أحكام القرآن للجصاص ط العلمية
سورة
الأنفال
مدخل
...
سورة الأنفال
بسم الله الرحمن الرحيم
قال أبو بكر رحمة الله عليه: قال ابن عباس ومجاهد والضحاك وقتادة
وعكرمة وعطاء: الأنفال الغنائم. وروي عن ابن عباس رواية أخرى عن عطاء
أن الأنفال ما يصل إلى المسلمين عن المشركين بغير قتال من دابة أو عبد
أو متاع، فذلك للنبي صلى الله عليه وسلم يضمه حيث يشاء. وروي عن مجاهد:
أن الأنفال الخمس الذي جعله الله لأهل الخمس. وقال الحسن: كانت الأنفال
من السرايا التي تتقدم أمام الجيش الأعظم. والنفل في اللغة الزيادة على
المستحق، ومنه النافلة وهي التطوع; وهو عندنا إنما يكون قبل إحراز
الغنيمة فأما بعده فلا يجوز إلا من الخمس، وذلك بأن يقول للسرية: لكم
الربع بعد الخمس أو الربع حيز من الجميع قبل الخمس، أو يقول: من أصاب
شيئا فهو له، على وجه التحريض على القتال والتضرية على العدو; أو يقول:
من قتل قتيلا فله سلبه وأما بعد إحراز الغنيمة فغير جائز أن ينفل من
نصيب الجيش، ويجوز له أن ينفل من الخمس.
وقد اختلف في سبب نزول الآية، فروي عن سعد قال: أصبت يوم بدر سيفا،
فأتيت به النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: نفلنيه فقال: "ضعه من حيث
أخذت" فنزلت: {يَسْأَلونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ} . قال: فدعاني رسول
الله صلى الله عليه وسلم وقال: "اذهب وخذ سيفك" وروى معاوية بن صالح عن
علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: {يَسْأَلونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ} قال:
"الأنفال الغنائم التي كانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم خاصة ليس
لأحد فيها شيء، ثم أنزل الله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ
مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ}
[لأنفال:41]الآية; قال ابن جريج: أخبرني بذلك سليمان عن مجاهد. وروى
عبادة بن الصامت وابن عباس وغيرهما أن النبي صلى الله عليه وسلم نفل
يوم بدر أنفالا مختلفة وقال: "من أخذ شيئا فهو له" فاختلف الصحابة فقال
بعضهم نحو ما قلنا، وقال آخرون: نحن حمينا رسول الله صلى الله عليه
وسلم وكنا ردءا لكم، قال: فلما اختلفنا وساءت أخلاقنا انتزعه الله من
أيدينا فجعله إلى رسوله فقسمه عن الخمس،
(3/59)
وكان في
ذلك تقوى وطاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم وصلاح ذات البين لقوله
تعالى: {يَسْأَلونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ
وَالرَّسُولِ} قال عبادة بن الصامت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"ليرد قوي المسلمين على ضعيفهم". وروى الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة
قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لم تحل الغنيمة لقوم سود
الرءوس قبلكم، كانت تنزل نار من السماء فتأكلها" فلما كان يوم بدر أسرع
الناس في الغنائم، فأنزل الله تعالى: {لَوْلا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ
سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ فَكُلُوا مِمَّا
غَنِمْتُمْ حَلالاً طَيِّباً} [الأنفال:69] قد ذكر في حديث عبادة وابن
عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال يوم بدر قبل القتال: "من أخذ
شيئا فهو له ومن قتل قتيلا فله كذا" ويقال إن هذا غلط، وإنما قال النبي
صلى الله عليه وسلم يوم حنين: "من قتل قتيلا فله سلبه" وذلك لأنه قد
روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لم تحل الغنائم لقوم سود
الرءوس غيركم" وأن قوله تعالى: {يَسْأَلونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ} نزلت
بعد حيازة غنائم بدر، فعلمنا أن رواية من روى أن النبي صلى الله عليه
وسلم نفلهم ما أصابوا قبل القتال غلط; إذ كانت إباحتها إنما كانت بعد
القتال. ومما يدل على غلطه أنه قال: "من أخذ شيئا فهو له ومن قتل قتيلا
فله كذا ثم قسمها بينهم بالسواء" وذلك لأنه غير جائز على النبي صلى
الله عليه وسلم خلف الوعد ولا استرجاع ما جعله لإنسان وأخذه منه
وإعطاؤه غيره; والصحيح أنه لم يتقدم من النبي صلى الله عليه وسلم قول
في الغنائم قبل القتال، فلما فرغوا من القتال تنازعوا في الغنائم فأنزل
الله تعالى: {يَسْأَلونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ} فجعل أمرها إلى النبي
صلى الله عليه وسلم في أن يجعلها لمن شاء، فيقسمها بينهم بالسواء، ثم
نسخ ذلك بقوله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ
فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} [الأنفال:41] على ما روي عن ابن عباس
ومجاهد، فجعل الخمس لأهله المسلمين في الكتاب، والأربعة الأخماس
للغانمين، وبين النبي صلى الله عليه وسلم سهم الفارس والراجل، وبقي حكم
النفل قبل إحراز الغنيمة بأن يقول: "من قتل قتيلا فله سلبه ومن أصاب
شيئا فهو له" ومن الخمس وما شذ من المشركين من غير قتال فكل ذلك كان
نفلا للنبي صلى الله عليه وسلم يجعله لمن يشاء; وإنما وقع النسخ في
النفل بعد إحراز الغنيمة من غير الخمس. ويدل على أن قسمة غنائم بدر
إنما كانت على الوجه الذي جعله النبي صلى الله عليه وسلم قسمتها لا على
قسمتها الآن أن النبي صلى الله عليه وسلم قسمها بينهم بالسواء ولم يخرج
منها الخمس، ولو كانت مقسومة قسمة الغنائم التي استقر عليها الحكم لعزل
الخمس لأهله ولفضل الفارس على الراجل; وقد كان في الجيش فرسان أحدهما
للنبي صلى الله عليه وسلم والآخر للمقداد قسما الجميع بينهم بالسوية
علمنا أن قوله تعالى: {قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ} قد
اقتضى تفويض أمرها إليه ليعطيها من يرى، ثم نسخ النفل بعد إحراز
الغنيمة وبقي حكمه قبل إحرازها على جهة تحريض الجيش والتضرية على العدو
وما لم يوجف عليه المسلمون وما لا يحتمل القسم ومن الخمس على ما شاء
(3/60)
ويدل على
أن غلط الرواية في أن النبي صلى الله عليه وسلم قال يوم بدر: "من أصاب
شيئا فهو له" وأنه نفل القاتل وغيره ما حدثنا محمد بن بكر قال: حدثنا
أبو داود قال: حدثنا هناد بن السري عن أبي بكر عن عاصم عن مصعب بن سعد
عن أبيه قال: جئت إلى النبي صلى الله عليه وسلم يوم بدر بسيف فقلت: يا
رسول الله إن الله قد شفى صدري اليوم من العدو فهب لي هذا السيف فقال:
"إن هذا السيف ليس لي ولا لك" ، فذهبت وأنا أقول يعطاه اليوم من لم يبل
بلائي; فبينا أنا; إذ جاءني الرسول فقال: أجب فظننت أنه نزل في شيء
بكلامي، فجئت فقال لي النبي صلى الله عليه وسلم: "إنك سألتني هذا السيف
وليس هو لي ولا لك وإن الله قد جعله لي فهو لك" ثم قرأ: {يَسْأَلونَكَ
عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ} . فأخبر
النبي صلى الله عليه وسلم أنه لم يكن له ولا لسعد قبل نزول سورة
الأنفال، وأخبر أنه لما جعله الله له آثره به} وفي ذلك دليل على فساد
رواية من روى أن النبي صلى الله عليه وسلم نفلهم قبل القتال وقال من
أخذ شيئا فهو له.
قوله تعالى: {وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ
أَنَّهَا لَكُمْ} في هذه القصة ضروب من دلائل النبوة، أحدها: إخباره
إياهم بأن إحدى الطائفتين لهم، وهي عير قريش التي كانت فيها أموالهم
وجيشهم الذين خرجوا لحمايتها، فكان وعده على ما وعده.
وقوله تعالى: {وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ
لَكُمْ} يعني أن المؤمنين كانوا يودون الظفر لما فيها من الأموال وقلة
المقاتلة وذلك لأنهم خرجوا مستخفين غير مستعدين للحرب; لأنهم لم يظنوا
أن قريشا تخرج لقتالهم.
وقوله تعالى: {وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ
وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ} وهو إنجاز موعده لهم في قطع دابر
الكافرين وقتلهم.
وقوله تعالى: {فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنْ
الْمَلاَئِكَةِ مُرْدِفِينَ وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلاَّ بُشْرَى
وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ} [الأنفال:9] فوجد مخبر هذه الأخبار
على ما أخبر به، فكان من طمأنينة قلوب المؤمنين ما أخبر به.
وقال تعالى: {إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ} فألقى
عليهم النعاس في الوقت الذي يطير فيه النعاس بإظلال العدو عليهم بالعدة
والسلاح وهم أضعافهم. ثم قال: {وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ
مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ} يعني من الجنابة; لأن فيهم من كان احتلم
وهو رجز الشيطان لأنه من وسوسته في المنام {وَلِيَرْبِطَ عَلَى
قُلُوبِكُمْ} بما صار في قلوبهم من الأمنة والثقة بموعود الله
{وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدَامَ} يحتمل من وجهين: أحدهما: صحة البصيرة
والأمن والثقة الموجبة لثبات الأقدام، والثاني: أن موضعهم كان رملا
دهسا
(3/61)
لا تثبت
فيه الأقدام فأنزل الله تعالى من المطر ما لبد الرمل وثبت عليه
الأقدام; وقد روي ذلك في التفسير.
قوله تعالى: {إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي
مَعَكُمْ} أي أنصركم {فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا} وذلك يحتمل
وجهين: أحدهما: إلقاؤهم إلى المؤمنين بالخاطر والتنبيه أن الله سينصرهم
على الكافرين فيكون ذلك سببا لثباتهم وتحزبهم على الكفار، ويحتمل أن
يكون التثبيت إخبار النبي صلى الله عليه وسلم أن الله سينصره والمؤمنين
فيخبر النبي عليه السلام بذلك المؤمنين فيدعوهم ذلك إلى الثبات
ثم قال: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} وذلك
أن النبي صلى الله عليه وسلم أخذ كفا من تراب ورمى به وجوههم فانهزموا
ولم يبق منهم أحد إلا دخل من ذلك التراب في عينيه. وعنى بذلك أن الله
بلغ بذلك التراب وجوههم وعيونهم; إذ لم يكن في وسع أحد من المخلوقين أن
يبلغ ذلك التراب عيونهم من الموضع الذي كان فيه النبي صلى الله عليه
وسلم. وهذه كلها من دلائل النبوة ومنها وجود مخبرات هذه الأخبار على ما
أخبر به، فلا يجوز أن يتفق مثلها تخرصا وتخمينا. ومنها ما أنزل من
المطر الذي لبد الرمل حتى ثبتت أقدامهم عليه وصاروا وبالا على عدوهم;
لأن في الخبر أن أرضهم صارت وحلا حتى منعهم من المسير. ومنها الطمأنينة
التي صارت في قلوبهم بعد كراهتهم للقاء الجيش. ومنها النعاس الذي وقع
عليهم في الحال التي يطير فيها النعاس. ومنها رميه للتراب وهزيمة
الكفار به.
(3/62)
الكلام في الفرار من الزحف
قال الله تعالى: {وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا
مُتَحَرِّفاً لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلَى فِئَةٍ} روى أبو نضرة
عن أبي سعيد أن ذلك إنما كان يوم بدر، قال أبو نضرة: "لأنهم لو انحازوا
يومئذ لانحازوا إلى المشركين ولم يكن يومئذ مسلم غيرهم". وهذا الذي
قاله أبو نضرة ليس بسديد; لأنه قد كان بالمدينة خلق كثير من الأنصار
ولم يأمرهم النبي عليه السلام بالخروج ولم يكونوا يرون أنه يكون قتال،
وإنما ظنوا أنها العير، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فيمن خف
معه. فقول أبي نضرة إنه لم يكن هناك مسلم غيرهم وإنهم لو انحازوا
انحازوا إلى المشركين غلط لما وصفنا. وقد قيل إنهم لم يكن جائزا لهم
الانحياز يومئذ لأنهم كانوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يكن
الانحياز جائزا لهم عنه، قال الله تعالى: {مَا كَانَ لِأَهْلِ
الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا
عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ}
[التوبة:120] فلم يكن يجوز لهم أن يخذلوا نبيهم صلى الله عليه وسلم
وينصرفوا عنه ويسلموه، وإن كان الله قد تكفل بنصره وعصمه من الناس كما
قال الله تعالى: {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ
(3/62)
النَّاسِ}
[المائدة:67] وكان ذلك فرضا عليهم قلت أعداؤهم أو كثروا. وأيضا فإن
النبي صلى الله عليه وسلم كان فئة المسلمين يومئذ، ومن كان بمنحاز عن
القتال فإنما كان يجوز له الانحياز على شرط أن يكون انحيازه إلى فئة،
وكان النبي صلى الله عليه وسلم فئتهم يومئذ ولم تكن لهم فئة غيره. {قال
ابن عمر: كنت في جيش فحاص الناس حيصة واحدة، ورجعنا إلى المدينة فقلنا:
نحن الفرارون، فقال النبي عليه السلام: "أنا فئتكم" فمن كان بالبعد من
النبي صلى الله عليه وسلم إذا انحاز عن الكفار فإنما كان يجوز له
الانحياز إلى فئة وهو النبي صلى الله عليه وسلم وإذا كان معهم في
القتال لم يكن هناك فئة غيره ينحازون إليه فلم يكن يجوز لهم الفرار.
وقال الحسن في قوله تعالى: {وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ}
قال: {شددت على أهل بدر}، وقال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ
تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا
اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا} [آل عمران:155]
وذلك لأنهم فروا عن النبي صلى الله عليه وسلم، وكذلك يوم حنين فروا عن
النبي صلى الله عليه وسلم فعاقبهم الله على ذلك في قوله تعالى:
{وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ
عَنْكُمْ شَيْئاً وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ
وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ} [التوبة:25] فهذا كان حكمهم; إذ كانوا مع
النبي صلى الله عليه وسلم قل عدد العدو أو كثر; إذ لم يحد الله فيه
شيئا، وقال الله تعالى في آية أخرى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ
الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ
صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ
يَغْلِبُوا أَلْفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا} [الأنفال:65] هذا والله
أعلم في الحال التي لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم حاضرا معهم، فكان
على العشرين أن يقاتلوا المائتين ولا يهربوا عنهم، فإذا كان عدد العدو
أكثر من ذلك أباح لهم التحيز إلى فئة من المسلمين فيهم نصرة لمعاودة
القتال. ثم نسخ ذلك بقوله تعالى: {الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ
وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ
صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ
يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ} [الأنفال:66] فروي عن ابن
عباس أنه قال: كتب عليكم أن لا يفر واحد من عشرة، ثم قال: {الْآنَ
خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً}
[الأنفال:66] الآية، فكتب عليكم أن لا يفر مائة من مائتين وقال ابن
عباس: إن فر رجل من رجلين فقد فر وإن فر من ثلاثة فلم يفر قال الشيخ:
يعني بقوله فقد فر الفرار من الزحف المراد بالآية، والذي في الآية
إيجاب فرض القتال على الواحد لرجلين من الكفار، فإن زاد عدد الكفار على
اثنين فجائز حينئذ للواحد التحيز إلى فئة من المسلمين فيها نصرة، فأما
إن أراد الفرار ليلحق بقوم من المسلمين لا نصرة معهم فهو من أهل الوعيد
المذكور في قوله تعالى: {وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ
إِلَّا مُتَحَرِّفاً لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ
بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ} ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم "أنا
فئة كل مسلم" وقال عمر بن الخطاب لما بلغه أن أبا عبيد بن مسعود استقتل
يوم
(3/63)
الجيش حتى
قتل ولم ينهزم رحم الله أبا عبيد لو انحاز إلي لكنت له فئة فلما رجع
إليه أصحاب أبي عبيد قال: "أنا فئة لكم"، ولم يعنفهم. وهذا الحكم عندنا
ثابت ما لم يبلغ عدد جيش المسلمين اثني عشر ألفا لا يجوز لهم أن
ينهزموا عن مثليهم إلا متحرفين لقتال، وهو أن يصيروا من موضع إلى غيره
مكايدين لعدوهم من نحو خروج من مضيق إلى فسحة أو من سعة إلى مضيق أو
يكمنوا لعدوهم ونحو ذلك مما لا يكون فيه انصراف عن الحرب، أو متحيزين
إلى فئة من المسلمين يقاتلونهم معهم. فإذا بلغوا اثني عشر ألفا فإن
محمد بن الحسن ذكر أن الجيش إذا بلغوا كذلك فليس لهم أن يفروا من عدوهم
وإن كثر عددهم، ولم يذكر خلافا بين أصحابنا فيه، واحتج بحديث الزهري عن
عبيد الله بن عبد الله أن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم: "خير الأصحاب أربعة وخير السرايا أربع مائة وخير الجيوش أربعة
آلاف، ولن يؤتى اثنا عشر ألفا من قلة ولن يغلب" وفي بعضها: "ما غلب قوم
يبلغون اثني عشر ألفا إذا اجتمعت كلمتهم". وذكر الطحاوي أن مالكا سئل
فقيل له: أيسعنا التخلف عن قتال من خرج عن أحكام الله وحكم بغيرها؟
فقال له مالك: إن كان معك اثنا عشر ألفا مثلك لم يسعك التخلف وإلا فأنت
في سعة من التخلف; وكان السائل له عبد الله بن عمر بن عبد العزيز بن
عبد الله بن عمر. وهذا المذهب موافق لما ذكر محمد بن الحسن. والذي روي
عن النبي صلى الله عليه وسلم في اثني عشر ألفا فهو أصل في هذا الباب
وإن كثر عدد المشركين، فغير جائز لهم أن يفروا منهم وإن كانوا أضعافهم،
لقوله صلى الله عليه وسلم: "إذا اجتمعت كلمتهم" وقد أوجب عليهم بذلك
جمع كلمتهم.
