أحكام القرآن للكيا الهراسي

الجزء الأول

مقدمة المؤلف
(بسم الله الرّحمن الرّحيم) استعنت بالله قال الشيخ الإمام الأجلّ السيد علم الهدى، شمس الإسلام، عماد الدين، إمام الأئمة، نور الشريعة، قدوة الفريقين: «1» أبو الحسن علي ابن محمد الطبري، رحمه الله ورضي عنه:
الحمد لله الذي أكرمنا بتنزيله، وشرفنا بمعرفة تأويله، وشفى صدورنا بواضح بيانه، وهدانا من ظلم الضلالة، وعماية الجهالة به، وجعله ميزان قسط لا يحيف عن الحق غرب لسانه، وضوء هدى لا يجتنى من الشهاب نور برهانه، وعلم نجاة لا يضل من أم قصد سنته، ولا تنال أيدي الهلكات من تعلق بعروة عصمته..
نحمده على فنون بلائه، وضروب آلائه، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة من يعتصم بحبله، ويأوي في الشبهات إلى حرز عدله، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، وصفيه ونبيه، أرسله ببيان أوضحه، ولسان أفصحه، وشرع شرحه، ودين فسحه، فلم يدع صلوات الله عليه فسادا إلا أصلحه، ولا عنادا إلا زحزحه، صلوات الله عليه ما هلل ملك وسبحه، وعلى من نصره وصحبه.. وبعد:
__________
(1) يقصد اهل الظاهر واهل الباطل.

(1/1)


فإني لما تأملت مذاهب القدماء المعتبرين، والعلماء المتقدمين والمتأخرين واختبرت مذاهبهم وآراءهم، ولحظت مطالبهم وأبحاثهم، رأيت مذهب الشافعي رضي الله عنه وأرضاه أسدها وأقومها، وأرشدها وأحكمها، حتى كان نظره في كبر آرائه، ومعظم أبحاثه، يترقى عن حد الظن والتخمين، إلى درجة الحق واليقين.
ولم أجد لذلك سببا أقوى، وأوضح وأوفى، من تطبيقه مذهبه على كتاب الله تعالى، الذي:
(لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ) «1» ..
وأنه أتيح له درك غوامض معانيه، والغوص على تيار بحره لاستخراج ما فيه، وأن الله فتح عليه من أبوابه، ويسر عليه من أسبابه، ورفع له من حجابه، ما لم يسهل لمن سواه، ولم يتأت لمن عداه، فكان على ما أخبر الله تعالى عن ذي القرنين في قوله:
(وَآتَيْناهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً، فَأَتْبَعَ سَبَباً) «2» .
ولما رأيت الأمر كذلك، أردت أن أصنف في أحكام القرآن كتابا أشرح فيه ما انتزعه الشافعي رضي الله عنه، من أخذ الدلائل في غوامض المسائل، وضممت إليه ما نسجته على منواله، واحتذيت فيه على مثاله، على قدر طاقتي وجهدي، ومبلغ وسعي وجدي، ورأيت بعض من عجز عن إدراك مستلكاته «3» فهمه، ولم يصل إلى أغراض معانيه سهمه، جعل عجزه عن فهم معانيه، سببا للقدح في معاليه. ولم يعلم أن الدر
__________
(1) سورة فصلت آية 42.
(2) سورة الكهف آية 84- 85.
(3) طريق الاستدلال ووسائل الاستنباط التي يسلكها.

(1/2)


