة قروء ومراده مقصور على الحرة
دون الأمة، وذلك; لأنه لا خلاف بين السلف أن عدة الأمة على النصف من
عدة الحرة; وقد روينا عن علي وعمر وعثمان وابن عمر وزيد بن ثابت وآخرين
منهم: أن عدة الأمة على النصف من عدة الحرة وقد روينا عن النبي صلى
الله عليه وسلم: "أن طلاق الأمة تطليقتان وعدتها حيضتان" والسنة
والإجماع قد دلا على أن مراد الله تعالى في قوله: {ثَلاثَةَ قُرُوءٍ}
هو الحرائر دون الإماء.
قوله تعالى: {وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ
فِي أَرْحَامِهِنَّ} روى الأعمش عن أبي الضحى عن مسروق عن أبي بن كعب
قال: كان من الأمانة أن اؤتمنت المرأة على فرجها. وروى نافع عن ابن عمر
في قوله تعالى: {وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ
اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ} قال: "الحيض والحبل". وقال عكرمة: الحيض
والحكم عن مجاهد وإبراهيم، أحدهما: "الحمل" وقال الآخر: "الحيض". وعن
علي أنه استحلف امرأة أنها لم تستكمل الحيض; وقضى بذلك عثمان.
(1/449)
قال أبو
بكر: لما وعظها بترك الكتمان دل على أن القول قولها في وجود الحيض أو
عدمه. وكذلك في الحبل; لأنهما جميعا مما خلق الله في رحمها، ولولا أن
قولها فيه مقبول لما وعظت بترك الكتمان ولا كتمان لها، فثبت بذلك أن
المرأة إذا قالت أنا حائض لم يحل لزوجها وطؤها، وأنها إذا قالت قد طهرت
حل له وطؤها. وكذلك قال أصحابنا أنه إذا قال لها أنت طالق إن حضت فقالت
قد حضت طلقت وكان قولها كالبينة. وفرقوا بين ذلك وبين سائر الشروط إذا
علق بها الطلاق، نحو قوله إن دخلت الدار أو كلمت زيدا فقالوا: لا يقبل
قولها إذا لم يصدقها الزوج إلا ببينة، وتصدق في الحيض والطهر; لأن الله
تعالى قد أوجب علينا قبول قولها في الحيض والحبل وفي انقضاء العدة وذلك
معنى يخصها ولا يطلع عليه غيرها، فجعل قولها كالبينة; فكذلك سائر ما
تعلق من الأحكام بالحيض فقولها مقبول فيه. وقالوا: لو قال لها عبدي حر
إن حضت فقالت قد حضت لم تصدق; ; لأن ذلك حكم في غيرها أعني عتق العبد
والله تعالى إنما جعل قولها كالبينة في الحيض فيما يخصها من انقضاء
عدتها ومن إباحة وطئها أو حظره، فأما فيما لا يخصها ولا يتعلق بها فهو
كغيره من الشروط فلا تصدق عليه. ونظير هذه الآية في تصديق المؤتمن فيما
اؤتمن عليه قوله تعالى: {وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ
وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً} [البقرة:
282] لما وعظه بترك البخس دل ذلك على أن القول قوله فيه، ولولا أنه
مقبول القول فيه لما كان موعوظا بترك البخس، وهو لو بخس لم يصدق عليه.
ومنه أيضا قوله تعالى: {وَلا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ
يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ} [البقرة: 283] دل ذلك على أن
الشاهد إذا كتم أو أظهر كان المرجع إلى قوله فيما كتم وفيما أظهر،
لدلالة وعظه إياه بترك الكتمان على قبول قوله فيها. وذلك كله أصل في أن
كل من اؤتمن على شيء فالقول قوله فيه، كالمودع إذا قال: قد ضاعت
الوديعة أو قد رددتها، وكالمضارب والمستأجر وسائر المأمونين على
الحقوق. ولذلك قلنا إن قوله تعالى: {فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} [البقرة:
283] ثم قوله تعالى عطفا عليه: {فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً
فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ
رَبَّهُ} [البقرة: 282] فيه دلالة على أن الرهن ليس بأمانة; لأنه لو
كان أمانة لما عطف الأمانة عليه; إذ كان الشيء لا يعطف على نفسه وإنما
يعطف على غيره.
ومن الناس من يقول: إن قوله تعالى: {وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ
يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ} إنما هو مقصور
الحكم على الحبل دون الحيض; لأن الدم إنما يكون حيضا إذا سال ولا يكون
حيضا وهو في الرحم; لأن الحيض هو حكم يتعلق بالدم الخارج فما دام في
الرحم فلا حكم له ولا معنى لاعتباره ولا ائتمان المرأة عليه. قال أبو
بكر: هذا
(1/450)
صحيح إذ
الدم لا يكون حيضا إلا بعد خروجه من الرحم; ولكن دلالة الآية قائمة على
ما ذكرنا، وذلك; لأن وقت الحيض إنما يرجع فيه إلى قولها; إذ ليس كل دم
سائل حيضا وإنما يكون حيضا بأسباب أخر نحو الوقت والعادة وبراءة الرحم
عن الحبل; وإذا كان كذلك وكانت هذه الأمور إنما تعلم من جهتها فهي إذا
قالت قد حضت ثلاث حيض فالقول قولها بمقتضى الآية، وكذلك إذا قالت لم أر
دما ولم تنقض عدتي فالقول قولها، وكذلك إذا قالت قد أسقطت سقطا قد
استبان خلقه وانقضت عدتي فالقول قولها; وإنما التصديق متعلق بحيض قد
وجد ودم قد سال.
وفي هذه الآية دلالة على أن الحيض لا يتعلق حكمه بلون الدم; لأنه لو
كان كذلك لما اختصت هي بالرجوع إلى قولها دوننا; لأنها وإيانا متساوون
في التفرقة بين الألوان، فدل ذلك على أن دم الحيض غير متميز بلونه من
لون دم الاستحاضة وأنهما على صفة واحدة; ففيه دلالة على بطلان قول من
اعتبر الحيض بلون الدم، وإنما لم يعلم ذلك إلا من جهتها عند سقوط
اعتبار لون الدم لما وصفنا من أن وقت الحيض والعادة فيه ومقداره وأوقات
الطهر إنما يعلم من جهتها; إذ ليس كل دم حيضا، وكذلك وجود الحمل النافي
لكون الدم حيضا وإسقاط سقط، كل ذلك المرجع فيه إلى قولها; لأنا لا
نعلمه نحن ولا نقف عليه إلا من جهتها; فلذلك جعل القول فيه قولها.
وذكر هشام عن محمد أن قول المرأة مقبول في وجود الحيض، ويحكم ببلوغها
إذا كانت قد بلغت سنا تحيض مثلها وذلك لما ذكرنا من قوله تعالى: {وَلا
يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي
أَرْحَامِهِنَّ} قال محمد: ولو قال صبي مراهق "قد احتلمت" لم يصدق فيه
حتى يعلم الاحتلام أو بلوغ سن يكون مثله بالغا فيها. ففرق بين الحيض
والاحتلام، والفرق بينهما أن الحيض إنما يعلم من جهتها لتعلقه بالأوقات
والعادة والمعاني التي لا تعلم من جهة غيرها ودلالة الآية على قبول
قولها فيه، وليس كذلك الاحتلام; لأنه لا يتعلق خروج المني على وجه
الدفق والشهوة بأسباب أخر غير خروجه، ولا اعتبار فيه بوقت ولا عادة،
فلما كان كذلك لم يعتبر قوله فيه حتى نعلم يقينا صحة ما قال. ومن جهة
أخرى أن دم الحيض والاستحاضة لما كانا على صفة واحدة لم يجز لمن شاهد
الدم أن يقضي له بحكم الحيض فوجب الرجوع إلى قولها; إذ كان ذلك إنما هو
شيء تعلمه هي دوننا. وأما الاحتلام فلا يشتبه فيه خروج المني على أحد
شاهده وهو يدرك ويعلم من غير التباس منه بغيره فلذلك لم نحتج فيه إلى
الرجوع إلى قوله.
وقوله تعالى: {إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ}
ليس بشرط في النهي عن الكتمان، وإنما هو على وجه التأكيد وأنه من شرائط
الإيمان، فعليها أن لا تكتم; ومن يؤمن ومن
(1/451)
لا يؤمن
في هذا النهي سواء، وهو كقوله تعالى: {وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا
رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ
وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} [النور: 2] وقول مريم: {إِنِّي أَعُوذُ
بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيّاً} [مريم: 18].
قوله تعالى: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ
أَرَادُوا إِصْلاحاً} قد تضمن ضروبا من الأحكام، أحدها: أن ما دون
الثلاث لا يرفع الزوجية ولا يبطلها وإخبار ببقاء الزوجية معه; لأنه
سماه بعلا بعد الطلاق، فدل ذلك على بقاء التوارث وسائر أحكام الزوجية
ما دامت معتدة، ودل على أن له الرجعة ما دامت معتدة; لأنه قال: {فِي
ذَلِكَ} يعني فيما تقدم ذكره من الثلاثة قروء. ودل على أن إباحة هذه
الرجعة مقصورة على حال إرادة الإصلاح ولم يرد بها الإضرار بها، وهو
كقوله تعالى: {وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَاراً لِتَعْتَدُوا}. فإن قيل:
فما معنى قوله تعالى: {أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ} مع بقاء
الزوجية؟ وإنما يقال ذلك فيما قد زال عنه ملكه، فأما فيما هو في ملكه
فلا يصح أن يقال بردها إلى ملكه مع بقاء ملكه فيها؟ قيل له: لما كان
هناك سبب قد تعلق به زوال النكاح عند انقضاء العدة، جاز إطلاق اسم الرد
عليه ويكون ذلك بمعنى المانع من زوال الزوجية بانقضاء العدة، فسماه
ردا; إذ كان رافعا لحكم السبب الذي تعلق به زوال الملك، وهو كقوله
تعالى: {فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ
سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} وهو ممسك لها في هذه الحال; لأنها زوجته،
وإنما المراد الرجعة الموجبة لبقاء النكاح بعد انقضاء الحيض التي لو لم
تكن الرجعة لكانت مزيلة للنكاح. وهذه الرجعة وإن كانت إباحتها معقودة
بشريطة إرادة الإصلاح، فإنه لا خلاف بين أهل العلم أنه إذا راجعها
مضارا في الرجعة مريدا لتطويل العدة عليها أن رجعته صحيحة. وقد دل على
ذلك قوله تعالى: {فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ
أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَاراً
لِتَعْتَدُوا} ثم عقبه بقوله تعالى: {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ
ظَلَمَ نَفْسَهُ} فلو لم تكن الرجعة صحيحة إذا وقعت على وجه الضرار لما
كان ظالما لنفسه بفعلها.
وقد دلت الآية أيضا على جواز إطلاق لفظ العموم في مسميات ثم يعطف عليه
بحكم يختص به بعض ما انتظمه العموم، فلا يمنع ذلك اعتبار عموم اللفظ
فيما يشمله في غير ما خص به المعطوف; لأن قوله تعالى:
{وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ}
عام في المطلقة ثلاثا وفيما دونها لا خلاف في ذلك، ثم قوله تعالى:
{وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ} حكم خاص فيمن كان طلاقها دون
الثلاث، ولم يوجب ذلك الاقتصار بحكم قوله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ
يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} على ما دون الثلاث.
ولذلك نظائر كثيرة في القرآن والسنة، نحو قوله تعالى: {وَوَصَّيْنَا
الْأِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ
(1/452)
حُسْناً}
[العنكبوت: 8] وذلك عموم في الوالدين الكافرين والمسلمين، ثم عطف عليه
قوله تعالى {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ
لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [العنكبوت: 8] وذلك خاص في الوالدين المشركين، فلم
يمنع ذلك عموم أول الخطاب في الفريقين من المسلمين والكفار; والله أعلم
بالصواب.
(1/453)
باب حق الزوج على المرأة و حق المرأة على الزوج
...
باب حق الزوج على المرأة وحق المرأة على الزوج
قال الله تعالى: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ
وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ} قال أبو بكر رحمه الله: أخبر الله
تعالى في هذه الآية أن لكل واحد من الزوجين على صاحبه حقا، وأن الزوج
مختص بحق له عليها ليس لها عليه مثله بقوله تعالى: {وَلِلرِّجَالِ
عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ} ولم يبين في هذه الآية ما لكل واحد منهما على
صاحبه من الحق مفسرا، وقد بينه في غيرها وعلى لسان رسول الله صلى الله
عليه وسلم. فمما بينه الله تعالى من حق المرأة عليه قوله تعالى:
{وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [النساء: 19] وقوله تعالى:
{فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} وقال تعالى:
{وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ
بِالْمَعْرُوفِ} وقال تعالى: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ
بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا
مِنْ أَمْوَالِهِمْ} [النساء: 34] وكانت هذه النفقة من حقوقها عليه.
وقال تعالى: {وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً} [النساء: 4]
فجعل من حقها عليه أن يوفيها صداقها، وقال تعالى: {وَإِنْ أَرَدْتُمُ
اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ
قِنْطَاراً فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً} [النساء: 20] فجعل من حقها
عليه أن لا يأخذ مما أعطاها شيئا إذا أراد فراقها وكان النشوز من قبله;
لأن ذكر الاستبدال يدل على ذلك. وقال تعالى: {وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا
أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلا تَمِيلُوا
كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ} [النساء: 129] فجعل من
حقها عليه ترك إظهار الميل إلى غيرها; وقد دل ذلك على أن من حقها القسم
بينها وبين سائر نسائه; لأن فيه ترك إظهار الميل إلى غيرها، ويدل عليه
أن عليه وطأها بقوله تعالى: {فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ} [النساء:
129] يعني: لا فارغة فتتزوج ولا ذات زوج; إذ لم يوفها حقها من الوطء،
ومن حقها أن لا يمسكها ضرارا على ما تقدم من بيانه. وقوله تعالى: {فَلا
تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا
بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ} إذا كان خطابا للزوج فهو يدل على أن من
حقها إذا لم يمل إليها أن لا يعضلها عن غيره بترك طلاقها. فهذه كلها من
حقوق المرأة على الزوج، وقد انتظمت هذه الآيات إثباتها لها.
ومما بين الله من حق الزوج على المرأة قوله تعالى: {فَالصَّالِحَاتُ
قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ} [النساء: 34]
فقيل فيه: "حفظ مائه في رحمها ولا تحتال في إسقاطه" ويحتمل: حفظ فراشها
عليه، ويحتمل: حافظات لما في بيوتهن من مال
(1/453)
أزواجهن
ولأنفسهن; وجائز أن يكون المراد جميع ذلك لاحتمال اللفظ له. وقال
تعالى: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ} [النساء: 34] قد
أفاد ذلك لزومها طاعته; لأن وصفه بالقيام عليها يقتضي ذلك. وقال تعالى:
{وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ
فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا
عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً} [النساء: 34] يدل على أن عليها طاعته في نفسها
وترك النشوز عليه.
وقد روي في حق الزوج على المرأة وحق المرأة عليه عن النبي صلى الله
عليه وسلم أخبار بعضها مواطئ لما دل عليه الكتاب وبعضها زائد عليه، من
ذلك ما حدثنا محمد بن بكر البصري قال: حدثنا أبو داود قال: حدثنا عبد
الله بن محمد النفيلي وغيره قال: حدثنا حاتم بن إسماعيل قال: حدثنا
جعفر بن محمد عن أبيه عن جابر بن عبد الله قال: خطب النبي صلى الله
عليه وسلم بعرفات فقال: "اتقوا الله في النساء فإنكم أخذتموهن بأمانة
الله واستحللتم فروجهن بكلمة الله، وإن لكم عليهن أن لا يوطئن فرشكم
أحدا تكرهونه فإن فعلن فاضربوهن ضربا غير مبرح، ولهن عليكم رزقهن
وكسوتهن بالمعروف". وروى ليث عن عبد الملك عن عطاء عن ابن عمر قال:
جاءت امرأة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله ما حق
الزوج على الزوجة؟ فذكر فيها أشياء: "لا تصدق بشيء من بيته إلا بإذنه
فإن فعلت كان له الأجر وعليها الوزر" فقالت: يا رسول الله ما حق الزوج
على زوجته؟ قال: "لا تخرج من بيته إلا بإذنه ولا تصوم يوما إلا بإذنه".
وروى مسعر عن سعيد المقبري عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله
عليه وسلم: "خير النساء امرأة إذا نظرت إليها سرتك وإذا أمرتها أطاعتك
وإذا غبت عنها حفظتك في مالك ونفسها" ثم قرأ: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ
عَلَى النِّسَاءِ} [النساء: 34] الآية.
قال أبو بكر: ومن الناس من يحتج بهذه الآية في إيجاب التفريق إذا أعسر
الزوج بنفقتها; لأن الله تعالى جعل لهن من الحق عليهم مثل الذي عليهن،
فسوى بينهما، فغير جائز أن يستبيح بضعها من غير نفقة ينفقها عليها.
وهذا غلط من وجوه: أحدها: أن النفقة ليست بدلا عن البضع فيفرق بينهما
ويستحق البضع عليها من أجلها; لأنه قد ملك البضع بعقد النكاح وبدله هو
المهر. والوجه الثاني: أنها لو كانت بدلا لما استحقت التفريق بالآية;
لأنه عقب ذلك بقوله تعالى: {وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ}
فاقتضى ذلك تفضيله عليها فيما يتعلق بينهما من حقوق النكاح، وأن يستبيح
بضعها وإن لم يقدر على نفقتها. وأيضا فإن كانت النفقة مستحقة عليه
بتسليمها نفسها في بيته فقد أوجبنا لها عليه مثل ما أبحنا منها له وهو
فرض النفقة وإثباتها في ذمته لها، فلم تخل في هذه الحال من إيجاب الحق
لها كما أوجبناه له عليها.
(1/454)
ومما
تضمنه قوله تعالى: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ
بِالْمَعْرُوفِ} من الدلالة على الأحكام إيجاب مهر المثل إذا لم يسم
لها مهرا; لأنه قد ملك عليها بضعها بالعقد واستحق عليها تسليم نفسها
إليه، فعليه لها مثل ملكه عليها، ومثل البضع هو قيمته وهي مهر المثل،
كقوله تعالى: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ
بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [البقرة: 194] فقد عقل به وجوب قيمة
ما يستملكه عليه بما لا مثل له من جنسه، وكذلك مثل البضع هو مهر المثل.
وقوله تعالى: {بِالْمَعْرُوفِ} يدل على أن الواجب من ذلك ما لا شطط فيه
ولا تقصير، كما قال صلى الله عليه وسلم في المتوفى عنها زوجها ولم يسم
لها مهرا ولم يدخل بها: "لها مهر مثل نسائها ولا وكس ولا شطط" وقوله:
"أيما امرأة تزوجت بغير إذن وليها فنكاحها باطل فإن دخل بها فلها مهر
مثل نسائها ولا وكس ولا شطط" فهذا هو المعنى المعروف المذكور في الآية.
وقد دلت الآية أيضا على أنه لو تزوجها على أنه لا مهر لها أن المهر
واجب لها; إذ لم تفرق بين من شرط نفي المهر في النكاح وبين من لم يشرط
في إيجابه لها مثل الذي عليها.
وقوله: {وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ} قال أبو بكر: مما فضل به
الرجل على المرأة ما ذكره الله من قوله تعالى: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ
عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ}
[النساء: 34] فأخبر بأنه مفضل عليها بأن جعل قيما عليها. وقال تعالى:
{وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ} [النساء: 34] فهذا أيضا مما
يستحق له التفضيل عليها. ومما فضل به عليها ما ألزمها الله من طاعته
بقوله تعالى: {فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ
سَبِيلاً} [النساء: 34] ومن درجات التفضيل ما أباحه للزوج من ضربها عند
النشوز وهجران فراشها. ومن وجوه التفضيل عليها ما ملك الرجل من فراقها
بالطلاق ولم تملكه. ومنها أنه جعل له أن يتزوج عليها ثلاثا سواها ولم
يجعل لها أن تتزوج غيره ما دامت في حباله أو في عدة منه. ومنها زيادة
الميراث على قسمها. ومنها أن عليها أن تنتقل إلى حيث يريد الزوج وليس
على الزوج اتباعها في النقلة والسكنى، وأنه ليس لها أن تصوم تطوعا إلا
بإذن زوجها.
وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم ضروب أخر من التفضيل سوى ما
ذكرنا، منها حديث إسماعيل بن عبد الملك عن أبي الزبير عن جابر عن النبي
صلى الله عليه وسلم قال: "لا ينبغي لبشر أن يسجد لبشر، ولو كان ذلك كان
النساء لأزواجهن"، وحديث خلف بن خليفة عن حفص ابن أخي أنس عن أنس، أن
رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا يصلح لبشر أن يسجد لبشر، ولو
صلح لبشر أن يسجد لبشر لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها من عظم حقه عليها;
والذي
(1/455)
نفسي بيده
لو كان من قدمه إلى مفرق رأسه قرحة بالقيح والصديد ثم لحسته لما أدت
حقه". وروى الأعمش عن أبي حازم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى
الله عليه وسلم: "إذا دعا الرجل امرأته إلى فراشه فأبت فبات غضبان
عليها لعنتها الملائكة حتى تصبح". وفي حديث حصين بن محصن عن عمة له:
أنها أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "أذات زوج أنت؟" فقالت: نعم
قال: "فأين أنت منه؟" قالت: ما آلوه إلا ما عجزت عنه، قال: "فانظري أين
أنت منه فإنما هو جنتك أو نارك". وروى سفيان عن أبي الزناد عن الأعرج
عن أبي هريرة، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تصوم المرأة يوما
وزوجها شاهد من غير رمضان إلا بإذنه" وحديث الأعمش عن أبي صالح عن أبي
سعيد الخدري قال: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم النساء أن يصمن
إلا بإذن أزواجهن". فهذه الأخبار مع ما تضمنته دلالة الكتاب توجب تفضيل
الزوج على المرأة في الحقوق التي يقتضيها عقد النكاح.
وقد ذكر في قوله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ
بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} عن أبي عثمان النهدي عن أبي بن كعب
قال: لما نزلت عدة النساء في الطلاق والمتوفى عنها زوجها قلنا: يا رسول
الله قد بقي نساء لم تنزل عدتهن بعد الصغار والكبار والحبلى فنزلت:
{وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ} [الطلاق: 4]
إلى قوله: {وَأُولاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ
حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 4]. وروى عبد الوهاب عن سعيد عن قتادة قال:
{وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ}
فجعل عدة المطلقات ثلاث حيض، ثم نسخ منها التي لم يدخل بها في العدة،
ونسخ من الثلاثة القروء امرأتان: {وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ
الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ} [الطلاق: 4] فهذه
العجوز التي لا تحيض، {وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ} [الطلاق: 4] فهذه
البكر عدتها ثلاثة أشهر وليس الحيض من أمرها في شيء. ونسخ من الثلاثة
القروء الحامل فقال: {وَأُولاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ
يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 4] فهذه أيضا ليست من القروء في شيء،
إنما أجلها أن تضع حملها.
قال أبو بكر: أما حديث أبي بن كعب فلا دلالة فيه على نسخ شيء، وإنما
أكثر ما فيه أنهم سألوا النبي صلى الله عليه وسلم عن عدة الصغيرة
والآيسة والحبلى، فهذا يدل على أنهم علموا خصوص الآية وأن الحبلى لم
تدخل فيها مع جواز أن تكون مرادة بها، وكذلك الصغيرة; لأنه كان جائزا
أن يشترط ثلاثة قروء بعد بلوغها وإن طلقت وهي صغيرة، وأما الآيسة فقد
عقل من الآية أنها لم ترد بها; لأن الآيسة هي التي لا يرجى لها حيض،
فلا جائز أن يتناولها مراد الآية بحال. وأما حديث قتادة، فإنه ذكر أن
الآية كانت عامة في اقتضائها إيجاب العدة بالأقراء في المدخول بها وغير
المدخول بها، وأنه نسخ منها غير المدخول بها.
(1/456)
وهذا ممكن
أن يكون كما قال، وأما قوله ونسخ عن الثلاثة قروء امرأتان وهي الآيسة
والصغيرة فإنه أطلق لفظ النسخ في الآية وأراد به التخصيص، وكثيرا ما
يوجد عن ابن عباس وعن غيره من أهل التفسير إطلاق لفظ النسخ ومرادهم
التخصيص، فإنما أراد قتادة بذكر النسخ في الآيسة التخصيص لا حقيقة
النسخ; لأنه غير جائز ورود النسخ إلا فيما استقر حكمه وثبت، وغير جائز
أن تكون الآيسة مرادة بعدة الأقراء مع استحالة وجودها منها، فدل على
أنه أراد التخصيص. وقد يحتمل وجها على بعد عندنا، وهو أن يكون مذهب
قتادة أن التي ارتفع حيضها وإن كانت شابة تسمى آيسة، وأن عدتها مع ذلك
الأقراء وإن طالت المدة فيها; وقد روي عن عمر أن التي ارتفع حيضها من
الآيسات تكون عدتها عدة الآيسة وإن كانت شابة; وهو مذهب مالك. فإن كان
إلى هذا ذهب في معنى الآيسة فهذه جائز أن تكون مرادة بالأقراء; لأنها
يرجى وجودها منها. وأما قوله ونسخ من الثلاثة قروء الحامل فإن هذا أيضا
جائز سائغ; لأنه لا يمتنع ورود العبارة بأن عدة الحامل ثلاث حيض بعد
وضع الحمل، وإن كانت ممن لا تحيض وهي حامل، فجائز أن يكون عدتها ثلاثة
قروء بعد وضع الحمل فنسخ بالحمل. إلا أن أبي بن كعب قد أخبر أن الحامل
لم. تكن مرادة بعدة الأقراء، وأنهم سألوا النبي صلى الله عليه وسلم عن
ذلك فأخبر بأنه لم تنزل في الحامل والآيسة والصغيرة، فأنزل الله تعالى
ذلك; وليس يجوز إطلاق النسخ على الحقيقة إلا فيما قد علم ثبوت حكمه
وورود الحكم الناسخ له متأخرا عنه، إلا أن يطلق لفظ النسخ والمراد
التخصيص على وجه المجاز فلا يضيق. وأولى الأشياء بنا حمله على وجه
التخصيص فيكون قوله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ
بِأَنْفُسِهِنَّ} لم يرد إلا خاصا في المطلقات ذوات الحيض المدخول بهن،
وأن الآيسة والصغيرة والحامل لم يردن قط بالآية; إذ ليس معنا تاريخ
لورود هذه الأحكام ولا علم باستقرار حكمها ثم نسخه بعده، فكأن هذه
الآيات وردت معا وترتبت أحكامها على ما اقتضاها من استعمالها وبني
العام على الخاص منها. وقد روي عن ابن عباس وجه آخر من النسخ في هذه
الآية، وهو ما روى الحسين بن الحسن بن عطية، عن أبيه عطية، عن ابن عباس
قال: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ
قُرُوءٍ} إلى قوله: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي
ذَلِكَ} وذلك أن الرجل كان إذا طلق امرأته كان أحق بردها وإن طلقها
ثلاثا، فنسختها هذه الآية: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا
نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ
تَمَسُّوهُنَّ} [الأحزاب: 49] إلى قوله: {جَمِيلاً}. وعن الضحاك بن
مزاحم: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ
قُرُوءٍ} قال: {فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ}، فنسخ، واستثنى منها
فقال: {إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ
قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ
تَعْتَدُّونَهَا} [الأحزاب: 49] وروي فيها وجه آخر، وهو ما روى مالك عن
(1/457)
هشام بن
عروة عن أبيه قال: كان الرجل إذا طلق امرأته ثم راجعها قبل أن تنقضي
عدتها كان ذلك له وإن طلقها ألف مرة، فعمد رجل إلى امرأته فطلقها، حتى
إذا شارفت انقضاء العدة راجعها ثم طلقها، ثم قال: والله لا آويك إلي
ولا تحلين مني أبدا فأنزل الله تعالى: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ
فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} فاستقبل الناس
الطلاق جديدا من يومئذ، من كان منهم طلق أو لم يطلق. وروى شيبان عن
قتادة في قوله تعالى: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي
ذَلِكَ} وقال: في القروء الثلاثة، ثم قال: الطلاق مرتان لكل مرة قرء،
فنسخت هذه الآية ما كان قبلها فجعل الله حد الطلاق ثلاثا، فجعله أحق
برجعتها ما لم تطلق ثلاثا.
(1/458)
باب عدد الطلاق
قال الله عز وجل: {الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان} قال
أبو بكر: قد ذكرت في معناه وجوه: أحدها أنه بيان للطلاق الذي تثبت معه
الرجعة، يروى ذلك عن عروة بن الزبير وقتادة. والثاني: أنه بيان لطلاق
السنة المندوب إليه، ويروى ذلك عن ابن عباس ومجاهد. والثالث: أنه أمر
بأنه إذا أراد أن يطلقها ثلاثا فعليه تفريق الطلاق، فيتضمن الأمر
بالطلاق مرتين ثم ذكر بعدهما الثالثة. قال أبو بكر: فأما قول من قال:
إنه بيان لما يبقى معه الرجعة من الطلاق; فإنه وإن ذكر معه الرجعة
عقيبه فإن ظاهره يدل على أنه قصد به بيان المباح منه وأما ما عداه
فمحظور، وبين مع ذلك حكمه إذا أوقعه على الوجه المأمور به بذكر الرجعة
عقيبه. والدليل على أن المقصد فيه الأمر بتفريق الطلاق وبيان حكم ما
يتعلق بإيقاع ما دون الثلاث من الرجعة، أنه قال: {الطَّلاقُ
مَرَّتَانِ} وذلك يقتضي التفريق لا محالة; لأنه لو طلق اثنتين معا لما
جاز أن يقال طلقها مرتين، كذلك لو دفع رجل إلى آخر درهمين لم يجز أن
يقال أعطاه مرتين; حتى يفرق الدفع، فحينئذ يطلق عليه. وإذا كان هذا
هكذا، فلو كان الحكم المقصود باللفظ هو ما تعلق بالتطليقتين من بقاء
الرجعة، لأدى ذلك إلى إسقاط فائدة ذكر المرتين; إذ كان هذا الحكم ثابتا
في المرة الواحدة إذا طلق اثنتين، فثبت بذلك أن ذكره للمرتين إنما هو
أمر بإيقاعه مرتين ونهي عن الجمع بينهما في مرة واحدة. ومن جهة أخرى
أنه لو كان اللفظ محتملا للأمرين لكان الواجب حمله على إثبات الحكم في
إيجاب الفائدتين، وهو الأمر بتفريق الطلاق متى أراد أن يطلق اثنتين
وبيان حكم الرجعة إذا طلق كذلك، فيكون اللفظ مستوعبا للمعنيين. وقوله
تعالى: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ} وإن كان ظاهره الخبر فإن معناه الأمر،
كقوله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ
ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ} وما جرى
هذا المجرى مما هو في صيغة الخبر
(1/458)
ومعناه
الأمر والدليل على أنه أمر وليس بخبر، أنه لو كان خبرا لوجد مخبره على
ما أخبر به; لأن أخبار الله لا تنفك من وجود مخبراتها; فلما وجدنا
الناس قد يطلقون الواحدة والثلاث معا، ولو كان قوله تعالى: {الطَّلاقُ
مَرَّتَانِ} اسما للخبر لاستوعب جميع ما تحته، ثم وجدنا في الناس من
يطلق لا على الوجه المذكور في الآية، علمنا أنه لم يرد الخبر وأنه تضمن
أحد معنيين: إما الأمر بتفريق الطلاق متى أردنا الإيقاع، أو الإخبار عن
المسنون المندوب إليه منه. وأولى الأشياء حمله على الأمر; إذ قد ثبت
أنه لم يرد به حقيقة الخبر; لأنه حينئذ يصير بمعنى قوله طلقوا مرتين
متى أردتم الطلاق وذلك يقتضي الإيجاب، وإنما ينصرف إلى الندب بدلالة،
ويكون كما قال صلى الله عليه وسلم: "الصلاة مثنى مثنى والتشهد في كل
ركعتين وتمسكن وخشوع" فهذه صيغة الخبر، والمراد الأمر بالصلاة على هذه
الصفة. وعلى أنه إن حمل على أن المراد بيان المسنون من الطلاق كانت
دلالته قائمة على حظر جمع الاثنين أو الثلاث; لأن قوله: {الطَّلاقُ
مَرَّتَانِ} منتظم لجميع الطلاق المسنون، فلا يبقى شيء من مسنون الطلاق
إلا وقد انطوى تحت هذا اللفظ، فإذا ما خرج عنه فهو على خلاف السنة،
فثبت بذلك أن من جمع اثنتين أو ثلاثا في كلمة فهو مطلق لغير السنة.
فانتظمت هذه الآية الدلالة على معان: منها أن مسنون الطلاق التفريق بين
أعداد الثلاث إذا أراد أن يطلق ثلاثا. ومنها أن له أن يطلق اثنتين في
مرتين. ومنها أن ما دون الثلاث تثبت معه الرجعة. ومنها أنه إذا طلق
اثنتين في الحيض وقعتا; لأن الله قد حكم بوقوعهما. ومنها أنه نسخ هذه
الآية الزيادة على الثلاث، على ما روي عن ابن عباس وغيره أنهم كانوا
يطلقون ما شاءوا من العدد ثم يراجعون، فقصروا على الثلاث ونسخ به ما
زاد. ففي هذه الآية دلالة على حكم العدد المسنون من الطلاق، وليس فيها
ذكر الوقت المسنون فيه إيقاع الطلاق، وقد بين الله ذلك في قوله تعالى:
{فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} [الطلاق: 1] وبين النبي صلى الله
عليه وسلم طلاق العدة, فقال لابن عمر حين طلق امرأته وهي حائض: "ما
هكذا أمرك الله إنما طلاق العدة أن تطلقها طاهرا من غير جماع أو حاملا
وقد استبان حملها" فتلك العدة التي أمر الله أن يطلق لها النساء; فكان
طلاق السنة معقودا بوصفين: أحدهما: العدد، والآخر: الوقت. فأما العدد
فأن لا يزيد في طهر واحد على واحدة، وأما الوقت فأن يطلقها طاهرا من
غير جماع أو حاملا قد استبان حملها.
وقد اختلف أهل العلم في طلاق السنة لذوات الأقراء، فقال أصحابنا: أحسن
الطلاق أن يطلقها إذا طهرت قبل الجماع ثم يتركها حتى تنقضي عدتها، وإن
أراد أن يطلقها ثلاثا طلقها عند كل طهر واحدة قبل الجماع وهو قول
الثوري. وقال أبو حنيفة: وبلغنا
(1/459)
عن
إبراهيم عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهم كانوا يستحبون أن
لا يزيدوا في الطلاق على واحدة حتى تنقضي العدة، وأن هذا عندهم أفضل من
أن يطلقها ثلاثا عند كل طهر واحدة.
وقال مالك وعبد العزيز بن أبي سلمة الماجشون والليث بن سعد والحسن بن
صالح والأوزاعي طلاق السنة أن يطلقها في طهر قبل الجماع تطليقة واحدة
ويكرهون أن يطلقها ثلاثا في ثلاثة أطهار، لكنه إن لم يرد رجعتها تركها
حتى تنقضي عدتها من الواحدة. وقال الشافعي فيما رواه عنه المزني: لا
يحرم عليه أن يطلقها ثلاثا، ولو قال لها أنت طالق ثلاثا للسنة وهي طاهر
من غير جماع، طلقت ثلاثا معا. قال أبو بكر: فنبدأ بالكلام على الشافعي
في ذلك، فنقول: إن دلالة الآية التي تلونا ظاهرة في بطلان هذه المقالة;
لأنها تضمنت الأمر بإيقاع الاثنتين في مرتين، فمن أوقع الاثنتين في مرة
فهو مخالف لحكمها; ومما يدل على ذلك قوله تعالى: {لا تُحَرِّمُوا
طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ} [المائدة: 87] وظاهره يقتضي
تحريم الثلاث لما فيها من تحريم ما أحل لنا من الطيبات. والدليل على أن
الزوجات قد تناولهن هذا العموم قوله تعالى: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ
لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} [النساء: 3] فوجب بحق العموم حظر الطلاق
الموجب لتحريمها، ولولا قيام الدلالة في إباحة إيقاع الثلاث في وقت
السنة وإيقاع الواحدة لغير المدخول لاقتضت الآية حظره. ومن جهة أخرى من
دلائل الكتاب، أن الله تعالى لم يبح الطلاق ابتداء لمن تجب عليها العدة
إلا مقرونا بذكر الرجعة. منها قوله تعالى: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ
فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ} وقوله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ
يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} وقوله تعالى:
{وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ
فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} أو
فارقوهن بمعروف; فلم يبح الطلاق المبتدأ لذوات العدد إلا مقرونا بذكر
الرجعة. وحكم الطلاق مأخوذ من هذه الآيات، لولاها لم يكن الطلاق من
أحكام الشرع، فلم يجز لنا إثباته مسنونا إلا على هذه الشريطة وبهذا
الوصف. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "من أدخل في أمرنا ما ليس منه
فهو رد" وأقل أحوال هذا اللفظ حظر خلاف ما تضمنته الآيات التي تلونا من
إيقاع الطلاق المبتدأ مقرونا بما يوجب الرجعة.
ويدل عليه من جهة السنة ما حدثنا محمد بن بكر قال: حدثنا أبو داود قال:
حدثنا القعنبي عن مالك عن نافع عن ابن عمر: أنه طلق امرأته وهي حائض
على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأل عمر بن الخطاب رسول الله
صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فقال: "مره فليراجعها ثم ليمسكها حتى تطهر
ثم تحيض ثم تطهر ثم إن شاء أمسك بعد ذلك وإن شاء طلق قبل أن يمس، فتلك
العدة التي أمر الله أن يطلق لها النساء". وحدثنا محمد بن بكر قال:
حدثنا أبو داود قال: حدثنا أحمد بن صالح قال: حدثنا عنبسة قال: حدثنا
يونس عن ابن شهاب قال:
(1/460)
أخبرني
سالم بن عبد الله عن أبيه: أنه طلق امرأته وهي حائض، فذكر ذلك عمر
لرسول الله، فتغيظ رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال: "مره
فليراجعها ثم ليمسكها حتى تطهر ثم تحيض ثم تطهر ثم إن شاء طلقها طاهرا
قبل أن يمس فذلك الطلاق للعدة كما أمر الله". فذكر سالم في رواية
الزهري عنه ونافع عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم أمره أن
يراجعها ثم يدعها حتى تطهر ثم تحيض ثم تطهر ثم إن شاء طلق أو أمسك.
وروي عن عطاء الخراساني عن الحسن عن ابن عمر مثله. وروى يونس وأنس بن
سيرين وسعيد بن جبير وزيد بن أسلم عن ابن عمر، أن النبي صلى الله عليه
وسلم أمره أن يراجعها حتى تطهر، ثم قال: "إن شاء طلق وإن شاء أمسك";
والأخبار الأول أولى لما فيها من الزيادة. ومعلوم أن جميع ذلك إنما ورد
في قصة واحدة، وإنما ساق بعضهم لفظ النبي صلى الله عليه وسلم على وجهه
وحذف بعضهم ذكر الزيادة إغفالا أو نسيانا، فوجب استعماله بما فيه من
زيادة ذكر الحيضة; إذ لم يثبت أن الشارع صلى الله عليه وسلم قال ذلك
عاريا من ذكر الزيادة وذكره مرة مقرونا بها; إذ كان فيه إثبات القول
منه في حالين، وهذا مما لا نعلمه، فغير جائز إثباته. وعلى أنه لو كان
الشارع صلى الله عليه وسلم قد قال ذلك في حالين، لم يخل من أن يكون
المتقدم منهما هو الخبر الذي فيه الزيادة والآخر متأخرا عنه فيكون
ناسخا له، وأن يكون الذي لا زيادة فيه هو المتقدم، ثم ورد بعده ذكر
الزيادة فيكون ناسخا للأول بإثبات الزيادة. ولا سبيل لنا إلى العلم
بتاريخ الخبرين، لا سيما وقد أشار الجميع من الرواة إلى قصة واحدة;
فإذا لم يعلم التاريخ وجب إثبات الزيادة من وجهين: أحدهما: أن كل شيئين
لا يعلم تاريخهما فالواجب الحكم بهما معا ولا يحكم بتقدم أحدهما على
الآخر، كالغرقى والقوم يقع عليهم البيت، وكما نقول في البيعين من قبل
رجل واحد: إذا قامت عليهما البينة ولم يعلم تاريخهما فيحكم بوقوعهما
معا فكذلك هذان الخبران وجب الحكم بهما معا; إذ لم يثبت لهما تاريخ،
فلم يثبت الحكم إلا مقرونا بالزيادة المذكورة فيه والوجه الآخر: أنه قد
ثبت أن الشارع قد ذكر الزيادة وأثبتها وأمر باعتبارها بقوله: "مره
فليدعها حتى تطهر ثم تحيض ثم تطهر ثم يطلقها إن شاء" لورودها من طرق
صحيحة; فإذا كانت ثابتة في وقت واحتمل أن تكون منسوخة بالخبر الذي فيه
حذف الزيادة واحتمل أن تكون غير منسوخة، لم يجز لنا إثبات النسخ
بالاحتمال ووجب بقاء حكم الزيادة، ولما ثبت ذلك وأمر الشارع صلى الله
عليه وسلم بالفصل بين التطليقة الموقعة في الحيض وبين الأخرى التي أمره
بإيقاعها بحيضة ولم يبح له إيقاعها في الطهر الذي يلي الحيضة، ثبت
إيجاب الفصل بين كل تطليقتين بحيضة وأنه غير جائز له الجمع بينهما في
طهر واحد; لأنه صلى الله تعالى عليه وسلم كما أمره بإيقاعها في الطهر
ونهاه عنها في الحيض فقد أمره أيضا بأن لا يوقعها في الطهر الذي يلي
الحيضة التي طلقها فيه، ولا فرق بينهما.
(1/461)
فإن قيل:
قد روي عن أبي حنيفة أنه إذا طلقها ثم راجعها في ذلك الطهر جاز له
إيقاع تطليقة أخرى في ذلك الطهر فقد خالف بذلك ما أردت تأكيده من
الزيادة المذكورة في الخبر. قيل له: قد ذكرنا هذه المسألة في الأصول،
ومنعه من إيقاع التطليقة الثانية في ذلك الطهر وإن راجعها حتى يفصل
بينهما بحيضة، وهذا هو الصحيح والرواية الأخرى غير معمول عليها. وقد
روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في النهي عن إيقاع الثلاث مجموعة بما
لا مساغ للتأويل فيه، وهو ما حدثنا ابن قانع قال: حدثنا محمد بن شاذان
الجوهري قال: حدثنا معلى بن منصور قال: حدثنا سعيد بن زريق: أن عطاء
الخراساني حدثهم عن الحسن قال: حدثنا عبد الله بن عمر أنه طلق امرأته
تطليقة وهي حائض ثم أراد أن يتبعها بتطليقتين أخريين عند القرأين
الباقيين، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "يا ابن عمر ما
هكذا أمرك الله إنك قد أخطأت السنة، والسنة أن تستقبل الطهر فتطلق لكل
قرء" فأمرني رسول الله فراجعتها وقال: "إذا هي طهرت فطلق عند ذلك أو
أمسك" فقلت: يا رسول الله أرأيت لو كنت طلقتها ثلاثا أكان لي أن
أراجعها؟ قال: "لا، كانت تبين وتكون معصية"، فأخبر صلى الله عليه وسلم
نصا في هذا الحديث بكون الثلاث معصية.
فإن قيل: لما قال النبي صلى الله تعالى عليه وسلم في سائر أخبار ابن
عمر حين ذكر الطهر الذي هو وقت لإيقاع طلاق السنة: "ثم ليطلقها إن شاء"
ولم يخصص ثلاثا مما دونها، كان ذلك إطلاقا للاثنتين والثلاث معا. قيل
له: لما ثبت بما قدمنا من إيجابه الفصل بين التطليقتين بحيضة، ثم عطف
عليه بقوله: "ثم ليطلقها إن شاء" علمنا أنه إنما أراد واحدة لا أكثر
منها، لاستحالة إرادته نسخ ما أوجبه بديا من إيجابه الفصل بينهما وما
اقتضاه ذلك من حظر الجمع بين تطليقتين; إذ غير جائز وجود الناسخ
والمنسوخ في خطاب واحد; لأن النسخ لا يصح إلا بعد استقرار الحكم
والتمكين من الفعل، ألا ترى أنه لا يجوز أن يقول في خطاب واحد: قد أبحت
لكم هذا الناب من السباع وقد حظرته عليكم؟ لأن ذلك عبث، والله تعالى
منزه عن فعل العبث. وإذا ثبت ذلك علمنا أن قوله: "ثم ليطلقها إن شاء"
مبني على ما تقدم من حكمه في ابتداء الخطاب، وهو أن لا يجمع بين اثنتين
في طهر واحد، وأيضا فلو خلا هذا اللفظ من دلالة حظر الجمع بين
التطليقتين في طهر واحد لما دل على إباحته لوروده مطلقا عاريا من ذكر
ما تقدم; لأن قوله: "ثم ليطلقها إن شاء" لم يقتض اللفظ أكثر من واحد;
وكذلك نقول في نظائر ذلك من الأوامر: أنه إنما يقتضي أدنى ما يتناوله
الاسم وإنما يصرف إلى الأكثر بدلالة، كقول الرجل لآخر طلق امرأتي أن
الذي يجوز له إيقاعه بالأمر إنما هو تطليقة واحدة لا أكثر منها، وكذلك
قال أصحابنا فيمن قال لعبده تزوج أنه يقع على امرأة واحدة، فإن تزوج
(1/462)
اثنتين لم
يجز نكاح واحدة منهما إلا أن يقول المولى أردت اثنتين وكذلك قوله:
"فليطلقها إن شاء" لم يقتض إلا تطليقة واحدة، وما زاد عليها فإنما يثبت
بدلالة. فهذا الذي قدمناه من دلالة الكتاب والسنة على حظر جمع الثلاث
والاثنتين في كلمة واحدة، وقد ورد بمثله اتفاق السلف، من ذلك ما روى
الأعمش عن أبي إسحاق عن أبي الأحوص عن عبد الله أنه قال طلاق السنة أن
يطلقها تطليقة واحدة وهي طاهر في غير جماع، فإذا حاضت وطهرت طلقها
أخرى; وقال إبراهيم مثل ذلك. وروى زهير عن أبي إسحاق عن أبي الأحوص عن
عبد الله قال: من أراد الطلاق الذي هو الطلاق فليطلق عند كل طهر من غير
جماع، فإن بدا له أن يراجعها راجعها وأشهد رجلين، وإذا كانت الثانية في
مرة أخرى فكذلك، فإن الله تعالى يقول: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ} وروى ابن
سيرين عن علي قال: "لو أن الناس أصابوا حد الطلاق ما ندم أحد على امرأة
يطلقها وهي طاهر من غير جماع أو حاملا قد تبين حملها، فإذا بدا له أن
يراجعها راجعها وإن بدا له أن يخلي سبيلها خلى سبيلها". وحدثنا محمد بن
بكر قال: حدثنا أبو داود قال: حدثنا حميد بن مسعدة قال: حدثنا إسماعيل
قال: أخبرنا أيوب عن عبد الله بن كثير عن مجاهد قال: كنت عند ابن عباس،
فجاءه رجل فقال له إنه طلق امرأته ثلاثا، قال: فسكت ابن عباس حتى ظننت
أنه رادها إليه، ثم قال: ينطلق أحدكم فيركب الأحموقة ثم يقول يا ابن
عباس يا ابن عباس وإن الله تعالى قال: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ
يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً} وإنك لم تتق الله فلم أجد لك مخرجا، عصيت ربك
وبانت منك امرأتك، وإن الله تعالى قال: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا
طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} [الطلاق: 1]
أي قبل عدتهن وعن عمران بن حصين أن رجلا قال له: إني طلقت امرأتي
ثلاثا؟ فقال: أثمت بربك وحرمت عليك امرأتك، وأبو قلابة قال: سئل ابن
عمر عن رجل طلق امرأته ثلاثا قبل أن يدخل بها، فقال: لا أرى من فعل ذلك
إلا قد حرج، وروى ابن عون عن الحسن قال: كانوا ينكلون من طلق امرأته
ثلاثا في مقعد واحد. وروي عن ابن عمر أنه كان إذا أتي برجل طلق امرأته
ثلاثا في مجلس واحد أوجعه ضربا وفرق بينهما فقد ثبت عن هؤلاء الصحابة
حظر جمع الثلاث، ولا يروى عن أحد من الصحابة خلافه، فصار إجماعا.
فإن قيل: قد روي أن عبد الرحمن بن عوف طلق امرأته ثلاثا في مرضه وأن
ذلك لم يعب عليه، ولو كان جمع الثلاث محظورا لما فعله، وتركهم النكير
عليه دليل على أنهم رأوه سائغا له. قيل له: ليس في الحديث الذي ذكرت
ولا في غيره أنه طلق ثلاثا في كلمة واحدة، وإنما أراد أنه طلقها ثلاثا
على الوجه الذي جوز عليه الطلاق; وقد بين ذلك في أحاديث رواها جماعة عن
الزهري عن طلحة بن عبد الله بن عوف: أن عبد الرحمن بن
(1/463)
عوف طلق
امرأته تماضر تطليقتين، ثم قال لها في مرضه: إن أخبرتني بطهرك لأطلقنك
فبين في هذا الحديث أنه لم يطلقها ثلاثا مجتمعة. وقد روي في حديث فاطمة
بنت قيس شبيها بهذا، وهو ما حدثنا محمد بن بكر قال: حدثنا أبو داود
قال: حدثنا موسى بن إسماعيل قال: حدثنا أبان بن يزيد العطار قال: حدثنا
يحيى بن أبي كثير قال: حدثني أبو سلمة بن عبد الرحمن، أن فاطمة بنت قيس
حدثته: أن أبا حفص بن المغيرة طلقها، وأن خالد بن الوليد ونفرا من بني
مخزوم أتوا النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فقالوا: يا نبي الله إن أبا
حفص بن المغيرة طلق امرأته ثلاثا وإنه ترك لها نفقة يسيرة فقال: "لا
نفقة لها" وساق الحديث. فيقول المحتج لإباحة إيقاع الثلاث معا بأنهم
قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: إنه طلقها ثلاثا، فلم ينكره. وهذا خبر
قد أجمل فيه ما فسر في غيره، وهو ما حدثنا محمد بن بكر قال: حدثنا أبو
داود قال: حدثنا يزيد بن خالد الرملي قال: حدثنا الليث، عن عقيل، عن
ابن شهاب، عن أبي سلمة، عن فاطمة بنت قيس، أنها أخبرته أنها كانت عند
أبي حفص بن المغيرة وأن أبا حفص بن المغيرة طلقها آخر ثلاث تطليقات،
فزعمت أنها جاءت رسول الله صلى الله عليه وسلم وذكر الحديث، قال أبو
داود: وكذلك رواه صالح بن كيسان وابن جريج وشعيب بن أبي حمزة كلهم عن
الزهري، فبين في هذا الحديث ما أجمل في الحديث الذي قبله أنه إنما
طلقها آخر ثلاث تطليقات، وهو أولى لما فيه من الإخبار عن حقيقة الأمر;
والأول فيه ذكر الثلاث ولم يذكر إيقاعهن معا، فهو محمول على أنه فرقهن
على ما ذكر في هذا الحديث الذي قبله. فثبت بما ذكرنا من دلائل الكتاب
والسنة واتفاق السلف أن جمع الثلاث محظور.
فإن قيل فيما قدمنا من دلالة قوله تعالى: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ} على
حظر جمع الاثنتين في كلمة واحدة: إنه من حيث دل على ما ذكرت فهو دليل
على أن له أن يطلقها في طهر واحد مرتين; إذ ليس في الآية تفريقهما في
طهرين وفيه إباحة تطليقتين في مرتين، وذلك يقتضي إباحة تفريق الاثنتين
في طهر واحد، وإذا جاز ذلك في طهر واحد جاز جمعهما بلفظ واحد; إذ لم
يفرق أحد بينهما. قيل له: هذا غلط من قبل أن ذلك اعتبار يؤدي إلى إسقاط
حكم اللفظ ورفعه رأسا وإزالة فائدته، وكل قول يؤدي إلى رفع حكم اللفظ
فهو ساقط، وإنما صار مسقطا لفائدة اللفظ وإزالة حكمه من قبل أن قوله
تعالى: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ} قد اقتضى تفريق الاثنتين وحظر جمعهما في
لفظ واحد على ما قدمنا من بيانه، وإباحتك لتفريقهما في طهر واحد يؤدي
إلى إباحة جمعهما في كلمة واحدة، وفي ذلك رفع حكم اللفظ; ومتى حظرنا
تفريقهما وجمعهما في طهر واحد وأبحناه في طهرين، فليس فيه رفع حكم
اللفظ، بل فيه استعماله على الخصوص في بعض المواضع دون بعض،
(1/464)
فلم يؤد
قولنا بالتفريق في طهرين إلى رفع حكمه وإنما أوجب تخصيصه; إذ كان اللفظ
موجبا للتفريق; واتفق الجميع على أنه إذا أوجب التفريق فرقهما في
طهرين، فخصصنا تفريقهما في طهر واحد بدلالة الاتفاق مع استعمال حكم
اللفظ; ومتى أبحنا التفريق في طهر واحد أدى ذلك إلى رفع حكم اللفظ رأسا
حتى يكون ذكره للطلاق مرتين وتركه سواء; وهذا قول ساقط مردود.
واحتج من أباح ذلك أيضا بحديث عويمر العجلاني حين لاعن النبي صلى الله
عليه وسلم بينه وبين امرأته، فلما فرغا من لعانهما قال: كذبت عليها إن
أمسكتها هي طالق ثلاثا ففارقها قبل أن يفرق النبي صلى الله عليه وسلم
بينهما. قال: فلما لم ينكر الشارع صلى الله عليه وسلم إيقاع الثلاث
معا، دل على إباحته. وهذا الخبر لا يصح للشافعي الاحتجاج به; لأن من
مذهبه أن الفرقة قد كانت وقعت بلعان الزوج قبل لعان المرأة فبانت منه
ولم يلحقها طلاق، فكيف كان ينكر عليها طلاقا لم يقع ولم يثبت حكمه.
فإن قيل: فما وجهه على مذهبك؟ قيل له جائز أن يكون ذلك قبل أن يسن
الطلاق للعدة ومنع الجمع بين التطليقات في طهر واحد، فلذلك لم ينكر
عليه الشارع صلى الله عليه وسلم وجائز أيضا أن تكون الفرقة لما كانت
مستحقة من غير جهة الطلاق، لم ينكر عليه إيقاعها بالطلاق. وأما من قال
سنة الطلاق أن لا يطلق إلا واحدة، وهو ما حكيناه عن مالك بن أنس والليث
والحسن بن حي والأوزاعي; فإن الذي يدل على إباحة الثلاث في الأطهار
المتفرقة قوله تعالى: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ
أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} وفي ذلك إباحة لإيقاع الاثنتين; ولما
اتفقنا على أنه لا يجمعهما في طهر واحد وجب استعمال حكمهما في الطهرين،
وقد روي في قوله تعالى: {أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} أنه للثالثة، وفي
ذلك تخيير له في إيقاع الثلاث قبل الرجعة; ويدل عليه قوله تعالى: {يَا
أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ
لِعِدَّتِهِنَّ} [الطلاق: 1] قد انتظم إيقاع الثلاث للعدة وذلك; لأنه
معلوم أن المراد لأوقات العدة كما بينه الشارع صلى الله عليه وسلم في
قوله: "يطلقها طاهرا من غير جماع أو حاملا قد استبان حملها فتلك العدة
التي أمر الله أن تطلق لها النساء". وإذا كان المراد به أوقات الأطهار
تناول الثلاث، كقوله تعالى: {أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ}
[الإسراء: 78] قد عقل منه تكرار فعل الصلاة لدلوكها في سائر الأيام;
كذلك قوله: {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} [الطلاق: 1] لما كان
عبارة عن أوقات الأطهار اقتضى تكرار الطلاق في سائر الأوقات، وأيضا لما
جاز له إيقاع الطلاق في الطهر الأول; لأنها طاهر من غير جماع طهرا لم
يوقع فيه طلاقا، جاز إيقاعه في الطهر الثاني لهذه العلة، وأيضا لما
اتفقوا على أنه لو
(1/465)
راجعها
جاز له إيقاع الطلاق في الطهر الثاني، وجب أن يجوز ذلك له إذا لم
يراجعها، لوجود المعنى الذي من أجله جاز إيقاعه في الطهر الأول; إذ لا
حظ للرجعة في إباحة الطلاق ولا في حظره، ألا ترى أنه لو راجعها ثم
جامعها في ذلك الطهر لم يجز له إيقاع الطلاق فيه ولم يكن للرجعة تأثير
في إباحته؟ فوجب أن يجوز له أن يطلقها في الطهر الثاني قبل الرجعة كما
جاز له ذلك لو لم يراجع.
فإن قيل: لا فائدة في الثانية والثالثة; لأنه إن أراد أن يبينها أمكنه
ذلك بالواحدة بأن يدعها حتى تنقضي عدتها، وقال تعالى: {وَلا
تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُواً} [البقرة: 231] وهذا هو الفرق بينه
إذا راجعها أو لم يراجعها في إباحة الثانية والثالثة إذا راجع، وحظرهما
إذا لم يراجع. قيل له: في إيقاع الثانية والثالثة فوائد بتعجلها لو لم
يوقع الثانية والثالثة لم تحصل له، وهو أن تبين منه بإيقاع الثالثة قبل
انقضاء عدتها، فيسقط ميراثها منه لو مات ويتزوج أختها وأربعا سواها على
قول من يجيز ذلك في العدة، فلم يخل في إيقاع الثانية والثالثة من فوائد
وحقوق تحصل له، فلم تكن لغوا مطرحا، وجاز من أجلها إيقاع ما بقي من
طلاقها في أوقات السنة كما يجوز ذلك لو راجعها. وبالله التوفيق.
(1/466)
باب ذكر الاختلاف في الطلاق بالرجال
قال أبو بكر رحمه الله: اتفق السلف ومن بعدهم من فقهاء الأمصار على أن
الزوجين المملوكين خارجان من قوله تعالى: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ
فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} واتفقوا على أن
الرق يوجب نقصان الطلاق، فقال علي وعبد الله: الطلاق بالنساء يعني أن
المرأة إن كانت حرة فطلاقها ثلاث حرا كان زوجها أو عبدا، وأنها إن كانت
أمة فطلاقها اثنتان حرا كان زوجها أو عبدا; وهو قول أبي حنيفة وأبي
يوسف وزفر ومحمد والثوري والحسن بن صالح. وقال عثمان وزيد بن ثابت وابن
عباس: الطلاق بالرجال يعنون أن الزوج إن كان عبدا فطلاقه اثنتان سواء
كانت الزوجة حرة أو أمة، وإن كان حرا فطلاقه ثلاث حرة كانت الزوجة أو
أمة; وهو قول مالك والشافعي. وقال ابن عمر: أيهما رق نقص الطلاق برقه
وهو قول عثمان البتي. وقد روى هشيم عن منصور بن زاذان عن عطاء عن ابن
عباس قال: الأمر إلى المولى في الطلاق أذن له العبد أو لم يأذن ويتلو
هذه الآية {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً عَبْداً مَمْلُوكاً لا يَقْدِرُ
عَلَى شَيْءٍ} [النحل: 75] روى هشام عن أبي الزبير عن أبي معبد مولى
ابن عباس، أن غلاما كان لابن عباس طلق امرأته تطليقتين، فقال له ابن
عباس: ارجعها لا أم لك فإنه ليس لك من الأمر شيء. فأبى، فقال: هي لك
فاتخذها. فهذا يدل على أنه رأى طلاقه واقعا لولاه لم يقل له ارجعها
وقوله: هي لك يدل على أنها كانت أمة. وجائز أن يكون الغلام حرا;
(1/466)
لأنهما
إذا كانا مملوكين فلا خلاف أن رقهما ينقص الطلاق. وقد روي في ذلك حديث
يدل على أنه كان لا يرى طلاق العبد شيئا، ويرويه عن النبي صلى الله
عليه وسلم وهو ما حدثنا محمد بن بكر قال: حدثنا أبو داود قال: حدثنا
زهير بن حرب قال: حدثنا يحيى بن سعيد قال: حدثنا علي بن المبارك قال:
حدثنا يحيى بن أبي كثير أن عمر بن معتب أخبره: أن أبا حسن مولى بني
نوفل أخبره: أنه استفتى ابن عباس في مملوك تحته مملوكة فطلقها تطليقتين
ثم أعتقا بعد ذلك، هل يصلح له أن يخطبها بعد ذلك؟ قال: نعم، قضى بذلك
رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم. قال أبو داود: وقد سمعت أحمد بن
حنبل قال: قال عبد الرزاق: قال ابن المبارك لعمر: من أبو حسن هذا؟ لقد
تحمل صخرة عظيمة قال أبو داود: وأبو حسن هذا روى عنه الزهري وكان من
الفقهاء.
قال أبو بكر: وهذا الحديث يرده الإجماع; لأنه لا خلاف بين الصدر الأول
ومن بعدهم من الفقهاء أنهما إذا كانا مملوكين أنها تحرم بالاثنتين ولا
تحل له إلا بعد زوج.
والذي يدل على أن الطلاق بالنساء، حديث ابن عمر وعائشة عن النبي صلى
الله تعالى عليه وسلم: "طلاق الأمة تطليقتان وعدتها حيضتان" وقد تقدم
ذكر سنده. وقد استعملت الأمة هذين الحديثين في نقصان العدة، وإن كان
وروده من طريق الآحاد، فصار في حيز التواتر; لأن ما تلقاه الناس
بالقبول من أخبار الآحاد فهو عندنا في معنى المتواتر لما بيناه في
مواضع، ولم يفرق الشارع في قوله: "وعدتها حيضتان" بين من كان زوجها حرا
أو عبدا، فثبت بذلك اعتبار الطلاق بها دون الزوج. ودليل آخر: وهو أنه
لما اتفق الجميع على أن الرق يوجب نقص الطلاق كما يوجب نقص الحد، ثم
كان الاعتبار في نقصان الحد برق من يقع به دون من يوقعه، وجب أن يعتبر
نقصان الطلاق برق من يقع به دون من يوقعه، وهو المرأة. ويدل عليه أنه
لا يملك تفريق الثلاث عليها على الوجه المسنون وإن كان حرا إذا كانت
الزوجة أمة. ألا ترى أنه إذا أراد تفريق الثلاث عليها في أطهار متفرقة
لم يمكنه إيقاع الثالثة بحال؟ فلو كان مالكا للجميع لملك التفريق على
الوجه المسنون كما لو كانت حرة، وفي ذلك دليل على أنه غير مالك للثلاث
إذا كانت الزوجة أمة. والله أعلم.
(1/467)
ذكر الحجاج لإيقاع الطلاق الثلاث معا
قال أبو بكر: قوله تعالى: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ
بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} الآية، يدل على وقوع الثلاث
معا مع كونه منهيا عنها، وذلك; لأن قوله: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ} قد
أبان عن حكمه إذا أوقع اثنتين بأن يقول أنت طالق أنت طالق في طهر واحد;
وقد
(1/467)
بينا أن
ذلك خلاف السنة، فإذا كان في مضمون الآية الحكم بجواز وقوع الاثنتين
على هذا الوجه، دل ذلك على صحة وقوعهما لو أوقعهما معا; لأن أحدا لم
يفرق بينهما. وفيها الدلالة عليه من وجه آخر، وهو قوله تعالى: {فَلا
تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ} فحكم
بتحريمها عليه بالثالثة بعد الاثنتين ولم يفرق بين إيقاعهما في طهر
واحد أو في أطهار، فوجب الحكم بإيقاع الجميع على أي وجه أوقعه من مسنون
أو غير مسنون ومباح أو محظور.
فإن قيل: قدمت بديا في معنى الآية أن المراد بها بيان المندوب إليه
والمأمور به من الطلاق، وإيقاع الطلاق الثلاث معا خلاف المسنون عندك،
فكيف تحتج بها في إيقاعها على غير الوجه المباح والآية لم تتضمنها على
هذا الوجه؟ قيل له: قد دلت الآية على هذه المعاني كلها من إيقاع
الاثنتين والثلاث لغير السنة، وأن المندوب إليه والمسنون تفريقها في
الأطهار، وليس يمتنع أن يكون مراد الآية جميع ذلك; ألا ترى أنه لو قال
طلقوا ثلاثا في الأطهار وإن طلقتم جميعا معا وقعن كان جائزا؟ فإذا لم
يتناف المعنيان واحتملتهما الآية وجب حملها عليهما.
فإن قيل: معنى هذه الآية محمول على ما بينه بقوله: {فَطَلِّقُوهُنَّ
لِعِدَّتِهِنَّ} [الطلاق: 1] وقد بين الشارع الطلاق للعدة، وهو أن
يطلقها في ثلاثة أطهار إن أراد إيقاع الثلاث، ومتى خالف ذلك لم يقع
طلاقه. قيل له: نستعمل الآيتين على ما تقتضيانه من أحكامهما، فنقول: إن
المندوب إليه المأمور به هو الطلاق للعدة على ما بينه في هذه الآية،
وإن طلق لغير العدة وجمع الثلاث وقعن لما اقتضته الآية الأخرى، وهي
قوله تعالى: {لطَّلاقُ مَرَّتَانِ} وقوله تعالى: {فَإِنْ طَلَّقَهَا
فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ} إذ ليس في قوله: {فَطَلِّقُوهُنَّ}
[الطلاق: 1] نفي لما اقتضته هذه الآية الأخرى; على أن في فحوى الآية
التي فيها ذكر الطلاق للعدة دلالة على وقوعها إذا طلق لغير العدة، وهو
قوله تعالى: {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} [الطلاق: 1] إلى قوله
تعالى: {وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ
فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ} [الطلاق: 2] فلولا أنه إذا طلق لغير العدة وقع
ما كان ظالما لنفسه بإيقاعه ولا كان ظالما لنفسه بطلاقه. وفي هذه الآية
دلالة على وقوعها إذا طلق لغير العدة، ويدل عليه قوله تعالى في نسق
الخطاب: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً} [الطلاق: 2]
يعني والله أعلم: أنه إذا أوقع الطلاق على ما أمره الله كان له مخرجا
مما أوقع إن لحقه ندم وهو الرجعة. وعلى هذا المعنى تأوله ابن عباس حين
قال للسائل الذي سأله وقد طلق ثلاثا: إن الله يقول: {وَمَنْ يَتَّقِ
اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً} [الطلاق: 2] وإنك لم تتق الله فلم
أجد لك مخرجا، عصيت ربك وبانت منك امرأتك، ولذلك قال علي بن
(1/468)
أبي طالب
كرم الله وجهه: "لو أن الناس أصابوا حد الطلاق ما ندم رجل طلق امرأته".
فإن قيل: لما كان عاصيا في إيقاع الثلاث معا لم يقع; إذ ليس هو الطلاق
المأمور به، كما لو وكل رجل رجلا بأن يطلق امرأته ثلاثا في ثلاثة أطهار
لم يقع إذا جمعهن في طهر واحد. قيل له: أما كونه عاصيا في الطلاق فغير
مانع صحة وقوعه لما دللنا عليه فيما سلف، ومع ذلك فإن الله جعل الظهار
منكرا من القول وزورا وحكم مع ذلك بصحة وقوعه، فكونه عاصيا لا يمنع
لزوم حكمه، والإنسان عاص لله في ردته عن الإسلام ولم يمنع عصيانه من
لزوم حكمه وفراق امرأته، وقد نهاه الله عن مراجعتها ضرارا بقوله تعالى:
{وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَاراً لِتَعْتَدُوا} فلو راجعها وهو يريد
ضرارها لثبت حكمها وصحت رجعته. وأما الفرق بينه وبين الوكيل، فهو أن
الوكيل إنما يطلق لغيره وعنه يعبر، وليس يطلق لنفسه ولا يملك ما يوقعه،
ألا ترى أنه لا يتعلق به شيء من حقوق الطلاق وأحكامه؟ فلما لم يكن
مالكا لما يوقعه وإنما يصح إيقاعه لغيره من جهة الأمر; إذ كانت أحكامه
تتعلق بالأمر دونه، لم يقع متى خالف الأمر، وأما الزوج فهو مالك الطلاق
وبه تتعلق أحكامه وليس يوقع لغيره، فوجب أن يقع من حيث كان مالكا
للثلاث; وارتكاب النهي في طلاقه غير مانع وقوعه كما وصفنا في الظهار
والرجعة والردة وسائر ما يكون به عاصيا، ألا ترى أنه لو وطئ أم امرأته
بشبهة حرمت عليه امرأته؟ وهذا المعنى الذي ذكرناه من حكم الزوج في ملكه
للثلاث من الوجوه التي ذكرنا يدل على أنه إذا أوقعهن معا وقع; إذ هو
موقع لما ملك. ويدل عليه من جهة السنة حديث ابن عمر الذي ذكرنا سنده
حين قال: أرأيت لو طلقتها ثلاثا أكان لي أن أراجعها فقال النبي صلى
الله تعالى عليه وسلم: "لا، كانت تبين ويكون معصية" وحدثنا محمد بن بكر
قال: حدثنا أبو داود قال: حدثنا سليمان بن داود قال: حدثنا جرير بن
حازم، عن الزبير بن سعيد، عن عبد الله بن علي بن يزيد بن ركانة، عن
أبيه، عن جده، أنه طلق امرأته ألبتة، فأتى رسول الله صلى الله تعالى
عليه وسلم فقال: "ما أردت بالبتة؟" قال: واحدة، قال: "الله؟" قال: الله
قال: "هو على ما أردت" فلو لم تقع الثلاث إذا أرادها لما استحلفه بالله
ما أراد إلا واحدة. وقد تقدم ذكر أقاويل السلف فيه، وأنه يقع وهو
معصية; فالكتاب والسنة وإجماع السلف توجب إيقاع الثلاث معا وإن كانت
معصية.
وذكر بشر بن الوليد عن أبي يوسف أنه قال: كان الحجاج بن أرطاة خشنا،
وكان يقول: طلاق الثلاث ليس بشيء. وقال محمد بن إسحاق: الطلاق الثلاث
ترد إلى الواحدة; واحتج بما رواه عن داود بن الحصين عن عكرمة عن ابن
عباس قال طلق ركانة بن عبد يزيد امرأته ثلاثا في مجلس واحد، فحزن عليها
حزنا شديدا، فسأله رسول
(1/469)
الله صلى
الله تعالى عليه وسلم: "كيف طلقتها؟" فقال: طلقتها ثلاثا; قال: "في
مجلس واحد؟" قال: نعم; قال: "فإنما تلك واحدة فارجعها إن شئت" قال:
فرجعتها. وبما روى أبو عاصم عن ابن جريج عن ابن طاوس عن أبيه، أن أبا
الصهباء قال لابن عباس: ألم تعلم أن الثلاث كانت على عهد رسول الله صلى
الله عليه وسلم وأبي بكر وصدرا من خلافة عمر ترد إلى الواحدة؟ قال:
نعم.
وقد قيل إن هذين الخبرين منكران. وقد روى سعيد بن جبير ومالك بن الحارث
ومحمد بن إياس والنعمان بن أبي عياش، كلهم عن ابن عباس فيمن طلق امرأته
ثلاثا: أنه قد عصى ربه وبانت منه امرأته. وقد روي حديث أبي الصهباء على
غير هذا الوجه، وهو أن ابن عباس قال: كان الطلاق الثلاث على عهد رسول
الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وصدرا من خلافة عمر واحدة، فقال عمر:
لو أجزناه عليهم وهذا معناه عندنا أنهم إنما كانوا يطلقون ثلاثا
فأجازها عليهم. وقد روى ابن وهب قال: أخبرني عياش بن عبد الله الفهري
عن ابن شهاب عن سهل بن سعد: أن عويمرا العجلاني لما لاعن رسول الله صلى
الله عليه وسلم بينه وبين امرأته قال عويمر: كذبت عليها يا رسول الله
إن أمسكتها فهي طالق ثلاثا فطلقها ثلاثا قبل أن يأمره رسول الله صلى
الله عليه وسلم فأنفذ رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك عليه.
وما قدمنا من دلالة الآية والسنة والاتفاق يوجب إيقاع الطلاق في الحيض
وإن كان معصية; وزعم بعض الجهال ممن لا يعد خلافه أنه لا يقع إذا طلق
في الحيض، واحتج بما حدثنا محمد بن بكر قال: حدثنا أبو داود قال: حدثنا
أحمد بن صالح قال: حدثنا عبد الرزاق قال: أخبرنا ابن جريج قال: أخبرني
أبو الزبير أنه سمع عبد الرحمن بن أيمن مولى عروة يسأل ابن عمر وأبو
الزبير يسمع فقال: كيف ترى في رجل طلق امرأته حائضا؟ قال طلق ابن عمر
امرأته وهي حائض على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأل عمر رسول
الله صلى الله عليه وسلم فقال: إن عبد الله طلق وهي حائض فقال: فردها
علي ولم يرها شيئا وقال: "إذا طهرت فليطلق أو ليمسك". قيل له: هذا غلط
فقد رواه جماعة عن ابن عمر أنه اعتد بتلك التطليقة; من ذلك ما حدثنا
محمد بن بكر قال: حدثنا أبو داود قال: حدثنا القعنبي قال: حدثنا يزيد
بن إبراهيم عن محمد بن سيرين قال: حدثنا يونس بن جبير قال: سألت عبد
الله بن عمر، قال: قلت رجل طلق امرأته وهي حائض قال: تعرف عبد الله بن
عمر؟ قلت: نعم قال: فإنه طلق امرأته وهي حائض، فأتى عمر النبي صلى الله
عليه وسلم فسأله، فقال: "مره فليراجعها ثم ليطلقها في قبل عدتها" قال:
قلت: فيعتد بها؟ قال: "فمه؟ أرأيت إن عجز واستحمق" فهذا خبر ابن عمر في
هذا الحديث أنه اعتد بتلك التطليقة، ومع ذلك فقد روي في سائر أخبار ابن
عمر أن الشارع أمره بأن يراجعها، ولو
(1/470)
لم يكن
الطلاق واقعا لما احتاج إلى الرجعة وكانت لا تصح رجعته; لأنه لا يجوز
أن يقال راجع امرأته ولم يطلقها; إذ كانت الرجعة لا تكون إلا بعد
الطلاق، ولو صح ما روي أنه لم يره شيئا كان معناه أنه لم يبنها منه
بذلك الطلاق ولم تقع الزوجية.
قوله تعالى: {فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} قال
أبو بكر: لما كانت الفاء للتعقيب، وقال: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ
فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} اقتضى ذلك كون
الإمساك المذكور بعد الطلاق، وهذا الإمساك إنما هو الرجعة; لأنه ضد
الطلاق، وقد كان وقوع الطلاق موجبه التفرقة عند انقضاء العدة، فسمى
الله الرجعة إمساكا لبقاء النكاح بها بعد مضي ثلاث حيض، ورفع حكم
البينونة المتعلقة بانقضاء العدة. وإنما أباح له إمساكا على وصف، وهو
أن يكون بمعروف، وهو وقوعه على وجه يحسن ويجمل فلا يقصد به ضرارها على
ما ذكره في قوله تعالى: {وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَاراً لِتَعْتَدُوا}
وإنما أباح له الرجعة على هذه الشريطة، ومتى راجع بغير معروف كان
عاصيا، فالرجعة صحيحة بدلالة قوله تعالى: {وَلا تُمْسِكُوهُنَّ
ضِرَاراً لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ}
فلولا صحة الرجعة لما كان لنفسه ظالما بها. وفي قوله تعالى:
{فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ} دلالة على وقوع الرجعة بالجماع; لأن الإمساك
عن النكاح إنما هو الجماع وتوابعه من اللمس والقبلة ونحوها. والدليل
عليه أن من يحرم عليه جماعها تحريما مؤبدا لا يصح له عقد النكاح عليها،
فدل ذلك على أن الإمساك على النكاح مختص بالجماع، فيكون بالجماع ممسكا
لها، وكذلك اللمس والقبلة للشهوة والنظر إلى الفرج بشهوة; إذ كانت صحة
عقد النكاح مختصة باستباحة هذه الأشياء، فمتى فعل شيئا من ذلك كان
ممسكا لها بعموم قوله تعالى: {فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ}. وأما قوله:
{أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} فقد قيل فيه وجهان: أحدهما: أن المراد به
الثالثة; وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم حديث غير ثابت من طريق
النقل; ومرده الظاهر أيضا، وهو ما حدثنا عبد الله بن إسحاق المروزي
قال: حدثنا الحسن بن أبي الربيع الجرجاني قال: أخبرنا عبد الرزاق قال:
أخبرنا الثوري عن إسماعيل عن أبي رزين قال: قال رجل: يا رسول الله أسمع
الله يقول: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ
تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} فأين الثالثة؟ "قال: التسريح بإحسان". وقد روي
عن جماعة من السلف منهم السدي والضحاك أنه تركها حتى تنقضي عدتها. وهذا
التأويل أصح; إذ لم يكن الخبر المروي عن النبي صلى الله عليه وسلم في
ذلك ثابتا، وذلك من وجوه: أحدها أن سائر المواضع الذي ذكره الله فيها
عقيب الطلاق الإمساك والفراق، فإنما أراد به ترك الرجعة حتى تنقضي
عدتها، منه.
قوله تعالى: {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ
فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ
(1/471)
بِمَعْرُوفٍ} والمراد بالتسريح ترك الرجعة، إذ معلوم أنه لم يرد
"فأمسكوهن بمعروف أو طلقوهن" واحدة أخرى ومنه قوله تعالى: {فَإِذَا
بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ
بِمَعْرُوفٍ} [الطلاق: 2] ولم يرد به إيقاعا مستقبلا، وإنما أراد به
تركها حتى تنقضي عدتها. والجهة الأخرى: أن الثالثة مذكورة في نسق
الخطاب في قوله تعالى: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ
بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ} فإذا كانت الثالثة مذكورة في
صدر هذا الخطاب مفيدة للبينونة الموجبة للتحريم إلا بعد زوج، وجب حمل
قوله تعالى: {أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} على فائدة مجددة، وهي وقوع
البينونة بالاثنتين بعد انقضاء العدة. وأيضا لما كان معلوما أن المقصد
فيه بيان عدد الطلاق الموجب للتحريم ونسخ ما كان جائزا من إيقاع الطلاق
بلا عدد محصور، فلو كان قوله تعالى: {أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} هو
الثالثة لما أبان عن المقصد في إيقاع التحريم بالثلاث; إذ لو اقتصر
عليه لما دل على وقوع البينونة المحرمة لها إلا بعد زوج، وإنما علم
التحريم بقوله تعالى: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ
بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ} فوجب أن لا يكون قوله تعالى:
{أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} هو الثالثة. وأيضا لو كان التسريح بإحسان
هو الثالثة لوجب أن يكون قوله تعالى: {فَإِنْ طَلَّقَهَا} عقيب ذلك هي
الرابعة; لأن الفاء للتعقيب، قد اقتضى طلاقا مستقبلا بعدما تقدم ذكره،
فثبت بذلك أن قوله تعالى: {أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} هو تركها حتى
تنقضي عدتها.
قوله تعالى: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى
تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ} منتظم لمعان: منها تحريمها على المطلق
ثلاثا حتى تنكح زوجا غيره، مفيد في شرط ارتفاع التحريم الواقع بالطلاق
الثلاث العقد والوطء جميعا; لأن النكاح هو الوطء في الحقيقة، وذكر
الزوج يفيد العقد، وهذا من الإيجاز واقتصار على الكناية المفهمة
المغنية عن التصريح. وقد وردت عن النبي صلى الله عليه وسلم أخبار
مستفيضة في أنها لا تحل للأول حتى يطأها الثاني، منها حديث الزهري عن
عروة عن عائشة: أن رفاعة القرظي طلق امرأته ثلاثا، فتزوجت عبد الرحمن
بن الزبير، فجاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا نبي الله
إنها كانت تحت رفاعة فطلقها آخر ثلاث تطليقات فتزوجت بعده عبد الرحمن
بن الزبير وإنه يا رسول الله ما معه إلا مثل هدبة الثوب فتبسم رسول
الله صلى الله عليه وسلم وقال: "لعلك تريدين أن ترجعي إلى رفاعة؟ لا
حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك" وروى ابن عمر وأنس بن مالك عن النبي
صلى الله عليه وسلم مثله، ولم يذكرا قصة امرأة رفاعة. وهذه أخبار قد
تلقاها الناس بالقبول واتفق الفقهاء على استعمالها، فهي عندنا في حيز
التواتر. ولا خلاف بين الفقهاء في ذلك إلا شيء يروى عن سعيد بن المسيب
أنه قال: "إنها تحل للأول بنفس عقد النكاح دون الوطء". ولم نعلم أحدا
تابعه عليه، فهو شاذ.
(1/472)
وقوله
تعالى: {حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ} غاية التحريم الموقع
بالثلاث، فإذا وطئها الزوج الثاني ارتفع ذلك التحريم الموقع وبقي
التحريم من جهة أنها تحت زوج كسائر النساء الأجنبيات، فمتى فارقها
الثاني وانقضت عدتها حلت للأول. وقوله تعالى: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا
جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا} مرتب على ما أوجب من العدة على
المدخول بها في قوله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ
بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} وقوله تعالى: {وَلا تَعْزِمُوا
عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ} [البقرة:
235] ونحوها من الآي الحاظرة للنكاح في العدة. وقوله تعالى: {فَإِنْ
طَلَّقَهَا فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا} نص على ذكر
الطلاق، ولا خلاف أن الحكم في إباحتها للزوج الأول غير مقصور على
الطلاق وأن سائر الفرق الحادثة بينهما من نحو موت أو ردة أو تحريم
بمنزلة الطلاق، وإن كان المذكور نفسه هو الطلاق. وفيه الدلالة أيضا على
جواز النكاح بغير ولي; لأنه أضاف التراجع إليهما من غير ذكر الولي.
وفيه أحكام أخر نذكرها عند ذكرنا لأحكام الخلع بعد ذلك، ولكنا قدمنا
ذكر الثالثة; لأنه يتصل به في المعنى بذكر الاثنتين وإن تخللهما ذكر
الخلع، وبالله التوفيق.
(1/473)
باب الخلع
قال الله تعالى: {وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا
آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ
اللَّهِ} فحظر على الزوج بهذه الآية أن يأخذ منها شيئا مما أعطاها إلا
على الشريطة المذكورة، وعقل بذلك أنه غير جائز له أخذ ما لم يعطها وإن
كان المذكور هو ما أعطاها، كما أن قوله تعالى: {فَلا تَقُلْ لَهُمَا
أُفٍّ} [الإسراء: 23] قد دل على حظر ما فوقه من ضرب أو شتم. وقوله
تعالى: {إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ} قال
طاوس: يعني فيما افترض على كل واحد منهما في العشرة والصحبة. وقال
القاسم بن محمد مثل ذلك. وقال الحسن: هو أن تقول المرأة: والله لا
أغتسل لك من جنابة. وقال أهل اللغة: إلا أن يخافا معناه: إلا أن يظنا.
وقال أبو محجن الثقفي، أنشده الفراء رحمه الله تعالى:
إذا مت فادفني إلى جنب كرمة ... تروي عظامي بعد موتي عروقها
ولا تدفنني بالعراء فإنني أخاف ... إذا ما مت أن لا أذوقها
وقال آخر:
أتاني كلام عن نصيب يقوله ... وما خفت يا سلام أنك عائبي
يعني: ما ظننت.
وهذا الخوف من ترك إقامة حدود الله على وجهين: إما أن يكون أحدهما سيئ
(1/473)
الخلق أو
جميعا، فيفضي بهما ذلك إلى ترك إقامة حدود الله فيما ألزم كل واحد
منهما من حقوق النكاح في قوله تعالى : {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي
عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} وإما أن يكون أحدهما مبغضا للآخر فيصعب
عليه حسن العشرة والمجاملة، فيؤديه ذلك إلى مخالفة أمر الله في تقصيره
في الحقوق التي تلزمه وفيما ألزم الزوج من إظهار الميل إلى غيرها في
قوله تعالى: {فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا
كَالْمُعَلَّقَةِ} [النساء: 129] فإذا وقع أحد هذين وأشفقا من ترك
إقامة حدود الله التي حدها لهما حل الخلع. وروى جابر الجعفي عن عبد
الله بن يحيى عن علي كرم الله وجهه، أنه قال: كلمات إذا قالتهن المرأة
حل له أن يأخذ الفدية: إذا قالت له لا أطيع لك أمرا ولا أبر لك قسما
ولا أغتسل لك من جنابة. وقال المغيرة عن إبراهيم قال: لا يحل للرجل أن
يأخذ الفدية من امرأته إلا أن تعصيه ولا تبر له قسما، وإذا فعلت ذلك
وكان من قبلها حلت له الفدية، وإن أبى أن يقبل منها الفدية وأبت أن
تعطيه بعثا حكمين حكما من أهله وحكما من أهلها وذكر علي بن أبي طلحة عن
ابن عباس قال: تركها إقامة حدود الله استخفاف بحق الزوج وسوء خلقها،
فتقول: والله لا أبر لك قسما ولا أطأ لك مضجعا ولا أطيع لك أمرا، فإذا
فعلت ذلك فقد حل له منها الفدية ولا يأخذ أكثر مما أعطاها شيئا ويخلي
سبيلها وإن كانت الإساءة من قبلها ثم قال: {فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ
شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً} يقول: إن كان عن
غير ضرار ولا خديعة فهو هنيء مريء كما قال الله تعالى.