قوله تعالى: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا
مِنْكُمْ خَاصَّةً} قيل في الفتنة وجوه: فروي عن عبد الله أنه من قوله
تعالى: {إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ}
[التغابن:15]. وقال الحسن: "الفتنة البلية". وقيل: هي العذاب. وقيل: هي
الفرح الذي يركب الناس فيه بالظلم. وروي عن ابن عباس أنه قال أمر الله
المؤمنين أن لا يقروا المنكر بين أظهرهم فيعمهم الله بالعذاب. ونحوه ما
روي أنه قيل: يا رسول الله "أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: "نعم إذا كثر
الخبث". وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "ما من قوم يعمل
فيهم بالمعاصي وهم أكثر ممن يعمل فلم ينكروا إلا عمهم الله بعذاب".
فحذرنا الله من عذاب يعم الجميع من العاصين ومن لم يعص إذا لم ينكره.
وقيل إنما يعم من قبل أن الفرح والفتنة إذا وقعا دخل ضررهما على كل
واحد منهم.
قوله تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ
وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} يعني ما
كان ليعذبهم عذاب الاستيصال وأنت فيهم; لأنه صلى الله عليه وسلم بعث
رحمة للعالمين ولا يعذبون وهو فيهم حتى يستحقوا سلب النعمة فيعمهم
بالعذاب بعد خروج
(3/64)
النبي صلى
الله عليه وسلم من بينهم، ألا ترى أن الأمم السالفة لما استحقوا
الاستيصال أمر الله أنبياءه بالخروج من بينهم نحو لوط وصالح وشعيب
صلوات الله عليهم؟ وقوله تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ
وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} قال ابن عباس: لما خرج النبي صلى الله عليه
وسلم من مكة بقيت فيها بقية من المؤمنين وقال مجاهد وقتادة والسدي: "أن
لو استغفروا لم يعذبهم".
قوله تعالى: {وَمَا لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ
يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [الأنفال:34] وهذا العذاب غير
العذاب المذكور في الآية الأولى; لأن هذا عذاب الآخرة والأول عذاب
الاستيصال في الدنيا.
وقوله تعالى: {وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ} قيل فيه وجهان: أحدهما: ما
قال الحسن إنهم قالوا نحن أولياء المسجد الحرام فرد الله ذلك عليهم;
والوجه الآخر: ما كانوا أولياء الله إن أولياء الله إلا المتقون فإذا
أريد به أولياء المسجد ففيه دلالة على أنهم ممنوعون من دخول المسجد
الحرام والقيام بعمارته، وهو مثل قوله تعالى: {مَا كَانَ
لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ} [التوبة:17] .
وقوله عز وجل: {وَمَا كَانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا
مُكَاءً وَتَصْدِيَةً} قيل: المكاء الصفير والتصدية التصفيق، روي ذلك
عن ابن عباس وابن عمر والحسن ومجاهد وعطية وقتادة والسدي وروي عن سعيد
بن جبير أن التصدية صدهم عن البيت الحرام. وسمي المكاء والتصدية صلاة
لأنهم كانوا يقيمون الصفير والتصفيق مقام الدعاء والتسبيح. وقيل: إنهم
كانوا يفعلون ذلك في صلاتهم.
قوله تعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ
الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} قال ابن عباس والحسن: "حتى لا يكون شرك".
وقال محمد بن إسحاق: "حتى لا يفتتن مؤمن عن دينه". والفتنة ههنا جائز
أن يريد بها الكفر وجائز أن يريد بها البغي والفساد; لأن الكفر إنما
سمي فتنة لما فيه من الفساد، فتنتظم الآية قتال الكفار وأهل البغي وأهل
العبث والفساد، وهي تدل على وجوب قتال الفئة الباغية. وقوله تعالى:
{وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} يدل على وجوب قتال سائر أصناف
أهل الكفر إلا ما خصه الدليل من الكتاب والسنة وهم أهل الكتاب والمجوس،
فإنهم يقرون بالجزية. ويحتج به من يقول لا يقر سائر الكفار على دينهم
بالذمة إلا هؤلاء الأصناف الثلاثة، لقيام الدلالة على جواز إقرارها
بالجزية.
(3/65)
الكلام في قسمة الغنائم
قال الله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ
لِلَّهِ خُمُسَهُ} وقال في آية
(3/65)
أخرى:
{فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالاً طَيِّباً} فروي عن ابن عباس
ومجاهد أن هذه الآية ناسخة لقوله تعالى: {قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ
وَالرَّسُولِ} وذلك لأنه قد كان جعل النبي صلى الله عليه وسلم ينفل ما
أحرزوه بالقتال لمن شاء من الناس لا حق لأحد فيه إلا من جعله النبي صلى
الله عليه وسلم له، وأن ذلك كان يوم بدر; وقد ذكرنا حديث سعد في قصة
السيف الذي استوهبه من النبي صلى الله عليه وسلم يوم بدر فقال النبي
صلى الله عليه وسلم: "هذا السيف ليس لي ولا لك" ، ثم لما نزل: {قُلِ
الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ} دعاه وقال "إنك سألتني هذا السيف
وليس هو لي ولا لك وقد جعله الله لي وجعلته لك" ، وحديث أبي هريرة عن
النبي صلى الله عليه وسلم وهو ما حدثنا عبد الباقي بن قانع قال: حدثنا
بشر بن موسى قال: حدثنا عبد الله بن صالح قال: حدثنا أبو الأحوص عن
الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة قال: كان يوم بدر تعجل ناس من
المسلمين فأصابوا من الغنائم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لم
تحل الغنائم لقوم سود الرءوس قبلكم، كان النبي إذا غنم هو وأصحابه
جمعوا غنائمهم فتنزل من السماء نار فتأكلها" ، فأنزل الله تعالى:
{لَوْلا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ
عَذَابٌ عَظِيمٌ فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالاً طَيِّباً} وقال:
حدثنا محمد بن بكر قال: حدثنا أبو داود قال: حدثنا أحمد بن حنبل قال:
حدثنا أبو نوح قال: أخبرنا عكرمة بن عمار قال: حدثنا سماك الحنفي قال:
حدثني ابن عباس قال: حدثني عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال لما كان يوم
بدر فأخذ النبي صلى الله عليه وسلم الفداء فأنزل الله تعالى: {مَا
كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى} إلى قوله: {لَمَسَّكُمْ
فِيمَا أَخَذْتُمْ} من الفداء، ثم أحل لهم الغنائم}. فأخبر في هذين
الخبرين أن الغنائم إنما أحلت بعد وقعة بدر، وهذا مرتب على قوله تعالى:
{قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ} وأنها كانت موكولة إلى رأي
النبي صلى الله عليه وسلم.
فهذه الآية أول آية أبيحت بها الغنائم على جهة تخيير النبي صلى الله
عليه وسلم في إعطائها من رأى، ثم نزل قوله تعالى: {وَاعْلَمُوا
أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} وقوله
تعالى: {فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالاً طَيِّباً} وأن فداء
الأسارى كان بعد نزول قوله تعالى: {قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ
وَالرَّسُولِ} وإنما كان النكير عليهم في أخذ الفداء من الأسرى بديا،
ولا دلالة فيه على أن الغنائم لم تكن قد أحلت قبل ذلك على الوجه الذي
جعلت للنبي صلى الله عليه وسلم; لأنه جائز أن تكون الغنائم مباحة وفداء
الأسرى محظورا، وكذلك يقول أبو حنيفة إنه لا تجوز مفاداة أسرى
المشركين. ويدل على أن الجيش لم يكونوا استحقوا قسمة الغنيمة بينهم يوم
بدر إلا بجعل النبي ذلك لهم أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يخمس غنائم
بدر ولم يبين سهام الفارس والراجل إلى أن نزل قوله تعالى: {وَاعْلَمُوا
أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} ، فجعل
بهذه الآية أربعة أخماس الغنيمة للغانمين والخمس للوجوه المذكورة ونسخ
به ما كان
(3/66)
للنبي صلى
الله عليه وسلم من الأنفال إلا ما كان شرطه قبل إحراز الغنيمة، نحو أن
يقول: من أصاب شيئا فهو له، ومن قتل قتيلا فله سلبه; لأن ذلك لم ينتظمه
قوله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ} إذ لم يحصل
ذلك غنيمة لغير آخذه أو قاتله.
وقد اختلف في النفل بعد إحراز الغنيمة.
(3/67)
ذكر الخلاف فيه
قال أصحابنا والثوري: "لا نفل بعد إحراز الغنيمة إنما النفل أن يقول:
من قتل قتيلا فله سلبه ومن أصاب شيئا فهو له". وقال الأوزاعي: في رسول
الله أسوة حسنة، كان ينفل في البدأة الربع وفي الرجعة الثلث}. وقال
مالك والشافعي: "يجوز أن ينفل بعد إحراز الغنيمة على وجه الاجتهاد".
قال الشيخ: ولا خلاف في جواز النفل قبل إحراز الغنيمة، نحو أن يقول: من
أخذ شيئا فهو له ومن قتل قتيلا فله سلبه، وقد روى حبيب بن مسلمة أن
رسول الله صلى الله عليه وسلم نفل في بدأته الربع وفي رجعته الثلث بعد
الخمس. فأما التنفيل في البدأة فقد ذكرنا اتفاق الفقهاء عليه، وأما
قوله: في الرجعة الثلث، فإنه يحتمل وجهين: أحدهما: ما يصيب السرية في
الرجعة بأن يقول لهم: ما أصبتم من شيء فلكم الثلث بعد الخمس; ومعلوم أن
ذلك ليس بلفظ عموم في سائر الغنائم وإنما هي حكاية فعل النبي صلى الله
عليه وسلم في شيء بعينه لم يبين كيفيته، وجائز أن يكون معناه ما ذكرناه
من قوله للسرية في الرجعة وجعل لهم في الرجعة أكثر مما جعله في البدأة;
لأن في الرجعة يحتاج إلى حفظ الغنائم وإحرازها ويكون من حواليهم الكفار
متأهبين مستعدين للقتال لانتشار الخبر بوقوع الجيش إلى أرضهم. والوجه
الآخر: أنه جائز أن يكون ذلك بعد إحراز الغنيمة، وكان ذلك في الوقت
الذي كانت الغنيمة كلها للنبي صلى الله عليه وسلم فجعلها لمن شاء منهم،
وذلك منسوخ بما ذكرنا.
فإن قيل: ذكر في حديث حبيب بن مسلمة الثلث بعد الخمس، فهذا يدل على أن
ذلك كان بعد قوله: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ
فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} قيل له: لا دلالة فيه على ما ذكرت; لأنه لم
يذكر أنه الخمس المستحق لأهله من جملة الغنيمة بقوله تعالى: {فَأَنَّ
لِلَّهِ خُمُسَهُ} وجائز أن يكون ذلك على خمس من الغنيمة لا فرق بينه
وبين الثلث والنصف ولما احتمل حديث حبيب بن مسلمة ما وصفنا لم يجز
الاعتراض به على ظاهر قوله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ
مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} إذ كان قوله ذلك يقتضي إيجاب
الأربعة الأخماس للغانمين اقتضاءه إيجاب الخمس لأهله المذكورين، فمتى
أحرزت الغنيمة فقد ثبت حق الجميع فيها بظاهر الآية، فغير جائز أن يجعل
شيء منها
(3/67)
لغيره على
غير مقتضى الآية إلا بما يجوز بمثله تخصيص الآية. وحدثنا محمد بن بكر
قال: حدثنا أبو داود قال: حدثنا مسدد قال: حدثنا يحيى عن عبيد الله
قال: حدثني نافع عن عبد الله بن عمر قال: بعثنا رسول الله صلى الله
عليه وسلم في سرية فبلغت سهامنا اثني عشر بعيرا ونفلنا رسول الله صلى
الله عليه وسلم بعيرا بعيرا"، فبين في هذا الحديث سهمان الجيش وأخبر أن
النفل لم يكن من جملة الغنيمة وإنما كان بعد السهمان وذلك من الخمس.
ويدل على أن النفل بعد إحراز الغنيمة لا يجوز إلا من الخمس ما حدثنا
محمد بن بكر قال: حدثنا أبو داود قال: حدثنا الوليد بن عتبة قال: حدثنا
الوليد قال: حدثنا عبد الله بن العلاء أنه سمع أبا سلام بن الأسود
يقول، قال: سمعت عمرو بن عبسة قال: صلى بنا رسول الله إلى بعير من
المغنم، فلما سلم أخذ وبرة من جنب البعير ثم قال: "ولا يحل لي من
غنائمكم مثل هذا إلا الخمس والخمس مردود فيكم" ، فأخبر عليه السلام أنه
لم يكن جائز التصرف إلا في الخمس من الغنائم وأن الأربعة الأخماس
للغانمين، وفي ذلك دليل على أن ما أحرز من الغنيمة فهو لأهلها ولا يجوز
التنفيل منه. وفي هذا الحديث دليل على أن ما لا قيمة له ولا يتمانعه
الناس من نحو النواة والتبنة والخرق التي يرمى بها يجوز للإنسان أن
يأخذه وينفله; لأن النبي صلى الله عليه وسلم أخذ وبرة من جنب بعير من
المغنم وقال: "لا يحل لي من غنائمكم مثل هذا" يعني في أن يأخذه لنفسه
وينتفع به أو يجعله لغيره دون جماعتهم; إذ لم تكن لتلك الوبرة قيمة.
فإن قيل فقد قال "لا يحل لي مثل هذا" قيل له: إنما أراد: مثل هذا فيما
يتمانعه الناس لا ذاك بعينه; لأنه قد أخذه. ويدل على ما ذكرنا ما رواه
ابن المبارك قال: حدثنا خالد الحذاء عن عبد الله بن شقيق عن رجل من
بلقين ذكر قصة قال: قلنا: يا رسول الله ما تقول في هذا المال؟ قال:
"خمسه لله وأربعة أخماسه للجيش" قال: قلت: هل أحق أحد به من أحد؟ قال:
"لو انتزعت سهمك من جنبك لم تكن بأحق به من أخيك المسلم" وروى أبو عاصم
النبيل عن وهب أبي خالد الحمصي قال: حدثتني أم حبيبة عن أبيها العرباض
بن سارية أن النبي صلى الله عليه وسلم أخذ وبرة فقال: "ما لي فيكم هذه
ما لي فيه إلا الخمس، فأدوا الخيط والمخيط فإنه عار ونار وشنار على
صاحبه يوم القيامة" وحدثنا محمد بن بكر قال: حدثنا أبو داود قال: حدثنا
موسى بن إسماعيل حدثنا حماد عن محمد بن إسحاق عن عمرو بن شعيب عن أبيه
عن جده، ذكر غنائم هوازن وقال: ثم دنا النبي صلى الله عليه وسلم من
بعير فأخذ وبرة من سنامه ثم قال: "يا أيها الناس إنه ليس لي من هذا
الفيء شيء ولا هذا" ورفع أصبعيه: "إلا الخمس والخمس مردود عليكم، فأدوا
الخيط والمخيط" ، فقام رجل في يده كبة من شعر فقال: أخذت هذه لأصلح بها
بردة، فقال
(3/68)
رسول الله
صلى الله عليه وسلم: "أما ما كان لي ولبني عبد المطلب فهو لك" فقال:
أما إذ بلغت ما أرى فلا أرب لي فيها، ونبذها فهذه الأخبار موافقة لظاهر
الكتاب، فهو أولى مما يخالفه من حديث حبيب بن مسلمة مع احتمال حديثه
للتأويل الذي وصفناه، وجمعنا يمنع أن يكون في الأربعة الأخماس حق لغير
الغانمين ويخبر النبي صلى الله عليه وسلم فيها أنه لا حق له فيها.
