أحكام القرآن للكيا الهراسي فَلَمَّا بَلَغَ
مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي
الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ
يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ
اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ (102)
(بسم الله الرّحمن الرّحيم)
سورة الصافات
قوله تعالى: (إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ) ،
الآية/ 102، ظاهره أنه كان مأمورا بذبح الولد، ويجوز أن لا
يكون في المأمور به سوى التل للجبين، ولكن ظن إبراهيم عليه
السلام أنه يتعقبه الأمر بالذبح فقال: (إِنِّي أَرى فِي
الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ) .
أي ما يدل على أني أذبحك.
ويحتمل أن يكون قد أمر بذبحه حقيقة «1» ، ولكنه لو قدر ذلك،
فلا يصح نسخه عند من لا يجوز النسخ، قبل إمكان الأمر، لأن
الذبح متى كان حسنا في وقت، فلا يجوز أن يصير في ذلك الوقت
قبيحا عندهم، فيصعب عليهم الخروج عند ذلك.
ويحتمل أن يكون قد ذبح ولكنه كان يلتئم ويبرأ، وهذا أبعد
الاحتمالات، لأنه لو كان جرى ذلك، لكان قد نبه الله تعالى عليه
تعظيما لرتبة إبراهيم وإسماعيل صلوات الله عليهما، وكان أولى
بالشأن من هذا، ولو حصل الفراغ من امتثال الأمر الأول ما تحقق
الفداء.
__________
(1) أنظر تفسير الفخر الرازي وتفسير الطبري لسورة الصافات وكتب
التفسير الأخرى.
(4/357)
فَسَاهَمَ فَكَانَ
مِنَ الْمُدْحَضِينَ (141)
إذا ثبت ذلك، فقد احتج قوم من أصحاب أبي
حنيفة بهذه الآية في مصيرهم، إلى من نذر ذبح ولده لزمه ذبح شاة
عندهم، وقالوا: إن الله تعالى جعل الأمر بذبح الولد، في حالة
حرم ذبح الولد سببا لوجوب ذبح شاة، فيجوز أن يكون إيجاب الواحد
منا ذبح ولده على نفسه سببا لذبح شاة، ويجعل اللفظ عبارة عن
ذبح شاة «1» .
وهذا إغفال منهم، فإنه إن ثبت أن إبراهيم كان مأمورا بذبح
الولد، فقد ارتفع الأمر إلى بدل جعل فداء، فكان الأمر متقررا
في الأصل، ثم أزيل ونسخ إلى بدل، وفيما نحن فيه لا أمر بذبح
الولد، بل هو معصية قطعا، فلم يكن للأمر تعلق بذبح الولد بحال،
فإذا لم يتعلق به بحال، فلا يجوز أن يجعل له فداء وخلفا، وقد
استقصينا هذا في كتب الفقه وهو مقطوع به.
قوله تعالى: (فَساهَمَ فَكانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ)
، الآية/ 141.
يحتج به من يرى للقرعة أثرا في تعيين المستحق بعد تردد الحق في
أعيان لا سبيل إلى نفيه عنها، ولا إثباته في جميعها، فتدعو
الحاجة إلى القرعة، وهذا بين.
نعم في مثل واقعة يونس لا تجرى القرعة، لأن إلقاء مسلم في
البحر لا يجوز، وفي ذلك الزمان جاز، فرجع الإختلاف إلى نفس
الحق.
وأما قولنا الحق تردد في محال وأعيان فلا يجوز إخراجه منها،
فذلك شيء ثابت، وهو موضع احتجاجنا.
__________
(1) أنظر أحكام القرآن للجصاص ج 5 [.....]
(4/358)
إِنَّا سَخَّرْنَا
الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ
(18) وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ (19)
وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ
الْخِطَابِ (20) وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ
تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ (21)
(بسم الله الرّحمن الرّحيم)
سورة ص
قوله تعالى: (يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْراقِ) ،
الآية/ 18.
عن ابن عباس أنه قال:
لم يزل في نفسي من صلاة الضحى شيء حتى قرأت: (إِنَّا
سَخَّرْنَا الْجِبالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ
وَالْإِشْراقِ) .
وعلى صلاة الضحى تأول ابن عباس قوله تعالى: (فِي بُيُوتٍ
أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ
يُسَبِّحُ لَهُ فِيها بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ) «1» .