وقد اختلف في نسخ هذه الآية، فروى حجاج عن عقبة بن أبي الصهباء قال:
سألت بكر بن عبد الله عن رجل تريد منه امرأته الخلع، قال: لا يحل له أن
يأخذ منها شيئا، قلت له: يقول الله في كتابه: {فَلا جُنَاحَ
عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} قال: هذه نسخت بقوله: {وَإِنْ
أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ
إِحْدَاهُنَّ قِنْطَاراً فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً} [النساء: 20]
وروى أبو عاصم عن ابن جريج قال: قلت لعطاء: أرأيت إذا كانت له ظالمة
مسيئة فدعاها إلى الخلع أيحل له؟ قال: لا، إما أن يرضى فيمسك وإما أن
يسرح. قال أبو بكر: وهو قول شاذ يرده ظاهر الكتاب والسنة واتفاق السلف،
ومع ذلك فليس في قوله: {وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ
زَوْجٍ} [النساء: 20] الآية، ما يوجب نسخ قوله تعالى: {فَإِنْ خِفْتُمْ
أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا
افْتَدَتْ بِهِ} لأن كل واحدة منهما مقصورة الحكم على حال مذكورة فيها،
فإنما حظر الخلع إذا كان النشوز من قبله وأراد استبدال زوج مكان زوج
غيرها، وأباحه إذا خافا أن لا يقيما حدود الله بأن تكون مبغضة له أو
سيئة الخلق أو كان هو سيئ الخلق ولا يقصد مع ذلك
(1/474)
الإضرار
بها لكنهما يخافان أن لا يقيما حدود الله في حسن العشرة وتوفية ما
ألزمهما الله من حقوق النكاح; وهذه الحال غير تلك، فليس في إحداهما ما
يعترض به على الأخرى، ولا يوجب نسخها ولا تخصيصها أيضا; إذ كل واحدة
مستعملة فيما وردت فيه. وكذلك قوله تعالى: {وَلا تَعْضُلُوهُنَّ
لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ} [النساء: 19] إذا كان
خطابا للأزواج، فإنما حظر عليهم أخذ شيء من مالها إذا كان النشوز من
قبله قاصدا للإضرار بها، إلا أن يأتين بفاحشة مبينة، فقال ابن سيرين
وأبو قلابة: يعني أن يظهر منها على زنا. وروي عن عطاء والزهري وعمرو بن
شعيب أن الخلع لا يحل إلا من الناشز. فليس في شيء من هذه الآيات نسخ،
وجميعها مستعمل; والله أعلم.
(1/475)
ذكر اختلاف السلف و سائر فقهاء الأمصار فيما يحل أخذه بالخلع
...
ذكر اختلاف السلف وسائر فقهاء الأمصار فيما يحل أخذه بالخلع
روي عن علي: أنه كره أن يأخذ منها أكثر مما أعطاها وهو قول سعيد بن
المسيب والحسن وطاوس وسعيد بن جبير. وروي عن عمر وعثمان وابن عمر وابن
عباس ومجاهد وإبراهيم والحسن رواية أخرى: أنه جائز له أن يخلعها على
أكثر مما أعطاها ولو بعقاصها. وقال أبو حنيفة وزفر وأبو يوسف ومحمد:
إذا كان النشوز من قبلها حل له أن يأخذ منها ما أعطاها ولا يزداد، وإن
كان النشوز من قبله لم يحل له أن يأخذ منها شيئا، فإن فعل جاز في
القضاء. وقال ابن شبرمة: تجوز المبارأة إذا كانت من غير إضرار منه، وإن
كانت على إضرار منه لم تجز. وقال ابن وهب عن مالك: إذا علم أن زوجها
أضر بها وضيق عليها وأنه ظالم لها قضى عليها الطلاق ورد عليها مالها.
وذكر ابن القاسم عن مالك أنه جائز للرجل أن يأخذ منها في الخلع أكثر
مما أعطاها ويحل له، وإن كان النشوز من قبل الزوج حل له أن يأخذ ما
أعطته على الخلع إذا رضيت بذلك، ولم يكن في ذلك ضرر منه لها وعن الليث
نحو ذلك. وقال الثوري: إذا كان الخلع من قبلها فلا بأس أن يأخذ منها
شيئا، وإذا كان من قبله فلا يحل له أن يأخذ منها شيئا. وقال الأوزاعي
في رجل خالع امرأته وهي مريضة: إن كانت ناشزة كان في ثلثها، وإن لم تكن
ناشزة رد عليها وكانت له عليها الرجعة، وإن خالعها قبل أن يدخل بها على
جميع ما أصدقها ولم يتبين منها نشوز أنهما إذا اجتمعا على فسخ النكاح
قبل أن يدخل بها، فلا أرى بذلك بأسا. وقال الحسن بن حي: إذا كانت
الإساءة من قبله فليس له أن يخلعها بقليل ولا كثير، وإذا كانت الإساءة
من قبلها والتعطيل لحقه كان له أن يخالعها على ما تراضيا عليه وكذلك
قول عثمان البتي. وقال الشافعي: إذا كانت المرأة مانعة ما يجب عليها
لزوجها حلت الفدية للزوج، وإذا حل له أن يأكل ما طابت به نفسا على غير
فراق حل له أن يأكل ما طابت به نفسا وتأخذ الفراق به.
(1/475)
قال أبو
بكر: قد أنزل الله تعالى في الخلع آيات، منها قوله تعالى: {وَإِنْ
أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ
إِحْدَاهُنَّ قِنْطَاراً فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً
أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَاناً وَإِثْماً مُبِيناً} [النساء: 20] فهذا
يمنع أخذ شيء منها إذا كان النشوز من قبله، فلذلك قال أصحابنا: لا يحل
له أن يأخذ منها في هذه الحال شيئا. وقال تعالى في آية أخرى: {وَلا
يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً إِلَّا
أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ} فأباح في هذه الآية
الأخذ عند خوفهما ترك إقامة حدود الله، وذلك على ما قدمنا من بغض
المرأة لزوجها وسوء خلقها، أو كان ذلك منهما، فيباح له أخذ ما أعطاها
ولا يزداد، والظاهر يقتضي جواز أخذ الجميع ولكن ما زاد مخصوص بالسنة.
وقال تعالى في آية أخرى: {لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ
كَرْهاً وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا
آتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} قيل
فيه: إنه خطاب للزوج وحظر به أخذ شيء مما أعطاها إلا أن تأتي بفاحشة
مبينة، قيل فيها إنها هي الزنا، وقيل فيها إنها النشوز من قبلها، وهذه
نظير قوله تعالى: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ
فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} وقال تعالى في آية
أخرى: {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ
أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِهَا} [النساء: 35] وسنذكر حكمها في
مواضعها إن شاء الله تعالى.
وذكر الله تعالى إباحة أخذ المهر في غير هذه الآية، إلا أنه لم يذكر
حال الخلع، في قوله: {وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً
فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً
مَرِيئاً} [النساء: 4] وقال: {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ
أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا
فَرَضْتُمْ إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ
عُقْدَةُ النِّكَاحِ} [البقرة: 237] وهذه الآيات كلها مستعملة على
مقتضى أحكامها، فقلنا: إذا كان النشوز من قبله لم يحل له أخذ شيء منها،
بقوله تعالى: {فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً} [النساء: 20] وقوله
تعالى: {وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا
آتَيْتُمُوهُنَّ} [النساء: 19] وإذا كان النشوز من قبلها، أو خافا لسوء
خلقها أو بغض كل واحد منهما لصاحبه أن لا يقيما، جاز له أن يأخذ ما
أعطاها لا يزداد. وكذلك {وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ
مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ}
[النساء: 19] وقد قيل فيه: إلا أن تنشز فيجوز له عند ذلك أخذ ما
أعطاها.
وأما قوله تعالى: {فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً
فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً} [النساء: 4] فهذا في غير حال الخلع، بل
في حال الرضا بترك المهر بطيبة من نفسها به. وقول من قال: "إنه لما جاز
أخذ مالها بغير خلع فهو جائز في الخلع" خطأ; لأن الله تعالى قد نص على
الموضعين، في أحدهما بالحظر وهو قوله تعالى: {وَإِنْ أَرَدْتُمُ
اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ} [النساء: 20] وقوله تعالى: {وَلا
يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً إِلَّا
أَنْ
(1/476)
يَخَافَا
أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ} وفي الآخر بالإباحة وهو قوله تعالى:
{فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً
مَرِيئاً} [النساء: 4] فقول القائل: لما جاز أن يأخذ مالها بطيبة من
نفسها من غير خلع جاز في الخلع قول مخالف لنص الكتاب.
وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في الخلع ما حدثنا محمد بن بكر
قال: حدثنا أبو داود قال: حدثنا القعنبي، عن مالك، عن يحيى بن سعد، عن
عمرة بنت عبد الرحمن بن سعيد بن زرارة، عن حبيبة بنت سهل الأنصارية،
أنها كانت تحت ثابت بن قيس بن الشماس، وأن رسول الله صلى الله عليه
وسلم خرج إلى الصبح فوجد حبيبة بنت سهل عند بابه في الغلس، فقال رسول
الله صلى الله عليه وسلم: "من هذه؟" قالت: أنا حبيبة بنت سهل; قال: "ما
شأنك؟" قالت: لا أنا ولا ثابت بن قيس لزوجها فلما جاءه ثابت بن قيس قال
له: "هذه حبيبة بنت سهل" فذكرت ما شاء الله أن تذكر، فقالت حبيبة: يا
رسول الله كل ما أعطاني عندي; فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم
لثابت: "خذ منها" فأخذ منها وجلست في أهلها. وروي فيه ألفاظ مختلفة، في
بعضها "خل سبيلها" وفي بعضها: "فارقها". وإنما قالوا: إنه لا يسعه أن
يأخذ منها أكثر مما أعطاها، لما حدثنا عبد الباقي بن قانع قال: حدثنا
عبد الله بن أحمد بن حنبل قال: حدثنا محمد بن يحيى بن أبي سمينة قال:
حدثنا الوليد بن مسلم، عن ابن جريج، عن عطاء، عن ابن عباس، أن رجلا
خاصم امرأته إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال النبي صلى الله عليه
وسلم: "تردين إليه ما أخذت منه؟" قالت: نعم وزيادة، فقال النبي صلى
الله عليه وسلم: "أما الزيادة فلا". وقال أصحابنا: لا يأخذ منه الزيادة
لهذا الخبر وخصوا به ظاهر الآية، وإنما جاز تخصيص هذا الظاهر بخبر
الواحد من قبل قوله تعالى: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ
اللَّهِ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} لفظ محتمل
لمعان والاجتهاد سائغ فيه. وقد روي عن السلف فيه وجوه مختلفة. وكذلك
قوله تعالى: {وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا
آتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ}
[النساء: 19] محتمل لمعان على ما وصفنا، فجاز تخصيصه بخبر الواحد، وهو
كقوله تعالى: {أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ} [النساء: 43] وقوله تعالى:
{وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ} [البقرة:
237] لما كان محتملا للوجوه واختلف السلف في المراد به، جاز قبول خبر
الواحد في معناه المراد به. وإنما قال أصحابنا إذا خلعها على أكثر مما
أعطاها، أو خلعها على مال والنشوز من قبله إن ذلك جائز في الحكم وإن لم
يسعه فيما بينه وبين الله تعالى من قبل أنها أعطته بطيبة من نفسها غير
مجبرة عليه، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا يحل مال امرئ مسلم
إلا بطيبة من نفسه". وأيضا فإن النهي لم يتعلق بمعنى في نفس العقد،
وإنما تعلق بمعنى
(1/477)
في غيره،
وهو أنه لم يعطها مثل ما أخذ منها، ولو كان قد أعطاها مثل ذلك لما كان
ذلك مكروها، فلما تعلق النهي بمعنى في غير العقد لم يمنع ذلك جواز
العقد، كالبيع عند أذان الجمعة وبيع حاضر لباد، وتلقي الركبان ونحو
ذلك. وأيضا لما جاز العتق على قليل المال وكثيره وكذلك الصلح عن دم
العمد، كان كذلك الطلاق، وكذلك النكاح لما جاز على أكثر من مهر المثل
وهو بدل البضع كذلك جائز أن تضمنه المرأة بأكثر من مهر مثلها; لأنه بدل
من البضع في الحالين.
فإن قيل: لما كان الخلع فسخا لعقد النكاح لم يجز بأكثر مما وقع عليه
العقد كما لا يجوز الإقالة بأكثر من الثمن. قيل له: قولك: إن الخلع فسخ
لعقد خطأ، وإنما هو الطلاق مبتدأ كهو لو لم يشرط فيه بدل، ومع ذلك فلا
خلاف أنه ليس بمنزلة الإقالة; لأنه لو خلعها على أقل مما أعطاها جاز
بالاتفاق، والإقالة غير جائزة بأقل من الثمن، ولا خلاف أيضا في جواز
الخلع بغير شيء.
وقد اختلف السلف في الخلع دون السلطان، فروي عن الحسن وابن سيرين: أن
الخلع لا يجوز إلا عند السلطان. وقال سعيد بن جبير: لا يكون الخلع حتى
يعظها، فإن اتعظت وإلا ضربها، فإن اتعظت وإلا حجرها فإن اتعظت ارتفعا
إلى السلطان فيبعث حكما من أهله وحكما من أهلها فيردان ما يسمعان إلى
السلطان، فإن رأى بعد ذلك أن يفرق فرق وإن رأى أن يجمع جمع. وروي عن
علي وعمر وعثمان وابن عمر وشريح وطاوس والزهري في آخرين: أن الخلع جائز
دون السلطان. وروى سعيد عن قتادة قال: كان زياد أول من رد الخلع دون
السلطان.
ولا خلاف بين فقهاء الأمصار في جوازه دون السلطان; وكتاب الله يوجب
جوازه، وهو قوله تعالى: {فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ
بِهِ} وقال تعالى: {وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا
آتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ}
[النساء: 19] فأباح الأخذ منها بتراضيهما من غير سلطان. وقول النبي صلى
الله عليه وسلم لامرأة ثابت بن قيس: "أتردين عليه حديقته؟" فقالت: نعم
فقال للزوج: "خذها وفارقها" يدل على ذلك أيضا; لأنه لو كان الخلع إلى
السلطان شاء الزوجان أو أبيا إذا علم أنهما لا يقيمان حدود الله لم
يسألهما النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك ولا خاطب الزوج بقوله
"اخلعها" بل كان يخلعها منه ويرد عليه حديقته، وإن أبيا أو واحد منهما،
كما لما كانت فرقة المتلاعنين إلى الحاكم، لم يقل للملاعن خل سبيلها بل
فرق بينهما، كما روى سهل بن سعد: "أن النبي صلى الله عليه وسلم فرق بين
المتلاعنين"، كما قال في حديث آخر: "لا سبيل لك عليها" ولم يرجع ذلك
إلى الزوج; فثبت بذلك
(1/478)
جواز
الخلع دون السلطان. ويدل عليه أيضا قوله صلى الله عليه وسلم: "لا يحل
مال امرئ مسلم إلا بطيبة من نفسه".
وقد اختلف في الخلع هل هو طلاق أم ليس بطلاق; فروي عن عمر وعبد الله
وعثمان والحسن وأبي سلمة وشريح وإبراهيم والشعبي ومكحول: أن الخلع
تطليقة بائنة وهو قول فقهاء الأمصار لا خلاف بينهم فيه. وروي عن ابن
عباس: أنه ليس بطلاق; حدثنا عبد الباقي بن قانع قال: حدثنا علي بن محمد
قال: حدثنا أبو الوليد قال: حدثنا شعبة قال: أخبرني عبد الملك بن ميسرة
قال: سأل رجل طاوسا عن الخلع، فقال: ليس بشيء; فقلت: لا تزال تحدثنا
بشيء لا نعرفه فقال: والله لقد جمع ابن عباس بين امرأة وزوجها بعد
تطليقتين وخلع. ويقال: هذا مما أخطأ فيه طاوس، وكان كثير الخطإ مع
جلالته وفضله وصلاحه يروي أشياء منكرة، منها أنه روى عن ابن عباس أنه
قال: من طلق ثلاثا كانت واحدة وقد روي من غير وجه عن ابن عباس: أن من
طلق امرأته عدد النجوم بانت منه بثلاث. قالوا: وكان أيوب يتعجب من كثرة
خطإ طاوس. وذكر ابن أبي نجيح عن طاوس أنه قال: الخلع ليس بطلاق قال:
فأنكره عليه أهل مكة، فجمع ناسا منهم واعتذر إليهم وقال: إنما سمعت ابن
عباس يقول ذلك. وقد حدثنا عبد الباقي بن قانع قال: حدثنا أحمد بن الحسن
بن عبد الجبار قال: حدثنا أبو همام قال: حدثنا الوليد عن أبي سعيد روح
بن جناح قال: سمعت زمعة بن أبي عبد الرحمن قال: سمعت سعيد بن المسيب
يقول: " جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم الخلع تطليقة " ويدل على أنه
طلاق قوله صلى الله عليه وسلم لثابت بن قيس حين نشزت عليه امرأته: "خل
سبيلها" وفي بعض الألفاظ: "فارقها" بعدما قال للمرأة: "ردي عليه
حديقته" فقالت: قد فعلت. ومعلوم أن من قال لامرأته قد فارقتك أو قد
خليت سبيلك ونيته الفرقة، أنه يكون طلاقا، فدل ذلك على أن خلعه إياها
بأمر الشارع كان طلاقا وأيضا لا خلاف أنه لو قال لها قد طلقتك على مال
أو قد جعلت أمرك إليك بمال كان طلاقا، وكذلك لو قال لها قد خلعتك بغير
مال يريد به الفرقة كان طلاقا، كذلك إذا خلعها بمال.
فإن قيل: إذا قال بلفظ الخلع كان بمنزلة الإقالة في البيع فتكون فسخا
لا بيعا مبتدأ. قيل له: لا خلاف في جواز الخلع بغير مال وعلى أقل من
المهر، والإقالة لا تجوز بالثمن الذي كان في العقد، ولو كان الخلع فسخا
كالإقالة لما جاز إلا بالمهر الذي تزوجها عليه، وفي اتفاق الجميع على
جوازه بغير مال وبأقل من المهر دلالة على أنه طلاق بمال وأنه ليس بفسخ
وأنه لا فرق بينه وبين قوله قد طلقتك على هذا المال.
(1/479)
ومما يحتج
به من يقول إنه ليس بطلاق، وإن الله تعالى لما قال: {الطَّلاقُ
مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} ثم
عقب ذلك بقوله تعالى: {وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا
آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً} إلى أن قال في نسق التلاوة: {فَإِنْ
طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً
غَيْرَهُ} فأثبت الثالثة بعد الخلع، دل ذلك على أن الخلع ليس بطلاق; إذ
لو كان طلاقا لكانت هذه رابعة; لأنه ذكر الخلع بعد التطليقتين ثم ذكر
الثالثة بعد الخلع. وهذا ليس عندنا على هذا التقدير، وذلك; لأن قوله
تعالى: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ} أفاد حكم الاثنين إذا أوقعهما على غير
وجه الخلع وأثبت معهما الرجعة بقوله تعالى: {فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ}
ثم ذكر حكمهما إذا كانتا على وجه الخلع وأبان عن موضع الحظر والإباحة
فيهما والحال التي يجوز فيها أخذ المال أو لا يجوز، ثم عطف على ذلك
قوله تعالى: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى
تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ} فعاد ذلك إلى الاثنتين المقدم ذكرهما على
وجه الخلع تارة وعلى غير وجه الخلع أخرى; فإذا ليس فيه دلالة على أن
الخلع بعد الاثنتين، ثم الرابعة بعد الخلع. وهذا مما يستدل به على أن
المختلعة يلحقها الطلاق; لأنه لما اتفق فقهاء الأمصار على أن تقدير
الآية وترتيب أحكامها على ما وصفنا وحصلت الثالثة بعد الخلع وحكم الله
بصحة وقوعها وحرمتها عليه أبدا إلا بعد زوج، فدل ذلك على أن المختلعة
يلحقها الطلاق ما دامت في العدة. ويدل على أن الثالثة بعد الخلع قوله
تعالى في نسق التلاوة: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا
أَنْ يَتَرَاجَعَا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ} عطفا
على ما تقدم ذكره، وقوله تعالى: {وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا
مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا
حُدُودَ اللَّهِ} فأباح لهما التراجع بعد التطليقة الثالثة بشريطة زوال
ما كانا عليه من الخوف لترك إقامة حدود الله; لأنه جائز أن يندما بعد
الفرقة ويحب كل واحد منهما أن يعود إلى الألفة، فدل ذلك على أن هذه
الثالثة مذكورة بعد الخلع.
وقوله تعالى: {إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ} يدل على
جواز الاجتهاد في أحكام الحوادث; لأنه علق الإباحة بالظن.
فإن قيل: قوله تعالى {فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ} عائد على قوله:
{الطَّلاقُ مَرَّتَانِ} دون الفدية المذكورة بعدها. قيل له: هذا يفسد
من وجوه: أحدها أن قوله: {وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا
آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً} خطاب مبتدأ بعد ذكر الاثنتين غير مرتب
عليهما; لأنه معطوف عليه بالواو، وإذا كان كذلك ثم قال عقيب ذكر
الفدية: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى
تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ} وجب أن يكون مرتبا على الفدية; لأن الفاء
للتعقيب، وغير جائز ترتيبه على الاثنتين المبدوء بذكرهما وترك عطفه على
ما يليه إلا
(1/480)
بدلالة
تقتضي ذلك وتوجبه، كما تقول في الاستثناء بلفظ التخصيص إنه عائد على ما
يليه ولا يرد على ما تقدمه إلا بدلالة; ألا ترى إلى قوله تعالى:
{وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ
اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ
بِهِنَّ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ} [النساء: 23] أن شرط الدخول عائد على
الربائب دون أمهات النساء؟ إذ كان العطف بالفاء يليهن دون أمهات
النساء، مع أن هذا أقرب مما ذكرت من عطف قوله تعالى: {فَإِنْ
طَلَّقَهَا} على قوله تعالى: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ} دون ما يليه في
الفدية; لأنك لا تجعله عطفا على ما يليه من الفدية وتجعله عطفا على ما
تقدم دون ما توسط بينهما من ذكر الفدية. وأيضا فإنا نجعله عطفا على
جميع ما تقدم من الفدية ومما تقدمها من التطليقتين على غير وجه الفدية،
فيكون منتظما لفائدتين: إحداهما جواز طلاقها بعد الخلع بتطليقتين،
والأخرى: بعد التطليقتين إذا أوقعهما على غير وجه الفدية. والله أعلم.
(1/481)
باب المضارة في الرجعة
قال الله تعالى: {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ
أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ
بِمَعْرُوفٍ}. قال أبو بكر: المراد بقوله: {فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ}
مقاربة البلوغ والإشراف عليه لا حقيقته; لأن الأجل المذكور هو العدة،
وبلوغه هو انقضاؤها، ولا رجعة بعد انقضاء العدة. وقد عبر عن العدة
بالأجل في مواضع، منها قوله تعالى: {فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ
فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} ومعناه
معنى ما ذكر في هذه الآية; وقال تعالى: {وَأُولاتُ الْأَحْمَالِ
أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 4] وقال: {وَإِذَا
طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا تَعْضُلُوهُنَّ}
وقال: {وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ
الْكِتَابُ أَجَلَهُ} فكان المراد بالآجال المذكورة في هذه الآي هي
العدد; ولما ذكره الله تعالى في قوله: {فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ}
والمراد مقاربته دون انقضائه; ونظائره كثيرة في القرآن واللغة، قال
الله تعالى: {إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ
لِعِدَّتِهِنَّ} [الطلاق: 1] ومعناه: إذا أردتم الطلاق وقاربتم أن
تطلقوا فطلقوا للعدة; وقال تعالى: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ
فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ} [النحل: 98] معناه: إذا أردت قراءته; وقال:
{وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا} [الأنعام: 152] وليس المراد العدل بعد
القول، ولكن قبله، يعزم على أن لا يقول إلا عدلا. فعلى هذا ذكر بلوغ
الأجل وأراد به مقاربته دون وجود نهايته; وإنما ذكر مقاربة البلوغ عند
الأمر بالإمساك بالمعروف وإن كان عليه ذلك في سائر أحوال بقاء النكاح;
لأنه قرن إليه التسريح وهو انقضاء العدة، وجمعهما في الأمر والتسريح
إنما له حال واحد ليس يدوم، فخص حال بلوغ الأجل بذلك لينتظم المعروف
الأمرين جميعا.
(1/481)
وقوله
تعالى: {فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} المراد به المراجعة قبل انقضاء
العدة; وروي ذلك عن ابن عباس والحسن ومجاهد وقتادة.
وقوله تعالى: {أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} معناه تركها حتى تنقضي
عدتها. وأباح الإمساك بالمعروف وهو القيام بما يجب لها من حق على ما
تقدم من بيانه، وأباح التسريح أيضا على وجه يكون معروفا بأن لا يقصد
مضارتها بتطويل العدة عليها بالمراجعة، وقد بينه عقيب ذلك بقوله تعالى:
{وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَاراً} ويجوز أن يكون من الفراق بالمعروف أن
يمتعها عند الفرقة.
ومن الناس من يحتج بهذه الآية، وبقوله: {فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ
تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} في إيجاب الفرقة بين المعسر العاجز عن النفقة
وبين امرأته; لأن الله تعالى إنما خيره بين أحد شيئين: إما إمساك
بمعروف، أو تسريح بإحسان; وترك الإنفاق ليس بمعروف، فمتى عجز عنه تعين
عليه التسريح، فيفرق الحاكم بينهما.
قال أبو بكر رحمه الله: هذا جهل من قائله والمحتج به; لأن العاجز عن
نفقة امرأته يمسكها بمعروف; إذ لم يكلف الإنفاق في هذا الحال، قال الله
تعالى: {وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ
اللَّهُ لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ
اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً} [الطلاق: 7] فغير جائز أن يقال: إن
المعسر غير ممسك بالمعروف; إذ كان ترك الإمساك بمعروف ذما، والعاجز غير
مذموم بترك الإنفاق، ولو كان العاجز عن النفقة غير ممسك بمعروف لوجب أن
يكون أصحاب الصفة وفقراء الصحابة الذين عجزوا عن النفقة على أنفسهم
فضلا عن نسائهم غير ممسكين بمعروف. وأيضا فقد علمنا أن القادر على
الإنفاق الممتنع منه غير ممسك بمعروف، ولا خلاف أنه لا يستحق التفريق،
فكيف يجوز أن يستدل بالآية على وجوب التفريق على العاجز دون القادر
والعاجز ممسك بمعروف والقادر غير ممسك؟ وهذا خلف من القول.
قوله تعالى: {وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَاراً لِتَعْتَدُوا} روي عن مسروق
والحسن ومجاهد وقتادة وإبراهيم: هو تطويل العدة عليها بالمراجعة إذا
قاربت انقضاء عدتها ثم يطلقها حتى تستأنف العدة، فإذا قاربت انقضاء
العدة راجعها، فأمر الله بإمساكها بمعروف ونهاه عن مضارتها بتطويل
العدة عليها.
وقوله تعالى: {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ} دل على
وقوع الرجعة، وإن قصد بها مضارتها، لولا ذلك ما كان ظالما لنفسه; إذ لم
يثبت حكمها وصارت رجعته لغوا لا حكم لها.
(1/482)
وقوله
تعالى: {وَلا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُواً} روي عن عمرو عن
الحسن عن أبي الدرداء قال: كان الرجل يطلق امرأته ثم يرجع فيقول كنت
لاعبا، فأنزل الله تعالى: {وَلا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُواً}
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من طلق أو حرر أو نكح فقال كنت
لاعبا فهو جاد" فأخبر أبو الدرداء أن ذلك تأويل الآية، وأنها نزلت فيه،
فدل ذلك على أن لعب الطلاق وجده سواء. وكذلك الرجعة; لأنه ذكر عقيب
الإمساك أو التسريح، فهو عائد عليهما; وقد أكده رسول الله صلى الله
عليه وسلم لما بينه. وروى عبد الرحمن بن حبيب، عن عطاء، عن ابن ماهك،
عن أبي هريرة، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ثلاث جدهن جد وهزلهن
جد: الطلاق والنكاح والرجعة". وروى سعيد بن المسيب عن عمر قال: "أربع
واجبات على كل من تكلم بهن: العتاق والطلاق والنكاح والنذر". وروى جابر
عن عبد الله بن لحي عن علي أنه قال: "ثلاث لا يلعب بهن: الطلاق والنكاح
والصدقة". وروى القاسم بن عبد الرحمن عن عبد الله قال: "إذا تكلمت
بالنكاح فإن النكاح جده ولعبه سواء، كما أن جد الطلاق ولعبه سواء".
وروي ذلك عن جماعة من التابعين; ولا نعلم فيه خلافا بين فقهاء الأمصار.
وهذا أصل في إيقاع طلاق المكره; لأنه لما استوى حكم الجاد والهازل فيه،
وكانا إنما يفترقان مع قصدهما إلى القول من جهة وجود إرادة أحدهما
لإيقاع حكم ما لفظ به والآخر غير مريد لإيقاع حكمه، لم يكن للنية تأثير
في دفعه، وكان المكره قاصدا إلى القول غير مريد لحكمه لم يكن لفقد نية
الإيقاع تأثير في دفعه; فدل ذلك على أن شرط وقوعه وجود لفظ الإيقاع من
مكلف; والله أعلم.
(1/483)
باب النكاح بغير ولي
قال الله تعالى: {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ
أَجَلَهُنَّ فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ}
الآية. قوله تعالى: {فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ} المراد حقيقة البلوغ
بانقضاء العدة. والعضل يعتوره معنيان: أحدهما: المنع، والآخر الضيق;
يقال: "عضل الفضاء بالجيش" إذا ضاق بهم، والأمر المعضل هو الممتنع،
وداء عضال: ممتنع. وفي التضييق يقال: "عضلت عليهم الأمر" إذا ضيقت، و
"عضلت المرأة بولدها" إذا عسر ولادها، وأعضلت; والمعنيان متقاربان; لأن
الأمر الممتنع يضيق فعله وزواله والضيق ممتنع أيضا. وروي أن الشعبي سئل
عن مسألة صعبة فقال: "زباء ذات وبر لا تنساب ولا تنقاد، ولو نزلت
بأصحاب محمد لأعضلت بهم". وقوله تعالى: {فَلا تَعْضُلُوهُنَّ} معناه:
لا تمنعوهن أو لا تضيقوا عليهن في التزويج.
وقد دلت هذه الآية من وجوه على جواز النكاح إذا عقدت على نفسها بغير
ولي ولا
(1/483)
إذن
وليها: أحدها إضافة العقد إليها من غير شرط إذن الولي. والثاني: نهيه
عن العضل إذا تراضى الزوجان.
فإن قيل: لولا أن الولي يملك منعها عن النكاح لما نهاه عنه كما لا ينهى
الأجنبي الذي لا ولاية له عنه. قيل له: هذا غلط; لأن النهي يمنع أن
يكون له حق فيما نهي عنه فكيف يستدل به على إثبات الحق؟ وأيضا فإن
الولي يمكنه أن يمنعها من الخروج والمراسلة في عقد النكاح، فجائز أن
يكون النهي عن العضل منصرفا إلى هذا الضرب من المنع; لأنها في الأغلب
تكون في يد الولي بحيث يمكنه منعها من ذلك. ووجه آخر من دلالة الآية
على ما ذكرنا، وهو أنه لما كان الولي منهيا عن العضل إذا زوجت هي نفسها
من كفو، فلا حق له في ذلك، كما لو نهي عن الربا والعقود الفاسدة لم يكن
له حق فيما قد نهي عنه، فلم يكن له فسخه; وإذا اختصموا إلى الحاكم فلو
منع الحاكم من مثل هذا العقد كان ظالما مانعا مما هو محظور عليه منعه،
فيبطل حقه أيضا في الفسخ فيبقى العقد لا حق لأحد في فسخه فينفذ ويجوز.
فإن قيل: إنما نهى الله سبحانه الولي عن العضل إذا تراضوا بينهم
بالمعروف، فدل ذلك على أنه ليس بمعروف إذا عقده غير الولي. قيل له: قد
علمنا أن المعروف مهما كان من شيء فغير جائز أن يكون معنى المعروف أن
لا يجوز عقدها لما فيه من نفي موجب الآية، وذلك لا يكون إلا على وجه
النسخ; ومعلوم امتناع جواز الناسخ والمنسوخ في خطاب واحد; لأن النسخ لا
يجوز إلا بعد استقرار الحكم والتمكن من الفعل; فثبت بذلك أن المعروف
المشروط في تراضيهما ليس هو الولي. وأيضا فإن الباء تصحب الأبدال،
فإنما انصرف ذلك إلى مقدار المهر، وهو أن يكون مهر مثلها لا نقص فيه،
ولذلك قال أبو حنيفة: "إنها إذا نقصت من مهر المثل فللأولياء أن يفرقوا
بينهما".
ونظير هذه الآية في جواز النكاح بغير ولي قوله تعالى: {فَإِنْ
طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً
غَيْرَهُ فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ
يَتَرَاجَعَا} قد حوى الدلالة من وجهين على ما ذكرنا: أحدهما: إضافته
عقد النكاح إليها في قوله: {حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ}،
والثاني: {فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا} فنسب التراجع.
إليهما من غير ذكر الولي. ومن دلائل القرآن على ذلك قوله تعالى:
{فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا
فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} فجاز فعلها في نفسها من
غير شرط الولي، وفي إثبات شرط الولي في صحة العقد نفي لموجب الآية.
فإن قيل: إنما أراد بذلك اختيار الأزواج وأن لا يجوز العقد عليها إلا
بإذنها. قيل
(1/484)
له: هذا
غلط من وجهين: أحدهما: عموم اللفظ في اختيار الأزواج وفي غيره،
والثاني: أن اختيار الأزواج لا يحصل لها به فعل في نفسها وإنما يحصل
ذلك بالعقد الذي يتعلق به أحكام النكاح; وأيضا فقد ذكر الاختيار مع
العقد بقوله: {إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ}.
(1/485)
ذكر الاختلاف في ذلك
اختلف الفقهاء في عقد المرأة على نفسها بغير ولي، فقال أبو حنيفة: "لها
أن تزوج نفسها كفوا وتستوفي المهر ولا اعتراض للولي عليها" وهو قول زفر
"وإن زوجت نفسها غير كفو فالنكاح جائز أيضا وللأولياء أن يفرقوا
بينهما". وروي عن عائشة أنها زوجت حفصة بنت عبد الرحمن بن أبي بكر من
المنذر بن الزبير وعبد الرحمن غائب; فهذا يدل على أن من مذهبهما جواز
النكاح بغير ولي، وهو قول محمد بن سيرين والشعبي والزهري وقتادة. وقال
أبو يوسف: "لا يجوز النكاح بغير ولي، فإن سلم الولي جاز، وإن أبى أن
يسلم والزوج كفو أجازه القاضي" وإنما يتم النكاح عنده حين يجيزه
القاضي; وهو قول محمد. وقد روي عن أبي يوسف غير ذلك، والمشهور عنه ما
ذكرناه. وقال الأوزاعي: "إذا ولت أمرها رجلا فزوجها كفوا فالنكاح جائز،
وليس للولي أن يفرق بينهما". وقال ابن أبي ليلى والثوري والحسن بن صالح
والشافعي: "لا نكاح إلا بولي". وقال ابن شبرمة: "لا يجوز النكاح إلا
بولي، وليس الوالدة بولي ولا أن تجعل المرأة وليها رجلا إلا قاض من
قضاة المسلمين". وقال ابن القاسم عن مالك: "إذا كانت امرأة معتقة أو
مسكينة أو دنية لا خطر لها، فلا بأس أن تستخلف رجلا ويزوجها، ويجوز".
وقال مالك: "وكل امرأة لها مال وغنى وقدر فإن تلك لا ينبغي أن يزوجها
إلا الأولياء أو السلطان" قال: وأجاز مالك للرجل أن يزوج المرأة وهو من
فخذها وإن كان غيره أقرب منه إليها. وقال الليث في المرأة تزوج بغير
ولي: "إن غيره أحسن منه يرفع أمرها إلى السلطان، فإن كان كفؤا أجازه
ولم يفسخه" وذلك في الثيب، وقال في السوداء تزوج بغير ولي: "إنه جائز"،
قال: "والبكر إذا زوجها غير ولي والولي قريب حاضر فهذا الذي أمره إلى
الولي يفسخه له السلطان إن رأى لذلك وجها، والولي من قبل هذا أولى من
الذي أنكحها".
قال أبو بكر: وجميع ما قدمنا من دلائل الآي الموجبة لجواز عقدها تقضي
بصحة قول أبي حنيفة في هذه المسألة; ومن جهة السنة حديث ابن عباس،
حدثنا محمد بن بكر قال: حدثنا أبو داود قال: حدثنا الحسن بن علي قال:
حدثنا عبد الرزاق قال: حدثنا معمر، عن صالح بن كيسان، عن نافع بن جبير
بن مطعم، عن ابن عباس، أن رسول الله
(1/485)
صلى الله
عليه وسلم قال: "ليس للولي مع الثيب أمر" قال أبو داود: وحدثنا أحمد بن
يونس وعبد الله بن مسلمة قالا: حدثنا مالك، عن عبد الله بن الفضل، عن
نافع بن جبير، عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"الأيم أحق بنفسها من وليها". فقوله: "ليس للولي مع الثيب أمر" يسقط
اعتبار الولي في العقد، وقوله: "الأيم أحق بنفسها من وليها" يمنع أن
يكون له حق في منعها العقد على نفسها، كقوله صلى الله عليه وسلم:
"الجار أحق بصقبه" وقوله لأم الصغير: "أنت أحق به ما لم تنكحي" فنفى
بذلك كله أن يكون له معها حق. ويدل عليه حديث الزهري عن سهل بن سعد في
المرأة التي وهبت نفسها للنبي صلى الله عليه وسلم فقال صلى الله عليه
وسلم: "ما لي في النساء من أرب" فقام رجل فسأله أن يزوجها، فزوجها ولم
يسألها هل لها ولي أم لا، ولم يشترط الولي في جواز عقدها. وخطب النبي
صلى الله عليه وسلم أم سلمة، فقالت: ما أحد من أوليائي شاهد; فقال لها
النبي صلى الله عليه وسلم: "ما أحد من أوليائك شاهد ولا غائب يكرهني"
فقالت لابنها وهو غلام صغير: قم فزوج أمك رسول الله صلى الله تعالى
عليه وسلم فتزوجها صلى الله تعالى عليه وسلم بغير ولي.
فإن قيل: لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان وليها وولي المرأة التي
وهبت نفسها له، لقوله تعالى: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ
مِنْ أَنْفُسِهِمْ} [الأحزاب: 6] قيل له: هو أولى بهم فيما يلزمهم من
اتباعه وطاعته فيما يأمرهم به، فأما أن يتصرف عليهم في أنفسهم وأموالهم
فلا; ألا ترى أنه لم يقل لها حين قالت له ليس أحد من أوليائي شاهد "وما
عليك من أوليائك وأنا أولى بك منهم" بل قال: "ما أحد منهم يكرهني"؟ وفي
هذا دلالة على أنه لم يكن وليا لهن في النكاح.
ويدل عليه من جهة النظر اتفاق الجميع على جواز نكاح الرجل إذا كان جائز
التصرف في ماله، كذلك المرأة لما كانت جائزة التصرف في مالها وجب جواز
عقد نكاحها. والدليل على أن العلة في جواز نكاح الرجل ما وصفنا أن
الرجل إذا كان مجنونا غير جائز التصرف في ماله لم يجز نكاحه، فدل على
صحة ما وصفنا.
واحتج من خالف في ذلك بحديث شريك عن سماك عن ابن أبي أخي معقل بن يسار
عن معقل: أن أخت معقل كانت تحت رجل، فطلقها ثم أراد أن يراجعها، فأبى
عليها معقل، فنزلت هذه الآية: {فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ
أَزْوَاجَهُنَّ}. وقد روي عن الحسن أيضا هذه القصة، وأن الآية نزلت
فيها، وأنه صلى الله عليه وسلم دعا معقلا وأمره بتزويجها. وهذا الحديث
غير ثابت على مذهب أهل النقل، لما في سنده من الرجل المجهول الذي روى
عنه سماك. وحديث الحسن مرسل، ولو ثبت لم ينف دلالة
(1/486)
الآية على
جواز عقدها، من قبل أن معقلا فعل ذلك فنهاه الله عنه فبطل حقه في
العضل. فظاهر الآية يقتضي أن يكون ذلك خطابا للأزواج; لأنه قال:
{وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا
تَعْضُلُوهُنَّ} فقوله تعالى: {فَلا تَعْضُلُوهُنَّ} إنما هو خطاب لمن
طلق; وإذا كان كذلك كان معناه عضلها عن الأزواج بتطويل العدة عليها كما
قال: {وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَاراً لِتَعْتَدُوا}. وجائز أن يكون قوله
تعالى: {وَلا تَعْضُلُوهُنَّ} خطابا للأولياء وللأزواج ولسائر الناس;
والعموم يقتضي ذلك.
واحتجوا أيضا بما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "أيما
امرأة نكحت بغير إذن وليها فنكاحها باطل". وبما روي من قوله: "لا نكاح
إلا بولي"، وبحديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: "لا تزوج
المرأة المرأة، ولا تزوج المرأة نفسها، فإن الزانية هي التي تزوج
نفسها". فأما الحديث الأول فغير ثابت، وقد بينا علله في شرح الطحاوي;
وقد روي في بعض الألفاظ: "أيما امرأة تزوجت بغير إذن مواليها" وهذا
عندنا على الأمة تزوج نفسها بغير إذن مولاها. وقوله: "لا نكاح إلا
بولي" لا يعترض على موضع الخلاف; لأن هذا عندنا نكاح بولي; لأن المرأة
ولي نفسها كما أن الرجل ولي نفسه; لأن الولي هو الذي يستحق الولاية على
من يلي عليه، والمرأة تستحق الولاية والتصرف على نفسها في مالها فكذلك
في بضعها. وأما حديث أبي هريرة، فمحمول على وجه الكراهة لحضور المرأة
مجلس الإملاك; لأنه مأمور بإعلان النكاح، ولذلك يجمع له الناس، فكره
للمرأة حضور ذلك المجمع; وقد ذكر أن قوله: "الزانية هي التي تنكح
نفسها" من قول أبي هريرة. وقد روي في حديث آخر عن أبي هريرة هذا
الحديث، وذكر فيه أن أبا هريرة قال: "كان يقال الزانية هي التي تنكح
نفسها". وعلى أن هذا اللفظ خطأ بإجماع المسلمين; لأن تزويجها نفسها ليس
بزنا عند أحد من المسلمين والوطء غير مذكور فيه، فإن حملته على أنها
زوجت نفسها ووطئها الزوج فهذا أيضا لا خلاف فيه أنه ليس بزنا; لأن من
لا يجيزه إنما يجعله نكاحا فاسدا يوجب المهر والعدة ويثبت به النسب إذا
وطئ; وقد استقصينا الكلام في هذه المسألة في شرح الطحاوي.
وقوله عز وجل: {ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ} يعني إذا لم
تعضلوهن; لأن العضل ربما أدى إلى ارتكاب المحظور منهما على غير وجه
العقد; وهو معنى قول النبي صلى الله تعالى عليه وسلم: "إذا أتاكم من
ترضون دينه وخلقه فزوجوه، إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير".
وحدثنا عبد الباقي بن قانع قال: حدثنا محمد بن شاذان قال: حدثنا معلى
قال: حدثنا حاتم بن إسماعيل قال: سمعت عبد الله بن هرمز قال: قال رسول
الله
(1/487)
صلى الله
عليه وسلم: "إذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه فأنكحوه، إلا تفعلوا تكن
فتنة في الأرض وفساد عريض".
(1/488)
باب الرضاع
قال الله تعالى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ
كَامِلَيْنِ} الآية. قال أبو بكر: ظاهره الخبر، ولكنه معلوم من مفهوم
الخطاب أنه لم يرد به الخبر; لأنه لو كان خبرا لوجد مخبره، فلما كان في
الوالدات من لا يرضع علم أنه لم يرد به الخبر. ولا خلاف أيضا في أنه لم
يرد به الخبر. وإذا لم يكن المراد حقيقة اللفظ الذي هو الخبر، لم يخل
من أن يكون المراد إيجاب الرضاع على الأم وأمرها به; إذ قد يرد الأمر
في صيغة الخبر، كقوله: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ
بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ}، وأن يريد به إثبات حق الرضاع للأم
وإن أبى الأب، أو تقدير ما يلزم الأب من نفقة الرضاع فلما قال في آية
أخرى: {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [الطلاق:
6] وقال تعالى: {وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى} دل
ذلك على أنه ليس المراد الرضاع شاءت الأم أو أبت، وأنها مخيرة في أن
ترضع أو لا ترضع; فلم يبق إلا الوجهان الآخران، وهو أن الأب إذا أبى
استرضاع الأم أجبر عليه، وأن أكثر ما يلزمه في نفقة الرضاع للحولين،
فإن أبى أن ينفق نفقة الرضاع أكثر منهما لم يجبر عليه. ثم لا يخلو بعد
ذلك قوله تعالى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ} من أن
يكون عموما في سائر الأمهات مطلقات كن أو غير مطلقات، أو أن يكون
معطوفا على ما تقدم ذكره من المطلقات مقصور الحكم عليهن، فإن كان
المراد سائر الأمهات المطلقات منهن والمزوجات فإن النفقة الواجبة
للمزوجات منهن هي نفقة الزوجية وكسوتها لا للرضاع; لأنها لا تستحق نفقة
الرضاع مع بقاء الزوجية، فتجتمع لها نفقتان إحداهما للزوجية والأخرى
للرضاع; وإن كانت مطلقة فنفقة الرضاع أيضا مستحقة بظاهر الآية; لأنه
أوجبها بالرضاع، وليست في هذه الحال زوجة ولا معتدة منه; لأنه يكون
معطوفا على قوله تعالى: {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ
أَجَلَهُنَّ فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ}
فتكون منقضية العدة بوضع الحمل، وتكون النفقة المستحقة أجرة الرضاع;
وجائز أن يكون طلقها بعد الولادة، فتكون عليها العدة بالحيض.
وقد اختلفت الرواية عن أصحابنا في وجوب نفقة الرضاع ونفقة العدة معا،
ففي إحدى الروايتين أنها تستحقهما معا، وفي الأخرى أنها لا تستحق
للرضاع شيئا مع نفقة العدة.
فقد حوت الآية الدلالة على معنيين: أحدهما: أن الأم أحق برضاع ولدها في
(1/488)
الحولين
وأنه ليس للأب أن يسترضع له غيرها إذا رضيت بأن ترضعه. والثاني: أن
الذي يلزم الأب في نفقة الرضاع إنما هو سنتان. وفي الآية دلالة على أن
الأب لا يشارك في نفقة الرضاع; لأن الله تعالى أوجب هذه النفقة على
الأب للأم وهما جميعا وارثان، ثم جعل الأب أولى بإلزام ذلك من الأم مع
اشتراكهما في الميراث، فصار ذلك أصلا في اختصاص الأب بإلزام النفقة دون
غيره. كذلك حكمه في سائر ما يلزمه من نفقة الأولاد الصغار والكبار
الزمنى يختص هو بإيجابه عليه دون مشاركة غيره فيه، لدلالة الآية عليه.
وقوله تعالى: {رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} يقتضي وجوب
النفقة والكسوة لها في حال الزوجية لشمول الآية لسائر الوالدات من
الزوجات والمطلقات. وقوله تعالى: {بِالْمَعْرُوفِ} يدل على أن الواجب
من النفقة والكسوة هو على قدر حال الرجل في إعساره ويساره; إذ ليس من
المعروف إلزام المعسر أكثر مما يقدر عليه ويمكنه، ولا إلزام الموسر
الشيء الطفيف. ويدل أيضا على أنها على مقدار الكفاية مع اعتبار حال
الزوج، وقد بين ذلك بقوله عقيب ذلك: {لا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا
وُسْعَهَا}، فإذا اشتطت المرأة وطلبت من النفقة أكثر من المعتاد
المتعارف لمثلها لم تعط، وكذلك إذا قصر الزوج عن مقدار نفقة مثلها في
العرف والعادة لم يحل ذلك وأجبر على نفقة مثلها.
وفي هذه الآية دلالة على جواز استئجار الظئر بطعامها وكسوتها; لأن ما
أوجبه الله تعالى في هذه الآية للمطلقة هي أجرة الرضاع، وقد بين ذلك
بقوله تعالى: {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ}.
وفي هذه الآية دلالة على تسويغ اجتهاد الرأي في أحكام الحوادث; إذ لا
توصل إلى تقدير النفقة بالمعروف إلا من جهة غالب الظن وأكثر الرأي; إذ
كان ذلك معتبرا بالعادة، وكل ما كان مبنيا على العادة فسبيله الاجتهاد
وغالب الظن; إذ ليست العادة مقصورة على مقدار واحد لا زيادة عليه ولا
نقصان. ومن جهة أخرى هو مبني على الاجتهاد، وهو اعتبار حاله في إعساره
ويساره ومقدار الكفاية والإمكان بقوله: {لا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا
وُسْعَهَا} واعتبار الوسع مبني على العادة.
وقوله تعالى: {لا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا} يوجب بطلان قول
أهل الإجبار في اعتقادهم أن الله يكلف عباده ما لا يطيقون، وإكذاب لهم
في نسبتهم ذلك إلى الله تعالى الله عما يقولون وينسبون إليه من السفه
والعبث علوا كبيرا.
قوله تعالى: {لا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلا مَوْلُودٌ لَهُ
بِوَلَدِهِ}. روي عن الحسن ومجاهد وقتادة قالوا: "هو المضارة في
الرضاع". وعن سعيد بن جبير وإبراهيم قالا: "إذا قام الرضاع على شيء
خيرت الأم".
(1/489)
قال أبو
بكر: فمعناه لا تضار والدة بولدها بأن لا تعطى إذا رضيت بأن ترضعه بمثل
ما ترضعه به الأجنبية، بل تكون هي أولى على ما تقدم في أول الآية من
قوله: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ
كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعَلَى
الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} فجعل
الأم أحق برضاع الولد هذه المدة، ثم أكد ذلك بقوله تعالى: {لا تُضَارَّ
وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا} يعني والله أعلم أنها إذا رضيت بأن ترضع بمثل
ما ترضع به غيرها، لم يكن للأب أن يضارها فيدفعه إلى غيرها; وهو كما
قال في آية أخرى: {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ}
[الطلاق: 6] فجعلها أولى بالرضاع، ثم قال: {وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ
فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى} [الطلاق: 6] فلم يسقط حقها من الرضاع إلا
عند التعاسر. ويحتمل أن يريد به أنها لا تضار بولدها إذا لم تختر أن
ترضعه بأن ينتزع منها، ولكنه يؤمر الزوج بأن يحضر الظئر إلى عندها حتى
ترضعه في بيتها; وكذلك قول أصحابنا. ولما كانت الآية محتملة للمضارة في
نزع الولد منها واسترضاع غيرها، وجب حمله على المعنيين، فيكون الزوج
ممنوعا من استرضاع غيرها إذا رضيت هي بأن ترضعه بأجرة مثلها وهي الرزق
والكسوة بالمعروف، وإن لم ترضع أجبر الزوج على إحضار المرضعة حتى.
ترضعه في بيتها حتى لا يكون مضارا لها بولدها. وفي هذا دلالة على أن
الأم أحق بإمساك الولد ما دام صغيرا، وإن استغنى عن الرضاع بعدما يكون
ممن يحتاج إلى الحضانة; لأن حاجته إلى الأم بعد الرضاع كهي قبله، فإذا
كانت في حال الرضاع أحق به، وإن كانت المرضعة غيرها علمنا أن في كونه
عند الأم حقا لها; وفيه حق للولد أيضا، وهو أن الأم أرفق به وأحنى
عليه. وذلك في الغلام عندنا إلى أن يأكل وحده ويشرب وحده ويتوضأ وحده،
وفي الجارية حتى تحيض; لأن الغلام إذا بلغ إلى الحد الذي يحتاج فيه إلى
التأديب ويعقله ففي كونه عند الأم دون الأب ضرر عليه، والأب مع ذلك
أقوم بتأديبه، وهي الحال التي قال فيها النبي صلى الله تعالى عليه
وسلم: "مروهم بالصلاة لسبع واضربوهم عليها لعشر، وفرقوا بينهم في
المضاجع". فمن كان سنه سبعا فهو مأمور بالصلاة على وجه التعليم
والتأديب; لأنه يعقلها; فكذلك سائر الأدب الذي يحتاج إلى تعلمه. وفي
كونه عندها في هذه الحال ضرر عليه، ولا ولاية لأحد على الصغير فيما
يكون فيه ضرر عليه. وأما الجارية فلا ضرر عليها في كونها عند الأم إلى
أن تحيض، بل كونها عندها أنفع لها; لأنها تحتاج إلى آداب النساء، ولا
تزول هذه الولاية عنها إلا بالبلوغ; لأنها تستحقها عليها بالولادة، ولا
ضرر عليها في كونها عندها; فلذلك كانت أولى إلى وقت البلوغ، فإذا بلغت
احتاجت إلى التحصين والأب أقوم بتحصينها، فلذلك كان أولى بها.
(1/490)
وبمثل
دلالة القرآن على ما وصفنا ورد الأثر عن الرسول صلى الله عليه وسلم وهو
ما روي عن علي كرم الله وجهه وابن عباس، أن عليا اختصم هو وزيد بن
حارثة وجعفر بن أبي طالب في بنت حمزة، وكانت خالتها تحت جعفر، فقال
النبي صلى الله عليه وسلم: "ادفعوها إلى خالتها فإن الخالة والدة" فكان
في هذا الخبر أنه جعل الخالة أحق من العصبة كما حكمت الآية بأن الأم
أحق بإمساك الولد من الأب. وهذا أصل في أن ذوات الرحم المحرم أولى
بإمساك الصبي وحضانته من حضانة العصبة من الرجال الأقرب فالأقرب منهم.
وقد حوى هذا الخبر معاني: منها أن الخالة لها حق الحضانة وأنها أحق به
من العصبة، وسماها والدة، ودل ذلك على أن كل ذات رحم محرم من الصبي
فلها هذا الحق الأقرب فالأقرب; إذ لم يكن هذا الحق مقصورا على الولادة.
وقد روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن عبد الله بن عمرو: أن امرأة جاءت بابن
لها إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله حين كان بطني له
وعاء وثدي سقاء وحجري له حواء أراد أبوه أن ينتزعه مني فقال: "أنت أحق
به ما لم تتزوجي"، وروي مثل ذلك عن جماعة من الصحابة، منهم علي وأبو
بكر وعبد الله بن مسعود والمغيرة بن شعبة في آخرين من الصحابة
والتابعين. وقال الشافعي: "يخير الغلام إذا أكل وشرب وحده، فإن اختار
الأب كان أولى به، وكذلك إن اختار الأم كان عندها". وروي فيه حديث عن
أبي هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خير غلاما بين أبويه، فقال
له: "اختر أيهما شئت". وروى عبد الرحمن بن غنم قال: شهدت عمر بن الخطاب
خير صبيا بين أبويه. فأما ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم فجائز أن
يكون بالغا; لأنه قد يجوز أن يسمى غلاما بعد البلوغ. وقد روي عن علي
أنه خير غلاما وقال: "لو قد بلغ هذا يعني أخا له صغيرا لخيرته". فهذا
يدل على أن الأول كان كبيرا. وقد روي في حديث أبي هريرة أن امرأة خاصمت
زوجها إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقالت: إنه طلقني وإنه يريد أن
ينزع مني ابني وقد نفعني وسقاني من بئر أبي عنبة، فقال رسول الله صلى
الله عليه وسلم: "استهما عليه" فقال: من يحاجني في ابني؟ فقال رسول
الله صلى الله عليه وسلم: "يا غلام هذه أمك وهذا أبوك فاختر أيهما شئت"
فأخذ الغلام بيد أمه; وقول الأم "قد سقاني من بئر أبي عنبة" يدل على
أنه كان كبيرا. وقد اتفق الجميع أنه لا اختيار للصغير في سائر حقوقه،
وكذلك في الأبوين، قال محمد بن الحسن: "لا يخير الغلام; لأنه لا يختار
إلا شر الأمرين". قال أبو بكر: هو كذلك; لأنه يختار اللعب والإعراض عن
تعلم الأدب والخير، وقال الله تعالى: {قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ
نَاراً} ومعلوم أن الأب أقوم بتأديبه وتعليمه، وأن في كونه عند الأم
ضررا عليه; لأنه ينشأ على أخلاق النساء.
(1/491)
وأما قوله
تعالى: {وَلا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ} فإنه عائد على المضار نهي
الرجل أن يضارها بولدها ونهي المرأة أيضا أن تضار بولده. والمضارة من
جهتها قد تكون في النفقة وغيرها، فأما في النفقة فأن تشتط عليه وتطلب
فوق حقها، وفي غير النفقة أن تمنعه من رؤيته والإلمام به. ويحتمل أن
تغترب به وتخرجه عن بلده فتكون مضارة له بولده، ويحتمل أن تريد أن لا
يطيعه وتمتنع من تركه عنده. فهذه الوجوه كلها محتملة ينطوي عليها قوله
تعالى: {وَلا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ} فوجب حمل الآية عليها.
قوله تعالى: {وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ} هو عطف على جميع
المذكور قبله، من عند قوله: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ
وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} لأن الكلام كله معطوف بعضه على بعض
بالواو، وهي حرف الجمع، فكان الجميع مذكورا في حال واحدة النفقة
والكسوة، والنهي لكل واحد منهما عن مضارة الآخر على ما اعتورها من
المعاني التي قدمنا ذكرها. ثم قال الله: {وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ
ذَلِكَ} يعني النفقة والكسوة وأن لا يضارها ولا تضاره; إذ كانت المضارة
قد تكون في النفقة كما تكون في غيرها، فلما قال عطفا على ذلك: {وَعَلَى
الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ} كان ذلك موجبا على الوارث جميع المذكور. وقد
روي عن عمر وزيد بن ثابت والحسن وقبيصة بن ذؤيب وعطاء وقتادة في قوله
تعالى: {وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ} قالوا: "النفقة". وعن ابن
عباس والشعبي: "عليه أن لا يضار". قال أبو بكر: قولهما "عليه أن لا
يضار" لا دلالة فيه على أنهما لم يريا النفقة واجبة على الوارث; لأن
المضارة قد تكون في النفقة كما تكون في غيرها، فعوده على المضارة لا
ينفي إلزامه النفقة; ولولا أن عليه النفقة ما كان لتخصيصه بالنهي عن
المضارة فائدة; إذ هو في ذلك كالأجنبي. ويدل على أن المراد المضارة في
النفقة وفي غيرها قوله تعالى عقيب ذلك: {وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ
تَسْتَرْضِعُوا أَوْلادَكُمْ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ} فدل ذلك على أن
المضارة قد انتظمت الرضاع والنفقة.
وقد اختلف السلف فيمن تلزمه نفقة الصغير، فقال عمر بن الخطاب: "إذا لم
يكن له أب فنفقته على العصبات"، وذهب في ذلك إلى أن الله تعالى أوجب
النفقة على الأب دون الأم; لأنه عصبة، فوجب أن تختص بها العصبات بمنزلة
العقل. وقال زيد بن ثابت: "النفقة على الرجال والنساء على قدر
مواريثهم" وهو قول أصحابنا. وروي عن ابن عباس ما ذكرنا من أن على
الوارث أن لا يضارها. وقد بينا أن هذا يدل على أنه رأى على الوارث
النفقة; لأن المضارة تكون فيها. وقال مالك: لا نفقة على أحد إلا الأب
خاصة ولا تجب على الجد وعلى ابن الابن للجد، وتجب على الابن للأب. وقال
الشافعي: "لا تجب نفقة الصغير على أحد من قرابته إلا الوالد والولد
والجد وولد الولد".
(1/492)
قال أبو
بكر: وظاهر قوله: {وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ} واتفاق السلف على
ما وصفنا من إيجاب النفقة يقضيان بفساد هذين القولين; لأن قوله :
{وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ} عائد على جميع المذكورين في النفقة
والمضارة، وغير جائز لأحد تخصيصه بغير دلالة. وقد ذكرنا اختلاف السلف
فيمن تجب عليه من الورثة. ولم يقل أحد منهم إن الأخ والعم لا تجب
عليهما النفقة، وقول مالك والشافعي خارج عن قول الجميع. ومن حيث وجب
على الأب وهو ذو رحم محرم، وجب على من هو بهذه الصفة الأقرب فالأقرب
لهذه العلة. ويدل عليه قوله تعالى: {وَلا عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنْ
تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ} إلى قوله تعالى: {أَوْ مَا مَلَكْتُمْ
مَفَاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ} [النور: 61] فذكر ذوي الرحم المحرم وجعل
لهم أن يأكلوا من بيوتهم، فدل على أنهم مستحقون لذلك، لولاه لما أباحه
لهم.
فإن قيل: قد ذكر فيه: {أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ أَوْ
صَدِيقِكُمْ} [النور: 61] ولا يستحقان النفقة. قيل له: هو منسوخ عنهم
بالاتفاق، ولم يثبت نسخ ذوى الرحم المحرم.
فإن قيل: فأوجبوا النفقة على ابن العم إذا كان وارثا قيل له: الظاهر
يقتضيه وخصصناه بدلالة.
فإن قيل: فإن كان قوله: {وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ} موجبا
للنفقة على كل وارث، فالواجب إيجاب النفقة على الأب والأم على قدر
مواريثهما منه. قيل له: إنما المراد "وعلى الوارث غير الأب" وذلك; لأنه
قد تقدم ذكر الأب في أول الخطاب بإيجاب جميع النفقة عليه دون الأم، ثم
عطف عليه قوله: {وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ} وغير جائز أن يكون
مراده الأب مع سائر الورثة; لأنه يوجب نسخ ما قد تقدم، وغير جائز وجود
الناسخ والمنسوخ في شيء واحد في خطاب; إذ كان النسخ غير جائز إلا بعد
استقرار الحكم والتمكين من الفعل. وذكر إسماعيل بن إسحاق أنه إذا ولد
مولود وأبوه ميت أو معدوم فعلى أمه أن ترضعه، لقوله تعالى:
{وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ} فلا يسقط عنها بسقوط ما
كان يجب على الأب، فإن انقطع لبنها بمرض أو غيره فلا شيء عليها، وإن
كان يمكنها أن تسترضع فلم تفعل وخافت عليه الموت وجب عليها أن تسترضع
لا من جهة ما على الأب لكن من جهة أن على كل واحد إعانة من يخاف عليه
إذا أمكنه.
وهذا الفصل من كلامه يشتمل على ضروب من الاختلاف: أحدها: أنه أوجب
الرضاع على الأم لقوله: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ}
وأعرض عن ذكر ما يتصل به من
(1/493)
قوله:
{وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ
بِالْمَعْرُوفِ}، فإنما جعل عليها الرضاع بحذاء ما أوجب لها من النفقة
والكسوة، فكيف يجوز إلزامها ذلك بغير بدل ومعلوم أن لزوم النفقة للأب
بدلا من الرضاع يوجب أن تكون تلك المنافع في الحكم حاصلة للأب ملكا
باستحقاق البدل عليه، فاستحال إيجابها على الأم، وقد أوجبها الله تعالى
على الأب بإلزامها بدلها من النفقة والكسوة. والثاني: قوله {يُرْضِعْنَ
أَوْلادَهُنَّ} ليس فيه إيجاب الرضاع عليها، وإنما جعل به الرضاع حقا
لها; لأنه لا خلاف أنها لا تجبر على الرضاع إذا أبت وكان الأب حيا; وقد
نص الله على ذلك في قوله: {وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ
أُخْرَى} [الطلاق: 6] فلا يصح الاستدلال بالآية على إيجاب الرضاع عليها
في حال فقد الأب، وهو لم يقتض إيجابه عليها في حال حياته، وهو المنصوص
عليه في الآية. ثم زعم أنه إن انقطع لبنها بمرض أو غيره فلا شيء عليها،
وإن أمكنها أن تسترضع. وهذا أيضا منتقض; لأنها إن كانت منافع الرضاع
مستحقة عليها للولد في حال فقد الأب، فواجب أن يكون ذلك عليها في مالها
إذا تعذر عليها الرضاع، كما وجب على الأب استرضاعه. وإن لم تكن منافع
الرضاع مستحقة عليها في مالها، فغير جائز إلزامها الرضاع; وما الفرق
بين لزومها منافع الرضاع وبين لزوم ذلك في مالها إذا تعذر عليها؟ ثم
ناقض فيه من وجه آخر، وهو أنه لم يلزمها نفقته بعد انقضاء الرضاع،
ويفرق بين الرضاع وبين النفقة بعد الرضاع، وهما جميعا من نفقة الصغير;
فمن أين أوجب الفرق بينهما؟ ولو جازت الفرقة من هذا الوجه لجاز مثله في
الأب، حتى يقال: إن الذي يلزمه إنما هو نفقة الرضاع، فإذا انقضت مدة
الرضاع فلا نفقة عليه للصغير; لأن الله تعالى إنما أوجب عليه نفقتها
وكسوتها للرضاع. ثم زعم أنه إذا أمكنها أن تسترضع وخافت عليه الموت،
فعليها أن تسترضع على الوجه الذي يلزمها ذلك لو خافت عليه الموت. فإن
كان ذلك على هذا المعنى فكيف خصها بإلزامها ذلك دون جيرانها ودون سائر
الناس؟ وهذا كله تخليط وتشه غير مقرون بدلالة ولا مستند إلى شبهة. وقد
حكي مثل ذلك عن مالك أنه لا يوجب النفقة إلا على الأب للابن وعلى الابن
للأب، ولا يوجبها للجد على ابن الابن. وهو قول خارج عن أقاويل السلف
والخلف جميعا لا نعلم عليه موافقا; ومع ذلك فإن ظاهر الكتاب يرده، وهو
قوله تعالى: {وَوَصَّيْنَا الْأِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ
أُمُّهُ وَهْناً عَلَى وَهْنٍ} [لقمان: 14] إلى قوله: {وَإِنْ
جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا
تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً} [لقمان: 15]
والجد داخل في هذه الجملة; لأنه أب; قال الله تعالى: {مِلَّةَ
أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ} [الحج: 78] وهو مأمور بمصاحبته بالمعروف لا
خلاف في ذلك، وليس من الصحبة بالمعروف تركه جائعا مع القدرة على سد
جوعته. ويدل عليه أيضا قوله: {وَلا عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا
مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ
(1/494)
آبَائِكُمْ} [النور: 61] فذكر بيوت هؤلاء الأقرباء ولم يذكر بيت الابن
ولا ابن الابن; لأن قوله: {مِنْ بُيُوتِكُمْ} [النور: 61] قد اقتضى
ذلك، كقوله: "أنت ومالك لأبيك" فأضاف إليه ملك الابن كما أضاف إليه بيت
الابن واقتصر على إضافة البيوت إليه. والدليل على أنه أراد بيوت الابن
وابن الابن، أنه قد كان معلوما قبل ذلك أن الإنسان غير محظور عليه مال
نفسه، فإنه لا وجه لقول القائل: لا جناح عليك في أكل مال نفسك; فدل ذلك
على أن المراد بقوله: {أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ} [النور: 61]
هي بيوت الأبناء وأبناء الأبناء; إذ لم يذكرهما جميعا كما ذكر سائر
الأقرباء.
وقد اختلف موجبو النفقة على الورثة على قدر مواريثهم، فقال أصحابنا:
"هي على كل من كان من أهل الميراث على قدر ميراثه من الصبي إذا كان ذا
رحم محرم منه، ولا نفقة على من لم يكن ذا رحم محرم من الصبي وإن كان
وارثا". ولذلك أوجبوا النفقة على الخال والميراث لابن العم; لأن ابن
العم ليس بذي رحم محرم، والخال وإن لم يكن وارثا في هذه الحال فهو من
أهل الميراث ذو رحم محرم وذلك; لأنه معلوم أنه لم يرد به وارثا في حال
الحياة; لأن الميراث لا يكون في حال الحياة، وبعد الموت لا يدرى من
يرثه، وعسى أن يكون هذا الصبي يرث هذا الذي عليه النفقة بموته قبله،
وجائز أن يحدث له من الورثة من يحجب من أوجبنا عليه. ولما كان ذلك كذلك
علمنا أنه ليس المراد حصول الميراث وإنما المعنى أنه ذو رحم محرم من
أهل الميراث. وقال ابن أبي ليلى: "النفقة واجبة على كل وارث، ذا رحم
محرم كان أو غير ذي رحم محرم"، فيوجبها على ابن العم دون الخال.
والدليل على صحة ما ذكرنا اتفاق الجميع على أن مولى العتاقة لا تجب
عليه النفقة وإن كان وارثا، وكذلك المرأة لا تجب عليها نفقة زوجها
الصغير وهي ممن يرثه; فدل ذلك على أن كونه ذا رحم محرم شرط في إيجاب
النفقة.
وأما قوله عز وجل: {حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ
يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ} فإنه لا يخلو توقيت الحولين من أحد معنيين: إما
أن يكون تقديرا لمدة الرضاع الموجب للتحريم، أو لما يلزم الأب من نفقة
الرضاع; فلما قال في نسق التلاوة بعد ذكر الحولين: {فَإِنْ أَرَادَا
فِصَالاً عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلا جُنَاحَ
عَلَيْهِمَا} دل ذلك على أن الحولين ليسا تقديرا لمدة الرضاع الموجب
للتحريم; لأن الفاء للتعقيب، فواجب أن يكون الفصال الذي علقه بإرادتهما
بعد الحولين، وإذا كان الفصال معلقا بتراضيهما وتشاورهما بعد الحولين
فقد دل ذلك على أن ذكر الحولين ليس هو من جهة توقيت نهاية الرضاع
الموجب للتحريم وأنه جائز أن يكون بعدهما رضاع. وقد روى معاوية بن صالح
عن علي بن أبي طلحة عن
(1/495)
ابن عباس
في قوله تعالى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ
كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ} ثم قال: "فإن
أرادا فصالا عن تراض منهما وتشاور فلا حرج إن أرادا أن يفطماه قبل
الحولين أو بعده". فأخبر ابن عباس في هذا الحديث أن قوله تعالى:
{فَإِنْ أَرَادَا فِصَالاً} على ما قبل الحولين وبعده. ويدل عليه قوله
تعالى: {وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلادَكُمْ فَلا
جُنَاحَ عَلَيْكُمْ} وظاهره الاسترضاع بعد الحولين; لأنه معطوف على ذكر
الفصال الذي علقه بتراضيهما، فأباحه لهما وأباح للأب الاسترضاع بعد ذلك
كما أباح لهما الفصال إذا كان فيه صلاح الصبي. ودل ما وصفنا على أن ذكر
الحولين إنما هو توقيت لما يلزم الأب في الحكم من نفقة الرضاع ويجبره
الحاكم عليه; والله أعلم.
(1/496)
ذكر اختلاف الفقهاء في وقت الرضاع
قال أبو بكر: قد كان بين السلف اختلاف في رضاعة الكبير، فروي عن عائشة
أنها كانت ترى رضاع الكبير موجبا للتحريم كرضاع الصغير، وكانت تروي في
ذلك حديث سالم مولى أبي حذيفة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لسهلة
بنت سهيل وهي امرأة أبي حذيفة: "أرضعيه خمس رضعات ثم يدخل عليك" وكانت
عائشة إذا أرادت أن يدخل عليها رجل أمرت أختها أم كلثوم أن ترضعه خمس
رضعات ثم يدخل عليها بعد ذلك; وأبى سائر نساء النبي صلى الله عليه وسلم
ذلك وقلن: لعل هذه كانت رخصة من رسول الله صلى الله عليه وسلم وحده.
وقد روي أن سهلة بنت سهيل قالت: يا رسول الله إني أرى في وجه أبي حذيفة
من دخول سالم علي فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أرضعيه يذهب ما في
وجه أبي حذيفة" . فيحتمل أن يكون ذلك خاصا لسالم كما تأوله سائر نساء
النبي صلى الله عليه وسلم كما خص أبا زياد بن دينار بالجذعة في الأضحية
وأخبر أنها لا تجزي عن أحد بعده. وقد روت عائشة عن النبي صلى الله عليه
وسلم ما يدل على أن رضاع الكبير لا يحرم، وهو ما حدثنا محمد بن بكر
قال: حدثنا أبو داود قال: حدثنا محمد بن كثير قال: أخبرنا سفيان عن
أشعث بن سليم عن أبيه عن مسروق عن عائشة: أن رسول الله صلى الله عليه
وسلم دخل عليها وعندها رجل فقالت: يا رسول الله إنه أخي من الرضاعة،
فقال صلى الله عليه وسلم: "انظرن من إخوانكن فإنما الرضاعة من
المجاعة". فهذا يوجب أن يكون حكم الرضاع مقصورا على حال الصغر وهي
الحال التي يسد اللبن فيها جوعته ويكتفي في غذائه به. وقد روي عن أبي
موسى أنه كان يرى رضاع الكبير; وروي عنه ما يدل على رجوعه، وهو ما روى
أبو حصين عن أبي عطية قال: قدم رجل بامرأته من المدينة، فوضعت فتورم
ثديها، فجعل يمجه ويصبه، فدخل في بطنه جرعة منه، فسأل أبا موسى فقال:
"بانت منك" فأتى ابن مسعود فأخبره ففصل، فأقبل بالأعرابي إلى الأشعري
فقال:
(1/496)
"أرضيعا
ترى هذا الأشمط إنما يحرم من الرضاع ما ينبت اللحم والعظم" فقال
الأشعري: "لا تسألوني عن شيء وهذا الحبر بين أظهركم"; وهذا يدل على أنه
رجع عن قوله الأول إلى قول ابن مسعود; إذ لولا ذلك لم يقل "لا تسألوني
عن شيء وهذا الحبر بين أظهركم" وكان باقيا على مخالفته وأن ما أفتى به
حق. وقد روي عن علي وابن عباس وعبد الله وأم سلمة وجابر بن عبد الله
وابن عمر "أن رضاع الكبير لا يحرم" ولا نعلم أحدا من الفقهاء قال برضاع
الكبير إلا شيء يروى عن الليث بن سعد يرويه عنه أبو صالح "أن رضاع
الكبير يحرم" وهو قول شاذ; لأنه قد روي عن عائشة ما يدل على أنه لا
يحرم، وهو ما روى الحجاج عن الحكم عن أبي الشعثاء عن عائشة قالت: "يحرم
من الرضاع ما أنبت اللحم والدم" وقد روى حرام بن عثمان عن ابني جابر عن
أبيهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يتم بعد حلم ولا
رضاع بعد فصال". وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث عائشة الذي
قدمناه: "إنما الرضاعة من المجاعة" ، وفي حديث آخر: "ما أنبت اللحم
وأنشز العظم" وهذا ينفي كون الرضاع في الكبير. وقد روي حديث عائشة الذي
قدمناه في رضاع الكبير على وجه آخر، وهو ما روى عبد الرحمن بن القاسم
عن أبيه: أن عائشة كانت تأمر بنت عبد الرحمن بن أبي بكر أن ترضع
الصبيان حتى يدخلوا عليها إذا صاروا رجالا. فإذا ثبت شذوذ قول من أوجب
رضاع الكبير، فحصل الاتفاق على أن رضاع الكبير غير محرم وبالله
التوفيق.
وقد اختلف فقهاء الأمصار في مدة. ذلك، فقال أبو حنيفة: "ما كان من رضاع
في الحولين وبعدهما بستة أشهر وقد فطم أو لم يفطم فهو يحرم، وبعد ذلك
لا يحرم فطم أو لم يفطم". وقال زفر بن الهذيل: "ما دام يجتزئ باللبن
ولم يفطم فهو رضاع، وإن أتى عليه ثلاث سنين". وقال أبو يوسف ومحمد
والثوري والحسن بن صالح والشافعي: "يحرم في الحولين ولا يحرم بعدهما،
ولا يعتبر الفطام وإنما يعتبر الوقت". وقال ابن وهب عن مالك: "قليل
الرضاع وكثيره محرم في الحولين، وما كان بعد الحولين فإنه لا يحرم
قليله ولا كثيره". وقال ابن القاسم عن مالك: "الرضاع حولان وشهر أو
شهران بعد ذلك، ولا ينظر إلى إرضاع أمه إياه إنما ينظر إلى الحولين
وشهر أو شهرين" قال: "وإن فصلته قبل الحولين وأرضعته قبل تمام الحولين
فهو فطيم، فإن ذلك لا يكون رضاعا إذا كان قد استغنى قبل ذلك عن الرضاع
فلا يكون ما أرضع بعده رضاعا". وقال الأوزاعي: "إذا فطم لسنة واستمر
فطامه فليس بعده رضاع، ولو أرضع ثلاث سنين لم يفطم لم يكن رضاعا بعد
الحولين".
وقد روي عن السلف في ذلك أقاويل، فروي عن علي: "لا رضاع بعد فصال"،
(1/497)
وعن عمر
وابن عمر: "لا رضاع إلا ما كان في الصغر". وهذا يدل من قولهم على ترك
اعتبار الحولين; لأن عليا علق الحكم بالفصال، وعمر وابنه بالصغر من غير
توقيت. وعن أم سلمة أنها قالت: "إنما يحرم من الرضاع ما كان في الثدي
قبل الفطام"، وعن أبي هريرة: "لا يحرم من الرضاع إلا ما فتق الأمعاء
وكان في الثدي قبل الفطام" فعلق الحكم بما كان قبل الفطام وبما فتق
الأمعاء، وهو نحو ما روي عن عائشة أنها قالت: "إنما يحرم من الرضاعة ما
أنبت اللحم والدم". فهذا كله يدل على أنه لم يكن من مذهبهم اعتبار
الحولين. وقد روي عن عبد الله بن مسعود وعبد الله بن عباس أنهما قالا:
"لا رضاع بعد الحولين" وما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:
"الرضاعة من المجاعة" يدل على أنه غير متعلق بالحولين; لأنه لو كان
الحولان توقيتا لما قال: "الرضاعة من المجاعة" ولقال: الرضاعة في
الحولين، فلما لم يذكر الحولين وذكر المجاعة ومعناها أن اللبن إذا كان
يسد جوعته ويقوى عليه بدنه فالرضاعة في تلك الحال، وذلك قد يكون بعد
الحولين فاقتضى ظاهر ذلك صحة الرضاع الموجب للتحريم بعد الحولين. وفي
حديث جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا رضاع بعد فصال" وذلك
يوجب أنه إذا فصل بعد الحولين أن ينقطع حكمه بعد ذلك. وكذلك ما روي عن
النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "الرضاعة ما أنبت اللحم وأنشز
العظم" دلالته على نفي توقيت الحولين بمدة الرضاع لدلالة الأخبار
المتقدمة. وقد حكي عن ابن عباس قول: "لست أثق بصحة النقل فيه" وهو أنه
يعتبر ذلك بقوله تعالى: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً}
[الأحقاف: 15] فإن ولدت المرأة لستة أشهر فرضاعه حولان كاملان، وإن
ولدت لتسعة أشهر فأحد وعشرون شهرا، وإن ولدت لسبعة أشهر فثلاثة وعشرون
شهرا يعتبر فيه تكملة ثلاثين شهرا بالحمل والفصال جميعا; ولا نعلم أحدا
من السلف والفقهاء بعدهم اعتبر ذلك.
ولما كانت أحوال الصبيان تختلف في الحاجة إلى الرضاع، فمنهم من يستغني
عنه قبل الحولين ومنهم من لا يستغني عنه بعد كمال الحولين، واتفق
الجميع على نفي الرضاع للكبير وثبوت الرضاع للصغير على ما قدمنا من
الرواية فيه عن السلف، ولم يكن الحولان حدا للصغير; إذ لا يمتنع أحد أن
يسميه صغيرا وإن أتى عليه حولان، علمنا أن الحولين ليس بتوقيت لمدة
الرضاع; ألا ترى أنه صلى الله عليه وسلم لما قال: "الرضاعة من المجاعة"
وقال: "الرضاعة ما أنبت اللحم وأنشز العظم" فقد اعتبر معنى تختلف فيه
أحوال الصغار وإن كان الأغلب أنهم قد يستغنون عنه بمضي الحولين؟ فسقط
اعتبار الحولين في ذلك. ثم مقدار الزيادة عليهما طريقه الاجتهاد; لأنه
تحديد بين الحال التي يكتفي فيها باللبن في غذائه وينبت عليه لحمه،
وبين الانتقال إلى الحال التي يكتفي فيها بالطعام ويستغني عن
(1/498)
اللبن;
وكان عند أبي حنيفة أنه ستة أشهر بعد الحولين، وذلك اجتهاد في التقدير;
والمقادير التي طريقها الاجتهاد لا يتوجه على القائل بها سؤال نحو
تقويم المستهلكات وأروش الجنايات التي لم يرد بمقاديرها توقيت، وتقدير
متعة النساء بعد الطلاق وما جرى مجرى ذلك، ليس لأحد مطالبة من غلب على
ظنه شيء من هذه المقادير بإقامة الدلالة عليه. فهذا أصل صحيح في هذا
الباب مسائله فيه على منهاج واحد، ونظيره ما قال أبو حنيفة في حد
البلوغ: "إنه ثماني عشرة سنة، وإن المال لا يدفع إلى البالغ الذي لم
يؤنس رشده إلا بعد خمس وعشرين سنة" في نظائر لذلك من المسائل التي طريق
إثبات المقادير فيها الاجتهاد.
فإن قال قائل: وإن كان طريقه الاجتهاد فلا بد من جهة يغلب معها في
النفس اعتبار هذا المقدار بعينه دون غيره، فما المعنى الذي أوجب من
طريق الاجتهاد اعتبار ستة أشهر بعد الحولين دون سنة تامة على ما قال
زفر؟ قيل له: أحد ما يقال في ذلك أن الله تعالى لما قال: {وَحَمْلُهُ
وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً} [الأحقاف: 15] ثم قال: {وَفِصَالُهُ
فِي عَامَيْنِ} [لقمان: 14] فعقل من مفهوم الخطابين كون الحمل ستة
أشهر، ثم جازت الزيادة عليه إلى تمام الحولين; إذ لا خلاف أن الحمل قد
يكون حولين، ولا يكون عندنا الحمل أكثر منهما فلا يخرج الحمل المذكور
في هذه الجملة من جملة الحولين، كذلك الفصال لا يخرج من جملة ثلاثين
شهرا; لأنهما جميعا قد انتظمتهما الجملة المذكورة في قوله تعالى:
{وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً} [الأحقاف: 15]. وكان أبو
الحسن يقول في ذلك: لما كان الحولان هما الوقت المعتاد للفطام وقد جازت
الزيادة عليه بما ذكرنا، وجب أن تكون مدة الانتقال من غذاء اللبن بعد
الحولين إلى غذاء الطعام ستة أشهر، كما كانت مدة انتقال الولد في بطن
الأم إلى غذاء الطعام بالولادة ستة أشهر، وذلك أقل مدة الحمل.
فإن قال قائل: قوله تعالى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ
حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ} نص
على أن الحولين تمام الرضاع، فغير جائز أن يكون بعده رضاع. قيل له
إطلاق لفظ الإتمام غير مانع من الزيادة عليه، ألا ترى أن الله تعالى قد
جعل مدة الحمل ستة أشهر في قوله: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ
شَهْراً} [الأحقاف: 15] وقوله تعالى: {وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ}
[لقمان: 14]؟ فجعل مجموع الآيتين الحمل ستة أشهر، ثم لم تمتنع الزيادة
عليها، فكذلك ذكر الحولين للرضاع غير مانع جواز الزيادة عليهما; وقال
النبي صلى الله عليه وسلم: "من أدرك عرفة فقد تم حجه" ولم تمتنع زيادة
الفرض عليها. وأيضا فإن ذلك تقدير لما يلزم الأب من أجرة الرضاع، وأنه
غير مجبر على أكثر منهما، لإثباته
(1/499)
الرضاع
بتراضيهما بقوله تعالى: {فَإِنْ أَرَادَا فِصَالاً عَنْ تَرَاضٍ
مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا} وبقوله تعالى:
{وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلادَكُمْ فَلا جُنَاحَ
عَلَيْكُمْ} فلما ثبت الرضاع بعد الحولين دل ذلك على أن حكم التحريم به
غير مقصور عليهما.