در برغم من جهله، وأن آفته من قصور فهمه، وقلة علمه، وما يضر الشمس قصور الأعمى عن إدراكها، والحقائق عجز البليد عن لحاقها..
ولن يعرف قدر هذا الكتاب، وما فيه من العجب العجاب، إلا من وفر حظه من علوم المعقول والمنقول، وتبحر في الفروع والأصول، ثم أكب على مطالعة هذه الفصول بمسكة صحيحة، وقريحة نقية غير قريحة.
وأعوذ بالله من الإعجاب بالإبداع، والميل بالهوى إلى بعض الآراء في مظان النزاع، وأسأله أن يجعل مجامع مساعينا، وجل متاعبنا في طلب مرضاته، إنه ولي قدير، وبالإجابة جدير، فأقول:
لما رأيت أقاويل المفسرين في أحكام القرآن متجاوزة حد البيان، آخذة بطرفي الزيادة والنقصان، جررت في سرحها هذه الفصول، المتضمنة من اللفظ والمعنى شفاء كل عليل، مع انتخابي فيها قصد السبيل، وتوقي التعليل والتطويل ...
فالأول في (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) وما فيه من معنى الضمير، فإن فيه ضمير فعل لا يستغني الكلام عنه، لأن الباء من سائر حروف الجر لا بد أن يتصل بفعل، إما مظهر مذكور، وإما مضمر محذوف.
والمضمر في هذا الموضع إما أن يكون خبرا أو أمرا.
فإذا كان خبرا فمعناه: ابدأ بسم الله، ودل الكلام على هذا الضمير لأن القارئ مبتدئ، والحال المشاهدة منبئة عنه، ومغنية عن ذكره..
ومعنى الأمر: ابدءوا بسم الله.
ودل على الأمر قوله تعالى في موضع آخر (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ) «1»
__________
(1) سورة العلق آية 1.

(1/3)


ويحتمل أن يكون أرادهما بالضمير، لأن الضمير يحتملهما، ولو صرح بأحدهما امتنعت إرادة الآخر.
وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم: «رفع عن أمتي الخطأ والنسيان» «1» ، فإن الحكم لما تعلق بضمير يحتمل رفع الحكم رأسا «2» ، ويحتمل المأثم فلا تبعد إرادتهما، ولو صرح بأحدهما ولم يجز إرادة الثاني..
وقد يجيء من الضمير المحتمل للأمرين، ما لا يصح إرادتهما جميعا معا، فيلحق ذلك بقسم المجمل، كقوله: «الأعمال بالنيات» «3» ، وحكمه. متعلق بضمير يحتمل جواز العمل، ويحتمل فضيلته، وإرادة الجواز تنفي إرادة الفضيلة، وإرادة الفضيلة تقتضي إثبات حكم شيء منه لا محالة، مع إلحاق النقصان فيه ونفي الفضيلة عنه، ويستحيل إرادة نفي الفضيلة والأصل جميعا في حالة واحدة، وليس احتمال الضمير للأمرين موجبا عموما من حيث الصيغة، ولكنه يحتمل إرادتهما، فإن معنى العموم: اشتمال اللفظ على معنيين من جهة واحدة، وليس مجملا أيضا فإن إرادة الكل جائزة.
والفوائد التي ينتظمها قوله: «بسم الله» ..
الأمر باستفتاح الأمور بها تبركا بذلك.
وذكرها على الذبيحة «4» .
__________
(1) رواه الطبراني عن ثوبان وصححه السيوطي.
(2) أي دفع المأثم الناجم عنهما عند الله.
(3) رواه الشيخان وغيرهما.
(4) قال تعالى في سورة الأنعام الآية 121: (وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ) وقال في سورة الحج الآية 36: (وَالْبُدْنَ جَعَلْناها لَكُمْ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيها خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْها صَوافَّ..) أي عند نحرها. [.....]

(1/4)


وشعار من شعائر الدين.
وطرد الشيطان، كما روي عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم أنه قال: «إذا سمى العبد الله تعالى على طعامه لم ينل منه الشيطان، فإذا لم يسمه نال منه معه» «1» ..
وفيه إظهار مخالفة المشركين الذين يفتتحون أمورهم بذكر الأصنام أو غيرها من المخلوقين ...
وهو مفزع الخائف.
ودلالة من قائله على انقطاعه إلى الله.
وأنس للسامع.
وإقرار بالألوهية.
واعتراف بالنعمة.
واستغاثه «2» بالله.
وعبادة له «3» .
وفيه اسمان من أسماء الله تعالى لا يسمى بهما غيره: وهو الله والرحمن، وهو «4» أشهر أسماء الله تعالى، الذي ينسب إليه كل اسم، فيقال:
الرؤوف والكريم من أسماء الله، ولا يقال: الله من أسماء الكريم.
__________
(1) رواه مسلم بمعناه.
(2) في الجصاص وفي نسخة أخرى: واستعانة بالله، واللفظان صالحان.
(3) في الجصاص: وعياذة به.
(4) أي اسم «الله» جل شأنه.

(1/5)