أسباب النزول ت الحميدان سُورَةُ بَرَاءَةَ
قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ
بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا
أَئِمَّةَ الْكُفْرِ} {12} .
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: نَزَلَتْ فِي أَبِي سُفْيَانَ بْنِ
حَرْبٍ وَالْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ وَسُهَيْلِ بْنِ عَمْرٍو
وَعِكْرِمَةَ بْنِ أَبِي جَهْلٍ وَسَائِرِ رُؤَسَاءِ قُرَيْشٍ
الَّذِينَ نَقَضُوا الْعَهْدَ، وَهُمُ الَّذِينَ هَمُّوا
بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: {مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ
يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ} {17} .
قَالَ الْمُفَسِّرُونَ لَمَّا أُسِرَ الْعَبَّاسُ يَوْمَ
بَدْرٍ أَقْبَلَ عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ فَعَيَّرُوهُ
بِكُفْرِهِ بِاللَّهِ وَقَطِيعَةِ الرَّحِمِ، وَأَغْلَظَ
عَلِيٌّ لَهُ الْقَوْلَ، فَقَالَ الْعَبَّاسُ: مَا لَكُمْ
تَذْكُرُونَ مَسَاوِينَا وَلَا تَذْكُرُونَ، مَحَاسِنَنَا،
فَقَالَ لَهُ عَلِيٌّ: أَلَكُمُ مَحَاسِنُ؟ قَالَ: نَعَمْ،
إِنَّا لَنَعْمُرُ الْمَسْجِدَ الْحَرَامِ، وَنَحْجُبُ
الْكَعْبَةَ، وَنَسَقِي الْحَاجَّ، وَنَفُكُّ الْعَانِيَ؛
فَأَنْزَلَ اللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ - رَدًّا عَلَى
الْعَبَّاسِ: {مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا}
الْآيَةَ.
(1) - قَوْلُهُ تَعَالَى: {أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ}
الْآيَةَ {19} .
أَخْبَرَنَا أَبُو إِسْحَاقَ الثَّعَالِبِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ
قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ حَامِدٍ الْوَزَّانُ
قَالَ: أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرِ
بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْمُنَادِي قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو
دَاوُدَ سُلَيْمَانُ بْنُ الْأَشْعَثِ
_________
(1) - أخرجه مسلم (3/1499 - ح: 1879) والإمام أحمد (الفتح
الرباني: 18/159 - ح: 293) وابن جرير (10/67) وأبو داود وابن
المنذر وابن أبي حاتم وابن حبان وأبو الشيخ وابن مردويه (فتح
القدير: 2/345) والطبراني في "الأوسط" (1/266 - ح: 423) عن
النعمان به، ويشهد له:
* ما أخرجه عبد الرزاق (تفسير ابن كثير: 2/342) وابن جرير
(10/67) من وجه آخر عن النعمان به، وإسناده صحيح.
(1/243)
قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو تَوْبَةَ
الرَّبِيعُ بْنُ نَافِعٍ الْحَلَبِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا
مُعَاوِيَةُ بْنُ سَلَّامٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ سَلَّامٍ،
عَنْ أَبِي سَلَّامٍ قَالَ: حَدَّثَنَا النُّعْمَانُ بْنُ
بَشِيرٍ قَالَ: كُنْتُ عِنْدَ مِنْبَرِ رَسُولِ اللَّهِ -
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ رَجُلٌ: مَا
أُبَالِي أَنْ لَا أَعْمَلَ عَمَلًا بَعْدَ أَنْ أَسْقِيَ
الْحَاجَّ، وَقَالَ الْآخَرُ: مَا أُبَالِي أَنْ لَا أَعْمَلَ
عَمَلًا بَعْدَ أَنْ أَعْمُرَ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ وَقَالَ
آخَرُ: الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ أَفْضَلُ مِمَّا قُلْتُمْ،
فَزَجَرَهُمْ عُمَرُ وَقَالَ: لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ
عِنْدَ مِنْبَرِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - وَهُوَ يَوْمُ الْجُمُعَةِ - وَلَكِنِّي إِذَا
صَلَّيْتُ دَخَلْتُ فَاسْتَفْتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِيمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ،
فَفَعَلَ. فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {أَجَعَلْتُمْ
سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ}
إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ
الظَّالِمِينَ} رَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ
الْحُلْوَانِيِّ، عَنْ أَبِي تَوْبَةَ.