فإن قيل: هلا اعتبرت الفطام على ما اعتبره مالك في الحولين في حال
استغناء الصبي عن اللبن بالطعام، بدلالة ما روي عن النبي صلى الله عليه
وسلم: "لا رضاع بعد فصال" وبما روي عن الصحابة فيه على نحو ما قدمنا
ذكره مما يدل كله على اعتبار الفطام؟ قيل له: لو وجب ذلك لوجب اعتبار
حال الصبي بعد الحولين في حاجته إلى اللبن واستغنائه عنه; لأن من
الصبيان من يحتاج إلى الرضاع بعد الحولين، فلما اتفق الجميع على سقوط
اعتبار ذلك بعد الحولين دل على سقوط اعتباره في الحولين، ووجب أن يكون
حكم التحريم معلقا بالوقت دون غيره.
فإن قال قائل: قد روي في حديث جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
"لا رضاع بعد الحولين"؟ قيل له: المشهور عنه: "لا رضاع بعد فصال" فجائز
أن يكون هذا هو أصل الحديث وأن من ذكر الحولين حمله على المعنى وحده.
وأيضا لو ثبت هذا اللفظ احتمل أن يريد أيضا: لا رضاع على الأب بعد
الحولين; على نحو تأويل قوله تعالى: {حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ
أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ} وقد تقدم ذكره. وأيضا لو كان
الحولان هما مدة الرضاع وبهما يقع الفصال لما قال تعالى: {فَإِنْ
أَرَادَا فِصَالاً} وهذا القول يدل من وجهين على أن الحولين ليسا
توقيتا للفصال: أحدهما: ذكره للفصال منكورا في قوله تعالى: {فِصَالاً}
ولو كان الحولان فصالا لقال "الفصال" حتى يرجع ذكر الفصال إليهما; لأنه
معهود مشار إليه، فلما أطلق فيه لفظ النكرة دل على أنه لم يرد به
الحولين. والوجه الآخر: تعليقه الفصال بإرادتهما، وما كان مقصورا على
وقت محدود لا يعلق بالإرادة والتراضي والتشاور; وفي ذلك دليل على ما
ذكرنا.
وقوله تعالى: {فَإِنْ أَرَادَا فِصَالاً عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا
وَتَشَاوُرٍ} يدل على جواز الاجتهاد في أحكام الحوادث لإباحة الله
تعالى للوالدين التشاور فيما يؤدي إلى صلاح أمر الصغير، وذلك موقوف على
غالب ظنهما لا من جهة اليقين والحقيقة وفيه أيضا دلالة على أن الفطام
في مدة الرضاع موقوف على تراضيهما، وأنه ليس لأحدهما أن يفطمه دون
الآخر، لقوله تعالى: {فَإِنْ أَرَادَا فِصَالاً عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا
وَتَشَاوُرٍ} فأجاز ذلك بتراضيهما وتشاورهما. وقد روي نحو ذلك عن
مجاهد.
وقد روي عن بعض السلف نسخ في هذه الآية، روى شيبان عن قتادة في قوله
(1/500)
تعالى:
{وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ} ثم
أنزل التخفيف بعد ذلك فقال تعالى: {لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ
الرَّضَاعَةَ}.
قال أبو بكر: كأنه عنده كان رضاع الحولين واجبا ثم خفف وأبيح الرضاع
أقل من مدة الرضاع بقوله تعالى: {لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ
الرَّضَاعَةَ}.
وروى أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس مثل قول قتادة. وروى علي بن أبي
طلحة عن ابن عباس في قوله تعالى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ
أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ
الرَّضَاعَةَ} ثم قال: "فإن أرادا فصالا عن تراض منهما وتشاور فلا حرج
إن أرادا أن يفطما قبل الحولين أو بعدهما" والله أعلم.
(1/501)
ذكر عدة المتوفى عنها زوجها
قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ
أَزْوَاجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ
وَعَشْراً} والتربص بالشيء الانتظار به، قال الله تعالى:
{فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ} [المؤمنون: 25] وقال تعالى: {وَمِنَ
الْأَعْرَابِ مَنْ يَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ مَغْرَماً وَيَتَرَبَّصُ
بِكُمُ الدَّوَائِرَ} [التوبة: 98] يعني ينتظر، وقال تعالى: {أَمْ
يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ} [الطور: 30]
فأمرهن الله تعالى بأن يتربصن بأنفسهن هذه المدة عن الأزواج. ألا ترى
أنه عقبه بقوله تعالى: {فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا جُنَاحَ
عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ} ؟ وقد كانت عدة المتوفى
عنها زوجها سنة، بقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ
وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعاً إِلَى
الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ} [البقرة: 240] فتضمنت هذه الآية أحكاما:
منها توقيت العدة سنة، ومنها: أن نفقتها وسكناها كانت في تركة زوجها ما
دامت معتدة بقوله تعالى: {وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعاً إِلَى
الْحَوْلِ}. ومنها: أنها كانت ممنوعة من الخروج في هذه السنة فنسخ منها
من المدة ما زاد على أربعة أشهر وعشرا، ونسخ أيضا وجوب نفقتها وسكناها
في التركة بالميراث لقوله تعالى: {أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً} من
غير إيجاب نفقة ولا سكنى، ولم يثبت نسخ الإخراج، فالمنع من الخروج في
العدة الثانية قائم; إذ لم يثبت نسخه. وقد حدثنا جعفر بن محمد الواسطي
قال: حدثنا جعفر بن محمد بن اليمان قال: حدثنا أبو عبيد قال: حدثنا
حجاج عن ابن جريج، وعثمان بن عطاء عن عطاء الخراساني، عن ابن عباس في
هذه الآية يعني قوله تعالى: {وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعاً إِلَى
الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ} [البقرة: 240] قال: كان للمتوفى عنها
زوجها نفقتها وسكناها سنة، فنسختها آية المواريث، فجعل لهن الربع أو
الثمن مما ترك الزوج قال: وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا وصية
لوارث إلا أن يرضى
(1/501)
الورثة".
قال: وحدثنا أبو عبيد قال: حدثنا يزيد عن يحيى بن سعيد عن حميد عن
نافع، أنه سمع زينب بنت أبي سلمة عن أم سلمة وأم حبيبة: أن امرأة أتت
النبي صلى الله عليه وسلم فذكرت أن بنتا لها توفي عنها زوجها واشتكت
عينها وهي تريد أن تكحلها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قد
كانت إحداكن ترمي بالبعرة عند رأس الحول، وإنما هي أربعة أشهر وعشرا"
قال حميد: فسألت زينب: وما رميها بالبعرة؟ فقالت: كانت المرأة في
الجاهلية إذا توفي عنها زوجها عمدت إلى شر بيت لها فجلست فيه سنة، فإذا
مرت سنة خرجت فرمت ببعرة من ورائها رواه مالك عن عبد الله بن أبي بكر
بن عمرو عن حميد عن نافع عن زينب بنت أبي سلمة، وذكرت الحديث وقالت
فيه: كانت المرأة في الجاهلية إذا توفي عنها زوجها دخلت حفشا ولبست شر
ثيابها ولم تمس طيبا ولا شيئا حتى تمر سنة، ثم تؤتى بدابة حمار أو شاة
أو طير فتفتض به، فقلما تفتض بشيء إلا مات، ثم تخرج فتعطى بعرة فترمي
بها، ثم تراجع بعد ما شاءت من طيب أو غيره فأخبر النبي صلى الله عليه
وسلم أن عدة الحول منسوخة بأربعة أشهر وعشرا، وأخبر ببقاء حظر الطيب
عليها في العدة. وعدة الحول وإن كانت متأخرة في التلاوة فهي متقدمة في
التنزيل، وعدة الشهور متأخرة عنها ناسخة لها; لأن نظام التلاوة ليس هو
على نظام التنزيل وترتيبه.
واتفق أهل العلم على أن عدة الحول منسوخة بعدة الشهور على ما وصفنا،
وأن وصية النفقة والسكنى للمتوفى عنها زوجها منسوخة إذا لم تكن حاملا.
واختلفوا في نفقة الحامل المتوفى عنها زوجها أيضا، وسنذكر ذلك في موضعه
إن شاء الله تعالى. ولا خلاف بين أهل العلم أيضا في أن هذه الآية خاصة
في غير الحامل.
واختلفوا في عدة الحامل المتوفى عنها زوجها على ثلاثة أنحاء: فقال علي
وهي إحدى الروايتين عن ابن عباس: "عدتها أبعد الأجلين". وقال عمر وعبد
الله وزيد بن ثابت وابن عمر وأبو هريرة في آخرين: "عدتها أن تضع
حملها". وروي عن الحسن "أن عدتها أن تضع حملها وتطهر من نفاسها، ولا
يجوز لها أن تتزوج وهي ترى الدم". وأما علي فإنه ذهب إلى أن قوله
تعالى: {أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً} يوجب الشهور، وقوله تعالى:
{وَأُولاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ}
[الطلاق: 4] يوجب انقضاء العدة بوضع الحمل; فجمع بين الآيتين في إثبات
حكمهما للمتوفى عنها زوجها، وجعل انقضاء عدتها أبعد الأجلين من وضع
الحمل أو مضي الشهور. وقال عبد الله بن مسعود: من شاء باهلته أن قوله
تعالى: {وَأُولاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ
حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 4] نزل بعد قوله: {أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ
وَعَشْراً}. فحصل بما ذكرنا اتفاق الجميع على أن قوله تعالى:
{وَأُولاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ} [الطلاق: 4] عام في المطلقة
والمتوفى
(1/502)
عنها
زوجها، وإن كان مذكورا عقيب ذكر الطلاق، لاعتبار الجميع بالحمل في
انقضاء العدة; لأنهم قالوا جميعا: "إن مضي الشهور لا تنقضي به عدتها
إذا كانت حاملا حتى تضع حملها" فوجب أن يكون قوله تعالى: {وَأُولاتُ
الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 4]
مستعملا على مقتضاه وموجبه وغير جائز اعتبار الشهور معه. ويدل على ذلك
أيضا أن عدة الشهور خاصة في غير المتوفى عنها زوجها. ويدل عليه أيضا أن
قوله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ
ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} مستعمل في المطلقات غير الحوامل، وأن الأقراء غير
مشروطة مع الحمل في الحامل، بل كانت عدة الحامل المطلقة وضع الحمل من
غير ضم الأقراء إليها. وقد كان جائزا أن يكون الحمل والأقراء مجموعين
عدة لها بأن لا تنقضي عدتها بوضع الحمل حتى تحيض ثلاث حيض، فكذلك يجب
أن تكون عدة الحامل المتوفى عنها زوجها هي الحمل غير مضموم إليه
الشهور. وروي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: قلت يا رسول الله في
هذه الآية حين نزلت {وَأُولاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ
حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 4] في المطلقة والمتوفى عنها زوجها؟ قال: "فيهما
جميعا". وقد روت أم سلمة أن سبيعة بنت الحارث ولدت بعد وفاة زوجها
بأربعين ليلة، فأمرها رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن تتزوج. وروى
منصور عن إبراهيم عن الأسود عن أبي السنابل بن بعكك: "أن سبيعة بنت
الحارث وضعت بعد وفاة زوجها ببضع وعشرين ليلة، فأمرها رسول الله صلى
الله عليه وسلم أن تتزوج". وهذا حديث قد ورد من طرق صحيحة لا مساغ لأحد
في العدول عنه مع ما عضده من ظاهر الكتاب.
وهذه الآية خاصة في الحرائر دون الإماء; لأنه لا خلاف بين السلف فيما
نعلمه وبين فقهاء الأمصار في أن عدة الأمة المتوفى عنها زوجها شهران
وخمسة أيام نصف عدة الحرة. وقد حكي عن الأصم أنها عامة في الأمة
والحرة، وكذلك يقول في عدة الأمة في الطلاق "إنها ثلاث حيض" وهو قول
شاذ خارج عن أقاويل السلف والخلف مخالف للسنة; لأن السلف لم يختلفوا في
أن عدة الأمة من الحيض والشهور على النصف من عدة الحرة; وقال النبي صلى
الله عليه وسلم: "طلاق الأمة تطليقتان وعدتها حيضتان" وهذا خبر قد
تلقاه الفقهاء بالقبول واستعملوه في تنصيف عدة الأمة، فهو في حيز
التواتر الموجب للعلم عندنا.
واختلف السلف في المتوفى عنها زوجها إذا لم تعلم بموته وبلغها الخبر،
فقال ابن مسعود وابن عباس وابن عمر وعطاء وجابر بن زيد: "عدتها منذ يوم
يموت، وكذلك في الطلاق من يوم طلق" وهو قول الأسود بن يزيد في آخرين،
وهو قول فقهاء الأمصار. وقال علي والحسن البصري وخلاس بن عمرو: "من يوم
يأتيها الخبر في الموت، وفي
(1/503)
الطلاق من
يوم طلق" وهو قول ربيعة. وقال الشعبي وسعيد بن المسيب: "إذا قامت
البينة فالعدة من يوم يموت، وإذا لم تقم بينة فمن يوم يأتيها الخبر".
وجائز أن يكون مذهب علي على هذا المعنى بأن يكون قد خفي عليها وقت
الموت فأمرها بالاحتياط من يوم يأتيها الخبر، وذلك لأن الله تعالى نص
على وجوب العدة بالموت والطلاق بقوله: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ
مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ} كما
قال تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ
قُرُوءٍ} فأوجب العدة فيهما بالموت وبالطلاق، فواجب أن تكون العدة
فيهما من يوم الموت والطلاق; ولما اتفقوا على أن عدة المطلقة من يوم
طلق ولم يعتبروا وقت بلوغ الخبر، كذلك عدة الوفاة; لأنهما جميعا سببا
وجوب العدة; وأيضا فإن العدة ليست هي فعلها فيعتبر فيها علمها، وإنما
هي مضي الأوقات، ولا فرق بين علمها بذلك وبين جهلها به. وأيضا لما كانت
العدة موجبة عن الموت كالميراث، وإنما يعتبر في الميراث وقت الوفاة لا
وقت بلوغ خبرها، وجب أن تكون كذلك العدة وأن لا يختلف فيها حكم العلم
والجهل كما لا يختلف في الميراث. وأيضا فإن أكثر ما في العلم أن تجتنب
ما تجتنبه المعتدة من الخروج والزينة إذا علمت، فإذا لم تعلم فترك
اجتناب ما يلزم اجتنابه في العدة لم يكن مانعا من انقضاء العدة; لأنها
لو كانت عالمة بالموت فلم تجتنب الخروج والزينة لم يؤثر ذلك في انقضاء
العدة فكذلك إذا لم تعلم به.
قوله تعالى: {أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً} ذكر سليمان بن شعيب عن
أبيه عن أبي يوسف عن أبي حنيفة، أنه قال في المتوفى عنها زوجها
والمعتدة من الطلاق بالشهور: "إنه إن وجبت مع رؤية الهلال اعتدت
بالأهلة كان الشهر ناقصا أو تاما، وإن كانت العدة وجبت في بعض شهر لم
تعمل على الأهلة واعتدت تسعين يوما في الطلاق وفي الوفاة مائة وثلاثين
يوما". وذكر أيضا سليمان بن شعيب عن أبيه عن محمد عن أبي يوسف عن أبي
حنيفة بخلاف ذلك، قال: "إن كانت العدة وجبت في بعض شهر فإنها تعتد بما
بقي من ذلك الشهر أياما، ثم تعتد لما يمر عليها من الأهلة شهورا، ثم
تكمل الأيام الأول ثلاثين يوما; وإذا وجبت العدة مع رؤية الهلال اعتدت
بالأهلة"; وهو قول أبي يوسف ومحمد والشافعي. وروي عن مالك في الإجارة
مثله. وقال ابن القاسم: وكذلك قوله في الأيمان والطلاق، وكذلك قال
أصحابنا في الإجارة. وروى عمر بن خالد عن زفر في الإيلاء في بعض الشهر
"أنها تعتد بكل شهر يمر عليها ناقصا أو تاما" قال: وقال أبو يوسف:
"تعتد بالأيام حتى تستكمل مائة وعشرين يوما ولا تنظر إلى نقصان الشهر
ولا إلى تمامه".
قال أبو بكر: وهذا على ما حكاه سليمان بن شعيب عن أبيه عن أبي يوسف عن
(1/504)
أبي حنيفة
في عدة الشهور، ولا خلاف بين الفقهاء في مدة العدد وأجل الإيلاء
والأيمان والإجارات إذا عقدت على الشهور مع رؤية الهلال، أنه تعتبر
الأهلة في سائر شهوره سواء كانت ناقصة أو تامة، وإذا كان ابتداء المدة
في بعض الشهر فهو على الخلاف الذي ذكرنا. وأما وجه من اعتبر في ذلك
بقية الشهر الأول بالعدد ثلاثين يوما وسائر الشهور بالأهلة ثم يكمل
الشهر الآخر بالأيام مع بقية الشهر الأول، فإنه ذهب إلى معنى قول النبي
صلى الله عليه وسلم: "صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته فإن غم عليكم
فأكملوا عدة شعبان ثلاثين" فدل ذلك على معنيين: أحدهما: أن كل شهر
ابتداؤه وانتهاؤه بالهلال، واحتجنا إلى اعتباره، فواجب اعتباره بالهلال
ناقصا كان أو تاما، كما أمر النبي صلى الله عليه وسلم باعتباره في صوم
رمضان وشعبان; وكل شهر لم يكن ابتداؤه وانتهاؤه بالأهلة فهو ثلاثون،
وإنما ينقص بالهلال، فلما لم يكن ابتداء الشهر الأول بالهلال وجب فيه
استيفاء ثلاثين يوما من آخر المدة، وسائر الشهور لما أمكن استيفاؤها
بالأهلة وجب اعتبارها بها. وعلى قول من اعتبر سائر الشهور بالأيام
يقول: لما لم يكن ابتداء المدة بالهلال وجب استيفاء هذا الشهر بالأيام
ثلاثين يوما، فيكون انقضاؤه في بعض الشهر الذي يليه ثم يكون كذلك حكم
سائر الشهور. قالوا: ولا يجوز أن يجبر هذا الشهر من أحد الشهور ويجعل
ما بينهما شهورا بالأهلة لأن الشهور سبيلها أن تكون أيامها متصلة
متوالية، فوجب استيفاء شهر كامل ثلاثين يوما منذ أول المدة أياما
متوالية فيقع ابتداء الشهر الثاني في بعض الشهر الثاني، فتكون الشهور
وأيامها متوالية متصلة. ومن يعتبر الأهلة فيما يستقبل من الشهور بعد
بقية الشهر الأول، فإنه يحتج بما قدمنا ذكره من أنه قد استقبل الشهر
الذي يليه بالهلال، فوجب أن يكون انتهاؤه بالهلال، قال الله تعالى:
{فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ} [التوبة: 2]. واتفق أهل
العلم بالنقل أنها كانت عشرين من ذي الحجة والمحرم وصفر وربيع الأول
وعشرا من ربيع الآخر، فاعتبر الهلال فيما يأتي من الشهور دون عدد
الأيام، فوجب مثله في نظائره من المدة.
وقوله تعالى: {وَعَشْراً} ظاهرها أنها الليالي والأيام مرادة معها،
ولكن غلبت الليالي على الأيام إذا اجتمعت في التاريخ وغيره; لأن ابتداء
شهور الأهلة بالليالي منذ طلوع الأهلة، فلما كان ابتداؤها الليل غلبت
الليالي وخصت بالذكر دون الأيام وإن كانت تفيد ما بإزائها من الأيام،
ولو ذكر جمعا من الأيام أفادت ما بإزائها من الليالي; والدليل عليه
قوله تعالى: {ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزاً} [آل عمران: 41] وقال
تعالى في موضع آخر: {ثَلاثَ لَيَالٍ سَوِيّاً} [مريم: 10] والقصة
واحدة، فاكتفى تارة بذكر الأيام عن الليالي وتارة بذكر الليالي عن
الأيام. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "الشهر تسع وعشرون" وفي لفظ
(1/505)
آخر:
"تسعة وعشرون" فدل على أن كل واحد من العددين إذا أطلق أفاد ما بإزائه
من الآخر، ألا ترى أنه لما اختلف العددان من الليالي والأيام فصل
بينهما في اللفظ في قوله تعالى: {سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ
أَيَّامٍ حُسُوماً} [الحاقة: 7]؟ وذكر الفراء أنهم يقولون "صمنا عشرا
من شهر رمضان" فيعبرون بذكر الليالي عن الأيام; لأن عشرا لا تكون إلا
لليالي، ألا ترى أنه لو قال عشرة أيام لم يجز فيها إلا التذكير؟ وأنشد
الفراء:
أقامت ثلاثا بين يوم وليلة ... وكان النكير أن تضيف وتجأرا
فقال "ثلاثا" وهي الليالي، وذكر اليوم والليلة في المراد. وإذا ثبت ما
وصفنا كان قوله تعالى {أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً} مفيدا لكون
المدة أربعة أشهر على ما قدمنا من الاعتبار، وعشرة أيام زائدة عليها،
وإن كان لفظ العدد واردا بلفظ التأنيث.
(1/506)
ذكر الاختلاف في خروج المعتدة من بيتها
قال أصحابنا: لا تنتقل المبتوتة ولا المتوفى عنها زوجها عن بيتها الذي
كانت تسكنه، وتخرج المتوفى عنها زوجها بالنهار ولا تبيت في غير منزلها،
ولا تخرج المطلقة ليلا ولا نهارا إلا من عذر; وهو قول الحسن. وقال
مالك: "لا تنتقل المطلقة المبتوتة ولا الرجعية ولا المتوفى عنها، ولا
يخرجن بالنهار، ولا يبتن عن بيوتهن". وقال الشافعي: "ولم يكن الإحداد
في سكنى البيوت فتسكن المتوفى عنها زوجها أي بيت كانت فيه جيدا أو
رديا، وإنما الإحداد في الزينة".
قال أبو بكر: أما المطلقة فلقوله تعالى: {لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ
بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ
مُبَيِّنَةٍ} [الطلاق: 1] فحظر خروجها وإخراجها في العدة إلا أن يأتين
بفاحشة مبينة، وذلك ضرب من العذر، فأباح خروجها لعذر. وقد اختلف في
الفاحشة المذكورة في هذه الآية، وسنذكرها في موضعها إن شاء الله. وأما
المتوفى عنها زوجها فإن الله تعالى قال في العدة الأولى: {مَتَاعاً
إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ} ثم نسخ منها ما زاد على الأربعة
الأشهر والعشر، فبقي حكم هذه العدة الثانية على ما كان عليه من ترك
الخروج; إذ لم يرد لها نسخ وإنما النسخ فيما زاد.
وقد وردت السنة بمثل ما دل عليه الكتاب، حدثنا محمد بن بكر قال: حدثنا
أبو داود قال: حدثنا عبد الله بن مسلمة القعنبي، عن مالك عن سعد بن
إسحاق بن كعب بن عجرة عن عمته زينب بنت كعب بن عجرة، أن الفريعة بنت
مالك بن سنان وهي أخت أبي سعيد الخدري أخبرتها أنها جاءت إلى النبي صلى
الله عليه وسلم تسأله أن ترجع إلى أهلها في بني خدرة فإن زوجها قتله
عبد له، فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم
(1/506)
أن أرجع
إلى أهلي فإنه لم يتركني في مسكن يملكه ولا نفقة، قالت: فقال رسول الله
صلى الله عليه وسلم: "نعم" قالت: فخرجت حتى إذا كنت في الحجرة أو في
المسجد دعاني فقال: "كيف قلت؟" فرددت عليه القصة التي ذكرت من شأن
زوجي، قالت: فقال: "امكثي في بيتك حتى يبلغ الكتاب أجله" قالت: فاعتددت
فيه أربعة أشهر وعشرا، قالت: فلما كان عثمان أرسل إلي وسألني عن ذلك،
فأخبرته، فاتبعه وقضى به.
وقد روي عن ابن عباس خلاف ذلك; حدثنا محمد بن بكر قال: حدثنا أبو داود
قال: حدثنا أحمد بن محمد المروزي قال: حدثنا موسى بن مسعود قال: حدثنا
شبل عن ابن أبي نجيح قال: قال عطاء: قال ابن عباس: نسخت هذه الآية
عدتها عند أهله فتعتد حيث شاءت، وهو قول الله عز وجل: {غَيْرَ
إِخْرَاجٍ} قال عطاء: إن شاءت اعتدت عند أهلها وسكنت في منزلها، وإن
شاءت خرجت، لقول الله تعالى: {فَإِنْ خَرَجْنَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ
فِي مَا فَعَلْنَ} قال عطاء: ثم جاء الميراث فنسخ السكنى فتعتد حيث
شاءت.
قال أبو بكر: ليس في إيجاب الميراث ما يوجب نسخ الكون في المنزل، وقد
يجوز اجتماعهما، فليس في ثبوت أحدهما نفي الآخر. وقد ثبت ذلك أيضا بسنة
الرسول صلى الله عليه وسلم بعد نسخ الحول وإيجاب الميراث; لأن عدة
الفريعة كانت أربعة أشهر وعشرا، وقد نهاها النبي صلى الله عليه وسلم عن
النقلة. وما روينا من قصة الفريعة قد دل على معنيين: أحدهما: لزوم
الكون في المنزل الذي كانت تسكنه يوم الوفاة والنهي عن النقلة، والثاني
جواز الخروج، إذ لم ينكر النبي صلى الله عليه وسلم الخروج، ولو كان
الخروج محظورا لنهاها عنه. وقد روي مثل ذلك عن جماعة من السلف، منهم
عبد الله بن مسعود وعمر وزيد بن ثابت وأم سلمة وعثمان، أنهم قالوا:
"المتوفى عنها زوجها تخرج بالنهار ولا تبيت عن بيتها". وروى عبد الرزاق
عن ابن كثير عن مجاهد قال: استشهد رجال يوم أحد فآمت نساؤهم وكن
متجاورات في دار، فأتين رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلن: نبيت عند
إحدانا؟ فقال: "تزاورن بالنهار فإذا كان الليل فلتأو كل واحدة منكن إلى
بيتها". وروي عن جماعة من السلف أن المتوفى عنها زوجها تعتد حيث شاءت،
منهم علي وابن عباس وجابر بن عبد الله وعائشة; وما قدمنا من دليل
الكتاب والسنة يوجب صحة القول الأول.
فإن قيل: قال الله تعالى: {مَتَاعاً إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ
فَإِنْ خَرَجْنَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِي
أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ} فهذا يدل على أن لها أن تنتقل. قيل له:
المعنى "فإذا خرجن بعد انقضاء العدة" كما قال في الآية الأخرى:
{فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا
فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ} ويدل على أن المراد ما ذكرنا أنها لو خرجت
قبل انقضاء العدة لم يكن لها أن تتزوج بالاتفاق، فدل ذلك على أن المراد
"فإذا خرجن بعد
(1/507)
انقضاء
العدة" وإذا كان ذلك على ما وصفنا كان حظر الانتقال باقيا على المتوفى
عنها زوجها. وإنما قالوا: إن المطلقة لا تخرج ليلا ولا نهارا لقوله
تعالى: {لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ}
[الطلاق: 1] وذلك عموم في جميعهن وحظر عن خروجهن في سائر الأوقات.
وخالفت المتوفى عنها زوجها من جهة أن نفقة المتوفى عنها زوجها على
نفسها ونفقة المطلقة على زوجها فهي مستغنية عن الخروج، والله أعلم.
(1/508)
ذكر إحداد المتوفى عنها زوجها
روي عن جماعة من الصحابة أن عليها اجتناب الزينة والطيب، منهم عائشة
وأم سلمة وابن عمر وغيرهم، ومن التابعين سعيد بن المسيب وسليمان بن
يسار، وحكاه عن فقهاء المدينة; وهو قول أصحابنا وسائر فقهاء الأمصار لا
خلاف بينهم فيه. وروي ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم; حدثنا محمد بن
بكر قال: حدثنا أبو داود قال: حدثنا القعنبي، عن مالك، عن عبد الله بن
أبي بكر، عن حميد بن نافع، عن زينب بنت أبي سلمة أنها أخبرته بهذه
الأحاديث قالت زينب: دخلت على أم حبيبة حين توفي أبوها أبو سفيان، فدعت
بطيب فيه صفرة خلوق أو غيره، فدهنت منه جارية ثم مست بعارضيها، ثم
قالت: والله ما لي بالطيب من حاجة، غير أني سمعت رسول الله صلى الله
عليه وسلم يقول: "لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحد على
ميت فوق ثلاث ليال إلا على زوج أربعة أشهر وعشرا" قالت زينب: ودخلت على
زينب بنت جحش حين توفي أخوها، فدعت بطيب فمست منه ثم قالت: والله ما لي
بالطيب من حاجة، غير أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: وهو
على المنبر: "لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحد على ميت
فوق ثلاث ليال إلا على زوج أربعة أشهر وعشرا" قالت زينب: وسمعت أمي أم
سلمة تقول: جاءت امرأة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا
رسول الله إن ابنتي توفي عنها زوجها وقد اشتكت عينها أفنكحلها؟ فقال
النبي صلى الله عليه وسلم: "لا" مرتين أو ثلاثا، كل ذلك يقول لا ثم قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنما هي أربعة أشهر وعشر، وقد كانت
إحداكن في الجاهلية ترمي بالبعرة على رأس الحول" قال حميد: فقلت لزينب:
وما ترمي بالبعرة على رأس الحول؟ فقالت زينب: كانت المرأة إذا توفي
عنها زوجها دخلت حفشا ولبست شر ثيابها ولم تمس طيبا ولا شيئا حتى تمر
بها سنة، ثم تؤتى بدابة حمار أو شاة أو طير فتفتض به، فقلما تفتض بشيء
إلا مات، ثم تخرج فتعطى بعرة فترمي بها ثم تراجع بعد ما شاءت من طيب أو
غيره. فحظر عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم الاكتحال في العدة،
وأخبر بالعدة التي كانت تعتد إحداهن وما تجتنبه من الزينة والطيب، ثم
قال: "إنما هي أربعة أشهر وعشر" فدل بذلك على أن هذه العدة معتد بها
العدة التي كانت سنة في اجتناب الطيب والزينة.
(1/508)
وحدثنا
محمد بن بكر قال: حدثنا أبو داود قال: حدثنا زهير قال: حدثنا يحيى بن
أبي بكير قال: حدثنا إبراهيم بن طهمان قال: حدثني بديل عن الحسن بن
مسلم، عن صفية بنت شيبة، عن أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم، عن
النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "المتوفى عنها زوجها لا تلبس
المعصفر من الثياب ولا الممشقة ولا الحلية ولا تختضب ولا تكتحل". وروت
أم سلمة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "المتوفى عنها زوجها لا
تلبس المعصفر من الثياب ولا الممشقة ولا الحلي ولا تختضب ولا تكتحل".
وروت أم سلمة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لها وهي معتدة من
زوجها: "لا تمتشطي بالطيب ولا بالحناء فإنه خضاب".
قوله عز وجل: {والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا وصية لأزواجهم} الآية.
قد تضمنت هذه الآية أربعة أحكام: أحدها: الحول، وقد نسخ منه ما زاد على
أربعة أشهر وعشرا; والثاني: نفقتها وسكناها في مال الزوج فقد نسخ
بالميراث على ما روي عن ابن عباس وغيره; لأن الله تعالى أوجبها لها على
وجه الوصية لأزواجهم كما كانت الوصية واجبة للوالدين والأقربين، فنسخت
بالميراث وقول النبي صلى الله عليه وسلم: "لا وصية لوارث". ومنها
الإحداد الذي دلت عليه الدلالة من الآية، فحكمه باق بسنة رسول الله صلى
الله عليه وسلم. ومنها انتقالها عن بيت زوجها، فحكمه باق في حظره، فنسخ
من الآية حكمان وبقي حكمان، ولا نعلم آية اشتملت على أربعة أحكام فنسخ
منها اثنان وبقي اثنان غيرها. ويحتمل أن يكون قوله تعالى: {غَيْرَ
إِخْرَاجٍ} منسوخا; لأن المراد به السكنى الواجبة في مال الزوج فقد نسخ
كونها في مال الزوج، فصار حظر الإخراج منسوخا. إلا أن قوله تعالى:
{غَيْرَ إِخْرَاجٍ} قد تضمن معنيين: أحدهما: وجوب السكنى في مال الزوج،
والثاني حظر الخروج والإخراج; لأنهم إذا كانوا ممنوعين من إخراجها فهي
لا محالة مأمورة باللبث، فإذا نسخ وجوب السكنى في مال الزوج بقي حكم
لزوم اللبث في البيت وقد اختلف أهل العلم في نفقة المتوفى عنها زوجها،
فقال ابن عباس وجابر بن عبد الله: "نفقتها على نفسها حاملا كانت أو غير
حامل" وهو قول الحسن وسعيد بن المسيب وعطاء وقبيصة بن ذؤيب. وروى
الشعبي عن علي وعبد الله قالا: "الحامل إذا مات عنها زوجها فنفقتها من
جميع المال". وروى الحكم عن إبراهيم قال: كان أصحاب عبد الله يقضون في
الحامل المتوفى عنها زوجها إن كان المال كثيرا فنفقتها من نصب ولدها،
وإن كان قليلا فمن جميع المال. وروى الزهري عن سالم عن ابن عمر قال:
"ينفق عليها من جميع المال". وقال أصحابنا جميعا: "لا نفقة لها ولا
سكنى في مال الميت حاملا كانت أو غير حامل". وقال ابن أبي ليلى: "هي في
مال الزوج بمنزلة الدين على الميت إذا كانت حاملا". وقال مالك بن أنس:
"نفقتها على نفسها وإن كانت حاملا ولها
(1/509)
السكنى إن
كانت الدار للزوج، وإن كان عليه دين فالمرأة أحق بسكناها حتى تنقضي
عدتها، وإن كانت في بيت بكراء فأخرجوها لم يكن لها سكنى في مال الزوج"
هذه رواية ابن وهب عنه; وقال ابن القاسم عنه: "لا نفقة لها في مال
الميت ولها السكنى إن كانت الدار للميت، وإن كان عليه دين فهي أحق
بالسكنى من الغرماء وتباع للغرماء ويشترط السكنى على المشتري". وقال
الثوري: "إن كانت حاملا أنفق عليها من جميع المال حتى تضع، فإذا وضعت
أنفق على الصبي من نصيبه" هذه رواية الأشجعي عنه; وروى عنه المعافى أن
نفقتها من حصتها. وقال الأوزاعي في المرأة يموت زوجها وهي حامل: "فلا
نفقة لها، وإن كانت أم ولد فلها النفقة من جميع المال حتى تضع". وقال
الليث بن سعد في أم الولد إذا كانت حاملا منه: "فإنه ينفق عليها من
المال، فإن ولدت كان ذلك في حظ ولدها، وإن لم تلد كان ذلك دينا يتبع
به". وقال الحسن بن صالح: "للمتوفى عنها زوجها النفقة من جميع المال".
وقال الشافعي في المتوفى عنها زوجها قولين: أحدهما: "لها النفقة
والسكنى" والآخر: "لا نفقة لها ولا سكنى".
قال أبو بكر: لا تخلو نفقة الحامل من أحد ثلاثة أوجه: إما أن تكون
واجبة على حسب وجوبها بديا حين كانت عدتها حولا في قوله تعالى
{وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعاً إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ
إِخْرَاجٍ}، أو أن تكون واجبة على حسب وجوبها للمطلقة المبتوتة، أو تجب
للحامل دون غيرها لأجل الحمل. والوجه الأول باطل; لأنها كانت واجبة على
وجه الوصية والوصية للوارث منسوخة. والوجه الثاني لا يصح أيضا، من قبل
أن النفقة لم تكن واجبة في حال الحياة وإنما تجب حالا فحالا على حسب
مضي الأوقات وتسليم نفسها في بيت الزوج، ولا يجوز إيجابها بعد الموت من
وجهين: أحدهما: أن سبيلها أن يحكم بها الحاكم على الزوج ويثبتها في
ذمته وتؤخذ من ماله، وليس للزوج ذمة فتثبت فيها، فلم يجز أخذها من ماله
إذا لم تثبت عليه، والثاني: أن ذلك الميراث قد انتقل إلى الورثة
بالموت; إذ لم يكن هناك دين عند الموت، فغير جائز إثباتها في مال
الورثة ولا في مال الزوج فتؤخذ منه. وإن كانت حاملا لم يخل إيجاب
النفقة لها في مال الزوج في أحد وجهين: إما أن يكون وجوبها متعلقا
بكونها في العدة أو لأجل الحمل، وقد بينا أن إيجابها لأجل العدة غير
جائز، ولا يجوز إيجابها لأجل الحمل; لأن الحمل نفسه لا يستحق نفقته على
الورثة; إذ هو موسر مثلهم بميراثه، ولو ولدته لم تجب نفقته على الورثة،
فكيف تجب له في حال الحمل؟ فلم يبق وجه يستحق به النفقة; والله أعلم.
(1/510)
باب التعريض بالخطبة في العدة
قال الله تعالى: {وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ
مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي
(1/510)
أَنْفُسِكُمْ} الآية. وقد قيل في الخطبة إنها الذكر الذي يستدعى به إلى
عقدة النكاح. والخطبة بالضم: الموعظة المتسقة على ضروب من التأليف، وقد
قيل أيضا: إن الخطبة ما له أول وآخر كالرسالة، والخطبة للحال نحو
الجلسة والقعدة. وقيل في التعريض: إنه ما تضمن الكلام من الدلالة على
شيء من غير ذكر له، كقول القائل: ما أنا بزان; يعرض بغيره أنه زان;
ولذلك رأى عمر فيه الحد وجعله كالتصريح. والكناية العدول عن صريح اسمه
إلى ذكر يدل عليه، كقوله تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ
الْقَدْرِ} [القدر: 1] يعني القرآن; فالهاء كناية عنه. وقال ابن عباس:
"التعريض بالخطبة أن يقول لها إني أريد أن أتزوج امرأة من أمرها
وأمرها، يعرض لها بالقول". وقال الحسن: "هو أن يقول لها: إني بك لمعجب
وإني فيك لراغب ولا تفوتينا نفسك". وقال النبي صلى الله عليه وسلم
لفاطمة بنت قيس وهي في العدة: "لا تفوتينا بنفسك" ثم خطبها بعد انقضاء
العدة على أسامة بن زيد. وقال عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه قال: "هو
أن يقول لها وهي في العدة: إنك لكريمة وإنى فيك لراغب وإن الله لسائق
إليك خيرا، أو نحو هذا من القول". وقال عطاء: "هو أن يقول: إنك لجميلة
وإني فيك لراغب وإن قضى الله شيئا كان". فكان التعريض أن يتكلم بكلام
يدل فحواه على رغبته فيها ولا يخطبها بصريح القول. قال سعيد بن جبير في
قوله تعالى: {إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلاً مَعْرُوفاً} : "أن يقول
إني فيك لراغب وإني لأرجو أن نجتمع".
وقوله تعالى: {وْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ} يعني أضمرتموه من
التزويج بعد انقضاء عدتها، فأباح التعريض بالخطبة وإضمار نكاحها من غير
إفصاح به.
وذكر إسماعيل بن إسحاق عن بعض الناس أنه احتج في نفي الحد في التعريض
بالقذف بأن الله تعالى لم يجعل التعريض في هذا الموضع بمنزلة التصريح،
كذلك لا يجعل التعريض بالقذف كالتصريح. قال إسماعيل: فاحتج بما هو حجة
عليه; إذ التعريض بالنكاح قد فهم به مراد القائل، فإذا فهم به مراده
وهو القذف حكم عليه بحكم القاذف. قال: وإنما يزيل الحد عن المعرض
بالقذف من يزيله; لأنه لم يعلم بتعريضه أنه أراد القذف; إذ كان محتملا
لغيره. قال: وينبغي على قوله هذا أن يزعم أن التعريض بالقذف جائز مباح
كما أبيح التعريض بالخطبة بالنكاح. قال: وإنما اختير التعريض بالنكاح
دون التصريح; لأن النكاح لا يكون إلا منهما ويقتضي خطبته جوابا منها،
ولا يقتضي التعريض جوابا في الأغلب، فلذلك افترقا.
قال أبو بكر: الكلام الأول الذي حكاه عن خصمه في الدلالة على نفي الحد
بالتعريض صحيح ونقضه ظاهر الاختلال واضح الفساد. ووجه الاستدلال به على
نفي
(1/511)
الحد
بالتعريض أنه لما حظر عليه المخاطبة بعقد النكاح صريحا وأبيح له
التعريض به، اختلف حكم التعريض والتصريح في ذلك، على أن التعريض بالقذف
مخالف لحكم التصريح وغير جائز التسوية بينهما كما خالف الله بين حكمهما
في خطبة النكاح وذلك; لأنه معلوم أن الحدود مما يسقط بالشبهة، فهي في
حكم السقوط، والنفي آكد من النكاح، فإذا لم يكن التعريض في النكاح
كالتصريح وهو آكد في باب الثبوت من الحد، كان الحد أولى أن لا يثبت
بالتعريض من حيث دل على أنه لو خطبها بعد انقضاء العدة بالتعريض لم يقع
بينهما عقد النكاح فكان تعريضه بالعقد مخالفا للتصريح، فالحد أولى أن
لا يثبت بالتعريض. وكذلك لم يختلفوا أن الإقرار في العقود كلها لا يثبت
بالتعريض ويثبت بالتصريح; لأن الله قد فرق بينهما في النكاح، فكان الحد
أولى أن لا يثبت به. وهذه الدلالة واضحة على الفرق بينهما في سائر ما
يتعلق حكمه بالقول، وهي كافية مغنية من جهة الدلالة على ما وصفنا; وإن
أردنا رده إليه من جهة القياس لعلة تجمعهما كان سائغا، وذلك أن النكاح
حكمه متعلق بالقول كالقذف، فلما اختلف حكم التصريح والتعريض بالخطبة
بهذا المعنى ثبت حكمه بالتعريض، وإن كان حكمه ثابتا بالإفصاح والتصريح
كما حكم الله به في النكاح.
وأما قوله "إن التعريض بالقذف ينبغي أن يكون بمنزلة التصريح; لأنه قد
عرف مراده كما عرف بالتصريح" فإني أظنه نسي عند هذا القول حكم الله
تعالى في الفصل بين التعريض والتصريح بالخطبة إذ كان المراد مفهوما مع
الفرق بينهما; لأنه إن كان الحكم متعلقا بمفهوم المراد فذلك بعينه
موجود في الخطبة فينبغي أن يستوي حكمهما فيها، فإذا كان نص التنزيل قد
فرق بينهما فقد انتقض هذا الإلزام وصح الاستدلال به على ما وصفنا. وأما
قوله "إن من أزال الحد عن المعرض بالقذف فإنما أزاله; لأنه لم يعلم
بتعريضه أنه أراد القذف لاحتمال كلامه لغيره" فإنها وكالة لم تثبت عن
الخصم وقضاء على غائب بغير بينة; وذلك لأن أحدا لا يقول بأن حد القذف
متعلق بإرادته وإنما يتعلق عند خصومه بالإفصاح به دون غيره، فالذي يحيل
به خصمه من أنه أزال الحد; لأنه لم يعلم مراده، ولا يقبلونه ولا
يعتمدونه.
وأما إلزامه خصمه أن يبيح التعريض بالقذف كما يبيح التعريض بالنكاح،
فإنه كلام رجل غير متثبت فيما يقوله ولا ناظر في عاقبة ما يئول إليه
حكم إلزامه له، فنقول: إن خصمه الذي احتج به لم يجعل ما ذكره علة
للإباحة حتى يلزم عليه إباحة التعريض بالقذف، وإنما استدل بالآية على
إيجاب الفرق بين التعريض والتصريح، فأما الحظر والإباحة فموقوفان على
دلالتهما من غير هذا الوجه.
(1/512)
وأما قوله
"إنما أجيز التعريض بالنكاح دون التصريح لأن النكاح لا يكون إلا منهما
ويقتضي خطبته جوابا منها ولا يقتضي التعريض جوابا في الأغلب" فإنه كلام
فارغ لا معنى تحته، وهو مع ذلك منتقض; وذلك أن التعريض بالنكاح
والتصريح به لا يقتضي واحد منهما جوابا; لأن النهي إنما انصرف إلى
خطبتها لوقت مستقبل بعد انقضاء العدة بقوله تعالى: {وَلَكِنْ لا
تُوَاعِدُوهُنَّ سِرّاً إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلاً مَعْرُوفاً}
وذلك لا يقتضي الجواب كما لا يقتضي التعريض، ولم يجز الخطاب على النهي
عن العقد المقتضي للجواب حتى يفرق بينهما بما ذكر فقد بان بذلك أنه لا
فرق بين التعريض والتصريح في نفي اقتضاء الجواب، وهذا الموضع هو الذي
فرقت الآية فيه بين الأمرين، فأما العقد المقتضي للجواب فإنما هو منهي
عنه بقوله تعالى: {وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى
يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ} وإن كان نهيه عن العقد نفسه فقد اقتضاه
نهيه عن الإفصاح بالخطبة من جهة الدلالة، كدلالة قوله تعالى: {فَلا
تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} [الإسراء: 23] على حظر الشتم والضرب.
وأما وجه انتقاضه، فإنه لا خلاف أن العقود المقتضية للجواب لا تصح
بالتعريض، وكذلك الإقرارات لا تصح بالتعريض وإن لم تقتض جوابا من المقر
له، فلم يختلف حكم ما يقتضي من ذلك جوابا وما لا يقتضيه; فعلمت أن
اختلافهما من هذا الوجه لا يوجب الفرق بينهما.
وأما قوله تعالى: {وَلَكِنْ لا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرّاً} فإنه مختلف في
المراد به، فقال ابن عباس وسعيد بن جبير والشعبي ومجاهد: "مواعدة السر
أن يأخذ عليها عهدا أو ميثاقا أن تحبس نفسها عليه ولا تنكح زوجا غيره".
وقال الحسن وإبراهيم وأبو مجلز ومحمد وجابر بن زيد: {لا
تُوَاعِدُوهُنَّ سِرّاً} "الزنا". وقال زيد بن أسلم: {لا
تُوَاعِدُوهُنَّ سِرّاً} "لا تنكح المرأة في عدتها ثم يقول سأسره ولا
يعلم به، أو يدخل عليها فيقول لا يعلم بدخولي حتى تنقضي العدة".
قال أبو بكر: اللفظ محتمل لهذه المعانى كلها; لأن الزنا قد يسمى سرا;
قال الحطيئة:
ويحرم سر جارتهم عليهم ... ويأكل جارهم أنف القصاع
وأراد بالسر الزنا، وصفهم بالعفة عن نساء جيرانهم. قال رؤبة يصف حمار
الوحش وأتانه لما كف عنها حين حملت:
قد أحصنت مثل دعاميص الرنق ... أجنة في مستكنات الحلق
فعف عن أسرارها بعد العسق
(1/513)
يعني: بعد
اللزوق، يقال: عسق به إذا لزق به وأراد بالسر ههنا الغشيان; وعقد
النكاح نفسه يسمى سرا كما يسمى به الوطء ألا ترى أن الوطء والعقد كل
واحد منها يسمى نكاحا؟ ولذلك ساغ تأويل الآية على الوطء وعلى العقد،
وعلى التصريح بالخطبة لما بعد انقضاء العدة.
وأظهر الوجوه وأولاها بمراد الآية مع احتمالها لسائر ما ذكرنا، ما روي
عن ابن عباس ومن تابعه: وهو التصريح بالخطبة وأخذ العهد عليها أن تحبس
نفسها عليه ليتزوجها بعد انقضاء العدة; لأن التعريض المباح إنما هو في
عقد يكون بعد انقضاء العدة، وكذلك التصريح واجب أن يكون حظره من هذا
الوجه بعينه، ومن جهة أخرى أن ذلك معنى لم نستفده إلا بالآية، فهو مراد
بها. وأما حظر إيقاع العقد في العدة فمذكور باسمه في نسق التلاوة بقوله
تعالى: {وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ
الْكِتَابُ أَجَلَهُ} فإذا كان ذلك مذكورا في نسق الخطاب بصريح اللفظ
دون التعريض وبالإفصاح دون الكناية، فإنه يبعد أن يكون مراده بالكناية
المذكورة بقوله {سِرّاً} هو الذي قد أفصح به في المخاطبة. وكذلك تأويل
من تأوله على الزنا فيه بعد; لأن المواعدة بالزنا محظورة في العدة
وغيرها; إذ كان تحريم الله الزنا تحريما مبهما مطلقا غير مقيد بشرط ولا
مخصوص بوقت، فيؤدي ذلك إلى إبطال فائدة تخصيصه حظر المواعدة بالزنا
بكونها في العدة. وليس يمتنع أن يكون الجميع مرادا لاحتمال اللفظ له
بعد أن لا يخرج منه تأويل ابن عباس الذي ذكرناه.
وقوله تعالى: {عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ} يعني أن
الله علم أنكم ستذكرونهن بالتزويج لرغبتكم فيهن ولخوفكم أن يسبقكم
إليهن غيركم. وأباح لهم التوصل إلى المراد من ذلك بالتعريض دون
الإفصاح، وهذا يدل على ما اعتبره أصحابنا في جواز التوصل إلى استباحة
الأشياء من الوجوه المباحة وإن كانت محظورة من وجوه أخر. ونحوه ما روي
عن النبي عليه السلام حين أتاه بلال بتمر جيد فقال: "أكل تمر خيبر
هكذا؟" فقال: لا، إنما نأخذ الصاع بالصاعين والصاعين بالثلاثة، فقال
النبي عليه السلام: "لا تفعلوا ولكن بيعوا تمركم بعرض ثم اشتروا به هذا
التمر" فأرشدهم إلى التوصل إلى أخذ التمر الجيد. ولهذا الباب موضع غير
هذا سنذكره إن شاء الله.
وقوله تعالى: {عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ} كقوله
تعالى: {عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ}
[البقرة: 187] وأباح لهم الأكل والجماع في ليالي رمضان، علمنا أنه لو
لم يبح لهم لكان فيهم من يواقع المحظور عنه، فخفف عنهم رحمة منه بهم.
وكذلك قوله تعالى: {عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ} هو
على هذا المعنى.
(1/514)
قوله عز
وجل: {وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ
أَجَلَهُ} قيل فيه: إن أصل العقدة في اللغة هو الشد، تقول: عقدت الحبل
وعقدت العقد، تشبيها له بعقد الحبل في التوثق; وقوله تعالى: {وَلا
تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ} معناه: ولا تعقدوه ولا تعزموا عليه أن
تعقدوه في العدة; وليس المعنى أن لا تعزموا بالضمير على إيقاع العقد
بعد انقضاء العدة; لأنه قد أباح إضمار عقد بعد انقضاء العدة بقوله:
{وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ
النِّسَاءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ} والإكنان في النفس هو
الإضمار فيها فعلمنا أن المراد بقوله تعالى: {وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ
النِّكَاحِ}، إنما تضمن النهي عن إيقاع العقد في العدة وعن العزيمة
عليه فيها. وقوله تعالى: {حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ} يعني
به انقضاء العدة وذلك في مفهوم الخطاب غير محتاج إلى بيان، ألا ترى أن
فريعة بنت مالك حين سألت النبي صلى الله عليه وسلم أجابها بأن قال: "لا
حتى يبلغ الكتاب أجله" فعقلت من مفهوم خطابه انقضاء العدة ولم يحتج إلى
بيان من غيره؟ ولا خلاف بين الفقهاء أن من عقد على امرأة نكاحا وهي في
عدة من غيره أن النكاح فاسد.
وقد اختلف السلف ومن بعدهم في حكم من تزوج امرأة في عدتها من غيره،
فروى ابن المبارك قال: حدثنا أشعث عن الشعبي عن مسروق قال: "بلغ عمر أن
امرأة من قريش تزوجها رجل من ثقيف في عدتها فأرسل إليهما ففرق بينهما
وعاقبهما وقال: لا ينكحها أبدا، وجعل الصداق في بيت المال، وفشا ذلك
بين الناس فبلغ عليا كرم الله وجهه فقال رحم الله أمير المؤمنين ما بال
الصداق وبيت المال؟ إنهما جهلا فينبغي للإمام أن يردهما إلى السنة.
قيل: فما تقول أنت فيها؟ قال: لها الصداق بما استحل من فرجها ويفرق
بينهما ولا جلد عليهما وتكمل عدتها من الأول ثم تكمل العدة من الآخر ثم
يكون خاطبا. فبلغ ذلك عمر فقال: يا أيها الناس ردوا الجهالات إلى
السنة". وروى ابن أبي زائدة عن أشعث مثله، وقال فيه: "فرجع عمر إلى قول
علي".
قال أبو بكر: قد اتفق علي وعمر على قول واحد، لما روي أن عمر رجع إلى
قول علي. واختلف فقهاء الأمصار في ذلك أيضا، فقال أبو حنيفة وأبو يوسف
ومحمد وزفر: "يفرق بينهما ولها مهر مثلها، فإذا انقضت عدتها من الأول
تزوجها الآخر إن شاء" وهو قول الثوري والشافعي. وقال مالك والأوزاعي
والليث بن سعد: "لا تحل له أبدا" قال مالك والليث: "ولا بملك اليمين".
قال أبو بكر: لا خلاف بين من ذكرنا قوله من الفقهاء أن رجلا لو زنى
بامرأة جاز له أن يتزوجها، والزنا أعظم من النكاح في العدة، فإذا كان
الزنا لا يحرمها عليه تحريما مؤبدا فالوطء بشبهة أحرى أن لا يحرمها
عليه. وكذلك من تزوج أمة على حرة أو جمع
(1/515)
بين أختين
ودخل بهما، لم تحرم عليه تحريما مؤبدا، فكذلك الوطء عن عقد كان في
العدة لا يخلو من أن يكون وطئا بشبهة أو زنا، وأيهما كان فالتحريم غير
واقع به.
فإن قيل: قد يوجب الزنا والوطء بالشبهة تحريما مؤبدا عندكم كالذي يطأ
أم امرأته أو ابنتها فتحرم عليه تحريما مؤبدا قيل له: ليس هذا مما نحن
فيه بسبيل; لأن كلامنا إنما هو في وطء يوجب تحريم الموطوءة نفسها، فأما
وطء يوجب تحريم غيرها فإن ذلك حكم كل وطء عندنا زنا كان أو وطئا بشبهة
أو مباحا، وأنت لم تجد في الأصول وطئا يوجب تحريم الموطوءة، فكان قولك
خارجا عن الأصول وعن أقاويل السلف أيضا; لأن عمر قد رجع إلى قول علي في
هذه المسألة. وأما ما روي عن عمر أنه جعل المهر في بيت المال، فإنه ذهب
إلى أنه مهر حصل لها من وجه محظور فسبيله أن يتصدق به، فلذلك جعله في
بيت المال ثم رجع فيه إلى قول علي رضي الله عنه. ومذهب عمر في جعل
مهرها لبيت المال; إذ قد حصل لها ذلك من وجه محظور، يشبه ما روي عن
النبي صلى الله عليه وسلم في الشاة المأخوذة بغير إذن مالكها، قدمت
إليه مشوية، فلم يكد يسيغها حين أراد الأكل منها فقال: "إن هذه الشاة
تخبرني أنها أخذت بغير حق" فأخبروه بذلك، فقال: "أطعموها الأسارى".
ووجه ذلك عندنا أنها صارت لهم بضمان القيمة، فأمرهم بالصدقة بها; لأنها
حصلت لهم من وجه محظور ولم يكونوا قد أدوا القيمة إلى أصحابها. وقد روي
عن سليمان بن يسار أن مهرها لبيت المال. وقال سعيد بن المسيب وإبراهيم
والزهري: "الصداق لها على ما روي عن علي" وفي اتفاق عمر وعلي على أن لا
حد عليهما دلالة على أن النكاح في العدة لا يوجب الحد مع العلم
بالتحريم، لأن المرأة كانت عالمة بكونها في العدة ولذلك جلدها عمر وجعل
مهرها في بيت المال، وما خالفهما في ذلك أحد من الصحابة; فصار ذلك أصلا
في أن كل وطء عن عقد فاسد أنه لا يوجب الحد سواء كانا عالمين بالتحريم
أو غير عالمين به; وهذا يشهد لأبي حنيفة فيمن وطئ ذات محرم منه بنكاح
أنه لا حد عليه.
وقد اختلف الفقهاء في العدة إذا وجبت من رجلين، فقال أبو حنيفة وأبو
يوسف ومحمد وزفر ومالك في رواية ابن القاسم عنه والثوري والأوزاعي:
"إذا وجبت عليها العدة من رجلين فإن عدة واحدة تكون لهما جميعا، سواء
كانت العدة بالحمل أو بالحيض أو بالشهور" وهو قول إبراهيم النخعي. وقال
الحسن بن صالح والليث والشافعي: "تعتد لكل واحد عدة مستقبلة". والذي
يدل على صحة القول الأول قوله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ
بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة: 228] يقتضي كون عدتها
ثلاثة قروء إذا طلقها زوجها ووطئها رجل بشبهة; لأنها مطلقة قد وجبت
عليها عدة; ولو
(1/516)
أوجبنا
عليها أكثر من ثلاثة قروء كنا زائدين في الآية ما ليس فيها; إذ لم تفرق
بين من وطئت بشبهة من المطلقات وبين غيرها. ويدل عليه أيضا قوله تعالى:
{وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ
ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ
يَحِضْنَ} [الطلاق: 4] ولم يفرق بين مطلقة قد وطئها أجنبي بشبهة وبين
من لم توطأ، فاقتضى ذلك أن تكون عدتها ثلاثة أشهر في الوجهين جميعا.
ويدل عليه أيضا قوله تعالى: {وَأُولاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ
يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 4] ولم يفرق بين من عليها عدة من رجل
أو رجلين. ويدل عليه أيضا قوله تعالى: {يَسْأَلونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ
قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} [البقرة: 89] لأن العدة
إنما هي بمضي الأوقات والأهلة والشهور، وقد جعلها الله وقتا لجميع
الناس، فوجب أن تكون الشهور والأهلة وقتا لكل واحد منهما لعموم الآية.
ويدل عليه اتفاق الجميع على أن الأول لا يجوز له عقد النكاح عليها قبل
انقضاء عدتها منه، فعلمنا أنها في عدة من الثاني; لأن العدة منه لا
تمنع من تزويجها.
فإن قيل: منع من ذلك; لأن العدة منه تتلوها عدة من غيره. قيل له فقد
يجوز أن يتزوجها ثم يموت هو قبل بلوغها موضع الاعتداد من الثاني فلا
تلزمها عدة من الثاني، فلو لم تكن في هذه الحال معتدة منه لما منع
العقد عليها; لأن عدة تجب في المستقبل لا ترفع عقدا ماضيا; ويدل عليه
أن الحيض إنما هو استبراء للرحم من الحبل، فإذا طلقها الأول ووطئها
الثاني بشبهة قبل أن تحيض ثم حاضت ثلاث حيض فقد حصل الاستبراء; ويستحيل
أن يكون استبراء من حمل الأول غير استبراء من حمل الثاني، فوجب أن
تنقضي به العدة منهما جميعا. ويدل عليه أن من طلق امرأته وأبانها ثم
وطئها في العدة بشبهة، أن عليها عدتين عدة من الوطء وتعتد بما بقي من
العدة الأولى من العدتين، ولا فرق بين أن تكون العدة من رجلين أو من
رجل واحد.
فإن قيل: إن هذا حق واجب لرجل واحد والأول واجب لرجلين. قيل له: لا فرق
بين الرجل الواحد والرجلين; لأن الحقين إذا وجبا لرجل واحد فواجب
إيفاؤهما إياه جميعا كوجوبهما لرجلين في لزوم توفيتهما إياهما، ألا ترى
أنه لا فرق بين الرجلين والرجل الواحد في آجال الديون ومواقيت الحج
والإجارات ومدد الإيلاء في أن مضي الوقت الواحد يصير كل واحد منهما
مستوفيا لحقه فتكون الشهور التي لهذا هي بعينها للآخر؟ وقد روى أبو
الزناد عن سليمان بن يسار عن عمر في التي تزوجت في العدة "أنه أمرها أن
تعتد منهما" وظاهر ذلك يقتضي أن تكون عدة واحدة منهما.
فإن قيل: روى الزهري عن سليمان بن يسار عن عمر أنه قال: "تعتد بقية
عدتها من الأول ثم تعتد من الآخر". قيل له: ليس فيه أنها تعتد من الآخر
عدة مستقبلة،
(1/517)
فوجب أن
يحمل معناه على بقية العدة ليوافق حديث أبي الزناد; والله أعلم.
(1/518)
باب متعة المطلقة
قال الله عز وجل: {لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ
مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً
وَمَتِّعُوهُنَّ} تقديره: ما لم تمسوهن ولم تفرضوا لهن فريضة; ألا ترى
أنه عطف عليه قوله تعالى: {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ
تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا
فَرَضْتُمْ} فلو كان الأول بمعنى: ما لم تمسوهن وقد فرضتم لهن فريضة أو
لم تفرضوا; لما عطف عليها المفروض لها، فدل ذلك على أن معناه: "ما لم
تمسوهن ولم تفرضوا لهن فريضة" وقد تكون "أو" بمعنى "الواو" قال الله
تعالى: {وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً} [الإنسان: 24]
معناه: "ولا كفورا". وقال تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى
سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ} [النساء: 43]
والمعنى: "وجاء أحد منكم من الغائط وأنتم مرضى ومسافرون". وقال تعالى:
{وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ} [الصافات:
147] معناه: "ويزيدون" فهذا موجود في اللغة وهي في النفي أظهر في
دخولها عليه أنها بمعنى الواو منه ما قدمنا من قوله تعالى: {وَلا
تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً} [الإنسان: 24] معناه: "ولا
كفورا" لدخولها على النفي. وقال تعالى: {حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ
شُحُومَهُمَا إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ
مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ} [الأنعام: 146] "أو" في هذه المواضع بمعنى
الواو، فوجب على هذا أن يكون قوله تعالى: {لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ
طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا
لَهُنَّ فَرِيضَةً} لما دخلت على النفي أن تكون بمعنى الواو، فيكون شرط
وجوب المتعة المعنيين جميعا من عدم المسيس والتسمية جميعا بعد الطلاق.
وهذه الآية تدل على أن للرجل أن يطلق امرأته قبل الدخول بها في الحيض،
وأنها ليست كالمدخول بها، لإطلاقه إباحة الطلاق من غير تفصيل منه بحال
الطهر دون الحيض.
وقد اختلف السلف وفقهاء الأمصار في وجوب المتعة، فروي عن علي أنه قال:
"لكل مطلقة متعة"، وعن الزهري مثله. وقال ابن عمر: "لكل مطلقة متعة إلا
التي تطلق وقد فرض لها صداق ولم تمس فحسبها نصف ما فرض لها"، وروي عن
القاسم بن محمد مثله. وقال شريح وإبراهيم والحسن: "تخير التي تطلق قبل
الدخول ولم يفرض على المتعة". وقال شريح وقد سألوه في متاع فقال: "لا
نأبى أن نكون من المتقين" فقال: إني محتاج، فقال: "لا نأبى أن نكون من
المحسنين". وقد روي عن الحسن وأبي العالية: "لكل مطلقة متاع". وسئل
سعيد بن جبير عن المتعة على الناس كلهم؟ فقال: "لا، على المتقين". وروى
ابن أبي الزناد عن أبيه في كتاب البيعة: "وكانوا لا يرون
(1/518)
المتاع
للمطلقة واجبا ولكنها تخصيص من الله وفضل". وروى عطاء عن ابن عباس قال:
"إذا فرض الرجل وطلق قبل أن يمس فليس لها إلا المتاع". وقال محمد بن
علي: "المتعة للتي لم يفرض لها، والتي قد فرض لها ليس لها متعة". وذكر
محمد بن إسحاق عن نافع قال: "كان ابن عمر لا يرى للمطلقة متعة واجبة
إلا للتي أنكحت بالعوض ثم يطلقها قبل أن يدخل بها". وروى معمر عن
الزهري قال: "متعتان إحداهما يقضي بها السلطان والأخرى حق على المتقين:
من طلق قبل أن يفرض ولم يدخل أخذ بالمتعة; لأنه لا صداق عليه، ومن طلق
بعدما يدخل أو يفرض فالمتعة حق عليه"، وعن مجاهد نحو ذلك. فهذا قول
السلف فيها. وأما فقهاء الأمصار فإن أبا حنيفة وأبا يوسف ومحمدا وزفر
قالوا: "المتعة واجبة للتي طلقها قبل الدخول ولم يسم لها مهرا، وإن دخل
بها فإنه يمتعها ولا يجبر عليها" وهو قول الثوري والحسن بن صالح
والأوزاعي، إلا أن الأوزاعي زعم أن أحد الزوجين إذا كان مملوكا لم تجب
المتعة وإن طلقها قبل الدخول ولم يسم لها مهرا. وقال ابن أبي ليلى وأبو
الزناد: "المتعة ليست واجبة إن شاء فعل وإن شاء لم يفعل ولا يجبر
عليها" ولم يفرقا بين المدخول بها وبين غير المدخول بها وبين من سمي
لها وبين من لم يسم لها. وقال مالك والليث: "لا يجبر أحد على المتعة
سمى لها أو لم يسم لها دخل بها أو لم يدخل، وإنما هي مما ينبغي أن
يفعله ولا يجبر عليها". قال مالك: "وليس للملاعنة متعة على حال من
الحالات". وقال الشافعي: "المتعة واجبة لكل مطلقة ولكل زوجة إذا كان
الفراق من قبله أو يتم به، إلا التي سمى لها وطلق قبل الدخول".
قال أبو بكر: نبدأ بالكلام في إيجاب المتعة ثم نعقبه بالكلام على من
أوجبها لكل مطلقة. والدليل على وجوبها قوله تعالى: {لَا جُنَاحَ
عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ
تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ
قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعاً بِالْمَعْرُوفِ حَقّاً
عَلَى الْمُحْسِنِينَ}. وقال تعالى في آية أخرى: {يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ
طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ
عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ
وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً} [الأحزاب: 49] وقال في آية أخرى:
{وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى
الْمُتَّقِينَ} فقد حوت هذه الآيات الدلالة على وجوب المتعة من وجوه:
أحدها: قوله تعالى: {فَمَتِّعُوهُنَّ} [الأحزاب: 49] لأنه أمر، والأمر
يقتضي الوجوب حتى تقوم الدلالة على الندب. والثاني: قوله تعالى:
{مَتَاعاً بِالْمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى الْمُحْسِنِينَ} وليس في ألفاظ
الإيجاب آكد من قوله "حقا عليه". والثالث: قوله تعالى: {حَقّاً عَلَى
الْمُحْسِنِينَ} تأكيد لإيجابه; إذ جعلها من شرط الإحسان، وعلى كل
(1/519)
أحد أن
يكون من المحسنين، وكذلك قوله تعالى: {حَقّاً عَلَى الْمُتَّقِينَ} قد
دل قوله "حقا عليه" على الوجوب، وقوله تعالى: {حَقّاً عَلَى
الْمُتَّقِينَ} تأكيد لإيجابها وكذلك قوله تعالى: {فَمَتِّعُوهُنَّ
وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً} [الأحزاب: 49] قد دل على الوجوب من
حيث هو أمر. وقوله تعالى: {وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ}
يقتضي الوجوب أيضا; لأنه جعلها لهم، وما كان للإنسان فهو ملكه له
المطالبة به، كقولك "هذه الدار لزيد".
فإن قيل: لما خص المتقين والمحسنين بالذكر في إيجاب المتعة عليهم، دل
على أنها غير واجبة وأنها ندب; لأن الواجبات لا يختلف فيها المتقون
والمحسنون وغيرهم. قيل له: إنما ذكر المتقين والمحسنين تأكيدا لوجوبها،
وليس تخصيصهم بالذكر نفيا لإيجابها على غيرهم كما قال تعالى: {هُدىً
لِلْمُتَّقِينَ} [البقرة: 2] وهو هدى للناس كافة، وقوله تعالى: {شَهْرُ
رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ}
[البقرة: 183] فلم يكن قوله تعالى: {هُدىً لِلْمُتَّقِينَ} [البقرة: 2]
موجبا; لأن لا يكون هدى لغيرهم; كذلك قوله تعالى: {حَقّاً عَلَى
الْمُتَّقِينَ} و {حَقّاً عَلَى الْمُحْسِنِينَ} غير ناف أن يكون حقا
على غيرهم. وأيضا فإنا نوجبها على المتقين والمحسنين بالآية ونوجبها
على غيرهم بقوله تعالى: {فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحاً
جَمِيلاً} [الأحزاب: 49] وذلك عام في الجميع بالاتفاق; لأن كل من
أوجبها من فقهاء الأمصار على المحسنين والمتقين أوجبها على غيرهم.
ويلزم هذا السائل أن لا يجعلها ندبا أيضا; لأن ما كان ندبا لا يختلف
فيه المتقون وغيرهم، فإذا جاز تخصيص المتقين والمحسنين بالذكر في
المندوب إليه من المتعة وهم وغيرهم فيه سواء، فكذلك جائز تخصيص
المحسنين والمتقين بالذكر في الإيجاب ويكونون هم وغيرهم فيه سواء.
فإن قيل: لما لم يخصص المتقين والمحسنين في سائر الديون من الصداق
وسائر عقود المداينات عند إيجابها عليهم وخصهم بذلك عند ذكر المتعة، دل
على أنها ليست بواجبة. قيل له: إذا كان لفظ الإيجاب موجودا في الجميع،
فالواجب علينا الحكم بمقتضى اللفظ ثم تخصيصه بعض من أوجب عليه الحق
بذكر التقوى، والإحسان إنما هو على وجه التأكيد، ووجوه التأكيد مختلفة،
فمنها ما يكون ذكر بتقييد التقوى والإحسان، ومنها ما يكون بتخصيص لفظ
الأداء نحو قوله تعالى: {وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً}
[النساء: 4] وقوله تعالى: {فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ
وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ} [البقرة: 283]، ومنها ما يكون بالأمر
بالإشهاد عليه، والرهن به; فكيف يستدل بلفظ التأكيد على نفي الإيجاب؟
وأيضا فإنا وجدنا عقد النكاح لا يخلو من إيجاب البدل إن كان مسمى،
فالمسمى وإن لم يكن فيه تسمية فمهر المثل، ثم كانت حاله إذا كان فيه
تسمية أن البضع
(1/520)
لا يخلو
من استحقاق البدل له مع ورود الطلاق قبل الدخول، وفارق النكاح بهذا
المعنى سائر العقود; لأن عود المبيع إلى ملك البائع يوجب سقوط الثمن
كله، وسقوط حق الزوج عن بضعها بالطلاق قبل الدخول لا يخرجه من استحقاق
بدل ما وهو نصف المسمى، فوجب أن يكون ذلك حكمه إذا لم تكن فيه تسمية،
والمعنى الجامع بينهما ورود الطلاق قبل الدخول. وأيضا فإن مهر المثل
مستحق بالعقد، والمتعة هي بعض مهر المثل، فتجب كما يجب نصف المسمى إذا
طلق قبل الدخول.
فإن قيل: مهر المثل دراهم ودنانير والمتعة إنما هي أثواب. قيل له:
المتعة أيضا عندنا دراهم ودنانير لو أعطاها لم يجبر على غيرها. وهذا
الذي ذكرناه من أنها بعض مهر المثل يسوغ على مذهب محمد; لأنه يقول:
"إذا رهنها بمهر المثل رهنا ثم طلقها قبل الدخول كان رهنا بالمتعة
محبوسا بها، إن هلك هلك بها" وأما أبو يوسف فإنه لا يجعله رهنا بالمتعة
فإن هلك هلك بغير شيء والمتعة واجبة باقية عليه; فهذا يدل على أنه لم
يرها بعض مهر المثل ولكنه أوجبها بمقتضى ظاهر القرآن، وبالاستدلال
بالأصول على أن البضع لا يخلو من بدل مع ورود الطلاق قبل الدخول، وأنه
لا فرق بين وجود التسمية في العقد وبين عدمها; إذ غير جائز حصول ملك
البضع له بغير بدل، فوجوب مهر المثل بالعقد عند عدم التسمية كوجوب
المسمى فيه، فوجب أن يستوي فيه حكمهما في وجوب بدل البضع عند ورود
الطلاق قبل الدخول وأن تكون المتعة قائمة مقام بعض مهر المثل وإن لم
تكن بعضه، كما تقوم القيم مقام المستهلكات. وقد قال إبراهيم في المطلقة
قبل الدخول وقد سمي لها أن لها نصف الصداق: "هو متعتها" فكانت المتعة
اسما لما يستحق بعد الطلاق قبل الدخول ويكون بدلا من البضع.
فإن قيل: إذا قامت مقام بعض مهر المثل فهو عوض من المهر، والمهر لا يجب
له عوض قبل الطلاق، فكذلك بعده. قيل له: لم نقل إنه بدل منه وإن قام
مقامه، كما لا نقول إن قيم المستهلكات أبدال لها بل كأنها هي حين قامت
مقامها، ألا ترى أن المشتري لا يجوز له أخذ بدل المبيع قبل القبض ببيع
ولا غيره؟ ولو كان استهلكه مستهلك كان له أخذ القيمة منه; لأنها تقوم
مقامه كأنها هو، على معنى العوض; فكذلك المتعة تقوم مقام بعض مهر المثل
بدلا من البضع كما يجب نصف المسمى من البضع مع الطلاق.
فإن قيل: لو كانت المتعة تقوم مقام بعض مهر المثل بدلا من البضع لوجب
اعتبارها بالمرأة كما يعتبر مهر المثل بحالها دون حال الزوج، فلما أوجب
الله تعالى اعتبار المتعة بحال الرجل في قوله تعالى: {وَمَتِّعُوهُنَّ
عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ} دل على أنها
ليست بدلا من البضع، وإذا لم تكن بدلا من البضع لم يجز أن تكون
(1/521)
بدلا من
الطلاق; لأن البضع يحصل لها بالطلاق فلا يجوز أن تستحق بدل ما يحصل
لها، وهذا يدل على أنها ليست بدلا عن شيء; وإذا كان كذلك علمنا أنها
ليست بواجبة. قيل له: أما قولك: "في اعتبار حاله دون حالها" فليس كذلك
عندنا، وأصحابنا المتأخرون مختلفون فيه، فكان شيخنا أبو الحسن رحمه
الله يقول: "يعتبر فيه حال المرأة أيضا" وليس فيه خلاف الآية; لأنا
نستعمل حكم الآية مع ذلك في اعتبار حال الزوج; ومنهم من يقول: "يعتبر
حاله دون حالها" ومن قال بهذا يلزمه سؤال هذا السائل أيضا; لأنه يقول:
إن مهر المثل إنما وجب اعتباره بها في الحال التي يحصل البضع للزوج إما
بالدخول وإما بالموت القائم مقام الدخول في استحقاق كمال المهر، فكان
بمنزلة قيم المتلفات في اعتبارها بأنفسها، وأما المتعة فإنها لا تجب
عندنا إلا في حال سقوط حق من بضعها لسبب من قبله قبل الدخول أو ما يقوم
مقامه، فلم يجب اعتبار حال المرأة; إذ البضع غير حاصل للزوج بل حصل لها
بسبب من قبله من غير ثبوت حكم الدخول، فلذلك اعتبر حاله دونها، وأيضا
لو سلمنا لك أنها ليست بدلا عن شيء، لم يمنع ذلك وجوبها; لأن النفقة
ليست بدلا عن شيء، بدلالة أن بدل البضع هو المهر وقد ملكه بعقد النكاح.
والدخول والاستمتاع إنما هو تصرف في ملكه وتصرف الإنسان في ملكه لا
يوجب عليه بدلا ولم يمنع ذلك وجوبها، ولذلك تلزمه نفقة أبيه وابنه
الصغير بنص الكتاب، والإنفاق ليس بدلا عن شيء ولم يمنع ذلك وجوبها،
والزكوات والكفارات ليست بدلا عن شيء وهن واجبات; فالمستدل بكونها غير
بدل عن شيء على نفي إيجابها مغفل. وأيضا فاعتبارها بالرجل وبالمرأة
إنما هو كلام في تقديرها، والكلام في التقدير ليس يتعلق بالإيجاب; ولا
بنفيه. وأيضا لو لم تكن واجبة لم تكن مقدرة بحال الرجل فلما قال تعالى:
{عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ} دل على
الوجوب; إذ ما ليس بواجب غير معتبر بحال الرجل; إذ له أن يفعل ما شاء
منه في حال اليسار والإعسار، فلما قدرها بحال الرجل ولم يطلقها فيخير
الرجل فيها، دل على وجوبها; وهذا يصلح أن يكون ابتداء دليل في المسألة.
وقال هذا القائل أيضا: لما قال تعالى: {عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ
وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ} اقتضى ذلك أن لا تلزم المقتر الذي لا
يملك شيئا، وإذا لم تلزمه لم تلزم الموسر، ومن ألزمها المقتر فقد خرج
من ظاهر الكتاب; لأن من لا مال له لم تقتض الآية إيجابها عليه; إذ لا
مال له فيعتبر قدره، فغير جائز أن نجعلها دينا عليه وأن لا يكون مخاطبا
بها. قال أبو بكر: هذا الذي ذكره هذا القائل إغفال منه لمعنى الآية;
لأن الله تعالى لم يقل "على الموسع على قدر ماله وعلى المقتر على قدر
ماله" وإنما قال تعالى {عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ
قَدَرُهُ} وللمقتر قدر يعتبر به، وهو ثبوته في ذمته حتى يجد فيسلمه،
كما قال الله تعالى: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ
(1/522)
رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} فأوجبها عليه بالمعروف.
ولو كان معسرا لا يقدر على شيء لم يخرج عن حكم الآية; لأن له ذمة تثبت
فيها النفقة بالمعروف حتى إذا وجدها أعطاها، كذلك المقتر في حكم
المتعة، وكسائر الحقوق التي تثبت في الذمة وتكون الذمة كالأعيان; ألا
ترى أن شراء المعسر بمال في ذمته جائز وقامت الذمة مقام العين في باب
ثبوت البدل فيها؟ فكذلك ذمة الزوج المقتر ذمة صحيحة يصح إثبات المتعة
فيها كما تثبت فيها النفقات وسائر الديون.
قال أبو بكر: في هذه الآية دلالة على جواز النكاح بغير تسمية مهر; لأن
الله تعالى حكم بصحة الطلاق فيه مع عدم التسمية، والطلاق لا يقع إلا في
نكاح صحيح. وقد تضمنت الدلالة على أن شرطه أن لا صداق لها لا يفسد
النكاح; لأنها لما لم يفرق بين من سكت عن التسمية وبين من شرط أن لا
صداق، فهي على الأمرين جميعا. وزعم مالك أنه إذا شرط أن لا مهر لها
فالنكاح فاسد فإن دخل بها صح النكاح ولها مهر مثلها. وقد قضت الآية
بجواز النكاح، وشرطه أن لا مهر لها ليس بأكثر من ترك التسمية، فإذا كان
عدم التسمية لا يقدح في العقد فكذلك شرطه أن لا مهر لها. وإنما قال
أصحابنا: إنها غير واجبة للمدخول بها; لأنا قد بينا أن المتعة بدل من
البضع، وغير جائز أن تستحق بدلين، فلما كانت مستحقة بعد الدخول المسمى
أو مهر المثل لم يجز أن تستحق معه المتعة. ولا خلاف أيضا بين فقهاء
الأمصار أن المطلقة قبل الدخول لا تستحقها على وجه الوجوب إذا وجب لها
نصف المهر، فدل ذلك من وجهين على ما ذكرنا: أحدهما: أنها لم تستحقه مع
وجوب بعض المهر، فأن لا تستحقه مع وجوب جميعه أولى. والثاني: أن المعنى
فيه أنها قد استحقت شيئا من المهر، وذلك موجود في المدخول بها.
فإن قيل: لما وجبت المتعة حين لم يجب شيء من المهر وجب أن يكون وجوبها
عند استحقاق المهر أولى. قيل له: فينبغي أن تستحقها إذا وجب نصف المهر
لوجوبها عند عدم شيء منه; وأيضا فإنما استحقتها عند فقد شيء من المهر
لعلة أن البضع لا يخلو من بدل قبل الطلاق وبعده، فلما لم يجب المهر
وجبت المتعة، ولما استحقت بدلا آخر لم يجز أن تستحقها.
فإن قيل: قال الله تعالى: {وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ
حَقّاً عَلَى الْمُتَّقِينَ} وذلك عام في سائرهن إلا ما خصه الدليل.
قيل له: هو كذلك، إلا أن المتاع اسم لجميع ما ينتفع به، قال الله
تعالى: {وَفَاكِهَةً وَأَبّاً مَتَاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ}
[عبس: 31 – 32] وقال تعالى: {مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ
جَهَنَّمُ} [آل عمران: 197] وقال تعالى: {إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ
الدُّنْيَا مَتَاعٌ} [غافر: 39] وقال الأفوه الأودي:
(1/523)
إنما نعمة
قوم متعة ... وحياة المرء ثوب مستعار
فالمتعة والمتاع اسم يقع على جميع ما ينتفع به. ونحن فمتى أوجبنا
للمطلقات شيئا مما ينتفع به من مهر أو نفقة فقد قضينا عهدة الآية،
فمتعة التي لم يدخل بها نصف المهر المسمى والتي لم يسم لها على قدر حال
الرجل والمرأة، وللمدخول بها تارة المسمى وتارة مهر المثل إذا لم يكن
مسمى، وذلك كله متعة; وليس بواجب إذا أوجبنا لها ضربا من المتعة أن
نوجب لها سائر ضروبها; لأن قوله تعالى: {وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ}
إنما يقتضي أدنى ما يقع عليه الاسم.
فإن قيل: قوله تعالى: {وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ} يقتضي إيجابه
بالطلاق ولا يقع على ما استحقته قبله من المهر. قيل له: ليس كذلك; لأنه
جائز أن تقول "وللمطلقات المهور التي كانت واجبة لهن قبل الطلاق" فليس
في ذكر وجوبه بعد الطلاق ما ينفي وجوبه قبله; إذ لو كان كذلك لما جاز
ذكر وجوبه في الحالين مع ذكر الطلاق، فيكون فائدة وجوبه بعد الطلاق
إعلامنا أن مع الطلاق يجب المتاع; إذ كان جائزا أن يظن ظان أن الطلاق
يسقط ما وجب، فأبان عن إيجابه بعده كهو قبله. وأيضا إن كان المراد
متاعا وجب بالطلاق فهو على ثلاثة أنحاء: إما نفقة العدة للمدخول بها،
أو المتعة، أو نصف المسمى لغير المدخول بها. وذلك متعلق بالطلاق; لأن
النفقة تسمى متاعا على ما بينا كما قال تعالى: {وَالَّذِينَ
يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً وَصِيَّةً
لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعاً إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ} فسمى
النفقة والسكنى الواجبتين لها متاعا. ومما يدل على أن المتعة غير واجبة
مع المهر اتفاق الجميع على أنه ليس لها المطالبة بها قبل الطلاق، فلو
كانت المتعة تجب مع المهر بعد الطلاق لوجبت قبل الطلاق، إذ كانت بدلا
من البضع وليست بدلا من الطلاق، فكان يكون حكمها حكم المهر; وفي ذلك
دليل على امتناع وجوب المتعة والمهر.
فإن قيل: فأنتم توجبونها بعد الطلاق لمن لم يسم لها ولم يدخل بها ولا
توجبونها قبله، ولم يكن انتفاء وجوبها قبل الطلاق دليلا على انتفاء
وجوبها بعده، وكذلك قلنا في المدخول بها. قيل له: إن المتعة بعض مهر
المثل، إذ قام مقام بعضه، وقد كانت المطالبة لها واجبة بالمهر قبل
الطلاق; فلذلك صحت ببعضه بعده; وأنت فلست تجعل المتعة بعض المهر، فلم
يخل إيجابها من أن تكون بدلا من البضع أو من الطلاق، فإن كانت بدلا من
البضع مع مهر المثل فواجب أن تستحقها قبل الطلاق، وإن لم تكن بدلا من
البضع استحال وجوبها عن الطلاق في حال حصول البضع لها. والله تعالى
أعلم.