وروى محمد بن سيرين: أن أنس بن مالك كان مع عبيد الله بن أبي بكرة في
غزاة فأصابوا سبيا، فأراد عبيد الله أن يعطي أنسا من السبي قبل أن
يقسم، فقال أنس: لا، ولكن اقسم ثم أعطني من الخمس فقال عبيد الله: لا،
إلا من جميع الغنائم فأبى أنس أن يقبل وأبى عبيد الله أن يعطيه من
الخمس. وحدثنا عبد الباقي بن قانع قال: حدثنا إبراهيم بن عبد الله:
حدثنا حجاج: حدثنا حماد عن محمد بن عمرو عن سعيد بن المسيب أنه قال:
"لا نفل بعد النبي صلى الله عليه وسلم" قال الشيخ أيده الله: يجوز أن
يريد به من جملة الغنيمة; لأن النبي صلى الله عليه وسلم قد كانت له
الأنفال ثم نسخ بآية القسمة وهذا مما يحتج به لصحة مذهبنا لأن ظاهره
يقتضي أن لا يكون لأحد نفل بعد النبي صلى الله عليه وسلم في عموم
الأحوال، إلا أنه قد قامت الدلالة في أن الإمام إذا قال من قتل قتيلا
فله سلبه أنه يصير ذلك له بالاتفاق، فخصصناه وبقي الباقي على مقتضاه في
أنه إذا لم يقل ذلك الإمام فلا شيء له، وقد روي عن سعيد بن المسيب قال:
كان الناس يعطون النفل من الخمس.
فإن قيل: قد أعطى النبي صلى الله عليه وسلم من غنائم حنين صناديد العرب
عطايا نحو الأقرع بن حابس وعيينة بن حصن والزبرقان بن بدر وأبي سفيان
بن حرب وصفوان بن أمية، ومعلوم أنه لم يعطهم ذلك من سهمه من الغنيمة
وسهمه من الخمس; إذ لم يكن يتسع لهذه العطايا لأنه أعطى كل واحد من
هؤلاء وغيرهم مائة من الإبل، ولم يكن ليعطيهم من بقية سهام الخمس سوى
سهمه لأنها للفقراء ولم يكونوا هؤلاء فقراء، فثبت أنه أعطاهم من جملة
الغنيمة، ولما لم يستأذنهم فيه، دل على أنه أعطاهم على وجه النفل وأنه
قد كان له أن ينفل قيل له: إن هؤلاء القوم كانوا من المؤلفة قلوبهم،
وقد جعل الله تعالى للمؤلفة قلوبهم سهما من الصدقات، وسبيل الخمس سبيل
الصدقة لأنه مصروف إلى الفقراء كالصدقات المصروفة إليهم، فجائز أن يكون
النبي صلى الله عليه وسلم أعطاهم من جملة الخمس كما يعطيهم من الصدقات.
(3/69)
مطلب: في سلب القتيل
وقد اختلف في سلب القتيل فقال أصحابنا ومالك والثوري: "السلب من غنيمة
الجيش إلا أن يكون الأمير قال من قتل قتيلا فله سلبه". وقال الأوزاعي
والليث
(3/69)
والشافعي:
"السلب للقاتل وإن لم يقل الأمير" قال الشيخ أيده الله: قوله عز وجل:
{وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ} يقتضي وجوب الغنيمة
لجماعة الغانمين، فغير جائز لأحد منهم الاختصاص بشيء منها دون غيره.
فإن قيل: ينبغي أن يدل على أن السلب غنيمة قيل له: {غَنِمْتُمْ} هي
التي حازوها باجتماعهم وتوازرهم على القتال وأخذ الغنيمة، فلما كان
قتله لهذا القتيل وأخذه سلبه بتضافر الجماعة وجب أن يكون غنيمة، ويدل
عليه أنه لو أخذ سلبه من غير قتل لكان غنيمة; إذ لم يصل إلى أخذه إلا
بقوتهم، وكذلك من لم يقاتل وكان قائما في الصف ردءا لهم مستحق الغنيمة
ويصير غانما لأن بظهره ومعاضدته حصلت وأخذت، وإذا كان كذلك وجب أن يكون
السلب غنيمة فيكون كسائر الغنائم ويدل عليه أيضا قوله تعالى: {فَكُلُوا
مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالاً طَيِّباً} والسلب مما غنمه الجماعة فهو لهم
ويدل على ذلك من جهة السنة ما حدثنا أحمد بن خالد الجزوري: حدثنا محمد
بن يحيى: حدثنا محمد بن المبارك وهشام بن عمار قالا: حدثنا عمرو بن
واقد عن موسى بن يسار عن مكحول عن قتادة بن أبي أمية قال: نزلنا دابق
وعلينا أبو عبيدة بن الجراح، فبلغ حبيب بن مسلم أن صاحب قبرص خرج يريد
طريق أذربيجان معه زبرجد وياقوت ولؤلؤ وديباج، فخرج في جبل حتى قتله في
الدرب وجاء بما كان معه إلى عبيدة، فأراد أن يخمسه فقال حبيب: يا أبا
عبيدة لا تحرمني رزقا رزقنيه الله فإن رسول صلى الله عليه وسلم الله
جعل السلب للقاتل، فقال معاذ بن جبل: مهلا يا حبيب إني سمعت النبي صلى
الله عليه وسلم يقول: "إنما للمرء ما طابت به نفس إمامه" فقوله عليه
السلام: "إنما للمرء ما طابت به نفس إمامه" يقتضي حظر ما لم تطب نفس
إمامه، فمن لم تطب نفس إمامه لم يحل له السلب، لا سيما وقد أخبر معاذ
أن ذلك في شأن السلب.
فإن قيل: قد روى عن النبي صلى الله عليه وسلم جماعة منهم أبو قتادة
وطلحة وسمرة بن جندب وغيرهم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من قتل
قتيلا فله سلبه" . وروى سلمة بن الأكوع وابن عباس وعوف بن مالك وخالد
بن الوليد: أن النبي عليه السلام جعل السلب للقاتل" وهذا يدل على
معنيين: أحدهما: أنه يقتضي أن يستحق القاتل السلب، والثاني: أنه فسر أن
معنى قوله في حديث معاذ: "إنما للمرء ما طابت به نفس إمامه" أن نفسه قد
طابت للقاتل بذلك وهو إمام الأئمة. قيل له: صلى الله عليه وسلم: "ليس
للمرء إلا ما طابت به نفس إمامه" المفهوم منه أميره الذي يلزمه طاعته،
وكذلك عقل معاذ وهو راوي ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم ولو أراد
بذلك نفسه لقال إنما للمرء ما طابت به نفسي، فهذا الذي ذكره هذا
(3/70)
السائل
تأويل ساقط لا معنى له. وأما الأخبار المروية في أن السلب للقاتل فإنما
ذلك كلام خرج على الحال التي حض فيها للقتال، وكان يقول ذلك تحريضا لهم
وتضرية على العدو، كما روي أنه قال: "من أصاب شيئا فهو له" ، وكما
حدثنا أحمد بن خالد الجزوري: حدثنا محمد بن يحيى الدهاني: حدثنا موسى
بن إسماعيل: حدثنا غالب بن حجرة قال: حدثتني أم عبد الله وهي ابنة
الملقام بن التلب عن أبيها عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
"من أتى بمول فله سلبه" ومعلوم أن ذلك حكم مقصور على الحال في تلك
الحرب خاصة; إذ لا خلاف أنه لا يستحق السلب بأخذه موليا، وهو كقوله يوم
فتح مكة "من دخل دار أبي سفيان فهو آمن ومن دخل المسجد فهو آمن ومن دخل
بيته فهو آمن ومن ألقى سلاحه فهو آمن".
ويدل على أن السلب غير مستحق للقاتل إلا أن يكون قد قال الأمير من قتل
قتيلا فله سلبه، ما حدثنا محمد بن بكر قال: حدثنا أبو داود قال: حدثنا
أحمد بن حنبل قال: حدثنا الوليد بن مسلم: حدثني صفوان بن عمرو عن عبد
الرحمن بن جبير بن نفير عن أبيه عن عوف بن مالك الأشجعي قال: خرجت مع
زيد بن حارثة في غزوة مؤتة ورافقني مددي من أهل اليمن ليس معه غير
سيفه، فنحر رجل من المسلمين جزورا، فسأله المددي طائفة من جلده، فأعطاه
إياه، فاتخذه كهيئة الدرق، ومضينا فلقينا جموع الروم وفيهم رجل على فرس
له أشقر عليه سرج مذهب وسلاح مذهب، فجعل الرومي يغري بالمسلمين وقعد له
المددي خلف صخرة، فمر به الرومي فعرقب فرسه وخر وعلاه فقتله وحاز فرسه
وسلاحه، فلما فتح الله عز وجل للمسلمين بعث إليه خالد بن الوليد فأخذ
منه السلب; قال عوف: فأتيته فقلت: يا خالد أما علمت أن رسول الله صلى
الله عليه وسلم قضى بالسلب للقاتل ؟ فقال: بلى ولكن استكثرته، فقلت:
لتردنه إليه أو لأعرفنكها عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فأبى أن
يرد عليه; قال عوف: فاجتمعنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقصصت
عليه قصة المددي وما فعل خالد، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا
خالد ما حملك على ما صنعت؟" قال: يا رسول الله استكثرته، فقال رسول
الله صلى الله عليه وسلم: "يا خالد رد عليه ما أخذت منه !" قال عوف:
فقلت: "دونك يا خالد ألم أف لك"؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"وما ذاك؟" فأخبرته، قال: فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "يا
خالد لا ترد عليه هل أنتم تاركو أمرائي لكم صفوة أمرهم وعليهم كدره".
حدثنا محمد بن بكر قال: حدثنا أبو داود قال: حدثنا أحمد بن حنبل قال:
حدثنا الوليد قال: سألت ثورا عن هذا الحديث، فحدثني عن خالد بن معدان
عن جبير بن نفير عن عوف بن مالك الأشجعي نحوه. فلما قال النبي: "يا
خالد لا ترد عليه" دل ذلك على أن السلب غير مستحق للقاتل; لأنه لو
استحقه لما جاز أن
(3/71)
يمنعه،
ودل ذلك على أن قوله بديا ادفعه إليه لم يكن على جهة الإيجاب وإنما كان
على وجه النفل، وجائز أن يكون ذلك من الخمس
ويدل عليه ما روى يوسف الماجشون قال: حدثني صالح بن إبراهيم عن أبيه عن
عبد الرحمن بن عوف أن معاذ ابن عفراء ومعاذ بن عمرو بن الجموح قتلا أبا
جهل، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "كلاكما قتله" وقضى بسلبه لمعاذ
بن عمرو. فلما قضى به لأحدهما مع إخباره أنهما قتلاه دل على أنهما لم
يستحقاه بالقتل، ألا ترى أنه لو قال من قتل قتيلا فله سلبه ثم قتله
رجلان استحقا السلب نصفين؟ فلو كان القاتل مستحقا للسلب لوجب أن يكون
لو وجد قتيل لا يعرف قاتله أن لا يكون سلبه من جملة الغنيمة بل يكون
لقطة لأن له مستحقا بعينه، فلما اتفق الجميع على أن سلب من لم يعرف
قاتله في المعركة من جملة الغنيمة دل على أن القاتل لا يستحقه.
وقد قال الشافعي: "إن القاتل لا يستحق السلب في الإدبار وإنما يستحقه
في الإقبال"، فالأثر الوارد في السلب لم يفرق بين حال الإقبال
والإدبار. فإن احتج بالخبر فقد خالفه، وإن احتج بالنظر فالنظر يوجب أن
يكون غنيمة للجميع لاتفاقهم على أنه إذا قتله في حال الإدبار لم يستحقه
وكان غنيمة، والمعنى الجامع بينهما أنه قتله بمعاونة الجميع ولم يتقدم
من الأمير قول في استحقاقه. ويدل على أن القاتل إنما يستحقه إذا تقدم
من الأمير قول قبل إحراز الغنيمة أنه لو قال: من قتل قتيلا فله سلبه،
ثم قتله مقبلا أو مدبرا استحق سلبه ولم يختلف حال الإقبال والإدبار،
فلو كان السلب مستحقا بنفس القتل لما اختلف حكمه في حال الإقبال
والإدبار. وقد روي عن عمر في قتيل البراء بن مالك أنا كنا لا نخمس
السلب وأن سلب البراء قد بلغ مالا ولا أرانا إلا خامسيه.
(3/72)
مطلب: إذا قال الأمير من أصاب شيئا فهو له
واختلف في الأمير إذا قال: من أصاب شيئا فهو له، فقال أصحابنا والثوري
والأوزاعي: "هو كما قال ولا خمس فيه"، وكره مالك أن يقول من أصاب شيئا
فهو له لأنه قتال بجعل وقال الشافعي: "يخمس ما أصابه إلا سلب المقتول".
قال أبو بكر: لما اتفقوا على جواز أن يقول: من أصاب شيئا فهو له، وأنه
يستحق وجب أن لا خمس فيه وأن يجوز قطع حقوق أهل الخمس عنه كما جاز قطع
حقوق سائر الغانمين عنه. وأيضا فإن قوله: من أصاب شيئا فهو له بمنزلة
من قتل قتيلا فله سلبه، فلما لم يجب في السلب الخمس إذا قال الأمير ذلك
كذلك سائر الغنيمة. وأيضا فإن الله تعالى إنما أوجب
(3/72)
الخمس
فيما صار غنيمة لهم بقوله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ
مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} وهذا لم يصر غنيمة لهم لأن قول
الأمير في ذلك جائز على الجيش، فلما لم يصر غنيمة لهم وجب أن لا خمس
فيه.
(3/73)
مطلب: فيمن دخل دار الحرب مغيرا بغير إذن الإمام
واختلف في الرجل يدخل دار الحرب وحده مغيرا بغير إذن الإمام فقال
أصحابنا: "ما غنمه فهو له خاصة ولا خمس فيه حتى تكون لهم منعة". ولم
يحد محمد في المنعة شيئا. وقال أبو يوسف: "إذا كانوا تسعة ففيه الخمس".
وقال الثوري والشافعي: "يخمس ما أخذه والباقي له". وقال الأوزاعي: "إن
شاء الإمام عاقبه وحرمه وإن شاء خمس ما أصاب والباقي له"
قال أبو بكر: قوله تعالى {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ
فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} يقتضي أن يكون الغانمون جماعة; لأن حصول
الغنيمة منهم شرط في الاستحقاق، وليس ذلك بمنزلة قوله تعالى:
{فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} [التوبة:5] و {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا
يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ} [التوبة:29] في لزوم
قتل الواحد على حياله وإن لم يكن معه جماعة إذا كان مشتركا; لأن ذلك
أمر بقتل الجماعة والأمر بقتل الجماعة لا يوجب اعتبار الجميع; إذ ليس
فيه شرط، وقوله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ} فيه معنى
الشرط، وهو حصول الغنيمة لهم وبقتالهم، فهو كقول القائل: إن كلمت هؤلاء
الجماعة فعبدي حر، أن شرط الحنث وجود الكلام للجماعة ولا يحنث بكلام
بعضها. وأيضا لما اتفق الجميع على أن الجيش إذا غنموا لم يشاركهم سائر
المسلمين في الأربعة الأخماس لأنهم لم يشهدوا القتال ولم تكن منهم
حيازة الغنيمة وجب أن يكون هذا المغير وحده استحق ما غنمه، وأما الخمس
فإنما يستحق من الغنيمة التي حصلت بظهر المسلمين ونصرتهم وهو أن يكونوا
فئة للغانمين، ومن دخل دار الحرب وحده مغيرا فقد تبرأ من نصرة الإمام
لأنه عاص له داخل بغير أمره فوجب أن لا يستحق منه الخمس; ولذلك قال
أصحابنا في الركاز الموجود في دار الإسلام: لما كان الموضع مظهورا عليه
بالإسلام وجب فيه الخمس ولو وجده في دار الحرب لم يجب فيه الخمس. وإذا
دخل الرجل وحده بإذن الإمام خمس ما غنم; لأنه لما أذن له في الدخول ضمن
نصرته وحياطته، والإمام قائم مقام جماعة المسلمين في ذلك فاستحق لهم
الخمس. وأما إذا كان المغيرون بغير إذن الإمام جماعة لهم منعة فإنه يجب
فيه الخمس بقوله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ
فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} فهم في هذه الحال بمنزلة السرية والجيش،
لحصول المنعة لهم ولتوجه الخطاب إليهم بإخراج الخمس من غنائمهم.