(1) - وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي رِوَايَةِ الْوَالِبِيِّ:
قَالَ الْعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ حِينَ أُسِرَ
يَوْمَ بَدْرٍ: لَئِنْ كُنْتُمْ سَبَقْتُمُونَا بِالْإِسْلَامِ
وَالْهِجْرَةِ وَالْجِهَادِ لَقَدْ كُنَّا نَعْمُرُ
الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ وَنَسَقِي الْحَاجَّ وَنَفُكُّ
الْعَانِيَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {أَجَعَلْتُمْ
سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ}
الْآيَةَ.
وَقَالَ الْحَسَنُ وَالشَّعْبِيُّ وَالْقُرَظِيُّ: نَزَلَتِ
الْآيَةُ فِي عَلِيٍّ وَالْعَبَّاسِ وَطَلْحَةَ بْنِ شَيْبَةَ
وَذَلِكَ أَنَّهُمُ افْتَخَرُوا، فَقَالَ طَلْحَةُ: أَنَا
صَاحِبُ الْبَيْتِ بِيَدِي مِفْتَاحُهُ وَلَوْ أَشَاءُ بِتُّ
فِيهِ وَإِلَيَّ ثِيَابُ بَيْتِهِ، وَقَالَ الْعَبَّاسُ: أَنَا
صَاحِبُ السِّقَايَةِ وَالْقَائِمُ عَلَيْهَا، وَقَالَ
عَلِيٌّ: مَا أَدْرِي مَا تَقُولَانِ، لَقَدْ صَلَّيْتُ
سِتَّةَ أَشْهُرٍ قَبْلَ النَّاسِ، وَأَنَا صَاحِبُ
الْجِهَادِ. فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْآيَةَ.
وَقَالَ ابْنُ سِيرِينَ وَمُرَّةُ الْهَمْدَانِيُّ: قَالَ
عَلِيٌّ لِلْعَبَّاسِ: أَلَا تُهَاجِرُ؟ أَلَا
_________
(1) - أخرجه ابن جرير (10/67) وابن المنذر وابن أبي حاتم (فتح
القدير: 2/346) من طريق الوالبي - وهو علي بن أبي طلحة - عن
ابن عباس رضي الله عنهما به، وإسناده صحيح كما سبق.
(1/244)
تَلْحَقُ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قَالَ: أَلَسْتُ فِي شَيْءٍ أَفْضَلَ مِنَ
الْهِجْرَةِ؟ أَلَسْتُ أَسْقِي حَاجَّ بَيْتِ اللَّهِ
وَأَعْمُرُ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ؟ فَنَزَلَتْ هَذِهِ
الْآيَةُ وَنَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {الَّذِينَ آمَنُوا
وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا}
قَوْلُهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا
تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ} الْآيَةَ {23 - 24} .