(1/524)
ذكر تقدير المتعة الواجبة
قال الله تعالى: {وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى
الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعاً بِالْمَعْرُوفِ} وإثبات المقدار على
اعتبار حاله في الإعسار واليسار طريقه الاجتهاد وغالب الظن، ويختلف ذلك
في الأزمان أيضا; لأن الله تعالى شرط في مقدارها شيئين: أحدهما:
اعتبارها بيسار الرجل وإعساره، والثاني: أن يكون بالمعروف مع ذلك; فوجب
اعتبار المعنيين في ذلك. فإذا كان كذلك وكان المعروف منهما موقوفا على
عادات الناس فيها والعادات قد تختلف وتتغير، وجب بذلك مراعاة العادات
في الأزمان وذلك أصل في جواز الاجتهاد في أحكام الحوادث; إذ كان ذلك
حكما مؤديا إلى اجتهاد رأينا. وقد ذكرنا أن شيخنا أبا الحسن رحمه الله
يقول: "يجب مع ذلك اعتبار حال المرأة أيضا" وذكر ذلك أيضا علي بن موسى
القمي في كتابه، واحتج بأن الله تعالى علق الحكم في تقدير المتعة
بشيئين: حال الرجل بيساره وإعساره، وأن يكون مع ذلك بالمعروف. قال: فلو
اعتبرنا حال الرجل وحده عاريا من اعتبار حال المرأة، لوجب أن يكون لو
تزوج امرأتين إحداهما شريفة والأخرى دنية مولاة ثم طلقهما قبل الدخول
ولم يسم لهما أن تكونا متساويتين في المتعة، فتجب لهذه الدنية كما تجب
لهذه الشريفة; وهذا منكر في عادات الناس وأخلاقهم غير معروف. قال:
ويفسد من وجه آخر قول من اعتبر حال الرجل وحده دونها، وهو أنه لو كان
رجلا موسرا عظيم الشأن فتزوج امرأة دنية مهر مثلها دينار، أنه لو دخل
بها وجب لها مهر مثلها; إذ لم يسم لها شيئا دينار واحد، ولو طلقها قبل
الدخول لزمته المتعة على قدر حاله، وقد يكون ذلك أضعاف مهر مثلها،
فتستحق قبل الدخول بعد الطلاق أكثر مما تستحقه بعد الدخول. وهذا خلف من
القول; لأن الله تعالى قد أوجب للمطلقة قبل الدخول نصف ما أوجبه لها
بعد الدخول، فإذا كان القول باعتبار حال الرجل دونها يؤدي إلى مخالفة
معنى. الكتاب ودلالته وإلى خلاف المعروف في العادات سقط ووجب اعتبار
حالها معه. ويفسد أيضا من وجه آخر: وهو أنه لو تزوج رجلان موسران أختين
فدخل أحدهما: بامرأته كان لها مهر مثلها ألف درهم، إذ لم يسم لها مهرا;
وطلق الآخر امرأته قبل الدخول من غير تسمية أن تكون المتعة لها على قدر
حال الرجل، وجائز أن يكون ذلك أضعاف مهر أختها فيكون ما تأخذه المدخول
بها أقل مما تأخذه المطلقة، وقيمة البضعين واحدة وهما متساويتان في
المهر، فيكون الدخول مدخلا عليها ضررا ونقصانا في البدل; وهذا منكر غير
معروف. فهذه الوجوه كلها تدل على اعتبار حال المرأة معه.
وقد قال أصحابنا: إنه إذا طلقها قبل الدخول ولم يسم لها وكانت متعتها
أكثر من
(1/525)
نصف مهر
مثلها أنها لا تجاوز بها نصف مهر مثلها فيكون لها الأقل من نصف مهر
مثلها ومن المتعة; لأن الله تعالى لم يجعل المسمى. لها أكثر من نصف
التسمية مع الطلاق قبل الدخول، فغير جائز أن يعطيها عند عدم التسمية
أكثر من نصف مهر المثل; ولما كان المسمى مع ذلك أكثر من مهر المثل فلم
تستحق بعد الطلاق أكثر من النصف، ففي مهر المثل أولى. ولم يقدر أصحابنا
لها مقدارا معلوما لا يتجاوز به ولا يقصر عنه، وقالوا: "هي على قدر
المعتاد المتعارف عليه في كل وقت" وقد ذكر عنهم ثلاثة أثواب درع وخمار
وإزار، والإزار هو الذي تستتر به بين الناس عند الخروج. وقد ذكر عن
السلف في مقدارها أقاويل مختلفة على حسب ما غلب في رأي كل واحد منهم،
فروى إسماعيل بن أمية عن عكرمة عن ابن عباس قال: "أعلى المتعة الخادم،
ثم دون ذلك النفقة، ثم دون ذلك الكسوة". وروى إياس بن معاوية عن أبي
مجلز قال: قلت لابن عمر: أخبرني عن المتعة فأخبرني على قدري فإني موسر
أكسو كذا أكسو كذا; فحسبت ذلك فوجدته قيمة ثلاثين درهما. وروى عمرو عن
الحسن قال: "ليس في المتعة شيء يوقت على قدر الميسرة" وكان حماد يقول:
"يمتعها بنصف مهر مثلها". وقال عطاء: "أوسع المتعة درع وخمار وملحفة".
وقال الشعبي: "كسوتها في بيتها درع وخمار وملحفة وجلباب". وروى يونس عن
الحسن قال: "كان منهم من يمتع بالخادم والنفقة ومنهم من يمتع بالكسوة
والنفقة، ومن كان دون ذلك فثلاثة أثواب درع وخمار وملحفة، ومن كان دون
ذلك متع بثوب واحد". وروى عمرو بن شعيب عن سعيد بن المسيب قال: "أفضل
المتعة خمار وأوضعها ثوب". وروى الحجاج عن أبي إسحاق أنه سأل عبد الله
بن مغفل عنها فقال: "لها المتعة على قدر ماله".
وهذه المقادير كلها صدرت عن اجتهاد آرائهم ولم ينكر بعضهم على بعض ما
صار إليه من مخالفته فيه، فدل على أنها عندهم موضوعة على ما يؤديه إليه
اجتهاده، وهي بمنزلة تقويم المتلفات وأروش الجنايات التي ليس لها
مقادير معلومة في النصوص.
وقوله عز وجل: {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ
تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا
فَرَضْتُمْ} قيل: إن أصل الفرض الحز في القداح علامة لها تميز بينها،
والفرضة العلامة في قسم الماء على خشب أو جص أو حجارة يعرف. بها كل ذي
حق نصيبه من الشرب، وقد سمي الشط الذي ترفأ فيه السفن فرضة لحصول الأثر
فيه بالنزول إلى السفن والصعود منها، ثم صار اسم الفرض في الشرع واقعا
على المقدار وعلى ما كان في أعلى مراتب الإيجاب من الواجبات; وقوله
تعالى: {إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ} معناه "أنزله وأوجب
عليك أحكامه وتبليغه" وقوله تعالى عند ذكر
(1/526)
المواريث:
{فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ} [النساء: 11] ينتظم الأمرين من معنى الإيجاب
لمقادير الأنصباء التي بينها لذوي الميراث; وقوله تعالى: {وَإِنْ
طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ
لَهُنَّ فَرِيضَةً} المراد بالفرض ههنا تقدير المهر وتسميته في العقد،
ومنه فرائض الإبل وهي المقادير الواجبة فيها على اعتبار أعدادها
وأسنانها، فسمى التقدير فرضا تشبيها له بالحز الواقع في القداح التي
تتميز به من غيرها، وكذلك سبيل ما كان مقدرا من الأشياء فقد حصل
التمييز به بينه وبين غيره.
والدليل على أن المراد بقوله تعالى: {وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ
فَرِيضَةً} تسمية المقدار في العقد، أنه قدم ذكر المطلقة التي لم يسم
لها بقوله تعالى: {لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ
مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً} ثم عقبه
بذكر من فرض لها وطلقت بعد الدخول، فلما كان الأول على نفي التسمية كان
الثاني على إثباتها، فأوجب الله لها نصف المفروض بنص التنزيل.
وقد اختلف فيمن سمي لها بعد العقد ثم طلقت قبل الدخول، فقال أبو حنيفة:
"لها مهر مثلها" وهو قول محمد، وكان أبو يوسف يقول: "لها نصف الفرض" ثم
رجع إلى قولهما. وقال مالك والشافعي: "لها نصف الفرض" والدليل على أن
لها مهر مثلها أن موجب هذا العقد مهر المثل، وقد اقتضى وجوب مهر المثل
بالعقد وجوب المتعة بالطلاق قبل الدخول، فلما تراضيا على تسمية لم ينتف
موجب العقد من المتعة; والدليل على ذلك أن هذا الفرض لم يكن مسمى في
العقد كما لم يكن مهر المثل مسمى فيه وإن كان واجبا به، فلما كان ورود
الطلاق قبل الدخول مسقطا لمهر المثل بعد وجوبه; إذ لم يكن مسمى في
العقد، وجب أن يكون كذلك حكم المفروض بعده; إذ لم يكن مسمى فيه.
فإن قيل: مهر المثل لم يوجبه العقد وإنما وجب بالدخول. قيل له: هذا
غلط; لأنه جائز استباحة البضع بغير بدل، والدليل على ذلك أنه لو شرط في
العقد أنه لا مهر لها لوجب لها المهر، فلما كان المهر بدلا من استباحة
البضع ولم يجز نفيه بالشرط وجب أن يكون من حيث استباح البضع أن يلزمه
المهر. ويدل على ذلك أن الدخول بعد صحة العقد إنما هو تصرف فيما قد
ملكه وتصرف الإنسان في ملكه لا يلزمه بدلا; ألا ترى أن تصرف المشتري في
السلعة لا يوجب عليه بدلا بالتصرف؟ فدل ذلك على استحقاقها لمهر المثل
بالعقد. ويدل على ذلك أيضا اتفاق الجميع على أن لها أن تمنع نفسها بمهر
المثل، ولو لم تكن قد استحقته بالعقد كيف كان يجوز لها أن تمنع نفسها
بما لم يجب بعد؟ ويدل على ذلك أيضا أن لها المطالبة به، ولو خاصمته إلى
القاضي لقضى به لها،
(1/527)
والقاضي
لا يبتدئ إيجاب مهر لم تستحقه كما لا يبتدئ إيجاب سائر الديون إذا لم
تكن مستحقة. وذلك كله دليل على أن التي لم يفرض لها مهر قد استحقت مهر
المثل بالعقد وملكته على الزوج حسب ملكها للمسمى لو كانت في العقد
تسمية.
فإن قيل: لو كان مهر المثل واجبا بالعقد لما سقط كله بالطلاق قبل
الدخول كما لا يسقط جميع المسمى. قيل له: لم يسقط كله; لأن المتعة بعضه
على ما قدمنا، وهي بإزاء نصف المسمى لمن طلقت قبل الدخول.
وزعم إسماعيل بن إسحاق أن مهر المثل لا يجب بالعقد وإن استباح الزوج
البضع، قال: "لأن الزوج بإزاء الزوجة كالثمن بإزاء المبيع" فإن كان كما
قال فواجب أن لا يلزمه المهر بالدخول; لأن الوطء كان مستحقا لها على
الزوج كما استحق هو التسليم عليها; إذ ما استباحه كل واحد منهما بإزاء
ما استباحه الآخر، فمن أين صار الزوج مخصوصا بإيجاب المهر إذا دخل بها؟
وينبغي أن لا يكون لها أن تحبس نفسها بالمهر إذا لم تستحق ذلك بالعقد،
وواجب أيضا أن لا تصح تسمية المهر; لأنه قد صح من جهته بما عقد عليه
كما صح من جهتها، فلا يلزمه المهر كما لا يلزمها له شيء; وواجب على هذا
أن لا يقوم البضع عليها بالدخول وبالوطء بالشبهة، وأن لا يصح أخذ البدل
منها لسقوط حقه عن بضعها. وهذا كله مع ما عقلت الأمة من أن الزوج يجب
عليه المهر بدلا من استباحة البضع، يدل على سقوط قول هذا القائل. وقول
النبي صلى الله عليه وسلم في حديث سهل بن سعد الساعدي حين قال للرجل
الذي خطب إليه المرأة التي وهبت نفسها له: "قد ملكتها بما معك من
القرآن" يدل على أن الزوج في معنى المالك لبضعها. ومن الدليل على أن
الفرض الواقع بعد العقد يسقطه الطلاق قبل الدخول، أن الفرض إنما أقيم
مقام مهر المثل; لأنه غير جائز إيجابه مع مهر المثل; ولما كان كذلك وجب
أن يسقطه الطلاق قبل الدخول كما يسقط مهر المثل. ومن جهة أخرى أن الفرض
إنما ألحق بالعقد ولم يكن موجودا فيه، فمن حيث بطل العقد بطل ما ألحق
به.
فإن قيل: فالمسمى في العقد ثبوته كان بالعقد ولا يبطل ببطلانه. قيل له:
قد كان أبو الحسن رحمه الله يقول: "إن المسمى قد بطل، وإنما يجب نصف
المهر حسب وجوب المتعة" وكذلك قال إبراهيم النخعي: "هذا متعتها".
ومن الناس من يحتج بهذه الآية في أن المهر قد يكون أقل من عشرة دراهم;
لأن الله تعالى قال: {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ
تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا
فَرَضْتُمْ} فإذا سمى درهمين في العقد وجب بقضية الآية أن لا تستحق بعد
الطلاق أكثر من درهم. وهذا لا يدل عندنا على ما قالوا وذلك; لأن تسمية
الدرهمين عندنا تسمية
(1/528)
العشرة;
لأن العشرة لا تتبعض في العقد، وتسمية لبعضها تسمية لجميعها، كما أن
الطلاق لما لم يتبعض كان إيقاعه لنصف تطليقة إيقاعا لجميعها; والذي قد
فرض أقل من عشرة قد فرض العشرة عندنا، فيجب نصفها بعد الطلاق. وأيضا
فإن الذي اقتضته الآية وجوب نصف المفروض، ونحن نوجب نصف المفروض ثم
نوجب الزيادة إلى تمام خمسة دراهم بدلالة أخرى; والله أعلم.
(1/529)
ذكر اختلاف أهل العلم في الطلاق بعد الخلوة
قال أبو بكر: تنازع أهل العلم في معنى قوله: {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ
مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً
فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} واختلفوا في المسيس المراد بالآية، فروي عن
علي وعمر وابن عمر وزيد بن ثابت: "إذا أغلق بابا وأرخى سترا ثم طلقها
فلها جميع المهر". وروى سفيان الثوري عن ليث عن طاوس عن ابن عباس قال:
"لها الصداق كاملا" وهو قول علي بن الحسين وإبراهيم في آخرين من
التابعين. وروى فراس عن الشعبي عن ابن مسعود قال: "لها نصف الصداق وإن
قعد بين رجليها"، والشعبي عن ابن مسعود مرسل; وروي عن شريح مثل قول ابن
مسعود. وروى سفيان الثوري عن عمر عن عطاء عن ابن عباس: "إذا فرض الرجل
قبل أن يمس فليس لها إلا المتاع". فمن الناس من ظن أن قوله في هذا كقول
عبد الله بن مسعود، وليس كذلك; لأن قوله "فرض" يعني أنه لم يسم لها
مهرا، وقوله "قبل أن يمس" يريد قبل الخلوة; لأنه قد تأوله على الخلوة
في حديث طاوس عنه، فأوجب لها المتعة قبل الخلوة.
واختلف فقهاء الأمصار في ذلك أيضا، فقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد
وزفر: "الخلوة الصحيحة تمنع سقوط شيء من المهر بعد الطلاق وطئ أو لم
يطأ; وهي أن لا يكون أحدهما محرما أو مريضا أو لم تكن حائضا أو صائمة
في رمضان أو رتقاء، فإنه إن كان كذلك ثم طلقها وجب لها نصف المهر إذا
لم يطأها، والعدة واجبة في هذه الوجوه كلها إن طلقها فعليها العدة".
وقال سفيان الثوري: "لها المهر كاملا إذا خلا بها ولم يدخل بها إذا جاء
ذلك من قبله، وإن كانت رتقاء فلها نصف المهر". وقال مالك: "إذا خلا بها
وقبلها وكشفها إن كان ذلك قريبا فلا أرى لها إلا نصف المهر، وإن تطاول
ذلك فلها المهر إلا أن تضع له ما شاءت". وقال الأوزاعي: "إذا تزوج
امرأة فدخل بها عند أهلها قبلها ولمسها ثم طلقها ولم يجامعها، أو أرخى
عليها سترا أو أغلق بابا فقد تم الصداق". وقال الحسن بن صالح: "إذا خلا
بها فلها نصف المهر; إذ لم يدخل بها، وإن ادعت الدخول بعد الخلوة
فالقول قولها بعد الخلوة". وقال الليث: "إذا أرخى عليها سترا
(1/529)
فقد وجب
الصداق". وقال الشافعي: "إذا خلا بها ولم يجامعها حتى طلق فلها نصف
المهر ولا عدة عليها".
قال أبو بكر: مما يحتج به في ذلك من طريق الكتاب قوله عز وجل: {وَآتُوا
النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً} [النساء: 4] فأوجب إيفاء الجميع،
فلا يجوز إسقاط شيء منه إلا بدليل; ويدل عليه قوله تعالى: {وَإِنْ
أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ
إِحْدَاهُنَّ قِنْطَاراً فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً
أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَاناً وَإِثْماً مُبِيناً وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ
وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ} [النساء: 20 - 21] فيه وجهان
من الدلالة على ما ذكرنا، أحدهما: قوله تعالى: {فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ
شَيْئاً} [النساء: 20 - 21] والثاني: {وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ
أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ} [النساء: 21] وقال الفراء: "الإفضاء
الخلوة، دخل بها أو لم يدخل" وهو حجة في اللغة، وقد أخبر أن الإفضاء
اسم للخلوة; فمنع الله تعالى أن يأخذ منه شيئا بعد الخلوة; وقد دل على
أن المراد هو الخلوة الصحيحة التي لا تكون ممنوعا فيها من الاستمتاع;
لأن الإفضاء مأخوذ من الفضاء من الأرض، وهو الموضع الذي لا بناء فيه
ولا حاجز يمنع من إدراك ما فيه، فأفاد بذلك استحقاق المهر بالخلوة على
وصف وهي التي لا حائل بينهما ولا مانع من التسليم والاستمتاع; إذ كان
لفظ الإفضاء يقتضيه. ويدل عليه أيضا قوله تعالى: {فَانْكِحُوهُنَّ
بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ}
[النساء: 25] وقوله تعالى: {فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ
فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً} [النساء: 24] يعني مهورهن. وظاهره
يقتضي وجوب الإيتاء في جميع الأحوال إلا ما قام دليله.
قال أبو بكر: ويدل عليه من جهة السنة ما حدثنا عبد الباقي بن قانع قال:
حدثنا محمد بن شاذان قال: أخبرنا معلى بن منصور قال: حدثنا ابن لهيعة
قال: حدثنا أبو الأسود عن محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان قال: قال رسول
الله: "من كشف خمار امرأة ونظر إليها وجب الصداق دخل بها أو لم يدخل"
وهو عندنا اتفاق الصدر الأول; لأن حديث فراس عن الشعبي عن عبد الله بن
مسعود لا يثبته كثير من الناس من طريق فراس. وحدثنا عبد الباقي بن قانع
قال: حدثنا بشر بن موسى قال: حدثنا هوذة بن خليفة قال: حدثنا عوف عن
زرارة بن أوفى قال: "قضى الخلفاء الراشدون المهديون أنه من أغلق بابا
أو أرخى سترا فقد وجب المهر ووجبت العدة" فأخبر أنه قضاء الخلفاء
الراشدين، وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "عليكم بسنتي
وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي وعضوا عليها بالنواجذ".
ومن طريق النظر أن المعقود عليه من جهتها لا يخلو إما أن يكون الوطء أو
(1/530)
التسليم،
فلما اتفق الجميع على جواز نكاح المجبوب مع عدم الوطء دل ذلك على أن
صحة العقد غير متعلقة بالوطء; إذ لو كان كذلك لوجب أن لا يصح العقد عند
عدم الوطء، ألا ترى أنه لما تعلقت صحته بصحة التسليم كان من لا يصح
منها التسليم من ذوات المحارم لم يصح عليها العقد؟ وإذا كانت صحة العقد
متعلقة بصحة التسليم من جهتها فواجب أن تستحق كمال المهر بعد صحة
التسليم بحصول ما تعلقت به صحة العقد له، وأيضا فإن المستحق من قبلها
هو التسليم ووقوع الوطء إنما هو من قبل الزوج فعجزه وامتناعه لا يمنع
من صحة استحقاق المهر، ولذلك قال عمر رضي الله عنه في المخلو بها: "لها
المهر كاملا، ما ذنبهن إن جاء العجز من قبلكم؟" وأيضا لو استأجر دارا
وخلى بينها وبينه استحق الأجر لوجود التسليم، كذلك الخلوة في النكاح.
وإنما قالوا إنها إذا كانت محرمة أو حائضا أو مريضة أن ذلك لا تستحق به
كمال المهر، من قبل أن هناك تسليما آخر صحيحا تستحق به كمال المهر; إذ
ليس ذلك تسليما صحيحا; ولما لم يوجد التسليم المستحق بعقد النكاح لم
تستحق كمال المهر. واحتج من أبى ذلك بظاهر قوله تعالى: {وَإِنْ
طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ
لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} وقال تعالى في آية أخرى:
{إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ
أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ
تَعْتَدُّونَهَا} فعلق استحقاق كمال المهر ووجوب العدة بوجود المسيس
وهو الوطء; إذ كان معلوما أنه لم يرد به وجود المس باليد. والجواب عن
ذلك: أن قوله تعالى: {مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ} قد اختلف
الصحابة فيه على ما وصفنا، فتأوله علي وعمر وابن عباس وزيد وابن عمر
على الخلوة; فليس يخلو هؤلاء من أن يكونوا تأولوها من طريق اللغة أو من
جهة أنه اسم له في الشرع; إذ غير جائز تأويل اللفظ على ما ليس باسم له
في الشرع ولا في اللغة، فإن كان ذلك عندهم اسما له من طريق اللغة فهم
حجة فيها; لأنهم أعلم باللغة ممن جاء بعدهم، وإن كان من طريق الشرع
فأسماء الشرع لا تؤخذ إلا توقيفا; وإذا صار ذلك اسما لها صار تقدير
الآية: وإن طلقتموهن من قبل الخلوة فنصف ما فرضتم، وأيضا لما اتفقوا
على أنه لم يرد به حقيقة المس باليد وتأوله بعضهم على الجماع وبعضهم،
على الخلوة، ومتى كان اسما للجماع كان كناية عنه، وجائز أن يكون حكمه
كذلك; وإذا أريد به الخلوة سقط اعتبار ظاهر اللفظ، لاتفاق الجميع على
أنه لم يرد حقيقة معناه وهو المس باليد، ووجب طلب الدليل على الحكم من
غيره; وما ذكرناه من الدلالة يقتضي أن مراد الآية هو الخلوة دون
الجماع، فأقل أحواله أن لا يخص به ما ذكرنا من ظواهر الآي والسنة.
وأيضا لو اعتبرنا حقيقة اللفظ اقتضى ذلك أن يكون لو خلا بها ومسها بيده
أن تستحق كمال المهر لوجود حقيقة المس، وإذا لم يخل بها ومسها بيده
خصصناه بالإجماع; وأيضا لو كان المراد الجماع، فليس يمتنع أن يقوم
مقامه
(1/531)
مالك
واحتج به في جوازها في المشاع وقبل القبض، كان الكلام على ما قدمناه.
وأما قوله تعالى: {أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ
النِّكَاحِ} فإن السلف قد اختلفوا فيه، فقال علي وجبير بن مطعم ونافع
بن جبير وسعيد بن المسيب وسعيد بن جبير ومحمد بن كعب وقتادة ونافع: "هو
الزوج" وكذلك قال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد وزفر والثوري وابن شبرمة
والأوزاعي والشافعي، قالوا: "عفوه أن يتم لها كمال المهر بعد الطلاق
قبل الدخول" قالوا: وقوله تعالى: {إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ} البكر
والثيب. وقد روي عن ابن عباس في ذلك روايتان: إحداهما ما رواه حماد بن
سلمة عن علي بن زيد عن عمار بن أبي عمار عن ابن عباس قال: "هو الزوج"
وروى ابن جريج عن عمرو بن دينار عن عكرمة عن ابن عباس قال: "رضي الله
بالعفو وأمر به، وإن عفت فكما عفت، وإن ضنت وعفا وليها جاز وإن أبت".
وقال علقمة والحسن وإبراهيم وعطاء وعكرمة وأبو الزناد: "هو الولي".
وقال مالك بن أنس: إذا طلقها قبل الدخول وهي بكر جاز عفو أبيها عن نصف
الصداق، وقوله تعالى: {إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ}: اللاتي قد دخل بهن قال:
ولا يجوز لأحد أن يعفو عن شيء من الصداق إلا الأب وحده، لا وصي ولا
غيره. وقال الليث: لأبي البكر أن يضع من صداقها عند عقدة النكاح ويجوز
ذلك عليها، وبعد عقدة النكاح ليس له أن يضع شيئا من صداقها، ولا يجوز
أيضا عفوه عن شيء من صداقها بعد الطلاق قبل الدخول، ويجوز له مبارأة
زوجها وهي كارهة إذا كان ذلك نظرا من أبيها لها، فكما لم يجز للأب أن
يضع شيئا من صداقها بعد النكاح كذلك لا يعفو عن نصف صداقها بعد ذلك.
وذكر ابن وهب عن مالك أن مبارأته عليها جائزة.
قال أبو بكر: قوله تعالى: {أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ
النِّكَاحِ} متشابه لاحتماله الوجهين اللذين تأولهما السلف عليهما،
فوجب رده إلى المحكم وهو قوله تعالى: {وَآتُوا النِّسَاءَ
صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ
نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً} [النساء: 4] وقال تعالى في آية
أخرى: {وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ
وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَاراً فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً}
[النساء: 20] وقال تعالى: {وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا
آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ
اللَّهِ} [البقرة: 229]. فهذه الآيات محكمة لا احتمال فيها لغير المعنى
الذي اقتضته، فوجب رد الآية المتشابهة وهي قوله تعالى: {أَوْ يَعْفُوَ
الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} إليها; لأمر الله تعالى الناس
برد المتشابه إلى المحكم، وذم متبعي المتشابه من غير حمله على معنى
المحكم بقوله تعالى: {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ
فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ} [آل
عمران: 7] وأيضا لما كان اللفظ محتملا للمعاني، وجب حمله على موافقة
الأصول; ولا خلاف أنه غير جائز للأب
(1/533)
هبة شيء
من مالها للزوج ولا لغيره، فكذلك المهر; لأنه مالها. وقول من حمله على
الولي خارج عن الأصول; لأن أحدا لا يستحق الولاية على غيره في هبة
ماله; فلما كان قول القائلين بذلك مخالفا للأصول خارجا عنها وجب حمل
معنى الآية على موافقتها; إذ ليس ذلك أصلا بنفسه لاحتماله للمعاني، وما
ليس بأصل في نفسه فالواجب رده إلى غيره من الأصول واعتباره بها. وأيضا
فلو كان المعنيان جميعا في حيز الاحتمال ووجد نظائرهما في الأصول لكان
في مقتضى اللفظ ما يوجب أن يكون أولى بظاهر اللفظ من الولي، وذلك لأن
قوله تعالى: {أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} لا
يجوز أن يتناول الولي بحال لا حقيقة ولا مجازا; لأن قوله تعالى:
{الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} يقتضي أن تكون العقدة موجودة
وهي في يد من هي في يده، فأما عقدة غير موجودة فغير جائز إطلاق اللفظ
عليها بأنها في يد أحد، فلما لم تكن هناك عقدة موجودة في يد الولي قبل
العقد ولا بعده وقد كانت العقدة في يد الزوج قبل الطلاق فقد تناوله
اللفظ بحال، فوجب أن يكون حمله على الزوج أولى منه على الولي.
فإن قيل: إنما حكم الله بذلك بعد الطلاق، وليست عقدة النكاح بيد الزوج
بعد الطلاق. قيل له: يحتمل اللفظ بأن يريد الذي كان بيده عقدة النكاح،
والولي لم يكن بيده عقدة النكاح، ولا هي في يده في الحال، فكان الزوج
أولى بمعنى الآية من الولي. ويدل على ذلك قوله تعالى في نسق التلاوة:
{وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ} فندبه إلى الفضل; وقال تعالى:
{وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} وليس في هبة مال الغير إفضال
منه على غيره والمرأة لم يكن منها إفضال. وفي تجويز عفو الولي إسقاط
معنى الفضل المذكور في الآية، وجعله تعالى بعد العفو أقرب للتقوى، ولا
تقوى له في هبة مال غيره، وذلك الغير لم يقصد إلى العفو فلا يستحق به
سمة التقوى. وأيضا فلا خلاف أن الزوج مندوب إلى ذلك، وعفوه وتكميل
المهر لها جائز منه، فوجب أن يكون مرادا بها; وإذا كان الزوج مرادا
انتفى أن يكون الولي مرادا بها; لأن السلف تأولوه على أحد معنيين: إما
الزوج، وإما الولي; وإذ قد دللنا على أن الزوج مراد وجب أن تمتنع إرادة
الولي.
فإن قال قائل: على ما قدمنا فيما تضمنته الآية من الندب إلى الفضل وإلى
ما يقرب من التقوى، وإن كان ذلك خطابا مخصوصا به المالك دون من يهب مال
الغير، ليس يمتنع في الأصول أن تلحق هذه التسمية للولي وإن فعل ذلك في
مال من يلي عليه; والدليل على ذلك أنه يستحق الثواب بإخراج صدقة الفطر
عن الصغير من مال الصغير، وكذلك الأضحية والختان. قيل: أغفلت موضع
الحجاج مما قدمناه، وذلك أنا قلنا: هو غير مستحق للثواب والفضل بالتبرع
بمال الغير، فعارضتنا بمن وجب عليه حق في ماله
(1/534)
فأخرجه
عنه ولي وهو الأب، ونحن نجيز للوصي ولغير الوصي أن يخرج عنه هذه الحقوق
ولا نجيز عفوهم عنه، فكيف تكون الأضحية وصدقة الفطر والحقوق الواجبة
بمنزلة التبرع وإخراج ما لا يلزم من ملكها.
وزعم بعض من احتج لمالك أنه لو أراد الزوج لقال "إلا أن يعفون أو يعفو
الزوج" لما قد تقدم من ذكر الزوجين، فيكون الكلام راجعا إليهما جميعا،
فلما عدل عن ذلك إلى ذكر من لا يعرف إلا بالصفة علم أنه لم يرد الزوج.
قال أبو بكر: وهذا الكلام فارغ لا معنى تحته; لأن الله تعالى يذكر
إيجاب الأحكام تارة بالنصوص، وتارة بالدلالة على المعنى المراد من غير
نص عليه، وتارة بلفظ يحتمل للمعاني وهو في بعضها أظهر وبه أولى، وتارة
بلفظ مشترك يتناول معاني مختلفة يحتاج في الوصول إلى المراد بالاستدلال
عليه من غيره; وقد وجد ذلك كله في القرآن.
وقوله "لو أراد الزوج لقال أو يعفو حتى يرجع الكلام إلى الزوج دون غيره
ولما عدل عنه إلى لفظ محتمل" خلف من القول لا معنى له، ويقال له: لو
أراد الولي لقال "الولي" ولم يورد لفظا يشترك فيه الولي وغيره.
وقال هذا القائل: "إن العافي هو التارك لحقه، وهي إذا تركت النصف
الواجب لها فهي عافية، وكذلك الولي فإن الزوج إذا أعطاها شيئا غير واجب
لها لا يقال له عاف وإنما هو واهب" وهذا أيضا كلام ضعيف; لأن الذين
تأولوه على الزوج قالوا: إن عفوه هو إتمام الصداق لها وهم الصحابة
والتابعون وهم أعلم بمعاني اللغة وما تحتمله من هذا القائل. وأيضا فإن
العفو في هذا الموضع ليس هو قوله "قد عفوت" وإنما المعنى فيه تكميل
المهر من قبل الزوج أو تمليك المرأة النصف الباقي بعد الطلاق إياه، ألا
ترى أن المهر لو كان عبدا بعينه لكان حكم الآية مستعملا فيه والندب
المذكور فيها قائما فيه، ويكون عفو المرأة أن تملكه النصف الباقي لها
بعد الطلاق لا بأن تقول "قد عفوت" ولكن على الوجه الذي يجوز فيه عقود
التمليكات؟ فكذلك العفو من قبل الزوج ليس هو أن يقول "قد عفوت" لكن
بتمليك مبتدأ على حسب ما تجوز التمليكات. وكذلك لو كانت المرأة قد قبضت
المهر واستهلكته كان عفو الزوج في هذه الحالة إبراءها من الواجب عليها،
ولو كان المهر دينا في ذمة الزوج كان عفوها إبراءه من الباقي، فكل عفو
أضيف إلى المرأة فمثله يضاف إلى الزوج. ويقال: فما تقول في عفو الولي
على أي صفة هو فإنا نجعل عفو الزوج على مثلها، فالاشتغال بمثل ذلك لا
يجدي نفعا; لأن ذلك كلام في لفظ العفو والعدول عنه وهو مع ذلك منتقض
على قائله، إلا أني ذكرته إبانة عن اختلال قول المخالفين ولجأهم إلى
تزويق الكلام بما لا دلالة فيه.
(1/535)
وقوله
تعالى: {إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ} يدل على بطلان قول من يقول "إن البكر
إذا عفت عن نصف الصداق بعد الطلاق أنه لا يجوز" وهو قول مالك; لأن الله
تعالى لم يفرق بين البكر والثيب في قوله: {إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ} ولما
كان قوله وابتداء خطابه حين قال تعالى: {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ
قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً
فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} عاما في الأبكار والثيب وجب أن يكون ما عطف
عليه من قوله تعالى: {إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ} عاما في الفريقين منهما،
وتخصيص الثيب بجواز العفو دون البكر لا دلالة عليه.
وقوله تعالى: {فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} يوجب أن يكون إذا تزوجها على
ألف درهم ودفعها إليها ثم طلقها قبل الدخول وقد اشترت بها متاعا، أن
يكون لها نصف الألف وتضمن للزوج النصف; وقال مالك: "يأخذ الزوج نصف
المتاع الذي اشترته" والله تعالى إنما جعل له نصف المفروض وكذلك
المرأة، فكيف يجوز أن يؤخذ منها ما لم يكن مفروضا ولا هو قيمة له؟ وهو
أيضا خلاف الأصول; لأن رجلا لو اشترى عبدا بألف درهم وقبض البائع الألف
واشترى بها متاعا ثم وجد المشتري بالعبد عيبا فرد، لم يكن له على
المتاع الذي اشتراه البائع سبيل، وكان المتاع كله للبائع وعليه أن يرد
على المشتري ألفا مثلها. فالنكاح مثله لا فرق بينهما; إذ لم يقع عقد
النكاح على المتاع كما لم يقع عقد البيع عليه، وإنما وقع على الألف.
والله تعالى أعلم.
(1/536)
باب الصلاة الوسطى و ذكر الكلام في الصلاة
...
باب الصلاة الوسطى وذكر الكلام في الصلاة
قال الله تعالى: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ
الْوُسْطَى} فيه أمر بفعل الصلاة وتأكيد وجوبها بذكر المحافظة، وهي
الصلوات الخمس المكتوبات المعهودات في اليوم والليلة وذلك لدخول الألف
واللام عليها إشارة بها إلى معهود. وقد انتظم ذلك القيام بها واستيفاء
فروضها وحفظ حدودها وفعلها في مواقيتها وترك التقصير فيها; إذ كان
الأمر بالمحافظة يقتضي ذلك كله. وأكد الصلاة الوسطى بإفرادها بالذكر مع
ذكره سائر الصلوات، وذلك يدل على معنيين: إما أن تكون أفضل الصلوات
وأولاها بالمحافظة عليها فلذلك أفردها بالذكر عن الجملة، وإما أن تكون
المحافظة عليها أشد من المحافظة على غيرها. وقد روي في ذلك روايات
مختلفة يدل بعضها على الوجه الأول وبعضها على الوجه الثاني، فمنها ما
روي عن زيد بن ثابت أنه قال: هي الظهر; لأن رسول الله صلى الله عليه
وسلم كان يصلي بالهجير ولا يكون وراءه إلا الصف أو الصفان والناس في
قائلتهم وتجارتهم، فأنزل الله تعالى: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ
وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى} وفي بعض ألفاظ الحديث: "فكانت أثقل الصلوات
على الصحابة فأنزل الله تعالى ذلك". قال زيد بن
(1/536)
ثابت:
"وإنما سماها وسطى; لأن قبلها صلاتين وبعدها صلاتين". وروي عن ابن عمر
وابن عباس "أن الصلاة الوسطى صلاة العصر". وروي عن ابن عباس رواية أخرى
"أنها صلاة الفجر". وقد روي عن عائشة وحفصة وأم كلثوم أن في مصحفهن:
"حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى صلاة العصر". وروي عن البراء بن
عازب قال: نزلت "حافظوا على الصلوات وصلاة العصر" وقرأتها على عهد رسول
الله صلى الله عليه وسلم ثم نسخها الله تعالى فأنزل: {حَافِظُوا عَلَى
الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى}. فأخبر البراء أن ما في مصحف
هؤلاء من ذكر صلاة العصر منسوخ. وقد روى عاصم عن زر عن علي قال: قاتلنا
الأحزاب فشغلونا عن صلاة العصر حتى كادت الشمس أن تغيب، فقال النبي صلى
الله عليه وسلم: "اللهم املأ قلوب الذين شغلونا عن الصلاة الوسطى نارا"
قال علي: "كنا نرى أنها صلاة الفجر". وروى عكرمة وسعيد بن جبير ومقسم
عن ابن عباس مثل ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم. وروى أبو هريرة عن
النبي صلى الله عليه وسلم: "أنها صلاة العصر" وكذلك روى سمرة بن جندب
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. وروي عن علي من قوله "أنها صلاة
العصر" وكذلك عن أبي بن كعب وعن قبيصة بن ذؤيب: "المغرب".
وقيل إنما سميت صلاة العصر الوسطى; لأنها بين صلاتين من صلاة النهار
وصلاتين من صلاة الليل، وقيل إن أول الصلوات وجوبا كانت الفجر وآخرها
العشاء الآخرة، فكانت العصر هي الوسطى في الوجوب. ومن قال إن الوسطى
الظهر يقول; لأنها وسطى صلاة النهار بين الفجر والعصر، ومن قال الصبح
فقد قال ابن عباس: "لأنها تصلى في سواد من الليل وبياض من النهار"
فجعلها وسطى في الوقت. ومن الناس من يستدل بقوله تعالى: {وَالصَّلاةِ
الْوُسْطَى} على نفي وجوب الوتر; لأنها لو كانت واجبة لما كان لها
وسطى; لأنها تكون حينئذ ستا. فيقال له: إن كانت الوسطى العصر فوجهه ما
قيل إنها وسطى في الإيجاب، فإن كانت الظهر فلأنها بين صلاتي الفجر
والعصر، فلا دلالة على نفي وجوب الوتر التي هي من صلاة الليل. وأيضا
فإنها وسطى الصلوات المكتوبات وليس الوتر من المكتوبات وإن كانت واجبة;
لأنه ليس كل واجب فرضا; إذ كان الفرض هو أعلى في مراتب الوجوب. وأيضا
فإن فرض الوتر زيادة وردت بعد فرض المكتوبات، لقوله صلى الله عليه
وسلم: "إن الله زادكم إلى صلاتكم صلاة وهي الوتر" وإنما سميت وسطى قبل
وجوب الوتر.
وأما قوله عز وجل: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} فإنه قد قيل في معنى
القنوت في أصل اللغة إنه الدوام على الشيء. وروي عن السلف فيه أقاويل،
روي عن ابن عباس والحسن وعطاء والشعبي: {وَقُومُوا لِلَّهِ
قَانِتِينَ}: "مطيعين". وقال نافع عن ابن عمر قال:
(1/537)
"القنوت
طول القيام" وقرأ {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ} [الزمر: 9].
وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "أفضل الصلاة طول القنوت"
يعني القيام. وقال مجاهد: "القنوت السكوت والقنوت الطاعة". ولما كان
أصل القنوت الدوام على الشيء جاز أن يسمى مديم الطاعة قانتا، وكذلك من
أطال القيام والقراءة والدعاء في الصلاة أو أطال الخشوع والسكوت، كل
هؤلاء فاعلو القنوت. وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم "قنت شهرا يدعو
فيه على حي من أحياء العرب" والمراد به: أطال قيام الدعاء. وقد روى
الحارث بن شبل عن أبي عمرو الشيباني قال: كنا نتكلم في الصلاة على عهد
رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ}
فأمرنا بالسكوت فاقتضى ذلك النهي عن الكلام في الصلاة. وقال عبد الله
بن مسعود: كنا نسلم على النبي صلى الله عليه وسلم وهو في الصلاة فيرد
علينا قبل أن نأتي أرض الحبشة، فلما رجعت سلمت عليه فلم يرد علي، فذكرت
ذلك له فقال: "إن الله يحدث من أمره ما يشاء وإنه قضى أن لا تتكلموا في
الصلاة". وروى عطاء بن يسار عن أبي سعيد الخدري أن رجلا سلم على النبي
صلى الله عليه وسلم فرد عليه بالإشارة، فلما سلم قال: "كنا نرد السلام
في الصلاة فنهينا عن ذلك". وروى إبراهيم الهجري عن ابن عياض عن أبي
هريرة قال: كانوا يتكلمون في الصلاة فنزل: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ
فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا} [الأعراف: 204]. وفي حديث معاوية بن
الحكم السلمي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن صلاتنا هذه لا يصلح
فيها شيء من كلام الناس إنما هي التسبيح والتكبير وقراءة القرآن".
ففي هذه الأخبار حظر الكلام في الصلاة.
ولم تختلف الرواة أن الكلام كان مباحا في الصلاة إلى أن حظره; واتفق
الفقهاء على حظره، إلا أن مالكا قال: "يجوز فيها لإصلاح الصلاة". وقال
الشافعي كلام السهو لا يفسدها. ولم يفرق أصحابنا بين شيء منه، وأفسدوا
الصلاة بوجوده فيها على وجه السهو وقع أو لإصلاح الصلاة، والدليل عليه
أن الآية التي تلونا من قوله تعالى: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ}
ورواية من روى أنها نزلت في حظر الكلام في الصلاة، مع احتماله له لو لم
ترد الرواية بسبب نزولها، ليس فيها فرق بين الكلام الواقع على وجه
السهو والعمد وبينه إذا قصد به إصلاح الصلاة أو لم يقصد; وكذلك سائر
الأخبار المأثورة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في حظره فيها لم
يفرق فيها بين ما قصد به إصلاح الصلاة وبين غيره ولا بين السهو والعمد
منه، فهي عامة في الجميع.
فإن قيل: النهي عن الكلام في الصلاة مقصور على العامد دون الناسي
لاستحالة نهي الناسي. قيل له: حكم النهي قد يجوز أن يتعلق على الناسي
كهو على العامد. وإنما يختلفان، في المأثم، واستحقاق الوعيد فأما في
الأحكام التي هي فساد الصلاة وإيجاب قضائها
(1/538)
فلا
يختلفان ألا ترى أن الناسي بالأكل والحدث والجماع في الصلاة في حكم
العامد فيما يتعلق عليه من أحكام هذه الأفعال من إيجاب القضاء وإفساد
الصلاة وإن كانا مختلفين في حكم المأثم واستحقاق الوعيد وإذا كان ذلك
على ما وصفنا كان حكم النهي فيما يقتضيه من إيجاب القضاء معلقا بالناسي
كهو بالعامد، لا فرق بينهما فيه وإن اختلفا في حكم المأثم والوعيد. فقد
دلت هذه الأخبار على فساد قول من فرق بين ما قصد به الإصلاح للصلاة
وبين ما لم يقصد به إصلاحها، وعلى فساد قول من فرق بين الناسي والعامد.
ويدل على ذلك أيضا قول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث معاوية بن
الحكم: "إن صلاتنا هذه لا يصلح فيها شيء من كلام الناس" وحقيقته الخبر،
فهو محمول على حقيقته، فاقتضى ذلك إخبارا من النبي صلى الله عليه وسلم
بأن الصلاة لا يصلح فيها كلام الناس; فلو بقي مصليا بعد الكلام لكان قد
صلح الكلام فيها من وجه، فثبت بذلك أن ما وقع فيه كلام الناس فليس
بصلاة ليكون مخبره خبرا موجودا في سائر ما أخبر به. ومن وجه آخر أن ضد
الصلاح هو الفساد وهو يقتضيه في مقابلته، فإذا لم يصلح فيها ذلك فهي
فاسدة إذا وقع الكلام فيها، ولو لم يكن كذلك لكان قد صلح الكلام فيها
من غير إفساد، وذلك خلاف مقتضى الخبر.
واحتج الفريقان جميعا من مخالفينا الذين حكينا قولهما بحديث أبي هريرة
في قصة ذي اليدين، وروي من طرق، قال: صلى بنا رسول الله صلى الله عليه
وسلم إحدى صلاتي العشي الظهر أو العصر، ثم قام إلى خشبة في مقدم المسجد
فوضع يده عليها إحداهما على الأخرى يعرف في وجهه الغضب، قال: وخرج
سرعان الناس فقالوا: أقصرت الصلاة؟ وفي الناس أبو بكر وعمر، فهاباه أن
يكلماه، فقام رجل طويل اليدين كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسميه
ذا اليدين فقال: يا رسول الله أنسيت أم قصرت الصلاة؟ فقال له: "لم أنس
ولم تقصر الصلاة" فقال: بل نسيت فأقبل على القوم فقال: "أصدق ذو
اليدين؟" قالوا: نعم فجاء فصلى بنا الركعتين الباقيتين وسلم وسجد سجدتي
السهو. فأخبر أبو هريرة بما كان منه ومنهم من الكلام ولم يمتنع من
البناء، وقد كان أبو هريرة متأخر الإسلام. وروى يحيى بن سعيد القطان
قال: حدثنا إسماعيل بن أبي خالد عن قيس بن أبي حازم قال: أتينا أبا
هريرة فقلنا: حدثنا فقال: صحبت رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث
سنين. وقد روي عنه أنه قدم المدينة والنبي صلى الله عليه وسلم بخيبر،
فخرج خلفه وقد فتح النبي صلى الله عليه وسلم خيبر. قالوا: فإذا كانت
هذه القصة بعد إسلام أبي هريرة، ومعلوم أن نسخ الكلام كان بمكة; لأن
عبد الله بن مسعود لما قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم من أرض
الحبشة كان الكلام في الصلاة محظورا; لأنه سلم عليه فلم يرد عليه
وأخبره بنسخ الكلام في الصلاة، فثبت بذلك أن ما في حديث ذي اليدين كان
بعد حظر الكلام في الصلاة.
(1/539)
وقال
أصحاب مالك: "إنما لم تفسد به الصلاة; لأنه كان لإصلاحها". وقال
الشافعي: "لأنه وقع ناسيا".
فيقال لهم: لو كان حديث ذي اليدين بعد نسخ الكلام لكان مبيحا للكلام
فيها ناسخا لحظره المتقدم له; لأنه لم يخبرهم أن جواز ذلك مخصوص بحال
دون حال. وقد روى سفيان بن عيينة عن أبي حازم عن سهل بن سعد، أن النبي
صلى الله عليه وسلم قال: "من نابه في صلاته شيء فليقل سبحان الله، إنما
التصفيق للنساء والتسبيح للرجال". وروى سفيان عن الزهري عن أبي سلمة عن
أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "التسبيح للرجال والتصفيق
للنساء" فمنع رسول الله صلى الله عليه وسلم لمن نابه شيء في صلاته من
الكلام وأمر بالتسبيح، فلما لم يكن من القوم تسبيح في قصة ذي اليدين
ولا أنكر عليهم النبي صلى الله عليه وسلم تركه، دل ذلك على أن قصة ذي
اليدين كانت قبل أن يعلمهم التسبيح، إذ غير جائز أن يكون قد علمهم
التسبيح ثم يخالفونه إلى غيره، ولو كانوا خالفوا ما أمروا به من
التسبيح في مثل هذه الحال لظهر فيه النكير عليهم في تركهم التسبيح
المأمور به إلى الكلام المحظور. وفي هذا دليل على أن قصة ذي اليدين
كانت على أحد وجهين: إما قبل حظر الكلام في الصلاة، وإما أن تكون بعد
حظر الكلام بديا منه ثم أبيح الكلام ثم حظر بقوله: "التسبيح للرجال
والتصفيق للنساء" وقد كان نسخ الكلام بالمدينة بعد الهجرة، يدل عليه ما
روى معمر عن الزهري عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن أبي هريرة قال: صلى
رسول الله صلى الله عليه وسلم الظهر أو العصر، وذكر الحديث. قال
الزهري: فكان هذا قبل بدر، ثم استحكمت الأمور بعده. وقال زيد بن أرقم:
كنا نتكلم في الصلاة حتى نزلت: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} فأمرنا
بالسكوت. وقال أبو سعيد الخدري: "سلم رجل على النبي صلى الله عليه وسلم
فرد عليه إشارة", وقال: "كنا نرد السلام في الصلاة فنهينا عن ذلك".
وأبو سعيد الخدري من أصاغر أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ويدل على
صغر سنه ما روى هشام عن أبيه عن عائشة قالت: "وما علم أبي سعيد الخدري
وأنس بن مالك بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ وإنما كانا غلامين
صغيرين". وكان قدوم عبد الله بن مسعود على النبي صلى الله عليه وسلم من
الحبشة إنما كان بالمدينة. وروى الزهري عن سعيد بن المسيب وأبي بكر بن
عبد الرحمن وعروة بن الزبير أن عبد الله بن مسعود ومن كان معه بالحبشة
قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة. وقد روى أهل السير
أن عبد الله بن مسعود قتل أبا جهل يوم بدر بعدما أثخنه ابنا عفراء;
وإذا كان كذلك فقد أخبر عبد الله بن مسعود بحظر الكلام في الصلاة عند
قدومه من الحبشة، وكان ذلك والنبي صلى الله عليه وسلم يريد الخروج إلى
بدر. وروى عبد الله بن وهب عن عبد الله بن العمري عن نافع عن ابن عمر،
أنه ذكر له حديث ذي اليدين فقال: "كان إسلام أبي هريرة بعدما قتل ذو
اليدين"
(1/540)
ثبت بذلك
أن ما رواه أبو هريرة كان قبل إسلامه; لأن إسلامه كان عام خيبر، فثبت
أن أبا هريرة لم يشهد تلك القصة وإن حدث بها، كما قال البراء: "ما كل
ما نحدثكم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم سمعناه، ولكنا سمعنا وحدثنا
أصحابنا". وروى حماد بن سلمة عن حميد عن أنس قال: "والله ما كل ما
نحدثكم به سمعناه من رسول الله صلى الله عليه وسلم ولكن كان يحدث بعضنا
بعضا ولا يتهم بعضنا بعضا". وقد روى ابن جريج قال: أخبرني عمرو عن يحيى
بن جعدة، أنه أخبره عن عبد الرحمن بن عبد القاري، أنه سمع أبا هريرة
يقول: لا ورب هذا البيت ما أنا قلت من أدرك الصبح وهو جنب فليفطر، ولكن
محمد قاله ورب هذا البيت ثم لما أخبر برواية عائشة وأم سلمة أن النبي
صلى الله عليه وسلم كان يصبح جنبا من غير احتلام ثم يصوم يومه ذلك قال:
"لا علم لي بهذا إنما أخبرني به الفضل بن العباس". فليس في روايته
بحديث ذي اليدين ما يدل على مشاهدته.
فإن قيل فقد روي في بعض أخباره أنه قال: "صلى بنا رسول الله". قيل له:
يحتمل أن يكون مراده أنه صلى بالمسلمين وهو منهم، كما روى مسعر بن كدام
عن عبد الملك بن ميسرة عن النزال بن سبرة قال: قال لنا رسول الله صلى
الله عليه وسلم: "أنا وإياكم كنا ندعى بني عبد مناف فأنتم اليوم بنو
عبد الله ونحن بنو عبد الله" إنما يعني أنه قال ذلك لقومه.
فإن قيل: لو كان حظر الكلام في الصلاة متقدما لبدر لما شهده زيد بن
أرقم; لأنه كان صغير السن وكان يتيما في حجر عبد الله بن رواحة حين خرج
إلى مؤتة، ومثله لا يدرك قصة كانت قبل بدر. قيل له: إن كان زيد بن أرقم
قد شهد إباحة الكلام في الصلاة فإنه جائز أن يكون قد أبيح بعد الحظر ثم
حظر، فكان آخر أمره الحظر. وجائز أن يكون أبو هريرة أيضا قد شهد إباحة
الكلام في الصلاة بعد حظره ثم حظر بعد ذلك; إلا أن إخباره عن قصة ذي
اليدين لا محالة لم يكن عن مشاهدة; لأنه أسلم بعدها. وجائز أن يكون زيد
بن أرقم أخبر عن حال المسلمين في كلامهم في الصلاة إلى نزول قوله
تعالى: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} ويكون معنى قوله "كنا نتكلم في
الصلاة" إخبارا عن المسلمين وهو منهم، كما قال النزال بن سبرة: "قال
لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم" وكما قال الحسن: "خطبنا ابن عباس
بالبصرة" وهو لم يكن بها يومئذ، إنما طرأ عليها بعده.
ومما يدل على أن قصة ذي اليدين كانت في حال إباحة الكلام أن فيها أن
النبي صلى الله عليه وسلم استند إلى جذع في المسجد وأن سرعان الناس
خرجوا فقالوا: أقصرت الصلاة؟ وأن النبي صلى الله عليه وسلم أقبل على
القوم فسألهم، فقالوا: صدق وبعض هذا الكلام كان عمدا وبعضه كان لغير
إصلاح الصلاة; فدل على أنها كانت في حال إباحة الكلام. وجملة الأمر في
(1/541)
باب الفرار من الطاعون
قال الله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ
دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ
مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ} قال ابن عباس: "كانوا أربعة آلاف خرجوا
فرارا من الطاعون فماتوا فمر عليهم نبي من الأنبياء فدعا ربه أن يحييهم
فأحياهم الله". وروي عن الحسن أيضا أنهم فروا من الطاعون. وقال عكرمة:
"فروا من القتال". وهذا يدل على أن الله تعالى كره فرارهم من الطاعون;
وهو نظير قوله تعالى: {أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ
وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ} [النساء: 78] وقوله تعالى:
{قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ
مُلاقِيكُمْ} [الجمعة: 8] وقوله تعالى: {قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ
الْفِرَارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ} [الأحزاب:
16] وقوله تعالى: {فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ
سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ} [الأعراف: 34]. وإذا كانت الآجال موقتة
محصورة لا يقع فيها تقديم ولا تأخير عما قدرها الله عليه، فالفرار من
الطاعون عدول عن مقتضى ذلك; وكذلك الطيرة والزجر والإيمان بالنجوم، كل
ذلك فرار من قدر الله عز وجل الذي لا محيص لأحد عنه.
وقد روي عن عمرو بن جابر الحضرمي عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول
الله صلى الله عليه وسلم: "الفرار من الطاعون كالفرار من الزحف والصابر
فيه كالصابر في الزحف". وروى يحيى بن أبي كثير عن سعيد بن المسيب عن
سعد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا عدوى ولا طيرة، وإن تكن
الطيرة في شيء فهي في الفرس والمرأة والدار، وإذا سمعتم بالطاعون
(1/545)
بأرض لستم
بها فلا تهبطوا عليه، وإذا كان وأنتم بها فلا تخرجوا فرارا عنه". وروي
عن أسامة بن زيد عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله في الطاعون. وروى
الزهري عن عبد الحميد بن عبد الرحمن عن عبد الله بن الحارث بن عبد الله
بن نوفل عن ابن عباس: أن عمر خرج إلى الشام، حتى إذا كان بسرغ لقيه
التجار فقالوا: الأرض سقيمة; فاستشار المهاجرين والأنصار فاختلفوا عليه
فعزم على الرجوع، فقال له أبو عبيدة: أفرارا من قدر الله؟ فقال له عمر:
لو غيرك يقولها يا أبا عبيدة، نفر من قدر الله إلى قدر الله أرأيت لو
كان لك إبل فهبطت بها واديا له عدوتان إحداهما خصيبة والأخرى جديبة
ألست إن رعيت الخصيبة رعيتها بقدر الله وإن رعيت الجديبة رعيتها بقدر
الله؟ فجاء عبد الرحمن بن عوف فقال: عندي من هذا علم، سمعت رسول الله
صلى الله عليه وسلم يقول: "إذا سمعتم به في أرض فلا تقدموا عليه، وإذا
وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا فرارا منه". فحمد الله عمر وانصرف ففي
هذه الأخبار النهي عن الخروج عن الطاعون فرارا منه والنهي عن الهبوط
عليه أيضا.
فإن قال قائل: إذا كانت الآجال مقدرة محصورة لا تتقدم ولا تتأخر عن
وقتها، فما وجه نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن دخول أرض بها الطاعون
وهو قد منع الخروج منها بديا لأجله ولا فرق بين دخولها وبين البقاء
فيها؟ قيل له: إنما وجه النهي أنه إذا دخلها وبها الطاعون فجائز أن
تدركه منيته وأجله بها، فيقول قائل: لو لم يدخلها ما مات; فإنما نهاه
عن دخولها لئلا يقال هذا; وهو كقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لإِخْوَانِهِمْ
إِذَا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزّىً لَوْ كَانُوا
عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ
حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ} [آل عمران: 156] فكره النبي صلى الله عليه
وسلم أن يدخلها، فعسى يموت فيها بأجله فيقول قوم من الجهال: لو لم
يدخلها لم يمت. وقد أصاب بعض الشعراء في هذا المعنى حين قال:
يقولون لي لو كان بالرمل لم تمت ... بثينة والأنباء يكذب قيلها
ولو أنني استودعتها الشمس لاهتدت ... إليها المنايا عينها ودليلها
وعلى هذا المعنى الذي قدمنا ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم: "لا
يوردن ذو عاهة على مصح" مع قوله: "لا عدوى ولا طيرة" لئلا يقال إذا
أصاب الصحيح عاهة بعد إيراد ذي عاهة عليه: إنما أعداه ما ورد عليه.
وقيل له: يا رسول الله إن النقبة تكون بمشفر البعير فتجرب لها الإبل
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "فما أعدى الأول؟". وقد روى هشام بن
عروة عن أبيه، أن الزبير استفتح مصرا فقيل له: إن هنا طاعونا; فدخلها
وقال: ما جئنا إلا للطعن والطاعون. وقد روي أن أبا بكر لما جهز الجيوش
إلى الشام شيعهم ودعا لهم وقال: "اللهم أفنهم بالطعن والطاعون". فاختلف
أهل العلم في معنى ذلك، فقال قائلون: لما
(1/546)
رآهم على
حال الاستقامة والبصائر الصحيحة والحرص على جهاد الكفار خشي عليهم
الفتنة، وكانت بلاد الشام بلاد الطاعون مشهور ذلك بها، أحب أن يكون
موتهم على الحال التي خرجوا عليها قبل أن يفتتنوا بالدنيا وزهرتها.
وقال آخرون: قد كان النبي صلى الله عليه وسلم قال: "فناء أمتي بالطعن
والطاعون" يعني عظم الصحابة، وأخبر أن الله سيفتح البلاد بمن هذه صفته،
فرجا أبو بكر أن يكون هؤلاء الذين ذكرهم النبي صلى الله عليه وسلم
وأخبر عن حالهم; ولذلك لم يحب أبو عبيدة الخروج من الشام. وقال معاذ:
لما وقع الطاعون بالشام وهو بها قال: اللهم اقسم لنا حظا منه ولما طعن
في كفه أخذ يقبلها ويقول: ما يسرني بها كذا وكذا وقال: لئن كنت صغيرا
فرب صغير يبارك الله فيه أو كلمة نحوها، يتمنى الطاعون ليكون من أهل
الصفة التي وصف النبي صلى الله عليه وسلم بها أمته الذين يفتح الله بهم
البلاد ويظهر بهم الإسلام.
وفي هذه الآية دلالة على بطلان قول من أنكر عذاب القبر وزعم أنه من
القول بالتناسخ; لأن الله أخبر أنه أمات هؤلاء القوم ثم أحياهم، فكذلك
يحييهم في القبر ويعذبهم إذا استحقوا ذلك.
وقوله تعالى: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ
اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} هو أمر بالقتال في سبيل الله. وهو يحمل; إذ
ليس فيه بيان السبيل المأمور بالقتال فيه، وقد بينه في مواضع غيره،
وسنذكره إذا انتهينا إليه إن شاء الله تعالى.
وقوله تعالى: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً
فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافاً كَثِيرَةً} إنما هو استدعاء إلى أعمال
البر والإنفاق في سبيل الخير بألطف الكلام وأبلغه; وسماه قرضا تأكيدا
لاستحقاق الثواب به; إذ لا يكون قرضا إلا والعوض مستحق به. وجهلت
اليهود ذلك أو تجاهلت لما نزلت هذه الآية فقالوا: إن الله يستقرض منا،
فنحن أغنياء وهو فقير إلينا فأنزل الله تعالى: {لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ
قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ}
[آل عمران: 181] وعرف المسلمون معناه ووثقوا بثواب الله ووعده وبادروا
إلى الصدقات; فروي أنه لما نزلت هذه الآية جاء أبو الدحداح إلى النبي
صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله ألا ترى ربنا يستقرض منا مما
أعطانا لأنفسنا؟ وإن لي أرضين إحداهما بالعالية والأخرى بالسافلة فإني
قد جعلت خيرهما صدقة.
وقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكاً
قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا} الآية، يدل على أن
الإمامة ليست وراثة لإنكار الله تعالى عليهم ما أنكروه من التمليك
عليهم من ليس من أهل النبوة ولا الملك وبين أن ذلك مستحق بالعلم والقوة
لا بالنسب. ودل ذلك أيضا على أنه لا حظ للنسب مع العلم وفضائل النفس
وأنها مقدمة عليه; لأن
(1/547)
الله أخبر
أنه اختاره عليهم لعلمه وقوته وإن كانوا أشرف منه نسبا. وذكره للجسم
ههنا عبارة عن فضل قوته; لأن في العادة من كان أعظم جسما فهو أكثر قوة;
ولم يرد بذلك عظم الجسم بلا قوة; لأن ذلك لا حظ له في القتال، بل هو
وبال على صاحبه إذا لم يكن ذا قوة فاضلة.
قوله عز وجل: {فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ
يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ} يدل على أن الشرب
من النهر إنما هو الكرع فيه ووضع الشفة عليه; لأنه قد كان حظر الشرب
وحظر الطعم منه إلا لمن اغترف غرفة بيده. وهذا يدل على صحة قول أبي
حنيفة فيمن قال: "إن شربت من الفرات فعبدي حر" أنه على أن يكرع فيه،
وإن اغترف منه أو شرب بإناء لم يحنث; لأن الله قد كان حظر عليهم الشرب
من النهر وحظر مع ذلك أن يطعم منه واستثنى من الطعم الاغتراف، فحظر
الشرب باق على ما كان عليه; فدل على أن الاغتراف ليس بشرب منه.
قوله تعالى: {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ
الْغَيِّ} روي عن الضحاك والسدي وسليمان بن موسى أنه منسوخ بقوله
تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ
وَالْمُنَافِقِينَ} [التوبة: 73]. وقوله تعالى: {فَاقْتُلُوا
الْمُشْرِكِينَ} [التوبة: 5]. وروي عن الحسن وقتادة أنها خاصة في أهل
الكتاب الذين يقرون على الجزية دون مشركي العرب; لأنهم لا يقرون على
الجزية ولا يقبل منهم إلا الإسلام أو السيف. وقيل: إنها نزلت في بعض
أبناء الأنصار، كانوا يهودا فأراد آباؤهم إكراههم على الإسلام; وروي
ذلك عن ابن عباس وسعيد بن جبير. وقيل فيه: أي لا تقولوا لمن أسلم بعد
حرب إنه أسلم مكرها; لأنه إذا رضي وصح إسلامه فليس بمكره.
قال أبو بكر: {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} أمر في صورة الخبر، وجائز أن
يكون نزول ذلك قبل الأمر بقتال المشركين، فكان في سائر الكفار كقوله
تعالى: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ
وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} [فصلت: 34] وكقوله
تعالى: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ} [المؤمنون: 96]
وقوله تعالى: {وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل: 125]
وقوله تعالى: {وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاماً}
[الفرقان: 63] فكان القتال محظورا في أول الإسلام إلى أن قامت عليهم
الحجة بصحة نبوة النبي صلى الله عليه وسلم فلما عاندوه بعد البيان أمر
المسلمون بقتالهم، فنسخ ذلك عن مشركي العرب بقوله تعالى: {فَاقْتُلُوا
الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} [التوبة: 5] وسائر الآي
الموجبة لقتال أهل الشرك، وبقي حكمه على أهل الكتاب إذا أذعنوا بأداء
الجزية ودخلوا في حكم أهل الإسلام وفي ذمتهم. ويدل على ذلك أن النبي
صلى الله عليه وسلم لم يقبل من مشركي العرب إلا الإسلام
(1/548)
أو السيف.
وجائز أن يكون حكم هذه الآية ثابتا في الحال على جميع أهل الكفر; لأنه
ما من مشرك إلا وهو لو تهود أو تنصر لم يجبر على الإسلام وأقررناه على
دينه بالجزية; وإذا كان ذلك حكما ثابتا في سائر من انتحل دين أهل
الكتاب ففيه دلالة على بطلان قول الشافعي حين قال: "من تهود من المجوس
أو النصارى أجبرته على الرجوع إلى دينه أو إلى الإسلام" والآية دالة
على بطلان هذا القول; لأن فيها الأمر بأن لا نكره أحدا على الدين، وذلك
عموم يمكن استعماله في جميع الكفار على الوجه الذي ذكرنا.
فإن قال قائل فمشركو العرب الذين أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتالهم
وأن لا يقبل منهم إلا الإسلام أو السيف قد كانوا مكرهين على الدين،
ومعلوم أن من دخل في الدين مكرها فليس بمسلم، فما وجه إكراههم عليه؟
قيل له: إنما أكرهوا على إظهار الإسلام لا على اعتقاده; لأن الاعتقاد
لا يصح منا الإكراه عليه; ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: "أمرت
أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فإذا قالوها عصموا مني
دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله" فأخبر صلى الله عليه وسلم
أن القتال إنما كان على إظهار الإسلام، وأما الاعتقادات فكانت موكولة
إلى الله تعالى. ولم يقتصر بهم النبي صلى الله عليه وسلم على القتال
دون أن أقام عليهم الحجة والبرهان في صحة نبوته، فكانت الدلائل منصوبة
للاعتقاد وإظهار الإسلام معا; لأن تلك الدلائل من حيث ألزمتهم اعتقاد
الإسلام فقد اقتضت منه إظهاره والقتال لإظهار الإسلام، وكان في ذلك
أعظم المصالح، منها: أنه إذا أظهر الإسلام وإن كان غير معتقد له فإن
مجالسته للمسلمين وسماعه القرآن ومشاهدته لدلائل الرسول صلى الله عليه
وسلم مع ترادفها عليه تدعوه إلى الإسلام وتوضح عنده فساد اعتقاده.
ومنها: أن يعلم الله أن في نسلهم من يوقن ويعتقد التوحيد، فلم يجز أن
يقتلوا مع العلم بأنه سيكون في أولادهم من يعتقد الإيمان.
وقال أصحابنا فيمن أكره من أهل الذمة على الإيمان: إنه يكون مسلما في
الظاهر ولا يترك والرجوع إلى دينه، إلا أنه لا يقتل إن رجع إلى دينه
ويجبر على الإسلام من غير قتل; لأن الإكراه لا يزيل عنه حكم الإسلام
إذا أسلم وإن كان دخوله فيه مكرها دالا على أنه غير معتقد له; لما
وصفنا من إسلام من أسلم من المشركين بقتال النبي صلى الله عليه وسلم
وقوله: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فإذا قالوها
عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها" فجعل النبي صلى الله عليه وسلم
إظهار الإسلام عند القتال إسلاما في الحكم، فكذلك المكره على الإسلام
من أهل الذمة واجب أن يكون مسلما في الحكم، ولكنهم لم يقتلوا للشبهة.
ولا نعلم خلافا أن أسيرا من أهل الحرب لو قدم ليقتل فأسلم أنه يكون
مسلما، ولم يكن إسلامه خوفا من القتل مزيلا عنه حكم الإسلام، فكذلك
الذمي.
(1/549)
فإن قال
قائل: قوله تعالى: {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} يحظر إكراه الذمي على
الإسلام، وإذا كان الإكراه على هذا الوجه محظورا وجب أن لا يكون مسلما
في الحكم وأن لا يتعلق عليه حكمه; ولا يكون حكم الذمي في هذا حكم
الحربي; لأن الحربي يجوز أن يكره على الإسلام لإبائه الدخول في الذمة،
ومن دخل في الذمة لم يجز إكراهه على الإسلام. قيل له: إذا ثبت أن
الإسلام لا يختلف حكمه في حال الإكراه والطوع لمن يجوز إجباره عليه،
أشبه في هذا الوجه العتق والطلاق وسائر ما لا يختلف فيه حكم جده وهزله.
ثم لا يختلف بعد ذلك أن يكون الإكراه مأمورا به أو مباحا كما لا يختلف
حكم العتق والطلاق في ذلك; لأن رجلا لو أكره رجلا على طلاق أو عتاق،
ثبت حكمهما عليه وإن كان المكره ظالما في إكراهه منهيا عنه، وكونه
منهيا عنه لا يبطل حكم العتق والطلاق عندنا، كذلك ما وصفنا من أمر
الإكراه على الإسلام.
قوله عز وجل: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي
رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ} الآية. قال أبو بكر: إن إيتاء
الله الملك للكافر إنما هو من جهة كثرة المال واتساع الحال، وهذا جائز
أن ينعم الله على الكافرين به في الدنيا، ولا يختلف حكم الكافر والمؤمن
في ذلك، ألا ترى إلى قوله تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ
عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا
لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُوماً مَدْحُوراً} [الإسراء: 18] فهذا
الضرب من الملك جائز أن يؤتيه الله الكافر، وأما الملك الذي هو تمليك
الأمر والنهي وتدبير أمور الناس فإن هذا لا يجوز أن يعطيه الله أهل
الكفر والضلال; لأن أوامر الله تعالى وزواجره إنما هي استصلاح للخلق
فغير جائز استصلاحهم بمن هو على الفساد مجانب للصلاح ولأنه لا يجوز أن
يأتمن أهل الكفر والضلال على أوامره ونواهيه وأمور دينه كما قال تعالى
في آية أخرى: {لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} [البقرة: 124]. وكانت
محاجة الملك الكافر لإبراهيم عليه السلام وهو النمرود بن كنعان، أنه
دعاه إلى اتباعه وحاجه بأنه ملك يقدر على الضر والنفع، فقال إبراهيم
عليه السلام: فإن ربي الذي يحيي ويميت وأنت لا تقدر على ذلك. فعدل عن
موضع احتجاج إبراهيم عليه السلام إلى معارضته بالإشراك في العبارة دون
حقيقة المعنى; لأن إبراهيم عليه السلام حاجه بأن أعلمه أن ربه هو الذي
يخلق الحياة والموت على سبيل الاختراع، فجاء الكافر برجلين فقتل أحدهما
وقال قد أمته وخلى الآخر وقال قد أحييته; على سبيل مجاز الكلام لا على
الحقيقة; لأنه كان عالما بأنه غير قادر على اختراع الحياة والموت. فلما
قرر عليه الحجة وعجز الكافر عن معارضته بأكثر مما أورد زاده حجاجا لا
يمكنه معه معارضته ولا إيراد شبهة يموه بها على الحاضرين، وقد كان
الكافر عالما بأن ما ذكره ليس بمعارضة، لكنه أراد التمويه على أغمار
أصحابه
(1/550)
كما قال
فرعون حين آمنت السحرة عند إلقاء موسى عليه السلام العصا وتلقفها جميع
ما ألقوا من الحبال والعصي وعلموا أن ذلك ليس بسحر وأنه من فعل الله،
فأراد فرعون التمويه عليهم فقال: {إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ
فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْهَا أَهْلَهَا}; يعني تواطأتم عليه
مع موسى قبل هذا الوقت حتى إذا اجتمعتم أظهرتم العجز عن معارضته
والإيمان به. وكان ذلك مما موه به على أصحابه. وكذلك الكافر الذي حاج
إبراهيم عليه السلام ولم يدعه إبراهيم عليه السلام وما رام حتى أتاه
بما لم يمكنه دفعه بحال ولا معارضة، فقال: {فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي
بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ} فانقطع
وبهت ولم يمكنه أن يلجأ إلى معارضة أو شبهة.
وفي حجاج إبراهيم عليه السلام بهذا ألطف دليل وأوضح برهان لمن عرف
معناه وذلك أن القوم الذين بعث فيهم إبراهيم عليه السلام كانوا صابئين
عبدة أوثان على أسماء الكواكب السبعة، وقد حكى الله عنهم في غير هذا
الموضع أنهم كانوا يعبدون الأوثان ولم يكونوا يقرون بالله تعالى،
وكانوا يزعمون أن حوادث العالم كلها في حركات الكواكب السبعة وأعظمها
عندهم الشمس ويسمونها وسائر الكواكب آلهة والشمس عندهم هو الإله الأعظم
الذي ليس فوقه إله، وكانوا لا يعترفون بالباري جل وعز وهم لا يختلفون
وسائر من يعرف مسير الكواكب أن لها ولسائر الكواكب حركتين متضادتين:
إحداهما من المغرب إلى المشرق وهي حركتها التي تختص بها لنفسها،
والأخرى تحريك الفلك لها من المشرق إلى المغرب وبهذه الحركة تدور علينا
كل يوم وليلة دورة، وهذا أمر مقرر عند من يعرف مسيرها; فقال له إبراهيم
عليه السلام: إنك تعترف أن الشمس التي تعبدها وتسميها إلها لها حركة
قسر ليس هي حركة نفسها بل هي بتحريك غيرها لها يحركها من المشرق إلى
المغرب، والذي أدعوك إلى عبادته هو فاعل هذه الحركة في الشمس، ولو كانت
إلها لما كانت مقسورة ولا مجبرة. فلم يمكنه عند ذلك دفع هذه الحجاج
بشبهة ولا معارضة إلا قوله: {حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ
كُنْتُمْ فَاعِلِينَ} وهاتان الحركتان المتضادتان للشمس ولسائر الكواكب
لا توجدان لها في حال واحدة، لاستحالة وجود ذلك في جسم واحد في وقت
واحد، ولكنها لا بد من أن تتخلل إحداها سكون فتوجد الحركة الأخرى في
وقت لا توجد فيه الأولى.
قال أبو بكر: فإن قيل: كيف ساغ لإبراهيم عليه السلام الانتقال عن
الحجاج الأول إلى غيره؟ قيل له: لم ينتقل عنه بل كان ثابتا عليه، وإنما
أردفه بحجاج آخر كما أقام الله الدلائل على توحيده من عدة وجوه وكل ما
في السموات والأرض دلائل عليه، وأيد نبيه بضروب من المعجزات كل واحدة
منها لو انفردت لكانت كافية مغنية.
(1/551)
وقد حاجهم
إبراهيم عليه السلام بغير ذلك من الحجاج في قوله تعالى: { وَكَذَلِكَ
نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ
مِنَ الْمُوقِنِينَ فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأى كَوْكَباً
قَالَ هَذَا رَبِّي} [الأنعام: 75 - 76] روي في التفسير أنه أراد تقرير
قومه على صحة استدلاله وبطلان قولهم، فقال: {هَذَا رَبِّي فَلَمَّا
أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ}. وكان ذلك في ليلة يجتمعون فيها
في هياكلهم وعند أصنامهم عيدا لهم، فقررهم ليلا على أمر الكوكب عند
ظهوره وأفوله وحركته وانتقاله وأنه لا يجوز أن يكون مثله إلها لما ظهرت
فيه من آيات الحدث، ثم كذلك في القمر، ثم لما أصبح قررهم على مثله في
الشمس حتى قامت الحجة عليهم، ثم كسر أصنامهم; وكان من أمره ما حكاه
الله عنه.
وهذه الآية تدل على صحة المحاجة في الدين واستعمال حجج العقول
والاستدلال بدلائل الله تعالى على توحيده وصفاته الحسنى، وتدل على أن
المحجوج المنقطع يلزمه اتباع الحجة وترك ما هو عليه من المذهب الذي لا
حجة له فيه. وتدل على بطلان قول من لا يرى الحجاج في إثبات الدين; لأنه
لو كان كذلك لما حاجه إبراهيم عليه السلام وتدل على أن للمحجوج عليه أن
ينظر فيما ألزم من الحجاج فإذا لم يجد منه مخرجا صار إلى ما يلزمه،
وتدل على أن الحق سبيله أن يقبل بحجته; إذ لا فرق بين الحق والباطل إلا
بظهور حجة الحق ودحض حجة الباطل وإلا فلولا الحجة التي بان بها الحق من
الباطل لكانت الدعوى موجودة في الجميع فكان لا فرق بينه وبين الباطل،
وتدل على أن الله تعالى لا يشبهه شيء وأن طريق معرفته ما نصب من
الدلائل على توحيده; لأن أنبياء الله عليهم السلام إنما حاجوا الكفار
بمثل ذلك ولم يصفوا الله تعالى بصفة توجب التشبيه وإنما وصفوه بأفعاله
واستدلوا بها عليه.
قوله عز وجل: {قَالَ لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَلْ
لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ} قول هذا القائل لم يكن كذبا وقد أماته الله
مائة عام; لأنه أخبر عما عنده، فكأنه قال: "عندي أني لبثت يوما أو بعض
يوم". ونظيره أيضا ما حكاه الله تعالى عن أصحاب الكهف، {قَالَ قَائِلٌ
مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ
يَوْمٍ} وقد كانوا لبثوا ثلاثمائة وتسع سنين، ولم يكونوا كاذبين فيما
أخبروا عما عندهم، كأنهم قالوا: "عندنا في ظنوننا أننا لبثنا يوما أو
بعض يوم". ونظيره قول النبي صلى الله عليه وسلم حين صلى ركعتين وسلم في
إحدى صلاتي العشاء، فقال له ذو اليدين: قصرت الصلاة أم نسيت؟ فقال: "لم
تقصر ولم أنس" وكان صلى الله عليه وسلم صادقا; لأنه أخبر عما عنده في
ظنه، وكان عنده أنه قد أتمها. فهذا كلام سائغ جائز غير ملوم عليه قائله
إذا أخبر عن اعتقاده وظنه لا عن حقيقة مخبره; ولذلك عفا الله عن الحالف
بلغو اليمين، وهو فيما روي قول الرجل لمن سأل: هل كان كذا وكذا؟ فيقول
(1/552)
على ما
عنده: لا والله أو يقول: بلى والله وإن اتفق مخبره على خلافه; لأنه
إنما أخبر عن عقيدته وضميره; والله الموفق.
(1/553)
باب الامتنان بالصدقة
قال الله تعالى: {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ
اللَّهِ ثُمَّ لا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنّاً وَلا أَذىً}
الآية، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا
صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ
رِئَاءَ النَّاسِ} وقال تعالى: {قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ
مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذىً} وقال تعالى: {وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ
رِباً لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ
وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ
هُمُ الْمُضْعِفُونَ} [الروم: 39] أخبر الله تعالى في هذه الآيات أن
الصدقات إذا لم تكن خالصة لله عارية من من وأذى فليست بصدقة; لأن
إبطالها هو إحباط ثوابها فيكون فيها بمنزلة من لم يتصدق; وكذلك سائر ما
يكون سبيله وقوعه على وجه القربة إلى الله تعالى، فغير جائز أن يشوبه
رياء ولا وجه غير القربة، فإن ذلك يبطله كما قال تعالى: {وَلا
تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} [محمد: 33] وقال تعالى: {وَمَا أُمِرُوا
إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ}
[البينة: 5] فما لم يخلص لله تعالى من القرب فغير مثاب عليه فاعله.
ونظيره أيضا قوله تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ
لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ
مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ} [الشورى: 20] ومن أجل
ذلك قال أصحابنا: "لا يجوز الاستئجار على الحج وفعل الصلاة وتعليم
القرآن وسائر الأفعال التي شرطها أن تفعل على وجه القربة; لأن أخذ
الأجر عليها يخرجها عن أن تكون قربة لدلائل هذه الآيات ونظائرها". وروى
عمرو عن الحسن في قوله تعالى: {لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ
وَالْأَذَى} قال: هو المتصدق يمن بها، فنهاه الله عن ذلك وقال: ليحمد
الله إذ هداه للصدقة. وعن الحسن في قوله تعالى: {وَمَثَلُ الَّذِينَ
يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتاً
مِنْ أَنْفُسِهِمْ} قال: "يتثبتون أين يضعون أموالهم" وعن الشعبي قال:
"تصديقا ويقينا من أنفسهم". وقال قتادة: "ثقة من أنفسهم". والمن في
الصدقة أن يقول المتصدق: قد أحسنت إلى فلان ونعشته وأغنيته; فذلك
ينغصها على المتصدق بها عليه. والأذى قوله: أنت أبدا فقير وقد بليت بك
وأراحني الله منك; ونظيره من القول الذي فيه تعيير له بالفقر فقال
تعالى: {قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ
يَتْبَعُهَا أَذىً} يعني والله أعلم: ردا جميلا ومغفرة قيل فيها ستر
الخلة على السائل، وقيل العفو عمن ظلمه خير من صدقة يتبعها أذى; لأنه
يستحق المأثم بالمن والأذى ورد السائل بقول جميل فيه السلامة من
المعصية; فأخبر الله تعالى أن ترك الصدقة برد جميل
(1/553)
خير من
صدقة يتبعها أذى وامتنان، وهو نظير قوله تعالى: {وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ
عَنْهُمُ ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُلْ لَهُمْ
قَوْلاً مَيْسُوراً} [الإسراء: 28] والله تعالى الموفق.
(1/554)
باب المكاسبة
قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ
طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ
الْأَرْضِ}. فيه إباحة المكاسب وإخبار أن فيها طيبا. والمكاسب وجهان:
أحدهما: إبدال الأموال وإرباحها، والثاني إبدال المنافع. وقد نص الله
تعالى على إباحتها في مواضع من كتابه، نحو قوله تعالى: {وَأَحَلَّ
اللَّهُ الْبَيْعَ} وقوله تعالى: {وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي
الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ
فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [المزمل: 20] وقال تعالى: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ
جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ} [البقرة: 198] يعني،
والله أعلم: من يتجر ويكري ويحج مع ذلك. وقال تعالى في إبدال المنافع:
{فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [الطلاق: 6] وقال
شعيب عليه السلام: {قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى
ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ}
[القصص: 27] وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "من استأجر أجيرا فليعلمه
أجره" وقال صلى الله عليه وسلم: "لأن يأخذ أحدكم حبلا فيحتطب خير له من
أن يسأل الناس أعطوه أو منعوه". وقد روى الأعمش عن إبراهيم عن الأسود
عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن أطيب ما أكل الرجل من
كسبه وإن ولده من كسبه". وقد روي عن جماعة من السلف في قوله تعالى:
{أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ} أنه من التجارات، منهم
الحسن ومجاهد.
وعموم هذه الآية يوجب الصدقة في سائر الأموال; لأن قوله تعالى: {مَا
كَسَبْتُمْ} ينتظمها، وإن كان غير مكتف بنفسه في المقدار الواجب فيها،
فهو عموم في أصناف الأموال مجمل في المقدار الواجب فيها، فهو مفتقر إلى
البيان; ولما ورد البيان من النبي صلى الله عليه وسلم بذكر مقادير
الواجبات فيها صح الاحتجاج بعمومها في كل مال اختلفنا في إيجاب الحق
فيه، نحو أموال التجارة.
ويحتج بظاهر الآية على من ينفي إيجاب الزكاة في العروض، ويحتج به أيضا
في إيجاب صدقة الخيل وفي كل ما اختلف فيه من الأموال، وذلك; لأن قوله
تعالى: {أَنْفِقُوا} المراد به الصدقة، والدليل عليه قوله تعالى: {وَلا
تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ} يعني: تتصدقون. ولم يختلف
السلف والخلف في أن المراد به الصدقة. ومن أهل العلم من قال: إن هذا في
صدقة التطوع; لأن الفرض إذا أخرج عنه الرديء كان الفضل باقيا في ذمته
حتى يؤدى. وهذا عندنا يوجب صرف اللفظ عن الوجوب إلى النفل من وجوه:
(1/554)
أحدها أن
قوله: {أَنْفِقُوا} أمر والأمر عندنا على الوجوب حتى تقوم دلالة الندب،
وقوله: {وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ} لا دلالة
فيها على أنه ندب; إذ لا يختص النهي عن إخراج الرديء بالنفل دون الفرض،
وأن يجب عليه إخراج فضل ما بين الرديء إلى الجيد; لأنه لا ذكر له في
الآية، وإنما يعلم ذلك بدلالة أخرى، فلا يعترض ذلك على مقتضى الآية في
إيجاب الصدقة. ومع ذلك لو دلت الدلالة من الآية على أنه ليس عليه إخراج
غير الرديء الذي أخرجه، لم يوجب ذلك صرف حكم الآية عن الإيجاب إلى
الندب; لأنه جائز أن يبتدئ الخطاب بالإيجاب ثم يعطف عليه بحكم مخصوص في
بعض ما اقتضاه عمومه، ولا يوجب ذلك الاقتصار بحكم ابتداء الخطاب على
الخصوص وصرفه عن العموم; ولذلك نظائر كثيرة قد بيناها في مواضع.
وقوله تعالى: {وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ} عموم في
إيجابه الحق في قليل ما تخرجه الأرض وكثيره في سائر الأصناف الخارجة
منها. ويحتج به لأبي حنيفة رضي الله عنه في إيجابه العشر في قليل ما
تخرجه الأرض وكثيره في سائر الأصناف الخارجة منها مما تقصد الأرض
بزراعتها. ومما يدل من فحوى الآية على أن المراد بها الصدقات الواجبة
قوله تعالى في نسق التلاوة: {وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ
تُغْمِضُوا فِيهِ} وهذا إنما هو في الديون إذا اقتضاها صاحبها لا
يتسامح بالرديء عن الجيد إلا على إغماض وتساهل، فدل ذلك على أن المراد
الصدقة الواجبة، والله أعلم; إذ ردها إلى الإغماض في اقتضاء الدين، ولو
كان تطوعا لم يكن فيها إغماض; إذ له أن يتصدق بالقليل والكثير وله أن
لا يتصدق; وفي ذلك دليل على أن المراد الصدقة الواجبة.