(3/73)
مطلب: في المدد يلحق الجيش في دار الحرب قبل إحراز الغنيمة
واختلف في المدد يلحق الجيش في دار الحرب قبل إحراز الغنيمة، فقال
أصحابنا: "إذا غنموا في دار الحرب ثم لحقهم جيش آخر قبل إخراجها إلى
دار الإسلام فهم شركاء فيها". وقال مالك والثوري والليث والأوزاعي
والشافعي: "لا يشاركونهم". قال أبو بكر: الأصل في ذلك عند أصحابنا أن
الغنيمة إنما يثبت فيها الحق بالإحراز في دار الإسلام ولا يملك إلا
بالقسمة، وحصولها في أيديهم في دار الحرب لا يثبت لهم فيها حقا;
والدليل عليه أن الموضع الذي حصل فيه الجيش من دار الحرب لا يصير
مغنوما إذا لم يفتتحوها ألا ترى أنهم لو خرجوا ثم دخل جيش آخر ففتحوها
لم يصر الموضع الذي صار فيه الأولون ملكا لهم وكان حكمه حكم غيره من
بقاع أرض الحرب؟ وللمعنى فيه أنهم لم يحرزوه في دار الإسلام، فكذلك
سائر ما يحصل في أيديهم قبل خروجهم إلى دار الإسلام لم يثبت لهم فيه حق
إلا بالحيازة في دارنا، فإذا لحقهم جيش آخر قبل الإحراز في دار الإسلام
كان حكم ما أخذوه حكم ما في أيدي أهل الحرب فيشترك الجميع فيه. وأيضا
قوله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ} يقتضي أن
يكون غنيمة لجميعهم; إذ بهم صار محرزا في دار الإسلام ألا ترى أنهم ما
داموا في دار الحرب فإنهم يحتاجون إلى معونة هؤلاء في إحرازها كما لو
لحقوهم قبل أخذها شاركوهم؟ ولو كان حصولها في أيديهم يثبت لهم فيها حقا
قبل إحرازها في دار الإسلام لوجب أن يصير الموضع الذي وطئه الجيش من
دار الإسلام، كما لو افتتحوها لصارت دارا للإسلام، وفي اتفاق الجميع
على أن وطء الجيش لموضع في دار الحرب لا يجعله من دار الإسلام دليل على
أن الحق لا يثبت فيه إلا بالحيازة.
واحتج من لم يقسم للمدد بما روى الزهري عن عنبسة بن سعيد عن أبي هريرة:
أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث أبان بن سعيد على سرية قبل نجد، فقدم
أبان وأصحابه بخيبر بعدما فتحت وإن حزم خيلهم الليف، قال أبان: اقسم
لنا يا رسول الله قال أبو هريرة: فقلت: لا تقسم لهم شيئا يا نبي الله
قال: قال أبان: أنت بهذا يا وتر نجد، قال النبي صلى الله عليه وسلم:
"اجلس يا أبان" فلم يقسم لهم. وهذا لا حجة فيه; لأن خيبر صارت دار
الإسلام بظهور النبي صلى الله عليه وسلم عليها، وهذا لا خلاف فيه. وقد
قيل فيه وجه آخر، وهو ما روى حماد بن سلمة عن علي بن زيد عن عمار بن
أبي عمار عن أبي هريرة قال: "ما شهدت لرسول الله مغنما إلا قسم لي إلا
خيبر فإنها كانت لأهل الحديبية خاصة". فأخبر في هذا الحديث أن خيبر
كانت لأهل الحديبية خاصة
(3/74)
شهدوها أو
لم يشهدوها دون من سواهم; لأن الله تعالى كان وعدهم إياها بقوله:
{وَأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا قَدْ أَحَاطَ اللَّهُ بِهَا}
[الفتح:21] بعد قوله: {وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً
تَأْخُذُونَهَا فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ} [الفتح:20] وقد روى أبو بردة
عن أبي موسى قال: "قدمنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد فتح
خيبر بثلاث، فقسم لنا ولم يقسم لأحد لم يشهد الفتح غيرنا". فذكر في هذا
الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قسم لأبي موسى وأصحابه من غنائم
خيبر ولم يشهدوا الوقعة ولم يقسم فيها لأحد لم يشهد الوقعة وهذا يحتمل
أن يكون لأنهم كانوا من أهل الحديبية، ويحتمل أن يكون بطيبة أنفس أهل
الغنيمة، كما روى خثيم بن عراك عن أبيه عن نفر من قومه أن أبا هريرة
قدم المدينة هو ونفر من قومه، قال: فقدمنا وقد خرج رسول الله صلى الله
عليه وسلم فخرجنا من المدينة حتى قدمنا على رسول الله صلى الله عليه
وسلم وقد افتتح خيبر، فكلم الناس فأشركونا في سهامهم فليس في شيء من
هذه الأخبار دلالة على أن المدد إذا لحق بالجيش وهم في دار الحرب أنهم
لا يشركونهم في الغنيمة. وقد روى قيس بن مسلم عن طارق بن شهاب أن أهل
البصرة غزوا نهاوند فأمدهم أهل الكوفة وظهروا، فأراد أهل البصرة أن لا
يقسموا لأهل الكوفة، وكان عمار على أهل الكوفة، فقال رجل من بني عطارد:
أيها الأجدع تريد أن تشاركنا في غنائمنا فقال: جير إذ بي سبيت; فكتب في
ذلك إلى عمر، فكتب عمر في ذلك: إن الغنيمة لمن شهد الوقعة وهذا أيضا لا
دلالة فيه على خلاف قولنا; لأن المسلمين ظهروا على نهاوند وصارت دار
الإسلام; إذ لم يبق للكفار هناك فئة، فإنما قال: إن الغنيمة لمن شهد
الوقعة منهم لأنهم لحقوهم بعد ما صارت دار الإسلام، ومع ذلك فقد رأى
عمار ومن معه أن يشركوهم، ورأى عمر أن لا يشركوهم لأنهم لحقوه بعد
حيازة الغنيمة في دار الإسلام لأن الأرض صارت من دار الإسلام
(3/75)
باب سهمان الخيل
قال الله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ
لِلَّهِ خُمُسَهُ} قال أبو بكر: ظاهره يقتضي المساواة بين الفارس
والراجل، وهو خطاب لجميع الغانمين وقد شملهم هذا الاسم، ألا ترى أن
قوله تعالى: {فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ
ثُلُثَا مَا تَرَكَ} [النساء:11] قد عقل من ظاهره استحقاقهن للثلثين
على المساواة؟ وكذلك من قال: هذا العبد لهؤلاء أنه لهم بالمساواة ما لم
يذكر التفضيل، كذلك مقتضى قوله تعالى: {غَنِمْتُمْ}
(3/75)
يقتضي أن
يكونوا متساوين; لأن قوله: {غَنِمْتُمْ} عبارة عن ملكهم له.
وقد اختلف في سهم الفارس
(3/76)
ذكر الخلاف في ذلك
قال أبو حنيفة: "للفارس سهمان وللراجل سهم". وقال أبو يوسف ومحمد وابن
أبي ليلى ومالك والثوري والليث والأوزاعي والشافعي: "للفارس ثلاثة أسهم
وللراجل سهم". وروي مثل قول أبي حنيفة عن المنذر بن أبي حمصة عامل عمر
أنه جعل للفارس سهمين وللراجل سهما فرضيه عمر ومثله عن الحسن البصري.
وروى شريك عن أبي إسحاق قال: قدم قثم بن العباس على سعيد بن عثمان
بخراسان وقد غنموا، فقال: جعل جائزتك أن أضرب لك بألف سهم، فقال: اضرب
لي بسهم ولفرسي بسهم. قال أبو بكر: قد بينا أن ظاهر الآية يقتضي
المساواة بين الفارس والراجل، فلما اتفق الجميع على تفضيل الفارس بسهم
فضلناه وخصصنا به للظاهر وبقي حكم اللفظ فيما عداه وحدثنا عبد الباقي
بن قانع قال: حدثنا يعقوب بن غيلان العماني قال: حدثنا محمد بن الصباح
الجرجرائي قال: حدثنا عبد الله بن رجاء عن سفيان الثوري عن عبيد الله
بن عمر عن نافع عن ابن عمر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جعل
للفارس سهمين وللراجل سهما قال عبد الباقي: لم يجئ به عن الثوري غير
محمد بن الصباح.
قال أبو بكر: وقد حدثنا عبد الباقي قال: حدثنا بشر بن موسى قال: حدثنا
الحميدي قال: حدثنا أبو أسامة عن عبيد الله عن نافع عن ابن عمر قال:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "للفارس ثلاثة أسهم سهم له وسهمان
لفرسه" واختلف حديث عبيد الله بن عمر في ذلك، وجائز أن يكونا صحيحين
بأن يكون أعطاه بديا سهمين وهو المستحق ثم أعطاه في غنيمة أخرى ثلاثة
أسهم وكان السهم الزائد على وجه النفل، ومعلوم أن النبي صلى الله عليه
وسلم لا يمنع المستحق، وجائز أن يتبرع بما ليس بمستحق على وجه النفل
كما ذكر ابن عمر في حديث قد قدمنا ذكر سنده أنه كان في سرية قال: فبلغت
سهماننا اثني عشر بعيرا ونفلنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بعيرا
بعيرا وحدثنا عبد الباقي بن قانع قال: حدثنا الحسن بن الكميت الموصلي
قال: حدثنا صبيح بن دينار قال: حدثنا عفيف بن سالم عن عبيد الله بن عمر
عن نافع عن ابن عمر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أسهم يوم بدر
للفارس سهمين وللراجل سهما وهذا إن ثبت فلا حجة فيه لأبي حنيفة; لأن
قسمة يوم بدر لم تكن مستحقة للجيش; لأن الله تعالى جعل الأنفال للرسول
صلى الله عليه وسلم وخيره في إعطائه من رأى، ولو لم يعطهم شيئا لكان
جائزا فلم تكن قسمة الغنيمة مستحقة يومئذ وإنما وجبت بعد
(3/76)
ذلك بقوله
تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ
خُمُسَهُ} ونسخ بهذا الأنفال التي جعلها للرسول في جملة الغنيمة وقد
روى مجمع بن جارية: أن النبي صلى الله عليه وسلم قسم غنائم خيبر فجعل
للفارس سهمين وللراجل سهما، وروى ابن الفضيل عن الحجاج عن أبي صالح عن
ابن عباس قال: قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم خيبر "للفارس
ثلاثة أسهم وللراجل سهما" وهذا خلاف رواية مجمع بن جارية، وقد يمكن
الجمع بينهما بأن يكون قسم لبعض الفرسان سهمين وهو المستحق وقسم لبعضهم
ثلاثة أسهم وكان السهم الزائد على وجه النفل، كما روى سلمة بن الأكوع:
أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطاه في غزوة ذي قرد سهمين سهم الفارس
والراجل وكان راجلا يومئذ وكما روي أنه أعطى الزبير يومئذ أربعة أسهم.
وروى سفيان بن عيينة عن هشام بن عروة عن يحيى بن عباد بن عبد الله بن
الزبير أن الزبير كان يضرب له في المغنم بأربعة أسهم، وهذه الزيادة
كانت على وجه النفل تحريضا لهم على إيجاف الخيل، كما كان ينفل سلب
القتيل ويقول: "من أصاب شيئا فهو له" تحريضا على القتال.
فإن قيل: لما اختلفت الأخبار كان خبر الزائد أولى: قيل له: هذا إذا
ثبتت الزيادة كانت على وجه الاستحقاق، فأما إذا احتمل أن تكون على وجه
النفل فلم تثبت هذه الزيادة مستحقة. وأيضا فإن في خبرنا إثبات زيادة
لسهم الراجل لأنه كلما نقص نصيب الفارس زاد نصيب الراجل، ويدل على ما
ذكرنا من طريق النظر أن الفرس لما كان آلة كان القياس أن لا يسهم له
كسائر الآلات، فتركنا القياس في السهم الواحد والباقي محمول على
القياس; وعلى هذا لو حضر الفرس دون الرجل لم يستحق شيئا ولو حضر الرجل
دون الفرس استحق، فلما لم يجاوز بالرجل سهما واحدا كان الفرس به أولى.
وأيضا الرجل آكد أمرا في استحقاق السهم من الفرس، بدلالة أن الرجال وإن
كثروا استحقوا سهامهم، ولو حضرت جماعة أفراس لرجل واحد لم يستحق إلا
لفرس واحد، فلما كان الرجل آكد أمرا من الفرس ولم يستحق أكثر من سهم
فالفرس أحرى بذلك.
واختلف في البراذين، فقال أصحابنا ومالك والثوري والشافعي: "البرذون
والفرس سواء". وقال الأوزاعي: "كانت أئمة المسلمين فيما سلف لا يسهمون
للبراذين حتى هاجت الفتنة من بعد قتل الوليد بن يزيد". وقال الليث:
"للهجين والبرذون سهم واحد ولا يلحقان بالعراب". قال أبو بكر: قال الله
تعالى: {وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ
وَعَدُوَّكُمْ} وقال: {فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا
رِكَابٍ} [الحشر:6] وقال: {وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ}
[النحل:8] فعقل باسم الخيل في هذه الآيات البراذين كما عقل منها
العراب، فلما شملها اسم الخيل وجب أن يستويا في السهمان.
(3/77)
ويدل عليه
أن راكب البرذون يسمى فارسا كما يسمى به راكب الفرس العربي، فلما أجري
عليهما اسم الفارس وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "للفارس سهمان
وللراجل سهم" عم ذلك فارس البرذون كما عم فارس العراب وأيضا إن كان من
الخيل فواجب أن لا يختلف سهمه وسهم العربي، وإن لم يكن من الخيل فواجب
أن لا يستحق شيئا، فلما وافقنا الليث ومن قال بقوله إنه يسهم له دل على
أنه من الخيل وأنه لا فرق بينه وبين العربي. وأيضا لا يختلف الفقهاء في
أنه بمنزلة الفرس العربي في جواز أكله وحظره على اختلافهم فيه، فدل على
أنهما جنس واحد، فصار فرق ما بينهما كفرق ما بين الذكر والأنثى والهزيل
والسمين والجواد وما دونه، وأن اختلافهما في هذه الوجوه لم يوجب اختلاف
سهامهما. وأيضا فإن الفرس العربي وإن كان أجرى من البرذون فإن البرذون
أقوى منه على حمل السلاح. وأيضا فإن الرجل العربي والعجمي لا يختلفان
في حكم السهام كذلك الخيل العربي والعجمي. وقال عبد الله بن دينار:
سألت سعيد بن المسيب عن صدقة البراذين فقال سعيد: وهل في الخيل من
صدقة؟ وعن الحسن أنه قال: البراذين بمنزلة الخيل. وقال مكحول: أول من
قسم للبراذين خالد بن الوليد يوم دمشق، قسم للبراذين نصف سهمان الخيل
لما رأى من جريها وقوتها، فكان يعطي البراذين سهما سهما، وهذا حديث
مقطوع وقد أخبر فيه أنه فعله من طريق الرأي والاجتهاد لما رأى من
قوتها، فإذا ليس بتوقيف وقد روى إبراهيم بن محمد بن المنتشر عن أبيه
قال: أغارت الخيل بالشام وعلى الناس رجل من همدان يقال له المنذر بن
أبي حمصة الوادعي، فأدركت الخيل العراب من يومها وأدركت الكوادن من
الغد، فقال: لا أجعل ما أدرك كما لم يدرك، فكتب إلى عمر فيه، فكتب عمر:
هبلت الوادعي أمه لقد اذكرت به، أمضوها على ما قال فاحتج من لم يسهم
للبراذين بذلك. ولا دلالة في هذا الحديث على أن ذلك كان رأي عمر، وإنما
أجازه لأنه مما يسوغ فيه الاجتهاد، وقد حكم به أمير الجيش فأنفذه.
واختلف فيمن يغزو بأفراس، فقال أبو حنيفة ومحمد ومالك والشافعي: "لا
يسهم إلا لفرس واحد". وقال أبو يوسف والثوري والأوزاعي والليث: "يسهم
لفرسين". والذي يدل على صحة القول الأول أنه معلوم أن الجيش قد كانوا
يغزون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بعدما ظهر الإسلام بفتح خيبر
ومكة وحنين وغيرها من المغازي، ولم يكن يخلو الجماعة منهم من أن يكون
معه فرسان أو أكثر، ولم ينقل أن النبي صلى الله عليه وسلم ضرب لأكثر من
فرس واحد. وأيضا فإن الفرس آلة وكان القياس أن لا يضرب له بسهم كسائر
الآلات، فلما ثبت بالسنة والاتفاق سهم الفرس الواحد أثبتناه ولم نثبت
الزيادة إلا بتوقيف; إذ كان القياس يمنعه.
(3/78)
باب قسمة الخمس
قال الله تعالى: {فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي
الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ} .