قَالَ الْكَلْبِيُّ: لَمَّا أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْهِجْرَةِ إِلَى الْمَدِينَةِ
جَعَلَ الرَّجُلُ يَقُولُ لِأَبِيهِ وَأَخِيهِ وَامْرَأَتِهِ:
إِنَّا قَدْ أُمِرْنَا بِالْهِجْرَةِ، فَمِنْهُمْ مَنْ
يُسْرِعُ إِلَى ذَلِكَ وَيُعْجِبُهُ، ومنهم من يتعلق بِهِ
زَوْجَتُهُ وَعِيَالُهُ وولده، فيقولون: ناشدناك اللَّهَ أَنْ
تَدَعَنَا إِلَى غَيْرِ شَيْءٍ فَنَضِيعَ، فَيَرِقُّ
فَيَجْلِسُ مَعَهُمْ وَيَدَعُ الْهِجْرَةَ، فَنَزَلَ قَوْلُ
اللَّهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا
تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ} الْآيَةَ. وَنَزَلَ
فِي الَّذِينَ تَخَلَّفُوا بِمَكَّةَ وَلَمْ يُهَاجِرُوا
قَوْلُهُ تَعَالَى: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ} إِلَى
قَوْلِهِ: {فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ}
يَعْنِي: الْقِتَالَ وَفَتْحَ مَكَّةَ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ
كَثِيرًا مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ
أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ} {34} .
نَزَلَتْ فِي الْعُلَمَاءِ وَالْقُرَّاءِ مِنْ أَهْلِ
الْكِتَابِ كانوا يأخذون الرشاء مِنْ سِفْلَتِهِمْ، وَهِيَ
الْمَآكِلُ الَّتِي كَانُوا يُصِيبُونَهَا مِنْ عَوَامِّهِمْ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ
وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ}
الْآيَةَ {34} .
أَخْبَرَنَا أبو إسحاق المقري قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ
اللَّهِ بْنُ حَامِدٍ قَالَ: أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ
إِبْرَاهِيمَ قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ نُصَيْرٍ
قَالَ: حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ زُرَارَةَ قَالَ: حَدَّثَنَا
هُشَيْمٌ قَالَ: حَدَّثَنَا حُصَيْنٌ عَنْ زَيْدِ بْنِ وَهْبٍ
قَالَ: مَرَرْتُ بِالرَّبَذَةِ فَإِذَا أَنَا بِأَبِي ذَرٍّ
فَقُلْتُ لَهُ: مَا أَنْزَلَكَ مَنْزِلَكَ هَذَا؟ قَالَ:
كُنْتُ بِالشَّامِ فَاخْتَلَفْتُ أَنَا وَمُعَاوِيَةُ فِي
هَذِهِ الْآيَةِ: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ
وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ}
فَقَالَ مُعَاوِيَةُ: نَزَلَتْ فِي أَهْلِ
الْكِتَابِ، فَقُلْتُ: نَزَلَتْ فِينَا وَفِيهِمْ، وَكَانَ
بَيْنِي وَبَيْنَهُ كَلَامٌ فِي ذَلِكَ، وَكَتَبَ إلى عثمان
يشكو مني، وَكَتَبَ إِلَيَّ عُثْمَانُ أَنْ أَقْدَمَ
الْمَدِينَةَ فَقَدِمْتُهَا، وَكَثُرَ النَّاسُ عَلَيَّ حَتَّى
كَأَنَّهُمْ لَمْ يَرَوْنِي قَبْلَ ذَلِكَ، فَذَكَرْتُ ذَلِكَ
لِعُثْمَانَ فَقَالَ: إِنْ شِئْتَ تَنَحَّيْتَ وَكُنْتَ
قَرِيبًا،
(1/245)
فَذَلِكَ الَّذِي أَنْزَلَنِي هَذَا
الْمَنْزِلَ وَلَوْ أَمَّرُوا عَلَيَّ حَبَشِيًّا لَسَمِعْتُ
وَأَطَعْتُ، رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، عَنْ قُتَيْبَةَ، عَنْ
جَرِيرٍ، عَنْ حُصَيْنٍ. وَرَوَاهُ أَيْضًا عَنْ عَلِيٍّ، عَنْ
هُشَيْمٍ.