وأما قوله تعالى: {وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ}
روى الزهري عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف عن أبيه قال: نهى رسول الله
صلى الله عليه وسلم عن نوعين من التمر: الجعرور ولون الحبيق. قال: وكان
ناس يخرجون شر ثمارهم في الصدقة فنزلت: {وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ
مِنْهُ تُنْفِقُونَ} وروي عن البراء بن عازب مثل ذلك، قال في قوله
تعالى: {وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ}: لو أن
أحدكم أهدي إليه مثل ما أعطى لما أخذه إلا على إغماض وحياء. وقال: ليس
في أموالهم خبيث ولكنه الدرهم القسي والزيف ولستم بآخذيه قال: لو كان
لك على رجل حق لم تأخذ الدرهم القسي والزيف ولم تأخذ من الثمر إلا
الجيد إلا أن تغمضوا فيه، تجوزوا فيه. وقد روي عن النبي صلى الله عليه
وسلم نحو هذا، وهو ما كتبه في كتاب الصدقة وقال فيه: "ولا تؤخذ هرمة
ولا ذات عوار"1 رواه
ـــــــ
1 عوار بفتح العين وضمها: العيب لمصححه.
(1/555)
الزهري عن
سالم عن أبيه. وقد قيل عن ابن عباس في قوله تعالى: {إِلَّا أَنْ
تُغْمِضُوا فِيهِ} إلا أن تحطوا من الثمن. وعن الحسن وقتادة مثله. وقال
البراء بن عازب: "إلا أن تتساهلوا فيه". وقيل: "لستم بآخذيه إلا بوكس
فكيف تعطونه في الصدقة". هذه الوجوه كلها محتملة; وجائز أن يكون جميعها
مراد الله تعالى بأنهم لا يقبلونه في الهدية إلا بإغماض ولا يقبضونه من
الجيد إلا بتساهل ومسامحة ولا يبيعون بمثله إلا بحط ووكس.
وقد اختلف أصحابنا فيمن أدى من المكيل والموزون دون الواجب في الصفة،
فأدى عن الجيد رديا، فقال أبو حنيفة وأبو يوسف: "لا يجب عليه أداء
الفضل". وقال محمد: "عليه أن يؤدي الفضل الذي بينهما". وقالوا جميعا في
الغنم والبقر وجميع الصدقات مما لا يكال ولا يوزن: "إن عليه أداء
الفضل". فيجوز أن يحتج لمحمد بهذه الآية، وقوله تعالى: {وَلا
تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ} والمراد به الرديء منه;
وقوله تعالى: {وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ}
ولصاحب الحق أن لا يغمض فيه ولا يتساهل ويطالب بحقه من الجودة، فهذا
يدل على أن عليه أداء الفضل حتى لا يقع فيه إغماض; لأن الحق في ذلك لله
تعالى وقد نفى الإغماض في الصدقة بنهيه عن إعطاء الرديء فيها. وأما أبو
حنيفة وأبو يوسف فإنهما قالا: "كل ما لا يجوز التفاضل فيه فإن الجيد
والرديء حكمهما سواء في حظر التفاضل بينهما، وإن قيمته من جنسه لا يكون
إلا بمثله، ألا ترى أنه لو اقتضى دينا على أنه جيد فأنفقه ثم علم أنه
كان رديئا أنه لا يرجع على الغريم بشيء وأن ما بينهما من الفضل لا
يغرمه؟" وإنما يقول أبو يوسف فيه "إنه يغرم مثل ما قبض من الغريم ويرجع
بدينه" وغير ممكن مثله في الصدقة; لأن الفقير لا يغرم شيئا، فلو غرمه
لم تكن له مطالبة المتصدق برد الجيد عليه، فلذلك لم يلزمه إعطاء الفضل.
وإنما نهى الله تعالى المتصدق عن قصد الرديء بالإخراج وقد وجب عليه
إخراج الجيد، فإنهم يقولون إنه منهي عنه، ولكن لما كان حكم ما أعطى حكم
الجيد فيما وصفنا أجزأ عنه; وأما ما يجوز فيه التفاضل فإنه مأمور
بإخراج الفضل فيه; لأنه جائز أن تكون قيمته من جنسه أكثر منه ويباع
بعضه ببعض متفاضلا. وأما محمد فإنه لم يجز إخراج الرديء من الجيد إلا
بمقدار قيمته منه، فأوجب عليه إخراج الفضل; إذ ليس بين العبد وبين سيده
ربا.
وفي هذه الآية دلالة على جواز اقتضاء الرديء عن الجيد في سائر الديون;
لأن الله تعالى أجاز الإغماض في الديون بقوله تعالى: {إِلَّا أَنْ
تُغْمِضُوا فِيهِ} ولم يفرق بين شيء منه، فدل ذلك على معان: منها جواز
اقتضاء الزيوف التي أقلها غش وأكثرها فضة عن الجياد في رأس مال السلم
وثمن الصرف اللذين لا يجوز أن يأخذ عنهما غيرهما، ودل
(1/556)
على أن
حكم الرديء في ذلك حكم الجيد. وهذا يدل أيضا على جواز بيع الفضة الجيدة
بالرديئة وزنا بوزن; لأن ما جاز اقتضاء بعضه عن بعض جاز بيعه به; ويدل
على أن قول النبي صلى الله عليه وسلم: "الذهب بالذهب مثلا بمثل" إنما
أراد المماثلة في الوزن لا في الصفة، وكذلك سائر ما ذكره معه; ويدل على
جواز اقتضاء الجيد عن الرديء برضا الغريم كما جاز اقتضاء الرديء عن
الجيد; إذ لم يكن لاختلافهما في الصفة حكم. وقد روي عن النبي صلى الله
عليه وسلم: "خيركم أحسنكم قضاء" قال جابر بن عبد الله: "قضاني رسول
الله صلى الله عليه وسلم وزادني". وروي عن ابن عمر والحسن وسعيد بن
المسيب وإبراهيم والشعبي قالوا: "لا بأس إذا أقرضه دراهم سودا أن يقبضه
بيضا إذا لم يشترط ذلك عليه". وروى سليمان التيمي عن أبي عثمان النهدي
عن ابن مسعود "أنه كان يكره إذا أقرض دراهم أن يأخذ خيرا منها". وهذا
ليس فيه دلالة على أنه كرهه إذا رضي المستقرض، وإنما لا يجوز له أن
يأخذ خيرا منها إذا لم يرض صاحبه.
قوله تعالى: {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ
بِالْفَحْشَاءِ} قد قيل إن الفحشاء تقع على وجوه: والمراد بها في هذا
الموضع البخل. والعرب تسمي البخيل فاحشا والبخل فحشا وفحشاء; قال
الشاعر:
أرى الموت يعتام الكرام ويصطفي ... عقيلة مال الفاحش المتشدد
يعني مال البخيل. وفي هذه الآية ذم البخيل والبخل.
قوله عز وجل: {إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ} الآية. روي
عن ابن عباس أنه قال: "هذا في صدقة التطوع، فأما في الفريضة فإظهارها
أفضل لئلا تلحقه تهمة". وعن الحسن ويزيد بن أبي حبيب وقتادة: "الإخفاء
في جميع الصدقات أفضل". وقد مدح الله تعالى على إظهار الصدقة كما مدح
على إخفائها في قوله تعالى: {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ
بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرّاً وَعَلانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ
عِنْدَ رَبِّهِمْ} وجائز أن يكون قوله تعالى: {وَإِنْ تُخْفُوهَا
وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} في صدقة التطوع، على
ما روي عن ابن عباس، وجائز أن يكون في جميع الصدقات الموكول أداؤها إلى
أربابها من نفل أو فرض دون ما كان منها أخذه إلى الإمام. إلا أن عموم
اللفظ يقتضي جميعها; لأن الألف واللام هنا للجنس فهي شاملة لجميعها.
وهذا يدل على أن جميع الصدقات مصروفة إلى الفقراء، وأنها إنما تستحق
بالفقر لا غيره، وأن ما ذكر الله تعالى من أصناف من تصرف إليهم الصدقة
في قوله تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ}
[التوبة: 60] إنما يستحق منهم من يأخذها صدقة بالفقر دون غيره، وإنما
ذكر الأصناف لما يعمهم من أسباب الفقر دون من لا يأخذها صدقة من
المؤلفة قلوبهم والعاملين عليها، فإنهم لا يأخذونها صدقة
(1/557)
وإنما
تحصل في يد الإمام صدقة للفقراء ثم يصرف إلى المؤلفة قلوبهم والعاملين
ما يعطون على أنه ليس بصدقة لكن عوضا من العمل ولدفع أذيتهم عن أهل
الإسلام أو ليستمالوا به إلى الإيمان.
ومن المخالفين من يحتج بذلك في جواز إعطاء جميع الصدقات للفقراء دون
الإمام، وأنهم إذا أعطوا الفقراء من صدقة المواشي سقط حق الإمام في
الأخذ لقوله تعالى: {وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ
فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} وذلك عام في سائرها; لأن الصدقة ههنا اسم للجنس.
وليس في هذا عندنا دلالة على ما ذكروا; لأن أكثر ما فيه أنه خير للمعطي
فليس فيه سقوط حق الإمام في الأخذ; وليس كونها خيرا نافيا لثبوت حق
الإمام في الأخذ; إذ لا يمتنع أن يكون خيرا لهم ويأخذها الإمام فيتضاعف
الخير بأخذها ثانيا. وقد قدمنا قول من يقول إن هذا في صدقة التطوع. ومن
أهل العلم من يقول إن الإجماع قد حصل على أن إظهار صدقة الفرض أولى من
إخفائها، كما قالوا في الصلوات المفروضة، ولذلك أمروا بالاجتماع عليها
في الجماعات بأذان وإقامة وليصلوها ظاهرين، فكذلك سائر الفروض لئلا
يقيم نفسه مقام تهمة في ترك أداء الزكاة وفعل الصلاة. قالوا: فهذا يوجب
أن يكون قوله تعالى: {وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ
فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} في التطوع خاصة، لأن ستر الطاعات النوافل أفضل
من إظهارها; لأنه أبعد من الرياء. وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم
أنه قال: "سبعة يظلهم الله في ظل عرشه: أحدهم رجل تصدق بصدقة لم تعلم
شماله ما تصدقت به يمينه" وها إنما هو في التطوع دون الفرض. ويدل على
أن المراد صدقة التطوع أنه لا خلاف أن العامل إذا جاء قبل أن تؤدى صدقة
المواشي فطالبه بأدائها أن الفرض عليه أداؤها إليه، فصار إظهار أدائها
في هذه الحال فرضا، وفي ذلك دليل على أن المراد بقوله تعالى: {وَإِنْ
تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ} صدقة التطوع. والله تعالى أعلم
بالصواب.
(1/558)
باب إعطاء المشرك من الصدقة
قال تعالى: {لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ
يَشَاءُ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ} . قال أبو
بكر: ما تقدم في هذا الخطاب وما جاء في نسقه يدل على أن قوله تعالى:
{لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ} إنما معناه في الصدقة عليهم; لأنه ابتدأ
الخطاب بقوله تعالى: {إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ} عطف
عليه قوله تعالى: {لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ} ثم عقب ذلك بقوله تعالى:
{وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ} فدل ما تقدم من
الخطاب في ذلك وتأخر عنه من ذكر الصدقات أن المراد إباحة الصدقة عليهم
وإن لم يكونوا على دين الإسلام. وقد روي ذلك عن جماعة من السلف; روي عن
جعفر بن أبي
(1/558)
المغيرة
عن سعيد بن جبير قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تصدقوا
إلا على أهل دينكم" فأنزل الله: {لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ} فقال صلى
الله عليه وسلم: "تصدقوا على أهل الأديان". وروى الحجاج عن سالم المكي
عن ابن الحنفية قال: "كره الناس أن يتصدقوا على المشركين، فأنزل الله:
{لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ} فتصدق الناس عليهم من غير الفريضة". قال
أبو بكر: لا ندري هذا من كلام من هو، أعني قوله "فتصدق الناس عليهم من
غير الفريضة" وجائز أن يريد به من غير الزكاة وصدقات المواشي دون
كفارات الأيمان ونحوها، وأيضا قوله "فتصدق الناس عليهم من غير الفريضة"
لا يوجب تخصيص الآية; لأن فعلهم لا يقتضي الوجوب، ومع ذلك فهم مخيرون
بين أن يتصدقوا عليهم وبين أن لا يتصدقوا. وروى الأعمش عن جعفر بن إياس
عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: "كان ناس لهم أنساب وقرابة من قريظة
والنضير، فكانوا يتقون أن يتصدقوا عليهم ويردونهم على الإسلام، فنزلت
{لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ} إلى آخر الآية". وروى هشام بن عروة عن
أبيه عن أم أسماء قالت: أتتني أمي في عهد قريش راغبة وهي مشركة، فسألت
النبي صلى الله عليه وسلم أصلها؟ قال: "نعم".
قال أبو بكر: ونظير هذه الآية في دلالتها على ما دلت عليه قوله تعالى:
{وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً
وَأَسِيراً} [الإنسان: 8] فروي عن الحسن قال: "هم الأسراء من أهل
الشرك". وروي عن سعيد بن جبير وعطاء قالا هم أهل القبلة وغيرهم. قال
أبو بكر الأول أظهر; لأن الأسير في دار الإسلام لا يكون إلا مشركا.
ونظيرها أيضا قوله تعالى: {لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ
يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ
أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ} [الممتحنة: 8] إلى آخر
القصة، فأباح برهم وإن كانوا مشركين إذا لم يكونوا أهل حرب لنا،
والصدقات من البر، فاقتضى جواز دفع الصدقات إليهم. وظواهر هذه الآي
توجب جواز دفع سائرها إليهم، إلا أن النبي صلى الله عليه وسلم قد خص
منها الزكوات وصدقات المواشي وكل ما كان أخذه من الصدقات إلى الإمام
بقوله: "أمرت أن آخذ الصدقة من أغنيائكم وأردها في فقرائكم" وقال لمعاذ
"أعلمهم: أن الله فرض عليهم حقا في أموالهم يؤخذ من أغنيائهم ويرد على
فقرائهم" فكانت الصدقات التي أخذها إلى الإمام مخصوصة من هذه الجملة،
فلذلك قال أبو حنيفة: "كل صدقة ليس أخذها إلى الإمام فجائز إعطاؤها أهل
الذمة، وما كان أخذها إلى الإمام لا يعطى أهل الذمة" فيجيز إعطاء
الكفارات والنذور وصدقة الفطر أهل الذمة.
فإن قيل: فزكاة المال ليس أخذها إلى الإمام ولا يجوز أن تعطى أهل
الذمة؟ قيل: أخذها في الأصل إلى الإمام، وقد كان النبي صلى الله عليه
وسلم يأخذها، وكذلك أبو بكر وعمر، فلما
(1/559)
كان عثمان
قال للناس: "إن هذا شهر زكاتكم فمن كان عليه دين فليؤده ثم ليزك بقيمة
ماله" فجعل أرباب الأموال وكلاء له في أدائها ولم يسقط في ذلك حق
الإمام في أخذها. وقال أبو يوسف: كل صدقة واجبة فغير جائز دفعها إلى
الكفار قياسا على الزكاة.
قوله تعالى: {لْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا
يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الْأَرْضِ} الآية. يعني، والله أعلم:
النفقة المذكورة بديا، والمراد بها الصدقة. وروي عن مجاهد والسدي:
"المراد فقراء المهاجرين". وقوله تعالى: {أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ
اللَّهِ} قيل إنهم منعوا أنفسهم التصرف في التجارة خوف العدو من
الكفار; وروي ذلك عن قتادة، لأن الإحصار منع النفس عن التصرف لمرض أو
حاجة أو مخافة، فإذا منعه العدو قيل أحصره.
وقوله تعالى: {يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ}
يعني والله أعلم: الجاهل بحالهم; وهذا يدل على أن ظاهر هيئتهم وبزتهم
يشبه حال الأغنياء، ولولا ذلك لما ظنهم الجاهل أغنياء; لأن ما يظهر من
دلالة الفقر شيئان: أحدهما: بذاذة الهيئة ورثاثة الحال، والآخر:
المسألة; على أنه فقير فليس يكاد يحسبهم الجاهل أغنياء إلا لما يظهر له
من حسن البزة الدالة على الغنى في الظاهر.
وفي هذه الآية دلالة على أن من له ثياب الكسوة ذات قيمة كثيرة لا تمنعه
إعطاء الزكاة، لأن الله تعالى قد أمرنا بإعطاء الزكاة من ظاهر حال مشبه
لأحوال الأغنياء. ويدل على أن الصحيح الجسم جائز أن يعطى من الزكاة;
لأن الله تعالى أمر بإعطاء هؤلاء القوم، وكانوا من المهاجرين الذين
كانوا يقاتلون مع النبي صلى الله عليه وسلم المشركين ولم يكونوا مرضى
ولا عميانا.
وقوله عز وجل: {تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ} فإن السيما العلامة. قال
مجاهد: "المراد به هنا التخشع". وقال السدي والربيع بن أنس: "هو علامة
الفقر" وقال الله تعالى: {سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ
السُّجُودِ} [الفتح: 29] يعني علامتهم. فجائز أن تكون العلامة المذكورة
في قوله تعالى: {تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ} ما يظهر في وجه الإنسان من
كسوف البال وسوء الحال، وإن كانت بزتهم وثيابهم وظاهر هيئتهم حسنة
جميلة; وجائز أن يكون الله تعالى قد جعل لنبيه علما يستدل به إذا رآهم
عليه على فقرهم; وإن كنا لا نعرف ذلك منهم إلا بظهور المسألة منهم أو
بما يظهر من بذاذة هيئتهم.
(1/560)
مطلب في جواز الاستدلال بالسيما و الأماراة
وهذا يدل على أن لما يظهر من السيما حظا في اعتبار حال من يظهر ذلك
عليه،
(1/560)
وقد اعتبر
أصحابنا ذلك في الميت في دار الإسلام أو في دار الحرب إذا لم يعرف أمره
قبل ذلك في إسلام أو كفر، أنه ينظر إلى سيماه فإن كانت عليه سيما أهل
الكفر من شد زنار أو عدم ختان وترك الشعر على حسب ما يفعله رهبان
النصارى، حكم له بحكم الكفار ولم يدفن في مقابر المسلمين ولم يصل عليه،
وإن كان عليه سيما أهل الإسلام حكم له بحكم المسلمين في الصلاة والدفن
وإن لم يظهر عليه شيء من ذلك; فإن كان في مصر من الأمصار التي للمسلمين
فهو مسلم، وإن كان في دار الحرب فمحكوم له بحكم الكفر; فجعلوا اعتبار
سيماه بنفسه أولى منه بموضعه الموجود فيه، فإذا عدمنا السيما حكمنا له
بحكم أهل الموضع; وكذلك اعتبروا في اللقيط. ونظيره أيضا قوله تعالى:
{إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ
الْكَاذِبِينَ وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ
وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ} [يوسف: 26 - 27] فاعتبر العلامة; ومن نحوه
قوله تعالى: {وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ} [محمد: 30]
وإخوة يوسف عليه السلام لطخوا قميصه بدم جعلوه علامة لصدقهم، قال الله
تعالى: {وَجَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ} [يوسف: 18].
وقوله تعالى: {لا يَسْأَلونَ النَّاسَ إِلْحَافاً} يعني والله أعلم:
إلحاحا وإدامة للمسألة; لأن الإلحاف في المسألة هو الاستقصاء فيها
وإدامتها وهذا يدل على كراهة الإلحاف في المسألة.
فإن قيل: فإنما قال الله عز وجل: {لا يَسْأَلونَ النَّاسَ إِلْحَافاً}
فنفى عنهم الإلحاف في المسألة ولم ينف عنهم المسألة رأسا؟ قيل له: في
فحوى الآية ومضمون المخاطبة ما يدل على نفي المسألة رأسا، وهو قوله
تعالى: {يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ} فلو
كانوا أظهروا المسألة ثم إن لم تكن إلحافا لما حسبهم أحد أغنياء، وكذلك
قوله تعالى: {مِنَ التَّعَفُّفِ} لأن التعفف هو القناعة وترك المسألة،
فدل ذلك على وصفهم بترك المسألة أصلا. ويدل على أن التعفف هو ترك
المسألة قول النبي صلى الله عليه وسلم: "من استغنى أغناه الله ومن
استعف أعفه الله". وإذا ثبت بما ذكرنا من دلالة الآي أن ثياب الكسوة لا
تمنع أخذ الزكاة وإن كانت سرية وجب أن يكون كذلك حكم المسكن والأثاث
والفرس والخادم لعموم الحاجة إليه، فإذا كانت الحاجة إلى هذه الأشياء
حاجة ماسة فهو غير غني بها; لأن الغنى هو ما فضل عن مقدار الحاجة.
واختلف الفقهاء في مقدار ما يصير به غنيا، فقال أبو حنيفة وأبو يوسف
ومحمد وزفر: "إذا فضل عن مسكنه وكسوته وأثاثه وخادمه وفرسه ما يساوي
مائتي درهم لم تحل له الزكاة وإن كان أقل من مائتي درهم حلت له
الزكاة". وقال مالك في رواية ابن
(1/561)
القاسم:
"يعطى من الزكاة من له أربعون درهما". وروى غيره عن مالك "أنه لا يعطى
من له أربعون درهما". وقال الثوري والحسن بن صالح: "لا يأخذ الزكاة من
له خمسون درهما". وقال عبيد الله بن الحسن: "من لا يكون عنده ما يقوته
أو يكفيه سنة فإنه يعطى من الصدقة". وقال الشافعي: "يعطى الرجل على قدر
حاجته حتى يخرجه ذلك من حد الفقر إلى حد الغنى كان ذلك تجب فيه الزكاة
أو لا تجب، ولا أحد في ذلك حدا" ذكره المزني والربيع; وحكي عنه أنها لا
تحل للقوي المكتسب وإن كان فقيرا.
والدليل على صحة ما ذكرنا من اعتبار مائتي درهم فاضلا عما يحتاج إليه
ما روى عبد الحميد بن جعفر عن أبيه عن رجل من مزينة أنه سمع النبي صلى
الله عليه وسلم يخطب وهو يقول: "من استغنى أغناه الله ومن استعف أعفه
الله ومن سأل الناس وله عدل خمس أواق سأل إلحافا" فدل ذكره لهذا
المقدار أنه هو الذي يخرج به من حد الفقر إلى الغنى ويوجب تحريم
المسألة. ويدل عليه أيضا قول النبي صلى الله عليه وسلم: "أمرت أن آخذ
الصدقة من أغنيائكم فأردها على فقرائكم" ثم قال: "في مائتي درهم خمسة
دراهم وليس فيما دونها شيء" فجعل حد الغنى مائتي درهم، فوجب اعتبارها
دون غيرها; ودل على أن الذي لا يملك هذا القدر يعطى من الزكاة; لأنه
صلى الله عليه وسلم جعل الناس صنفين: أغنياء وفقراء، فجعل الغني من ملك
هذا المقدار وأمر بأخذ الزكاة منه، وجعل الفقير الذي يرد عليه هو الذي
لا يملك هذا القدر. وقد روى أبو كبشة السلولي عن سهل بن الحنظلية قال:
سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من سأل الناس عن ظهر غنى
فإنما يستكثر من جمر جهنم" قلت: يا رسول الله ما ظهر غناه؟ قال: "أن
يعلم أن عند أهله ما يغديهم ويعشيهم". وروى زيد بن أسلم عن عطاء بن
يسار عن رجل من بني أسد قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وسمعته
يقول لرجل: "من سأل منكم وعنده أوقية أو عدلها فقد سأل إلحافا"
والأوقية يومئذ أربعون درهما. وروى محمد بن عبد الرحمن بن يزيد عن أبيه
عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يسأل عبد
مسألة وله ما يغنيه إلا جاءت شينا أو كدوحا أو خدوشا في وجهه يوم
القيامة" قيل: يا رسول الله وما غناه؟ قال: "خمسون درهما أو حسابها من
الذهب" وهذه واردة في كراهة المسألة، ولا دلالة فيها على تحريم الصدقة
عليه; وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يستحب ترك المسألة لمن يملك ما
يغديه أو يعشيه; إذ قد كان هناك من فقراء المسلمين و أهل الصفة من لا
يقدر على غداء ولا عشاء، فاختار النبي صلى الله عليه وسلم لمن يملك هذا
القدر الاقتصار على ما يملكه والتعفف بترك المسألة ليصل ذلك إلى من هو
أحوج منه إليه لا على وجه التحريم. ولما اتفق الجميع على أن سبيل
استباحة الصدقة ليست سبيل الضرورة إلى الميتة; إذ كانت الميتة لا تحل
إلا عند الخوف على النفس والصدقة تحل
(1/562)
بإجماع
المسلمين لمن احتاج ولم يخف الموت إذا لم يكن عنده شيء، فوجب أن يكون
المبيح لها الفقر. وأيضا لما كانت هذه الأخبار مختلفة في استعمال حكمها
وهي في نفسها مختلفة، واتفق الجميع على استعمال الخبر الذي روينا في
مائتي درهم وتحريم الصدقة معها، وجب أن يكون ثابت الحكم، وما عداه إما
أن يكون على وجه الكراهة للمسألة أو منسوخة بخبرنا إن كان المراد بها
تحريم الصدقة.
(1/563)
باب الربا
قال الله تعالى: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلَّا
كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ} إلى
قوله: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا} وقال أبو بكر
أصل الربا في اللغة هو الزيادة، ومنه الرابية لزيادتها على ما حواليها
من الأرض، ومنه الربوة من الأرض وهي المرتفعة، ومنه قولهم "أربى فلان
على فلان في القول أو الفعل" إذا زاد عليه. وهو في الشرع يقع على معان
لم يكن الاسم موضوعا لها في اللغة; ويدل عليه أن النبي صلى الله عليه
وسلم سمى النساء ربا في حديث أسامة بن زيد، فقال: "إنما الربا في
النسيئة". وقال عمر بن الخطاب: "إن من الربا أبوابا لا تخفى منها السلم
في السن" يعني الحيوان. وقال عمر أيضا: "إن آية الربا من آخر ما نزل من
القرآن، وإن النبي قبض قبل أن يبينه لنا، فدعوا الربا والريبة"، فثبت
بذلك أن الربا قد صار اسما شرعيا; لأنه لو كان باقيا على حكمه في أصل
اللغة لما خفي على عمر; لأنه كان عالما بأسماء اللغة; لأنه من أهلها.
ويدل عليه أن العرب لم تكن تعرف بيع الذهب بالذهب والفضة بالفضة نساء
ربا وهو ربا في الشرع، وإذا كان ذلك على ما وصفنا صار بمنزلة سائر
الأسماء المجملة المفتقرة إلى البيان، وهي الأسماء المنقولة من اللغة
إلى الشرع لمعان لم يكن الاسم موضوعا لها في اللغة، نحو الصلاة والصوم
والزكاة; فهو مفتقر إلى البيان، ولا يصح الاستدلال بعمومه في تحريم شيء
من العقود إلا فيما قامت دلالته أنه مسمى في الشرع بذلك. وقد بين النبي
صلى الله عليه وسلم كثيرا من مراد الله بالآية نصا وتوقيفا. ومنه ما
بينه دليلا، فلم يخل مراد الله من أن يكون معلوما عند أهل العلم
بالتوقيف والاستدلال.
والربا الذي كانت العرب تعرفه وتفعله إنما كان فرض الدراهم والدنانير
إلى أجل بزيادة على مقدار ما استقرض على ما يتراضون به، ولم يكونوا
يعرفون البيع بالنقد وإذا كان متفاضلا من جنس واحد. هذا كان المتعارف
المشهور بينهم، ولذلك قال الله تعالى: {وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِباً
لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ}
[الروم: 39] فأخبر أن تلك الزيادة المشروطة إنما كانت ربا في المال
العين; لأنه لا عوض لها من جهة المقرض.
(1/563)
وقال
تعالى: {لا تَأْكُلُوا الرِّبا أَضْعَافاً مُضَاعَفَةً} [آل عمران:
130] إخبارا عن الحال التي خرج عليها الكلام من شرط الزيادة أضعافا
مضاعفة; فأبطل الله تعالى الربا الذي كانوا يتعاملون به وأبطل ضروبا
أخر من البياعات وسماها ربا، فانتظم قوله تعالى: {وَحَرَّمَ الرِّبا}
تحريم جميعها لشمول الاسم عليها من طريق الشرع، ولم يكن تعاملهم بالربا
إلا على الوجه الذي ذكرنا من قرض دراهم أو دنانير إلى أجل مع شرط
الزيادة.
واسم الربا في الشرع يعتوره معان: أحدها الربا الذي كان عليه أهل
الجاهلية، والثاني: التفاضل في الجنس الواحد من المكيل والموزون على
قول أصحابنا، ومالك بن أنس يعتبر مع الجنس أن يكون مقتاتا مدخرا،
والشافعي يعتبر الأكل مع الجنس; فصار الجنس معتبرا عند الجميع فيما
يتعلق به من تحريم التفاضل عند انضمام غيره إليه على ما قدمنا.
والثالث: النساء، وهو على ضروب: منها في الجنس الواحد من كل شيء لا
يجوز بيع بعضه ببعض نساء سواء كان من المكيل أو من الموزون أو من غيره،
فلا يجوز عندنا بيع ثوب مروي بثوب مروي نساء لوجود الجنس; ومنها: وجود
المعنى المضموم إليه الجنس في شرط تحريم التفاضل وهو الكيل والوزن في
غير الأثمان التي هي الدراهم والدنانير، فلو باع حنطة بجص نساء لم يجز
لوجود الكيل، ولو باع حديدا بصفر نساء لم يجز لوجود الوزن، والله تعالى
الموفق.
(1/564)
و من أبواب الربا الشرعي السلم في الحيوان
...
ومن أبواب الربا الشرعي السلم في الحيوان
قال عمر: "إن من الربا أبوابا لا تخفى منها السلم في السن" ولم تكن
العرب تعرف ذلك ربا، فعلم أنه قال ذلك توقيفا. فجملة ما اشتمل عليه اسم
الربا في الشرع النساء والتفاضل على شرائط قد تقرر معرفتها عند
الفقهاء. والدليل على ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: "الحنطة
بالحنطة مثلا بمثل يدا بيد والفضل ربا، والشعير مثلا بمثل يدا بيد
والفضل ربا" وذكر التمر والملح والذهب والفضة، فسمى الفضل في الجنس
الواحد من المكيل والموزون ربا. وقال صلى الله عليه وسلم في حديث أسامة
بن زيد الذي رواه عنه عبد الرحمن بن عباس: "إنما الربا في النسيئة" وفي
بعض الألفاظ: "لا ربا إلا في النسيئة" فثبت أن اسم الربا في الشرع يقع
على التفاضل تارة وعلى النساء أخرى. وقد كان ابن عباس يقول: "لا ربا
إلا في النسيئة، ويجوز بيع الذهب بالذهب والفضة بالفضة متفاضلا" ويذهب
فيه إلى حديث أسامة بن زيد; ثم لما تواتر عنده الخبر عن النبي صلى الله
عليه وسلم بتحريم التفاضل في الأصناف الستة رجع عن قوله. قال جابر بن
زيد: رجع ابن عباس عن قوله في الصرف وعن قوله في المتعة. وإنما معنى
حديث أسامة النساء في الجنسين، كما روى في حديث عبادة بن الصامت وغيره
عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "الحنطة بالحنطة مثلا
(1/564)
بمثل يدا
بيد" وذكر الأصناف الستة، ثم قال: "بيعوا الحنطة بالشعير كيف شئتم يدا
بيد" وفي بعض الأخبار: "وإذا اختلف النوعان فبيعوا كيف شئتم يدا بيد"
فمنع النساء في الجنسين من المكيل والموزون وأباح التفاضل; فحديث أسامة
بن زيد محمول على هذا.
ومن الربا المراد بالآية شرى ما يباع بأقل من ثمنه قبل نقد الثمن.
والدليل على أن ذلك ربا حديث يونس بن إسحاق عن أبيه عن أبي العالية
قال: كنت عند عائشة فقالت لها امرأة: إني بعت زيد بن أرقم جارية لي إلى
عطائه بثمانمائة درهم وإنه أراد أن يبيعها فاشتريتها منه بستمائة؟
فقالت: بئسما شريت وبئسما اشتريت أبلغي زيد بن أرقم أنه قد أبطل جهاده
مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إن لم يتب. فقالت: يا أم المؤمنين
أرأيت إن لم آخذ إلا رأس مالي؟ فقالت: {فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ
رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ} فدلت
تلاوتها لآية الربا عند قولها "أرأيت إن لم آخذ إلا رأس مالي" أن ذلك
كان عندها من الربا، وهذه التسمية طريقها التوقيف. وقد روى ابن المبارك
عن حكم بن زريق عن سعيد بن المسيب قال: سألته عن رجل باع طعاما من رجل
إلى أجل فأراد الذي اشترى الطعام أن يبيعه بنقد من الذي باعه منه؟
فقال: هو ربا. ومعلوم أنه أراد شراءه بأقل من الثمن الأول; إذ لا خلاف
أن شراءه بمثله أو أكثر منه جائز، فسمى سعيد بن المسيب ذلك ربا. وقد
روي النهي عن ذلك عن ابن عباس والقاسم بن محمد ومجاهد وإبراهيم
والشعبي. وقال الحسن وابن سيرين في آخرين: "إن باعه بنقد جاز أن
يشتريه، فإن كان باعه بنسيئة لم يشتره بأقل منه إلا بعد أن يحل الأجل".
وروي عن ابن عمر أنه إذا باعه ثم اشتراه بأقل من ثمنه جاز; ولم يذكر
فيه قبض الثمن; وجائز أن يكون مراده إذا قبض الثمن. فدل قول عائشة
وسعيد بن المسيب أن ذلك ربا، فعلمنا أنهما لم يسمياه ربا إلا توقيفا;
إذ لا يعرف ذلك اسما له من طريق اللغة فلا يسمى به إلا من طريق الشرع،
وأسماء الشرع توقيف من النبي صلى الله عليه وسلم; والله تعالى أعلم
بالصواب.
(1/565)
و من أبواب الربا الدين بالدين
...
ومن أبواب الربا الدين بالدين
وقد روى موسى بن عبيدة، عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر، عن النبي
صلى الله عليه وسلم: "أنه نهى عن الكالئ بالكالئ" وفي بعض الألفاظ: "عن
الدين بالدين" وهما سواء. وقال في حديث أسامة بن زيد: "إنما الربا في
النسيئة" إلا أنه في العقد عن الدين بالدين وأنه معفو عنه بمقدار
المجلس; لأنه جائز له أن يسلم دراهم في كر حنطة وهما دين بدين، إلا
أنهما إذا افترقا قبل قبض الدراهم بطل العقد، وكذلك بيع الدراهم
بالدنانير جائز وهما دينان، وإن افترقا قبل التقابض بطل.
(1/565)
و من أبواب الربا الذي تضمنت الآية تحريمه
...
ومن أبواب الربا الذي تضمنت الآية تحريمه
الرجل يكون عليه ألف درهم دين مؤجل فيصالحه منه على خمسمائة حالة فلا
يجوز. وقد روى سفيان عن حميد عن ميسرة قال: سألت ابن عمر: يكون لي على
الرجل الدين إلى أجل فأقول عجل لي وأضع عنك؟ فقال: "هو ربا". وروي عن
زيد بن ثابت أيضا النهي عن ذلك. وهو قول سعيد بن جبير والشعبي والحكم.
وهو قول أصحابنا وعامة الفقهاء. وقال ابن عباس وإبراهيم النخعي: "لا
بأس بذلك".
والذي يدل على بطلان ذلك شيئان: أحدهما: تسمية ابن عمر إياه ربا، وقد
بينا أن أسماء الشرع توقيف. والثاني: أنه معلوم أن ربا الجاهلية إنما
كان قرضا مؤجلا بزيادة مشروطة، فكانت الزيادة بدلا من الأجل، فأبطله
الله تعالى وحرمه وقال: {وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ
أَمْوَالِكُمْ} وقال تعالى: {وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا} حظر أن
يؤخذ للأجل عوض، فإذا كانت عليه ألف درهم مؤجلة فوضع عنه على أن يعجله
فإنما جعل الحط بحذاء الأجل، فكان هذا هو معنى الربا الذي نص الله
تعالى على تحريمه. ولا خلاف أنه لو كان عليه ألف درهم حالة فقال له:
أجلني وأزيدك فيها مائة درهم; لا يجوز; لأن المائة عوض من الأجل، كذلك
الحط في معنى الزيادة; إذ جعله عوضا من الأجل. وهذا هو الأصل في امتناع
جواز أخذ الأبدال عن الآجال; ولذلك قال أبو حنيفة فيمن دفع إلى خياط
ثوبا فقال إن خطته اليوم فلك درهم وإن خطته غدا فلك نصف درهم: "إن
الشرط الثاني باطل فإن خاطه غدا فله أجر مثله; لأنه جعل الحط بحذاء
الأجل، والعمل في الوقتين على صفة واحدة" فلم يجزه; لأنه بمنزلة بيع
الأجل على النحو الذي بيناه. ومن أجاز من السلف إذا قال عجل لي وأضع
عنك فجائز أن يكون أجازوه إذا لم يجعله شرطا فيه، وذلك بأن يضع عنه
بغير شرط ويعجل الآخر الباقي بغير شرط; وقد ذكرنا الدلالة على أن
التفاضل قد يكون ربا على حسب ما قال النبي صلى الله عليه وسلم في
الأصناف الستة، وأن النساء قد يكون ربا في البيع بقوله صلى الله عليه
وسلم: "وإذا اختلف النوعان فبيعوا كيف شئتم يدا بيد" وقوله: "إنما
الربا في النسيئة" وأن السلم في الحيوان قد يكون ربا بقوله: "إنما
الربا في النسيئة" وقوله: "إذا اختلف النوعان فبيعوا كيف شئتم يدا بيد"
وتسمية عمر إياه ربا وشرى ما بيع بأقل من ثمنه قبل نقد الثمن لما بينا،
وشرط التعجيل مع الحط.
وقد اتفق الفقهاء على تحريم التفاضل في الأصناف الستة التي ورد بها
الأثر عن النبي صلى الله عليه وسلم من جهات كثيرة، وهو عندنا في حيز
التواتر لكثرة رواته واتفاق الفقهاء على استعماله. واتفقوا أيضا في أن
مضمون هذا النص معني به تعلق الحكم يجب اعتباره في
(1/566)
غيره،
واختلفوا فيه بعد اتفاقهم على اعتبار الجنس على الوجوه التي ذكرنا فيما
سلف من هذا الباب، وأن حكم تحريم التفاضل غير مقصور على الأصناف الستة.
وقد قال قوم هم شذوذ عندنا لا يعدون خلافا: إن حكم تحريم التفاضل مقصور
على الأصناف التي ورد فيها التوقيف دون تحريم غيرها.
ولما ذهب إليه أصحابنا في اعتبار الكيل والوزن دلائل من الأثر والنظر،
وقد ذكرناها في مواضع. ومما يدل عليه من فحوى الخبر قوله: "الذهب
بالذهب مثلا بمثل وزنا بوزن، والحنطة بالحنطة مثلا بمثل كيلا بكيل"
فأوجب استيفاء المماثلة بالوزن في الموزون وبالكيل في المكيل، فدل ذلك
على أن الاعتبار في التحريم الكيل والوزن مضموما إلى الجنس.
ومما يحتج به المخالف من الآية على اعتبار الأكل قوله عز وجل:
{الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ
الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ}. وقوله تعالى: {لا
تَأْكُلُوا الرِّبا} [آل عمران: 130] فأطلق اسم الربا على المأكول;
قالوا: فهذا عموم في إثبات الربا في المأكول. وهذا عندنا لا يدل على ما
قالوا من وجوه; أحدها: ما قدمنا من إجمال لفظ الربا في الشرع وافتقاره
إلى البيان، فلا يصح الاحتجاج بعمومه، إنما يحتاج إلى أن يثبت بدلالة
أخرى أنه ربا حتى يحرمه بالآية ولا يأكله. والثاني: أن أكثر ما فيه
إثبات الربا في مأكول وليس فيه أن جميع المأكولات فيها ربا، ونحن قد
أثبتنا الربا في كثير من المأكولات، وإذا فعلنا ذلك فقد قضينا عهدة
الآية. ولما ثبت بما قدمنا من التوقيف والاتفاق على تحريم بيع ألف بألف
ومائة كما بطل بيع ألف بألف إلى أجل، فجرى الأجل المشروط مجرى النقصان
في المال، وكان بمنزلة بيع ألف بألف ومائة، وجب أن لا يصح الأجل في
القرض كما لا يجوز قرض ألف بألف ومائة; إذ كان نقصان الأجل كنقصان
الوزن، وكان الربا تارة من جهة نقصان الوزن وتارة من جهة نقصان الأجل،
وجب أن يكون القرض كذلك.
فإن قال قائل: ليس القرض في ذلك كالبيع; لأنه يجوز له مفارقته في القرض
قبل قبض البدل ولا يجوز مثله في بيع ألف بألف. قيل له: إنما يكون الأجل
نقصانا إذا كان مشروطا، فأما إذا لم يكن مشروطا فإن ترك القبض لا يوجب
نقصا في أحد المالين; وإنما بطل البيع لمعنى آخر غير نقصان أحدهما عن
الآخر. ألا ترى أنه لا يختلف الصنفان والصنف الواحد في وجوب التقايض في
المجلس أعني الذهب بالفضة مع جواز التفاضل فيهما؟ فعلمنا أن الموجب
لقبضهما ليس من جهة أن ترك القبض موجب
(1/567)
للنقصان
في غير المقبوض، ألا ترى أن رجلا لو باع من رجل عبدا بألف درهم ولم
يقبض ثمنه سنين جاز للمشتري بيعه مرابحة على ألف حالة، ولو كان باعه
بألف إلى شهر ثم حل الأجل لم يكن للمشتري بيعه مرابحة بألف حالة حتى
يبين أنه اشتراه بثمن مؤجل؟ فدل ذلك على أن الأجل المشروط في العقد
يوجب نقصا في الثمن ويكون بمنزلة نقصان الوزن في الحكم; فإذا كان كذلك
فالتشبيه بين القرض والبيع من الوجه الذي ذكرنا صحيح لا يعترض عليه هذا
السؤال. ويدل على بطلان التأجيل فيه قول النبي صلى الله عليه وسلم:
"إنما الربا في النسيئة" ولم يفرق بين البيع والقرض، فهو على الجميع.
ويدل عليه أن القرض لما كان تبرعا لا يصح إلا مقبوضا، أشبه الهبة فلا
يصح فيه التأجيل كما لا يصح في الهبة. وقد أبطل النبي صلى الله عليه
وسلم التأجيل فيها بقوله: "من أعمر عمرى فهي له ولورثته من بعده" فأبطل
التأجيل المشروط في الملك. وأيضا فإن قرض الدراهم عاريتها وعاريتها
قرضها; لأنها تمليك المنافع; إذ لا يصل إليها إلا باستهلاك عينها;
ولذلك قال أصحابنا: إذا أعاره دراهم فإن ذلك قرض ولذلك لم يجيزوا
استئجار الدراهم; لأنها قرض، فكأنه استقرض دراهم على أن يرد عليه أكثر
منها; فلما لم يصح الأجل في العارية لم يصح في القرض. ومما يدل على أن
قرض الدراهم عارية حديث إبراهيم الهجري عن أبي الأحوص عن عبد الله قال:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "تدرون أي الصدقة خير؟" قالوا: الله
ورسوله أعلم قال: "خير الصدقة المنحة أن تمنح أخاك الدراهم، أو ظهر
الدابة، أو لبن الشاة" والمنحة هي العارية; فجعل قرض الدراهم عاريتها;
ألا ترى إلى قوله في حديث آخر: "والمنحة مردودة"؟ فلما لم يصح التأجيل
في العارية لم يصح في القرض. وأجاز الشافعي التأجيل في القرض وبالله
التوفيق ومنه الإعانة.
(1/568)
باب البيع
قوله عز وجل: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} عموم في إباحة سائر
البياعات لأن لفظ البيع موضوع لمعنى معقول في اللغة وهو تمليك المال
بمال بإيجاب وقبول عن تراض منهما، وهذا هو حقيقة البيع في مفهوم
اللسان; ثم منه جائز ومنه فاسد إلا أن ذلك غير مانع من اعتبار عموم
اللفظ متى اختلفنا في جواز بيع أو فساده. ولا خلاف بين أهل العلم أن
هذه الآية وإن كان مخرجها مخرج العموم فقد أريد به الخصوص; لأنهم
متفقون على حظر كثير من البياعات، نحو بيع ما لم يقبض وبيع ما ليس عند
الإنسان وبيع الغرر والمجاهيل وعقد البيع على المحرمات من الأشياء; وقد
كان لفظ الآية يوجب جواز هذه البياعات، وإنما خصت منها بدلائل، إلا أن
تخصيصها غير مانع اعتبار عموم لفظ الآية فيما لم تقم الدلالة على
تخصيصه. وجائز أن يستدل بعمومه على جواز البيع الموقوف
(1/568)
لقوله
تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} والبيع اسم للإيجاب والقبول،
وليست حقيقته وقوع الملك به للعاقد، ألا ترى أن البيع المعقود على شرط
خيار المتبايعين لم يوجب ملكا؟ وهو بيع والوكيلان يتعاقدان البيع ولا
يملكان.
وقوله تعالى: {وَحَرَّمَ الرِّبا} حكمه ما قدمناه من الإجمال والوقف
على ورود البيان، فمن الربا ما هو بيع، ومنه ما ليس ببيع وهو ربا أهل
الجاهلية وهو القرض المشروط فيه الأجل وزيادة مال على المستقرض. وفي
سياق الآية ما أوجب تخصيص ما هو ربا من البياعات من عموم قوله تعالى:
{وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ}. وظن الشافعي أن لفظ الربا لما كان
مجملا أنه يوجب إجمال لفظ البيع; وليس كذلك عندنا لأن ما لا يسمى ربا
من البياعات فحكم العموم جار فيه، وإنما يجب الوقوف فيما شككنا أنه ربا
أو ليس بربا، فأما ما تيقنا أنه ليس بربا فغير جائز الاعتراض عليه بآية
تحريم الربا، وقد بينا ذلك في أصول الفقه.
وأما قوله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ
مِثْلُ الرِّبا} حكاية عن المعتقدين لإباحته من الكفار، فزعموا أنه لا
فرق بين الزيادة المأخوذة على وجه الربا وبين سائر الأرباح المكتسبة
بضروب البياعات، وجهلوا ما وضع الله أمر الشريعة عليه من مصالح الدين
والدنيا; فذمهم الله على جهلهم وأخبر عن حالهم يوم القيامة وما يحل بهم
من عقابه.
قوله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} يحتج به في جواز بيع ما لم
يره المشتري، ويحتج فيمن اشترى حنطة بحنطة بعينها متساوية أنه لا يبطل
بالافتراق قبل القبض، وذلك لأنه معلوم من ورود اللفظ لزوم أحكام البيع
وحقوقه من القبض والتصرف والملك وما جرى مجرى ذلك، فاقتضى ذلك بقاء هذه
الأحكام مع ترك التقايض; وهو كقوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ
أُمَّهَاتُكُمْ} [النساء: 23] المراد تحريم الاستمتاع بهن.
ويحتج أيضا لذلك بقوله تعالى: {لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ
بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ}
[النساء: 29] من وجهين: أحدهما: ما اقتضاه من إباحة الأكل قبل الافتراق
وبعده من غير قبض، والآخر إباحة أكله لمشتريه قبل قبض الآخر بعد
الفرقة.
وأما قوله تعالى: {فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى
فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ} فالمعنى فيه أن من انزجر
بعد النهي فله ما سلف من المقبوض قبل نزول تحريم الربا، ولم يرد به ما
لم يقبض; لأنه قد ذكر في نسق التلاوة حظر ما لم يقبض منه وإبطاله بقوله
(1/569)
تعالى:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ
مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} فأبطل الله من الربا ما لم
يكن مقبوضا وإن كان معقودا قبل نزول التحريم، ولم يتعقب بالفسخ ما كان
منه مقبوضا بقوله تعالى: {فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ
فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ} وقد روي ذلك عن السدي وغيره من
المفسرين. وقال تعالى: {وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ
كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} فأبطل منه ما بقي مما لم يقبض، ولم يبطل
المقبوض. ثم قال تعالى: {وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ
أَمْوَالِكُمْ} وهو تأكيد لإبطال ما لم يقبض منه وأخذ رأس المال الذي
لا ربا فيه ولا زيادة. وروي عن ابن عمر وجابر عن النبي صلى الله عليه
وسلم أنه قال في خطبته يوم حجة الوداع بمكة وقال جابر بعرفات "إن كل
ربا كان في الجاهلية فهو موضوع وأول ربا أضعه ربا العباس بن عبد
المطلب" فكان فعله صلى الله عليه وسلم مواطئا لمعنى الآية في إبطال
الله تعالى من الربا ما لم يكن مقبوضا وإمضائه ما كان مقبوضا.
وفيما روي في خطبة النبي صلى الله عليه وسلم ضروب من الأحكام: أحدها:
أن كل ما طرأ على عقد البيع قبل القبض مما يوجب تحريمه فهو كالموجود في
حال وقوعه، وما طرأ بعد القبض مما يوجب تحريم ذلك العقد لم يوجب فسخه
وذلك نحو النصرانيين إذا تبايعا عبدا بخمر فالبيع جائز عندنا، وإن أسلم
أحدهما قبل قبض الخمر بطل العقد; وكذلك لو اشترى رجل مسلم صيدا ثم أحرم
البائع أو المشتري بطل البيع لأنه قد طرأ عليه ما يوجب تحريم العقد قبل
القبض، كما أبطل الله تعالى من الربا ما لم يقبض لأنه طرأ عليه ما يوجب
تحريمه قبل القبض; وإن كانت الخمر مقبوضة ثم أسلما أو أحرما لم يبطل
البيع كما لم يبطل الله الربا المقبوض حين أنزل التحريم; فهذا جائز في
نظائره من المسائل ولا يلزم عليه أن يقتل العبد المبيع قبل القبض ولا
يبطل البيع، وللمشتري اتباع الجاني من قبل أنه لم يطرأ على العقد ما
يوجب تحريم العقد لأن العقد باق على هيئته التي كان عليها والقيمة
قائمة مقام المبيع، وإنما يعتبر المبيع وللمشتري الخيار فحسب. وفيها
دلالة على أن هلاك المبيع في يد البائع وسقوط القبض فيه يوجب بطلان
العقد، وهو قول أصحابنا والشافعي; وقال مالك: "لا يبطل والثمن لازم
للمشتري إذا لم يمنعه". ودلالة الآية ظاهرة على أن قبض المبيع من تمام
البيع وأن سقوط القبض يوجب بطلان العقد وذلك لأن الله تعالى لما أسقط
قبض الربا أبطل العقد الذي عقداه وأمر بالاقتصار على رأس المال، فدل
ذلك على أن قبض المبيع من شرائط صحة العقد وأنه متى طرأ على العقد ما
يسقطه أوجب ذلك بطلانه. وفيها الدلالة على أن العقود الواقعة في دار
الحرب إذا ظهر عليها الإمام لا يعترض عليها بالفسخ وإن كانت معقودة على
فساد لأنه معلوم أنه قد كان بين نزول الآية وبين خطبة النبي صلى الله
عليه وسلم بمكة ووضعه الربا الذي
(1/570)
لم يكن
مقبوضا عقود من عقود الربا بمكة قبل الفتح، ولم يتعقبها بالفسخ ولم
يميز ما كان منها قبل نزول الآية مما كان منها بعد نزولها، فدل ذلك على
أن العقود الواقعة في دار الحرب بينهم وبين المسلمين إذا ظهر عليها
الإمام لا يفسخ منها ما كان مقبوضا; وقوله تعالى: {فَمَنْ جَاءَهُ
مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ} يدل على ذلك
أيضا لأنه قد جعل له ما كان مقبوضا منه قبل الإسلام. وقد قيل إن معنى
قوله تعالى: {فَلَهُ مَا سَلَفَ} : من ذنوبه; على معنى أن الله يغفرها
له وليس هذا كذلك، لأن الله تعالى قد قال: {وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ}
يعني فيما يستحقه من عقاب أو ثواب; فلم يعلمنا حكمه في الآخرة. ومن جهة
أخرى أنه لو كان هذا مرادا لم ينتف به ما ذكرنا، فيكون على الأمرين
جميعا لاحتماله لهما، فيغفر الله ذنوبه ويكون له المقبوض من ذلك قبل
إسلامه وذلك يدل على أن بياعات أهل الحرب كلها ماضية إذا أسلموا بعد
التقابض فيها لقوله تعالى: {فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى
اللَّهِ}.
قوله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ
وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ فَإِنْ
لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} قال
أبو بكر: يحتمل ذلك معنيين، أحدهما: إن لم تقبلوا أمر الله تعالى ولم
تنقادوا له، والثاني: إن لم تذروا ما بقي من الربا بعد نزول الأمر
بتركه فأذنوا بحرب من الله ورسوله وإن اعتقدوا تحريمه. وقد روي عن ابن
عباس وقتادة والربيع بن أنس فيمن أربى "أن الإمام يستتيبه، فإن تاب
وإلا قتله" وهذا محمول على أن يفعله مستحلا له; لأنه لا خلاف بين أهل
العلم أنه ليس بكافر إذا اعتقد تحريمه. وقوله تعالى: {فَأْذَنُوا
بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} لا يوجب إكفارهم لأن ذلك قد يطلق
على ما دون الكفر من المعاصي; قال زيد بن أسلم عن أبيه: إن عمر رأى
معاذا يبكي، فقال: ما يبكيك؟ فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم
يقول: "اليسير من الرياء شرك ومن عادى أولياء الله فقد بارز الله
بالمحاربة". فأطلق اسم المحاربة عليه وإن لم يكفر. وروى أسباط عن السدي
عن صبيح مولى أم سلمة عن زيد بن أرقم، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال
لعلي وفاطمة والحسن والحسين رضي الله عنهم: "أنا حرب لمن حاربتم سلم
لمن سالمتم". وقال تعالى: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ
اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَاداً} [المائدة:
33] والفقهاء متفقون على أن ذلك حكم جار في أهل الملة وأن هذه السمة
تلحقهم بإظهارهم قطع الطريق. وقد دل على أنه جائز إطلاق اسم المحاربة
لله ورسوله على من عظمت معصيته وفعلها مجاهرا بها وإن كانت دون الكفر.
وقوله تعالى: {فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} إخبار
منه بعظم معصيته وأنه يستحق بها المحاربة عليها وإن لم يكن كافرا وكان
ممتنعا على الإمام، فإن لم يكن ممتنعا عاقبه الإمام بمقدار ما
(1/571)
يستحقه من
التعزير والردع، وكذلك ينبغي أن يكون حكم سائر المعاصي التي أوعد الله
عليها العقاب إذا أصر الإنسان عليها وجاهر بها، وإن كان ممتنعا حورب
عليها هو ومتبعوه وقوتلوا حتى ينتهوا، وإن كانوا غير ممتنعين عاقبهم
الإمام بمقدار ما يرى من العقوبة. وكذلك حكم من يأخذ أموال الناس من
المتسلطين الظلمة وآخذي الضرائب واجب على كل المسلمين قتالهم وقتلهم
إذا كانوا ممتنعين، وهؤلاء أعظم جرما من آكلي الربا لانتهاكهم حرمة
النهي وحرمة المسلمين جميعا. وآكل الربا إنما انتهك حرمة الله تعالى في
أخذ الربا ولم ينتهك لمن يعطيه ذلك حرمة; لأنه أعطاه بطيبة نفسه. وآخذو
الضرائب في معنى قطاع الطريق المنتهكين لحرمة نهي الله تعالى وحرمة
المسلمين; إذ كانوا يأخذونه جبرا وقهرا لا على تأويل ولا شبهة، فجائز
لمن علم من المسلمين إصرار هؤلاء على ما هم عليه من أخذ أموال الناس
على وجه الضريبة أن يقتلهم كيف أمكنه قتلهم، وكذلك أتباعهم وأعوانهم
الذين بهم يقومون على أخذ الأموال. وقد كان أبو بكر رضي الله عنه قاتل
مانعي الزكاة لموافقة من الصحابة إياه على شيئين: أحدهما: الكفر،
والآخر: منع الزكاة وذلك لأنهم امتنعوا من قبول فرض الزكاة ومن أدائها،
فانتظموا به معنيين: أحدهما: الامتناع من قبول أمر الله تعالى وذلك
كفر، والآخر: الامتناع من أداء الصدقات المفروضة في أموالهم إلى الإمام
فكان قتاله إياهم للأمرين جميعا، ولذلك قال: "لو منعوني عقالا" وفي بعض
الأخبار: "عناقا مما كانوا يؤدونه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم
لقاتلتهم عليه". فإنما قلنا إنهم كانوا كفارا ممتنعين من قبول فرض
الزكاة، لأن الصحابة سموهم أهل الردة، وهذه السمة لازمة لهم إلى يومنا
هذا، وكانوا سبوا نساءهم وذراريهم، ولو لم يكونوا مرتدين لما سار فيهم
هذه السيرة وذلك شيء لم يختلف فيه. الصدر الأول ولا من بعدهم من
المسلمين، أعني في أن القوم الذين قاتلهم أبو بكر كانوا أهل ردة.
فالمقيم على أكل الربا إن كان مستحلا له فهو كافر، وإن كان ممتنعا
بجماعة تعضده سار فيهم الإمام بسيرته في أهل الردة إن كانوا قبل ذلك من
جملة أهل الملة، وإن اعترفوا بتحريمه وفعلوه غير مستحلين له قاتلهم
الإمام إن كانوا ممتنعين حتى يتوبوا، وإن لم يكونوا ممتنعين ردعهم عن
ذلك بالضرب والحبس حتى ينتهوا.
وقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم كتب إلى أهل نجران وكانوا ذمة
نصارى: "إما أن تذروا الربا وإما أن تأذنوا بحرب من الله ورسوله"، وروى
أبو عبيد القاسم بن سلام قال: حدثني أيوب الدمشقي قال: حدثني سعدان بن
يحيى، عن عبد الله بن أبي حميد، عن أبي مليح الهذلي: أن رسول الله صلى
الله عليه وسلم صالح أهل نجران، فكتب إليهم كتابا في آخره: "على أن لا
تأكلوا الربا، فمن أكل الربا فذمتي منه بريئة". فقوله تعالى: {فَإِنْ
لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ
(1/572)
مِنَ
اللَّهِ وَرَسُولِهِ} عقيب قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا} هو عائد عليهما
جميعا، من رد الأمر على حاله ومن الإقامة على أكل الربا مع قبول الأمر.
فمن رد الأمر قوتل على الردة، ومن قبل الأمر وفعله محرما له قوتل على
تركه إن كان ممتنعا ولا يكون مرتدا، وإن لم يكن ممتنعا عزر بالحبس
والضرب على ما يرى الإمام.
وقوله تعالى: {فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} إعلام
بأنهم إن لم يفعلوا ما أمروا به في هذه الآية فهم محاربون لله ورسوله،
وفي ذلك إخبار منه بمقدار عظم الجرم وأنهم يستحقون به هذه السمة، وهي
أن يسموا محاربين لله ورسوله; وهذه السمة يعتورها معنيان: أحدهما:
الكفر إذا كان مستحلا، والآخر: الإقامة على أكل الربا مع اعتقاد
التحريم على ما بيناه. ومن الناس من يحمله على أنه إعلام منه بأن الله
تعالى يأمر رسوله والمؤمنين بمحاربتهم، ويكون إيذانا لهم بالحرب حتى لا
يؤتوا على غرة قبل العلم بها، كقوله تعالى: {وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ
قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لا
يُحِبُّ الْخَائِنِينَ} [الأنفال: 58] فإذا حمل على هذا الوجه كان
الخطاب بذلك متوجها إليهم إذا كانوا ذوي منعة، وإذا حملناه على الوجه
الأول دخل كل واحد من فاعلي ذلك في الخطاب وتناوله الحكم المذكور فيه،
فهو أولى.
قوله تعالى: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ}
فيه تأويلان: أحدهما: وإن كان ذو عسرة غريما لكم فنظرة إلى ميسرة،
والثاني: على أن "كان" المكتفية باسمها على معنى: "وإن وقع ذو عسرة أو
إن وجد ذو عسرة" كقول الشاعر:
فدى لبني شيبان رحلي وناقتي ... إذا كان يوم ذو كواكب أشهب
معناه: إذا وجد يوم كذلك.
وقد اختلف في معنى قوله: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى
مَيْسَرَةٍ} فروي عن ابن عباس وشريح وإبراهيم "أنه في الربا خاصة" وكان
شريح يحبس المعسر في غيره من الديون. وروي عن إبراهيم والحسن والربيع
بن خيثم والضحاك "أنه في سائر الديون"، وروي عن ابن عباس رواية أخرى
مثل ذلك. وقال آخرون: "إن الذي في الآية إنظار المعسر في الربا، وسائر
الديون في حكمه قياسا عليه".
قال أبو بكر: لما كان قوله تعالى: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ
فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} محتملا أن يكون شاملا لسائر الديون على
ما بينا من وجه الاحتمال، ولتأويل من تأوله من السلف على ذلك; إذ غير
جائز أن يكونوا تأولوه على ما لا احتمال فيه، وجب حمله على العموم وأن
لا يقتصر به على الربا إلا بدلالة لما فيه من تخصيص لفظ العموم من
(1/573)
غير
دلالة. فإن قيل: لما كان قوله تعالى: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ
فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} غير مكتف بنفسه في إفادة الحكم وكان
متضمنا لما قبله، وجب أن يكون حكمه مقصورا عليه. قيل: هو كلام مكتف
بنفسه لما في فحواه من الدلالة على معناه وذلك لأن ذكر الإعسار
والإنظار قد دل على دين تجب المطالبة به، والإنظار لا يكون إلا في حق
قد ثبت وجوبه وصحت المطالبة به إما عاجلا وإما آجلا، فإذا كان في مضمون
اللفظ دلالة على دين يتعلق به في حكم الإنظار إذا كان ذو عسرة، كان
اللفظ مكتفيا بنفسه ووجب اعتباره على عمومه ولم يجب الاقتصار به على
الربا دون غيره.
وزعم بعض الناس ممن نصر هذا القول الذي ذكرناه أن هذا لا يجوز أن يكون
في الربا، لأن الله تعالى قد أبطله، فكيف يكون منظرا به؟ قال: فالواجب
أن تكون الآية عامة في سائر الديون. وهذا الحجاج ليس بشيء; لأن الله
تعالى إنما أبطل الربا وهو الزيادة المشروطة ولم يبطل رأس المال، لأنه
قال: {وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا} والربا هو الزيادة ثم قال:
{وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ} ثم عقب ذلك بقوله:
{وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ} يعني سائر الديون، ورأس المال أحدها;
وإبطال ما بقي من الربا لم يبطل رأس المال، بل هو دين عليه يجب أداؤه.
فإن قيل: إذا كان الإنظار مأمورا به في رأس المال، فهو وسائر الديون
سواء. قيل له: إنما كلامنا فيما شمله العموم من حكم الآية، فإن كان ذلك
في رأس مال الربا فلم يتناول غيره من طريق النص وإنما يتناوله من جهة
العموم للمعنى، فيحتاج حينئذ إلى دلالة من غيره في إثبات حكمه ورده إلى
المذكور في الآية بمعنى يجمعهما; وليس الكلام بينك وبين الخصم من جهة
القياس، وإنما اختلفتما في عموم الآية وخصوصها، والكلام في القياس ورد
غير المذكور إلى المذكور مسألة أخرى. وقوله تعالى: {وَإِنْ تُبْتُمْ
فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ} قد اقتضى ثبوت المطالبة لصاحب الدين
على المدين وجواز أخذ رأس مال نفسه منه بغير رضاه; لأنه تعالى جعل
اقتضاءه ومطالبته من غير شرط رضى المطلوب، وهذا يوجب أن من له على غيره
دين فطالبه به فله أخذه منه شاء أم أبى; وبهذا المعنى ورد الأثر عن
النبي صلى الله عليه وسلم حين قالت له هند: إن أبا سفيان رجل شحيح لا
يعطيني ما يكفيني وولدي، فقال: "خذي من مال أبي سفيان ما يكفيك وولدك
بالمعروف" فأباح لها أخذ ما استحقته على أبي سفيان من النفقة من غير
رضى أبي سفيان.
وفي الآية دلالة على أن الغريم متى امتنع من أداء الدين مع الإمكان كان
ظالما، ودلالتها على ذلك من وجهين: أحدهما: قوله تعالى: {وَإِنْ
تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ}
(1/574)
فجعل له
المطالبة برأس المال، وقد تضمن ذلك أمر الذي عليه الدين بقضائه وترك
الامتناع من أدائه، فإنه متى امتنع منه كان له ظالما ولاسم الظلم
مستحقا، وإذا كان كذلك استحق العقوبة وهي الحبس. والوجه الآخر من
الدلالة عليه: قوله تعالى في نسق التلاوة: {لا تَظْلِمُونَ وَلا
تُظْلَمُونَ} يعني والله أعلم: لا تظلمون بأخذ الزيادة ولا تظلمون
بالنقصان من رأس المال; فدل ذلك على أنه متى امتنع من أداء جميع رأس
المال إليه كان ظالما له مستحقا للعقوبة. واتفق الجميع على أنه لا
يستحق العقوبة بالضرب، فوجب أن يكون حبسا، لاتفاق الجميع على أن ما
عداه من العقوبات ساقط عنه في أحكام الدنيا.
وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم مثل ما دلت عليه الآية، وهو ما
حدثنا محمد بن بكر قال: حدثنا أبو داود قال: حدثنا عبد الله بن محمد
النفيلي قال: حدثنا عبد الله بن المبارك، عن وبر بن أبي دليلة، عن محمد
بن ميمون، عن عمرو بن الشريد، عن أبيه، عن رسول الله صلى الله عليه
وسلم قال: "لي الواجد يحل عرضه وعقوبته" قال ابن المبارك: يحل عرضه:
يغلظ له، وعقوبته: يحبس. وروى ابن عمر وجابر وأبو هريرة عن النبي صلى
الله عليه وسلم أنه قال: "مطل الغني ظلم، وإذا أحيل أحدكم على مليء
فليحتل" فجعل مطل الغني ظلما، والظالم لا محالة مستحق العقوبة وهي
الحبس، لاتفاقهم على أنه لم يرد غيره. وحدثنا محمد بن بكر قال: حدثنا
أبو داود قال: حدثنا معاذ بن أسد قال: أخبرنا النضر بن شميل قال:
أخبرنا هرماس بن حبيب رجل من أهل البادية عن أبيه عن جده قال: أتيت
النبي صلى الله عليه وسلم بغريم لي، فقال لي: "الزمه" ثم قال: "يا أخا
بني تميم ما تريد أن تفعل بأسيرك؟" وهذا يدل على أن له حبس الغريم لأن
الأسير يحبس; فلما سماه أسيرا له دل على أن له حبسه. وكذلك قوله: "لي
الواجد يحل عرضه وعقوبته" والمراد بالعقوبة هنا الحبس لأن أحدا لا يوجب
غيره.
واختلف الفقهاء في الحال التي توجب الحبس، فقال أصحابنا: إذا ثبت عليه
شيء من الديون من أي وجه ثبت فإنه يحبس شهرين أو ثلاثة، ثم يسأل عنه
فإن كان موسرا تركه في الحبس أبدا حتى يقضيه، وإن كان معسرا خلى سبيله.
وذكر ابن رستم عن محمد عن أبي حنيفة: أن المطلوب إذا قال إني معسر
وأقام البينة على ذلك، أو قال: فسل عني، فلا يسأل عنه أحدا، وحبسه
شهرين أو ثلاثة ثم يسأل عنه إلا أن يكون معروفا بالعسر، فلا يحبسه.
وذكر الطحاوي عن أحمد بن أبي عمران قال: كان متأخرو أصحابنا، منهم محمد
بن شجاع، يقولون: "إن كل دين كان أصله من مال وقع في يدي المدين كأثمان
البياعات والعروض ونحوها، فإنه يحبسه به، وما لم يكن أصله من مال
(1/575)
وقع في
يده مثل المهر والجعل من الخلع والصلح من دم العمد والكفالة، لم يحبسه
به حتى يثبت وجوده وملاؤه". وقال ابن أبي ليلى: "يحبسه في الديون إذا
أخبر أن عنده مالا". وقال مالك: "لا يحبس الحر ولا العبد في الدين ولا
يستبرأ أمره، فإن اتهم أنه قد خبأ مالا حبسه، وإن لم يجد له شيئا لم
يحبسه وخلاه". وقال الحسن بن حي: "إذا كان موسرا حبس، وإن كان معسرا لم
يحبس". وقال الشافعي: "إذا ثبت عليه دين بيع ما ظهر ودفع ولم يحبس، فإن
لم يظهر حبس وبيع ما قدر عليه من مال، فإن ذكر عسره قبلت منه البينة
بقوله تعالى: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ}
وأحلفه مع ذلك بالله ومنع غرماءه من لزومه".
قال أبو بكر: إنما قال أصحابنا "إنه يحبسه في أول ما ثبت عند القاضي
دينه" لما دللنا عليه من الآية والأثر على كونه ظالما في الامتناع من
قضاء ما ثبت عليه وأنه مستحق للعقوبة متى امتنع من أداء ما وجب عليه،
فالواجب بقاء العقوبة عليه حتى يثبت زوالها عنه بالإعسار. فإن قيل:
إنما يكون ظالما إذا امتنع من أدائه مع الإمكان لأن الله تعالى لا يذمه
على ما لم يقدره عليه ولم يمكنه منه، ولذلك شرط النبي صلى الله عليه
وسلم الوجود في استحقاق العقوبة بقوله: "لي الواجد يحل عرضه وعقوبته"
وإذا كان شرط استحقاق العقوبة وجود المال الذي يمكنه أداؤه منه، فغير
جائز حبسه وعقوبته إلا بعد أن يثبت أنه واجد ممتنع من أداء ما وجب
عليه; وليس ثبوت الدين عليه علما لإمكان أدائه على الدوام; إذ جائز أن
يحدث الإعسار بعد ثبوت الدين. قيل له: أما الديون التي حصلت أبدالها في
يده فقد علمنا يساره بأدائها يقينا ولم نعلم إعساره بها، فوجب كونه
باقيا على حكم اليسار والوجود حتى يثبت الإعسار. وأما ما كان لزمه منها
من غير بدل حصل في يده يمكنه أداؤه منه، فإن دخوله في العقد الذي ألزمه
ذلك اعتراف منه بلزوم أدائه، وتوجه المطالبة عليه بقضائه، ودعواه
الإعسار به بمنزلة دعوى التأجيل للموسر فهو غير مصدق عليه; ولذلك سوى
أصحابنا بين الديون التي قد علم حصول أبدالها في يده وبين ما لم تحصل
في يده; إذ كان دخوله في العقد الموجب عليه الدين اعترافا منه بلزوم
الأداء وثبوت حق المطالبة للمطالب، وذلك لأن كل متعاقدين دخلا في عقد
فدخولهما فيه اعتراف منهما بلزوم موجب العقد من الحقوق، وغير مصدق بعد
العقد واحد منهما على نفي موجبه; ومن أجل ذلك قلنا إن ذلك يقتضي
اعترافا منهما بصحته; إذ كان ذلك مضمنا للزوم حقوقه، وفي تصديقه على
فساده نفي ما لزمه بظاهر العقد; ولا نعلم خلافا بين أهل العلم في أن
مدعي الفساد منهما بعد وقوع العقد بينهما وصحته في الظاهر غير مصدق
عليه وأن القول قول مدعي الصحة منهما، وفي ذلك دليل على صحة ما ذكرنا
من
(1/576)
أن من
ألزم نفسه دينا بعقد عقده على نفسه أنه يلزمه أداؤه ومحكوم عليه بأنه
موسر به وغير مصدق على الإعسار المسقط عنه المطالبة، كما لا يصدق على
التأجيل بعد ثبوته عليه حالا. وإنما قال أصحابنا "إنه يحبسه في أول ما
يرفعه إلى القاضي إذا طلب ذلك الطالب، ولا يسأل عنه" من قبل أنه توجهت
عليه المطالبة بأدائه ومحكوم له باليسار في قضائه، فالواجب أن يستبرئ
أمره بديا; إذ جائز أن يكون له مال قد خبأه لا يقف عليه غيره، فلا يوقف
بذلك على إعساره، فينبغي له أن، يحبسه استظهارا لما عسى أن يكون عنده;
إذ كان في الأغلب أنه إن كان عنده شيء آخر أضجره الحبس وألجأه إلى
إخراجه فإذا حبسه هذه المدة فقد استظهر في الغالب فحينئذ يسأل عنه;
لأنه جائز أن يكون هناك من يعلم يساره سرا فإذا ثبت عنده إعساره خلاه
من الحبس. وقد روي عن شريح أنه كان يحبس المعسر في غير الربا من
الديون، فقال له معسر قد حبسه: قال الله تعالى: {وَإِنْ كَانَ ذُو
عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} فقال شريح: {إِنَّ اللَّهَ
يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} [النساء:
58] والله لا يأمرنا بشيء ثم يعذبنا عليه. وقد قدمنا ذكر مذهب شريح في
تأويل الآية، وأن قوله تعالى: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ
إِلَى مَيْسَرَةٍ} مقصور على الربا دون غيره، وأن غيره من الديون لا
يختلف في الحبس فيها الموسر والمعسر. ويشتبه أن يكون ذهب في ذلك إلى
أنه لا سبيل لنا إلى معرفة الإعسار على الحقيقة; إذ جائز أن يظهر
الإعسار وحقيقة أمره اليسار، فاقتصر الإنظار على رأس مال الربا الذي
نزل به القرآن وحمل ما عداه على موجب عقد المداينة من لزوم القضاء
وتوجه المطالبة عليه بالأداء. وقد بينا وجه فساد هذا القول بما قد
دللنا عليه من مقتضى عموم اللفظ لسائر الديون. ومع ذلك فلو كان نص
التنزيل واردا في الربا دون غيره لكان سائر الديون بمنزلته قياسا عليه;
إذ لا فرق في حال اليسار بينهما في صحة لزوم المطالبة بهما ووجوب
أدائهما، فوجب أن لا يختلفا في حال الأداء في سقوط الحبس فيها دونه.
فأما قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا
الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} [النساء: 58] واحتجاج شريح به في حبس
المطلوب، فإن الآية إنما هي في الأعيان الموجودة في يده لغيره فعليه
أداؤه، وأما الديون المضمونة في ذمته فإنما المطالبة بها معلقة بإمكان
أدائها، فمن كان معسرا فإن الله لم يكلفه إلا ما في إمكانه، قال الله
تعالى: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ
اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً} [الطلاق: 7] فإذا لم يكن مكلفا لأدائها
لم يجز أن يحبس بها.
فإن قيل: إن الدين من الأمانات، لقوله تعالى: {فَإِنْ أَمِنَ
بَعْضُكُمْ بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ} وإنما
يريد به الدين المذكور في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
إِذَا
(1/577)
تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً فَاكْتُبُوهُ} قيل له:
إن كان الدين مرادا بقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ
تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} [النساء: 58] فإن الأمر بذلك
توجه إليه على شريطة الإمكان، لما وصفنا من أن الله تعالى لا يكلف أحدا
ما لا يقدر عليه ولا يتسع لفعله، وهو محكوم له من ظاهر إعساره أنه غير
قادر على أدائه. ولم يكن شريح ولا أحد من السلف يخفى عليهم أن الله لا
يكلف أحدا ما لا يقدر عليه، بل كانوا عالمين بذلك; ولكنه ذهب عندي
والله أعلم إلى أنه لم يتيقن وجود ذلك; ويجوز أن يكون قادرا على أدائه
مع ظهور إعساره، فلذلك حبسه.
واختلف أهل العلم في الحاكم إذا ثبت عنده إعساره وأطلقه من الحبس، هل
يحول بين الطالب وبين لزومه؟ فقال أصحابنا: "للطالب أن يلزمه". وذكر
ابن رستم عن محمد قال: "والملزوم في الدين لا يمنع من دخول منزله
للغذاء والغائط والبول، فإن أعطاه الذي يلزمه الغذاء وموضع الخلاء فله
أن يمنعه من إتيان منزله". وقال غيرهم، منهم مالك والشافعي: "ليس له أن
يلزمه". وقال الليث بن سعد: "يؤاجر الحر المعسر فيقضي دينه من أجرته";
ولا نعلم أحدا قال بمثل قوله إلا الزهري، فإن الليث بن سعد روى عن
الزهري قال: "يؤاجر المعسر بما عليه من الدين حتى يقضى عنه".
والذي يدل على أن ظهور الإعسار لا يسقط عنه اللزوم والمطالبة
والاقتضاء، حديث هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة: أن رسول الله صلى الله
عليه وسلم اشترى من أعرابي بعيرا إلى أجل، فلما حل الأجل جاءه يتقاضاه،
فقال: "جئتنا وما عندنا شيء، ولكن أقم حتى تأتي الصدقة" فجعل الأعرابي
يقول: واغدراه فهم به عمر، فقال صلى الله عليه وسلم: "دعه فإن لصاحب
الحق مقالا" فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه ليس عنده شيء، ولم
يمنعه الاقتضاء، وقال: "إن لصاحب الحق مقالا" فدل ذلك على أن الإعسار
بالدين غير مانع اقتضاءه ولزومه به. وقوله: "أقم حتى تأتي الصدقة" يدل
على أن النبي إنما اشترى البعير للصدقة لا لنفسه لأنه لو كان اشتراه
لنفسه لم يكن ليقضيه من إبل الصدقة; لأنه لم يكن تحل له الصدقة; فهذا
يدل على أن من اشترى لغيره يلزمه ثمن ما اشترى، وأن حقوق العقد متعلقة
به دون المشترى له; لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يمنعه اقتضاءه
ومطالبته به. وهو في معنى الحديث الذي رواه أبو رافع: أن النبي صلى
الله عليه وسلم استسلف بكرا ثم قضاه من إبل الصدقة; لأن السلف كان دينا
على مال الصدقة. وروي في خبر آخر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:
"لصاحب الحق اليد واللسان" رواه محمد بن الحسن، وقال: "في اليد اللزوم
وفي اللسان الاقتضاء". وحدثنا من لا أتهم في الرواية قال: أخبرنا محمد
بن إسحاق قال: حدثنا محمد بن يحيى قال: حدثنا إبراهيم بن حمزة قال:
حدثنا عبد العزيز بن محمد، عن عمرو بن أبي عمر، عن
(1/578)
عكرمة، عن
ابن عباس: أن رجلا لزم غريما له بعشرة دنانير، فقال له: والله ما عندي
شيء أقضيكه اليوم قال: والله لا أفارقك حتى تقضيني أو تأتيني بحميل
يتحمل عنك قال: والله ما عندي قضاء ولا أجد من يحتمل عني قال: فجاء إلى
رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إن هذا لزمني
فاستنظرته شهرا واحدا فأبى حتى أقضيه أو آتيه بحميل، فقلت: والله ما
أجد حميلا ولا عندي قضاء اليوم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"هل تنظره شهرا واحدا؟" قال: لا قال: "أنا أحمل بها" فتحمل بها رسول
الله صلى الله عليه وسلم فذهب الرجل فأتاه بقدر ما وعده، فقال له رسول
الله صلى الله عليه وسلم: "من أين أصبت هذا الذهب؟" قال: من معدن، قال:
"اذهب فلا حاجة لنا فيها ليس فيها خير" فقضى عنه رسول الله صلى الله
عليه وسلم. وفي هذا الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يمنعه
من لزومه مع حلفه بالله ما عنده قضاء.
وحدثنا من لا أتهم في الرواية قال: حدثنا عبد الله بن علي بن الجارود
قال: حدثنا إبراهيم بن أبي بكر بن أبي شيبة قال: حدثنا ابن أبي عبيدة
قال: حدثنا أبي، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي سعيد الخدري، قال: جاء
أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم يتقاضاه تمرا كان عليه، وشدد عليه
الأعرابي حتى قال له: أحرج عليك إلا قضيتني فانتهره الصحابة، فقالوا
له: ويحك أتدري من تكلم؟ فقال لهم: إني طالب حق فقال لهم النبي صلى
الله عليه وسلم: "هلا مع صاحب الحق كنتم" ثم أرسل إلى خولة بنت قيس
فقال لها: "إن كان عندك تمر فأقرضينا حتى يأتينا تمر فنقضيك" فقالت:
نعم بأبي أنت وأمي يا رسول الله فأقرضته، فقضى الأعرابي وأطعمه فقال:
أوفيتنا أوفى الله لك فقال: "أولئك خيار الناس، إنها لا قدست أمة لا
يؤخذ للضعيف منها حقه غير متعتع". فلم يكن عند النبي صلى الله عليه
وسلم ما يقضيه، ولم ينكر على الأعرابي مطالبته واقتضاءه بذلك، بل أنكر
على الصحابة انتهارهم إياه وقال: "هلا مع صاحب الحق كنتم". وهذا يوجب
أن لا يكون منظرا بنفس الإعسار دون أن ينظره الطالب. ويدل عليه أيضا ما
حدثنا عبد الباقي بن قانع قال: حدثنا أحمد بن العباس المؤدب قال: حدثنا
عفان بن مسلم قال: حدثنا عبد الوارث، عن محمد بن جحادة، عن ابن بريدة،
عن أبيه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من أنظر معسرا
فله صدقة، ومن أنظر معسرا فله بكل يوم صدقة" فقلت: يا رسول الله سمعتك
تقول من أنظر معسرا فله صدقة ثم سمعتك تقول له بكل يوم صدقة؟ قال: "من
أنظر معسرا قبل أن يحل الدين فله صدقة، ومن أنظره إذا حل الدين فله بكل
يوم صدقة". وحدثنا عبد الباقي قال: حدثنا محمد بن علي بن عبد الملك بن
السراج قال: حدثنا إبراهيم بن عبد الله الهروي قال: حدثنا عيسى بن يونس
قال: حدثنا سعيد بن حجنة الأسدي قال: حدثني عبادة بن الوليد بن عبادة
بن الصامت، أنه سمع أبا اليسر يقول: قال
(1/579)
رسول الله
صلى الله عليه وسلم: "من أنظر معسرا أو وضع له أظله الله يوم لا ظل إلا
ظله". فقوله في الحديث الأول "من أنظر معسرا فله بكل يوم صدقة" يوجب أن
لا يكون منظرا بنفس الإعسار دون إنظار الطالب إياه لأنه لو كان منظرا
بغير إنظاره لما صح القول بأن من أنظر معسرا فله بكل يوم صدقة; إذ غير
جائز أن يستحق الثواب إلا على فعله، فأما من قد صار منظرا بغير فعله
فإنه يستحيل أن يستحق الثواب بالإنظار. وحديث أبي اليسر يدل على ذلك
أيضا من وجهين: أحدهما: ما أخبر عنه من استحقاق الثواب بإنظاره،
والثاني: أنه جعل الإنظار بمنزلة الحط، ومعلوم أن الحط لا يقع إلا
بفعله، فكذلك الإنظار. وهذا كله يدل على أن قوله تعالى: {فَنَظِرَةٌ
إِلَى مَيْسَرَةٍ} ينصرف على أحد وجهين: إما أن يكون وقوع الإنظار هو
تخليته من الحبس وترك عقوبته; إذ كان غير مستحق لها; لأن النبي صلى
الله عليه وسلم إنما جعل مطل الغني ظلما; فإذا ثبت إعساره فهو غير ظالم
بترك القضاء، فأمر الله بإنظاره من الحبس، فلا يوجب ذلك ترك لزومه. أو
أن يكون المراد الندب والإرشاد إلى إنظاره بترك لزومه ومطالبته، فلا
يكون منظرا إلا بنظرة الطالب، بدلالة الأخبار التي أوردناها.
فإن قال قائل: اللزوم بمنزلة الحبس لا فرق بينهما; لأنه في الحالين
ممنوع من التصرف. قيل له: ليس كذلك; لأن اللزوم لا يمنعه التصرف، فإنما
معناه أن يكون معه من قبل الطالب من يراعي أمره في كسبه وما يستفيده،
فيترك له مقدار القوت ويأخذ الباقي قضاء من دينه، وليس في ذلك إيجاب
حبس ولا عقوبة. وروى مروان بن معاوية قال: حدثنا أبو مالك الأشجعي، عن
ربعي بن حراش، عن حذيفة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن
الله يقول لعبد من عباده: ما عملت؟ قال: ما عملت لك كثير عمل أرجوك به
من صلاة ولا صوم، غير أنك كنت أعطيتني فضلا من مال فكنت أخالط الناس
فأيسر على الموسر وأنظر المعسر. فقال الله عز وجل: نحن أحق بذلك منك،
تجاوزوا عن عبدي فغفر له" فقال ابن مسعود: هكذا سمعنا من رسول الله صلى
الله عليه وسلم. وهذا الحديث أيضا يدل على مثل ما دلت عليه الأخبار
المتقدمة من أن الإنظار لا يقع بنفس الإعسار لأنه جمع بين إنظار المعسر
والتيسير على الموسر، وذلك كله مندوب إليه غير واجب.