واختلف السلف في كيفية قسمة الخمس في الأصل، فروى معاوية بن صالح عن
علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال: "كانت الغنيمة تقسم على خمسة أخماس;
فأربعة منها لمن قاتل عليها، وخمس واحد يقسم على أربعة، فربع لله
وللرسول ولذي القربى يعني قرابة النبي صلى الله عليه وسلم فما كان لله
ولرسوله فهو لقرابة النبي صلى الله عليه وسلم ولم يأخذ النبي صلى الله
عليه وسلم من الخمس شيئا، والربع الثاني لليتامى، والربع الثالث
للمساكين، والربع الرابع لابن السبيل وهو الضيف الفقير الذي ينزل
بالمسلمين". وروى قتادة عن عكرمة مثله. وقال قتادة في قوله تعالى:
{فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} قال: "يقسم الخمس على خمسة أسهم: لله
وللرسول خمس، ولقرابة النبي صلى الله عليه وسلم خمس، ولليتامى خمس،
وللمساكين خمس، ولابن السبيل خمس". وقال عطاء والشعبي خمس الله وخمس
الرسول واحد، قال الشعبي: هو مفتاح الكلام. وروى سفيان عن قيس بن مسلم
قال: سألت الحسن بن محمد بن الحنفية عن قوله عز وجل: {فَأَنَّ لِلَّهِ
خُمُسَهُ} قال: "هذا مفتاح كلام، ليس لله نصيب، لله الدنيا والآخرة".
وقال يحيى بن الجزار: {فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} قال: "لله كل شيء
وإنما النبي صلى الله عليه وسلم خمس الخمس". وروى أبو جعفر الرازي عن
الربيع بن أنس عن أبي العالية قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم
يؤتى بالغنيمة فيضرب بيده فما وقع فيها من شيء جعله للكعبة وهو سهم بيت
الله; ثم يقسم ما بقي على خمسة، فيكون للنبي صلى الله عليه وسلم سهم
ولذوي القربى سهم ولليتامى سهم وللمساكين سهم ولابن السبيل سهم، والذي
جعله للكعبة هو السهم الذي لله تعالى". وروى أبو يوسف عن أشعث بن سوار
عن ابن الزبير عن جابر قال: كان يحمل الخمس في سبيل الله تعالى ويعطي
منه نائبة القوم، فلما كثر المال جعله في غير ذلك". وروى أبو يوسف عن
الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس: "أن الخمس الذي كان يقسم على عهد رسول
الله صلى الله عليه وسلم على خمسة أسهم: لله وللرسول سهم، ولذوي القربى
سهم، ولليتامى سهم، وللمساكين سهم، ولابن السبيل سهم، ثم قسم أبو بكر
وعمر وعثمان وعلي على ثلاثة أسهم: لليتامى والمساكين وابن السبيل".
قال أبو بكر: فاختلف السلف في قسمة الخمس على هذه الوجوه، قال ابن عباس
في رواية علي بن أبي طلحة: "إن القسمة كانت على أربعة سهم الله وسهم
الرسول وسهم ذي القربى كان واحدا، وإنه لم يكن النبي صلى الله عليه
وسلم يأخذ من الخمس شيئا". وقال آخرون:
(3/79)
قوله
{لله} افتتاح كلام وهو مقسوم على خمسة، وهو قول عطاء والشعبي وقتادة.
وقال أبو العالية: كان مقسوما على ستة أسهم لله سهم يجعل للكعبة ولكل
واحد من المسمين في الآية سهم. وأخبر ابن عباس في حديث الكلبي أن
الخلفاء الأربعة قسموه على ثلاثة. وقال جابر بن عبد الله: كان يحمل من
الخمس في سبيل الله ويعطي منه نائبة القوم ثم جعل في غير ذلك. وقال
محمد بن مسلمة وهو من المتأخرين من أهل المدينة: جعل الله الرأي في
الخمس إلى نبيه كما كانت الأنفال له قبل نزول آية قسمة الغنيمة، فنسخت
الأنفال في الأربعة الأخماس وترك الخمس على ما كان عليه موكولا إلى رأي
النبي صلى الله عليه وسلم، وكما قال: {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى
رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي
الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لا
يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ} [الحشر:7] ثم قال:
{وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ} [الحشر:7] فذكر هذه الوجوه ثم
قال: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ} [الحشر:7] فبين في آخره
أنه موكول إلى رأي النبي. وكذلك الخمس قال فيه إنه لله وللرسول يعني
قسمته موكولة إليه، ثم بين الوجوه التي يقسم عليها على ما يرى ويختار.
ويدل على ذلك حديث عبد الواحد بن زياد عن الحجاج بن أرطاة قال: حدثنا
أبو الزبير عن جابر أنه سئل: "كيف كان النبي صلى الله عليه وسلم يصنع
بالخمس؟ قال: كان يحمل منه في سبيل الله الرجل ثم الرجل ثم الرجل".
والمعنى في ذلك أنه كان يعطي منه المستحقين ولم يكن يقسمه أخماسا وأما
قول من قال: "إن القسمة كانت في الأصل على ستة وإن سهم الله كان مصروفا
إلى الكعبة" فلا معنى له; لأنه لو كان ذلك ثابتا لورد النقل به متواترا
ولكانت الخلفاء بعد النبي أولى الناس باستعمال ذلك، فلما لم يثبت ذلك
عنهم علم أنه غير ثابت. وأيضا فإن سهم الكعبة ليس بأولى بأن يكون
منسوبا إلى الله تعالى من سائر السهام المذكورة في الآية إذ كلها مصروف
في وجوه القرب إلى الله عز وجل، فدل ذلك على أن قوله: {فَأَنَّ لِلَّهِ
خُمُسَهُ} غير مخصوص بسهم الكعبة، فلما بطل ذلك لم يخل المراد بذلك من
أحد وجهين: إما أن يكون مفتاحا للكلام على ما حكيناه عن جماعة من السلف
وعلى وجه تعليمنا التبرك بذكر الله وافتتاح الأمور باسمه، أو أن يكون
معناه أن الخمس مصروف في وجوه القرب إلى الله تعالى; ثم بين تلك الوجوه
فقال: {وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى} الآية، فأجمل بديا حكم الخمس
ثم فسر الوجوه التي أجملها.
فإن قيل: لو أراد ما قلت لقال: فأن لله خمسه للرسول ولذي القربى، ولم
يكن يدخل الواو بين اسم الله تعالى واسم رسول الله. قيل له: لا يجب
ذلك، من قبل أنه جائز في اللغة إدخال الواو والمراد إلغاؤها كما قال
تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ
(3/80)
وَضِيَاءً} [الانبياء:48] والواو ملغاة والفرقان ضياء، وقال تعالى:
{فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ} [الصافات:103] معناه: لما
أسلما تله للجبين; لأن قوله: {فَلَمَّا أَسْلَمَا} يقتضي جوابا وجوابه
تله للجبين; وكما قال الشاعر:
بلى شيء يوافق بعض شيء ... وأحيانا وباطله كثير
ومعناه: يوافق بعض شيء أحيانا، والواو ملغاة; وكما قال الآخر:
فإن رشيدا وابن مروان لم يكن ... ليفعل حتى يصدر الأمر مصدرا
ومعناه: فإن رشيد بن مروان; وقال الآخر:
إلى الملك القرم وابن الهمام ... وليث الكتيبة في المزدحم
والواو في هذه المواضع دخولها وخروجها سواء.
فثبت بما ذكرنا أن قوله: {فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} على أحد المعنيين
اللذين ذكرنا; وجائز أن يكونا جميعا مرادين لاحتمال الآية لهما، فينتظم
تعليمنا افتتاح الأمور بذكر الله تعالى وأن الخمس مصروف في وجوه القرب
إلى الله تعالى، فكان للنبي صلى الله عليه وسلم سهم من الخمس وكان له
الصفي وسهم من الغنيمة كسهم رجل من الجند إذا شهد القتال. وروى أبو
حمزة عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه "قال لوفد عبد
القيس: "آمركم بأربع شهادة أن لا إله إلا الله وتقيموا الصلاة وتعطوا
سهم الله من الغنائم والصفي" .
واختلف السلف في سهم النبي صلى الله عليه وسلم بعد موته، فروى سفيان عن
قيس بن مسلم عن الحسن بن محمد بن الحنفية قال: "اختلف الناس بعد وفاة
رسول الله صلى الله عليه وسلم في سهم الرسول وسهم ذي القربى، فقالت
طائفة سهم الرسول للخليفة من بعده، وقالت طائفة سهم ذي القربى لقرابة
الخليفة، وأجمعوا على أن جعلوا هذين السهمين في الكراع والعدة في سبيل
الله" قال أبو بكر سهم النبي صلى الله عليه وسلم إنما كان له ما دام
حيا، فلما توفي سقط سهمه كما سقط الصفي بموته، فرجع سهمه إلى جملة
الغنيمة كما رجع إليها ولم يعد للنوائب.
واختلف في سهم ذوي القربى، فقال أبو حنيفة في الجامع الصغير: "يقسم
الخمس على ثلاثة أسهم: للفقراء والمساكين وابن السبيل". وروى بشر بن
الوليد عن أبي يوسف عن أبي حنيفة قال "خمس الله والرسول واحد، وخمس ذوي
القربى لكل صنف سماه الله تعالى في هذه الآية خمس الخمس". وقال الثوري
"سهم النبي صلى الله عليه وسلم من الخمس هو خمس الخمس وما بقي فللطبقات
التي سمى الله تعالى". وقال مالك: "يعطي من
(3/81)
الخمس
أقرباء رسول الله صلى الله عليه وسلم على ما يرى ويجتهد". وقال
"الأوزاعي خمس الغنيمة لمن سمي في الآية". وقال الشافعي: "يقسم سهم ذوي
القربى بين غنيهم وفقيرهم".
قال أبو بكر: قوله تعالى: {وَلِذِي الْقُرْبَى} لفظ مجمل مفتقر إلى
البيان وليس بعموم; وذلك لأن ذا القربى لا يختص بقرابة النبي صلى الله
عليه وسلم دون غيره من الناس، ومعلوم أنه لم يرد بها أقرباء سائر
الناس، فصار اللفظ مجملا مفتقرا إلى البيان. وقد اتفق السلف على أنه قد
أريد أقرباء النبي صلى الله عليه وسلم، فمنهم من قال: إن المستحقين
لسهم الخمس من الأقرباء هم الذين كان لهم نصرة وإن السهم كان مستحقا
بالأمرين من القرابة والنصرة وإن من ليس له نصرة ممن حدث بعد فإنما
يستحقه بالفقر كما يستحقه سائر الفقراء; ويستدلون على ذلك بحديث الزهري
عن سعيد بن المسيب عن جبير بن مطعم قال: "لما قسم رسول الله صلى الله
عليه وسلم سهم ذوي القربى بين بني هاشم وبني المطلب أتيته أنا وعثمان
فقلنا: يا رسول الله هؤلاء بنو هاشم لا ننكر فضلهم بمكانك الذي وضعك
الله فيهم، أرأيت بني المطلب أعطيتهم ومنعتنا وإنما هم ونحن منك
بمنزلة؟ فقال صلى الله عليه وسلم: "إنهم لم يفارقوني في جاهلية ولا
إسلام وإنما بنو هاشم وبنو المطلب شيء واحد" وشبك بين أصابعه." فهذا
يدل من وجهين على أنه غير مستحق بالقرابة فحسب: أحدهما: أن بني المطلب
وبني عبد شمس في القرب من النبي صلى الله عليه وسلم سواء، فأعطى بني
المطلب ولم يعط بني عبد شمس، ولو كان مستحقا بالقرابة لساوى بينهم.
والثاني: أن فعل النبي صلى الله عليه وسلم ذلك خرج مخرج البيان لما
أجمل في الكتاب من ذكر ذي القربى، وفعل النبي صلى الله عليه وسلم إذا
ورد على وجه البيان فهو على الوجوب، فلما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم
النصرة مع القرابة دل على أن ذلك مراد الله تعالى، فمن لم يكن له منهم
نصرة فإنما يستحقه بالفقر. وأيضا فإن الخلفاء الأربعة متفقون على أنه
لا يستحق إلا بالفقر وقال محمد بن إسحاق: سألت محمد بن علي فقلت: ما
فعل علي رضي الله عنه الله عنه بسهم ذوي القربى حين ولي؟ فقال: سلك به
سبيل أبي بكر وعمر وكره أن يدعى عليه خلافهما. قال أبو بكر: لو لم يكن
هذا رأيه لما قضى به; لأنه قد خالفهما في أشياء مثل الجد والتسوية في
العطايا وأشياء أخر، فثبت أن رأيه ورأيهما كان سواء في أن سهم ذوي
القربى إنما يستحقه الفقراء منهم. ولما أجمع الخلفاء الأربعة عليه ثبتت
حجته بإجماعهم، لقوله صلى الله عليه وسلم: "عليكم بسنتي وسنة الخلفاء
الراشدين من بعدي" وفي حديث يزيد بن هرمز عن ابن عباس فيما كتب به إلى
نجدة الحروري حين سأله عن سهم ذي القربى فقال: كنا نرى أنه لنا فدعانا
عمر إلى أن نزوج منه أيمنا ونقضي منه عن مغرمنا فأبينا أن لا يسلمه لنا
وأبى ذلك علينا قومنا " وفي بعض الألفاظ" "فأبى ذلك علينا بنو عمنا".
فأخبر أن قومه وهم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم رأوه
(3/82)
لفقرائهم
دون أغنيائهم، وقول ابن عباس" "كنا نرى أنه لنا إخبار أنه قاله من طريق
الرأي ولا حظ للرأي مع السنة واتفاق جل الصحابة من الخلفاء الأربعة.
ويدل على صحة قول عمر فيما حكاه ابن عباس عنه حديث الزهري عن عبد الله
بن الحارث بن نوفل عن المطلب بن ربيعة بن الحارث أنه والفضل بن عباس
قالا: يا رسول الله قد بلغنا النكاح فجئناك لتؤمرنا على هذه الصدقات
فنؤدي إليك ما يؤدي العمال ونصيب ما يصيبون، فقال النبي صلى الله عليه
وسلم: "إن الصدقة لا تنبغي لآل محمد إنما هي أوساخ الناس" ثم أمر محمية
أن يصدقهما من الخمس; وهذا يدل على أن ذلك مستحق بالفقر، إذ كان إنما
اقتضى لهما على مقدار الصداق الذي احتاجا إليه للتزوج ولم يأمر لهما
بما فضل عن الحاجة ويدل على أن الخمس غير مستحق قسمته على السهمان وأنه
موكول إلى رأي الإمام قوله صلى الله عليه وسلم: "ما لي من هذا المال
إلا الخمس والخمس مردود إليكم" ولم يخصص القرابة بشيء منه دون غيرهم،
دل ذلك على أنهم فيه كسائر الفقراء يستحقون منه مقدار الكفاية وسد
الخلة ويدل عليه قوله صلى الله عليه وسلم: "يذهب كسرى فلا كسرى بعده
أبدا ويذهب قيصر فلا قيصر بعده أبدا والذي نفسي بيده لتنفقن كنوزهما في
سبيل الله!" فأخبر أنه ينفق في سبيل الله ولم يخصص به قوما من قوم ويدل
على أنه كان موكولا إلى رأي النبي صلى الله عليه وسلم أنه أعطى المؤلفة
قلوبهم وليس لهم ذكر في آية الخمس، فدل على ما ذكرنا. ويدل عليه أن كل
من سمي في آية الخمس لا يستحق إلا بالفقر وهم اليتامى وابن السبيل،
فكذلك ذو القربى; لأنه سهم من الخمس. ويدل عليه أنه لما حرم عليهم
الصدقة أقيم ذلك لهم مقام ما حرم عليهم منها، فوجب أن لا يستحقه منهم
إلا فقير كما أن الأصل الذي أقيم هذا مقامه لا يستحقه إلا فقير.
فإن قيل: موالي بني هاشم لا تحل لهم الصدقة ولم يدخلوا في استحقاق
السهم من الخمس. قيل له: هذا غلط; لأن موالي بني هاشم لهم سهم من الخمس
إذا كانوا فقراء على حسب ما هو لبني هاشم.
فإن قيل: إذا كانت قرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم يستحقون سهمهم
بالفقر والحاجة فما وجه تخصيصه إياهم بالذكر وقد دخلوا في جملة
المساكين؟ قيل له: كما خص اليتامى وابن السبيل بالذكر ولا يستحقونه إلا
بالفقر، وأيضا لما سمى الله الخمس لليتامى والمساكين وابن السبيل كما
قال: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ}
[التوبة:60] الآية، ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن الصدقة لا
تحل لآل محمد" فلو لم يسمهم في الخمس جاز أن يظن ظان أنه لا يجوز
إعطاؤهم منه كما لا يجوز أن يعطوا من الصدقات، فسماهم إعلاما منه لنا
أن سبيلهم فيه بخلاف سبيلهم في الصدقات.