قوله تعالى: (وَهَلْ أَتاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا
الْمِحْرابَ) ، الآية/ 21.
ذكر المحققون الذين يرون تنزيه الأنبياء عليهم السلام عن
الكبائر، أن داود عليه السلام كان قد أقدم على خطبة امرأة كان
قد خطبها غيره، ويقال: هي أوريا، فمال القوم إلى تزويجها من
داود راغبين فيه «2» ،
__________
(1) سورة النور آية 36.
(2) أنظر أسباب النزول للواحدي النيسابوري.
(4/359)
قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ
بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ
الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلَّا
الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا
هُمْ وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ
رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ (24) فَغَفَرْنَا لَهُ
ذَلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ (25)
يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ
فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ
الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ
يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا
نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ (26)
وزاهدين في الخاطب الأول، ولم يكن لذلك
عارفا، وقد كان يمكنه أن يعرف فيعدل عن هذه الرغبة وعن الخطبة
لها، فلم يفعل ذلك من حيث أعجب بها. إما وصفا أو مشاهدة على
غير تعمد، وقد كان لداود من النساء العدد الكثير، وذلك الخاطب
لا امرأة له، فنبهه الله تعالى على ما فعل، بما كان من تسور
الملكين، وما أورداه من التمثيل على وجه التعريض، لكي يفهم من
ذلك موضع العتب، فيعدل عن هذه الطريقة، ويستغفر ربه من هذه
الصغيرة.
ومتى قيل: فكيف يجوز أن يقول الملكان خصمان بغى بعضنا على بعض،
وهو كذب، والملائكة لا تكذب وهي منزهة عن ذلك؟
فالجواب عنه: أنه لا بد في الكلام من مقدمة، فكأنهما قالا:
قدرنا كأنا خصمان بغى بعضنا على بعض، فاحكم بيننا بالحق، وعلى
هذا يحمل قولهما: إن هذا أخي له تسع وتسعون نعجة، لأن ذلك وإن
كان بصورة الخبر، فالمراد به إيراده على سبيل التقدير لينبه
داود على ما فعل.
والقول في هذا مستقصى في تبرئة الأنبياء صلوات الله عليهم «1»
.
قوله تعالى: (وَخَرَّ راكِعاً وَأَنابَ) ، الآية/ 24:
لا يرى فيه الشافعي سجدة لها، لأنه لا يرى التعلق بشريعة من
قبلنا، ولأنها توبة، فليس فيه دلالة على الأمر بالسجود لنا،
وإنما يعلم السجود عند ذلك توقيفا.
قوله تعالى: (يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي
الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا
تَتَّبِعِ الْهَوى) ، الآية/ 26.
__________
(1) أنظر تفسير محاسن التأويل ج 14 في تفسيره لسورة ص.
(4/360)
وَخُذْ بِيَدِكَ
ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلَا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْنَاهُ
صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (44)
فيه بيان وجوب الحكم بالحق، وأن لا يميل
إلى أحد الخصمين، لقرابة أو لجاهه، أو سبب يقتضى الميل.
وقوله تعالى: (وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِبْ بِهِ وَلا
تَحْنَثْ) ، الآية/ 44.
فروى عن ابن عباس أن امرأة أيوب قال لها إبليس:
إذا داويته وشفيته تقولين لي: أنت داويته، فأخبرت بذلك أيوب،
فغضب وقال: ذلك الشيطان، وحلف أنه إن شفاني الله تعالى لأضربنك
مائة سوط، فأخذ شماريخ فيها قدر مائة، فضربها ضربة واحدة «1» .
وذلك خلاف قياس الأصول، والضغث هو ملء الكف من الخشب والعود
والشماريخ، ونحو ذلك. فأخبر الله تعالى أنه إذا فعل ذلك، فقد
بر في يمينه، لقوله تعالى: (وَلا تَحْنَثْ) . وهو قول الشافعي
ومذهب أبي حنيفة ومحمد وزفر.. وقال مالك: لا يبر. ورأى أن ذلك
مختصا بأيوب، وقال لا يحنث.
وإذا قال افعل ذلك، ولا تحنث، علم أنه جعله بارا إذ لا واسطة.
وفي الآية دليل على أن للزوج أن يضرب زوجته، وأن للرجل أن يحلف
ولا يستثني، فهذا تمام القول في المعنى.
__________
(1) أنظر أسباب النزول للواحدي النيسابوري.
(4/361)
|