أحكام القرآن للكيا الهراسي

إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا (7) وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا (8) أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا (9) إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا (10) فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا (11) ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا (12) نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى (13) وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا (14) هَؤُلَاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْلَا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا (15) وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقًا (16) وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا (17) وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا (18) وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلَا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا (19)

(بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

سورة الكهف
قوله تعالى: (إِنَّا جَعَلْنا ما عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَها لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا) ، الآية/ 7.
وذلك يدل على أن ما جعله على وجه الأرض، جعله لطفا لعباده، الذين أراد بهم الخير في إختيار الطاعات.
قوله تعالى: (فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ) ، الآية/ 19.
يدل ذلك على جواز خلط دراهم الجماعة والشراء بها، والأكل من الطعام الذي بينهم بالشركة، وإن كان فيهم من يأكل أكثر ومن يأكل أقل، وهو الذي يسميه الناس المناهدة، ويفعلونه في الأسفار، وذلك أنه قال: (فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ) فأضاف الورق إلى الجميع.
ومثله قوله تعالى: (وَإِنْ تُخالِطُوهُمْ فَإِخْوانُكُمْ) «1» .
__________
(1) سورة البقرة آية 220.

(4/265)


وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا (23) إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا (24)

وفي الآية دليل على جواز الوكالة بالشراء، لأن الذي بعثوا به كان وكيلا.
قوله تعالى: (وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ) ، الآية/ 23.
لأن المقصود بذلك ألا يكون محققا لحكم المخبر عنه، فإنه إذا قال لأفعلن ذلك فلم يفعل كان كاذبا، وإن قال لأفعلن ذلك إن شاء الله، خرج عن كونه محققا للمخبر عنه.
فإن قال قائل: أي معنى في ذلك، ولا يتصور أن يفعل فاعل فعلا إلا أن يشاء الله، هل ذكر ذلك وعدم ذكره إلا بمثابة واحدة، وهل هذا إلا بمثابة من يقول لأفعلن ذلك إن كنت فاعلا وإن كنت قادرا وإن شئت، وأي أثر لذكر شرط للفعل لا محالة في العقل. والجواب: أن الأمر وإن كان على ما ذكرتم، غير أنه إذا قال القائل لأفعلن في وقت كذا، فقد أوهم أنه يفعل لا محالة، وأبان أن شرط الفعل يوجد، فإذا لم يفعل لعدم الشرط وهو مشيئة الله تعالى، أو عائق آخر، كان كاذبا في قوله عرفا، وإذا قال لأفعلن كذا إن شاء الله، أو إن شاء زيد، فلم يقطع بأنه يفعل، بل ردد وميل القول، فكأنه قال: لا أدري هل أفعل أم لا، فهذا هو المعنى فيه. وكأن الله سبحانه أدب رسوله صلّى الله عليه وسلم فقال: (وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ) .
أي كن متذكرا للعوائق، وناظرا في العواقب، ولعل عائقا يعترض دون مرامك، فردد القول فيما لا يعلمه، لئلا يجري ما ينسب فيه إلى خلف في القول عرفا.
ومن أجله قال علماؤنا: إذا حلف واستثنى لم يحنث إذا كان موصولا، وإن انفصل يؤثر الاستثناء.

(4/266)


وروي عن معاذ بن جبل، عن رسول الله أنه قال: «إذا قال الرجل لعبده: أنت حر إن شاء الله، فهو حر، وإذا قال لامرأته أنت طالق إن شاء الله فليس بطالق» «1» .
وهذا حديث ضعيف، واهي السند مخالف للإجماع.
وقيل للمعتزلة: عندكم أن فعل الفاعل لا يتعلق بمشيئة الله تعالى، فما معنى قوله عندكم لأفعلن إن شاء الله تعالى، وهو يفعل وإن لم يشأ الله.
فأجابوا بأن معناه: إلا أن يشاء الله ألا يلجئني إليه، أو يقطعني عنه باخترام أو موت، فيخرج عن كونه قاطعا على الخبر، فيحسن منه الخبر «2» .
وقال آخرون منهم: الغرض بالاستثناء، إخراج الخبر عن أن يكون قطعا وخبرا تاما من غير إرادة ما يجرى مجرى الشرط، فكأنه وضع في اللغة لهذه الطريقة التي تقتضي التوقف في الخبر، وهذا أقرب، لأن الاستثناء يؤثر في هذا الخبر، سواء وقع ممن له قصد إلى ما ذكرناه أو من لا قصد له. فحمله على هذا الوجه الثاني أولى.
ومما قيل للمعتزلة: إذا قال القائل عبدي حر إن شاء الله فلا يعتق، وقياس قولكم أنه يعتق، لأن الله تعالى قد شاء ذلك تعبدا، وجوابهم عنه على ما قاله أبو علي الجبائي، أنه لم يخصص المتثنى المشيئة بطريق التعبد، ولو خصصه بذلك لصار حرا بأن ينوي بالاستثناء، مشيئة التعبد فقط.
نعم إذا أطلق الاستثناء فلا حرية، فأما إذا قيد الاستثناء، صار كأنه قال للمملوك: أنت حر إن أراد الله مني إعتاقك، وقد علم أن الله تعالى أراد ذلك مع سلامة الأحوال، وإنما تصح هذه الطريقة متى قيل لا بد في
__________
(1) أخرجه الطبراني في معجمه الكبير.
(2) انظر تفسير الفخر الرازي، وتفسير القرطبي والدر المنثور للسيوطي