(3/83)
فإن قيل:
قد أعطى النبي صلى الله عليه وسلم العباس من الخمس وكان ذا يسار، فدل
على أنه للأغنياء والفقراء منهم. قيل له: الجواب عن هذا من وجهين:
أحدهما: أنه أخبر أنه أعطاهم بالنصرة والقرابة، لقوله صلى الله عليه
وسلم: "إنهم لم يفارقوني في جاهلية ولا إسلام" فاستوى فيه الفقير
والغني لتساويهم في النصرة والقرابة. والثاني: أنه جائز أن يكون النبي
صلى الله عليه وسلم إنما أعطى العباس ليفرقه في فقراء بني هاشم ولم
يعطه لنفسه
وقد اختلف في ذوي القربى من هم، فقال أصحابنا قرابة النبي صلى الله
عليه وسلم الذين تحرم عليهم الصدقة هم ذوو قراباته وآله وهم آل جعفر
وآل عقيل وولد الحارث بن عبد المطلب، وروي نحو ذلك عن زيد بن أرقم.
وقال آخرون: "بنو المطلب داخلون فيهم لأن النبي صلى الله عليه وسلم
أعطاهم من الخمس". وقال بعضهم "قريش كلها من أقرباء النبي صلى الله
عليه وسلم الذين لهم سهم من الخمس إلا أن للنبي صلى الله عليه وسلم أن
يعطيه من رأى منهم".
قال أبو بكر: أما من ذكرناهم فلا خلاف بين الفقهاء أنهم ذوو قراباته،
وأما بنو المطلب فهم وبنو عبد شمس في القرب من النبي صلى الله عليه
وسلم سواء، فإن وجب أن يدخلوا في القرابة الذين تحرم عليهم الصدقة
فواجب أن يكون بنو عبد شمس مثلهم لمساواتهم إياهم في الدرجة، وأما
إعطاء سهم الخمس فإنما خص هؤلاء به دون بني عبد شمس بالنصرة لأنه قال:
"لم يفارقوني في جاهلية ولا إسلام" وأما الصدقة فلم يتعلق تحريمها
بالنصرة عند جميع الفقهاء، فثبت أن بني المطلب ليسوا من آل النبي صلى
الله عليه وسلم الذين تحرم الصدقة عليهم كبني عبد شمس، وموالي بني هاشم
تحرم عليهم الصدقة ولا قرابة لهم ولا يستحقون من الخمس شيئا بالقرابة
"وقد سألته فاطمة رضي الله عنها خادما من الخمس فوكلها إلى التكبير
والتحميد ولم يعطها"
فإن قيل: إنما لم يعطها لأنها ليست من ذوي قرباه لأنها أقرب إليه من
ذوي قرباه. قيل له فقد خاطب عليا بمثل ذلك وهو من ذوي القربى، وقال
لبعض بنات عمه حين ذهبت مع فاطمة إليه تستخدمه: "سبقكن يتامى بدر" وفي
يتامى بدر من لم يكن من بني هاشم لأن أكثرهم من الأنصار، ولو استحقتا
بالقرابة شيئا لا يجوز منعهما إياه لما منعهما حقهما ولا عدل بهما إلى
غيرهما; وفي هذا دليل على معنيين: أحدهما: أن سهمهم من الخمس أمره كان
موكولا إلى رأي النبي صلى الله عليه وسلم في أن يعطيه من شاء منهم،
والثاني: أن إعطاءهم من الخمس أو منعه لا تعلق له بتحريم الصدقة.
وأما من قال إن قرابة النبي صلى الله عليه وسلم قريش كلها فإنه يحتج
لذلك بأنه نزلت: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ}
[الشعراء:214] قال النبي صلى الله عليه وسلم: "يا بني فهر يا بني عدي
يا بني فلان" لبطون قريش "إني نذير لكم بين يدي عذاب شديد" . وروي عنه
أنه قال: "يا بني
(3/84)
كعب بن
لؤي" وأنه قال: "يا بني هاشم يا بني عبد مناف" . وروي عنه أنه قال لعلي
"اجمع لي بني هاشم" وهم أربعون رجلا. قالوا: فلما ثبت أن قريشا كلها من
أقربائه وكان إعطاء السهم من الخمس موكولا إلى رأي النبي صلى الله عليه
وسلم أعطاه من كان له منهم نصرة دون غيرهم. قال أبو بكر: اسم القرابة
واقع على هؤلاء كلهم لدعاء النبي صلى الله عليه وسلم إياهم عند نزول
قوله تعالى: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} [الشعراء:214]
فثبت بذلك أن الاسم يتناول الجميع فقد تعلق بذوي قربى النبي صلى الله
عليه وسلم أحكام ثلاثة: أحدها: استحقاق سهم من الخمس بقوله تعالى:
{وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى} وهم الفقراء منهم على الشرائط التي
قدمنا ذكرها عن المختلفين فيها، والثاني: تحريم الصدقة عليهم وهم آل
علي وآل العباس وآل عقيل وآل جعفر وولد الحارث بن عبد المطلب، وهؤلاء
هم أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم ولا حظ لبني المطلب في هذا الحكم
لأنهم ليسوا أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم ولو كانوا من أهل بيت
النبي صلى الله عليه وسلم لكانت بنو أمية من أهل بيت النبي صلى الله
عليه وسلم ومن آله، ولا خلاف أنهم ليسوا كذلك فكذلك بنو المطلب
لمساواتهم إياه في نسبهم من النبي صلى الله عليه وسلم; والثالث: تخصيص
الله تعالى لنبيه بإنذار عشيرته الأقربين; فانتظم ذلك بطون قريش كلها
على ما ورد به الأثر في إنذاره إياهم عند نزول الآية، وإنما خص عشيرته
الأقربين بالإنذار لأنه أبلغ عند نزول الآية في الدعاء إلى الدين وأقرب
إلى نفي المحاباة والمداهنة في الدعاء إلى الله عز وجل; لأن سائر الناس
إذا علموا أنه لم يحتمل عشيرته على عبادة غير الله وأنذرهم ونهاهم أنه
أولى بذلك منهم; إذ لو جازت المحاباة في ذلك لأحد لكانت أقرباؤه أولى
الناس بها.
وقوله تعالى: {وَالْيَتَامَى} فإن حقيقة اليتم هو الانفراد، ومنه
الرابية المنفردة تسمى يتيمة والمرأة المنفردة عن الأزواج تسمى يتيمة،
إلا أنه قد اختص في الناس بالصغير الذي قد مات أبوه، وهو يفيد الفقر مع
ذلك أيضا عند الإطلاق; ولذلك قال أصحابنا فيمن أوصى ليتامى بني فلان
وهم لا يحصون أن الوصية جائزة لأنها للفقراء منهم. ولا خلاف أنه قد
أريد مع اليتم الفقر في هذه الآية، وأن الأغنياء من الأيتام لا حظ لهم
فيه ويدل على أن اليتيم اسم يقع على الصغير الذي قد مات أبوه دون
الكبير قوله صلى الله عليه وسلم: "لا يتم بعد حلم" ، وقد قيل: إن كل
ولد يتيم من قبل أمه إلا الإنسان فإن يتمه من قبل أبيه.
وقوله تعالى: {وَابْنِ السَّبِيلِ} فإنه المسافر المنقطع به المحتاج
إلى ما يتحمل به إلى بلده وإن كان له مال في بلده، فهو بمنزلة الفقير
الذي لا مال له; لأن المعنى في وجوب إعطائه حاجته إليه، فلا فرق بين من
له مال لا يصل إليه وبين من لا مال له
(3/85)
وأما
المسكين فقد اختلف فيه، وسنذكره في موضعه من آية الصدقات وفي اتفاق
الجميع على أن ابن السبيل واليتيم إنما يستحقان حقهما من الخمس بالحاجة
دون الاسم دلالة على أن المقصد بالخمس صرفه إلى المساكين.
فإن قيل: إذا كان المعنى هو الفقر فلا فائدة في ذكر ذوي القربى قيل له:
فيه أعظم الفوائد، وهو أن آل النبي صلى الله عليه وسلم لما حرمت عليهم
الصدقة كان جائزا أن يظن ظان أن الخمس محرم عليهم كتحريمها; إذ كان
سبيله صرفه إلى الفقراء، فأبان الله تعالى بتسميتهم في الآية عن جواز
إعطائهم من الخمس بالفقر، ويلزم هذا السائل أن يعطي اليتامى وابن
السبيل بالاسم دون الحاجة عن قضيته بأن لو كان مستحقا بالفقر ما كان
لتسميته ابن السبيل واليتيم معنى وهما إنما يستحقانه بالفقر.
قوله تعالى: {إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ
كَثِيراً} قيل إن الفئة هي الجماعة المنقطعة عن غيرها، وأصله من فأوت
رأسه بالسيف إذا قطعته، والمراد بالفئة ههنا جماعة من الكفار، فأمرهم
بالثبات لهم وقتالهم، وهو في معنى قوله تعالى: {إِذَا لَقِيتُمُ
الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ} الآية،
ومعناه مرتب على ما ذكر في هذه من جواز التحرف للقتال أو الانحياز إلى
فئة من المسلمين ليقاتل معهم، ومرتب أيضا على ما ذكر بعد هذا من قوله
تعالى: {الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ
ضَعْفاً فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا
مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ
بِإِذْنِ اللَّهِ} فإنما هم مأمورون بالثبات لهم إذا كان العدو مثليهم،
فإن كانوا ثلاثة أضعافهم فجائز لهم الانحياز إلى فئة من المسلمين
يقاتلون معهم.
وقوله تعالى: {وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً} يحتمل وجهين: أحدهما: ذكر
الله تعالى باللسان والآخر: الذكر بالقلب، وذلك على وجهين: أحدهما: ذكر
ثواب الصبر على الثبات لجهاد أعداء الله المشركين وذكر عقاب الفرار
والثاني: ذكر دلائله ونعمه على عباده وما يستحقه عليهم من القيام بفرضه
في جهاد أعدائه، وضروب هذه الأذكار كلها تعين على الصبر والثبات
ويستدعى بها النصر من الله والجرأة على العدو والاستهانة بهم. وجائز أن
يكون المراد بالآية جميع الأذكار لشمول الاسم لجميعها، وقد روي عن
النبي صلى الله عليه وسلم ما يوافق معنى الآية، ما حدثنا عبد الباقي بن
قانع قال: حدثنا بشر بن موسى قال: حدثنا خلاد بن يحيى قال: حدثنا سفيان
الثوري عن عبد الرحمن بن زياد عن عبد الله بن زيد عن عبد الله بن عمر
قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تمنوا لقاء العدو واسألوا
الله العافية فإذا لقيتموهم فاثبتوا واذكروا الله كثيرا وإن أجلبوا أو
ضجوا فعليكم بالصمت".
(3/86)
قوله
تعالى: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنَازَعُوا
فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} أمر الله تعالى في هذه الآية
بطاعته وطاعة رسوله ونهى بها عن الاختلاف والتنازع وأخبر أن الاختلاف
والتنازع يؤدي إلى الفشل وهو ضعف القلب من فزع يلحقه، وأمر في آية أخرى
بطاعة ولاة الأمر لنفي الاختلاف والتنازع المؤديين إلى الفشل في قوله:
{أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ
مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ
وَالرَّسُولِ} [النساء:59] وقال في آية أخرى: {وَلَوْ أَرَاكَهُمْ
كَثِيراً لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ} فأخبر تعالى
أنه أراهم في منامهم قليلا لئلا يتنازعوا إذا رأوهم كثيرا فيفشلوا.
وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "ولن يغلب اثنا عشر ألفا من
قلة إذا اجتمعت كلمتهم" فتضمنت هذه الآيات كلها النهي عن الاختلاف
والتنازع، وأخبر أن ذلك يؤدي إلى الفشل وإلى ذهاب الدولة بقوله:
{وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} . وقيل إن المعنى ريح النصر التي يبعثها الله
مع من ينصره على من يخذله. وروي ذلك عن قتادة. وقال أبو عبيدة: "تذهب
دولتكم، من قولهم: ذهبت ريحه أي ذهبت دولته" .
قوله تعالى: {فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ
مَنْ خَلْفَهُمْ} تثقفنهم: معناه تصادفهم. وقال الحسن وقتادة وسعيد بن
جبير: {فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ} : "إذا أسرتهم فنكل بهم
تنكيلا تشرد غيرهم من ناقضي العهد خوفا منك". وقال غيرهم: "افعل بهم من
القتل ما تفرق به من خلفهم عن التعاون على قتالك". ويشبه أن يكون ما
أمر به أبو بكر الصديق رضي الله عنه من التنكيل بأهل الردة وإحراقهم
بالنيران ورميهم من رءوس الجبال وطرحهم في الآبار ذهب فيه إلى أن تأويل
الآية في تشريد سائر المرتدين عن التعاون والاجتماع على قتال المسلمين.
قوله تعالى: {وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ
إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ} الآية. يعني والله أعلم: إذا خفت غدرهم
وخدعتهم وإيقاعهم بالمسلمين وفعلوا ذلك خفيا ولم يظهروا نقض العهد
فانبذ إليهم على سواء، يعني ألق إليهم فسخ ما بينك وبينهم من العهد
والهدنة حتى يستوي الجميع في معرفة ذلك، وهو معنى قوله: {عَلَى
سَوَاءٍ} لئلا يتوهموا أنك نقضت العهد بنصب الحرب. وقيل: {عَلَى
سَوَاءٍ} على عدل، من قول الراجز:
فاضرب وجوه الغدر للأعداء ... حتى يجيبوك إلى السواء
ومنه قيل للوسط سواء لاعتداله، كما قال حسان:
يا ويح أنصار النبي ورهطه ... بعد المغيب في سواء الملحد
أي في وسطه. وقد غزا النبي صلى الله عليه وسلم أهل مكة بعد الهدنة من
غير أن ينبذ إليهم; لأنهم
(3/87)
قد كانوا
نقضوا العهد بمعاونتهم بني كنانة على قتل خزاعة وكانت حلفاء للنبي صلى
الله عليه وسلم، ولذلك جاء أبو سفيان إلى المدينة يسأل النبي صلى الله
عليه وسلم تجديد العهد بينه وبين قريش فلم يجبه النبي صلى الله عليه
وسلم إلى ذلك، فمن أجل ذلك لم يحتج إلى النبذ إليهم; إذ كانوا قد
أظهروا نقض العهد بنصب الحرب لحلفاء النبي صلى الله عليه وسلم.
وروي نحو معنى الآية عن النبي صلى الله عليه وسلم حدثنا محمد بن بكر
قال: حدثنا أبو داود قال: حدثنا حفص بن عمر النمري قال: حدثنا شعبة عن
أبي الفيض عن سليم وقال غيره سليم بن عامر رجل من حمير قال: كان بين
معاوية وبين الروم عهد، وكان يسير نحو بلادهم، حتى إذا انقضى العهد
غزاهم، فجاء رجل على فرس أو برذون وهو يقول: الله أكبر الله أكبر وفاء
لا غدر فنظروا فإذا عمرو بن عبسة، فأرسل إليه معاوية فسأله فقال: سمعت
رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من كان بينه وبين قوم عهد فلا يشد
عقدة ولا يحلها حتى ينقضي أمدها أو ينبذ إليهم على سواء" فرجع معاوية.
قوله تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ
وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ} أمر الله تعالى المؤمنين في هذه الآية
بإعداد السلاح والكراع قبل وقت القتال إرهابا للعدو والتقدم في ارتباط
الخيل استعدادا لقتال المشركين. وقد روي في القوة أنها الرمي، حدثنا
محمد بن بكر قال: حدثنا أبو داود قال: حدثنا سعيد بن منصور قال: حدثنا
عبد الله بن وهب قال: أخبرني عمرو بن الحارث عن أبي علي ثمامة بن شفي1
الهمداني أنه سمع عقبة بن عامر الجهني يقول: سمعت رسول الله صلى الله
عليه وسلم وهو على المنبر يقول: "وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ
مِنْ قُوَّةٍ ألا إن القوة الرمي ألا إن القوة الرمي ألا إن القوة
الرمي". وحدثنا عبد الباقي بن قانع قال: حدثنا إسماعيل بن الفضل قال:
حدثنا فضل بن سحتب قال: حدثنا ابن أبي أويس عن سليمان بن بلال عن عمرو
عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ارموا
واركبوا، وأن ترموا أحب إلي من أن تركبوا، وكل لهو المؤمن باطل إلا
رميه بقوسه أو تأديبه فرسه أو ملاعبته امرأته فإنهن من الحق". وحدثنا
محمد بن بكر قال: حدثنا أبو داود قال: حدثنا سعيد بن منصور قال: حدثنا
عبد الله بن المبارك قال: حدثني عبد الرحمن بن يزيد بن جابر قال: حدثني
أبو سلام عن خالد بن زيد عن عقبة بن عامر قال: سمعت رسول الله صلى الله
عليه وسلم يقول: "إن الله يدخل بالسهم الواحد ثلاثة نفر الجنة صانعه
يحتسب في صنعته الخير، والرامي به، ومنبله; وارموا واركبوا وأن ترموا
أحب إلي من أن
ـــــــ
1 قوله: "شفي" بضم المعجمة وفتح الفاء وتشديد التحتانية, كذا في خلاصة
تهذيب الكمال "لمصححه".