واحتج من حال بينه وبين لزومه إذا أعسر وجعله منظرا بنفس الإعسار، بما
رواه الليث بن سعد، عن بكير، عن عياض بن عبد الله، عن أبي سعيد الخدري:
أن رجلا أصيب على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثمار ابتاعها،
فكثر دينه، فقال صلى الله عليه وسلم: "تصدقوا عليه" فتصدق الناس عليه،
فلم يبلغ ذلك وفاء دينه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "خذوا ما
وجدتم ليس لكم إلا ذلك". فاحتج القائل بما وصفنا بقوله صلى الله عليه
وسلم: "ليس لكم إلا ذلك" وأن ذلك
(1/580)
يقتضي نفي
اللزوم. فيقال له: معلوم أنه لم يرد سقوط ديونهم; لأنه لا خلاف أنه متى
وجد كان الغرماء أحق بما فضل عن قوته، وإذا لم ينف بذلك بقاء حقوقهم في
ذمته; فكذلك لا يمنع بقاء لزومهم له ليستوفوا ديونهم مما يكسبه فاضلا
عن قوته; وهذا هو معنى اللزوم; لأنا لا نختلف في ثبوت حقوقهم فيما
يكسبه في المستقبل فقد اقتضى ذلك ثبوت حق اللزوم لهم ولم ينتف ذلك
بقوله صلى الله عليه وسلم: "ليس لكم إلا ذلك" كما لم ينتف بقاء حقوقهم
فيما يستفيده.
وقول النبي صلى الله عليه وسلم في الأخبار التي ذكرنا من إنظار المعسر
وما ذكر من ترغيب الطالب في إنظاره، يدل على جوازه التأجيل في الديون
الحالة الواجبة عن الغصوب والبيوع. وزعم الشافعي أنه إذا كان حالا في
الأصل لا يصح التأجيل به وذلك خلاف الآثار التي قدمنا لأنها قد اقتضت
جواز تأجيله; وبين ذلك حديث ابن بريدة فيمن أجل قبل أن يحل أو بعدما
حل، وقد تقدم سنده.
وحدثنا محمد بن بكر قال: حدثنا أبو داود قال: حدثنا سعيد بن منصور قال:
حدثنا أبو الأحوص، عن سعيد بن مسروق، عن الشعبي، عن سمعان، عن سمرة بن
جندب قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "ههنا أحد من بني
فلان؟" فلم يجبه أحد، ثم قال: "ههنا أحد من بني فلان؟" فلم يجبه أحد،
ثم قال: "ههنا أحد من بني فلان؟" فقام رجل فقال: أنا يا رسول الله،
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما منعك أن تجيبني في المرتين
الأوليين؟ إني لم أنوه بكم إلا خيرا، إن صاحبكم مأسور بدينه" فلقد
رأيته أدى عنه حتى ما أحد يطالبه بشيء.
وحدثنا محمد بن بكر قال: حدثنا أبو داود قال: حدثنا سليمان بن داود
المهري النهدي قال: حدثنا وهب قال: حدثني سعيد بن أبي أيوب، أنه سمع
أبا عبد الله القرشي يقول: سمعت أبا بردة بن أبي موسى الأشعري يقول عن
أبيه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إن أعظم الذنوب عند
الله أن يلقاه عبد بعد الكبائر التي نهاه الله عنها: أن يموت رجل وعليه
دين لا يدع له قضاء". وفي هذين الحديثين دليل على أن المطالبة واللزوم
لا يسقطان عن المعسر كما لم تسقط عنه المطالبة بالموت وإن لم يدع له
وفاء.
فإن قيل: لا يخلو. هذا الرجل المدين إذا مات مفلسا من أن يكون مفرطا في
قضاء دينه أو غير مفرط; فإن كان مفرطا فإنما هو مطالب عند الله بتفريطه
كسائر الذنوب التي لم يتب منها، وإن كان غير مفرط فالله تعالى لا
يؤاخذه به لأن الله لا يؤاخذ أحدا إلا بذنبه. قيل له: إنما ذلك فيمن
فرط في قضاء دينه ثم لم يتب من تفريطه حتى مات
(1/581)
مفلسا،
فيكون مؤاخذا به; وهذا حكم المعسر بدين الآدمي لأنا لا نعلم توبته من
تفريطه، فواجب أن يكون مطالبا به في الدنيا كما كان مؤاخذا به عند الله
تعالى.
فإن قيل: فينبغي أن تفرقوا بين المفرط في قضاء دينه المصر على تفريطه
وبين من لم يفرط أصلا أو فرط ثم تاب من تفريطه فتوجبون له لزوم من فرط
ولم يتب ولا تجعلون له ذلك فيمن لم يفرط أو فرط ثم تاب. قيل له: لو
وقفنا على حقيقة توبته من تفريطه أو علمنا أنه لم يكن مفرطا في قضائه
لخالفنا بين حكمه وحكم من ظهر تفريطه في باب اللزوم كما اختلف حكمهما
عند الله تعالى، ولكنا لا نعلم أنه غير مفرط في الحقيقة لجواز أن يكون
له مال مخبوء وقد أظهر الإعسار، وكذلك المظهر لتوبته من تفريطه مع ظهور
عسرته جائز أن يكون موسرا بأداء دينه ولا تكون لما أظهر حقيقة، وإذا
كان كذلك فحكم اللزوم والمطالبة قائم عليه كما تثبت عليه المطالبة لله
تعالى بعد موته. وحديث أبي قتادة أيضا يدل على ذلك، وهو ما حدثنا محمد
بن بكر قال: حدثنا أبو داود قال: حدثنا محمد بن المتوكل العسقلاني قال:
حدثنا عبد الرزاق قال: حدثنا معمر، عن الزهري، عن أبي سلمة، عن جابر
قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يصلي على رجل مات وعليه دين،
فأتي بميت فقال: "أعليه دين؟" فقالوا: نعم، ديناران، فقال: "صلوا على
صاحبكم" فقال أبو قتادة الأنصاري: هما علي يا رسول الله قال: فصلى عليه
رسول الله صلى الله عليه وسلم. فلما فتح الله على رسول الله صلى الله
عليه وسلم قال: "أنا أولى بكل مؤمن من نفسه، فمن ترك دينا فعلي قضاؤه
ومن ترك مالا فلورثته" فلو لم تكن المطالبة قائمة عليه إذا مات مفلسا
كان لا يترك الصلاة عليه إذا مات مفلسا; لأنه كان يكون بمنزلة من لا
دين عليه. وفي هذا دليل على أن الإعسار لا يسقط عنه اللزوم والمطالبة.
وقد روى إسماعيل بن إبراهيم بن المهاجر عن عبد الملك بن عمير قال: كان
علي بن أبي طالب إذا أتاه رجل بغريمه قال: هات بينة على مال أحبسه فإن
قال: فإني إذا ألزمه، قال: ما أمنعك من لزومه. وأما قول الزهري والليث
بن سعد في إجازتهما الحد واستيفاء الدين من أجرته، فخلاف الآية والآثار
المروية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم; أما الآية فقوله تعالى:
{وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} ولم يقل
فليؤاجر بما عليه، وسائر الأخبار المروية عن النبي صلى الله عليه وسلم
ليس في شيء منها إجارته وإنما فيها لزومه أو تركه، وحديث أبي سعيد
الخدري: "ليس لكم إلا ذلك" حين لم يجدوا له غير ما أخذوا.
قوله عز وجل: {وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ
تَعْلَمُونَ} يعني والله أعلم: أن التصدق بالدين الذي على المعسر خير
من إنظاره به; وهذا يدل على أن الصدقة أفضل من القرض لأن القرض إنما هو
دفع المال وتأخير استرجاعه; وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم
(1/582)
أنه قال:
"قرض مرتين كصدقة مرة" . وروى علقمة عن عبد الله عن النبي صلى الله
عليه وسلم قال: "السلف يجرى مجرى شطر الصدقة" وروي عن عبد الله بن
مسعود من قوله، وعن ابن عباس مثله. وعن إبراهيم وقتادة في قوله:
{وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ} قالا: "برأس المال".
ولما سمى الله الإبراء من الدين صدقة اقتضى ظاهره جوازه عن الزكاة لأنه
سمى الزكاة صدقة وهي على ذي عسرة، فلو خلينا والظاهر كان واجبا جوازه
عن سائر أمواله التي فيها الزكاة من عين ودين وغيره، إلا أن أصحابنا
قالوا: إنما سقط زكاة المبرأ منه دون غيره لأن الدين إنما هو حق ليس
بعين، والحقوق لا تجرى مجرى الزكاة، مثل سكنى الدار وخدمة العبد
ونحوها، وتسميته إياه بالصدقة لا توجب جوازه عن الزكاة في سائر
الأحوال، ألا ترى أن الله تعالى قد سمى البراءة من القصاص صدقة في قوله
تعالى: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ}
إلى قوله: {فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ} [المائدة:
45] والمراد به العفو عن القصاص; ولا نعلم خلافا بين أهل العلم أن
العفو عن القصاص غير مجزئ في الكفارة. وقال تعالى حاكيا عن إخوة يوسف:
{وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُزْجَاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ
وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا} [يوسف: 88] وهم لم يسألوه أن يتصدق عليهم
بماله، وإنما سألوه أن يبيعهم ولا يمنعهم الكيل لأنهم كانوا منعوا
بديا; ألا ترى أنهم قالوا: فأوف لنا الكيل، وهو ما اشتروه ببضاعتهم؟
فإذا كان وقوع اسم الصدقة عليه لم يوجب جوازه عن الزكاة، لم يكن إطلاق
اسم الصدقة على الدين علة لجوازه عن الزكاة; والله تعالى أعلم.
(1/583)
باب عقود المداينات
قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ
بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً فَاكْتُبُوهُ} قال أبو بكر ذهب قوم إلى
أن الكتاب والإشهاد على الديون الآجلة قد كانا واجبين بقوله تعالى:
{فَاكْتُبُوهُ} إلى قوله: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ
رِجَالِكُمْ} ثم نسخ الوجوب بقوله تعالى: {فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ
بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ} روي ذلك عن أبي
سعيد الخدري والشعبي والحسن. وقال آخرون: "هي محكمة لم ينسخ منها شيء".
وروى عاصم الأحول وداود بن أبي هند عن عكرمة قال: قال ابن عباس: "لا
والله إن آية الدين محكمة وما فيها نسخ". وقد روى شعبة عن فراس عن
الشعبي عن أبي بردة عن أبي موسى قال: "ثلاثة يدعون الله فلا يستجيب لهم
رجل كانت له امرأة سيئة الخلق فلم يطلقها، ورجل أعطى ماله سفيها وقد
قال الله تعالى: {وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ}
(1/583)
[النساء:
5]، ورجل له على رجل دين ولم يشهد عليه به". قال أبو بكر: وقد روي هذا
الحديث مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم. وروى جويبر عن الضحاك:
"إن ذهب حقه لم يؤجر وإن دعا عليه لم يجب لأنه ترك حق الله وأمره".
وقال سعيد بن جبير: {وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ} يعني: وأشهدوا
على حقوقكم إذا كان فيها أجل أو لم يكن فيها أجل، فأشهد على حقك على كل
حال. وقال ابن جريج: سئل عطاء: أيشهد الرجل على أن بايع بنصف درهم؟
قال: نعم، هو تأويل قوله تعالى: {وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ}.
وروى مغيرة عن إبراهيم قال: "يشهد لو على دستجة بقل". وقد روي عن الحسن
والشعبي: "إن شاء أشهد وإن شاء لم يشهد، لقوله تعالى: {فَإِنْ أَمِنَ
بَعْضُكُمْ بَعْضاً}" وروى ليث عن مجاهد: "أن ابن عمر كان إذا باع أشهد
ولم يكتب"، وهذا يدل على أنه رآه ندبا لأنه لو كان واجبا لكانت الكتابة
مع الإشهاد; لأنهما مأمور بهما في الآية.
قال أبو بكر: لا يخلو قوله تعالى: {فَاكْتُبُوهُ} إلى قوله تعالى:
{وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} وقوله تعالى:
{وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ} من أن يكون موجبا للكتابة والإشهاد
على الديون الآجلة في حال نزولها، وكان هذا حكما مستقرا ثابتا إلى أن
ورد نسخ إيجابه بقوله تعالى: {فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً
فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ}، أو أن يكون نزول الجميع
معا; فإن كان كذلك فغير جائز أن يكون المراد بالكتابة والإشهار الإيجاب
لامتناع ورود الناسخ والمنسوخ معا في شيء واحد، إذ غير جائز نسخ الحكم
قبل استقراره. ولما لم يثبت عندنا تاريخ نزول هذين الحكمين من قوله
تعالى: {وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ} وقوله تعالى: {فَإِنْ
أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً} وجب الحكم بورودهما معا، فلم يرد الأمر
بالكتاب والإشهاد إلا مقرونا بقوله: {فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً
فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ} فثبت بذلك أن الأمر
بالكتابة والإشهاد ندب غير واجب. وما روي عن ابن عباس من أن آية الدين
محكمة لم ينسخ منها شيء، لا دلالة فيه على أنه رأى الإشهاد واجبا; لأنه
جائز أن يريد أن الجميع ورد معا، فكان في نسق التلاوة ما أوجب أن يكون
الإشهاد ندبا، وهو قوله تعالى: {فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً}.
وما روي عن ابن عمر أنه كان يشهد، وعن إبراهيم وعطاء أنه يشهد على
القليل; كله عندنا أنهم رأوه ندبا لا إيجابا. وما روي عن أبي موسى:
"ثلاثة يدعون الله فلا يستجاب لهم: أحدهم من له على رجل دين ولم يشهد"
فلا دلالة على أنه رآه واجبا، ألا ترى أنه ذكر معه من له امرأة سيئة
الخلق فلم يطلقها؟ ولا خلاف أنه ليس بواجب على من له امرأة سيئة الخلق
أن يطلقها; وإنما هذا القول منه على أن فاعل ذلك تارك للاحتياط والتوصل
إلى ما جعل الله تعالى له فيه المخرج والخلاص. ولا خلاف بين فقهاء
الأمصار أن الأمر
(1/584)
بالكتابة
والإشهاد والرهن المذكور جميعه في هذه الآية ندب وإرشاد إلى ما لنا فيه
الحظ والصلاح والاحتياط للدين والدنيا، وأن شيئا منه غير واجب. وقد
نقلت الأمة خلف عن سلف عقود المداينات والأشربة والبياعات في أمصارهم
من غير إشهاد، مع علم فقهائهم بذلك من غير نكير منهم عليهم، ولو كان
الإشهاد واجبا لما تركوا النكير على تاركه مع علمهم به. وفي ذلك دليل
على أنهم رأوه ندبا، وذلك منقول من عصر النبي صلى الله عليه وسلم إلى
يومنا هذا. ولو كانت الصحابة والتابعون تشهد على بياعاتها وأشربتها
لورد النقل به متواترا مستفيضا ولأنكرت على فاعله ترك الإشهاد، فلما لم
ينقل عنهم الإشهاد بالنقل المستفيض ولا إظهار النكير على تاركه من
العامة ثبت بذلك أن الكتاب والإشهاد في الديون والبياعات غير واجبين;
وقوله تعالى: {فَاكْتُبُوهُ} مخاطبة لمن جرى ذكره في أول الآية وهو:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ} فإنما
أمر بذلك للمتداينين.
فإن قيل: ما وجه قوله تعالى: {بِدَيْنٍ} والتداين لا يكون إلا بدين؟
قيل له: لأن قوله تعالى: {تَدَايَنْتُمْ} لفظ مشترك يحتمل أن يكون من
الدين الذي هو الجزاء كقوله تعالى: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} يعني يوم
الجزاء، فيكون بمعنى "تجازيتم" فأزال الاشتراك عن اللفظ بقوله تعالى:
{بِدَيْنٍ} وقصره على المعاملة بالدين; وجائز أن يكون على جهة التأكيد
وتمكين المعنى في النفس.
وقوله تعالى: {إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً}
ينتظم سائر عقود المداينات التي يصح فيها الآجال، ولا دلالة على جواز
التأجيل في سائر الديون، لأن الآية ليس فيها بيان جواز التأجيل في سائر
الديون وإنما فيها الأمر بالإشهاد إذا كان دينا مؤجلا; ثم يحتاج أن
يعلم بدلالة أخرى جواز التأجيل في الدين وامتناعه، ألا ترى أنها لم
تقتض جواز دخول الأجل على الدين بالدين حتى يكونا جميعا مؤجلين؟ وهو
بمنزلة قوله: "من أسلم فليسلم في كيل معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم"
لا دلالة فيه على جواز السلم في سائر المكيلات والموزونات بالآجال
المعلومة، وإنما ينبغي أن يثبت جوازه في المكيل والموزون المعلوم الجنس
والنوع والصفة بدلالة أخرى; وإذا ثبت أنه مما يجوز السلم فيه احتجنا
بعد ذلك إلى أن نسلم فيه إلى أجل معلوم. وكما تدل الآية على جواز عقود
المداينات ولم يصح الاستدلال بعمومها في إجازة سائر عقود المداينات;
لأن الآية إنما فيها الأمر بالإشهاد إذا صحت المداينة، كذلك لا تدل على
جواز شرط الأجل في سائر الديون وإنما فيها الأمر بالإشهاد إذا صح الدين
والتأجيل فيه.
وقد احتج بعضهم في جواز التأجيل في القرض بهذه الآية; إذ لم تفرق بين
القرض وسائر عقود المداينات، وقد علمنا أن القرض مما شمله الاسم. وليس
ذلك عندنا كما
(1/585)
ذكر; لأنه
لا دلالة فيها على جواز كل دين ولا على جواز التأجيل في جميعها، وإنما
فيها الأمر بالإشهاد على دين قد ثبت فيه التأجيل، لاستحالة أن يكون
المراد به الإشهاد على ما لم يثبت من الديون ولا من الآجال; فوجب أن
يكون مراده "إذا تداينتم بدين قد ثبت فيه التأجيل فاكتبوه" فالمستدل به
على جواز تأجيل القرض مغفل في استدلاله. ومما يدل على أن القرض لم يدخل
فيها لقوله تعالى: {إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ} قد اقتضى عقد
المداينة، وليس القرض بعقد مداينة; إذ لا يصير دينا بالعقد دون القبض،
فوجب أن يكون القرض خارجا منه.
قال أبو بكر: وقوله تعالى: {إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ
مُسَمّىً} قد اشتمل على كل دين ثابت مؤجل، سواء كان بدله عينا أو دينا،
فمن اشترى دارا أو عبدا بألف درهم إلى أجل كان مأمورا بالكتاب والإشهاد
بمقتضى الآية. وقد دلت الآية على أنها مقصورة في دين مؤجل في أحد
البدلين لا فيهما جميعا، لأنه تعالى قال: {إِذَا تَدَايَنْتُمْ
بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً} ولم يقل "بدينين" فإنما أثبت الأجل في
أحد البدلين، فغير جائز وجود الأجل في البدلين جميعا; وقد نهى النبي عن
الدين بالدين. وأما إذا كانا دينين بالعقد، فهذا جائز في السلم وفي
الصرف، إلا أن ذلك مقصور على المجلس. ولا يمتنع أن يكون السلم مرادا
بالآية; لأن التأجيل في أحد البدلين، وهو السلم; وقد أمر الله تعالى
بالإشهاد على عقد مداينة موجب لدين مؤجل. وقد روى قتادة، عن أبي حسان،
عن ابن عباس قال: "أشهد أن السلم المؤجل في كتاب الله وأنزل فيه أطول
آية في كتاب الله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا
تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً فَاكْتُبُوهُ} " فأخبر
ابن عباس أن السلم المؤجل مما انطوى تحت عموم الآية. وعلى هذا كل دين
ثابت مؤجل فهو مراد بالآية، سواء كان من أبدال المنافع أو الأعيان، نحو
الأجرة المؤجلة في عقود الإجارات والمهر إذا كان مؤجلا وكذلك الخلع
والصلح من دم العمد والكتابة المؤجلة; لأن هذه ديون مؤجلة ثابتة بعقد
مداينة. وقد بينا أن الآية إنما اقتضت هذا الحكم في أحد البدلين إذا
كان مؤجلا لا فيهما، لأنه قال: {إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى
أَجَلٍ} فكل عقد انتظمته الآية فهو العقد الذي ثبت به دين مؤجل، ولم
تفرق بين أن يكون ذلك الدين بدلا من منافع أو أعيان، فوجب أن يكون جميع
المندوب إليه من الكتاب والإشهاد مرادا بها هذه العقود كلها، وأن يكون
ما ذكر من عدد الشهود وأوصاف الشهادة معتبرا في سائرها; إذ ليس في
اللفظ تخصيص شيء منه دون غيره فيوجب ذلك جواز شهادة الرجل والمرأتين في
النكاح إذا كان المهر دينا مؤجلا وفي الخلع والإجارة والصلح من دم
العمد وسائر ما كان هذا وصفه، وغير جائز الاقتصار بهذه الأحكام على بعض
الديون المؤجلة دون بعض مع شمول الآية لجميعها.
(1/586)
وقوله
تعالى: {إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً} يعني: معلوما; قد روي ذلك عن جماعة من
السلف. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "من أسلم فليسلم في كيل معلوم
ووزن معلوم إلى أجل معلوم".
وقوله تعالى: {وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ} فيه أمر
لمن تولى كتابة الوثائق بين الناس أن يكتبها بالعدل بينهم; والكتاب وإن
لم يكن حتما فإن سبيله إذا كتب أن يكتب على حد العدل والاحتياط والتوثق
من الأمور التي من أجلها يكتب الكتاب، بأن يكون شرطا صحيحا جائزا على
ما توجبه الشريعة وتقتضيه. وعليه التحرز من العبارات المحتملة للمعاني
وتجنب الألفاظ المشتركة وتحري تحقيق المعاني بألفاظ مبينة خارجة عن حد
الشركة والاحتمال والتحرز من خلاف الفقهاء ما أمكن حتى يحصل للمتداينين
معنى الوثيقة والاحتياط المأمور بهما في الآية; ولذلك قال تعالى عقيب
الأمر بالكتاب: {وَلا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ
اللَّهُ} يعني والله أعلم: ما بينه من أحكام العقود الصحيحة والمداينات
الثابتة الجائزة، لكي يحصل لكل واحد من المتداينين ما قصد من تصحيح عقد
المداينة; ولأن الكاتب بذلك إذا كان جاهلا بالحكم لا يأمن أن يكتب ما
يفسد عليهما ما قصداه ويبطل ما تعاقداه. والكتاب وإن لم يكن حتما وكان
ندبا وإرشادا إلى الأحوط فإنه متى كتب فواجب أن يكون على هذه الشريطة
كما قال عز وجل: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا
وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ} [المائدة: 6] فانتظم
ذلك صلاة الفرض والنفل جميعا. ومعلوم أن النفل غير واجب عليه، ولكنه
متى قصد فعلها وهو محدث فعليه أن لا يفعلها إلا بشرائطها من الطهارة
وسائر أركانها. وكما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "من أسلم فليسلم في
كيل معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم" والسلم ليس بواجب، ولكنه متى أراد
أن يسلم فعليه استيفاء الشرائط; فكذلك كتاب الدين والإشهاد ليسا
بواجبين، ولكنه متى كتب فعلى الكاتب أن يكتبه على الوجه الذي أمره الله
تعالى به، وأن يستوفي فيه شروط صحته، ليحصل المعنى المقصود بكتابته.
وقد اختلف السلف في لزوم الكاتب الكتابة، فروي عن الشعبي أنه قال: "هو
واجب على الكفاية. كالجهاد ونحوه". وقال السدي "واجب على الكاتب في حال
فراغه". وقال عطاء ومجاهد: "هو واجب". وقال الضحاك: نسختها {وَلا
يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ}.
قال أبو بكر: قد بينا أن الكتاب غير واجب في الأصل على المتداينين،
فكيف يكون واجبا على الأجنبي الذي لا حكم له في هذا العقد ولا سبب له
فيه؟ وعسى أن يكون من رآه واجبا ذهب إلى أن الأصل واجب، فكذلك على من
يحسن الكتابة أن يقوم
(1/587)
بها لمن
يجب ذلك عليه. والأصل وإن لم يكن واجبا عندنا، فإن المتداينين متى قصدا
إلى ما ندبهما إليه من الاستيثاق بالكتاب ولم يكونا عالمين بذلك، فإنه
فرض على من علم ذلك أن يبينه لهما، وليس عليه أن يكتبه ولكن يبينه حتى
يكتباه أو يكتبه لهما أجير أو متبرع بإملاء من يعلمه، كما لو أراد
إنسان أن يصوم صوما تطوعا أو يصلي صلاة تطوع ولم يعرف أحكامهما، كان
على العالم بذلك إذا سئل أن يبينه لسائله، وإن لم تكن هذه الصلاة
والصوم فرضا; لأن على العلماء بيان النوافل والمندوب إليه إذا سئلوا
عنها، كما أن عليهم بيان الفروض; وقد كان على النبي صلى الله عليه وسلم
بيان النوافل والمندوب إليه كما أن عليه بيان الفروض، قال الله تعالى:
{يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ}
[المائدة: 67] وقال تعالى: {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ
إِلَيْهِمْ} [النحل: 44] وفيما أنزل الله على نبيه أحكام النوافل، فكان
عليه بيانها لأمته كبيان الفروض. وقد نقلت الأمة عن نبيها صلى الله
عليه وسلم بيان المندوب إليه كما نقلت عنه بيان الفروض; وإذا كان كذلك
فعلى من علم علما من فرض أو نفل ثم سئل عنه أن يبينه لسائله. وقال
تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ
لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ
ظُهُورِهِمْ} [آل عمران: 187] وقال صلى الله عليه وسلم: "من سئل عن علم
فكتمه ألجم يوم القيامة بلجام من نار". فعلى هذا الوجه يلزم من عرف
الوثائق والشروط بيانها لسائلها على حسب ما يلزمه بيان سائر علوم الدين
والشريعة. وهذا فرض لازم للناس على الكفاية، إذا قام به بعضهم سقط عن
الباقين، فأما أن يلزمه أن يتولى الكتابة بيده فهذا ما لا أعلم أحدا
يقوله; اللهم إلا أن لا يوجد من يكتبه، فغير ممتنع أن يقول قائل "عليه
كتبه" ولو كان كتب الكتاب فرضا على الكاتب لما كان الاستئجار يجوز عليه
لأن الاستئجار على فعل الفروض باطل لا يصح; فلما لم يختلف الفقهاء في
جواز أخذ الأجرة على كتب كتاب الوثيقة دل على أن كتبه ليس بفرض لا على
الكفاية ولا على التعيين.
قوله تعالى: {وَلا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ
اللَّهُ} نهي للكاتب أن يكتب على خلاف العدل الذي أمر الله به، وهذا
النهي على الوجوب إذا كان المراد به كتبه على خلاف ما توجبه أحكام
الشرع، كما تقول: لا تصل النفل على غير طهارة ولا غير مستور العورة;
ليس ذلك أمرا بالصلاة النافلة ولا نهيا عن فعلها مطلقا، وإنما هو نهي
عن فعلها على غير شرائطها المشروطة لها; وكذلك قوله تعالى: {وَلا
يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ }
هو نهي عن كتبه على خلاف الجائز منه; إذ ليست الكتابة في الأصل واجبة
عليه; ألا ترى أن قول القائل "لا تأب أن تصلي النافلة بطهارة وستر
العورة" ليس فيه إيجاب منه للنافلة؟ فكذلك ما وصفنا.
(1/588)
وقوله
تعالى: {وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ
رَبَّهُ وَلا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً} فيه إثبات إقرار الذي عليه الحق
وإجازة ما أقر به وإلزامه إياه، لأنه لولا جواز إقراره إذا أقر لم يكن
إملاء الذي عليه الحق بأولى من إملاء غيره من الناس فقد تضمن ذلك جواز
إقرار كل مقر بحق عليه.
وقوله عز وجل: {وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلا يَبْخَسْ مِنْهُ
شَيْئاً} يدل على أن كل من أقر بشيء لغيره فالقول قوله فيه لأن البخس
هو النقص; فلما وعظه الله تعالى في ترك البخس دل ذلك على أنه إذا بخس
كان قوله مقبولا; وهو نظير قوله تعالى: {وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ
يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ} [البقرة: 228] لما
وعظهن في الكتمان دل على أن المرجع فيه إلى قولهن; وكقوله تعالى: {وَلا
تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ}
قد دل ذلك أنهم متى كتموها كان القول قولهم فيها. وكذلك وعظه الذي عليه
الحق في ترك البخس دليل على أن المرجع إلى قوله فيما عليه. وقد ورد
الأثر عن النبي صلى الله عليه وسلم بمثل ما دل عليه الكتاب، وهو قوله:
"البينة على المدعي واليمين على المدعى عليه" فجعل القول قول من ادعى
عليه دون المدعي، وأوجب عليه اليمين; وهو معنى قوله تعالى: {وَلا
يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً} في إيجاب الرجوع إلى قوله.
واحتج بعضهم بهذه الآية على أن القول قول المطلوب في الأجل; لأن الله
رد الإملاء إليه ووعظه في البخس بقوله تعالى: {وَلا يَبْخَسْ مِنْهُ
شَيْئاً} في صدقه في مبلغ المال. فيقال: إنما وعظه في البخس وهو
النقصان، ويستحيل وعظ المطلوب في بخس الأجل ونقصانه، وهو لو أسقط الأجل
كله بعد ثبوته لبطل، كما لا يوعظ الطالب في نقصان ماله; إذ لو أبرأه من
جميعه لصحت براءته. فلما كان ذلك كذلك علمنا أن المراد بالبخس في مقدار
الديون لا في الأجل، فليس إذا في الآية دليل على أن القول قول المطلوب
في الأجل.
فإن قيل إثبات الأجل في المال يوجب نقصانه، فلما كان القول قول المطلوب
في نقصان المال ومقداره وجب أن يكون القول قوله في الأجل لما فيه من
بخس المال ونقصانه; إذ قد تضمنت الآية تصديقه في بخسه والبخس تارة يكون
بنقصان المقدار وتارة بنقصان الصفة من أجل رداءة في المقر به. قيل له:
لما قال تعالى: {وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ
اللَّهَ رَبَّهُ وَلا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً} اقتضى ذلك النهي عن بخس
الحق نفسه، فكان تقديره ولا يبخس من الدين شيئا ومدعي الأجل غير باخس
من الدين ولا ناقص له; إذ كان بخس الدين هو نقصان مقداره، وليس الأجل
هو الدين ولا بعضه; وإذا كان كذلك فلا دلالة في الآية على تصديقه على
دعوى الأجل. ويدلك على أن الأجل ليس من الدين
(1/589)
أن الدين
قد يحل ويبطل الأجل ويكون هو ذلك الدين، وقد يسقط الأجل ويعجل الدين
فيكون الذي عجل هو الدين الذي كان مؤجلا; وإذا كان ذلك كذلك ثم قال
تعالى: {وَلا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً} يعني من الدين شيئا، لم يتناول
ذلك الأجل ولم يدل عليه. ومن جهة أخرى أن الأجل إنما يوجب نقصا فيه من
طريق الحكم لأن المقبوض بعد الأجل وقبله إذا كان على صفة واحدة فقد
علمت أنه لا تأثير له في نقصان المقبوض، وإنما يقال إنه نقص فيه من
طريق الحكم على المجاز لا على الحقيقة، وقد تناولت الآية البخس الذي هو
حقيقة وهو نقصان المقدار، ونقصانه في نفسه من رداءة أو غبن أو غيرهما،
نحو إقراره بالدراهم السود والحنطة الردية; فإن ذلك كله بخس من جهة
الحقيقة لاختلاف صفات المقبوض عنه، فلم يجز أن يتناول بعض الأجل الذي
ليس بحقيقة فيه بل هو مجاز لأن اللفظ متى أريد به الحقيقة انتفى دخول
المجاز فيه.
وفي هذه الآية دلالة على أن القول قول الطالب في الأجل; لأنه ابتدأ
الخطاب بقوله تعالى: {إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ
مُسَمّىً فَاكْتُبُوهُ} إلى قوله تعالى: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ
مِنْ رِجَالِكُمْ} اقتضى ذلك الإشهاد على المتداينين جميعا إذا كان
المال مؤجلا، فلو كان القول قول المطلوب في الأجل لما احتيج إلى
الإشهاد به على الطالب; وفي وجوب الإشهاد على الطالب بالتأجيل دلالة
على أن القول قوله وأن المطلوب غير مصدق عليه; إذ لو كان مصدقا فيه لما
بقي للإشهاد على الطالب موضع ولا معنى.
فإن قال قائل: إنما حكم الإشهاد مقصور على المطلوب دون الطالب. قيل له:
هذا خلاف مقتضى الآية; لأنه قال: {إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى
أَجَلٍ مُسَمّىً} ثم عطف عليه قوله تعالى: {وَاسْتَشْهِدُوا
شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} فخاطب المتداينين جميعا وأمرهما
بالاستشهاد، فلو جاز لقائل أن يقول: إن المطلوب مخصوص به، لجاز لآخر أن
يقول: هو مقصور على الطالب دون المطلوب; فلما لم يصح ذلك وجب بظاهر
الآية أن يكون الإشهاد عليهما جميعا وأن يكونا مندوبين إليه. وإذا ثبت
ذلك لم يكن للإشهاد على الطالب بالدين المؤجل حكم لأنه مقبول القول في
نفيه، دل ذلك على أن المرجع إلى قوله في الأجل، وإنما جعل الله الإملاء
إلى المطلوب إذا أحسن ذلك، وإن كان لو أملى غيره وأقر المطلوب به جاز;
لأنه أثبت في الإقرار وأذكر للشهود متى أرادوا أن يتذكروا الشهادة،
وكان الإملاء سببا للاستذكار كما أمر باستشهاد امرأتين لتذكر إحداهما
الأخرى; والله تعالى أعلم.
(1/590)
باب الحجر على السفيه
قال الله تعالى: {فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً
أَوْ ضَعِيفاً أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ
(1/590)
هُوَ
فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ} قد احتج كل فريق من موجبي الحجر
على السفيه ومن مبطليه بهذه الآية، فاحتج مثبتو الحجر للسفيه بقوله
تعالى: {فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً أَوْ
ضَعِيفاً أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ
وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ} فأجاز لولي السفيه الإملاء عنه. واحتج مبطلو
الحجر بما في مضمون الآية من جواز مداينة السفيه بقوله تعالى: {يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ
مُسَمّىً فَاكْتُبُوهُ} إلى قوله تعالى: {فَإِنْ كَانَ الَّذِي
عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً أَوْ ضَعِيفاً} فأجاز مداينة السفيه وحكم
بصحة إقراره في مداينته; وإنما خالف بينه وبين غيره في إملاء الكتاب
لقصور فهمه عن استيفاء ما له وعليه مما يقتضيه شرط الوثيقة. وقالوا: إن
قوله تعالى: {فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ} إنما المراد به ولي
الدين; وقد روي ذلك عن جماعة من السلف، قالوا: وغير جائز أن يكون
المراد ولي السفيه على معنى الحجر عليه وإقراره بالدين عليه لأن إقرار
ولي المحجور عليه غير جائز عليه عند أحد، فعلمنا أن المراد ولي الدين،
فأمر بإملاء الكتاب حتى يقر به المطلوب الذي عليه الدين.
قال أبو بكر اختلف السلف في السفيه المراد بالآية، فقال قائلون منهم:
"هو الصبي" روي ذلك عن الحسن في قوله تعالى: {وَلا تُؤْتُوا
السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ} قال: "الصبي والمرأة" وقال مجاهد:
"النساء". وقال الشعبي: "لا تعطى الجارية مالها وإن قرأت القرآن
والتوراة". وهذا محمول على التي لا تقوم بحفظ المال; لأنه لا خلاف أنها
إذا كانت ضابطة لأمرها حافظة لمالها دفع إليها إذا كانت بالغا قد دخل
بها زوجها. وقد روي عن عمر أنه قال: "لا تجوز لامرأة مملكة عطية حتى
تحبل في بيت زوجها حولا أو تلد بطنا" وروي عن الحسن مثله. وقال أبو
الشعثاء: "لا تجوز لامرأة عطية حتى تلد أو يؤنس رشدها" وعن إبراهيم
مثله. وهذا كله محمول على أنه لم يؤنس رشدها، لأنه لا خلاف أن هذا ليس
بحد في استحقاق دفع المال إليها لأنها لو أحالت حولا في بيت زوجها
وولدت بطونا وهي غير مؤنسة للرشد ولا ضابطة لأمرها لم يدفع إليها
مالها، فعلمنا أنهم إنما أرادوا ذلك فيمن لم يؤنس رشدها.
وقد ذكر الله تعالى السفه في مواضع: منها ما أراد به السفه في الدين،
وهو الجهل به، في قوله تعالى: {أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ}
[البقرة: 13] وقوله تعالى: {سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ}
[البقرة: 142] فهذا هو السفه في الدين، وهو الجهل والخفة، وقال تعالى:
{وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ} [النساء: 5] فمن الناس من
تأوله على أموالهم كما قال تعالى: {وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ}
[النساء: 29] يعني: لا يقتل بعضكم بعضا. وقال تعالى: {فَاقْتُلُوا
أَنْفُسَكُمْ} [البقرة: 54] والمعنى: ليقتل بعضكم بعضا. وهذا الذي
(1/591)
ذكره هذا
القائل عدول عن حقيقة اللفظ وظاهره بغير دلالة لأن قوله تعالى: {وَلا
تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ} [النساء: 5] يشتمل على فريقين من
الناس كل واحد منهما مميز في اللفظ من الآخر، وأحد الفريقين هم
المخاطبون بقوله تعالى: {وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ}
[النساء: 5] والفريق الآخر السفهاء المذكورون معهم، فلما قال تعالى:
{أَمْوَالَكُمُ} [النساء: 5] وجب أن ينصرف ذلك إلى أموال المخاطبين دون
السفهاء، وغير جائز أن يكون المراد السفهاء لأن السفهاء لم يتوجه
الخطاب إليهم بشيء وإنما توجه إلى العقلاء المخاطبين، وليس ذلك كقوله
تعالى: {فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} [البقرة: 54] وقوله تعالى: {وَلا
تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} [النساء: 29] لأن القاتلين والمقتولين قد
انتظمهم خطاب واحد لم يتميز أحد الفريقين من الآخر في حكم المخاطبة،
فلذلك جاز أن يكون المراد: فليقتل بعضكم بعضا.
وقد قيل أن أصل السفه الخفة، ومن ذلك قول الشاعر:
مشين كما اهتزت رماح تسفهت ... أعاليها مر الرياح النواسم
يعني: استخفتها الرياح. وقال آخر:
نخاف أن تسفه أحلامنا ... فنحمل الدهر مع الحامل
أي: تخف أحلامنا.
ويسمى الجاهل سفيها لأنه خفيف العقل ناقصه; فمعنى الجهل شامل لجميع من
أطلق عليه اسم السفيه. والسفيه في أمر الدين هو الجاهل فيه، والسفيه في
المال هو الجاهل لحفظه وتدبيره، والنساء والصبيان أطلق عليهم اسم
السفهاء لجهلهم ونقصان تمييزهم، والسفيه في رأيه الجاهل فيه والبذي
اللسان يسمى سفيها لأنه لا يكاد ينفق إلا في جهال الناس ومن كان خفيف
العقل منهم. وإذا كان اسم السفيه ينتظم هذه الوجوه رجعنا إلى مقتضى لفظ
الآية في قوله تعالى: {فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ
سَفِيهاً} فاحتمل أن يريد به الجهل بإملاء الشرط وإن كان عاقلا مميزا
غير مبذر ولا مفسد، وأجاز لولي الحق أن يمليه حتى يقر به السفيه الذي
عليه الحق، ويكون ذلك أولى بمعنى الآية; لأن الذي عليه الحق هو المذكور
في أول الآية بالمداينة، ولو كان محجورا عليه لما جازت مداينته. ومن
جهة أخرى أن ولي المحجور عليه لا يجوز إقراره عليه بالدين، وإنما يجوز
على قول من يرى الحجر أن يتصرف عليه القاضي ببيع أو شرى، فأما وليه فلا
نعلم أحدا يجيز تصرف أوليائه عليه ولا إقرارهم، وفي ذلك دليل على أنه
لم يرد ولي السفيه وإنما أراد ولي الدين. وقد روي ذلك عن الربيع بن أنس
وقاله الفراء أيضا.
(1/592)
وأما
قوله: {أَوْ ضَعِيفاً} فقد قيل فيه الضعيف في عقله أو الصبي المأذون
له; لأن ابتداء الآية قد اقتضى أن يكون الذي عليه الحق جائز المداينة
والتصرف فأجاز تصرف هؤلاء كلهم، فلما بلغ إلى حال إملاء الكتاب
والإشهاد ذكر من لا يكمل لذلك إما لجهل بالشروط أو لضعف عقل لا يحسن
معه الإملاء وإن لم يوجب نقصان عقله حجرا عليه، وإما لصغر أو لحرف وكبر
سن; لأن قوله تعالى: {أَوْ ضَعِيفاً} محتمل للأمرين وينتظمهما. وذكر
معهما من لا يستطيع أن يمل هو إما لمرض أو كبر سن انفلت لسانه عن
الإملاء أو لخرس; ذلك كله محتمل. وجائز أن تكون هذه الوجوه مرادة لله
تعالى لاحتمال اللفظ لها، وليس في شيء منها دلالة على أن السفيه يستحق
الحجر. وأيضا فلو كان بعض من يلحقه اسم السفيه يستحق الحجر لم يصح
الاستدلال بهذه الآية في إثبات الحجر وذلك لأنه قد ثبت أن السفه لفظ
مشترك ينطوي تحته معان مختلفة، منها: ما ذكرنا من السفه في الدين، وذلك
لا يستحق به الحجر لأن الكفار والمنافقين سفهاء وهم غير مستحقين للحجر
في أموالهم. ومنها: السفه الذي هو البذاء والتسرع إلى سوء اللفظ، وقد
يكون السفيه بهذا الضرب من السفه مصلحا لماله غير مفسده ولا مبذره;
وقال تعالى: {إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ} [البقرة: 130] قال أبو
عبيدة: يريد أهلكها وأوبقها. وروي عن عبد الله بن عمر حين قال للنبي
صلى الله عليه وسلم: إني أحب أن يكون رأسي دهينا وقميصي غسيلا وشراك
نعلي جديدا، أفمن الكبر هو يا رسول الله؟ قال: "لا إنما الكبر من سفه
الحق وغمط الناس" وهذا يشبه أن يريد: من جهل الحق لأن الجهل يسمى سفها
والله تعالى أعلم.
(1/593)
ذكر اختلاف فقهاء الأمصار في الحجر على السفيه
كان أبو حنيفة رضي الله عنه لا يرى الحجر على الحر البالغ العاقل لا
لسفه ولا لتبذير ولا لدين وإفلاس، وإن حجر عليه القاضي ثم أقر بدين أو
تصرف في ماله ببيع أو هبة أو غيرهما جاز تصرفه وإن لم يؤنس منه رشد
فكان فاسدا ويحال بينه وبين ماله، ومع ذلك إن أقر به لإنسان أو باعه
جاز ما صنع من ذلك; وإنما يمنع من ماله ما لم يبلغ خمسا وعشرين سنة،
فإذا بلغها دفع إليه ماله وإن لم يؤنس منه رشد. وقول عبيد الله بن
الحسن في الحجر كقول أبي حنيفة. وروى شعبة عن مغيرة عن إبراهيم قال:
"لا يحجر على حر". وروى ابن عون عن محمد بن سيرين قال: "لا يحجر على حر
إنما يحجر على العبد"، وعن الحسن البصري مثل ذلك. وقال أبو يوسف: "إذا
كان سفيها حجرت عليه وإذا فلسته وحبسته حجرت عليه، ولم أجز بيعه ولا
شراءه ولا إقراره بدين إلا ببينة تشهد به عليه أنه كان قبل الحجر".
وذكر الطحاوي عن ابن أبي عمران عن ابن سماعة
(1/593)
عن محمد
في الحجر بمثل قول أبي يوسف فيه، ومزيد عليه أنه إذا صار في الحال التي
يستحق معها الحجر صار محجورا عليه حجر القاضي عليه مع ذلك أو لم يحجر.
وكان أبو يوسف يقول: "لا يكون محجورا عليه بحدوث هذه الأحوال فيه حتى
يحجر القاضي عليه فيكون بذلك محجورا عليه". وقال محمد: "إذا بلغ ولم
يؤنس منه رشد لم يدفع إليه ماله ولم يجز بيعه ولا هبته وكان بمنزلة من
لم يبلغ، فما باع أو اشترى نظر الحاكم فيه فإن رأى إجازته أجازه، وهو
ما لم يؤنس منه رشد بمنزلة الصبي الذي لم يبلغ إلا أنه يجوز لوصي الأب
أن يشتري ويبيع على الذي لم يبلغ ولا يجوز أن يبيع ويشتري على الذي بلغ
بأمر الحاكم" وذكر ابن عبد الحكم وابن القاسم عن مالك قال: "ومن أراد
الحجر على موليه فليحجر عليه عند السلطان حتى يوقفه للناس ويسمع منه في
مجلسه ويشهد على ذلك، ويرد بعد ذلك ما بويع وما أدان به السفيه، فلا
يلحقه ذلك إذا صلحت حاله وهو مخالف للعبد، وإن مات المولى عليه وقد
ادان فلا يقضى عنه وهو في موته بمنزلته في حياته إلا أن يوصي بذلك في
ثلثه فيكون ذلك له; وإذا بلغ الولد فله أن يخرج عن أبيه وإن كان أبوه
شيخا ضعيفا إلا أن يكون الابن مولى عليه أو سفيها أو ضعيفا في عقله فلا
يكون له ذلك". وقال الفريابي عن الثوري في قوله تعالى: {وَابْتَلُوا
الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ
مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} [النساء: 6]
قال: "العقل والحفظ لماله" وكان يقول: "إذا اجتمع فيه خصلتان إذا بلغ
الحلم وكان حافظا لماله لا يخدع عنه". وحكى المزني عن الشافعي في
مختصره قال: "وإنما أمر الله بدفع أموال اليتامى بأمرين لم يدفع إلا
بهما، وهما البلوغ والرشد، والرشد الصلاح في الدين بكون الشهادة جائزة
مع إصلاح المال، والمرأة إذا أونس منها الرشد دفع إليها مالها تزوجت أو
لم تتزوج، كالغلام نكح أو لم ينكح; لأن الله تعالى سوى بينهما ولم يذكر
تزويجا; وإذا حجر عليه الإمام في سفهه وإفساده ماله أشهد على ذلك، فمن
بايعه بعد الحجر فهو المتلف لماله، ومتى أطلق عنه الحجر ثم عاد إلى حال
الحجر حجر عليه، ومتى رجع إلى حال الإطلاق أطلق عنه".
قال أبو بكر: قد بينا ما احتج به كل فريق من مبطلي الحجر ومن مثبتيه من
دلالة آية الدين، وقد بينا أن الأظهر من دلالتها بطلان الحجر وجواز
التصرف. واحتج مثبتو الحجر بما روى هشام بن عروة عن أبيه: أن عبد الله
بن جعفر أتى الزبير فقال: إني ابتعت بيعا ثم إن عليا يريد أن يحجر علي.
فقال الزبير: فإني شريكك في البيع فأتى علي عثمان فسأله أن يحجر على
عبد الله بن جعفر، فقال الزبير: أنا شريكه في هذا البيع، فقال عثمان:
كيف أحجر على رجل شريكه الزبير قالوا: فهذا يدل على أنهم
(1/594)
جميعا قد
رأوا الحجر جائزا، ومشاركة الزبير ليدفع الحجر عنه، وكان ذلك بمحضر من
الصحابة من غير خلاف ظهر من غيرهم عليهم.
قال أبو بكر: لا دلالة في ذلك على أن الزبير رأى الحجر، وإنما يدل ذلك
على تسويغه لعثمان الحجر، وليس فيه ما يدل على موافقته إياه فيه; وذلك
لأن هذا حكم سائر المسائل المختلف فيها من مسائل الاجتهاد. وأيضا فإن
الحجر على وجهين: أحدهما: الحجر في منع التصرف والإقرار، والآخر: في
المنع من المال; وجائز أن يكون الحجر الذي رآه عثمان وعلي هو المنع من
ماله; لأنه جائز أن لا يكون سن عبد الله بن جعفر في ذلك الوقت خمسا
وعشرين سنة، وأبو حنيفة يرى أن لا يدفع إليه ماله قبل بلوغ هذه السن
إذا لم يؤنس منه رشد; وهذا عبد الله بن جعفر هو من الصحابة وقد أبى
الحجر، فكيف يدعى فيه اتفاق الصحابة؟ ويحتجون أيضا بما روى الزهري عن
عروة عن عائشة: أنه بلغها أن ابن الزبير بلغه أنها باعت بعض رباعها
فقال: لتنتهين وإلا حجرت عليها فبلغها ذلك فقالت: لله علي أن لا أكلمه
أبدا قالوا: فهذا يدل على أن ابن الزبير وعائشة قد رأيا الحجر، إلا
أنها أنكرت عليه أن تكون هي من أهل الحجر; فلولا ذلك لبينت أن الحجر لا
يجوز ولردت عليه قوله.
قال أبو بكر: قد ظهر النكير منها في الحجر، وهذا يدل على أنها لم تر
الحجر جائزا، لولا ذلك لما أنكرته إن كان ذلك شيئا يسوغ فيه الاجتهاد.
وما ظهر منها من النكير يدل على أنها كانت لا تسوغ الاجتهاد في جواز
الحجر.
فإن قيل: إنما لم تسوغ الاجتهاد في الحجر عليها فأما في الحجر مطلقا
فلا، ولو كانت لا تسوغ الاجتهاد في جواز الحجر لقالت "إن الحجر غير
جائز" فتكتفي بذلك في إنكارها الحجر عليها. قيل له: قد أنكرت الحجر على
الإطلاق بقولها "لله علي أن لا أكلمه أبدا" ودعواك أنها أنكرت الحجر
عليها خاصة دون إنكارها لأصل الحجر لا دلالة معها.
ومما يدل على بطلان الحجر ما حدثنا به محمد بن بكر قال: حدثنا أبو داود
قال: حدثنا القعنبي، عن مالك، عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر: أن
رجلا ذكر لرسول الله صلى الله عليه وسلم أنه يخدع في البيع، فقال النبي
صلى الله عليه وسلم: "إذا بايعت فقل لا خلابة" فكان الرجل إذا بايع
يقول: لا خلابة. وحدثنا محمد بن بكر قال: حدثنا أبو داود قال: حدثنا
محمد بن عبد الله الأزدي وإبراهيم بن خالد أبو ثور الكلبي قال: حدثنا
عبد الوهاب قال محمد: عبد الوهاب بن عطاء قال: أخبرني سعيد عن قتادة عن
أنس بن مالك: أن رجلا على عهد
(1/595)
رسول الله
صلى الله عليه وسلم كان يبتاع وفي عقدته ضعف، فأتى به أهله نبي الله
صلى الله عليه وسلم، فقالوا: يا نبي الله احجر على فلان فإنه يبتاع وفي
عقدته ضعف فدعاه النبي صلى الله عليه وسلم فنهاه عن البيع، فقال: يا
نبي الله إني لا أصبر عن البيع، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"إن كنت غير تارك البيع فقل ها وها ولا خلابة". فذكر في الحديث الأول
أنه كان يخدع في البيع، فلم يمنع من التصرف ولم يحجر عليه، ولو كان
الحجر واجبا لما تركه النبي صلى الله عليه وسلم والبيع وهو مستحق المنع
منه.
فإن قال قائل فقد قال له النبي صلى الله عليه وسلم: "إذا بايعت فقل لا
خلابة" فإنما أجاز له البيع على شريطة استيفاء البدل من غير معاينة.
قيل له: فليرض القائلون بالحجر منا على ما رضيه النبي صلى الله عليه
وسلم لهذا السفيه الذي كان يخدع في البيع; وليس أحد من الفقهاء يشترط
ذلك على السفهاء لا من القائلين بالحجر ولا من نفاته; لأن من يرى الحجر
يقول: "يحجر عليه الحاكم ويمنعه من التصرف" ولا يرون إطلاق التصرف له
مع التقدمة إليه بأن يقول عند البيع "لا خلابة" ومبطلو الحجر يجيزون
تصرفه على سائر الأحوال فقد ثبت بدلالة هذا الخبر بطلان الحجر على
السفيه بعد أن يكون عاقلا. وأيضا فإن جازت الثقة به في ضبط هذا الشرط
وذكره عند سائر المبايعات فقد تجوز الثقة به في ضبط عقود المبايعات
ونفي المغابنات عنها. واللفظ الذي في هذا الخبر من قوله: "إذا بايعت
فقل لا خلابة" يستقيم على مذهب محمد، فإنه يقول: "إن السفيه إذا بلغ
فرفع أمره إلى الحاكم أجاز من عقوده ما لم تكن فيه مغابنة وضرر" فأما
سائر من يرى الحجر فإنه لا يعتبر ذلك.
قال أبو بكر: ويجوز أن يقال إن مذهب محمد أيضا مخالف للأثر; لأن محمدا
لا يجيز بيع المحجور عليه إلا أن يرفع إلى القاضي فيجيزه فيجعله بيعا
موقوفا كبيع أجنبي لو باع عليه بغير أمره، والنبي؟ صلى الله عليه وسلم
لم يجعل بيع الرجل الذي قال له: "إذا بايعت فقل لا خلابة" موقوفا، بل
جعله جائزا نافذا إذا قال: "لا خلابة" فصار مذهب مثبتي الحجر مخالفا
لهذا الأثر. وأما حديث أنس فإنه يحتج به الفريقان جميعا; فأما مثبتو
الحجر فإنهم يحتجون بأن أهله أتوا النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا
نبي الله احجر على فلان فإنه يبتاع وفي عقدته ضعف فلم ينكره عليهم، بل
نهاه عن البيع; ولما قال: "لا أصبر عن البيع" قال: "إذا بايعت فقل لا
خلابة" فأطلق له البيع على شريطة نفي التغابن فيه. وأما مبطلوه فإنهم
يستدلون بأنه لما قال "إني لا أصبر عن البيع" أطلق له النبي صلى الله
عليه وسلم التصرف وقال له: "إذا بعت فقل لا خلابة" فلو كان الحجر واجبا
لما كان قوله "لا أصبر عن البيع" مزيلا للحجر عنه; لأن أحدا من موجبي
الحجر لا يرفع الحجر عنه لفقد صبره عن البيع، وكما أن الصبي والمجنون
المستحقين للحجر عند الجميع لو قالا "لا نصبر عن البيع" لم يكن هذا
القول منهما مزيلا للحجر عنهما، ولما قيل لهما "إذا بايعتما فقولا لا
خلابة". وفي
(1/596)
إطلاق
النبي صلى الله عليه وسلم له التصرف على الشريطة التي ذكرها دلالة على
أن الحجر غير واجب، وأن نهي النبي صلى الله عليه وسلم له بديا عن البيع
وقوله: "فقل لا خلابة" على وجه النظر له والاحتياط لماله، كما تقول لمن
يريد التجارة في البحر أو في طريق مخوف: "لا تغرر بمالك واحفظه" وما
جرى مجرى ذلك; وليس هذا بحجر، وإنما هو مشورة وحسن نظر. ومما يدل على
بطلان الحجر أنهم لا يختلفون أن السفيه يجوز إقراره بما يوجب الحد
والقصاص، وذلك مما تسقطه الشبهة، فوجب أن يكون إقراره بحقوق الآدميين
التي لا تسقطها الشبهة أولى.
فإن قال قائل: المريض جائز الإقرار بما يوجب الحد والقصاص ولا يجوز
إقراره ولا هبته إذا كان عليه دين يحيط بماله، فليس جواز الإقرار بالحد
والقصاص أصلا للإقرار بالمال والتصرف فيه. قيل له: إن إقرار المريض
عندنا بجميع ذلك جائز، وإنما نبطله إذا اتصل بمرضه الموت لأن تصرفه
مراعى معتبر بالموت، فإذا مات صار تصرفه واقعا في حق الغير الذي هو
أولى منه به وهم الغرماء والورثة، فأما تصرفه في الحال فهو جائز ما لم
يطرأ الموت; ألا ترى أنا لا نفسخ هبته ولا نوجب السعاية على من أعتقه
من عبيده حتى يحدث الموت؟ فإقراره بالحد والقصاص والمال غير متفرقين في
حال الحياة.
ومما يحتج به مثبتو الحجر قوله تعالى: {وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً}
[الإسراء: 26] وقوله تعالى: {وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى
عُنُقِكَ} [الإسراء: 29] الآية. فإذا كان التبذير مذموما منهيا عنه،
وجب على الإمام المنع منه، وذلك بأن يحجر عليه ويمنعه التصرف في ماله;
وكذلك نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن إضاعة المال يقتضي منعه عن
إضاعته بالحجر عليه. وهذا لا دلالة فيه على الحجر لأنا نقول: إن
التبذير محظور وينهى فاعله عنه، وليس في النهي عن التبذير ما يوجب
الحجر لأنه إنما ينبغي أن يمنعه التبذير فأما أن يمنعه من التصرف في
ماله ويبطل بياعاته وإقراره وسائر وجوه تصرفه فإن هذا الموضع هو الذي
فيه الخلاف بيننا وبين خصومنا، وليس في الآية ما يوجب المنع من شيء منه
وذلك لأن الإقرار نفسه ليس من التبذير في شيء; لأنه لو كان مبذرا لوجب
منع سائر المقرين من إقرارهم. وكذلك البيع بالمحاباة لا تبذير فيه لأنه
لو كان مبذرا لوجب أن ينهى عنه سائر الناس; وكذلك الهبة والصدقة. وإذا
كان كذلك فالذي تقتضيه الآية النهي عن التبذير وذم فاعله، فكيف يجوز
الاستدلال بها على الحجر في العقود التي لا تبذير فيها؟ وقد يصح
الاستدلال لمحمد لأنه يجيز من عقوده ما لا محاباة فيه ولا إتلاف لماله،
إلا أن الذي في الآية إنما هو ذم المبذرين والنهي عن التبذير، ومن ينفي
الحجر يقول إن التبذير مذموم منهي عن فعله، فأما الحجر ومنع التصرف
فليس في الآية إيجابه. ألا ترى أن الإنسان
(1/597)
منهي عن
التغرير بماله في البحر وفي الطريق المخوفة ولا يمنعه الحاكم منه على
وجه الحجر عليه؟ ولو أن إنسانا ترك نخله وشجره وزرعه لا يسقيها وترك
عقاره ودوره لا يعمرها لم يكن للإمام أن يجبره على الإنفاق عليها لئلا
يتلف ماله؟ كذلك لا يحجر عليه في عقوده التي يخاف فيها توى ماله. وكذلك
نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن إضاعة المال لا دلالة فيه على الحجر
كما بيناه في التبذير.
ومما يدل على بطلان الحجر وجواز تصرف المحجور عليه، أن العاقل البالغ
إذا ظهر منه سفه وتبذير فإن الفقهاء الذين تقدم ذكر أقاويلهم من موجبي
الحجر ما خلا محمد بن الحسن يقول: إذا حجر عليه القاضي بطل من عقوده
وإقراره ما كان بعد الحجر، وإذا كان جائز التصرف قبل حجر القاضي فمعنى
الحجر حينئذ أني قد أبطلت ما يعقده أو ما يقر به في المستقبل. وهذا لا
يصح; لأن فيه فسخ عقد لم يوجد بعد، بمنزلة من قال لرجل: "كل بيع بعتنيه
وعقد عاقدتنيه فقد فسخته" أو "كل خيار بشريطة لي في البيع فقد أبطلته"
أو تقول امرأة: "كل أمر تجعله إلي في المستقبل فقد أبطلته" فهذا باطل
لا يجوز فسخ العقود الموجودة في المستقبل.
ومما يلزم أبا يوسف ومحمدا في هذا أنهما يجيزان تزويجه بعد الحجر بمهر
المثل وفي ذلك إبطال الحجر; لأنه إن كان الحجر واجبا لئلا يتلف ماله
فإنه قد يصل إلى إتلافه بالتزويج وذلك بأن يتزوج امرأة بمقدار مهر
مثلها ثم يطلقها قبل الدخول فيلزمه نصف المهر، ثم لا يزال يفعل ذلك حتى
يتلف ماله; فليس إذا في هذا الحجر احتراز من إتلاف المال.
وأما اشتراط الشافعي في إيناس الرشد واستحقاق دفع المال جواز الشهادة،
فإنه قول لم يسبقه إليه أحد، ويجب على هذا أن لا يجيز إقرارات الفساق
عند الحكام على أنفسهم وأن لا يجيز بيوعهم ولا أشريتهم، وينبغي للشهود
أن لا يشهدوا على بيع من لم تثبت عدالته، وأن لا يقبل القاضي من مدع
دعواه حتى تثبت عدالته، ولا يقبل عليه دعوى المدعى عليه حتى يصح عنده
جواز شهادته; إذ لا يجوز عنده إقرار من ليس على صفة العدالة وجواز
الشهادة ولا عقوده وهو محجور عليه; وهذا خلاف الإجماع. ولم يزل الناس
منذ عصر النبي صلى الله عليه وسلم إلى يومنا هذا يتخاصمون في الحقوق،
فلم يقل النبي صلى الله عليه وسلم ولا أحد من السلف: لا أقبل دعاويكم
ولا أسأل أحدا عن دعوى غيره إلا بعد ثبوت عدالته. وقد قال الحضرمي الذي
خاصم إلى النبي صلى الله عليه وسلم إنه رجل فاجر بحضرته، ولم يبطل
النبي صلى الله عليه وسلم خصومته ولا سأل عن حاله; وهو ما حدثنا محمد
بن بكر قال: حدثنا أبو داود قال: حدثنا هناد قال: حدثنا أبو الأحوص، عن
سماك، عن علقمة بن وائل الحضرمي،
(1/598)
عن أبيه
قال: جاء رجل من حضرموت ورجل من كندة إلى النبي صلى الله عليه وسلم
فقال الحضرمي: يا رسول الله إن هذا غلبني على أرض كانت لأبي; فقال
الكندي: هي أرضي في يدي أزرعها ليس له فيها حق. فقال النبي صلى الله
عليه وسلم للحضرمي: "ألك بينة؟" قال: لا. قال: "فلك يمينه" فقال: يا
رسول الله إنه فاجر ليس يبالي ما حلف ليس يتورع من شيء، فقال: "ليس لك
منه إلا ذلك". فلو كان الفجور يوجب الحجر لسأل صلى الله عليه وسلم عن
حاله أو لأبطل خصومته لإقرار الخصم بأنه محجور عليه غير جائز الخصومة.
ولا خلاف بين الفقهاء أن المسلمين والكفار سواء في جواز التصرف في
الأملاك ونفاذ العقود والإقرارات، والكفر أعظم الفسوق وهو غير موجب
للحجر، فكيف يوجبه الفسق الذي هو دونه؟ وهذا ما لا خلاف فيه بين
الفقهاء أن المسلمين والكفار سواء في جواز التصرف والأملاك ونفاذ
العقود.
قوله عز وجل: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} قال أبو
بكر: لما كان ابتداء الخطاب للمؤمنين في قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ} ثم عطف عليه قوله
تعالى: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} دل ذلك على
معنيين: أحدهما أن يكون من صفة الشهود; لأن الخطاب توجه إليهم بصفة
الإيمان; ولما قال في نسق الخطاب: {مِنْ رِجَالِكُمْ} كان كقوله من
رجال المؤمنين، فاقتضى ذلك كون الإيمان شرطا في الشهادة على المسلمين.
والمعنى الآخر: الحرية وذلك لما في فحوى الخطاب من الدلالة من وجهين:
أحدهما قوله تعالى: {إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ} إلى قوله تعالى:
{وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ} وذلك في الأحرار دون العبيد;
والدليل عليه أن العبد لا يملك عقود المداينات وإذا أقر بشيء لم يجز
إقراره إلا بإذن مولاه، والخطاب إنما توجه إلى من يملك ذلك على الإطلاق
من غير إذن الغير، فدل ذلك على أن من شرط هذه الشهادة الحرية. والمعنى
الآخر من دلالة الخطاب: قوله تعالى: {مِنْ رِجَالِكُمْ} فظاهر هذا
اللفظ يقتضي الإحراز، كقوله تعالى: {وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى
مِنْكُمْ} [النور: 32] يعني الأحرار، ألا ترى أنه عطف عليه قوله تعالى:
{وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ} فلم يدخل العبيد في
قوله تعالى: {مِنْكُمْ}؟ وفي ذلك دليل على أن من شرط هذه الشهادة
الإسلام والحرية جميعا، وأن شهادة العبد غير جائزة; لأن أوامر الله
تعالى على الوجوب وقد أمر باستشهاد الأحرار فلا يجوز غيرهم. وقد روي عن
مجاهد في قوله تعالى: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ}
قال: "الأحرار".
فإن قيل: إن ما ذكرت إنما يدل على أن العبد غير داخل في الآية ولا
دلالة فيها على بطلان شهادته. قيل له: لما ثبت بفحوى خطاب الآية أن
المراد بها الأحرار. وكان قوله تعالى: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ
مِنْ رِجَالِكُمْ} أمرا مقتضيا للإيجاب، وكان بمنزلة
(1/599)
قوله
تعالى: "واستشهدوا رجلين من الأحرار" فغير جائز لأحد إسقاط شرط الحرية;
لأنه لو جاز ذلك لجاز إسقاط العدد; وفي ذلك دليل على أن الآية قد تضمنت
بطلان شهادة العبيد.
واختلف أهل العلم في شهادة العبيد، فروى قتادة عن الحسن عن علي قال:
"شهادة الصبي على الصبي والعبد على العبد جائزة". وحدثنا عبد الرحمن بن
سيما قال: حدثنا عبد الله بن أحمد قال: حدثني أبي قال: حدثنا عبد
الرحمن بن همام قال: سمعت قتادة يحدث "أن عليا رضي الله عنه كان يستثبت
الصبيان 1 في الشهادة" وهذا يوهن الحديث الأول. وروى حفص بن غياث عن
المختار بن فلفل عن أنس قال: "ما أعلم أحدا رد شهادة العبد". وقال
عثمان البتي: "تجوز شهادة العبد لغير سيده". وذكر أن ابن شبرمة كان
يراها جائزة، يأثر ذلك عن شريح. وكان ابن أبي ليلى لا يقبل شهادة
العبيد، وظهرت الخوارج على الكوفة وهو يتولى القضاء بها، فأمروه بقبول
شهادة العبيد وبأشياء ذكروها له من آرائهم كان على خلافها، فأجابهم إلى
امتثالها فأقروه على القضاء، فلما كان في الليل ركب راحلته ولحق بمكة;
ولما جاءت الدولة الهاشمية ردوه إلى ما كان عليه من القضاء على أهل
الكوفة. وقال الزهري عن سعيد بن المسيب قال: "قضى عثمان بن عفان أن
شهادة المملوك جائزة بعد العتق إذا لم تكن ردت قبل ذلك". وروى شعبة عن
المغيرة قال: "كان إبراهيم يجيز شهادة المملوك في الشيء التافه". وروى
شعبة أيضا عن يونس عن الحسن مثله. وروي عن الحسن أنها لا تجوز. وروي عن
حفص عن حجاج عن عطاء عن ابن عباس قال: "لا تجوز شهادة العبد". وقال أبو
حنيفة وأبو يوسف ومحمد وزفر وابن شبرمة في إحدى الروايتين ومالك والحسن
بن صالح والشافعي: "لا تقبل شهادة العبيد في شيء".
قال أبو بكر: وقد قدمنا ذكر الدلالة من الآية على أن الشهادة المذكورة
فيها مخصوصة بالأحرار دون العبيد، ومما يدل من الآية على نفي شهادة
العبد قوله تعالى: {وَلا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا} فقال
بعضهم: إذا دعي فليشهد، وقال بعضهم: إذا كان قد أشهد، وقال بعضهم: هو
واجب في الحالين. والعبد ممنوع من الإجابة لحق المولى وخدمته وهو لا
يملك الإجابة، فدل أنه غير مأمور بالشهادة; ألا ترى أنه ليس له أن
يشتغل عن خدمة مولاه بقراءة الكتاب وإملائه والشهادة؟ ولما لم يدخل في
خطاب الحج والجمعة لحق المولى فكذلك الشهادة; إذ كانت الشهادة غير
متعينة على الشهداء وإنما
ـــــــ
1 قوله "يستثبت الصبيان" أي يسألهم ويستعلم منهم فليس المراد استشهادهم
ولذلك قال المصنف وهذا يوهن الحديث الأول "لمصححه".
(1/600)
هي فرض
كفاية، وفرض الجمعة والحج يتعين على كل أحد في نفسه، فلما لم يلزمه فرض
الحج والجمعة مع الإمكان لحق المولى فهو أولى أن لا يكون من أهل
الشهادة لحق المولى. ومما يدل على ذلك أيضا قوله تعالى: {وَأَقِيمُوا
الشَّهَادَةَ لِلَّهِ} [الطلاق: 2] وقال أيضا: {كُونُوا قَوَّامِينَ
بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ} إلى قوله تعالى: {فَلا تَتَّبِعُوا
الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا} [النساء: 135] فجعل الحاكم شاهدا لله كما
جعل سائر الشهود شهداء لله بقوله تعالى: {وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ
لِلَّهِ} [الطلاق: 2] فلما لم يجز أن يكون العبد حاكما، لم يجز أن يكون
شاهدا; إذ كان كل واحد من الحاكم والشاهد به ينفذ الحكم ويثبت.
ومما يدل على بطلان شهادة العبد قوله تعالى: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً
عَبْداً مَمْلُوكاً لا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ} [النحل: 75] وذلك لأنه
معلوم أنه لم يرد به نفي القدرة; لأن الرق والحرية لا تختلف بهما
القدرة، فدل على أن مراده نفي حكم أقواله وعقوده وتصرفه وملكه، ألا ترى
أنه جعل ذلك مثلا للأصنام التي كانت تعبدها العرب على وجه المبالغة في
نفي الملك والتصرف وبطلان أحكام أقواله فيما يتعلق بحقوق العباد؟ وقد
روي عن ابن عباس أنه استدل بهذه الآية على أن العبد لا يملك الطلاق،
ولولا احتمال اللفظ لذلك لما تأوله ابن عباس عليه، فدل ذلك على أن
شهادة العبد كلا شهادة كعقده وإقراره وسائر تصرفاته التي هي من جهة
القول، فلما كانت شهادة العبد قوله وجب أن ينتفي وجوب حكمه بظاهر
الآية.
ومما يدل على بطلان شهادة العبيد أن الشهادة فرض على الكفاية كالجهاد،
فلما لم يكن العبد من أهل الخطاب بالجهاد، ولو حضره وقاتل لم يسهم له،
وجب أن لا يكون من أهل الخطاب بالشهادة، ومتى شهد لم تقبل شهادته ولم
يكن له حكم الشهود، كما لم يثبت له حكم وإن شهد القتال في استحقاق
السهم. ويدل عليه أنه لو كان من أهل الشهادة لوجب أن لو شهد بها فحكم
بشهادته ثم رجع عنها أنه يلزمه غرم ما شهد به; لأن ذلك من حكم الشهادة
كما أن نفاذ الحكم بها إذا أنفذها الحاكم من حكمها، فلما لم يجز أن
يلزمه الغرم بالرجوع علمنا أنه ليس من أهلها وأن الحكم بشهادته غير
جائز. وأيضا فإنا وجدنا ميراث الأنثى على النصف من ميراث الذكر، وجعلت
شهادة امرأتين بشهادة رجل، فكانت شهادة المرأة نصف شهادة الرجل
وميراثها نصف ميراثه، فوجب أن يكون العبد من حيث لم يكن من أهل الميراث
رأسا أن لا يكون من أهل الشهادة; لأنا وجدنا لنقصان الميراث تأثيرا في
نقصان الشهادة، فوجب أن يكون نفي الميراث موجبا لنفي الشهادة. وما روي
عن علي بن أبي طالب في جواز شهادة العبد فإنه لا يصح من طريق النقل،
ولو صح كان مخصوصا في العبد إذا شهد على العبد; ولا نعلم خلافا بين
الفقهاء أن العبد والحر سواء فيما تجوز الشهادة فيه.
(1/601)
فإن قيل:
لما كان خبر العبد مقبولا إذا رواه عن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن
رقه مانعا من قبول خبره كذلك لا يمنع من قبول شهادته. قيل له: ليس
الخبر أصلا للشهادة فلا يجوز اعتبارها به، ألا ترى أن خبر الواحد مقبول
في الأحكام ولا تجوز شهادة الواحد فيها؟ وأنه يقبل فيه فلان عن فلان
ولا يقبل في الشهادة إلا على جهة الشهادة على الشهادة؟ وأنه يجوز قبول
خبره إذا قال "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم" ولا تجوز شهادة
الشاهد إلا أن يأتي بلفظ الشهادة والسماع والمعاينة لما يشهد به؟ فإن
الرجل والمرأة متساويان في الأخبار مختلفان في الشهادة لأن شهادة
امرأتين بشهادة رجل وخبر الرجل والمرأة سواء، فلا يجوز الاستدلال بقبول
خبر العبد على قبول شهادته. قال أبو بكر: قال محمد بن الحسن: "لو أن
حاكما حكم بشهادة عبد ثم رفع إلي أبطلت حكمه; لأن ذلك مما أجمع الفقهاء
على بطلانه".
وقد اختلف الفقهاء في شهادة الصبيان، فقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد
وزفر: "لا تجوز شهادة الصبيان في شيء" وهو قول ابن شبرمة والثوري
والشافعي. وقال ابن أبي ليلى: "تجوز شهادة بعضهم على بعض". وقال مالك:
"تجوز شهادة الصبيان فيما بينهم في الجراح ولا تجوز على غيرهم، وإنما
تجوز بينهم في الجراح وحدها قبل أن يتفرقوا ويجيئوا ويعلموا، فإن
افترقوا فلا شهادة لهم إلا أن يكونوا قد أشهدوا على شهادتهم قبل أن
يتفرقوا، وإنما تجوز شهادة الأحرار الذكور منهم ولا تجوز شهادة الجواري
من الصبيان والأحرار".
قال أبو بكر: روي عن ابن عباس وعثمان وابن الزبير إبطال شهادة الصبيان،
وروي عن علي إبطال شهادة بعضهم على بعض، وعن عطاء مثله. وروى عبد الله
بن أبي ثابت قال: قيل للشعبي: إن إياس بن معاوية لا يرى بشهادة الصبيان
بأسا فقال الشعبي: حدثني مسروق أنه كان عند علي كرم الله وجهه; إذ جاءه
خمسة غلمة فقالوا: كنا ستة نتغاط في الماء فغرق منا غلام، فشهد الثلاثة
على الاثنين أنهما غرقاه وشهد الاثنان أن الثلاثة غرقوه، فجعل على
الاثنين ثلاثة أخماس الدية وعلى الثلاثة خمسي الدية. إلا أن عبد الله
بن حبيب غير مقبول الحديث عند أهل العلم; ومع ذلك فإن معنى الحديث
مستحيل لا يصدق مثله عن علي رضي الله عنه لأن أولياء الفريق إن ادعوا
على أحد الفريقين فقد أكذبوهم في شهادتهم على غيرهم، وإن ادعوا عليهم
كلهم فهم يكذبون الفريقين جميعا; فهذا غير ثابت عن علي كرم الله وجهه.
ومما يدل على بطلان شهادة الصبيان قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً} وذلك
خطاب للرجال البالغين لأن الصبيان لا يملكون عقود
(1/602)
المداينات، وكذلك قوله تعالى: {وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ
الْحَقُّ} لم يدخل فيه الصبي لأن إقراره لا يجوز; وكذلك قوله:
{وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً} لا يصح أن
يكون خطابا للصبي لأنه ليس من أهل التكليف فيلحقه الوعيد. ثم قوله:
{وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} وليس الصبيان من
رجالنا; ولما كان ابتداء الخطاب بذكر البالغين كان قوله: {مِنْ
رِجَالِكُمْ} عائدا عليهم، ثم قوله: {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ
الشُّهَدَاءِ} يمنع أيضا جواز شهادة الصبي، وكذلك قوله: {وَلا يَأْبَ
الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا} هو نهي وللصبي أن يأبى من إقامة
الشهادة وليس للمدعي إحضاره لها. ثم قوله: {وَلا تَكْتُمُوا
الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ} غير جائز
أن يكون خطابا للصغار فلا يلحقهم المأثم بكتمانها، ولما لم يجز أن
يلحقه ضمان بالرجوع دل على أنه ليس من أهل الشهادة لأن كل من صحت
شهادته لزمه الضمان عند الرجوع. وأما إجازة شهادتهم في الجراح خاصة
وقبل أن يتفرقوا ويجيئوا، فإنه تحكم بلا دلالة وتفرقة بين من لا فرق
فيه في أثر ولا نظر; لأن في الأصول أن كل من جازت شهادته في الجراح فهي
جائزة في غيرها. وأما اعتبار حالهم قبل أن يتفرقوا ويجيئوا فإنه لا
معنى له لأنه جائز أن يكون هؤلاء الشهود هم الجناة ويكون الذي حملهم
على الشهادة الخوف من أن يؤاخذوا به، وهذا معلوم من عادة الصبيان إذا
كان منهم جناية أحالته بها على غيره خوفا من أن يؤاخذ بها. وأيضا لما
شرط الله في الشهادة العدالة وأوعد شاهد الزور ما أوعده به ومنع من
قبول شهادة الفساق ومن لا يزع عن الكذب احتياطا لأمر الشهادة، فكيف
تجوز شهادة من هو غير مأخوذ بكذبه وليس له حاجز عن الكذب ولا حياء
يردعه ولا مروءة تمنعه؟ وقد يضرب الناس المثل بكذب الصبيان فيقولون:
"هذا أكذب من صبي" فكيف يجوز قبول شهادة من هذا حاله؟ فإن كان إنما
اعتبر حالهم قبل تفرقهم وقبل أن يعلمهم غيرهم لأنه لا يتعمد الكذب دون
تلقين غيره; فليس ذلك كما ظن لأنهم يتعمدون الكذب من غير مانع يمنعهم
وهم يعرفون الكذب كما يعرفون الصدق إذا كانوا قد بلغوا الحد الذي
يقومون بمعنى الشهادة والعبارة عما شهدوا; وقد يتعمدون الكذب لأسباب
عارضة، منها: خوفهم من أن تنسب إليهم الجناية، أو قصدا للمشهود عليه
بالمكروه، ومعاني غير ذلك معلومة من أحوالهم، فليس لأحد أن يحكم لهم
بصدق الشهادة قبل أن يتفرقوا، كما لا يحكم لهم بذلك بعد التفرق. وعلى
أنه لو كان كذلك وكان العلم حاصلا بأنهم لا يكذبون ولا يتعمدون لشهادة
الزور، فينبغي أن تقبل شهادة الإناث كما تقبل شهادة الذكور، وتقبل
شهادة الواحد كما تقبل شهادة الجماعة; فإذا اعتبر العدد في ذلك وما يجب
اعتباره في الشهادة من اختصاصها في الجراح بالذكور دون الإناث، فواجب
أن
(1/603)
يستوفى
لها سائر شروطها من البلوغ والعدالة. ومن حيث أجازوا شهادة بعضهم على
بعض، فواجب إجازتها على الرجال لأن شهادة بعضهم على بعض ليست بآكد منها
على الرجال; إذ هم في حكم المسلمين عند قائل هذا القول; والله الموفق.
واختلف في شهادة الأعمى، فقال أبو حنيفة ومحمد: "لا تجوز شهادة الأعمى
بحال" وروي نحوه عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه. وروى عمرو بن عبيد
عن الحسن قال: "لا تجوز شهادة الأعمى بحال"، وروي عن أشعث مثله إلا أنه
قال: "إلا أن تكون في شيء رآه قبل أن يذهب بصره". وروى ابن لهيعة عن
أبي طعمة عن سعيد بن جبير قال: "لا تجوز شهادة الأعمى". وحدثنا عبد
الرحمن بن سيما قال: حدثنا عبد الله بن أحمد قال: حدثني أبي قال: حدثني
حجاج بن جبير بن حازم عن قتادة قال شهد أعمى عند إياس بن معاوية على
شهادة، فقال له إياس: لا نرد شهادتك إلا أن لا تكون عدلا، ولكنك أعمى
لا تبصر قال: فلم يقبلها. وقال أبو يوسف وابن أبي ليلى والشافعي: "إذا
علمه قبل العمى جازت، وما علمه في حال العمى لم تجز". وقال شريح
والشعبي: "شهادة الأعمى جائزة". وقال مالك والليث بن سعد: "شهادة
الأعمى جائزة، وإن علمه في حال العمى إذا عرف الصوت في الطلاق والإقرار
ونحوه، وإن شهد على زنا أو حد القذف لم تقبل شهادته".
والدليل على بطلان شهادة الأعمى ما حدثنا عبد الباقي بن قانع قال:
حدثنا عبد الله بن محمد بن ميمون البلخي الحافظ قال: حدثنا يحيى بن
موسى يعرف بخت 1 قال: حدثنا محمد بن سليمان بن مسمول قال: حدثنا عبد
الله بن سلمة بن وهرام، عن أبيه، عن طاوس عن ابن عباس قال: سئل صلى
الله عليه وسلم عن الشهادة فقال: "ترى هذه الشمس؟ 2 فاشهد! وإلا فدع"
فجعل من شرط صحة الشهادة معاينة الشاهد لما شهد به، والأعمى لا يعاين
المشهود عليه، فلا تجوز شهادته.
ومن جهة أخرى أن الأعمى يشهد بالاستدلال فلا تصح شهادته، ألا ترى أن
الصوت قد يشبه الصوت وأن المتكلم قد يحاكي صوت غيره ونغمته حتى لا
يغادر منها شيئا ولا يشك سامعه إذا كان بينه وبينه حجاب أنه المحكي
صوته؟ فغير جائز قبول شهادته على الصوت; إذ لا يرجع منه إلى يقين وإنما
يبنى أمره على غالب الظن. وأيضا
ـــــــ
1 قوله: "خت" بفتح الخاء المعجمة تشديد التاء المثناة، علم على يحيى بن
موسى أحد أشياخ البخاري. "لمصححه".
2 قوله: "ترى هذه الشمس" هكذا في جميع النسخ التي بأيدينا، ومعناه: أن
تر المشهود مثل الشمس فاشهد. "لمصححه".
(1/604)
فإن
الشاهد مأخوذ عليه بأن يأتي بلفظ الشهادة، ولو عبر بلفظ غير لفظ
الشهادة بأن يقول "أعلم أو أتيقن" لم تقبل شهادته، فعلمت أنها حين كانت
مخصوصة بهذا اللفظ وهذا اللفظ يقتضي مشاهدة المشهود به ومعاينته، فلم
تجز شهادة من خرج من هذا الحد وشهد عن غير معاينة.
فإن قال قائل: يجوز للأعمى إقدامه على وطء امرأته إذا عرف صوتها فعلمنا
أنه يقين ليس بشك; ; إذ غير جائز لأحد الإقدام على الوطء بالشك. قيل
له: يجوز له الإقدام على وطء امرأته بغالب الظن بأن زفت إليه امرأة
وقيل له هذه امرأتك وهو لا يعرفها يحل له وطؤها، وكذلك جائز له قبول
هدية جارية بقول الرسول، ويجوز له الإقدام على وطئها. ولولا أخبره مخبر
عن زيد بإقرار أو بيع أو قذف لما جاز له إقامة الشهادة على المخبر عنه
لأن سبيل الشهادة اليقين والمشاهدة، وسائر الأشياء التي ذكرت يجوز فيها
استعمال غالب الظن وقبول قول الواحد; فليس ذلك إذا أصلا للشهادة. وأما
إذا استشهد وهو بصير ثم عمي، فإنما لم نقبله من قبل أنا قد علمنا أن
حال تحمل الشهادة أضعف من حال الأداء; والدليل عليه أنه جائز أن يتحمل
الشهادة وهو كافر أو عبد أو صبي ثم يؤديها وهو حر مسلم بالغ تقبل
شهادته، ولو أداها وهو صبي أو عبد كافر لم تجز، فعلمنا أن حال الأداء
أولى بالتأكيد من حال التحمل، فإذا لم يصح تحمل الأعمى للشهادة وكان
العمى مانعا من صحة التحمل، وجب أن يمنع صحة الأداء. وأيضا لو استشهده
وبينه وبينه حائل لما صحت شهادته، وكذلك لو أداها وبينهما حائل لم تجز
شهادته; والعمى حائل بينه وبين المشهود عليه فوجب أن لا تجوز.