(4/267)


قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا (103) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا (104) أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا (105) ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِمَا كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَرُسُلِي هُزُوًا (106) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا (107) خَالِدِينَ فِيهَا لَا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا (108) قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا (109) قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا (110)

الاستثناء من تقييد، حتى يصير كالشرط، ويجري مجرى قول القائل:
أنت حر إن دخل زيد الدار، وإن شاء زيد، فيمكن عند ذلك ادعاء مخالفة الإجماع على المعتزلة، فأما إذا قيل بالوجه الآخر، وهو أن الاستثناء يخرج الخبر عن كونه خبرا، إلى أن يكون مشكوكا فيه موقوفا فليس فيه دلالة «1» .
قوله تعالى: (وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذا نَسِيتَ) ، الآية/ 24.
قال ابن عباس: إنه إن نسي الاستثناء ثم ذكر ولو بعد سنة، لم يحنث إن كان حالفا.
وذكر إسماعيل بن اسحق ذلك عن أبي العالية في قوله: (وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذا نَسِيتَ) ، قال يستثنى إذا ذكر.
والأصح أن قوله: (وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذا نَسِيتَ) ابتداء كلام.
قوله تعالى: (هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالًا) ، الآية/ 103.
فيه دليل على أن من الناس من يعمل العمل وهو يظن أنه محسن فيه، وقد حبط سعيه، الذي يوجب إحباط السعي إما فساد الإعتقاد أو المراءاة.
والمراد به هاهنا الكفر، فإن الله تعالى قال بعد ذكر هؤلاء:
(أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَلِقائِهِ) .
أبان عن كفرهم وأنه سبب ضياع أعمالهم.
قوله تعالى: (وَلا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً) ، الآية/ 110.
دل على أن من عمل لغير الله تعالى مراءاة ومباهاة وطلبا للنجاة، فلا نصيب له في الآخرة، وقد مضى شرحه غير مرة.
__________
(1) أنظر سبب نزول الآية في أسباب النزول للواحدي النيسابوري.

(4/268)


إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا (3) قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا (4) وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا (5)

(بسم الله الرّحمن الرّحيم)

سورة مريم
قوله تعالى: (إِذْ نادى رَبَّهُ نِداءً خَفِيًّا) ، الآية/ 3.
يدل على أن أفضل الدعاء ما هذه حاله، لأنه أبعد عن الرياء، وأقرب إلى الإخلاص.
قوله تعالى: (وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي) ، الآية/ 4.
يدل على أنه يستحيى للمرء أن يذكر في دعائه نعم الله تعالى عليه، وما يليق بالخضوع، لأن قوله: (وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي) ، إظهار للخضوع، وقوله: (وَلَمْ أَكُنْ بِدُعائِكَ رَبِّ شَقِيًّا) ، إظهارا لعادات تفضله في إجابة أدعيته،
ثم عقب ذلك بالمسألة فقال:
(وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوالِيَ مِنْ وَرائِي وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا) ، الآية/ 5:
يدل على أن رفع الحاجة إليه، إنما يستحب عند مخافة الضرر في الدين، فإنه خاف من أقاربه الفساد والشر، فطلب من الله تعالى ولدا يقوم بالدين بعده، فيرثه النبوة، ويرث من آل يعقوب، ولا يجوز أن يهتم بالدعاء هذا الاهتمام، ومراده أن يورثه المال، فإن ذلك مباين لطريقة الأنبياء،

(4/269)


أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا (58)