(3/88)
تركبوا،
ليس من اللهو ثلاثة: تأديب الرجل فرسه وملاعبته أهله ورميه بقوسه
ونبله، ومن ترك الرمي بعدما علمه رغبة عنه فإنها نعمة تركها" أو قال:
"كفرها" وحدثنا عبد الباقي قال: حدثنا حسين بن إسحاق قال: حدثنا
المغيرة بن عبد الرحمن قال: حدثنا عثمان بن عبد الرحمن قال: حدثنا
الجراح بن منهال عن ابن شهاب عن أبي سليمان مولى أبي رافع عن أبي رافع
قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من حق الولد على الوالد أن
يعلمه كتاب الله والسباحة والرمي" . ومعنى قوله صلى الله عليه وسلم:
"ألا إن القوة الرمي" أنه من معظم ما يجب إعداده من القوة على قتال
العدو، ولم ينف به أن يكون غيره من القوة، بل عموم اللفظ شامل لجميع ما
يستعان به على العدو من سائر أنواع السلاح وآلات الحرب. وقد حدثنا عبد
الباقي قال: حدثنا جعفر بن أبي القتيل قال: حدثنا يحيى بن جعفر قال:
حدثنا كثير بن هشام قال: حدثنا عيسى بن إبراهيم الثمالي عن الحكم بن
عمير قال: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا نحفي الأظفار في
الجهاد وقال: "إن القوة في الأظفار" وهذا يدل على أن جميع ما يقوي على
العدو فهو مأمور باستعداده. وقال الله تعالى: {وَلَوْ أَرَادُوا
الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً} [التوبة:46] فذمهم على ترك
الاستعداد والتقدم قبل لقاء العدو.
وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في ارتباط الخيل ما يواطئ معنى
الآية، وهو ما حدثنا عبد الباقي بن قانع قال: حدثنا الحسين بن إسحاق
التستري قال: حدثنا أحمد بن عمر قال: حدثنا ابن وهب عن ابن لهيعة عن
عبيد بن أبي حكيم الأزدي عن الحصين بن حرملة المهري عن أبي المصبح قال:
سمعت جابر بن عبد الله يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الخيل
معقود في نواصيها الخير والنيل إلى يوم القيامة وأصحابها معانون،
قلدوها ولا تقلدوها الأوتار" قال أبو بكر: بين في الخبر الأول أن الخير
هو الأجر والغنيمة، وفي ذلك ما يوجب أن ارتباطها قربة إلى الله تعالى،
فإذا أريد به الجهاد; وهو يدل أيضا على بقاء الجهاد إلى يوم القيامة;
إذ كان الأجر مستحقا بارتباطها للجهاد في سبيل الله عز وجل وقوله صلى
الله عليه وسلم: "ولا تقلدوها الأوتار" قيل فيه معنيان: أحدهما: خشية
اختناقها بالوتر، والثاني: أن أهل الجاهلية كانوا إذا طلبوا بالأوتار
الدخول قلدوا خيلهم الأوتار يدلون بها على أنهم طالبون بالأوتار
مجتهدون في قتل من يطلبونهم بها، فأبطل النبي صلى الله عليه وسلم الطلب
بذحول الجاهلية; ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة: "ألا
إن كل دم ومأثرة فهو موضوع تحت قدمي هاتين وأول دم أضعه دم ربيعة بن
الحارث".
(3/89)
باب الهدنة والموادعة
قال الله تعالى: {وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا} والجنوح
الميل، ومنه يقال:
(3/89)
جنحت
السفينة إذا مالت، والسلم المسالمة. ومعنى الآية أنهم إن مالوا إلى
المسالمة، وهي طلب السلامة من الحرب، فسالمهم واقبل ذلك منهم. وإنما
قال: {فَاجْنَحْ لَهَا} لأنه كناية عن المسالمة.
وقد اختلف في بقاء هذا الحكم، فروى سعيد ومعمر عن قتادة أنها منسوخة
بقوله تعالى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ}
[التوبة:5]، وروي عن الحسن مثله. وروى ابن جريج وعثمان بن عطاء عن عطاء
الخراساني عن ابن عباس: {وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا}
قال: نسختها {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا
بِالْيَوْمِ الْآخِرِ} إلى قوله {وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة:29] وقال
آخرون: "لا نسخ فيها لأنها في موادعة أهل الكتاب، وقوله تعالى:
{فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} [التوبة:5] في عبدة الأوثان.
قال أبو بكر: "قد كان النبي صلى الله عليه وسلم عاهد حين قدم المدينة
أصنافا من المشركين، منهم النضير وبنو قينقاع وقريظة، وعاهد قبائل من
المشركين، ثم كانت بينه وبين قريش هدنة الحديبية إلى أن نقضت قريش ذلك
العهد بقتالها خزاعة حلفاء النبي صلى الله عليه وسلم" ولم يختلف نقلة
السير والمغازي في ذلك، وذلك قبل أن يكثر أهل الإسلام ويقوى أهله، فلما
كثر المسلمون وقوي الدين أمر بقتل مشركي العرب ولم يقبل منهم إلا
الإسلام أو السيف بقوله عز وجل: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ
وَجَدْتُمُوهُمْ} [التوبة:5] وأمر بقتال أهل الكتاب حتى يسلموا أو
يعطوا الجزية بقوله تعالى: {قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم
الآخر} إلى قوله {وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة:29] ولم يختلفوا أن سورة
براءة من أواخر ما نزل من القرآن، وكان نزولها حين بعث النبي صلى الله
عليه وسلم أبا بكر على الحج في السنة التاسعة من الهجرة، وسورة الأنفال
نزلت عقيب يوم بدر بين فيها حكم الأنفال والغنائم والعهود والموادعات،
فحكم سورة براءة مستعمل على ما ورد وما ذكر من الأمر بالمسالمة إذا مال
المشركون إليها حكم ثابت أيضا. وإنما اختلف حكم الآيتين لاختلاف
الحالين، فالحال التي أمر فيها بالمسالمة هي حال قلة عدد المسلمين
وكثرة عدوهم، والحال التي أمر فيها بقتل المشركين وبقتال أهل الكتاب
حتى يعطوا الجزية هي حال كثرة المسلمين وقوتهم على عدوهم، وقد قال
تعالى: {فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ
الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ} [محمد:35] فنهى عن المسالمة عند
القوة على قهر العدو وقتلهم; وكذلك قال أصحابنا: إذا قدر بعض أهل
الثغور على قتال العدو ومقاومتهم لم تجز لهم مسالمتهم ولا يجوز لهم
إقرارهم على الكفر إلا بالجزية، وإن ضعفوا عن قتالهم جاز لهم مسالمتهم
كما سالم النبي صلى الله عليه وسلم كثيرا من أصناف الكفار وهادنهم على
وضع الحرب بينهم من غير جزية أخذها منهم; قالوا: فإن قووا بعد ذلك على
قتالهم نبذوا
(3/90)
إليهم على
سواء ثم قاتلوهم; قالوا: وإن لم يمكنهم دفع العدو عن أنفسهم إلا بمال
يبذلونه لهم جاز لهم ذلك; لأن النبي صلى الله عليه وسلم قد كان صالح
عيينة بن حصن وغيره يوم الأحزاب على نصف ثمار المدينة، حتى لما شاور
الأنصار قالوا: يا رسول الله أهو أمر أمرك الله به أم الرأي والمكيدة؟
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا بل هو رأي لأني رأيت العرب قد
رمتكم عن قوس واحدة فأردت أن أدفعهم عنكم إلى يوم ما" فقال السعدان سعد
بن عبادة وسعد بن معاذ: والله يا رسول الله إنهم لم يكونوا يطمعون فيها
منا إلا قرى وشرى ونحن كفار، فكيف وقد أعزنا الله بالإسلام؟ لا نعطيهم
إلا السيف وشقاء الصحيفة فهذا يدل على أنهم إذا خافوا المشركين جاز لهم
أن يدفعوهم عن أنفسهم بالمال. فهذه أحكام بعضها ثابت بالقرآن وبعضها
بالسنة، وهي مستعملة في الأحوال التي أمر الله تعالى بها، واستعملها
النبي صلى الله عليه وسلم فيها، وهذا نظير ما ذكرنا في ميراث الحليف
أنه حكم ثابت بقوله تعالى: {وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ
فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ} [النساء:33] في حال عدم ذوي الأنساب وولاء
العتاق، فإذا كان هناك ذو نسب أو ولاء عتاقة فهم أولى من الحليف كما أن
الابن أولى من الأخ ولم يخرج من أن يكون من أهل الميراث.
قوله تعالى: {وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي
الْأَرْضِ جَمِيعاً مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ} الآية، روي أنه
أراد به الأوس والخزرج، وكانوا على غاية العداوة والبغضاء قبل الإسلام،
فألف الله بين قلوبهم بالإسلام; روي ذلك عن بشير بن ثابت الأنصاري وابن
إسحاق والسدي. وقال مجاهد: هو في كل متحابين في الله.
قوله تعالى: {إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا
مِائَتَيْنِ} إلى آخر القصة. حدثنا جعفر بن محمد الواسطي قال: حدثنا
جعفر بن محمد بن اليمان حدثنا أبو عبيد قال: حدثنا عبد الله بن صالح عن
معاوية بن صالح عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله تعالى: {إِنْ
يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ} قال أمر
الله تعالى الرجل من المسلمين أن يقاتل عشرة من الكفار فشق ذلك عليهم
فرحمهم فقال: {فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا
مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ}
وحدثنا جعفر بن محمد قال: حدثنا جعفر بن محمد قال: حدثنا أبو عبيد:
حدثنا إسماعيل بن إبراهيم عن ابن أبي نجيح عن عطاء عن ابن عباس قال:
"أيما رجل فر من ثلاثة فلم يفر ومن فر من اثنين فقد فر. وإنما عنى ابن
عباس ما ذكر في هذه الآية، وكان الفرض في أول الإسلام على الواحد قتال
العشرة من الكفار لصحة بصائر المؤمنين في ذلك الوقت وصدق يقينهم، ثم
لما أسلم قوم آخرون خالطهم من لم يكن لهم بصائرهم ونياتهم خفف عن
الجميع وأجراهم مجرى واحدا ففرض على الواحد مقاومة الاثنين.
(3/91)
قوله
تعالى: {الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ
ضَعْفاً} لم يرد به ضعف القوى والأبدان وإنما المراد ضعف النية لمحاربة
المشركين، فجعل فرض الجميع فرض ضعفائهم. وقال عبد الله بن مسعود: ما
ظننت أن أحدا من المسلمين يريد بقتاله غير الله حتى أنزل الله تعالى:
{مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ
الْآخِرَةَ} [آل عمران:152] فكان الأولون على مثل هذه النيات فلما
خالطهم من يريد الدنيا بقتاله سوى بين الجميع في الفرض وفي هذه الآية
دلالة على بطلان من أبى وجود النسخ في شريعة النبي صلى الله عليه وسلم
وإن لم يكن قائله معتدا بقوله لأنه قال تعالى: {الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ
عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ
مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ} والتخفيف لا يكون إلا بزوال
بعض الفرض الأول أو النقل عنه إلى ما هو أخف منه فثبت بذلك أن الآية
الثانية ناسخة للفرض الأول وزعم القائل بما ذكرنا من إنكار النسخ لأنه
ليس في الآية أمر وإنما فيه الوعد بشريطة فمتى وفى بالشرط أنجز الوعد
وإنما كلف كل قوم من الصبر على قدر استطاعتهم فكان على الأولين ما ذكر
من مقاومة العشرين للمائتين والآخرون لم يكن لهم من نفاذ البصيرة مثل
ما للأولين فكلفوا مقاومة الواحد للاثنين والمائة للمائتين قال ومقاومة
العشرين للمائتين غير مفروضة وكذلك المائة للمائتين وإنما الصبر مفروض
على قدر الإمكان والناس مختلفون في ذلك على مقادير استطاعاتهم فليس في
الآية نسخ زعم.
قال أبو بكر هذا كلام شديد الاختلال والتناقض خارج عن قول الأمة سلفها
وخلفها وذلك لأنه لا يختلف أهل النقل والمفسرون في أن الفرض كان في أول
الإسلام مقاومة الواحد للعشرة ومعلوم أيضا أن قوله تعالى: {إِنْ يَكُنْ
مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ} وإن كان لفظه
لفظ الخبر فمعناه الأمر كقوله تعالى {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ
أَوْلادَهُنَّ} [البقرة:233] وقوله تعالى {وَالْمُطَلَّقَاتُ
يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ} [البقرة:228] وليس هو إخبارا بوقوع ذلك
وإنما هو أمر بأن لا يفر الواحد من العشرة ولو كان هذا خبرا لما كان
لقوله {الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ} معنى لأن التخفيف إنما يكون
في المأمور به لا في المخبر عنه ومعلوم أيضا أن القوم الذين كانوا
مأمورين بأن يقاوم الواحد منهم العشرة من المشركين داخلون في قوله:
{الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً} فلا
محالة قد وقع النسخ عنهم فيما كانوا تعبدوا به من ذلك ولم يكن أولئك
القوم قد نقصت بصائرهم ولا قل صبرهم وإنما خالطهم قوم لم يكن لهم مثل
بصائرهم ونياتهم وهم المعنيون بقوله تعالى {وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ
ضَعْفاً} فبطل بذلك قول هذا القائل بما
(3/92)
وصفنا وقد
أقر هذا القائل أن بعض التكليف قد زال منهم بالآية الثانية وهذا هو
معنى النسخ والله أعلم بالصواب.
(3/93)
باب الأسارى
قال الله تعالى: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى
حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ} حدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود
قال حدثنا أحمد بن حنبل قال حدثنا أبو نوح قال أخبرنا عكرمة بن عمار
قال حدثنا سماك الحنفي قال حدثني ابن عباس قال حدثني عمر بن الخطاب قال
لما كان يوم بدر فأخذ النبي صلى الله عليه وسلم الفداء فأنزل الله
تعالى: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى} إلى قوله:
{لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ} من الفداء ثم أحل الله الغنائم.
وحدثنا عبد الباقي بن قانع قال حدثنا بشر بن موسى قال حدثنا عبد الله
بن صالح قال حدثنا أبو الأحوص عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة قال
كان يوم بدر تعجل ناس من المسلمين فأصابوا من الغنائم فقال رسول الله
صلى الله عليه وسلم: "لم تحل الغنائم لقوم سود الرءوس قبلكم كان النبي
إذا غنم هو وأصحابه جمعوا غنائمهم فتنزل من السماء نار فتأكلها" فأنزل
الله تعالى: {لَوْلا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا
أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالاً
طَيِّباً} . وروي فيه وجه آخر وهو ما رواه الأعمش عن عمرو بن مرة عن
أبي عبيدة عن عبد الله قال شاور النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه في
أسارى بدر فأشار أبو بكر بالاستبقاء وأشار عمر بالقتل وأشار عبد الله
بن رواحة بالإحراق فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "مثلك يا أبا بكر
مثل إبراهيم حين قال: {فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ
عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} ومثل عيسى; إذ قال {إِنْ
تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ} الآية ومثلك يا عمر مثل نوح; إذ
قال: {لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّاراً} ومثل
موسى; إذ قال: {رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ} الآية، أنتم
عالة فلا ينفلتن منهم أحد إلا بفداء أو ضربة عنق". فقال ابن مسعود إلا
سهيل ابن بيضاء فإنه ذكر الإسلام فسكت ثم قال "إلا سهيل ابن بيضاء"
فأنزل الله تعالى: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى
حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ} إلى آخر الآيتين وروي عن ابن عباس أن
النبي استشار أبا بكر وعمر وعليا في أسارى بدر فأشار أبو بكر بالفداء
وأشار عمر بالقتل فهوي رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قال أبو بكر
ولم يهو ما قال عمر فلما كان من الغد جئت إلى رسول الله فإذا هو وأبو
بكر قاعدان يبكيان فقلت يا رسول الله أخبرني من أي شيء تبكي أنت وصاحبك
فقال: "أبكي للذي عرض علي أصحابك من أخذهم الفداء لقد عرض علي عذابكم
أدنى من هذه الشجرة" شجرة قريبة
(3/93)
من النبي
صلى الله عليه وسلم فأنزل الله تعالى: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ
يَكُونَ لَهُ أَسْرَى} إلى آخر القصة فذكر في حديث ابن عباس المتقدم في
الباب وحديث أبي هريرة أن قوله: {لَوْلا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ
لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} إنما نزل في أخذهم
الغنائم. وذكر في حديث عبد الله بن مسعود وابن عباس الآخر أن الوعيد
إنما كان في عرضهم الفداء على رسول الله وإشارتهم عليه به والأول أولى
بمعنى الآية لقوله تعالى: {لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ} ولم يقل
فيما عرضتم وأشرتم ومع ذلك فإنه يستحيل أن يكون الوعيد في قول قاله
رسول الله; لأنه لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى ومن الناس من
يجيز ذلك على النبي من طريق اجتهاد الرأي ويجوز أيضا أن يكون النبي
أباح لهم أخذ الفداء وكان ذلك معصية صغيرة فعاتبه الله والمسلمين عليها
وقد ذكر في الحديث الذي في صدر الباب أن الغنائم لم تحل قبل نبينا لأحد
وفي الآية ما يدل على ذلك وهو قوله تعالى: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ
يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ} فكان في شرائع
الأنبياء المتقدمين تحريم الغنائم عليهم وفي شريعة نبينا تحريمها حتى
يثخن في الأرض واقتضى ظاهره إباحة الغنائم والأسرى بعد الإثخان وقد
كانوا يوم بدر مأمورين بقتل المشركين بقوله تعالى: {فَاضْرِبُوا فَوْقَ
الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ} وقال تعالى في آية
أخرى: {فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ
حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ} وكان الفرض في
ذلك الوقت القتل حتى إذا أثخن المشركون فحينئذ إباحة الفداء وكان أخذ
الفداء قبل الإثخان محظورا وقد كان أصحاب النبي حازوا الغنائم يوم بدر
وأخذوا الأسرى وطلبوا منهم الفداء وكان ذلك من فعلهم غير موافق لحكم
الله تعالى فيهم في ذلك ولذلك عاتبهم عليه ولم يختلف نقلة السير ورواة
المغازي أن النبي أخذ منهم الفداء بعد ذلك وأنه قال "لا ينفلت منهم أحد
إلا بفداء أو ضربة عنق" وذلك يوجب أن يكون حظر أخذ الأسرى ومفاداتهم
المذكورة في هذه الآية وهو قوله تعالى: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ
يَكُونَ لَهُ أَسْرَى} منسوخا بقوله: {لَوْلا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ
سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} فأخذ النبي
منهم الفداء.