وفرق أبو يوسف بينهما بأن قال: يصح أن يتحمل الشهادة بمعاينته ثم يشهد
عليه وهو غائب أو ميت فلا يمنع ذلك جوازها; فكذلك عمى الشاهد بمنزلة
موت المشهود عليه أو غيبته، فلا يمنع قبول شهادته. والجواب عن ذلك من
وجهين: أحدهما أنه إنما يجب اعتبار الشاهد نفسه، فإن كان من أهل
الشهادة قبلناها وإن لم يكن من أهل الشهادة لم نقبلها، والأعمى قد خرج
من أن يكون من أهل الشهادة بعماه فلا اعتبار بغيره. وأما الغائب والميت
فإن شهادة الشاهد عليهما صحيحة; إذ لم يعترض فيه ما يخرجه من أن يكون
من أهل الشهادة، وغيب المشهود عليه وموته لا تؤثر في شهادة الشاهد
فلذلك جازت شهادته. والوجه الآخر أنا لا نجيز الشهادة على الميت
والغائب إلا أن يحضر عنه خصم فتقع الشهادة عليه فيقوم حضوره مقام حضور
الغائب والميت، والأعمى في معنى من يشهد على غير خصم حاضر فلا تصح
شهادته.
فإن احتجوا بقوله تعالى: {إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ} إلى قوله
تعالى: {وَاسْتَشْهِدُوا
(1/605)
شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} وقوله تعالى: {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ
الشُّهَدَاءِ} والأعمى قد يكون مرضيا وهو من رجالنا الأحرار، فظاهر ذلك
يقتضي قبول شهادته. قيل له ظاهر الآية يدل على أن الأعمى غير مقبول
الشهادة; لأنه قال: {وَاسْتَشْهِدُوا} والأعمى لا يصح استشهاده لأن
الاستشهاد هو إحضار المشهود عليه ومعاينته، وهو غير معاين ولا مشاهد
لمن يحضره; لأن العمى حائل بينه وبين ذلك كحائط لو كان بينهما فيمنعه
ذلك من مشاهدته. ولما كانت الشهادة إنما هي مأخوذة من مشاهدة المشهود
عليه ومعاينته على الحال التي تقتضي الشهادة إثبات الحق عليه وكان ذلك
معدوما في الأعمى، وجب أن تبطل شهادته. فهذه الآية لأن تكون دليلا على
بطلان شهادته أولى من أن تدل على إجازتها.
وقال زفر: "لا تجوز شهادة الأعمى إذا شهد بها قبل العمى أو بعده إلا في
النسب أن يشهد أن فلانا ابن فلان". قال أبو بكر: يشبه أن يكون ذهب في
ذلك إلى أن النسب قد تصح الشهادة عليه بالخبر المستفيض وإن لم يشاهده
الشاهد، فلذلك جائز إذا تواتر عند الأعمى الخبر بأن فلانا ابن فلان أن
يشهد به عند الحاكم وتكون شهادته مقبولة. ويستدل على صحة ذلك بأن
الأعمى والبصير سواء فيما ثبت حكمه عن الرسول صلى الله عليه وسلم من
طريق التواتر وإن لم يشاهد المخبرين من طريق المعاينة، وإنما يسمع
أخبارهم; فكذلك جائز أن يثبت عنده علم صحة النسب من طريق التواتر وإن
لم يشاهد المخبرين، فتجوز إقامة الشهادة به وتكون شهادته مقبولة فيه;
إذ ليس شرط هذه الشهادة معاينة المشهود به.
واختلف في شهادة البدوي على القروي، فقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد
وزفر والليث والأوزاعي والشافعي: "هي جائزة إذا كان عدلا" وروي نحوه عن
الزهري. وروى ابن وهب عن مالك قال: "لا تجوز شهادة بدوي على قروي إلا
في الجراح". وقال ابن القاسم عنه: "لا تجوز شهادة بدوي على قروي في
الحضر إلا في وصية القروي في السفر أو في بيع، فتجوز إذا كانوا عدولا".
قال أبو بكر: جميع ما ذكرنا من دلائل الآية على قبول شهادة الأحرار
البالغين يوجب التسوية بين شهادة القروي والبدوي; لأن الخطاب توجه
إليهم بذكر الإيمان بقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا
تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ} وهؤلاء من جملة المؤمنين، ثم قال تعالى:
{وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} يعني من رجال المؤمنين
الأحرار، وهذه صفة هؤلاء، ثم قال: {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ
الشُّهَدَاءِ} وإذا كانوا عدولا فهم مرضيون. وقال في آية أخرى في شأن
الرجعة والفراق: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق: 2]
وهذه الصفة
(1/606)
شاملة
للجميع إذا كانوا عدولا، وفي تخصيص القروي بها دون البدوي ترك العموم
بغير دلالة; ولم يختلفوا أنهم مرادون بقوله: {وَاسْتَشْهِدُوا
شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} وبقوله: {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ
الشُّهَدَاءِ} لأنهم يجيزون شهادة البدوي على بدوي مثله على شرط الآية.
وإذا كانوا مرادين بالآية فقد اقتضت جواز شهادتهم على القروي من حيث
اقتضت جواز شهادة بعضهم على بعض، ومن حيث اقتضت جواز شهادة القروي على
البدوي.
فإن احتجوا بما حدثنا عبد الباقي بن قانع قال: حدثنا حسين بن إسحاق
التستري قال: حدثنا حرملة بن يحيى قال: حدثنا ابن وهب قال: حدثنا نافع
بن يزد بن الهاد، عن محمد بن عمرو، عن عطاء بن يسار، عن أبي هريرة، أنه
سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا تجوز شهادة بدوي على صاحب
قرية" فإن مثل هذا الخبر لا يجوز الاعتراض به على ظاهر القرآن، مع أنه
ليس فيه ذكر الفرق بين الجراح وبين غيرها ولا بين أن يكون القروي في
السفر أو في الحضر فقد خالف المحتج به ما اقتضاه عمومه. وقد روى سماك
بن حرب عن عكرمة عن ابن عباس قال شهد أعرابي عند رسول الله صلى الله
عليه وسلم على رؤية الهلال، فأمر بلالا ينادي في الناس فليصوموا غدا
فقبل شهادته وأمر الناس بالصيام. وجائز أن يكون حديث أبي هريرة في
أعرابي شهد شهادة عند النبي صلى الله عليه وسلم، وعلم النبي صلى الله
عليه وسلم خلافها مما يبطل شهادته فأخبر به، فنقله الراوي من غير ذكر
السبب. وجائز أن يكون قاله في الوقت الذي كان الشرك والنفاق غالبين على
الأعراب كما قال عز وجل: {وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يَتَّخِذُ مَا
يُنْفِقُ مَغْرَماً وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَائِرَ} [التوبة: 98]
فإنما منع قبول شهادة من هذه صفته من الأعراب. وقد وصف الله قوما آخرين
من الأعراب بعد هذه الصفة ومدحهم بقوله: {وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ
يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ
قُرُبَاتٍ عِنْدَ اللَّهِ وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ} [التوبة: 99] الآية.
فمن كانت هذه صفته فهو مرضي عند الله وعند المسلمين مقبول الشهادة.
ولا يخلو البدوي من أن يكون غير مقبول الشهادة على القروي، إما لطعن في
دينه أو جهل منه بأحكام الشهادات وما يجوز أداؤها منها مما لا يجوز;
فإن كان لطعن في دينه فإن هذا غير مختلف في بطلان شهادته ولا يختلف فيه
حكم البدوي والقروي، وإن كان لجهل منه بأحكام الشهادات فواجب أن لا
تقبل شهادته على بدوي مثله وأن لا تقبل شهادته في الجراح ولا على
القروي في السفر، كما لا تقبل شهادة القروي إذا كان بهذه الصفة، ويلزمه
أن يقبل شهادة البدوي إذا كان عدلا عالما بأحكام الشهادة على القروي
وعلى غيره لزوال المعنى الذي من أجله امتنع من قبول شهادته، وأن لا
يجعل لزوم سمة البدو إياه والنسبة إليه علة لرد شهادته كما لا تجعل
نسبة القروي إلى القرية علة لجواز
(1/607)
شهادته
إذا كان مجانبا للصفات المشروطة لجواز الشهادة.
قوله عز وجل: {فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ
وَامْرَأَتَانِ} قال أبو بكر: أوجب بديا استشهاد شهيدين، وهما
الشاهدان; لأن الشهيد والشاهد واحد كما أن عليما وعالما واحد وقادرا
وقديرا واحد، ثم عطف عليه قوله: {فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ}
يعني إن لم يكن الشهيدان رجلين فرجل وامرأتان فلا يخلو قوله: {فَإِنْ
لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ} من أن يريد به "فإن لم يوجد رجلان فرجل
وامرأتان" كقوله: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً}
[النساء: 43] وكقوله: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ
يَتَمَاسَّا} [المجادلة: 3] ثم قال: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ
شَهْرَيْنِ} [المجادلة: 4] إلى قوله: {فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ
فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً} [المجادلة: 4] وما جرى مجرى ذلك في
الأبدال التي أقيمت مقام أصل الفرض عند عدمه. أو أن يكون مراده: "فإن
لم يكن الشهيدان رجلين فالشهيدان رجل وامرأتان" فأفادنا إثبات هذا
الاسم للرجل والمرأتين حتى يعتبر عمومه في جواز شهادتهما مع الرجل في
سائر الحقوق، إلا ما قام دليله; فلما اتفق المسلمون على جواز شهادة رجل
وامرأتين مقام رجل عند عدم الرجلين فثبت الوجه الثاني، وهو أنه أراد
تسمية الرجل والمرأتين شهيدين، فيكون ذلك اسما شرعيا يجب اعتباره فيما
أمرنا فيه باستشهاد شهيدين، إلا موضعا قام الدليل عليه فيصح الاستدلال
بعمومه في قول النبي صلى الله عليه وسلم: "لا نكاح إلا بولي وشاهدين"
وإثبات النكاح والحكم بشهادة رجل وامرأتين; إذ قد لحق اسم شهيدين، وقد
أجاز النبي صلى الله عليه وسلم النكاح بشهادة شاهدين.
وقد اختلف أهل العلم في شهادة النساء مع الرجال في غير الأموال، فقال
أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد وزفر وعثمان البتي: "لا تقبل شهادة النساء
مع الرجال لا في الحدود ولا في القصاص وتقبل فيما سوى ذلك من سائر
الحقوق". وحدثنا عبد الباقي بن قانع قال: حدثنا بشر بن موسى قال: حدثنا
يحيى بن عباد قال: حدثنا شعبة عن الحجاج بن أرطاة عن عطاء بن أبي رباح:
"أن عمر أجاز شهادة رجل وامرأتين في نكاح". وروى جرير بن حازم عن
الزبير بن الخريت عن أبي لبيد: "أن عمر أجاز شهادة النساء في طلاق".
وروى إسرائيل عن عبد الأعلى عن محمد ابن الحنفية. عن علي رضي الله عنه
قال: "تجوز شهادة النساء في العقد". وروى حجاج عن عطاء: "أن ابن عمر
كان يجيز شهادة النساء مع الرجل في النكاح". وروي عن عطاء: "أنه كان
يجيز شهادة النساء في الطلاق". وروي عن عون عن الشعبي عن شريح: "أنه
أجاز شهادة رجل وامرأتين في عتق" وهو قول الشعبي في الطلاق. وروي عن
الحسن والضحاك قالا: "لا تجوز شهادتهن إلا في الدين والولد". وقال
مالك: "لا تجوز شهادة النساء مع الرجال في
(1/608)
الحدود
والقصاص ولا في الطلاق ولا في النكاح ولا في الأنساب ولا في الولاء ولا
في الإحصان، وتجوز في الوكالة والوصية إذا لم يكن فيها عتق". وقال
الثوري: "تجوز شهادتهن في كل شيء إلا الحدود" وروي عنه أنها لا تجوز في
القصاص أيضا. وقال الحسن بن حي: "لا تجوز شهادتهن في الحدود". وقال
الأوزاعي: "لا تجوز شهادة رجل وامرأتين في نكاح". وقال الليث: "تجوز
شهادة النساء في الوصية والعتق ولا تجوز في النكاح ولا الطلاق ولا
الحدود ولا قتل العمد الذي يقاد منه". وقال الشافعي: "لا تجوز شهادة
النساء مع الرجال في غير الأموال، ولا يجوز في الوصية إلا الرجل، وتجوز
في الوصية بالمال".
قال أبو بكر: ظاهر هذه الآية يقتضي جواز شهادتهن مع الرجل في سائر عقود
المداينات، وهي كل عقد على دين سواء كان بدله مالا أو بضعا أو منافع أو
دم عمد، لأنه عقد فيه دين; إذ المعلوم أنه ليس مراد الآية في قوله
تعالى: {إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً} أن يكون
المعقود عليهما من البدلين دينين، لامتناع جواز ذلك إلى أجل مسمى، فثبت
أن المراد وجود دين عن بدل أي دين كان; فاقتضى ذلك جواز شهادة النساء
مع الرجل على عقد نكاح فيه مهر مؤجل إذا كان ذلك عقد مداينة، وكذلك
الصلح من دم العمد والخلع على مال الإجارات. فمن ادعى خروج شيء من هذه
العقود من ظاهر الآية لم يسلم له ذلك إلا بدلالة، إذ كان العموم مقتضيا
لجوازها في الجميع.
ويدل على جواز شهادة النساء في غير الأموال ما حدثنا عبد الباقي بن
قانع قال: حدثنا أحمد بن القاسم الجوهري قال: حدثنا محمد بن إبراهيم
أخو أبي معمر قال: حدثنا محمد بن الحسن بن أبي يزيد، عن الأعمش، عن أبي
وائل، عن حذيفة: أن النبي صلى الله عليه وسلم أجاز شهادة القابلة
والولادة ليست بمال وأجاز شهادتها عليها فدل ذلك على أن شهادة النساء
ليست مخصوصة بالأموال; ولا خلاف في جواز شهادة النساء على الولادة
وإنما الاختلاف في العدد. وأيضا لما ثبت أن اسم الشهيدين واقع في الشرع
على الرجل والمرأتين، وقد ثبت أن اسم البينة يتناول الشهيدين، وجب
بعموم قوله: "البينة على المدعي واليمين على المدعى عليه" القضاء
بشهادة الرجل والمرأتين في كل دعوى; إذ قد شملهم اسم البينة، ألا ترى
أنها بينة في الأموال، فلما وقع عليها الاسم وجب بحق العموم قبولها لكل
مدع إلا أن تقوم الدلالة على تخصيص شيء منه؟ وإنما خصصنا الحدود
والقصاص لما روى الزهري قال: "مضت السنة من رسول الله صلى الله عليه
وسلم والخليفتين من بعده أن لا تجوز شهادة النساء في الحدود ولا في
القصاص". وأيضا لما اتفق الجميع على قبول شهادتهن مع الرجل في الديون
وجب قبولها في كل حق لا تسقطه
(1/609)
الشبهة;
إذ كان الدين حقا لا يسقط بالشبهة. ومما يدل على جوازها في غير الأموال
من الآية، أن الله تعالى قد أجازها في الأجل بقوله: {إِذَا
تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً فَاكْتُبُوهُ} قال:
{فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ} فأجاز
شهادتها مع الرجل على الأجل وليس بمال كما أجازها في المال. فإن قيل:
الأجل لا يجب إلا في المال. قيل له: هذا خطأ لأن الأجل قد يجب في
الكفالة بالنفس وفي منافع الأحرار التي ليست بمال، وقد يؤجله الحاكم في
إقامة البينة على الدم وعلى دعوى العفو منه بمقدار ما يمكن التقدم
إليه، فقولك: "إن الأجل لا يجب إلا في المال" خطأ، ومع ذلك فالبضع لا
يستحق إلا بمال ولا يقع النكاح إلا بمال، فينبغي أن تجيز فيه شهادة
النساء.
قوله تعالى: {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} قال أبو بكر: لما
كانت معرفة ديانات الناس وأماناتهم وعدالتهم إنما هي من طريق الظاهر
دون الحقيقة; إذ لا يعلم ضمائرهم ولا خبايا أمورهم غير الله تعالى، ثم
قال تعالى فيما أمرنا باعتباره من أمر الشهود: {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ
مِنَ الشُّهَدَاءِ} دل ذلك على أن أمر تعديل الشهود موكول إلى اجتهاد
رأينا وما يغلب في ظنوننا من عدالتهم وصلاح طرائقهم. وجائز أن يغلب في
ظن بعض الناس عدالة شاهد وأمانته فيكون عنده رضى، ويغلب في ظن غيره أنه
ليس برضى; فقوله: {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} مبني على
غالب الظن وأكثر الرأي. والذي بني عليه أمر الشهادة أشياء ثلاثة: أحدها
العدالة، والآخر نفي التهمة وإن كان عدلا، والثالث: التيقظ والحفظ وقلة
الغفلة. أما العدالة فأصلها الإيمان واجتناب الكبائر ومراعاة حقوق الله
عز وجل في الواجبات والمسنونات وصدق اللهجة والأمانة، وأن لا يكون
محدودا في قذف. وأما نفي التهمة فأن لا يكون المشهود له والدا ولا ولدا
أو زوجا وزوجة، وأن لا يكون قد شهد بهذه الشهادة فردت لتهمة. فشهادة
هؤلاء غير مقبولة لمن ذكرنا وإن كانوا عدولا مرضيين. وأما التيقظ
والحفظ وقلة الغفلة فأن لا يكون غفولا غير مجرب للأمور، فإن مثله ربما
لقن الشيء فتلقنه، وربما جوز عليه التزوير فشهد به. قال ابن رستم عن
محمد بن الحسن في رجل أعجمي صوام قوام مغفل يخشى عليه أن يلقن فيأخذ
به، قال: هذا شر من الفاسق في شهادته. وحدثنا عبد الرحمن بن سيما
المحبر قال: حدثنا عبد الله بن أحمد قال: حدثني أبي قال: حدثنا أسود بن
عامر قال: حدثنا ابن هلال عن أشعث الحداني قال: قال رجل للحسن: يا أبا
سعيد إن إياسا رد شهادتي فقام معه إليه فقال: يا ملكعان لم رددت
شهادته؟ أو ما بلغك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من
استقبل قبلتنا وأكل من ذبيحتنا فذلك المسلم الذي له ذمة الله وذمة
رسوله"؟ فقال: أيها الشيخ أما سمعت الله يقول: {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ
مِنَ الشُّهَدَاءِ}؟ وإن صاحبك هذا ليس
(1/610)
نرضاه.
وحدثنا عبد الباقي بن قانع قال: حدثنا أبو بكر محمد بن عبد الوهاب قال:
حدثنا السري بن عاصم بإسناد ذكره: أنه شهد عند إياس بن معاوية رجل من
أصحاب الحسن، فرد شهادته، فبلغ الحسن وقال: قوموا بنا إليه قال: فجاء
إلى إياس فقال: يا لكع ترد شهادة رجل مسلم؟ فقال: نعم قال الله تعالى:
{مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} وليس هو ممن أرضى. قال: فسكت
الحسن، فقال خصم الشيخ: فمن شرط الرضا للشهادة أن يكون الشاهد متيقظا
حافظا لما يسمعه متقنا لما يؤديه. وقد ذكر بشر بن الوليد عن أبي يوسف
في صفة العدل أشياء، منها أنه قال: "من سلم من الفواحش التي تجب فيها
الحدود وما يشبه ما تجب فيه من العظائم وكان يؤدي الفرائض وأخلاق البر
فيه أكثر من المعاصي الصغار، قبلنا شهادته; لأنه لا يسلم عبد من ذنب.
وإن كانت ذنوبه أكثر من أخلاق البر رددنا شهادته. ولا تقبل شهادة من
يلعب بالشطرنج يقامر عليها ولا من يلعب بالحمام ويطيرها، وكذلك من يكثر
الحلف بالكذب لا تجوز شهادته" قال: "وإذا ترك الرجل الصلوات الخمس في
الجماعة استخفافا بذلك أو مجانة أو فسقا فلا تجوز شهادته، وإن تركها
على تأويل وكان عدلا فيما سوى ذلك قبلت شهادته" قال: "وإن داوم على ترك
ركعتي الفجر لم تقبل شهادته، وإن كان معروفا بالكذب الفاحش لم أقبل
شهادته، وإن كان لا يعرف بذلك وربما ابتلي بشيء منه والخير فيه أكثر من
الشر قبلت شهادته، ليس يسلم أحد من الذنوب". قال: وقال أبو حنيفة وأبو
يوسف وابن أبي ليلى: شهادة أهل الأهواء جائزة إذا كانوا عدولا، إلا
صنفا من الرافضة يقال لهم الخطابية، فإنه بلغني أن بعضهم يصدق بعضا
فيما يدعي إذا حلف له ويشهد بعضهم لبعض; فلذلك أبطلت شهادتهم. وقال أبو
يوسف: "أيما رجل أظهر شتيمة أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم لم أقبل
شهادته لأن رجلا لو كان شتاما للناس والجيران لم أقبل شهادته، فأصحاب
النبي صلى الله عليه وسلم أعظم حرمة". وقال أبو يوسف: "ألا ترى أن
أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قد اختلفوا واقتتلوا وشهادة
الفريقين جائزة؟ لأنهم اقتتلوا على تأويل، فكذلك أهل الأهواء من
المتأولين". قال أبو يوسف: "ومن سألت عنه فقالوا إنا نتهمه بشتم أصحاب
رسول الله صلى الله عليه وسلم فإني لا أقبل هذا حتى يقولوا سمعناه
يشتم" قال: "فإن قالوا: نتهمه بالفسق والفجور نظن ذلك به ولم نره، فإني
أقبل ذلك ولا أجيز شهادته. والفرق بينهما أن الذين قالوا نتهمه قد
أثبتوا له الصلاح وقالوا نتهمه بالشتم فلا يقبل هذا إلا بسماع، والذين
قالوا نتهمه بالفسق والفجور ونظن ذلك به ولم نره فإني أقبل ذلك ولا
أجيز شهادته أثبتوا له صلاحا وعدالة". وذكر ابن رستم عن محمد أنه قال:
"لا أقبل شهادة الخوارج; إذ كانوا قد خرجوا يقاتلون المسلمين، وإن
شهدوا" قال: قلت: ولم لا تجيز شهادتهم وأنت تجيز شهادة الحرورية؟ قال:
"لأنهم لا يستحلون أموالنا ما لم يخرجوا، فإذا خرجوا استحلوا
(1/611)
أموالنا،
فتجوز شهادتهم ما لم يخرجوا". وحدثنا أبو بكر مكرم بن أحمد قال: حدثنا
أحمد بن عطية الكوفي قال: سمعت محمد بن سماعة يقول: سمعت أبا يوسف
يقول: لا يجب على الحاكم أن يقبل شهادة بخيل، فإن البخيل يحمله شدة
بخله على التقصي فيأخذ فوق حقه مخافة الغبن، ومن كان كذلك لم يكن عدلا.
سمعت حماد بن أبي سليمان يقول: سمعت إبراهيم يقول: قال علي بن أبي طالب
رضي الله عنه: "أيها الناس كونوا وسطا لا تكونوا بخلاء ولا سفلة، فإن
البخيل والسفلة الذين إن كان عليهم حق لم يؤدوه، وإن كان لهم حق
استقصوه". قال: وقال: ما من طباع المؤمن التقصي، ما استقصى كريم قط،
قال الله تعالى {عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ}. وحدثنا
مكرم بن أحمد قال: حدثنا أحمد بن محمد بن المغلس قال: سمعت الحماني
يقول: سمعت ابن المبارك يقول: سمعت أبا حنيفة يقول: "من كان معه بخل لم
تجز شهادته، يحمله البخل على التقصي، فمن شدة تقصيه يخاف الغبن فيأخذ
فوق حقه مخافة الغبن، فلا يكون هذا عدلا". وقد روي نظير ذلك عن إياس بن
معاوية ذكر ابن لهيعة عن أبي الأسود محمد بن عبد الرحمن قال: قلت لإياس
بن معاوية: أخبرت أنك لا تجيز شهادة الأشراف بالعراق ولا البخلاء ولا
التجار الذين يركبون البحر؟ قال أجل أما الذين يركبون إلى الهند حتى
يغرروا بدينهم ويكثروا عدوهم من أجل طمع الدنيا فعرفت أن هؤلاء لو أعطي
أحدهم درهمين في شهادة لم يتحرج بعد تغريره بدينه; وأما الذين يتجرون
في قرى فارس فإنهم يطعمونهم الربا وهم يعلمون، فأبيت أن أجيز شهادة آكل
الربا; وأما الأشراف فإن الشريف بالعراق إذا نابت أحدا منهم نائبة أتى
إلى سيد قومه فيشهد له ويشفع، فكنت أرسلت إلى عبد الأعلى عبد الله بن
عامر أن لا يأتيني بشهادة.
وقد روي عن السلف رد شهادة قوم ظهر منهم أمور لا يقطع فيها بفسق
فاعليها، إلا أنها تدل على سخف أو مجون، فرأوا رد شهادة أمثالهم، منه:
ما حدثنا عبد الرحمن بن سيما قال: حدثنا عبد الله بن أحمد قال: حدثنا
محمود بن خداش قال: حدثنا زيد بن الحباب قال: أخبرني داود بن حاتم
البصري: "أن بلال بن أبي بردة وكان على البصرة كان لا يجيز شهادة من
يأكل الطين وينتف لحيته". وحدثنا عبد الباقي بن قانع قال: حدثنا حماد
بن محمد قال: حدثنا شريح قال: حدثنا يحيى بن سليمان عن ابن جريج أن
رجلا كان من أهل مكة شهد عند عمر بن عبد العزيز وكان ينتف عنفقته ويخفي
لحيته وحول شاربيه، فقال: ما اسمك؟ قال: فلان، قال: بل اسمك ناتف ورد
شهادته. وحدثنا عبد الباقي قال: حدثنا عبد الله بن أحمد بن سعد قال:
حدثنا إسحاق بن
(1/612)
إبراهيم
قال: حدثنا عبد الرحمن بن محمد عن الجعد بن ذكوان قال: دعا رجل شاهدا
له عند شريح اسمه ربيعة، فقال: يا ربيعة فلم يجب فقال: يا ربيعة
الكويفر فأجاب، فقال له شريح: دعيت باسمك فلم تجب فلما دعيت بالكفر
أجبت فقال: أصلحك الله، إنما هو لقب، فقال له: قم وقال لصاحبه: هات
غيره وحدثنا عبد الباقي قال: حدثنا عبد الله بن أحمد قال: حدثني أبي
قال: حدثنا إسماعيل بن إبراهيم قال: حدثنا سعيد بن أبي عروبة، عن
قتادة، عن جابر بن زيد، عن ابن عباس قال: "الأقلف لا تجوز شهادته".
وروى حماد بن أبي سلمة عن أبي المهزم عن "أبي هريرة لا تجوز شهادة
أصحاب الحمر" يعني النخاسين. وروي عن شريح أنه كان لا يجيز شهادة صاحب
حمام ولا حمام. وروى مسعر أن رجلا شهد عند شريح وهو ضيق كم القبا، فرد
شهادته وقال: كيف يتوضأ وهو على هذه الحال؟. وحدثنا عبد الباقي بن قانع
قال: حدثنا معاذ بن المثنى قال: حدثنا سليمان بن حرب قال: حدثنا جرير
بن حازم عن الأعمش عن تميم بن سلمة قال شهد رجل عند شريح فقال: أشهد
بشهادة الله، فقال: شهدت بشهادة الله لا أجيز لك اليوم شهادة. قال أبو
بكر: لما رآه تكلف من ذلك ما ليس عليه لم يره أهلا لقبول شهادته.
فهذه الأمور التي ذكرناها عن هؤلاء السلف من رد الشهادة من أجلها غير
مقطوع فيها بفسق فاعليها ولا سقوط العدالة، وإنما دلهم ظاهرها على سخف
من هذه حاله فردوا شهادتهم من أجلها لأن كلا منهم تحرى موافقة ظاهر
قوله تعالى: {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} على حسب ما أداه
إليه اجتهاده، فمن غلب في ظنه سخف من الشاهد أو مجونه أو استهانته بأمر
الدين أسقط شهادته. قال محمد في كتاب أدب القاضي: من ظهرت منه مجانة لم
أقبل شهادته، ولا تجوز شهادة المخنث ولا شهادة من يلعب بالحمام يطيرها.
وقد حكي عن سفيان بن عيينة أن رجلا شهد عند ابن أبي ليلى فرد شهادته،
قال: فقلت لابن أبي ليلى: مثل فلان وحاله كذا وحال ابنه كذا ترد
شهادته؟ فقال: أين يذهب بك؟ إنه فقير. فكان عنده أن الفقر يمنع
الشهادة; إذ لا يؤمن به أن يحمله الفقر على الرغبة في المال وإقام
شهادة بما لا تجوز. وقال مالك بن أنس: "لا تجوز شهادة السؤال في الشيء
الكثير وتجوز في الشيء التافه إذا كانوا عدولا" فشرط مالك مع الفقر
المسألة، ولم يقبلها في الشيء الكثير للتهمة وقبلها في اليسير لزوال
التهمة. وقال المزني والربيع عن الشافعي: "إذا كان الأغلب على الرجل
والأظهر من أمره الطاعة والمروءة قبلت شهادته، وإذا كان الأغلب من حاله
المعصية وعدم المروءة رددت شهادته". وقال محمد بن عبد الله بن عبد
الحكم عن الشافعي: "إذا كان أكثر أمره
(1/613)
الطاعة
ولم يقدم على كبيرة فهو عدل". فأما شرط المروءة فإن أراد به التصاون
والصمت الحسن وحفظ الحرمة وتجنب السخف والمجون فهو مصيب، وإن أراد به
نظافة الثوب وفراهة المركوب وجودة الآلة والشارة الحسنة فقد أبعد وقال
غير الحق لأن هذه الأمور ليست من شرائط الشهادة عند أحد من المسلمين.
قال أبو بكر: ما قدمنا من ذكر أقاويل السلف وفقهاء الأمصار واعتبار كل
واحد منهم في الشهادة ما حكينا عنه، يدل على أن كلا منهم بنى قبول أمر
الشهادة على ما غلب في اجتهاده واستولى على رأيه أنه ممن يرضى ويؤتمن
عليها. وقد اختلفوا في حكم من لم تظهر منه ريبة هل يسأل عنه الحاكم إذا
شهد؟ فروي عن عمر بن الخطاب في كتابه الذي كتبه إلى أبي موسى في
القضاء: "المسلمون عدول بعضهم على بعض إلا مجلودا في حد أو مجربا عليه
شهادة زور أو ظنينا في ولاء أو قرابة". وقال منصور: قلت لإبراهيم: وما
العدل في المسلمين؟ قال: من لم تظهر منه ريبة. وعن الحسن البصري
والشعبي مثله. وذكر معمر عن أبيه قال: لما ولي الحسن القضاء كان يجيز
شهادة المسلمين إلا أن يكون الخصم يجرح الشاهد. وذكر هشيم قال: سمعت
ابن شبرمة يقول: "ثلاث لم يعمل بهن أحد قبلي ولن يتركهن أحد بعدي:
المسألة عن الشهود، وإثبات حجج الخصمين، وتحلية الشهود في المسألة".
وقال أبو حنيفة: "لا أسأل عن الشهود. إلا أن يطعن فيهم الخصم المشهود
عليه، فإن طعن فيهم سألت عنهم في السر والعلانية وزكيتهم في العلانية،
إلا شهود الحدود والقصاص فإني أسأل عنهم في السر وأزكيهم في العلانية".
وقال محمد: "يسأل عنهم وإن لم يطعن فيهم". وروى يوسف بن موسى القطان عن
علي بن عاصم عن ابن شبرمة قال: "أول من سأل في السر أنا، كان الرجل
يأتي القوم إذا قيل له: هات من يزكيك، فيقول: قومي يزكونني، فيستحي
القوم فيزكونه; فلما رأيت ذلك سألت في السر، فإذا صحت شهادته قلت: هات
من يزكيك في العلانية". وقال أبو يوسف ومحمد: "يسأل عنهم في السر
والعلانية ويزكيهم في العلانية وإن لم يطعن فيهم الخصم". وقال مالك بن
أنس: "لا يقضى بشهادة الشهود حتى يسأل عنهم في السر". وقال الليث:
"أدركت الناس ولا تلتمس من الشاهدين تزكية وإنما كان الوالي يقول
للخصم: إن كان عندك من يجرح شهادتهم فأت به وإلا أجزنا شهادته عليك".
وقال الشافعي: يسأل عنهم في السر فإذا عدل سأل عن تعديله علانية ليعلم
أن المعدل هو هذا لا يوافق اسم اسما ولا نسب نسبا.
قال أبو بكر: ومن قال من السلف بتعديل من ظهر إسلامه فإنما بنى ذلك على
ما كانت عليه أحوال الناس من ظهور العدالة في العامة وقلة الفساق فيهم،
ولأن النبي صلى الله عليه وسلم
(1/614)
قد شهد
بالخير والصلاح للقرن الأول والثاني والثالث; حدثنا عبد الرحمن بن سيما
قال: حدثنا عبد الله بن أحمد قال: حدثني أبي قال: حدثنا عبد الرحمن بن
مهدي قال: حدثنا سفيان، عن منصور، عن إبراهيم، عن عبيدة، عن عبد الله،
عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "خير القرون قرني ثم الذين
يلونهم ثم الذين يلونهم ثلاث أو أربع ثم يجيء قوم تسبق شهادة أحدهم
يمينه ويمينه شهادته". قال: وكان أصحابنا يضربوننا على الشهادة والعهد
ونحن صبيان. وإنما حمل السلف ومن قال من فقهاء الأمصار مما وصفنا أمر
المسلمين في عصرهم على العدالة وجواز الشهادة لظهور العدالة فيهم، وإن
كان فيهم صاحب ريبة وفسق كان يظهر النكير عليه ويتبين أمره; وأبو حنيفة
كان في القرن الثالث الذين شهد لهم النبي صلى الله عليه وسلم بالخير
والصلاح، فتكلم على ما كانت الحال عليه، وأما لو شهد أحوال الناس بعد
لقال بقول الآخرين في المسألة عن الشهود، ولما حكم لأحد منهم بالعدالة
إلا بعد المسألة. وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال
للأعرابي الذي شهد على رؤية الهلال: "أتشهد أن لا إله إلا الله وأني
رسول الله؟" قال: نعم فأمر الناس بالصيام بخبره ولم يسأل عن عدالته بعد
ظهور إسلامه، لما وصفنا. فثبت بما وصفنا أن أمر التعديل وتزكية الشهود
وكونهم مرضيين مبني على اجتهاد الرأي وغالب الظن لاستحالة إحاطة علومنا
بغيب أمور الناس. وقد حذرنا الله الاغترار بظاهر حال الإنسان والركون
إلى قوله مما يدعيه لنفسه من الصلاح والأمانة، فقال: {وَمِنَ النَّاسِ
مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [البقرة: 204]
الآية. ثم أخبر عن مغيب أمره وحقيقة حاله فقال: {وَإِذَا تَوَلَّى
سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا} [البقرة: 205] الآية; فأعلمنا
ذلك من حال بعض من يعجب ظاهر قوله. وقال أيضا في صفة قوم آخرين:
{وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ} [المنافقون: 4]
الآية; فحذر نبيه صلى الله عليه وسلم الاغترار بظاهر حال الإنسان،
وأمرنا بالاقتداء به فقال: {وَاتَّبِعُوهُ} [الأعراف: 158] وقال:
{لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ}
[الأحزاب: 21] فغير جائز إذا كان الأمر على ما وصفنا الركون إلى ظاهر
أمر الإنسان دون التثبت في شهادته والبحث عن أمره، حتى إذا غلب في ظنه
عدالته قبلها. وقد وصف الله تعالى الشهود المقبولين بصفتين: إحداهما
العدالة في قوله تعالى: {اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ} [المائدة:
106] وقوله: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق: 2]
والأخرى أن يكونوا مرضيين لقوله: {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ
الشُّهَدَاءِ} والمرضيون لا بد أن تكون من صفتهم العدالة. وقد يكون
عدلا غير مرضي في الشهادة، وهو أن يكون غمرا مغفلا يجوز عليه التزوير
والتمويه، فقوله: {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} قد انتظم
الأمرين من العدالة والتيقظ وذكاء الفهم وشدة الحفظ. وقد أطلق الله ذكر
الشهادة في الزنا غير مقيد بذكر العدالة وهي من شرطها العدالة والرضى
جميعا، وذلك لقوله عز
(1/615)
وجل:
{إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا} [الحجرات: 6] وذلك
عموم في إيجاب التثبت في سائر أخبار الفساق، والشهادة خبر، فوجب التثبت
فيها إذا كان الشاهد فاسقا. فلما نص الله على التثبت في خبر الفاسق
وأوجب علينا قبول شهادة العدول المرضيين وكان الفسق قد يعلم من جهة
اليقين والعدالة لا تعلم من جهة اليقين دون ظاهر الحال علمنا أنها
مبنية على غالب الظن وما يظهر من صلاح الشاهد وصدق لهجته وأمانته، وهذا
وإن كان مبنيا على أكثر الظن فهو ضرب من العلم كما قال تعالى في
المهاجرات: {فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ
إِلَى الْكُفَّارِ} [الممتحنة: 10] وهذا هو علم الظاهر دون الحقيقة;
فكذلك الحكم بعدالة الشاهد طريقه العلم الظاهر دون المغيب الذي لا
يعلمه إلا الله تعالى. وهذا أصل كبير في الدلالة على صحة القول باجتهاد
الرأي في أحكام الحوادث; إذ كانت الشهادات من معالم أمور الدين
والدنيا، وقد عقد بها مصالح الخلق في وثائقهم وإثبات حقوقهم وأملاكهم
وإثبات الأنساب والدماء والفروج، وهي مبنية على غالب الظن وأكثر الرأي;
إذ لا يمكن أحدا من الناس إمضاء حكم بشهادة شهود من طريق حقيقة العلم
بصحة المشهود به. وهو يدل على بطلان القول بإمام معصوم في كل زمان;
واحتجاج من يحتج فيه بأن أمور الدين كلها ينبغي أن تكون مبنية على ما
يوجب العلم الحقيقي دون غالب الظن وأكثر الرأي، وأنه متى لم يكن إمام
بهذه الصفة لم يؤمن الخطأ فيها لأن الرأي يخطئ ويصيب; لأنه لو كان كما
زعموا لوجب أن لا تقبل شهادة الشهود إلا أن يكونوا معصومين مأمونا
عليهم الخطأ والزلل، فلما أمر الله تعالى بقبول شهادة الشهود إذا كانوا
مرضيين في ظاهر أحوالهم دون العلم بحقيقة مغيب أمورهم مع جواز الكذب
والغلط عليهم، ثبت بطلان الأصل الذي بنوا عليه أمر النص. فإن قالوا:
الإمام يعلم صدق الشهود من كذبهم. قيل لهم: فواجب أن لا يسمع شهادة
الشهود غير الإمام، وأن لا يكون للإمام قاض ولا أمين إلا أن يكون
بمنزلته في العصمة وفي العلم بمغيب أمر الشهود، ويجب أن لا يكون أحد من
أعوان الإمام إلا معصوما مأمون الزلل والخطإ لما يتعلق به من أحكام
الدين; فلما جاز أن يكون للإمام حكام وشهود وأعوان بغير هذه الصفة ثبت
بذلك جواز كثير من أمور الدين مبنيا على اجتهاد الرأي وغالب الظن.
وفيما ذكرناه مما تعبدنا الله به في هذه الآية من اعتبار أحوال الشهود
بما يغلب في الظن من عدالتهم وصلاحهم، دلالة على بطلان قول نفاة القياس
والاجتهاد في الأحكام التي لا نصوص فيها ولا إجماع; لأن الدماء والفروج
والأموال والأنساب من الأمور التي قد عقد بها مصالح الدين والدنيا، وقد
أمر الله فيها بقبول شهادة الشهود الذين لا نعلم مغيب أمورهم وإنما
نحكم بشهاداتهم بغالب الظن وظاهر أحوالهم مع تجويز الكذب
(1/616)
والخطإ
والزلل والسهو عليهم; فثبت بذلك تجويز الاجتهاد واستعمال غلبة الرأي
فيما لا نص فيه من أحكام الحوادث ولا اتفاق.
وفيه الدلالة على جواز قبول الأخبار المقصرة عن إيجاب العلم بمخبراتها
من أمور الديانات عن الرسول صلى الله عليه وسلم; لأن شهادة الشهود غير
موجبة للعلم بصحة المشهود به، وقد أمرنا بالحكم بها مع تجويز أن يكون
الأمر في المغيب بخلافه، فبطل بذلك قول من قال إنه غير جائز قبول خبر
من لا يوجب العلم بخبره في أمور الدين.
وقد دل أيضا على بطلان قول من يستدل على رد أخبار الآحاد بأنا لو
قبلناها لكنا قد جعلنا منزلة المخبر أعلى من منزلة النبي صلى الله عليه
وسلم; إذ لم يجب في الأصل قبول خبر النبي إلا بعد ظهور المعجزات الدالة
على صدقه; لأن الله تعالى قد أمرنا بقبول شهادة الشهود الذين ظاهرهم
العدالة وإن لم يكن معها علم معجزة يدل على صدقهم.
وأما ما ذكرنا من اعتبار نفي التهمة عن الشهادة وإن كان الشاهد عدلا،
فإن الفقهاء متفقون على بعضها ومختلفون في. بعضها; فمما اتفق عليه
فقهاء الأمصار بطلان شهادة الشاهد لولده ووالده، إلا شيء يحكى عن عثمان
البتي قال: "تجوز شهادة الولد لوالديه وشهادة الأب لابنه وامرأته إذا
كانوا عدولا مهذبين معروفين بالفضل، ولا يستوي الناس في ذلك" ففرق
بينها لوالده وبينها للأجنبي. فأما أصحابنا ومالك والليث والشافعي
والأوزاعي فإنهم لا يجيزون شهادة واحد منهما للآخر فقد حدثنا عبد
الرحمن بن سيما قال: حدثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل قال: حدثني أبي
قال: حدثنا وكيع، عن سفيان، عن جابر، عن الشعبي عن شريح قال: "لا تجوز
شهادة الابن لأبيه ولا الأب لابنه ولا المرأة لزوجها ولا الزوج
لامرأته". وروي عن إياس بن معاوية أنه أجاز شهادة رجل لابنه; حدثنا عبد
الرحمن بن سيما قال: حدثنا عبد الله بن أحمد قال: حدثني أبي قال: حدثنا
عفان قال: حدثنا حماد بن زيد قال: حدثنا خالد الحذاء عن إياس بن معاوية
بذلك.
والذي يدل على بطلان شهادته لابنه قوله عز وجل: {وَلا عَلَى
أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ
آبَائِكُمْ} ولم يذكر بيوت الأبناء لأن قوله تعالى: {مِنْ بُيُوتِكُمْ}
قد انتظمها; إذ كانت منسوبة إلى الآباء فاكتفى بذكر بيوتهم عن ذكر بيوت
أبنائهم; وقال صلى الله عليه وسلم: "أنت ومالك لأبيك" فأضاف الملك
إليه; وقال: "إن أطيب ما أكل الرجل من كسبه وإن ولده من كسبه فكلوا من
كسب أولادكم" ، فلما أضاف ملك الابن إلى الأب وأباح أكله له وسماه له
كسبا كان المثبت لابنه حقا بشهادته بمنزلة مثبته لنفسه،
(1/617)
ومعلوم
بطلان شهادته لنفسه، فكذلك لابنه. وإذا ثبت ذلك في الابن كان ذلك حكم
شهادة الابن لأبيه; إذ لم يفرق أحد بينهما.
فإن قيل: إذا كان الشاهد عدلا فواجب قبول شهادته لهؤلاء كما تقبلها
لأجنبي، وإن كانت شهادته لهؤلاء غير مقبولة لأجل التهمة فغير جائز
قبولها للأجنبي; لأن من كان متهما في الشهادة لابنه بما ليس بحق له
فجائز عليه مثل هذه التهمة للأجنبي. قيل له ليست التهمة المانعة من
قبول شهادته لابنه ولأبيه تهمة فسق ولا كذب، وإنما التهمة فيه من قبل
أنه يصير فيها بمعنى المدعي لنفسه، ألا ترى أن أحدا من الناس وإن ظهرت
أمانته وصحت عدالته لا يجوز أن يكون مصدقا فيما يدعيه لنفسه، لا على
جهة تكذيبه ولكن من جهة أن كل مدع لنفسه فدعواه غير ثابتة إلا ببينة
تشهد له بها؟ فالشاهد لابنه بمنزلة المدعي لنفسه لما بينا. وكذلك قال
أصحابنا: إن كل شاهد يجر بشهادته إلى نفسه مغنما أو يدفع بها عن نفسه
مغرما فغير مقبول الشهادة، لأنه حينئذ يقوم مقام المدعي والمدعي لا
يجوز أن يكون شاهدا فيما يدعيه. ولا أحد من الناس أصدق من نبي الله صلى
الله عليه وسلم; إذ دلت الأعلام ثم المعجزة على أنه لا يقول إلا حقا
وأن الكذب غير جائز عليه، مع وقوع العلم لنا بمغيب أمره وموافقة باطنه
لظاهره، ولم يقتصر فيما ادعاه لنفسه على دعواه دون شهادة غيره حين
طالبه الخصم بها، وهو قصة خزيمة بن ثابت; حدثنا عبد الرحمن بن سيما
قال: حدثنا عبد الله بن أحمد قال: حدثني أبي قال: حدثنا أبو اليمان
قال: حدثنا شعيب عن الزهري قال: حدثنا عمارة بن خزيمة الأنصاري أن عمه
حدثه وهو من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أن النبي صلى الله عليه
وسلم ابتاع فرسا من أعرابي، وذكر القصة وقال: فطفق الأعرابي يقول: هلم
شهيدا يشهد أني قد بايعتك فقال خزيمة: أنا أشهد أنك بايعته، فأقبل
النبي صلى الله عليه وسلم على خزيمة فقال: "بم تشهد؟" فقال: بتصديقك يا
رسول الله; فجعل النبي صلى الله عليه وسلم شهادة خزيمة بشهادة رجلين.
فلم يقتصر النبي صلى الله عليه وسلم في دعواه على ما تقرر وثبت
بالدلائل والأعلام أنه لا يقول إلا حقا، ولم يقل للأعرابي حين قال هلم
شهيدا إنه لا بينة عليه. وكذلك سائر المدعين فعليهم إقامة بينة لا يجر
بها إلى نفسه مغنما ولا يدفع بها عنها مغرما، وشهادة الوالد لولده يجر
بها إلى نفسه أعظم المغنم كشهادته لنفسه; والله تعالى أعلم.
(1/618)
ومن هذا
الباب أيضا شهادة أحد الزوجين للآخر
وقد اختلف الفقهاء فيها، فقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد وزفر ومالك
والأوزاعي والليث: "لا تجوز شهادة واحد منهما للآخر". وقال الثوري:
"تجوز شهادة
(1/618)
الرجل
لامرأته". وقال الحسن بن صالح: "لا تجوز شهادة المرأة لزوجها". وقال
الشافعي: "تجوز شهادة أحد الزوجين للآخر".
قال أبو بكر: هذا نظير شهادة الوالد للولد والولد للوالد، وذلك من
وجوه: أحدها أنه معلوم تبسط كل واحد من الزوجين في مال الآخر في العادة
وأنه كالمباح الذي لا يحتاج فيه إلى الاستئذان، فما يثبته الزوج
لامرأته بشهادته بمنزلة ما يثبته لنفسه وكذلك ما تثبته المرأة لزوجها.
ألا ترى أنه لا فرق في المعتاد بين تبسطه في مال الزوج والزوجة وبينه
في مال أبيه وابنه؟ ولما كان كذلك وكانت شهادته لوالده وولده غير
جائزة، كان كذلك حكم شهادة الزوج والزوجة. وأيضا فإن شهادته لزوجته
بمال توجب زيادة قيمة البضع الذي في ملكه لأن مهر مثلها يزيد بزيادة
مالها، فكان شاهدا لنفسه بزيادة قيمة ما هو مالكه. وقد روي عن عمر بن
الخطاب أنه قال لعبد الله بن عمرو بن الحضرمي لما ذكر له أن عبده سرق
مرة لامرأته: "عبدكم سرق مالكم، لا قطع عليه" فجعل مال كل واحد منهما
مضافا إليهما بالزوجية التي بينهما، فما يثبته كل واحد لصاحبه فكأنه
يثبته لنفسه. ومن جهة أخرى أنه كلما كثر مال الزوج كانت النفقة التي
تستحقها أكثر، فكأنها شاهدة لنفسها; إذ كانت مستحقة للنفقة بحق الزوجية
في حالي الفقر والغنى.
فإن قال قائل: فالأخت الفقيرة والأخ الزمن يستحقان للنفقة على أخيهما
إذا كان غنيا ولم يمنع ذلك جواز شهادتهما له. قيل له: ليست الأخوة
موجبة للاستحقاق لأن الغني لا يستحقها مع وجود النسب والفقير لا تجب
عليه مع وجود الأخوة، والزوجية سبب لاستحقاقها فقيرا كان الزوج أو
غنيا، فكانت المرأة مثبتة بشهادتها لنفسها زيادة النفقة مع وجود
الزوجية الموجبة لها، والنسب ليس كذلك لأنه غير موجب للنفقة لوجوده
بينهما; فلذلك اختلفا.
(1/619)
ومن هذا
الباب أيضا شهادة الأجير
وقد ذكر الطحاوي، عن محمد بن سنان، عن عيسى، عن محمد، عن أبي يوسف، عن
أبي حنيفة: "أن شهادة الأجير غير جائزة لمستأجره في شيء وإن كان عدلا
استحسانا".
قال أبو بكر: روى هشام وابن رستم عن محمد "أن شهادة الأجير الخاص غير
جائزة لمستأجره، وتجوز شهادة الأجير المشترك له" ولم يذكر خلافا عن أحد
منهم; وهو قول عبيد الله بن الحسن. وقال مالك: "لا تجوز شهادة الأجير
لمن استأجره إلا أن يكون مبرزا في العدالة، وإن كان الأجير في عياله لم
تجز شهادته له". وقال الأوزاعي: "لا
(1/619)
تجوز
شهادة الأجير لمستأجره". وقال الثوري: "شهادة الأجير جائزة إذا كان لا
يجر إلى نفسه". حدثنا عبد الباقي بن قانع قال: حدثنا معاذ بن المثنى
قال: حدثنا أبو عمر الحوضي قال: حدثنا محمد بن راشد، عن سليمان بن
موسى، عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: "أن النبي صلى الله عليه وسلم
رد شهادة الخائن والخائنة وشهادة ذي الغمر على أخيه ورد شهادة القانع
لأهل البيت، وأجازها على غيرهم". وحدثنا محمد بن بكر قال: حدثنا أبو
داود قال: حدثنا حفص بن عمر قال: حدثنا محمد بن راشد بإسناده مثله، إلا
أنه قال: "و رد شهادة القانع لأهل البيت", قال أبو بكر: قوله: "القانع
لأهل البيت" يدخل فيه الأجير الخاص; لأن معناه: التابع لهم، والأجير
الخاص هذه صفته، وأما الأجير المشترك فهو وسائر الناس في ماله بمنزلة،
فلا يمنع ذلك جواز شهادته; وكذلك شريك العنان تجوز شهادته له في غير
مال الشركة.
وقال أصحابنا: كل شهادة ردت للتهمة لم تقبل أبدا، مثل شهادة الفاسق إذا
ردت لفسقه ثم تاب وأصلح فشهد بتلك الشهادة لم تقبل أبدا، ومثل شهادة
أحد الزوجين للآخر إذا ردت ثم شهد بها بعد زوال الزوجية لم تقبل أبدا.
وقالوا: لو شهد عبد بشهادة أو كافر أو صبي فردت ثم أعتق العبد أو أسلم
الكافر أو كبر الصبي ثم شهد بها قبلت. وقال مالك: إذا شهد الصبي أو
العبد بشهادة ثم ردت ثم كبر الصبي أو أعتق العبد وشهدا بها لم تقبل
أبدا، ولو لم تكن ردت قبل ذلك فإنها جائزة". وروي عن عثمان بن عفان مثل
قول مالك.
وإنما قال أصحابنا "إنها إذا ردت لتهمة لم تقبل أبدا" من قبل أن الحاكم
قد حكم بإبطالها، وحكم الحاكم لا يجوز فسخه إلا بحكم، ولا يصح فسخه بما
لا يثبت من جهة الحكم، فلما لم يصح الحكم بزوال التهمة التي من أجلها
ردت الشهادة كان حكم الحاكم بإبطال تلك الشهادة ماضيا لا يجوز فسخه
أبدا. وأما الرق والكفر والصغر فإن المعاني التي ردت من أجلها وحكم
الحاكم بإبطالها محكوم بزوالها لأن الحرية والإسلام والبلوغ كل ذلك مما
يحكم به الحاكم، فلما صح حكم الحاكم بزوال المعاني التي من أجلها بطلت
شهادتهم وجب أن تقبل، ولما لم يصح أن يحكم الحاكم بزوال التهمة لأن ذلك
معنى لا تقوم به البينة ولا يحكم به الحاكم، كان حكم الحاكم بإبطالها
ماضيا; إذ كان ما ثبت من طريق الحكم لا ينفسخ إلا من جهة الحكم.
فهذه الأمور الثلاثة التي ذكرناها: من العدالة، ونفي التهمة، وقلة
الغفلة; هي من شرائط الشهادات، وقد انتظمها قوله تعالى: {مِمَّنْ
تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} فانظر إلى كثرة هذه المعاني والفوائد
والدلالات على الأحكام التي في ضمن قوله تعالى: {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ
(1/620)
مِنَ
الشُّهَدَاءِ} مع قلة حروفه وبلاغة لفظه ووجازته واختصاره وظهور فوائده
وجميع ما ذكرنا عند ذكرنا لمعنى هذا اللفظ من أقاويل السلف والخلف
واستنباط كل واحد منهم ما في مضمونه وتحريهم موافقته مع احتماله لجميع
ذلك، يدل على أنه كلام الله ومن عنده تعالى وتقدس; إذ ليس في وسع
المخلوقين إيراد لفظ يتضمن من المعاني والدلالات والفوائد والأحكام ما
تضمنه هذا القول مع اختصاره وقلة عدد حروفه. وعسى أن يكون ما لم يحط به
علمنا من معانيه مما لو كتب لطال وكثر، والله نسأل التوفيق لنعلم
أحكامه ودلائل كتابه، وأن يجعل ذلك خالصا لوجهه.
قوله تعالى عز وجل: {أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ
إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى} قرئ: {فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى}،
بالتشديد وقرئ: {فتذكر إحداهما الأخرى} بالتخفيف. وقيل إن معناهما قد
يكون واحدا، يقال: ذكرته وذكرته; وروي ذلك عن الربيع بن أنس والسدي
والضحاك. وحدثنا عبد الباقي بن قانع قال: حدثنا أبو عبيد مؤمل الصيرفي
قال: حدثنا أبو يعلى البصري قال: حدثنا الأصمعي عن أبي عمرو قال: من
قرأ: {فَتُذَكِّرَ} مخففة أراد: تجعل شهادتهما بمنزلة شهادة ذكر ومن
قرأ: فتذكر بالتشديد، أراد من جهة التذكير; وروي ذلك عن سفيان بن
عيينة.
قال أبو بكر: إذا كان محتملا للأمرين وجب حمل كل واحدة من القراءتين
على معنى وفائدة مجددة، فيكون قوله تعالى: {فَتُذَكِّرَ} بالتخفيف
تجعلهما جميعا بمنزلة رجل واحد في ضبط الشهادة وحفظها في إتقانها، قوله
تعالى: {فَتُذَكِّرَ} من التذكير عند النسيان; واستعمال كل واحد منهما
على موجب دلالتيهما أولى من الاقتصار بها على موجب دلالة أحدهما. ويدل
على ذلك أيضا قول النبي صلى الله عليه وسلم: "ما رأيت ناقصات عقل ودين
أغلب لعقول ذوي الألباب منهن" قيل: يا رسول الله وما نقصان عقلهن؟ قال:
"جعل شهادة امرأتين بشهادة رجل" فهذا موافق لمعنى من تأول:
{فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى} على أنهما تصيران في ضبط
الشهادة وحفظها بمنزلة رجل. وفي هذه الآية دلالة على أنه غير جائز لأحد
إقامة شهادة وإن عرف خطه إلا أن يكون ذاكرا لها، ألا ترى أن الله تعالى
ذكر ذلك بعد الكتاب والإشهاد ثم قال تعالى: {أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا
فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى}؟ فلم يقتصر بنا على الكتاب والخط
دون ذكر الشهادة، وكذلك قوله تعالى: {ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ
وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا} فدل ذلك على
أن الكتاب إنما أمر به لتستذكر به كيفية الشهادة، وأنها لا تقام إلا
بعد حفظها وإتقانها. وفيها الدلالة على أن الشاهد إذا قال: ليس عندي
شهادة في هذا الحق، ثم قال: عندي شهادة فيه; أنها مقبولة، لقوله تعالى:
{أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى}
(1/621)
فأجازها
إذا ذكرها بعد نسيانها. وذكر ابن رستم عن محمد رحمه الله في رجل سئل عن
شهادة في أمر كان يعلمه، فقال: ليس عندي شهادة، ثم إنه شهد بها في ذلك
عند القاضي، قال تقبل منه إذا كان عدلا لأنه يقول نسيتها ثم ذكرتها،
ولأن الحق ليس له فيجوز قوله عليه، وإنما الحق لغيره فكذلك تقبل شهادته
فيه. قال أبو بكر: يعني أنه ليس هذا مثل أن يقول المدعي: ليس لي عنده
هذا الحق، ثم يدعيه فلا تقبل دعواه له بعد إقراره لأنه أبرأه من الحق
وأقر على نفسه فجاز إقراره، فلا تقبل دعواه بعد ذلك لذلك الحق لنفسه
لأنه قد أبطلها بإقراره. وأما الشهادة فإنما هي حق للغير فلا يبطلها
قوله: ليس عندي شهادة; وقوله تعالى: {أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا
فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى} يدل على صحة هذا القول.
وقد اختلف الفقهاء في الشهادة على الخط، فقال أبو حنيفة وأبو يوسف: "لا
يشهد بها حتى يذكرها" وهذا هو المشهور من قولهم. وروى ابن رستم قال:
قلت لمحمد رجل يشهد على شهادة وكتبها بخطه وختمها أو لم يختم عليها وقد
عرف خطه؟ قال: إذا عرف خطه وسعه أن يشهد عليها ختم عليها أو لم يختم.
قال: فقلت: إن كان أميا لا يقرأ فكتب غيره له؟ قال: لا يشهد حتى يحفظ
ويذكرها. وقال أبو حنيفة: "ما وجد القاضي في ديوانه لا يقضي به إلا أن
يذكره". وقال أبو يوسف: "يقضي به إذا كان في قمطره وتحت خاتمه لأنه لو
لم يفعله أضر بالناس" وهو قول محمد. ولا خلاف بينهم أنه لا يمضي شيئا
منه إذا لم يكن تحت خاتمه، وأنه لا يمضي ما وجده في ديوان غيره من
القضاة إلا أن يشهد به الشهود على حكم الحاكم الذي قبله. وقال ابن أبي
ليلى مثل قول أبي يوسف فيما يجده في ديوانه; وذكر أبو يوسف أيضا عن ابن
أبي ليلى: "إذا أقر عند القاضي لخصمه فلم يثبته في ديوانه ولم يقض به
عليه ثم سأله المقر له به أن يقضي له على خصمه، فإنه لا يقضي به عليه"
في قول ابن أبي ليلى. وقال أبو حنيفة وأبو يوسف: "يقضي به عليه إذا كان
يذكره". وقال مالك فيمن عرف خطه ولم يذكر الشهادة: "إنه لا يشهد على ما
في الكتاب ولكن يؤدي شهادته إلى الحاكم كما علم وليس للحاكم أن يجيزها،
فإن كتب الذي عليه الحق شهادته على نفسه في ذكر الحق ومات الشهود فأنكر
فشهد رجلان أنه خط نفسه، فإنه يحكم عليه بالمال ولا يستحلف رب المال".
وذكر أشهب عنه فيمن عرف خطه ولا يذكر الشهادة "أنه يؤديها إلى السلطان
ويعلمه ليرى فيه رأيه". وقال الثوري: "إذا ذكر أنه شهد ولا يذكر عدد
الدراهم فإنه لا يشهد وإن كتبها عنده ولم يذكر إلا أنه يعرف الكتاب،
فإنه إذا ذكر أنه شهد وأنه قد كتبها فأرى أن يشهد على الكتاب". وقال
الليث: "إذا عرف أنه خط يده وكان ممن يعلم
(1/622)
أنه لا
يشهد إلا بحق فليشهد". وقال الشافعي: "إذا ذكر إقرار المقر حكم به عليه
أثبته في ديوانه أو لم يثبته لأنه لا معنى للديوان إلا الذكر". وقال في
كتاب المزني: "إنه لا يشهد حتى يذكر".
قال أبو بكر: قد ذكرنا دلالة قوله تعالى: {أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا
فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى} ودلالة قوله تعالى بعد ذكر
الكتاب: {ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ
وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا} على أن من شرط جواز إقامة الشهادة ذكر
الشاهد لها، وأنه لا يجوز الاقتصار فيها على الخط; إذ الخط والكتاب
مأمور به لتذكر به الشهادة. ويدل عليه أيضا قوله تعالى: {إِلَّا مَنْ
شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [الزخرف: 86] فإذا لم يذكرها
فهو غير عالم بها; وقوله تعالى: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ
عِلْمٌ} [الإسراء: 36] يدل على ذلك أيضا. ويدل عليه حديث ابن عباس عن
النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إذا رأيت مثل الشمس فاشهد وإلا
فدع" وقد تقدم ذكر سنده. وأما الخط فقد يزور عليه، وقد يشتبه على
الشاهد فيظن أنه خطه وليس خطه. ولما كانت الشهادة من مشاهدة الشيء
وحقيقة العلم به، فمن لا يذكر الشهادة فهو بخلاف هذه الصفة، فلا تجوز
له إقامة الشهادة به. وقد أكد أمر الشهادة حتى صار لا يقبل فيها إلا
صريح لفظها ولا يقبل ما يقوم مقامها من الألفاظ، فكيف يجوز العمل على
الخط الذي يجوز عليه التزوير والتبديل؟ وقد روي عن أبي معاوية النخعي
عن الشعبي فيمن عرف الخط والخاتم ولا يذكر الشهادة: "أنه لا يشهد به
حتى يذكرها". وقوله تعالى: {أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا} معناه: أن
ينساها; لأن الضلال هو الذهاب عن الشيء، فلما كان الناسي ذاهبا عما
نسيه جاز أن يقال: ضل عنه، بمعنى أنه نسيه. وقد يقال أيضا: ضلت عنه
الشهادة وضل عنها، والمعنى واحد. والله تعالى أعلم.
(1/623)
باب الشاهد و اليمين
...
باب الشاهد واليمين
اختلف الفقهاء في الحكم بشاهد واحد مع يمين الطالب، فقال أبو حنيفة
وأبو يوسف ومحمد وزفر وابن شبرمة: "لا يحكم إلا بشاهدين ولا يقبل شاهد
ويمين في شيء". وقال مالك والشافعي: "يحكم به في الأموال خاصة".
قال أبو بكر: قوله تعالى: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ
رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ
مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} يوجب بطلان القول بالشاهد
واليمين وذلك لأن قوله: {وَاسْتَشْهِدُوا} يتضمن الإشهاد على عقود
المداينات التي ابتدأ في الخطاب بذكرها، ويتضمن إقامتها عند الحاكم
ولزوم الحاكم الأخذ بها لاحتمال اللفظ للحالين ولأن الإشهاد على العقد
إنما الغرض فيه إثباته عند التجاحد فقد تضمن لا محالة
(1/623)
استشهاد
الشاهدين أو الرجل والمرأتين على العقد عند الحاكم وإلزامه الحكم به.
وإذا كان كذلك فظاهر اللفظ يقتضي الإيجاب، لأنه أمر وأوامر الله على
الوجوب فقد ألزم الله الحاكم الحكم بالعدد المذكور، كقوله تعالى:
{فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} [النور: 4] وقوله تعالى:
{فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} [النور: 2]
ولم يجز الاقتصار على ما دون العدد المذكور، كذلك العدد المذكور
للشهادة غير جائز الاقتصار فيه على ما دونه، وفي تجويز أقل منه مخالفة
الكتاب كما لو أجاز مجيز أن يكون حد القذف سبعين أو حد الزنا تسعين كان
مخالفا للآية. وأيضا قد انتظمت الآية شيئين من أمر الشهود، أحدهما:
العدد، والآخر: الصفة، وهي أن يكونوا أحرارا مرضيين، لقوله تعالى:
{مِنْ رِجَالِكُمْ} وقوله تعالى: {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ
الشُّهَدَاءِ} فلما لم يجز إسقاط الصفة المشروطة لهم والاقتصار على ما
دونها، لم يجز إسقاط العدد; إذ كانت الآية مقتضية لاستيفاء الأمرين في
تنفيذ الحكم بها وهو العدد والعدالة والرضا، فغير جائز إسقاط واحد
منهما; والعدد أولى بالاعتبار من العدالة والرضا لأن العدد معلوم من
جهة اليقين، والعدالة إنما نثبتها من طريق الظاهر لا من طريق الحقيقة،
فلما لم يجز إسقاط العدالة المشروطة من طريق الظاهر لم يجز إسقاط العدد
المعلوم من جهة الحقيقة واليقين. وأيضا فلما أراد الله الاحتياط في
إجازة شهادة النساء أوجب شهادة المرأتين وقال: {أَنْ تَضِلَّ
إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى} ثم قال: {ذَلِكُمْ
أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلَّا
تَرْتَابُوا} فنفى بذلك أسباب التهمة والريب والنسيان. وفي مضمون ذلك
ما ينفي قبول يمين الطالب والحكم له بشاهد واحد لما فيه من الحكم بغير
ما أمر به من الاحتياط والاستظهار ونفي الريبة والشك، وفي قبول يمينه
أعظم الريب والشك وأكبر التهمة، وذلك خلاف مقتضى الآية.
ويدل على بطلان الشاهد واليمين قول الله تعالى: {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ
مِنَ الشُّهَدَاءِ} وقد علمنا أن الشاهد الواحد غير مقبول ولا مراد
بالآية، ويمين الطالب لا يجوز أن يقع عليها اسم الشاهد ولا يجوز أن
يكون رضي فيما يدعيه لنفسه; فالحكم بشاهد واحد ويمينه مخالف للآية من
هذه الوجوه ورافع لما قصد به من أمر الشهادات من الاحتياط والوثيقة على
ما بين الله في هذه الآية وقصد به من المعاني المقصودة بها. ويدل عليه
قول النبي صلى الله عليه وسلم: "البينة على المدعي واليمين على المدعى
عليه" وفرق بين اليمين والبينة، فغير جائز أن تكون اليمين بينة لأنه لو
جاز أن تسمى اليمين بينة لكان بمنزلة قول القائل "البينة على المدعي
والبينة على المدعى عليه" وقوله "البينة" اسم للجنس، فاستوعب ما تحتها،
فما من بينة إلا وهي التي على المدعي، فإذا لا يجوز أن يكون عليه
اليمين.
(1/624)
وأيضا لما
كانت البينة لفظا مجملا قد يقع على معان مختلفة، واتفقوا أن الشاهدين
والشاهد والمرأتين مرادون بهذا الخبر وأن الاسم يقع عليهم، صار كقوله
"الشاهدان أو الشاهد والمرأتان على المدعي" فغير جائز الاقتصار على ما
دونهم. وهذا الخبر وإن كان وروده من طريق الآحاد فإن الأمة قد تلقته
بالقبول والاستعمال فصار في حيز المتواتر; ويدل عليه قوله صلى الله
عليه وسلم: "لو أعطي الناس بدعواهم لادعى قوم دماء قوم وأموالهم" فحوى
هذا الخبر ضربين من الدلالة على بطلان القول بالشاهد واليمين: أحدهما:
أن يمينه دعواه لأن مخبرها ومخبر دعواه واحد، فلو استحق بيمينه كان
مستحقا بدعواه، وقد منع النبي صلى الله عليه وسلم ذلك. والثاني: أن
دعواه لما كانت قوله ومنع النبي صلى الله عليه وسلم أن يستحق بها شيئا،
لم يجز أن يستحق بيمينه; إذ كانت يمينه قوله. ويدل على ذلك حديث علقمة
بن وائل بن حجر عن أبيه في الحضرمي الذي خاصم الكندي في أرض ادعاها في
يده وجحد الكندي، فقال النبي صلى الله عليه وسلم للحضرمي: "شاهداك أو
يمينه ليس لك إلا ذلك" فنفى النبي صلى الله عليه وسلم أن يستحق شيئا
بغير شاهدين، وأخبر أنه لا شيء له غير ذلك.
فإن قيل: لم ينف بذلك أن يستحق بإقرار المدعى عليه، كذلك لا ينفي أن
يستحق بشاهد ويمين. قيل له: قد كان المدعى عليه جاحدا فبين النبي صلى
الله عليه وسلم حكم ما يوجب صحة دعواه عند الجحود، فأما حال الإقرار
فلم يجر لها ذكر وهي موقوفة على الدلالة، وأيضا فإن ظاهره يقتضي أن لا
يستحق شيئا إلا ما ذكرنا في الخبر، والإقرار قد ثبت بالإجماع وجوب
الاستحقاق به، فحكمنا به; والشاهد واليمين مختلف فيه، فقضى قوله:
"شاهداك أو يمينه ليس لك إلا ذلك" ببطلانه.
واحتج القائلون بالشاهد واليمين بأخبار رويت مبهمة ذكر فيها قضية النبي
صلى الله عليه وسلم به أنا ذاكرها ومبين ما فيها: أحدها: ما حدثنا عبد
الرحمن بن سيما قال: حدثنا عبد الله بن أحمد قال: حدثني أبي قال: حدثنا
أبو سعيد قال: حدثنا سليمان قال: حدثنا ربيعة بن أبي عبد الرحمن، عن
سهيل بن أبي صالح، عن أبي هريرة: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى
باليمين مع الشاهد" . وروى عثمان بن الحكم، عن زهير بن محمد، عن سهيل
بن أبي صالح، عن أبيه، عن زيد بن ثابت، عن النبي صلى الله عليه وسلم
مثله. وحديث آخر، وهو ما حدثنا محمد بن بكر قال: حدثنا أبو داود قال:
حدثنا عثمان بن أبي شيبة والحسن بن علي، أن زيد بن الحباب حدثهم قال:
حدثنا سيف يعني ابن سليمان المكي عن قيس بن سعد، عن عمرو بن دينار عن
ابن عباس: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى بيمين وشاهد". وحدثنا
محمد بن بكر قال: حدثنا أبو داود قال: حدثنا محمد بن يحيى وسلمة بن
شبيب قالا: حدثنا عبد الرزاق قال: أخبرنا محمد بن مسلم عن عمرو بن
دينار، بإسناده ومعناه.
(1/625)
وحدثنا
عبد الرحمن بن سيما قال: حدثنا عبد الله بن أحمد قال: حدثني أبي قال:
حدثنا عبد الله بن الحارث قال: حدثنا سيف بن سليمان، عن قيس بن سعد، عن
عمرو بن دينار، عن ابن عباس: "أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى باليمين
مع الشاهد" قال عمرو: إنما ذاك في الأموال. وحدثنا عبد الرحمن بن سيما
قال: حدثنا عبد الله بن أحمد قال: حدثني أبي قال: حدثنا وكيع قال:
حدثنا خلد بن أبي كريمة عن أبي جعفر: "أن رسول الله أجاز شهادة رجل مع
يمين المدعي في الحقوق" ورواه مالك وسفيان عن جعفر بن محمد عن. أبيه عن
النبي صلى الله عليه وسلم: "أنه قضى بشهادة رجل مع اليمين".
قال أبو بكر: والمانع من قبول هذه الأخبار وإيجاب الحكم بالشاهد
واليمين بها وجوه: أحدها: فساد طرقها، والثاني جحود المروي عنه
روايتها، والثالث: رد نص القرآن لها، والرابع: أنها لو سلمت من الطعن
والفساد لما دلت على قول المخالف، والخامس: احتمالها لموافقة الكتاب.
فأما فسادها من طريق النقل، فإن حديث سيف بن سليمان غير ثابت لضعف سيف
بن سليمان هذا، ولأن عمرو بن دينار لا يصح له سماع من ابن عباس; فلا
يصح لمخالفنا الاحتجاج به; وحدثنا عبد الرحمن بن سيما قال: حدثنا عبد
الله بن أحمد قال: حدثني أبي قال: حدثنا أبو سلمة الخزاعي قال: حدثنا
سليمان بن بلال، عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن، عن إسماعيل بن عمرو بن
قيس بن سعد بن عبادة، عن أبيه، أنهم وجدوا في كتاب سعد بن عبادة: "أن
رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى باليمين مع الشاهد", فلو كان عنده عن
عمرو بن دينار عن ابن عباس لذكره ولم يلجأ إلى ما وجده في كتاب. وأما
حديث سهيل، فإن محمد بن بكر قال: حدثنا أبو داود قال: حدثنا أحمد بن
أبي بكر أبو مصعب الزهري قال: حدثنا الدراوردي، عن ربيعة بن أبي عبد
الرحمن، عن سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة: "أن النبي صلى
الله عليه وسلم قضى باليمين مع الشاهد", قال أبو داود: وزادني الربيع
بن سليمان المؤذن في هذا الحديث قال: أخبرنا الشافعي عن عبد العزيز
قال: فذكرت ذلك لسهيل فقال: أخبرني ربيعة وهو عندي ثقة أني حدثته إياه
ولا أحفظه. قال عبد العزيز: وقد كان أصابت سهيلا علة أزالت بعض عقله
ونسي بعض حديثه، فكان سهيل بعد يحدثه عن ربيعة عنه عن أبيه. وحدثنا
محمد بن بكر قال: حدثنا أبو داود قال: حدثنا محمد بن داود الإسكندراني
قال: حدثنا زياد يعني ابن يونس قال: حدثني سليمان بن بلال عن ربيعة
بإسناد أبي مصعب ومعناه; قال سليمان: فلقيت سهيلا فسألته عن هذا
الحديث، فقال: ما أعرفه، فقلت له: إن ربيعة أخبرني به عنك، قال: فإن
كان ربيعة أخبرك عني فحدث به عن ربيعة عني.
(1/626)
ومثل هذا
الحديث لا تثبت به شريعة مع إنكار من روي عنه إياه وفقد معرفته به. فإن
قال قائل: يجوز أن يكون رواه ثم نسيه. قيل له: ويجوز أن يكون قد وهم
بديا فيه وروى ما لم يكن سمعه، وقد علمنا أنه كان آخر أمره جحوده وفقد
العلم به، فهو أولى.
وأما حديث جعفر بن محمد فإنه مرسل، وقد وصله عبد الوهاب الثقفي; وقيل
إنه أخطأ فيه فذكر فيه جابرا، وإنما هو عن أبي جعفر محمد بن علي عن
النبي صلى الله عليه وسلم.
قال أبو بكر: فهذه الأمور التي ذكرنا إحدى العلل المانعة من قبول هذه
الأخبار وإثبات الأحكام بها. ومن جهة أخرى، وهو ما حدثنا عبد الرحمن بن
سيما قال: حدثنا عبد الله بن أحمد قال: حدثني أبي قال: حدثنا إسماعيل
عن سوار بن عبد الله قال: سألت ربيعة الرأي قلت: قولكم شهادة الشاهد
ويمين صاحب الحق؟ قال: وجدت في كتاب سعد. فلو كان حديث سهيل صحيحا عند
ربيعة لذكره ولم يعتمد على ما وجد في كتاب سعد. وحدثنا عبد الرحمن بن
سيما قال: حدثنا عبد الله بن أحمد قال: حدثني أبي قال: حدثنا عبد
الرزاق قال: حدثنا معمر عن الزهري في اليمين مع الشاهد قال: هذا شيء
أحدثه الناس، لا إلا شاهدين. حدثنا حماد بن خالد الخياط قال: سألت ابن
أبي ذئب: إيش كان الزهري يقول في اليمين مع الشاهد؟ قال: كان يقول
بدعة، وأول من أجازه معاوية وروى محمد بن الحسن عن ابن أبي ذئب قال:
سألت الزهري عن شهادة شاهد ويمين الطالب، فقال: ما أعرفه، وإنها لبدعة،
وأول من قضى به معاوية، والزهري من أعلم أهل المدينة في وقته، فلو كان
هذا الخبر ثابتا كيف كان يخفى مثله عليه وهو أصل كبير من أصول الأحكام؟
وعلى أنه قد علم أن معاوية أول من قضى به وأنه بدعة.
وقد روي عن معاوية أنه قضى بشهادة امرأة واحدة في المال من غير يمين
الطالب; حدثنا عبد الرحمن بن سيما قال: حدثنا عبد الله بن أحمد قال:
حدثني أبي قال: حدثنا عبد الرزاق وروح ومحمد بن بكر قالوا: أخبرنا ابن
جريج قال: أخبرني عبد الله بن أبي مليكة، أن علقمة بن أبي وقاص أخبره
أن أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم شهدت لمحمد بن عبد الله بن
زهير وإخوته أن ربيعة بن أبي أمية أعطى أخاه زهير بن أبي أمية نصيبه من
ربعه، ولم يشهد على ذلك غيرها، فأجاز معاوية شهادتها وحدها وعلقمة حاضر
ذلك من قضاء معاوية. فإن كان قضاء معاوية بالشاهد مع اليمين جائزا
فينبغي أن يجوز أيضا قضاؤه بالشاهد من غير يمين الطالب، فاقضوا بمثله
وأبطلوا حكم الكتاب والسنة. وحدثنا عبد الرحمن بن سيما قال: حدثنا عبد
الله بن أحمد قال: حدثني أبي قال: حدثنا عبد الرزاق قال: أخبرنا ابن
جريج قال: كان عطاء يقول: "لا تجوز شهادة على دين ولا غيره دون شاهدين"
حتى إذا كان عبد الملك بن مروان جعل مع شهادة الرجل الواحد يمين
(1/627)
الطالب.
وروى مطرف بن مازن قاضي أهل اليمن عن ابن جريج عن عطاء بن أبي رباح
قال: "أدركت هذا البلد يعني مكة وما يقضى فيه في الحقوق إلا بشاهدين،
حتى كان عبد الملك بن مروان يقضي بشاهد ويمين". وروى الليث بن سعد عن
زريق بن حكيم، أنه كتب إلى عمر بن عبد العزيز وهو عامله: إنك كنت تقضي
بالمدينة بشهادة الشاهد ويمين صاحب الحق، فكتب إليه عمر: إنا قد كنا
نقضي كذلك، وإنا وجدنا الناس على غير ذلك، فلا تقضين إلا بشهادة رجلين
أو برجل وامرأتين.
فقد أخبر هؤلاء السلف إن القضاء باليمين سنة معاوية وعبد الملك وأنه
ليس بسنة النبي صلى الله عليه وسلم فلو كان ذلك عن النبي صلى الله عليه
وسلم لما خفي على علماء التابعين. فهذان الوجهان اللذان ذكرنا، أحدهما:
فساد السند واضطرابه، والثاني جحود سهيل له وهو العمدة فيه، وإخبار
ربيعة أن أصله ما وجد في كتاب سعد، وإنكار علماء التابعين وإخبارهم أنه
بدعة وأن معاوية وعبد الملك أول من قضى به. والوجه الثالث: إنها لو
وردت من طرق مستقيمة تقبل أخبار الآحاد في مثلها وعريت من ظهور نكير
السلف على رواتها وإخبارهم إنها بدعة، لما جاز الاعتراض بها على نص
القرآن; إذ غير جائز نسخ القرآن بأخبار الآحاد. ووجه النسخ منه أن
المفهوم منه الذي لا يرتاب به أحد من سامعي الآية من أهل اللغة حظر
قبول أقل من شاهدين أو رجل وامرأتين. وفي استعمال هذا الخبر ترك موجب
الآية والاقتصار على أقل من العدد المذكور; إذ غير جائز أن ينطوي تحت
ذكر العدد المذكور في الآية الشاهد واليمين، كما كان المفهوم من قوله:
{فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} [النور: 4] وقوله: {فَاجْلِدُوا
كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} [النور: 2] منع الاقتصار
على أقل منها في كونها حدا.
فإن قال قائل جائز أن يكون حق القاذف أقل من ثمانين، وحق الزاني أقل من
مائة كان مخالفا للآية; كذلك من قبل شهادة رجل واحد فقد خالف أمر الله
تعالى في استشهاد شاهدين. وهو مخالف لمعنى الآية كذلك من وجه آخر: وهو
ما أبان الله تعالى به عن المقصد في الكتاب واستشهاد الشهود في قوله:
{ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى
أَلَّا تَرْتَابُوا} وقوله: {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ
أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى} فأخبر
أن المقصد فيه الاحتياط والتوثق لصاحب الحق والاستظهار بالكتاب والشهود
لنفي الريبة والشك والتهمة عن الشهود في قوله: {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ
مِنَ الشُّهَدَاءِ} وفي الحكم بشاهد ويمين رفع هذه المعاني كلها وإسقاط
اعتبارها. فثبت بما وصفنا أن الحكم بها خلاف الآية. فهذان الوجهان مما
قد ظهر بهما مخالفة الحكم بالشاهد واليمين للآية. وأيضا فلما كان حكم
القرآن في الشاهدين والرجل والمرأتين
(1/628)
مستعملا
ثابتا وكانت أخبار الشاهد واليمين مختلفا فيها، وجب أن يكون خبر الشاهد
واليمين منسوخا بالقرآن; لأنه لو كان ثابتا لاتفق على استعمال حكمه
كاتفاقهم على استعمال حكم القرآن.
والوجه الرابع: أن خبر الشاهد واليمين لو سلم من معارضة الكتاب وورد من
طرق مستقيمة لما صح الاحتجاج به في الاستحقاق بشاهد ويمين الطالب، وذلك
أن أكثر ما فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى بشاهد ويمين، وهذه
حكاية قضية من النبي صلى الله عليه وسلم ليس بلفظ عموم في إيجاب الحكم
بشاهد ويمين حتى يحتج به في غيره، ولم يبين لنا كيفيتها في الخبر. وفي
حديث أبي هريرة: "أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى باليمين مع الشاهد",
وذلك محتمل أن يريد به أن وجود الشاهد الواحد لا يمنع استحلاف المدعى
عليه إن استحلفه مع شهادة شاهد; فأفاد أن شهادة الشاهد الواحد لا تمنع
استحلاف المدعى عليه، وأن وجوده وعدمه بمنزلة. وقد كان يجوز أن يظن ظان
أن اليمين إنما تجب على المدعى عليه إذا لم يكن للمدعي شاهد أصلا،
فأبطل الراوي بنقله لهذه القضية ظن الظان لذلك. وأيضا فإن الشاهد قد
يكون اسما للجنس، فجائز أن يكون مراد الراوي أنه قضى باليمين في حال
وبالبينة في حال، فلا يكون حكم الشاهد مفيدا للقضاء بشهادة واحد; وهذا
كقوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا}
[المائدة: 38] لما كان اسما للجنس لم يكن المراد سارقا واحدا. وجائز أن
يكون قضى بشاهد واحد، وهو خزيمة بن ثابت الذي جعل شهادته بشهادة رجلين،
فاستحلف الطالب مع ذلك لأن المطلوب ادعى البراءة.
والوجه الخامس: احتماله لموافقة مذهبنا، وذلك بأن تكون القضية فيمن
اشترى جارية وادعى عيبا في موضع لا يجوز النظر إليه إلا لعذر، فتقبل
شهادة الشاهد الواحد في وجود العيب، واستحلف المشتري مع ذلك بالله ما
رضي، فيكون قد قضى بالرد على البائع بشهادة شاهد مع يمين الطالب وهو
المشتري. وإذا كان خبر الشاهد واليمين محتملا لما وصفنا; وجب حمله عليه
وأن لا يزال به حكم ثابت من جهة نص القرآن، لما روي عن النبي صلى الله
عليه وسلم: "ما أتاكم عني فاعرضوه على كتاب الله، فما وافق كتاب الله
فهو مني، وما خالفه فليس مني" وأيضا فإن القضية المروية في الشاهد
واليمين ليس فيها أنها كانت في الأموال أو غيرها، وقد اتفق الفقهاء على
بطلانه في غير الأموال فكذلك في الأموال.
فإن قيل: قال عمرو بن دينار في الأموال. قيل له: هو قول عمرو بن دينار
ومذهبه، وليس فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى بها في الأموال فإذا
جاز أن لا يقضي في غير الأموال، وإن كانت القضية مبهمة ليس فيها بيان
ذكر الأموال ولا غيرها، فكذلك لا
(1/629)
يقضي به
في الأموال إذا لم يبين كيفيتها، وليس القضاء بها في الأموال بأولى منه
في غيرها.