ولأنه جمع وراثته إلى وراثة آل يعقوب، ومعلوم أن ولد زكريا لا يرثهم.
فإن قيل: كيف أقدم على مسألة ما يخرق العادة من غير إذن!؟
الجواب: أن ذلك جائز، في زمان الأنبياء، وفي القرآن ما كشف عن هذا المعنى، فإنه قال تعالى:
(كُلَّما دَخَلَ عَلَيْها زَكَرِيَّا الْمِحْرابَ وَجَدَ عِنْدَها رِزْقاً قالَ يا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هذا قالَتْ: هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ) «1» .
فلما رأى خارق العادة استحكم طمعه في إجابة دعوته، فقال تعالى:
(هُنالِكَ دَعا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً) «2» .
قوله تعالى: (إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُ الرَّحْمنِ خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِيًّا) ، الآية/ 58.
فيه دلالة على أن لتلاوة آيات الرحمن تأثيرا، فقال الحسن: إذ تتلى عليهم آيات الرحمن خروا سجدا وبكيا: في الصلاة.
وقال الأصم: المراد بآيات الله كتبه المتضمنة لتوحيده وحجته، وأنهم كانوا يسجدون عند تلاوتها، ويبكون عند ذكرها.
والمروي عن ابن عباس، أن المراد به القرآن، خاصة وأنهم كانوا يسجدون عند تلاوته ويبكون، ففي ذلك دلالة من قوله على أن القرآن هو الذي كان يتلى على جميع الأنبياء، ولو كان كذلك لما كان الرسول صلى الله عليه وسلم مختصا بإنزاله عليه.
__________
(1) سورة آل عمران آية 37.
(2) سورة آل عمران آية 38.

(4/270)


وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا (92) إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا (93)

واحتج الرازي به على وجوب سجود القرآن على المستمع والقارئ، وهذا بعيد، فإن هذا الوصف شامل لكل آيات الله تعالى، وضم إلى السجود البكاء، وأبان به عن طريقه الأنبياء في تعظيمهم الله تعالى وآياته، وليس فيه دلالة على وجوب ذلك عند سماع آيات مخصوصة.
قوله تعالى:
(وَما يَنْبَغِي لِلرَّحْمنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً، إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً) ، الآية/ 92، 93.
فيه دلالة على أن الولد لا يكون مملوكا لأبيه خلافا لمن قال: إنه يشتريه فيملكه ولا يعتق إلا إذا أعتقه، وقد أبان الله تعالى المنافاة بين الولادة والملك.
واستدل إسماعيل بن إسماعيل بن اسحق بدليل آخر، ونقله الرازي في كتابه عنه فقال:
وقد اتفق أهل العلم على أن أمة الرجل إذا حملت منه، فإن الولد يتحرر في بطن أمه، مع أن العبرة في رق الولد برق الأم، وحرية الوالد لا تقتضي حرية الولد، فلم يكن عتق الولد من جهة كون الأب حرا، وإنما كان من جهة أن الولد لو علق رقيقا، لكان ملكا للوالد، ولا يثبت الملك للوالد على الولد أصلا.
إلا أن الولد تم حر الأصل، لأنه لا حاجة إلى إثبات الرق والملك للولد، فعلق الولد حرا هنالك، حتى لا يثبت للوالد على الولد ملك.
وإذا اشترى، فلا يمكن أن يقال إن الملك لا يثبت، فإن الملك لو لم يثبت لم يصح الشراء، ولا بد من تصحيح الشراء.
وقال مالك: ينقل المالك الملك إلى المشتري، فيثبت له الملك بقدر ما يحصل به الانتقال ضرورة تصحيح الشراء، وامتنع بعد ذلك ثبوت ملك الوالد عليه.

(4/271)


وقال بعض العلماء: إن شراء الولد لا يثبت له ملكا أصلا، وإنما هو عقد عتاق، فإما أن يقال إن الملك يثبت حقيقة في زمان، وحصل العتق بعده في زمان آخر فلا، ولكن العتق ثبت مقارنا للشراء، وجعل الشراء عقد عتاق وإسقاط لملك المالك، لا على حقيقة شراء فيما سواه، ولم يجعل الشراء سبب الملك، لوجود الأبوة المنافية له، كما لم يجعل ملك المحل سببا لملك الولد لوجود سبب ما ينافيه، فيقال حدث حرا، وكذلك يقال حصل الشراء مع الحرية.
فهذا قول فيه تأمل.
وعلى كل حال تبين به أنه لا يدوم ملك الوالد على ولده «1» .
__________
(1) أنظر أبو بكر الجصاص في هذه المسألة.

(4/272)