فإن قيل كيف يجوز أن يكون ذلك منسوخا وهو بعينه الذي كانت المعاتبة من
الله للمسلمين وممتنع وقوع الإباحة والحظر في شيء واحد قيل له إن أخذ
الغنائم والأسرى وقع بديا على وجه الحظر فلم يملكوا ما أخذوا ثم إن
الله تعالى أباحها لهم، وملكهم إياها فالأخذ المباح ثانيا هو غير
المحظور أولا.
وقد اختلف في معنى قوله تعالى: {لَوْلا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ
لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} فروى أبو زميل عن ابن
عباس قال سبقت لهم الرحمة قبل أن يعملوا
(3/94)
المعصية.
وروي مثله عن الحسن رواية، وهذا يدل على أنهما رأيا ذلك معصية صغيرة،
وقد وعد الله غفرانها باجتنابهم الكبائر، وكتب لهم ذلك قبل عملهم
للمعصية الصغيرة. وروي عن الحسن أيضا ومجاهد "أن الله تعالى كان مطعما
لهذه الأمة الغنيمة ففعلوا الذي فعلوا قبل أن تحل لهم الغنيمة قال أبو
بكر حكم الله تعالى بأنه ستحل لهم الغنيمة في المستقبل لا يزيل عنهم
حكم الحظر قبل إحلالها، ولا يخفف من عقابه فلا يجوز أن يكون التأويل أن
إزالة العقاب لأجل أنه كان في معلومه إباحة الغنائم لهم بعده. وروي عن
الحسن أيضا، وعن مجاهد قالا "سبق من الله أن لا يعذب قوما إلا بعد
تقدمه، ولم يكن تقدم إليهم فيها"، وهذا وجه صحيح، وذلك لأنهم لم يعلموا
بتحريم الغنائم على أمم الأنبياء المتقدمين، وبقاء هذا الحكم عليهم من
شريعة نبينا فاستباحوها على ظن منهم أنها مباحة، ولم يكن قد تقدم لهم
من النبي قول في تحريمها عليهم، ولا إخبار منه إياهم بتحريمها على
الأمم السالفة فلم يكن خطؤهم في ذلك معصية يستحق عليها العقاب.
قوله تعالى: {فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالاً طَيِّباً} فيه إباحة
الغنائم، وقد كانت محظورة قبل ذلك، وقد ذكرنا حديث الأعمش عن أبي صالح
عن أبي هريرة أن النبي قال: "لم تحل الغنائم لقوم سود الرءوس قبلكم" .
وروى الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة عن النبي قال: "أعطيت
خمساً لم يعطهن أحد قبلي جعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً، ونصرت بالرعب
وأحلت لي الغنائم، وأرسلت إلى الأحمر والأبيض، وأعطيت الشفاعة" فأخبر
في هذين الخبرين أن الغنائم لم تحل لأحد من الأنبياء، وأممها قبله
وقوله تعالى: {فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ} قد اقتضى وقوع ملك الغنائم
لهم إذا أخذوا، وإن كان المذكور في لفظ الآية هو الأكل، وإنما خص الأكل
بذلك لأنه معظم منافع الأملاك; إذ به قوام الأبدان، وبقاء الحياة،
وأراد بذلك تمليك سائر وجوه منافعها، وهو كما قال تعالى: {حُرِّمَتْ
عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ} [المائدة:3]
فخص اللحم بذلك، والمراد جميع أجزائه; لأنه مبتغى منافعه، ومعظمها في
لحومه، وكما قال تعالى: {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ
الْجُمُعَةِ فَاسَعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ}
[الجمعة:9] فخص البيع بالحظر في تلك الحال. والمراد سائر ما يشغل عن
الصلاة، وكان وجه تخصيصه أنه معظم منافع التصرف في ذلك الوقت فإذا كان
معظمه محظورا فما دونه أولى بذلك، وذلك في مفهوم اللفظ، ومثله قوله
تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً}
[النساء:10] فخص الأكل بالذكر، ودل به على حظر الأخذ والإتلاف من غير
جهة
(3/95)
الأكل
فهذا حكم اللفظ إذا ورد في مثله، ولولا قيام الدلالة، وكون المعنى
معقولا من اللفظ على الوجه الذي ذكرنا لما كانت إباحة الأكل موجبة
للتمليك، ولذلك قال أصحابنا فيمن أباح لرجل أكل طعامه إنه ليس له أن
يتملكه ولا يأخذه، وإنما له الأكل فحسب، ولكنه لما كان في مفهوم خطاب
الآية التمليك على الوجه الذي ذكرنا أوجب التمليك. وقد قال الله تعالى
في آية أخرى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ
لِلَّهِ خُمُسَهُ} فجعل الأربعة الأخماس غنيمة لهم، وذلك يقتضي
التمليك، وكذلك ظاهر قوله تعالى: {فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ} لما
أضاف الغنيمة إليهم فقد أفاد تمليكها إياهم بإطلاقه لفظ الغنيمة فيه ثم
عطفه الأكل عليها لم ينف ما تضمنه من التمليك كما لو قال كلوا مما
ملكتم لم يكن إطلاق لفظ الأكل مانعا من صحة الملك، ويدل على ذلك دخول
الفاء عليه كأنه قال قد ملكتكم ذلك فكلوا.
والغنيمة اسم لما أخذ من أموال المشركين بقتال فيكون خمسه لله تعالى،
وأربعة أخماسه للغانمين بقوله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ
مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} وأما الفيء فهو كل ما صار من
أموال المشركين إلى المسلمين بغير قتال. روي هذا الفرق بينهما عن عطاء
بن السائب، وعن سفيان الثوري أيضا
قال أبو بكر: الفيء كل ما صار من أموال المشركين إلى المسلمين بقتال أو
بغير قتال; إذ كان سبب أخذه الكفر قال أصحابنا الجزية فيء والخراج وما
يأخذه الإمام من العدو على وجه الهدنة والموادعة فهو فيء أيضا. وقال
الله عز وجل: {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ
الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ} [الحشر:7] الآية فقيل: إن هذا فيما
لم يوجف عليه المسلمون مثل فدك، وما أخذ من أهل نجران فكان للنبي صرفه
في هذه الوجوه، وقيل: إن هذه كانت في الغنائم فنسخت بقوله تعالى:
{وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ
خُمُسَهُ} . وجائز عندنا أن لا تكون منسوخة، وأن تكون آية الغنيمة فيما
أوجف عليه المسلمون بخيل أو ركاب، وظهر عليهم بالقتال، وآية الفيء التي
في الحشر فيما لم يوجف عليه المسلمون، وأخذ منهم على وجه الموادعة،
والهدنة كما فعل النبي بأهل نجران، وفدك، وسائر ما أخذه منهم بغير
قتال، والله أعلم بالصواب.
(3/96)
باب التوارث بالهجرة
قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا
بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ
آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ
وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ
مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا} الآية حدثنا جعفر بن محمد الواسطي قال
حدثنا
(3/96)
جعفر بن
محمد بن اليمان قال حدثنا أبو عبيد قال حدثنا حجاج عن ابن جريج، وعثمان
بن عطاء عن عطاء الخراساني عن ابن عباس في قوله تعالى: {إِنَّ
الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ
وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} الآية قال كان المهاجر لا يتولى
الأعرابي، ولا يرثه وهو مؤمن، ولا يرث الأعرابي المهاجر فنسختها
{وَأُولُوا الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ
اللَّهِ} . وروى عبد الرحمن بن عبد الله المسعودي عن القاسم قال: "آخى
رسول الله بين الصحابة، وآخى بين عبد الله بن مسعود، والزبير بن العوام
أخوة يتوارثون بها لأنهم هاجروا وتركوا أقرباءهم حتى أنزل الله آية
المواريث".
قال أبو بكر اختلف السلف في أن التوارث كان ثابتا بينهم بالهجرة
والأخوة التي آخى بها رسول الله بينهم دون الأرحام، وأن ذلك مراد هذه
الآية، وأن قوله تعالى: {أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} قد
أريد به إيجاب التوارث بينهم، وأن قوله: {مَا لَكُمْ مِنْ
وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا} قد نفى إثبات التوارث
بينهم بنفيه الموالاة بينهم. وفي هذا دلالة على أن إطلاق لفظ الموالاة
يوجب التوارث، وإن كان قد يختص به بعضهم دون جميعهم على حسب وجود
الأسباب المؤكدة له كما أن النسب سبب يستحق به الميراث، وإن كان بعض
ذوي الأنساب أولى به في بعض الأحوال لتأكد سببه، وفي هذا دليل على أن
قوله تعالى: {وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ
سُلْطَاناً} [الاسراء:33] موجب لإثبات القود لسائر ورثته، وأن النساء
والرجال في ذلك سواء لتساويهم في كونهم من مستحقي ميراثه، ويدل أيضا
على أن الولاية في النكاح مستحقة بالميراث، وأن قوله صلى الله عليه
وسلم: "لا نكاح إلا بولي" مثبت للولاية لجميع من كان من أهل الميراث
على حسب القرب، وتأكيد السبب، وأنه جائز للأم تزويج أولادها الصغار إذا
لم يكن لهم أب على ما يذهب إليه أبو حنيفة; إذ كانت من أهل الولاية في
الميراث، وقد كانت الهجرة فرضا حين هاجر النبي صلى الله عليه وسلم إلى
أن فتح النبي مكة فقال: "لا هجرة بعد الفتح، ولكن جهاد ونية" فنسخ
التوارث بالهجرة بسقوط فرض الهجرة، وأثبت التوارث بالأنساب بقوله
تعالى: {وَأُولُوا الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي
كِتَابِ اللَّهِ} قال الحسن "كان المسلمون يتوارثون بالهجرة حتى كثر
المسلمون فأنزل الله تعالى: {وَأُولُوا الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ
أَوْلَى بِبَعْضٍ} فتوارثوا بالأرحام"، وروى الأوزاعي عن عبدة عن مجاهد
عن ابن عمر قال: "انقطعت الهجرة بعد الفتح". وروى الأوزاعي أيضا عن
عطاء بن أبي رباح عن عائشة مثله، وزاد فيه: "ولكن جهاد ونية"، وإنما
كانت الهجرة إلى الله ورسوله، والمؤمنون يفرون بدينهم من أن يفتنوا
عنه، وقد أذاع الله الإسلام وأفشاه فتضمنت هذه الآية إيجاب التوارث
بالهجرة، والمؤاخاة دون الأنساب، وقطع
(3/97)
الميراث
بين المهاجر وبين من لم يهاجر، واقتضى أيضا إيجاب نصرة المؤمن الذي لم
يهاجر إذا استنصر المهاجر على من لم يكن بينهم وبينه عهد بقوله تعالى:
{وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا
عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ} وقد روي في قوله
تعالى: {مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى
يُهَاجِرُوا} ما قد بينا ذكره في نفي الميراث عن ابن عباس والحسن
ومجاهد وقتادة في آخرين. وقيل: إنه أراد نفي إيجاب النصرة فلم تكن
حينئذ على المهاجر نصرة من لم يهاجر إلا أن يستنصر فتكون عليه نصرته
إلا على من كان بينه وبينه عهد فلا ينقض عهده، وليس يمتنع أن يكون نفي
الولاية مقتضيا للأمرين جميعا من نفي التوارث والنصرة ثم نسخ نفي
الميراث بإيجاب التوارث بالأرحام مهاجرا كان أو غير مهاجر، وإسقاطه
بالهجرة فحسب، ونسخ نفي إيجاب النصرة بقوله تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ
وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [التوبة:71].
قوله تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} قال
ابن عباس والسدي يعني في الميراث، وقال قتادة في النصرة والمعاونة، وهو
قول ابن إسحاق.
قال أبو بكر لما كان قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا
وَجَاهَدُوا} إلى قوله: {أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ}
موجبا لإثبات التوارث بالهجرة، وكان قوله: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ
يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى
يُهَاجِرُوا} نافيا للميراث، وجب أن يكون قوله تعالى: {وَالَّذِينَ
كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} موجبا لإثبات التوارث بينهم;
لأن الولاية قد صارت عبارة عن إثبات التوارث بينهم فاقتضى عمومه إثبات
التوارث بين سائر الكفار بعضهم من بعض مع اختلاف مللهم; لأن الاسم
يشملهم ويقع عليهم. ولم تفرق الآية بين أهل الملل بعد أن يكونوا كفارا،
ويدل أيضا على إثبات ولاية الكفار على أولادهم الصغار لاقتضاء اللفظ له
في جواز النكاح والتصرف في المال في حال الصغر والجنون.
وقوله تعالى: {إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ
وَفَسَادٌ كَبِيرٌ} يعني والله أعلم: إن لا تفعلوا ما أمرتم به في
هاتين الآيتين من إيجاب الموالاة والتناصر والتوارث بالأخوة والهجرة
ومن قطعها بترك الهجرة تكن فتنة في الأرض وفساد كبير، وهذا مخرجه مخرج
الخبر، ومعناه الأمر، وذلك لأنه إذا لم يتول المؤمن الفاضل على ظاهر
حاله من الإيمان والفضل بما يدعو إلى مثل حاله، ولم يبرأ من الفاجر
والضال بما يصرفه عن ضلاله وفجوره أدى ذلك إلى الفساد والفتنة.
قوله تعالى: {وَأُولُوا الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي
كِتَابِ اللَّهِ} نسخ به إيجاب
(3/98)
التوارث
بالهجرة والحلف والموالاة، ولم يفرق فيه بين العصبات وغيرهم، فهو حجة
في إثبات ميراث ذوي الأرحام الذين لا تسمية لهم ولا تعصيب، وقد ذكرنا
فيما سلف في سورة النساء، وذهب عبد الله بن مسعود إلى أن ذوي الأرحام
أولى من مولى العتاقة، واحتج فيه بظاهر الآية; وليس هو كذلك عند سائر
الصحابة. وقد روي أن ابنة حمزة أعتقت عبدا، ومات وترك بنتا، فجعل النبي
صلى الله عليه وسلم نصف ميراثه لابنته، ونصفه لابنة حمزة بالولاية
فجعلها عصبة، والعصبة أولى بالميراث من ذوي الأرحام، وقال النبي صلى
الله عليه وسلم: "الولاء لحمة كلحمة النسب لا يباع ولا يوهب".
وقوله تعالى: {فِي كِتَابِ اللَّهِ} قيل: فيه وجهان: أحدهما: في اللوح
المحفوظ، كما قال: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي
أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا}
[الحديد:22] والثاني: في حكم الله تعالى. آخر سورة الأنفال.
(3/99)
|