فإن قيل: إنما يقضي به فيما تقبل فيه شهادة رجل وامرأتين وهو الأموال،
فتقوم يمين الطالب مقام شاهد واحد مع شهادة الآخر. قيل له: هذه دعوى لا
دلالة عليها، ومع ذلك فكيف صارت يمين الطالب قائمة مقام شاهد آخر دون
أن تقوم مقام امرأة؟ ويقال له: أرأيت لو كان المدعي امرأة، هل تقيم
يمينها مقام شهادة رجل؟ فإن قال: نعم، قيل له فقد صارت اليمين آكد من
الشهادة لأنك لا تقبل شهادة امرأة واحدة في الحقوق وقبلت يمينها
وأقمتها مقام شهادة رجل واحد، والله تعالى إنما أمرنا بقبول من نرضى من
الشهداء، وإن كانت هذه شاهدة أو قامت يمينها مقام شهادة رجل فقد خالفت
القرآن; لأن أحدا لا يكون مرضيا فيما يدعيه لنفسه. ومما يدل على تناقض
قولهم، أنه لا خلاف أن شهادة الكافر غير مقبولة على المسلم في عقود
المداينات، وكذلك شهادة الفاسق غير مقبولة، ثم إن كان المدعي كافرا أو
فاسقا وشهد معه شاهد واحد استحلفوه واستحق ما يدعيه بيمينه، وهو لو شهد
مثل هذه الشهادة لغيره وحلف عليها خمسين يمينا لم تقبل شهادته ولا
أيمانه، وإذا ادعى لنفسه وحلف استحق ما ادعى بقوله مع أنه غير مرضي ولا
مأمون لا في شهادته ولا في أيمانه. وفي ذلك دليل على بطلان قولهم
وتناقض مذهبهم.
قوله عز وجل: {وَلا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا} روي عن سعيد
بن جبير وعطاء ومجاهد والشعبي وطاوس: "إذا ما دعوا لإقامتها". وعن
قتادة والربيع بن أنس: "إذا دعوا لإثبات الشهادة في الكتب". وقال ابن
عباس والحسن: "هو على الأمرين جميعا من إثباتها في الكتاب وإقامتها بعد
عند الحاكم".
قال أبو بكر: الظاهر أنه عليهما جميعا لعموم اللفظ، وهو في الابتداء
على إثبات الشهادة، كأنه قال: إذا دعوا لإثبات شهاداتهم في الكتاب; ولا
خلاف أنه ليس على الشهود الحضور عند المتعاقدين، وإنما على المتعاقدين
أن يحضرا عند الشهود، فإذا حضراهم وسألاهم إثبات شهاداتهم في الكتاب
فهذه الحال هي المرادة بقوله: {إِذَا مَا دُعُوا} لإثبات الشهادة، وأما
إذا أثبتا شهادتهما ثم دعيا لإقامتها عند الحاكم، فهذا الدعاء هو
كحضورهما عند الحاكم; لأن الحاكم لا يحضر عند الشاهدين ليشهدا عنده
وإنما الشهود عليهم الحضور عند الحاكم. فالدعاء الأول إنما هو لإثبات
الشهادة في الكتاب، والدعاء الثاني لحضورهم عند الحاكم وإقامة الشهادة
عنده. وقوله تعالى: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ}
يجوز أن يكون أيضا على الحالين من الابتداء والإقامة لها عند الحاكم،
وقوله تعالى: {أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا
الْأُخْرَى} لا يدل على أن
(1/630)
المراد
ابتداء الشهادة; لأنه ذكر بعض ما انتظمه اللفظ، فلا دلالة فيه على
خصوصه فيه دون غيره1.
فإن قال قائل: لما قال: {وَلا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا}
فسماهم شهداء، دل على أن المراد حال إقامتها عند الحاكم; لأنهم لا
يسمون شهداء قبل أن يشهدوا في الكتاب. قيل له: هذا غلط; لأن الله تعالى
قال: { وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} فسماهما شهيدين،
وأمر باستشهادهما قبل أن يشهدا; لأنه لا خلاف أن حال الابتداء مرادة
بهذا اللفظ، وهو كما قال تعالى: {فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى
تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ} [البقرة: 23] فسماه زوجا قبل أن تتزوج.
وإنما يلزم الشاهد إثبات الشهادة ابتداء، ويلزمه إقامتها على طريق
الإيجاب إذا لم يجد من يشهد غيره، وهو فرض على الكفاية كالجهاد والصلاة
على الجنائز وغسل الموتى ودفنهم، ومتى قام به بعض سقط عن الباقين;
وكذلك حكم الشهادة في تحملها وأدائها. والذي يدل على أنها فرض على
الكفاية أنه غير جائز للناس كل الامتناع من تحمل الشهادة، ولو جاز لكل
أحد أن يمتنع من تحملها لبطلت الوثائق وضاعت الحقوق وكان فيه سقوط ما
أمر الله تعالى به وندب إليه من التوثق بالكتاب والإشهاد، فدل ذلك على
لزوم فرض إثبات الشهادة في الجملة. والدليل على أن فرضها غير معين على
كل أحد في نفسه اتفاق المسلمين على أنه ليس على كل أحد من الناس
تحملها، ويدل عليه قوله تعالى: {وَلا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ}
فإذا ثبت فرض التحمل على الكفاية كان حكم الأداء عند الحاكم، كذلك إذا
قام بها البعض منهم سقط عن الباقين، وإذا لم يكن في الكتاب إلا شاهدان
فقد تعين الفرض عليهما متى دعيا لإقامتها بقوله تعالى: {وَلا يَأْبَ
الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا} وقال: {وَلا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ
وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ} وقال: {وَأَقِيمُوا
الشَّهَادَةَ لِلَّهِ} [الطلاق: 2] وقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ
عَلَى أَنْفُسِكُمْ} [النساء: 135] وإذا كان عنهما مندوحة بإقامة
غيرهما فقد سقط الفرض عنهما لما وصفنا.
قوله عز وجل: {وَلا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيراً أَوْ
كَبِيراً إِلَى أَجَلِهِ} يعني والله أعلم: لا تملوا ولا تضجروا أن
تكتبوا القليل الذي جرت العادة بتأجيله والكثير الذي ندب فيه الكتاب
والإشهاد لأنه معلوم أنه لم يرد به القيراط والدانق ونحوه; إذ ليس في
العادة المداينة بمثله إلى أجل; فأبان أن حكم القليل المتعارف فيه
التأجيل كحكم الكثير فيما ندب إليه من الكتابة والإشهاد لما ثبت أن
النزر اليسير غير مراد بالآية وأن قليل ما جرت
ـــــــ
1 قوله "على خصوصه... الخ" هكذا في جميع النسخ، فليحرر. "لمصححه".
(1/631)
به العادة
فهو مندوب إلى كتابته والإشهاد فيه، وكل ما كان مبنيا على العادة
فطريقه الاجتهاد وغالب الظن; وهذا يدل على جواز الاجتهاد في أحكام
الحوادث التي لا توقيف فيها ولا اتفاق. وقوله: {إِلَى أَجَلِهِ} يعني:
إلى محل أجله، فيكتب ذكر الأجل في الكتاب ومحله كما كتب أصل الدين;
وهذا يدل على أن عليهما أن يكتبا في الكتاب صفة الدين ونقده ومقداره;
لأن الأجل بعض أوصاف، فحكم سائر أوصافه بمنزلته.
وقوله تعالى: {ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ
لِلشَّهَادَةِ} فيه بيان أن الغرض الذي أجرى بالأمر بالكتاب واستشهاد
الشهود هي الوثيقة والاحتياط للمتداينين عند التجاحد ورفع الخلاف. وبين
المعنى المراد بالكتابة، فأعلمهم أن ذلك أقسط عند الله، بمعنى أنه أعدل
وأولى أن لا يقع فيه بينهم التظالم، وأنه مع ذلك أقوم للشهادة; يعني
والله أعلم: أنه أثبت لها وأوضح منها لو لم تكن مكتوبة، وأنه مع ذلك
أقرب إلى نفي الريبة والشك فيها. فأبان لنا جل وعلا أنه أمر بالكتاب
والإشهاد احتياطا لنا في ديننا ودنيانا ودفع التظالم فيما بيننا، وأخبر
مع ذلك أن في الكتاب من الاحتياط للشهادة ما نفى عنها الريب والشك،
وأنه أعدل عند الله من أن لا يكون مكتوبا فيرتاب الشاهد فلا ينفك بعد
ذلك من أن يقيمها على ما فيها من الارتياب والشك، فيقدم على محظور أو
يتركها فلا يقيمها فيضيع حق الطالب. وفي هذا دليل على أن الشهادة لا
تصح إلا مع زوال الريب والشك فيها، وأنه لا يجوز للشاهد إقامتها إذا لم
يذكرها وإن عرف خطه; لأن الله تعالى أخبر أن الكتاب مأمور به لئلا
يرتاب بالشهادة، فدل ذلك على أنه لا تجوز له إقامتها مع الشك فيها،
فإذا كان الشك فيها يمنع صحتها فعدم الذكر والعلم بها أولى أن يمنع
صحتها.
قوله تعالى: {إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةَ تُدِيرُونَهَا
بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا} يعني
والله أعلم: البياعات التي يستحق كل واحد منهما على صاحبه تسليم ما عقد
عليه من جهته بلا تأجيل; فأباح ترك الكتاب فيها، وذلك توسعة منه جل وعز
لعباده ورحمة لهم لئلا يضيق عليهم أمر تبايعهم في المأكول والمشروب
والأقوات التي حاجتهم إليها ماسة في أكثر الأوقات. ثم قال تعالى في نسق
هذا الكلام: {وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ} وعمومه يقتضي الإشهاد
على سائر عقود البياعات بالأثمان العاجلة. وإنما خص التجارات الحاضرة
غير المؤجلة بإباحة ترك الكتاب فيها، فأما الإشهاد فهو مندوب إليه في
جميعها إلا النزر اليسير الذي ليس في العادة التوثق فيها بالإشهاد، نحو
شرى الخبز والبقل والماء وما جرى مجرى ذلك. وقد روي عن جماعة من السلف
أنهم رأوا الإشهاد في شرى البقل ونحوه، ولو كان مندوبا إليه لنقل عن
النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة والسلف والمتقدمين، ولنقله الكافة
لعموم الحاجة إليه. وفي علمنا بأنهم كانوا يتبايعون الأقوات
(1/632)
وما لا
يستغني الإنسان عن شرائه من غير نقل عنهم الإشهاد فيه دلالة على أن
الأمر بالإشهاد وإن كان ندبا وإرشادا فإنما هو في البياعات المعقودة
على ما يخشى فيه التجاحد من الأثمان الخطيرة والأبدال النفيسة لما
يتعلق بها من الحقوق لبعضهم على بعض من عيب إن وجده ورجوع ما يجب
لمبتاعيه باستحقاق مستحق لجميعه أو بعضه، وكان المندوب إليه فيما
تضمنته هذه الآية الكتاب والإشهاد على البياعات المعقودة على أثمان
آجلة والإشهاد على البياعات الحاضرة دون الكتاب. وروى الليث عن مجاهد
في قوله تعالى: {وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ} قال: "إذا كان
نسيئة كتب وإذا كان نقدا أشهد". وقال الحسن في النقد: "إن أشهدت فهو
ثقة وإن لم تشهد فلا بأس"، وعن الشعبي مثل ذلك. وقد قال قوم: إن الأمر
بالإشهاد منسوخ بقوله تعالى: {فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً} وقد
بينا الصواب عندنا من ذلك فيما سلف.
قوله عز وجل: {وَلا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ}. روى يزيد بن أبي
زياد عن مقسم عن ابن عباس قال: "هي أن يجيء الرجل إلى الكاتب أو الشاهد
فيقول: إني على حاجة، فيقول: إنك قد أمرت أن تجيب; فلا يضار". وعن طاوس
ومجاهد مثله. وقال الحسن وقتادة: "لا يضار كاتب فيكتب ما لم يؤمر به،
ولا يضار الشهيد فيزيد في شهادته". وقرأ "الحسن وقتادة وعطاء: ولا يضار
كاتب" بكسر الراء. وقرأ عبد الله بن مسعود ومجاهد: "لا يضار" بفتح
الراء. فكانت إحدى القراءتين نهيا لصاحب الحق عن مضارة الكاتب والشهيد،
والقراءة الأخرى فيها نهي الكاتب والشهيد عن مضارة صاحب الحق. وكلاهما
صحيح مستعمل، فصاحب الحق منهي عن مضارة الكاتب والشهيد بأن يشغلهما عن
حوائجهما ويلح عليهما في الاشتغال بكتابه وشهادته، والكاتب والشهيد كل
واحد منهما منهي عن مضارة الطالب بأن يكتب الكتاب ما لم يمل ويشهد
الشهيد بما لم يستشهد. ومن مضارة الشهيد للطالب القعود عن الشهادة،
وليس فيها إلا شاهدان، فعليهما فرض أدائها وترك مضارة الطالب بالامتناع
من إقامتها، وكذلك على الكاتب أن يكتب إذا لم يجدا غيره.
فإن قيل: قوله تعالى في التجارة: {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا
تَكْتُبُوهَا} فرق بينها وبين الدين المؤجل، دلالة على أن عليهم كتب
الدين المؤجل والإشهاد فيه. قيل له: ليس كذلك لأن الأمر بالإشهاد على
عقود المداينات المؤجلة لما كان مندوبا إليه وكان تاركه تاركا لما ندب
إليه من الاحتياط لماله جاز أن يعطف عليه قوله: {إِلَّا أَنْ تَكُونَ
تِجَارَةً حَاضِرَةَ تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ
جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا} بأن لا تكونوا تاركين لما ندبتم إليه
بترك الكتابة، كما تكونون تاركين الندب والاحتياط إذا لم تكتبوا الديون
(1/633)
المؤجلة
ولم تشهدوا عليها. ويحتمل قوله: {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ} أنه لا
ضرر عليكم في باب حياطة الأموال لأن كل واحد منهما يسلم ما استحق عليه
بإزاء تسليم الآخر. وقوله: {وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ
بِكُمْ} عطفا على ذكر المضارة يدل على أن مضارة الطالب للكاتب والشهيد
ومضارتهما له فسق، لقصد كل واحد منهم إلى مضارة صاحبه بعد نهي الله
تعالى عنها. والله أعلم.
(1/634)
باب الرهن
قال الله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا
كَاتِباً فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} يعني والله أعلم: إذا عدمتم التوثق
بالكتاب والإشهاد فالوثيقة برهان مقبوضة، فأقام الرهن في باب التوثق في
الحال التي لا يصل فيها إلى التوثق بالكتاب والإشهاد مقامها. وإنما ذكر
حال السفر لأن الأغلب فيها عدم الكتاب والشهود; وقد روي عن مجاهد أنه
كان يكره الرهن إلا في السفر. وكان عطاء لا يرى به بأسا في الحضر. فذهب
مجاهد إلى أن حكم الرهن لما كان مأخوذا من الآية وإنما أباحته الآية في
السفر، لم يثبت في غيره. وليس هذا عند سائر أهل العلم كذلك; ولا خلاف
بين فقهاء الأمصار وعامة السلف في جوازه في الحضر. وقد روى إبراهيم عن
الأسود عن عائشة: "أن النبي صلى الله عليه وسلم اشترى من يهودي طعاما
إلى أجل ورهنه درعه". وروى قتادة عن أنس قال رهن رسول الله صلى الله
عليه وسلم درعا له عند يهودي بالمدينة وأخذ منه شعيرا لأهله، فثبت جواز
الرهن في الحضر بفعله صلى الله عليه وسلم وقال تعالى" {وَاتَّبِعُوهُ}
[الأعراف: 158] وقال: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ
أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب: 21] فدل على أن تخصيص الله لحال السفر
بذكر الرهن إنما هو لأن الأغلب فيها عدم الكاتب والشهيد. وهذا كما قال
النبي صلى الله عليه وسلم: "في خمس وعشرين من الإبل ابنة مخاض وفي ست
وثلاثين ابنة لبون" لم يرد به وجود المخاض واللبن بالأم، وإنما أخبر عن
الأغلب الأعم من الحال، وإن كان جائزا أن لا يكون بأمها مخاض ولا لبن;
فكذلك ذكر السفر هو على هذا الوجه. وكذلك قول النبي صلى الله عليه
وسلم: "لا قطع في ثمر حتى يؤويه الجرين" والمراد استحكامه وجفافه لا
حصوله في الجرين; لأنه لو حصل في بيته أو حانوته بعد استحكامه وجفافه
فسرقه سارق قطع فيه، فكان ذكر الجرين على الأغلب الأعم من حاله في
استحكامه; فكذلك ذكره لحال السفر هو على هذا المعنى.
وقوله: {فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} يدل على أن الرهن لا يصح إلا مقبوضا من
وجهين: أحدهما: أنه عطف على ما تقدم من قوله: {وَاسْتَشْهِدُوا
شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ
فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} فلما
كان استيفاء العدد المذكور
(1/634)
والصفة
المشروطة للشهود واجبا، وجب أن يكون كذلك حكم الرهن فيما شرط له من
الصفة، فلا يصح إلا عليها، كما لا تصح شهادة الشهود إلا على الأوصاف
المذكورة; ; إذ كان ابتداء الخطاب توجه إليهم بصيغة الأمر المقتضي
للإيجاب. والوجه الثاني: أن حكم الرهن مأخوذ من الآية، والآية إنما
أجازته بهذه الصفة، فغير جائز إجازته على غيرها; إذ ليس ههنا أصل آخر
يوجب جواز الرهن غير الآية. ويدل على أنه لا يصح إلا مقبوضا أنه معلوم
أنه وثيقة للمرتهن بدينه، ولو صح غير مقبوض لبطل معنى الوثيقة وكان
بمنزلة سائر أموال الراهن التي لا وثيقة للمرتهن فيها; وإنما جعل وثيقة
له ليكون محبوسا في يده بدينه، فيكون عند الموت والإفلاس أحق به من
سائر الغرماء، ومتى لم يكن في يده كان لغوا لا معنى فيه وهو وسائر
الغرماء فيه سواء; ألا ترى أن المبيع إنما يكون محبوسا بالثمن ما دام
في يد البائع فإن هو سلمه إلى المشتري سقط حقه وكان هو وسائر الغرماء
سواء فيه؟.
واختلف الفقهاء في إقرار المتعاقدين بقبض الرهن، فقال أصحابنا جميعا
والشافعي: "إذا قامت البينة على إقرار الراهن بالقبض والمرتهن يدعيه
جازت الشهادة وحكم بصحة الرهن". وعند مالك أن البينة غير مقبولة على
إقرار المصدق بالقبض حتى يشهدوا على معاينة القبض; فقيل: إن القياس
قوله في الرهن كذلك، والدليل على جواز الشهادة على إقرارهما بقبض الرهن
اتفاق الجميع على جواز إقراره بالبيع والغصب والقتل، فكذلك قبض الرهن;
والله أعلم.
(1/635)
ذكر اختلاف الفقهاء في رهن المشاع
قال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد وزفر: "لا يجوز رهن المشاع فيما يقسم
ولا فيما لا يقسم". وقال مالك والشافعي: "يجوز فيما لا يقسم وما يقسم".
وذكر ابن المبارك عن الثوري في رجل يرتهن الرهن ويستحق بعضه قال: "يخرج
من الرهن ولكن له أن يجبر الراهن على أن يجعله رهنا، فإن مات قبل أن
يجعله رهنا كان بينه وبين الغرماء". وقال الحسن بن صالح: "يجوز رهن
المشاع فيما لا يقسم ولا يجوز فيما يقسم".
قال أبو بكر: لما صح بدلالة الآية أن الرهن لا يصح إلا مقبوضا، من حيث
كان رهنه على جهة الوثيقة وكان في ارتفاع القبض ارتفاع معنى الرهن وهو
الوثيقة، وجب أن لا يصح رهن المشاع فيما يقسم وفيما لا يقسم; لأن
المعنى الموجب لاستحقاق القبض وإبطال الوثيقة مقارن للعقد وهو الشركة
التي يستحق بها دفع القبض للمهايأة، فلم يجز
(1/635)
أن يصح مع
وجود ما يبطله; ألا ترى أنه متى استحق ذلك القبض بالمهايأة وعاد إلى يد
الشريك فقد بطل معنى الوثيقة وكان بمنزلة الرهن الذي لم يقبض؟ وليس ذلك
بمنزلة عارية الرهن المقبوض إذا أعاده الراهن فلا يبطل الرهن، وله أن
يرده إلى يده من قبل أن هذا القبض غير مستحق، وللمرتهن أخذه منه متى
شاء; وإنما هو ابتدأ به من غير أن يكون ذلك القبض مستحقا بمعنى يقارن
العقد. وليس هذا أيضا بمنزلة هبة المشاع فيما لا يقسم فيجوز عندنا، وإن
كان من شرط الهبة القبض كالرهن، من قبل أن الذي يحتاج إليه في الهبة من
القبض لصحة الملك وليس من شرط بقاء الملك استصحاب اليد، فلما صح القبض
بديا لم يكن في استحقاق اليد تأثير في رفع الملك، ولما كان في استحقاق
المرتهن رفع معنى الوثيقة لم يصح مع وجود ما يبطله وينافيه.
فإن قيل: هلا أجزت رهنه من شريكه; إذ ليس فيه استحقاق يده في الثاني
لأن يده تكون باقية عليه إلى وقت الفكاك. قيل له: لأن للشريك استخدامه
إن كان عبدا بالمهايأة بحق ملكه، ومن فعل ذلك لم يكن يده فيه يد رهن
فقد استحقت يد الرهن في اليوم الثاني، فلا فرق بين الشريك وبين الأجنبي
لوجود المعنى الموجب لاستحقاق قبض الرهن مقارنا للعقد.
واختلف في رهن الدين، فقال سائر الفقهاء: "لا يصح رهن الدين بحال".
وقال ابن القاسم عن مالك في قياس قوله: إذا كان لرجل على رجل دين فبعته
بيعا وارتهنت منه الدين الذي له عليه فهو جائز، وهو أقوى من أن يرتهن
دينا على غيره لأنه حائز لما عليه قال: "ويجوز في قول مالك أن يرهن
الرجل الدين الذي يكون له على الرجل ويبتاع من رجل بيعا ويرهن منه
الدين الذي يكون له على ذلك الرجل ويقبض ذلك الحق له ويشهد له". وهذا
قول لم يقل أحد به من أهل العلم سواه; وهو فاسد أيضا لقوله تعالى:
{فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} وقبض الدين لا يصح ما دام دينا لا إذا كان
عليه ولا إذا كان على غيره لأن الدين هو حق لا يصح فيه قبض وإنما يتأتى
القبض في الأعيان. ومع ذلك فإنه لا يخلو ذلك الدين من أن يكون باقيا
على حكم الضمان الأول أو منتقلا إلى ضمان الرهن، فإن انتقل إلى ضمان
الرهن فالواجب أن يبرأ من الفضل إذا كان الدين الذي به الرهن أقل من
الرهن، وإن كان باقيا على حكم الضمان الأول فليس هو رهنا لبقائه على ما
كان عليه. والدين الذي على الغير أبعد في الجواز لعدم الحيازة فيه
والقبض بحال.
وقد اختلف الفقهاء في الرهن إذا وضع على يدي عدل، فقال أبو حنيفة وأبو
يوسف ومحمد وزفر والثوري: "يصح الرهن إذا جعلاه على يدي عدل ويكون
(1/636)
مضمونا
على المرتهن" وهو قول الحسن وعطاء والشعبي. وقال ابن أبي ليلى وابن
شبرمة والأوزاعي: "لا يجوز حتى يقبضه المرتهن". وقال مالك: "إذا جعلاه
على يدي عدل فضياعه من الراهن". وقال الشافعي في رهن شقص السيف: "إن
قبضه أن يحول حتى يضعه الراهن والمرتهن على يدي عدل أو على يدي
الشريك".
قال أبو بكر: قوله عز وجل: {فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} يقتضي جوازه إذا
قبضه العدل; إذ ليس فيه فصل بين قبض المرتهن والعدل، وعمومه يقتضي جواز
قبض كل واحد منهما. وأيضا فإن العدل وكيل للمرتهن في القبض، فكان القبض
بمنزلة الوكالة في الهبة وسائر المقبوضات بوكالة من له القبض فيها. فإن
قيل: لو كان العدل وكيلا للمرتهن لكان له أن يقبضه منه، ولما كان للعدل
أن يمنعه إياه. قيل له: هذا لا يخرجه عن أن يكون وكيلا وقابضا له وإن
لم يكن له حق القبض، من قبل أن الرهن لم يرض بيده وإنما رضي بيد وكيله;
ألا ترى أن الوكيل بالشرى هو قابض للسلعة للموكل وله أن يحبسها بالثمن
ولو هلك قبل الحبس هلك من مال الموكل؟ وليس جواز حبس الوكيل الرهن عن
المرتهن علما لنفي الوكالة وكونه قابضا له. ويدل على أن يد العدل يد
المرتهن وأنه وكيله في القبض، أن للمرتهن متى شاء أن يفسخ هذا الرهن
ويبطل يد العدل ويرده إلى الرهن، وليس للراهن إبطال يد العدل، فدل ذلك
على أن العدل وكيل للمرتهن.
فإن قيل: لو جعلا المبيع على يدي عدل لم يخرج عن ضمان البائع ولم يصح
أن يكون العدل وكيلا للمشتري في قبضه، كذلك المرتهن. قيل له: الفرق
بينهما أن العدل في البيع لو صار وكيلا للمشتري لخرج عن ضمان البائع،
وفي خروجه من ضمان بائعه سقوط حقه منه، ألا ترى أنه لو أجاز قبضه بطل
حقه ولم يكن له استرجاعه؟ لأن المبيع ليس له إلا قبض واحد، فمتى وجد
سقط حق البائع ولم يكن له أن يرده إلى يده، وكذلك إذا أودعه إياه.
فلذلك لم يكن العدل وكيلا للمشتري لأنه لو صار وكيلا له لصار قابضا له
قبض بيع ولم يكن المشتري ممنوعا منه، فكان لا معنى لقبض العدل بل يكون
المشتري كأنه قبضه والبائع لم يرض بذلك، فلم يجز إثباته ولم يصح أن
يكون العدل وكيلا للمشتري. ومن جهة أخرى أنه لو قبضه للمشتري لتم البيع
فيه، وفي تمام البيع سقوط حق البائع فيه، فلا معنى لبقائه في يدي العدل
بل يجب أن يأخذه المشتري والبائع لم يرض بذلك; وليس كذلك الرهن لأن كون
العدل وكيلا للمرتهن لا يوجب إبطال حق الراهن، ألا ترى أن حق الراهن
باق بعد قبض المرتهن؟ فكذلك بعد قبض العدل، فلا فرق بين قبض العدل وقبض
المرتهن; وفارق العدل في الشرى لامتناع كونه وكيلا للمشتري; إذ كان
يصير في معنى قبض المشتري في خروجه من ضمان البائع ودخوله في
(1/637)
ضمانه وفي
معنى تمام البيع فيه وسقوط حق البائع منه والبائع لم يرض بذلك، ولا
يجوز أن يكون عدلا 1 من قبل أن حق الحبس موجب له بالعقد فلا يسقط ذلك
أو يرضى بتسليمه إلى المشتري أو يقبض الثمن; والله أعلم.
ـــــــ
1 قوله "عدلا" أي مثلا، وليس المراد العدل بالمعنى الأول. لمصححه.
(1/638)
باب ضمان الرهن
قال الله تعالى: {فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ
بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ} فعطف بذكر الأمانة
على الرهن، فذلك يدل على أن الرهن ليس بأمانة، وإذا لم يكن أمانة كان
مضمونا; إذ لو كان الرهن أمانة لما عطف عليه الأمانة لأن الشيء لا يعطف
على نفسه وإنما يعطف على غيره.
واختلف الفقهاء في حكم الرهن، فقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد وزفر
وابن أبي ليلى والحسن بن صالح: "الرهن مضمون بأقل من قيمته ومن الدين".
وقال الثقفي عن عثمان البتي: "ما كان من رهن ذهبا أو فضة أو ثيابا فهو
مضمون يترادان الفضل، وإن كان عقارا أو حيوانا فهلك فهو من مال الراهن،
والمرتهن على حقه إلا أن يكون الراهن اشترط الضمان فهو على شرطه". وقال
ابن وهب عن مالك: "إن علم هلاكه فهو من مال الراهن ولا ينقص من حق
المرتهن شيء، وإن لم يعلم هلاكه فهو من مال المرتهن وهو ضامن لقيمته،
يقال له صفه فإذا وصفه حلف على صفته وتسمية ماله فيه، ثم يقومه أهل
البصر بذلك، فإن كان فيه فضل عما سمى فيه أخذه الراهن، وإن كان أقل مما
سمى الراهن حلف على ما سمى وبطل عنه الفضل، وإن أبى الراهن أن يحلف
أعطي المرتهن ما فضل بعد قيمة الرهن". وروى عنه ابن القاسم مثل ذلك،
وقال فيه: "إذا شرط أن المرتهن مصدق في ضياعه وأن لا ضمان عليه فيه،
فشرطه باطل وهو ضامن". وقال الأوزاعي: "إذا مات العبد الرهن فدينه باق
لأن الرهن لا يغلق" ومعنى قوله لا يغلق الرهن أنه لا يكون بما فيه إذا
علم ولكن يترادان الفضل إذا لم يعلم هلاكه. وقال الأوزاعي في قوله: "له
غنمه وعليه غرمه" قال: "فأما غنمه فإن كان فيه فضل رد إليه، وأما غرمه
فإن كان فيه نقصان وفاه إياه". وقال الليث: "الرهن مما فيه إذا هلك ولم
تقم بينة على ما فيه إذا اختلفا في ثمنه، فإن قامت البينة على ما فيه
ترادا الفضل". وقال الشافعي: "هو أمانة لا ضمان عليه فيه بحال إذا هلك،
سواء كان هلاكه ظاهرا أو خفيا".
(1/638)
قال أبو
بكر: قد اتفق السلف من الصحابة والتابعين على ضمان الرهن لا نعلم بينهم
خلافا فيه، إلا أنهم اختلفوا في كيفية ضمانه، واختلفت الرواية عن علي
رضي الله عنه فيه، فروى إسرائيل عن عبد الأعلى عن محمد بن علي عن علي
قال: "إذا كان أكثر مما رهن به فهلك فهو بما فيه لأنه أمين في الفضل،
وإذا كان بأقل مما رهنه به فهلك رد الراهن الفضل". وروى عطاء عن عبيد
بن عمير عن عمر مثله; وهو قول إبراهيم النخعي. وروى الشعبي عن الحارث
عن علي في الرهن إذا هلك قال: "يترادان الفضل". وروى قتادة عن خلاس بن
عمرو عن علي قال: "إذا كان فيه فضل فأصابته جائحة فهو بما فيه، وإن لم
تصبه جائحة واتهم فإنه يرد الفضل". فروي عن علي هذه الروايات الثلاث،
وفي جميعها ضمانه; إلا أنهم اختلفوا عنه في كيفية الضمان على ما وصفنا.
وروي عن ابن عمر أنه قال: "يترادان الفضل". وقال شريح والحسن وطاوس
والشعبي وابن شبرمة: "إن الرهن بما فيه". وقال شريح: "وإن كان خاتما من
حديد بمائة درهم".
فلما اتفق السلف على ضمانه وكان اختلافهم إنما هو في كيفية الضمان، كان
قول القائل "إنه أمانة غير مضمون" خارجا عن قول الجميع، وفي الخروج عن
اختلافهم مخالفة لإجماعهم; وذلك أنهم لما اتفقوا على ضمانه فذلك اتفاق
منهم على بطلان قول القائل بنفي ضمانه، ولا فرق بين اختلافهم في كيفية
ضمانه وبين اتفاقهم على وجه واحد فيه بعد أن يكون قد حصل من اتفاقهم
أنه مضمون، فهذا اتفاق قاض بفساد قول من جعله أمانة; وقد تقدم ذكر
دلالة الآية على ضمانه.
ومما يدل عليه من جهة السنة حديث عبد الله بن المبارك عن مصعب بن ثابت
قال: سمعت عطاء يحدث أن رجلا رهن فرسا فنفق في يده، فقال رسول الله صلى
الله عليه وسلم للمرتهن: "ذهب حقك" وفي لفظ آخر: "لا شيء لك" فقوله
للمرتهن "ذهب حقك" إخبار بسقوط دينه لأن حق المرتهن هو دينه. وحدثنا
عبد الباقي بن قانع قال: حدثنا الحسن بن علي الغنوي وعبد الوارث بن
إبراهيم قالا: حدثنا إسماعيل بن أبي أمية الزارع قال: حدثنا حماد بن
سلمة، عن قتادة، عن أنس، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "الرهن
بما فيه". وحدثنا عبد الباقي قال: حدثنا الحسين بن إسحاق قال: حدثنا
المسيب بن واضح قال: حدثنا ابن المبارك عن مصعب بن ثابت قال: حدثنا
علقمة بن مرثد عن محارب بن دثار قال: "قضى رسول الله صلى الله عليه
وسلم أن الرهن بما فيه" والمفهوم من ذلك ضمانه بما فيه من الدين، ألا
ترى إلى قول شريح "الرهن بما فيه ولو خاتما من حديد" وكذلك قول محارب
بن دثار إنما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في خاتم رهن بدين فهلك
أنه بما فيه؟ وظاهر ذلك يوجب أن يكون بما فيه قل الدين أو كثر، إلا أنه
قد قامت الدلالة على أن مراده إذا كان الدين مثل
(1/639)
الرهن أو
أقل، وأنه إذا كان الدين أكثر رد الفضل. ويدل على أنه مضمون اتفاق
الجميع على أن المرتهن أحق به بعد الموت من سائر الغرماء حتى يباع
فيستوفي دينه منه، فدل ذلك على أنه مقبوض للاستيفاء فقد وجب أن يكون
مضمونا ضمان الاستيفاء لأن كل شيء مقبوض على وجه فإنما يكون هلاكه على
الوجه الذي هو مقبوض به، كالمغصوب متى هلك هلك على ضمان الغصب، وكذلك
المقبوض على بيع فاسد أو جائز إنما يهلك على الوجه الذي حصل قبضه عليه;
فلما كان الرهن مقبوضا للاستيفاء بالدلالة التي ذكرنا; وجب أن يكون
هلاكه على ذلك الوجه فيكون مستوفيا بهلاكه لدينه على الوجه الذي يصح
عليه الاستيفاء، فإذا كان الرهن أقل قيمة فغير جائز أن يجعل استيفاء
العدة بما هو أقل منها، وإذا كان أكثر منه لم يجز أن يستوفى منه أكثر
من مقدار دينه فيكون أمينا في الفضل. ويدل على ضمانه اتفاق الجميع على
بطلان الرهن بالأعيان، نحو الودائع والمضاربة والشركة لا يصح الرهن بها
لأنه لو هلك لم يكن مستوفيا للعين وصح بالديون المضمونة; وفي هذا دليل
على أن الرهن مضمون بالدين فيكون المرتهن مستوفيا له بهلاكه. ويدل عليه
أنا لم نجد في الأصول حبسا لملك الغير لحق لا يتعلق به ضمان، ألا ترى
أن المبيع مضمون على البائع حتى يسلمه إلى المشتري لما كان محبوسا
بالثمن؟ وكذلك الشيء المستأجر يكون محبوسا في يد مستأجره مضمونا
بالمنافع استعمله أو لم يستعمله ويلزمه بحبسه ضمان الأجرة التي هي بدل
المنافع، فثبت أن حبس ملك الغير لا يخلو من تعلق ضمان.
واحتج الشافعي لكونه أمانة بحديث ابن أبي ذؤيب، عن الزهري، عن سعيد بن
المسيب، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا يغلق الرهن من صاحبه
الذي رهنه له غنمه وعليه غرمه" قال الشافعي: ووصله ابن المسيب عن أبي
هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم. قال أبو بكر: إنما يوصله يحيى بن
أبي أنيسة; وقوله: "له غنمه وعليه غرمه" من كلام سعيد بن المسيب كما
روى مالك ويونس وابن أبي ذؤيب عن ابن شهاب عن ابن المسيب أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم قال: "لا يغلق الرهن" قال يونس بن زيد: قال ابن
شهاب: وكان ابن المسيب يقول "الرهن لمن رهنه له غنمه وعليه غرمه" فأخبر
ابن شهاب أن هذا قول ابن المسيب لا عن النبي صلى الله عليه وسلم ولو
كان ابن المسيب قد روى ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم لما قال: وكان
ابن المسيب يقول ذلك، بل كان يعزيه إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
فاحتج الشافعي بقوله "له غنمه وعليه غرمه" بأنه قد أوجب لصاحب الرهن
زيادته وجعل عليه نقصانه والدين بحاله. قال أبو بكر: فأما قوله: "لا
يغلق الرهن" فإن إبراهيم النخعي وطاوسا ذكرا جميعا أنهم كانا يرهنون
ويقولون: إن جئتك بالمال إلى وقت كذا وإلا فهو لك; فقال النبي صلى الله
عليه وسلم: "لا يغلق
(1/640)
الرهن".
وتأوله على ذلك أيضا مالك وسفيان. وقال أبو عبيد: لا يجوز في كلام
العرب أن يقال للرهن إذا ضاع: قد غلق الرهن، إنما يقال غلق، إذا استحقه
المرتهن فذهب به; وهذا كان من فعل أهل الجاهلية فأبطله النبي صلى الله
عليه وسلم بقوله: "لا يغلق الرهن". وقال بعض أهل اللغة: إنهم يقولون
غلق الرهن إذا ذهب بغير شيء; قال زهير:
وفارقتك برهن لا فكاك له ... يوم الوداع فأمسى رهنها غلقا
يعني: ذهبت بقلبه بغير شيء. ومنه قول الأعشى:
فهل يمنعني ارتياد البلاد ... من حذر الموت أن يأتين
علي رقيب له حافظ ... فقل في امرئ غلق مرتهن
فقال في البيت الثاني: "فقل في امرئ غلق مرتهن" يعني أنه يموت فيذهب
بغير شيء كأن لم يكن. فهذا يدل على أن قوله: "لا يغلق الرهن" ينصرف على
وجهين: أحدهما إن كان قائما بعينه لم يستحقه المرتهن بالدين عند مضي
الأجل، والثاني: عند الهلاك لا يذهب بغير شيء. وأما قوله: "له غنمه
وعليه غرمه" فقد بينا أنه من قول سعيد بن المسيب أدرجه في الحديث بعض
الرواة، وفصله بعضهم وبين أنه من قوله وليس عن النبي صلى الله عليه
وسلم وأما ما تأوله الشافعي من أن له زيادته وعليه نقصانه; فإنه تأويل
خارج عن أقاويل الفقهاء خطأ في اللغة، وذلك لأن الغرم في أصل اللغة هو
اللزوم، قال الله تعالى: {إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَاماً} [الفرقان:
65] يعني ثابتا لازما. والغريم: الذي قد لزمه الدين، ويسمى به أيضا
الذي له الدين، لأن له اللزوم والمطالبة. وقد كان النبي صلى الله عليه
وسلم يستعيذ بالله من المأثم والمغرم، فقيل له في ذلك، فقال: "إن الرجل
إذا غرم حدث فكذب ووعد فأخلف" فجعل الغرم هو لزوم المطالبة له من قبل
الآدمي وفي حديث قبيصة بن المخارق أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
"إن المسألة لا تحل إلا من ثلاث فقر مدقع أو غرم مفظع أو دم موجع".
وقال تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ} إلى قوله:
{وَالْغَارِمِينَ} [التوبة: 60] وهم المدينون; وقال تعالى: {إِنَّا
لَمُغْرَمُونَ} [الواقعة: 66] يعني ملزمون مطالبون بديوننا. فهذا أصل
الغرم في أصل اللغة; حدثنا أبو عمر غلام ثعلب عن ثعلب عن ابن الأعرابي
في معنى الغرم، قال أبو عمر: "أخطأ من قال إن هلاك المال ونقصانه يسمى
غرما لأن الفقير الذي ذهب ماله لا يسمى غريما وإنما الغريم من توجهت
عليه المطالبة للآدمي بدين". وإذا كان كذلك فتأويل من تأوله "وعليه
غرمه" أنه نقصان خطأ وسعيد بن المسيب هو راوي الحديث، وقد بينا أنه هو
القائل "له غنمه وعليه غرمه" ولم يتأوله على ما قاله الشافعي; لأنه من
مذهبه ضمان الرهن. وذكر
(1/641)
عبد
الرحمن بن أبي الزناد في كتاب السبعة عن أبيه، عن سعيد بن المسيب،
وعروة والقاسم بن محمد، وأبي بكر بن عبد الرحمن، وخارجة بن زيد، وعبيد
الله بن عبد الله، وغيرهم أنهم قالوا: الرهن بما فيه إذا هلك وعميت
قيمته ويرفع ذلك منهم الثقة إلى النبي صلى الله عليه وسلم. وقد ثبت أن
من مذهب سعيد بن المسيب ضمان الرهن، فكيف يجوز أن يتأول متأول قوله
"وعليه غرمه" على نفي الضمان؟ فإن كان ذلك رواية عن النبي صلى الله
عليه وسلم فالواجب على مذهب الشافعي أن يقضي بتأويل الراوي على مراد
النبي صلى الله عليه وسلم لأنه زعم أن الراوي للحديث أعلم بتأويله،
فجعل قول عمرو بن دينار في الشاهد واليمين أنه في الأموال حجة في أن لا
يقضى في غير الأموال، وقضى بقول ابن جريج في حديث القلتين أنه بقلال
هجر على مراد النبي صلى الله عليه وسلم وجعل مذهب ابن عمر في خيار
المتبايعين ما لم يفترقا أنه على التفرق بالأبدان قاضيا على مراد النبي
صلى الله عليه وسلم في ذلك; فلزمه على هذا أن يجعل قول سعيد بن المسيب
قاضيا على مراد النبي صلى الله عليه وسلم إن كان قوله: "وعليه غرمه"
ثابتا عنه. وإنما معنى قوله "له غنمه" أن للراهن زيادته "وعليه غرمه"
يعني دينه الذي به الرهن; وهو تفسير قوله صلى الله عليه وسلم: "لا يغلق
الرهن" لأنهم كانوا يوجبون استحقاق ملك الرهن للمرتهن بمضي الأجل قبل
انقضاء الدين، فقال صلى الله عليه وسلم: "لا يغلق الرهن" أي لا يستحقه
المرتهن بمضي الأجل، ثم فسره، فقال: لصاحبه يعني: للراهن غنمه يعني:
زيادته; فبين أن المرتهن لا يستحق غير عين الرهن لإنمائه وزيادته، وأن
دينه باق عليه كما كان، وهو معنى قوله "وعليه غرمه" كقوله "وعليه
دينه". فإذا ليس في الخبر دلالة على كون الرهن غير مضمون، بل هو دال
على أنه مضمون على ما بينا.
قال أبو بكر: وقوله صلى الله عليه وسلم: "لا يغلق الرهن" إذا أراد به
حال بقائه عند الفكاك وإبطال النبي صلى الله عليه وسلم شرط استحقاق
ملكه بمضي الأجل، قد حوى معاني: منها أن الرهن لا تفسده الشروط الفاسدة
بل يبطل الشرط ويجوز هو، لإبطال النبي صلى الله عليه وسلم شرطهم
وإجازته الرهن. ومنها: أن الرهن لما كان شرط صحته القبض كالهبة والصدقة
ثم لم تفسده الشروط وجب أن يكون كذلك حكم ما لا يصح إلا بالقبض من
الهبات والصدقات في أن الشروط لا تفسدها، لاجتماعها في كون القبض شرطا
لصحتها. وقد دل هذا الخبر أيضا على أن عقود التمليكات لا تعلق على
الأخطار; لأن شرطهم لملك الرهن بمضي المدة كان تمليكا معلقا على خطر
وعلى مجيء وقت مستقبل، فأبطل النبي صلى الله عليه وسلم شرط التمليك على
هذا الوجه، فصار ذلك أصلا في سائر عقود التمليكات والبراءة في امتناع
تعلقها على الأخطار; ولذلك قال أصحابنا فيمن قال: "إذا جاء غد فقد وهبت
لك العبد" أو قال: "قد بعتكه" إنه باطل لا يقع به الملك; وكذلك إذا
قال: "إذا جاء غد فقد أبرأتك مما لي
(1/642)
عليك من
الدين" كان ذلك باطلا وفارق ذلك عندهم العتاق والطلاق في جواز تعلقهما
على الأخطار، لأن لهما أصلا آخر وهو أن الله تعالى قد أجاز الكتابة
بقوله: {فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً} [النور: 33]
وهو أن يقول: "كاتبتك على ألف درهم فإن أديت فأنت حر، وإن عجزت فأنت
رقيق" وذلك عتق معلق على خطر وعلى مجيء حال مستقبلة. وقال في شأن
الطلاق: {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} [الطلاق: 1] ولم يفرق بين
إيقاعه في الحال وبين إضافته إلى وقت السنة. ولما كان إيجاب هذا العقد
أعني العتق على مال، والخلع بمال مشروط للزوج يمنع الرجوع فيما أوجبه
قبل قبول العبد والمرأة، صار ذلك عتقا معلقا على شرط بمنزلة شروط
الأيمان التي لا سبيل إلى الرجوع فيها. وفي ذلك دليل على جواز تعلقهما
على شروط وأوقات مستقبلة. والمعنى في هذين أنهما لا يلحقهما الفسخ بعد
وقوعهما، وسائر العقود التي ذكرناها من عقود التمليكات يلحقها الفسخ
بعد وقوعها، فلذلك لم يصح تعلقها على الأخطار. ونظير دلالة قوله صلى
الله عليه وسلم: "لا يغلق الرهن" على ما ذكرنا، ما روي عن النبي صلى
الله عليه وسلم "أنه نهى عن بيع المنابذة والملامسة وعن بيع الحصاة"
وهذه بياعات كان أهل الجاهلية يتعاملون بها، فكان أحدهم إذا لمس السلعة
أو ألقى الثوب إلى صاحبه أو وضع عليه حصاة وجب البيع، فكان وقوع الملك
متعلقا بغير الإيجاب والقبول بل بفعل آخر يفعله أحدهما، فأبطله النبي
صلى الله عليه وسلم; فدل ذلك على أن عقود التمليكات لا تتعلق على
الأخطار. وإنما جعل أصحابنا الرهن مضمونا بأقل من قيمته ومن الدين من
قبل أنه لما كان مقبوضا للاستيفاء وجب اعتبار ما يصح الاستيفاء به،
وغير جائز أن يستوفى من عدة أقل منها ولا أكثر، فوجب أن يكون أمينا في
الفضل وضامنا لما نقص الرهن عن الدين. ومن جعله بما فيه قل أو كثر شبهه
بالمبيع إذا هلك في يد البائع أنه يهلك بالثمن قل أو كثر; والمعنى
الجامع بينهما أن كل واحد محبوس بالدين، وليس هذا كذلك عندنا; لأن
المبيع إنما كان مضمونا بالثمن قل أو كثر لأن البيع ينتقض بهلاكه فسقط
الثمن; إذ غير جائز بقاء الثمن مع انتقاض البيع. وأما الرهن فإنه يتم
بهلاكه ولا ينتقض وإنما يكون مستوفيا للدين به، فوجب اعتبار ضمانه بما
وصفنا.
فإن قيل: إذا جاز أن يكون الفضل عن الدين أمانة، فما أنكرت أن يكون
جميعه أمانة وأن لا يكون حبسه بالدين للاستيفاء موجبا لضمانه؟ لوجودنا
هذا المعنى في الزيادة مع عدم الضمان فيها. وكذلك ولد المرهونة المولود
بعد الرهن يكون محبوسا في يد المرتهن مع الأم، ولو هلك هلك بغير شيء
فيه ولم يكن كونه محبوسا في يد المرتهن علة لكونه مضمونا. قيل له: إن
الزيادة على الدين من مقدار قيمة الرهن وولد المرهونة كلاهما تابع
للأصل غير جائز إفرادهما دون الأصل إذا أدخلا في العقد على وجه التبع،
(1/643)
وإذا كان
كذلك لم يجز إفرادهما بحكم الضمان لامتناع إفرادهما بالعقد المتقدم قبل
حدوث الولادة، وليس حكم ما يدخل في العقد على وجه التبع حكم ما يفرد
به. ألا ترى أن ولد أم الولد يدخل في حكم الأم ويثبت له حق الاستيلاد
على وجه التبع ولا يصح انفراده في الأصل بهذا الحق لا على وجه التبع؟
وكذلك ولد المكاتبة يدخل في الكتابة وهو حمل مع استحالة إفراده بالعقد
في تلك الحال. فكذلك ما ذكرت من زيادة الرهن وولد المرهونة، لما دخلا
في العقد على وجه التبع لم يلزم على ذلك أن يجعل حكمهما حكم الأصل ولا
أن يلحقهما بمنزلة ما ابتدئ العقد عليهما. ويدل على ذلك أن رجلا لو
أهدى بدنة فزادت في بدنها أو ولدت، أن عليه أن يهديها بزيادتها وولدها;
ولو ذهبت الزيادة وهلك الولد لم يلزمه بالهلاك شيء غير ما كان عليه.
وكذلك لو كان عليه بدنة وسط فأهدى بدنة خيارا مرتفعة، أن هذه الزيادة
حكمها ثابت ما بقي الأصل، فإن هلك قبل أن ينحر بطل حكم الزيادة وعاد
إلى ما كان عليه في ذمته. وكذلك لو كان بدل الزيادة ولدا ولدته كان في
هذه المنزلة، فكذلك ولد المرهونة وزيادتها على قيمة الرهن هذا حكمها في
بقاء حكمها ما داما قائمين وسقوط حكمهما إذا هلكا. والله أعلم.
(1/644)
ذكر اختلاف الفقهاء في الانتفاع بالرهن
قال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد والحسن بن زياد وزفر: "لا يجوز للمرتهن
الانتفاع بشيء من الرهن ولا للراهن أيضا" وقالوا: "إذا آجر المرتهن
الرهن بإذن الراهن أو آجره الراهن بإذن المرتهن فقد خرج من الرهن ولا
يعود". وقال ابن أبي ليلى: "إذا آجره المرتهن بإذن الراهن فهو رهن على
حال والغلة للمرتهن قضاء من حقه". وقال ابن القاسم عن مالك: "إذا خلى
المرتهن بين الرهن والراهن يكريه أو يسكنه أو يعيره لم يكن رهنا، وإذا
آجره المرتهن بإذن الراهن لم يخرج من الرهن، وكذلك إذا أعاره المرتهن
بإذن الراهن فهو رهن على حاله، فإذا آجره المرتهن بإذن الراهن فالأجر
لرب الأرض ولا يكون الكري رهنا بحقه إلا أن يشترط المرتهن"، فإن اشترط
في البيع أن يرتهن ويأخذ حقه من الكري، فإن مالكا كره ذلك. وإن لم
يشترط ذلك في البيع وتبرع به الراهن بعد البيع فلا بأس به; وإن كان
البيع وقع بهذا الشرط إلى أجل معلوم أو شرط فيه البائع بيعه الرهن
ليأخذها من حقه، فإن ذلك جائز عند مالك في الدور والأرض وكرهه في
الحيوان. وذكر المعافى عن الثوري أنه كره أن ينتفع من الرهن بشيء ولا
يقرأ في المصحف المرهون. وقال الأوزاعي غلة الرهن لصاحبه ينفق عليه
منها والفضل له، فإن لم تكن غلة وكان يستخدمه فطعامه بخدمته، فإن لم
يكن يستخدمه فنفقته على صاحبه. وقال الحسن بن صالح: "لا يستعمل الرهن
ولا ينتفع به إلا أن يكون دارا
(1/644)
يخاف
خرابها فيسكنها المرتهن لا يريد الانتفاع بها وإنما يريد إصلاحها".
وقال ابن أبي ليلى: "إذا لبس المرتهن الخاتم للتجمل ضمن، وإن لبسه
ليحوزه فلا شيء عليه". وقال الليث بن سعد: "لا بأس بأن يستعمل العبد
الرهن بطعامه إذا كانت النفقة بقدر العمل، فإن كان العمل أكثر أخذ فضل
ذلك من المرتهن". وقال المزني عن الشافعي فيما روى عن النبي صلى الله
عليه وسلم: "الرهن محلوب ومركوب" أي من رهن ذات ظهر ودر لم يمنع الرهن
من ظهرها ودرها، وللراهن أن يستخدم العبد ويركب الدابة ويحلب الدر ويجز
الصوف ويأوي بالليل إلى المرتهن أو الموضوع على يده.
قال أبو بكر: لما قال الله تعالى: {فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} فجعل القبض
من صفات الرهن، أوجب ذلك أن يكون استحقاق القبض موجبا لإبطال الرهن،
فإذا آجره أحدهما بإذن صاحبه خرج من الرهن; لأن المستأجر قد استحق
القبض الذي به يصح الرهن. وليس ذلك كالعارية عندنا; لأن العارية لا
توجب استحقاق القبض; إذ للمعير أن يرد العارية إلى يده متى شاء. واحتج
من أجاز إجارته والانتفاع به بما حدثنا محمد بن بكر قال: حدثنا أبو
داود قال: حدثنا هناد، عن ابن المبارك، عن زكريا، عن أبي هريرة، عن
النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لبن الدر يحلب بنفقته إذا كان مرهونا
والظهر يركب بنفقته إذا كان مرهونا، وعلى الذي يركب ويحلب النفقة" فذكر
في هذا الحديث أن وجوب النفقة لركوب ظهره وشرب لبنه، ومعلوم أن الراهن
إنما يلزمه نفقته لملكه لا لركوبه ولبنه; لأنه لو لم يكن مما يركب أو
يحلب لزمته النفقة، فهذا يدل على أن المراد به أن اللبن والظهر للمرتهن
بالنفقة التي ينفقها. وقد بين ذلك هشيم في حديثه، فإنه رواه عن زكريا
بن أبي زائدة، عن الشعبي، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم
قال: "إذا كانت الدابة مرهونة فعلى المرتهن علفها، ولبن الدر يشرب وعلى
الذي يشرب نفقتها، ويركب" فبين في هذا الخبر أن المرتهن هو الذي تلزمه
النفقة ويكون له ظهره ولبنه; وقال الشافعي: "إن نفقته على الراهن دون
المرتهن" فهذا الحديث حجة عليه لا له. وقد روى الحسن بن صالح عن
إسماعيل بن أبي خالد عن الشعبي قال: "لا ينتفع من الرهن بشيء" فقد ترك
الشعبي ذلك وهو رواية عن أبي هريرة، فهذا يدل على أحد معنيين: إما أن
يكون الحديث غير ثابت في الأصل، وإما أن يكون ثابتا وهو منسوخ عنده،
وهو كذلك عندنا لأن مثله كان جائزا قبل تحريم الربا فلما حرم الربا
وردت الأشياء إلى مقاديرها; صار ذلك منسوخا. ألا ترى أنه جعل النفقة
بدلا من اللبن قل أو كثر؟ وهو نظير ما روي في المصراة أنه يردها ويرد
معها صاعا من تمر، ولم يعتبر مقدار اللبن الذي أخذه وذلك أيضا عندنا
منسوخ بتحريم الربا. ويدل على بطلان قول القائلين بإيجاب الركوب واللبن
(1/645)
للراهن أن
الله تعالى جعل من صفات الرهن القبض كما جعل من صفات الشهادة العدالة
بقوله: {اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ} [المائدة: 106] وقوله:
{مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} ومعلوم أن زوال هذه الصفة عن
الشهادة يمنع جواز الشهادة; فكذلك لما جعل من صفات الرهن أن يكون
مقبوضا بقوله: {فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} وجب إبطال الرهن لعدم هذه الصفة
وهو استحقاق القبض، فلو كان الراهن مستحقا للقبض الذي به يصح الرهن
لمنع ذلك إلى يده. وأيضا لمقارنة ما يبطله، ولو صح بديا لوجب أن يبطل
باستحقاق قبضه وجوب رده إلى يده. وأيضا لما اتفق الجميع على أن الراهن
ممنوع من وطء الأمة المرهونة، والوطء من منافعها، وجب أن يكون ذلك حكم
سائر المنافع في بطلان حق الراهن فيها. ومن جهة أخرى أن الراهن إنما لم
يستحق الوطء لأن المرتهن يستحق ثبوت يده عليها، كذلك الاستخدام.
واختلف الفقهاء فيمن شرط ملك الرهن للمرتهن عند حلول الأجل، فقال أبو
حنيفة وأبو يوسف ومحمد وزفر والحسن بن زياد: "إذا رهنه رهنا وقال إن
جئتك بالمال إلى شهر وإلا فهو بيع، فالرهن جائز والشرط باطل" وقال
مالك: الرهن فاسد وينقض، فإن لم ينقض حتى حل الأجل فإنه لا يكون
للمرتهن بذلك الشرط وللمرتهن أن يحبسه بحقه وهو أحق به من سائر
الغرماء، فإن تغير في يده لم يرد ولزمته القيمة في ذلك يوم حل الأجل;
وهذا في السلع والحيوان وأما في الدور والأرضين فإنه يردها إلى الراهن
وإن تطاول إلا أن تنهدم الدار أو يبنى فيها أو يغرس في الأرض، فهذا فوت
ويغرم القيمة مثل البيع الفاسد وقال المعافى عن الثوري في الرجل يرهن
صاحبه المتاع ويقول: إن لم آتك فهو لك، قال: "لا يغلق ذلك الرهن" وقال
الحسن بن صالح: ليس قوله هذا بشيء. وقال الربيع عن الشافعي: لو رهنه
وشرط له إن لم يأته بالحق إلى كذا فالرهن له بيع، فالرهن فاسد والرهن
لصاحبه الذي رهنه.
قال أبو بكر: اتفقوا أنه لا يملكه بمضي الأجل، واختلفوا في جواز الرهن
وفساده، وقد بينا فيما سلف أن قوله: "لا يغلق الرهن" أنه لا يملك
بالدين بمضي الأجل للشرط الذي شرطاه، فإنما نفى النبي صلى الله عليه
وسلم غلقه بذلك ولم ينف صحة الرهن الذي شرطاه، فدل ذلك على جواز الرهن
وبطلان الشرط. وهو أيضا قياس العمرى التي أبطل النبي صلى الله عليه
وسلم فيها الشرط وأجاز الهبة; والمعنى الجامع بينهما أن كل واحد منهما
لا يصح بالعقد دون القبض.
واختلفوا أيضا في مقدار الدين إذا اختلف فيه الراهن والمرتهن، فقال أبو
حنيفة وأبو يوسف ومحمد وزفر والحسن بن زياد: "إذا هلك الرهن واختلف
الراهن والمرتهن
(1/646)
في مقدار
الدين فالقول قول الراهن في الدين مع يمينه" وهو قول الحسن بن صالح
والشافعي وإبراهيم النخعي وعثمان البتي. وقال طاوس: "يصدق المرتهن إلى
ثمن الرهن ويستحلف" وكذلك قول الحسن وقتادة والحكم. وقال إياس بن
معاوية قولا بين هذين القولين، قال: "إن كان للراهن بينة بدفعه الرهن
فالقول قول الراهن، وإن لم تكن له بينة فالقول قول المرتهن; لأنه لو
شاء جحده الرهن، ومتى أقر بشيء وليست عليه بينة فالقول قوله". وقال ابن
وهب عن مالك: إذا اختلفا في الدين والرهن قائم فإن كان الرهن قدر حق
المرتهن أخذه المرتهن وكان أولى به ويحلفه، إلا أن يشاء رب الرهن أن
يعطيه حقه عليه ويأخذ رهنه. وقال ابن القاسم عن مالك: "القول قول
المرتهن فيما بينه وبين قيمة الرهن لا يصدق على أكثر من ذلك".
قال أبو بكر: قال الله تعالى: {وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ
وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً} فيه
الدلالة على أن القول قول الذي عليه الدين لأنه وعظه في البخس وهو
النقصان، فيدل على أن القول قوله. وأيضا قول النبي صلى الله عليه وسلم:
"البينة على المدعي واليمين على المدعى عليه" والمرتهن هو المدعي
والراهن هو المدعى عليه، فالقول قوله بقضية قوله صلى الله عليه وسلم
وأيضا لو لم يكن رهن لكان القول قول الذي عليه الدين في مقداره
بالاتفاق، كذلك إذا كان به رهن لأن الرهن لا يخرجه من أن يكون مدعى
عليه.
قال أبو بكر: وزعم بعض من يحتج لمالك أن قوله أشبه بظاهر القرآن، لأنه
قال: {فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} فأقام الرهن مقام الشهادة، ولم يأتمن
الذي عليه الحق حين أخذ منه وثيقة كما لم يأتمنه على مبلغه إذا أشهد
عليه الشهود لأن الشهود والكتاب تنبئ عن مبلغ الحق، فلم يصدق الراهن
وقام الرهن مقام الشهود إلى أن يبلغ قيمته، فإذا جاوز قيمته فلا وثيقة
فيه والمرتهن مدع فيه والراهن مدعى عليه.
قال أبو بكر: وهذا من عجيب الحجاج. وذلك أنه زعم أنه لما لم يأتمنه حتى
أخذ الرهن قام الرهن مقام الشهادة، وزعم مع ذلك أن ذلك موافق لظاهر
القرآن، وقد جعل الله تعالى القول قول الذي عليه الحق حين قال:
{وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ
وَلا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً} فجعل القول قوله في الحال التي أمر فيها
بالإشهاد والكتاب، ولم يجعل عدم ائتمان الطالب للمطلوب مانعا من أن
يكون القول قول المطلوب، فكيف يكون ترك ائتمانه إياه بالتوثق منه
بالرهن مانعا من قبول. قول المطلوب وموجبا لتصديق الطالب على ما يدعيه
والذي ذكره مخالف لظاهر القرآن، والعلة التي نصبها لتصديق المرتهن في
ترك ائتمانه منتقضة بنص الكتاب. ثم دعواه موافقته لظاهر القرآن أعجب
الأشياء وذلك لأن القرآن قد قضى ببطلان قوله حين جعل القول قول المطلوب
في
(1/647)
الحال
التي لم يؤتمن فيها حتى استوثق منه بالكتاب والإشهاد، وهو فإنما زعم
أنه لم يأتمنه حين أخذ الرهن وجب أن يكون القول قول الطالب، ثم زعم أن
قوله موافق لظاهر القرآن وبنى عليه أنه لم يأتمنه وأن الرهن توثق كما
أن الشهادة توثق فقام الرهن مقام الشهادة. وليس ما ذكره من المعنى من
ظاهر القرآن في شيء، وإنا كنا قد دللنا على أنه مخالف له، وإنما هو
قياس ورد لمسألة الرهن إلى مسألة الشهادة بعلة أنه لم يؤتمن في الحالين
على الدين الذي عليه; وهو قياس باطل من وجوه: أحدها: أن ظاهر القرآن
يرده، وهو ما قدمناه. والثاني: أنه منتقض باتفاق الجميع على أن من له
على رجل دين فأخذ منه كفيلا ثم اختلفوا في مقداره كان القول قول
المطلوب فيما يلزمه ولم يكن عدم الائتمان بأخذه الكفيل موجبا لتصديق
الطالب مع وجود علته فيه فانتقضت علته بالكفالة. والثالث: أن المعنى
الذي من أجله لم يصدق الطالب إذا قامت البينة، أن شهادة الشهود مقبولة
محكوم فيها وهم قد شهدوا على إقراره بأكثر مما ذكره وبما ادعاه المدعي
فصار كإقراره عند القاضي. بالزيادة; ولا دلالة في قيمة الرهن على أن
الدين بمقداره; لأنه لا خلاف أنه جائز أن يرهن بالقليل الكثير وبالكثير
القليل ولا تنبئ قيمة الرهن عن مقدار الدين ولا دلالة فيه عليه، فكيف
يكون الرهن بمنزلة الشهادة ويدل على فساد قياسه هذا أنهما لو اتفقا على
أن الدين أقل من قيمة الرهن لم يوجب ذلك بطلان الرهن، ولو أقر الطالب
أن دينه أقل مما شهد به شهوده بطلت شهادة شهوده. فهذه الوجوه كلها توجب
بطلان ما ذكره هذا المحتج.
وقوله تعالى: {وَلا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا
فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ}. قال أبو بكر: قوله تعالى: {وَلا تَكْتُمُوا
الشَّهَادَةَ} كلام مكتف بنفسه، وإن كان معطوفا على ما تقدم ذكره من
الأمر بالإشهاد عند التبايع بقوله: {وَأَشْهِدُوا إِذَا
تَبَايَعْتُمْ}، فهو عموم في سائر الشهادات التي يلزم الشاهد إقامتها
وأداؤها، وهو نظير قوله تعالى: {وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ}
[الطلاق: 2] وقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا
قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ}
[النساء: 135] فنهى الله تعالى الشاهد بهذه الآيات عن كتمان الشهادة
التي تركها يؤدي إلى تضييع الحقوق. وهو على ما بينا من إثبات الشهادة
في كتب الوثائق وأدائها بعد إثباتها فرض على الكفاية، فإذا لم يكن من
يشهد على الحق غير هذين الشاهدين فقد تعين عليهما فرض أدائها ويلحقهما
إن تخلفا عنها الوعيد المذكور في الآية. وقد كان نهيه عن الكتمان مفيدا
لوجوب أدائها، ولكنه تعالى أكد الفرض فيها بقوله: {وَمَنْ يَكْتُمْهَا
فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ} وإنما أضاف الإثم إلى القلب وإن كان في
الحقيقة الكاتم هو الآثم; لأن المأثم فيه إنما يتعلق بعقد القلب، ولأن
كتمان الشهادة إنما هو عقد
(1/648)
النية
لترك أدائها باللسان، فعقد النية من أفعال القلب لا نصيب للجوارح فيه;
وقد انتظم الكاتم للشهادة المأثم من وجهين: أحدهما: عزمه على أن لا
يؤديها، والثاني ترك أدائها باللسان.
وقوله: {آثِمٌ قَلْبُهُ} مجاز لا حقيقة، وهو آكد في هذا الموضع من
الحقيقة لو قال: "ومن يكتمها فإنه آثم" وأبلغ منه وأدل على الوعيد; وهو
من بديع البيان ولطيف الإعراب عن المعاني تعالى الله الحكيم.
قال أبو بكر: وآية الدين بما فيها من ذكر الاحتياط بالكتاب والشهود
المرضيين والرهن تنبيه على موضع صلاح الدين والدنيا معه، فأما في
الدنيا فصلاح ذات البين ونفي التنازع والاختلاف، وفي التنازع والاختلاف
فساد ذات البين وذهاب الدين والدنيا; قال الله عز وجل: {وَلا
تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} [الأنفال: 46] وذلك أن
المطلوب إذا علم أن عليه دينا وشهودا أو كتابا أو رهنا بما عليه وثيقة
في يد الطالب، قل الخلاف، علما منه أن خلافه وبخسه لحق المطلوب لا
ينفعه بل يظهر كذبه بشهادة الشهود عليه وفيه وثيقة واحتياط للطالب، وفي
ذلك صلاح لهما جميعا في دينهما ودنياهما لأن في تركه بخس حق الطالب
صلاح دينه وفي جحوده وبخسه ذهاب دينه إذا علم وجوبه; وكذلك الطالب إذا
كانت له بينة وشهود أثبتوا ما له، وإذا لم تكن له بينة وجحد الطالب
حمله ذلك على مقابلته بمثله والمبالغة في كيده حتى ربما لم يرض بمقدار
حقه دون الإضرار به في أضعافه متى أمكنه وذلك متعالم من أحوال عامة
الناس. وهذا نظير ما حرمه الله تعالى على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم
من البياعات المجهولة القدر والآجال المجهولة والأمور التي كان عليها
الناس قبل مبعثه صلى الله عليه وسلم مما كان يؤدي إلى اختلاف وفساد ذات
البين وإيقاع العداوة والبغضاء، ونحوه مما حرم الله تعالى من الميسر
والقمار وشرب الخمر وما يسكر فيؤدي إلى العداوة والبغضاء والاختلاف
والشحناء، قال الله تعالى: {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ
يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ
وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ
فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} [المائدة: 91] فأخبر الله تعالى أنه إنما
نهى عن هذه الأمور لنفي الاختلاف والعداوة ولما في ارتكابها من الصد عن
ذكر الله وعن الصلاة، فمن تأدب بأدب الله وانتهى إلى أوامره وانزجر
بزواجره حاز صلاح الدين والدنيا; قال الله تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ
فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَشَدَّ
تَثْبِيتاً وَإِذاً لَآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْراً عَظِيماً
وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطاً مُسْتَقِيماً} [النساء: 66 - 68]. وفي هذه
الآيات التي أمر الله فيها بالكتاب والإشهاد على الدين والعقود
والاحتياط فيها تارة بالشهادة وتارة بالرهن، دلالة على وجوب حفظ المال
والنهي عن تضييعه، وهو نظير قوله تعالى: {وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ
أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَاماً} [النساء: 5]
وقوله: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ
(1/649)
يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً} [الفرقان: 67] وقوله:
{وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً} [الإسراء: 26] الآية. فهذه الآي دلالة على
وجوب حفظ المال والنهي عن تبذيره وتضييعه. وقد روي نحو ذلك عن النبي
صلى الله عليه وسلم; حدثنا بعض من لا أتهم في الرواية قال: أخبرنا معاذ
بن المثنى قال: حدثنا مسدد قال: حدثنا بشر بن الفضل قال: حدثنا عبد
الرحمن بن إسحاق عن سعيد المقبري عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى
الله عليه وسلم: "لا يحب الله إضاعة المال ولا قيل ولا قال". وحدثنا من
لا أتهم قال: أخبرنا محمد بن إسحاق قال: حدثنا موسى بن عبد الرحمن
المسروقي قال: حدثنا حسن الجعفي عن محمد بن سوقة عن وراد قال: كتب
معاوية إلى المغيرة بن شعبة: اكتب إلي بشيء سمعته من رسول الله صلى
الله عليه وسلم ليس بينك وبينه أحد قال: فأملى علي وكتبت: إني سمعت
رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن الله حرم ثلاثا ونهى عن ثلاث.
فأما الثلاث التي حرم فعقوق الأمهات ووأد البنات ولا وهات1، والثلاث
التي نهى عنهن فقيل وقال وإلحاف السؤال وإضاعة المال".
قوله تعالى: {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَو تُخْفُوهُ
يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ} قال أبو بكر: روي أنها منسوخة بقوله: {لا
يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا} حدثنا عبد الله بن محمد
بن إسحاق المروزي قال: حدثنا الحسن بن أبي الربيع الجرجاني قال: حدثنا
عبد الرزاق، عن معمر، عن قتادة، في قوله: {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي
أَنْفُسِكُمْ أَو تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ} قال: نسخها
قوله تعالى: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا} وحدثنا
عبد الله بن محمد قال: حدثنا الحسن بن أبي الربيع قال: أخبرنا عبد
الرزاق عن معمر قال: سمعت الزهري يقول في قوله تعالى: {وَإِنْ تُبْدُوا
مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَو تُخْفُوهُ} قال: قرأها ابن عمر وبكى قال: إنا
لمأخوذون بما نحدث به أنفسنا؟ فبكى حتى سمع نشيجه، فقام رجل من عنده
فأتى ابن عباس فذكر ذلك له فقال: يرحم الله ابن عمر لقد وجد منها
المسلمون نحوا مما وجد حتى نزلت بعدها: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً
إِلَّا وُسْعَهَا} وروي عن الشعبي عن أبي عبيدة عن عبد الله بن مسعود
قال: نسختها الآية التي تليها: {لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا
اكْتَسَبَتْ}. وروى معاوية بن صالح عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس:
{وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَو تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ
بِهِ اللَّهُ} : أنها لم تنسخ، لكن الله إذا جمع الخلق يوم القيامة
يقول إني أخبركم بما في أنفسكم مما لم تطلع عليه ملائكتي; فأما
المؤمنون فيخبرهم ويغفر لهم ما حدثوا به أنفسهم، وهو قوله:
{يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ
مَنْ يَشَاءُ} وقوله تعالى: {وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ
قُلُوبُكُمْ} [البقرة: 225]
ـــــــ
1 قوله "ولا" أي منع ما عليه اعطاؤه "وهات" أي طلب ما ليس له كما في
النهاية لمصححه.
(1/650)
من الشك
والنفاق. وروي عن الربيع بن أنس مثل ذلك. وقال عمرو بن عبيد: كان الحسن
يقول: هي محكمة لم تنسخ. وروي عن مجاهد أنها محكمة في الشك واليقين.
قال أبو بكر: لا يجوز أن تكون منسوخة لمعنيين: أحدهما أن الأخبار لا
يجوز فيها النسخ لأن نسخ مخبرها يدل على البداء والله تعالى عالم
بالعواقب غير جائز عليه البداء والثاني: أنه لا يجوز تكليف ما ليس في
وسعها لأنه سفه وعبث والله تعالى يتعالى عن فعل العبث. وإنما قول من
روي عنه أنها منسوخة فإنه غلط من الراوي في اللفظ، وإنما أراد بيان
معناها وإزالة التوهم عن صرفه إلى غير وجهه. وقد روى مقسم عن ابن عباس:
أنها نزلت في كتمان الشهادة; وروي عن عكرمة مثله عن غيرهما أنها في
سائر الأشياء. وهذه أولى; لأنه عموم مكتف بنفسه، فهو عام في الشهادة
وغيرها. ومن نظائر ذلك في المؤاخذة بكسب القلب قوله تعالى: {وَلَكِنْ
يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ} [البقرة: 225] وقال تعالى:
{إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ
آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور: 19] وقال تعالى: {فِي
قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} [البقرة: 10] أي شك.
فإن قيل: روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إن الله عفا لأمتي
عما حدثت به أنفسها ما لم يتكلموا به أو يعملوا به". قيل له: هذا فيما
يلزمه من الأحكام فلا يقع عتقه ولا طلاقه ولا بيعه ولا صدقته ولا هبته
بالنية ما لم يتكلم به، وما ذكر في الآية فيما يؤاخذ به مما بين العبد
وبين الله تعالى. وقد روى الحسن بن عطية عن أبيه عن عطية عن ابن عباس
في قوله تعالى: {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَو تُخْفُوهُ
يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ} فقال: سر عملك وعلانيته يحاسبك به الله،
وليس من عبد مؤمن يسر في نفسه خيرا ليعمل به، فإن عمل به كتب له به عشر
حسنات وإن هو لم يقدر يعمل به كتب له به حسنة من أجل أنه مؤمن، وإن
الله رضي بسر المؤمنين وعلانيتهم، وإن كان شرا حدث به نفسه اطلع الله
عليه أخبر به يوم تبلى السرائر، فإن هو لم يعمل به لم يؤاخذه الله به
حتى يعمل به، فإن هو عمل به تجاوز الله عنه كما قال: {أُولَئِكَ
الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجَاوَزُ
عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ} [الأحقاف: 16] وهذا على معنى قوله: "إن الله عفا
لأمتي عما حدثت به أنفسها ما لم يتكلموا به أو يعملوا به".
قوله تعالى: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا} فيه نص
على أن الله تعالى لا يكلف أحدا ما لا يقدر عليه ولا يطيقه، ولو كلف
أحدا ما لا يقدر عليه ولا يستطيعه لكان مكلفا له ما ليس في وسعه، ألا
ترى قول القائل "ليس في وسعي كيت وكيت" بمنزلة قوله "لا أقدر عليه ولا
أطيقه"؟ بل الوسع دون الطاقة. ولم تختلف الأمة في أن الله لا يجوز أن
يكلف الزمن المشي والأعمى البصر والأقطع اليدين البطش لأنه لا يقدر
عليه ولا
(1/651)
يستطيع
فعله; ولا خلاف في ذلك بين الأمة. وقد وردت السنة عن رسول الله صلى
الله عليه وسلم أن من لم يستطع الصلاة قائما فغير مكلف للقيام فيها،
ومن لم يستطعها قاعدا فغير مكلف للقعود بل يصليها على جنب يومئ إيماء
لأنه غير قادر عليها إلا على هذا الوجه; ونص التنزيل قد أسقط التكليف
عمن لا يقدر على الفعل ولا يطيقه. وزعم قوم جهال نسبت إلى الله فعل
السفه والعبث، فزعموا أن كل ما أمر به أحد من أهل التكليف أو نهي عنه،
فالمأمور به منه غير مقدور على فعله والمنهي عنه غير مقدور على تركه.
وقد أكذب الله قيلهم بما نص عليه من أنه لا يكلف الله نفسا إلا وسعها،
مع ما قد دلت عليه العقول من قبح تكليف ما لا يطاق وأن العالم بالقبيح
المستغني عن فعله لا يقع منه فعل القبيح. ومما يتعلق بذلك من الأحكام
سقوط الفرض عن المكلفين فيما لا تتسع له قواهم لأن الوسع هو دون
الطاقة، وأنه ليس عليهم استفراغ المجهود في أداء الفرض نحو الشيخ
الكبير الذي يشق عليه الصوم ويؤديه إلى ضرر يلحقه في جسمه; وإن لم يخش
الموت بفعله فليس عليه صومه لأن الله لم يكلفه إلا ما يتسع لفعله ولا
يبلغ به حال الموت. وكذلك المريض الذي يخشى ضرر الصوم وضرر استعمال
الماء; لأن الله قد أخبر أنه لا يكلف أحدا إلا ما اتسعت له قدرته
وإمكانه دون ما يضيق عليه ويعنته; وقال الله تعالى: {وَلَوْ شَاءَ
اللَّهُ لاعْنَتَكُمْ} [البقرة: 220] وقال في صفة النبي صلى الله عليه
وسلم: {عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ} [التوبة: 128] فهذا حكم مستمر
في سائر أوامر الله وزواجره ولزوم التكليف فيها على ما يتسع له ويقدر
عليه.
قوله عز وجل: {رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ
أَخْطَأْنَا} قال أبو بكر: النسيان على وجهين: أحدهما: أنه قد يتعرض
الإنسان للفعل الذي يقع معه النسيان فيحسن الاعتذار به إذا وقعت منه
جناية على وجه السهو. والثاني: أن يكون النسيان بمعنى ترك المأمور به
لشبهة تدخل عليه أو سوء تأويل، وإن لم يكن الفعل نفسه واقعا على وجه
السهو فيحسن أن يسأل الله مغفرة الأفعال الواقعة على هذا الوجه.
والنسيان بمعنى الترك مشهور في اللغة، قال الله تعالى: {نَسُوا اللَّهَ
فَنَسِيَهُمْ} [التوبة: 67] يعني تركوا أمر الله تعالى فلم يستحقوا
ثوابه، فأطلق اسم النسيان على الله تعالى على وجه مقابلة الاسم كقوله:
{وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} [البقرة: 194] وقوله:
{فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا
اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [الشورى: 40].
قال أبو بكر: النسيان الذي هو ضد الذكر فإن حكمه مرفوع فيما بين العبد
وبين الله تعالى في استحقاق العقاب، والتكليف في مثله ساقط عنه
والمؤاخذة به في الآخرة غير جائزة، لأنه لا حكم له فيما يكلفه من
العبادات، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قد نص على لزوم حكم كثير منها
مع النسيان، واتفقت الأمة أيضا على حكمها; من ذلك قوله صلى الله عليه
وسلم: "من نام عن
(1/652)
صلاة أو
نسيها فليصلها إذا ذكرها" وتلا عند ذلك: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ
لِذِكْرِي} [طه: 14] فدل على أن مراد الله تعالى بقوله: {وَأَقِمِ
الصَّلاةَ لِذِكْرِي} [طه: 14] فعل المنسية منها عند الذكر. وقال
تعالى: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ} [الكهف: 24] وذلك عموم في
لزومه قضاء كل منسي عند ذكره. ولا خلاف بين الفقهاء في أن ناسي الصوم
والزكاة وسائر الفروض بمنزلة ناسي الصلاة في لزوم قضائها عند ذكرها;
وكذلك قال أصحابنا في المتكلم في الصلاة ناسيا: إنه بمنزلة العامد; لأن
الأصل أن العامد والناسي في حكم الفروض سواء، وأنه لا تأثير للنسيان في
إسقاط شيء منها إلا ما ورد به التوقيف; ولا خلاف أن تارك الطهارة ناسيا
كتاركها عامدا في بطلان حكم صلاته. وكذلك قالوا في الأكل في نهار شهر
رمضان ناسيا: إن القياس فيه إيجاب القضاء; وإنهم إنما تركوا القياس فيه
للأثر. ومع ما ذكرنا فإن الناسي مؤد لفرضه على أي وجه فعله; إذ لم
يكلفه الله في تلك الحال غيره، وإنما القضاء فرض آخر ألزمه الله تعالى
بالدلائل التي ذكرنا، فكان تأثير النسيان في سقوط المأثم فحسب، فأما في
لزوم فرض فلا. وقول النبي صلى الله عليه وسلم: "رفع عن أمتي الخطأ
والنسيان" مقصور على المأثم أيضا دون رفع الحكم، ألا ترى أن الله تعالى
قد نص على لزوم حكم قتل الخطإ في إيجاب الدية والكفارة؟ فلذلك ذكر
النبي صلى الله عليه وسلم النسيان مع الخطإ، وهو على هذا المعنى.
فإن قال قائل: من أصلكم إيجاب فرض التسمية على الذبيحة، ولو تركها
عامدا كانت ميتة وإذا تركها ناسيا حلت وكانت مذكاة، ولم تجعلوها بمنزلة
تارك الطهارة ناسيا حتى صلى فيكون مأمورا بإعادتها بالطهارة قطعا،
وكذلك الكلام في الصلاة ناسيا. قيل له: لما بينا من أنه لم يكلف في
الحال غير ما فعل على وجه النسيان، والذي لزمه بعد الذكر فرض مبتدأ
آخر، وكذلك نجيز في هذه القضية أن لا يكون مكلفا في حال النسيان
للتسمية، فصحت الذكاة، ولا تتأتى بعد الذكاة فيه ذبيحة أخرى فيكون
مكلفا لها كما كلف إعادة الصلاة والصوم ونحوه.
قوله تعالى: {لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} هو مثل
قوله تعالى: {وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا} [الأنعام:
164] وقوله: {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى وَأَنَّ
سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى} [النجم: 39 - 40] وفيه الدلالة على أن كل أحد
من المكلفين فأحكام أفعاله متعلقة به دون غيره، وأن أحدا لا يجوز تصرفه
على غيره ولا يؤاخذ بجريرة سواه; وكذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم
لأبي رمثة حين رآه مع ابنه فقال: "هذا ابنك؟" قال: نعم قال: "إنك لا
تجني عليه ولا يجني عليك". وقال صلى الله عليه وسلم: "لا يؤاخذ أحد
بجريرة أبيه ولا بجريرة أخيه" فهذا هو العدل الذي لا يجوز في العقول
غيره.
(1/653)
وقوله
تعالى: {لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} يحتج به في
نفي الحجر وامتناع تصرف أحد من قاض أو غيره على سواه ببيع مال أو منعه
منه إلا ما قامت الدلالة على خصوصه. ويحتج به في بطلان مذهب مالك بن
أنس في أن من أدى دين غيره بغير أمره أن له أن يرجع به عليه; لأن الله
تعالى إنما جعل كسبه له وعليه ومنع لزومه غيره.
قوله عز وجل: {رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْراً كَمَا
حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا} قد قيل في معنى الإصر إنه
الثقل. وأصله في اللغة يقال إنه العطف، ومنه أواصر الرحم; لأنها تعطفه
عليه; والواحد آصرة. والمأصر يقال إنه حبل يمد على طريق أو نهر تحبس به
المارة ويعطفون به عن النفوذ ليؤخذ منهم العشور والمكس. والمعنى في
قوله: {وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْراً} يريد به عهدا وهو الأمر الذي
يثقل; روي نحوه عن ابن عباس ومجاهد وقتادة. وهو في معنى قوله تعالى:
{وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78] يعني
من ضيق; وقوله: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ} [البقرة: 185]
الآية، وقوله تعالى: {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ
حَرَجٍ} [المائدة: 6]. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "جئتكم
بالحنيفية السمحة". وروي عنه "أن بني إسرائيل شددوا على أنفسهم فشدد
الله عليهم". فقوله: {وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْراً} يعني من ثقل
الأمر والنهي {كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا} وهو
كقوله: {وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ
عَلَيْهِمْ} [الأعراف: 157] وهذه الآية ونظائرها يحتج بها على نفي
الحرج والضيق والثقل في كل أمر اختلف الفقهاء فيه وسوغوا فيه الاجتهاد،
فالموجب للثقل والضيق والحرج محجوج بالآية، نحو إيجاب النية في الطهارة
في إيجاب الترتيب فيها وما جرى مجرى ذلك في نفي الضيق والحرج يجوز لنا
الاحتجاج بالظواهر التي ذكرناها
قوله تعالى: {رَبَّنَا وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ}
قيل فيه وجهان: أحدهما: ما يشتد ويثقل من التكليف كنحو ما كلف بنو
إسرائيل أن يقتلوا أنفسهم; وجائز أن يعبر بما يثقل أنه لا يطيقه، كقولك
"ما أطيق كلام فلان ولا أقدر أن أراه" ولا يراد به نفي القدرة، وإنما
يريدون أنه يثقل عليه فيكون بمنزلة العاجز الذي لا يقدر على كلامه
ورؤيته; لبعده من قلبه وكراهته لرؤيته وكلامه. وهو كما قال تعالى:
{وَكَانُوا لا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعاً} [الكهف: 101] وقد كانت لهم
أسماع صحيحة، إلا أن المراد أنهم استثقلوا استماعه فأعرضوا عنه وكانوا
بمنزلة من لم يسمع. والوجه الثاني: أن لا يحملنا من العذاب ما لا
نطيقه. وجائز أن يكون المراد الأمرين جميعا والله أعلم بالصواب.
تم الجزء الأول ويليه الجزء الثاني وأوله سورة آل عمران.
(1/654)
|