وَالْمُفَسِّرُونَ أَيْضًا مُخْتَلِفُونَ: فَعِنْدَ بَعْضِهِمْ
أَنَّهَا فِي أَهْلِ الْكِتَابِ خَاصَّةً. وَقَالَ
السُّدِّيُّ: هِيَ فِي أَهْلِ الْقِبْلَةِ. وَقَالَ
الضَّحَّاكُ: هِيَ عَامَّةٌ فِي أَهْلِ الْكِتَابِ
وَالْمُسْلِمِينَ. وَقَالَ عَطَاءٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي
قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ
وَالْفِضَّةَ} قَالَ: يُرِيدُ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ.
أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ أَحْمَدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ
النَّجَّارُ قَالَ: حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ أَيُّوبَ
الطَّبَرَانِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ دَاوُدَ
بْنِ صَدَقَةَ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُعَافًى
قَالَ: حَدَّثَنَا شَرِيكٌ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ
اللَّهِ الْمُرَادِيِّ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ، عَنْ
سَالِمِ بْنِ أَبِي الْجَعْدِ، عَنْ ثَوْبَانَ قَالَ: لَمَّا
نَزَلَتْ: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ}
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
"تَبًّا لِلذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ"، قَالُوا: يَا رَسُولَ
اللَّهِ فَأَيُّ الْمَالِ نَكْنِزُ؟ قَالَ: "قَلْبًا شَاكِرًا
وَلِسَانًا ذَاكِرًا وَزَوْجَةً صَالِحَةً".
قَوْلُهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا
لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا} الْآيَةَ {38} .
نَزَلَتْ فِي الْحَثِّ عَلَى غَزْوَةِ تَبُوكَ، وَذَلِكَ أَنَّ
رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا
رَجَعَ مِنَ الطَّائِفِ وَغَزْوَةِ حُنَيْنٍ أَمَرَ
بِالْجِهَادِ لِغَزْوِ الرُّومِ، وَذَلِكَ فِي زَمَانِ
عُسْرَةٍ مِنَ النَّاسِ وَجَدْبٍ مِنَ الْبِلَادِ وَشِدَّةٍ
مِنَ الْحَرِّ، حِينَ أَخْرَفَتِ النَّخْلُ وَطَابَتِ
الثِّمَارُ، فَعَظُمَ على الناس غزوة الرُّومِ وَأَحَبُّوا
الظِّلَالَ وَالْمُقَامَ فِي الْمَسَاكِنِ وَالْمَالِ، وَشَقَّ
عَلَيْهِمُ الْخُرُوجُ إِلَى الْقِتَالِ، فَلَمَّا عَلِمَ
اللَّهُ تَثَاقُلَ النَّاسِ أَنْزَلَ هَذِهِ الْآيَةَ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: {انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا} {41} .
نَزَلَتْ فِي الَّذِينَ اعْتَذَرُوا بِالضَّيْعَةِ وَالشُّغْلِ
وَانْتِشَارِ الْأَمْرِ، فَأَبَى اللَّهُ تَعَالَى أَنْ
يَعْذِرَهُمْ دُونَ أَنْ يَنْفِرُوا عَلَى مَا كَانَ مِنْهُمْ.
أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ
يَحْيَى قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو عَمْرِو بْنُ
(1/246)
مَطَرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ
بْنُ عَلِيٍّ قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى قَالَ:
أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَنِ ابْنِ جُدْعَانَ
عَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَرَأَ أَبُو طَلْحَةَ: {انْفِرُوا
خِفَافًا وَثِقَالًا} فَقَالَ: مَا أَسْمَعُ اللَّهَ عَذَرَ
أَحَدًا، فَخَرَجَ مُجَاهِدًا إِلَى الشَّامِ حَتَّى مَاتَ.
وَقَالَ السُّدِّيُّ: جَاءَ الْمِقْدَادُ بْنُ الْأَسْوَدِ
إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
وَكَانَ عَظِيمًا سَمِينًا، فَشَكَا إِلَيْهِ وَسَأَلَهُ أَنْ
يَأْذَنَ لَهُ، فَنَزَلَتْ فِيهِ: {انْفِرُوا خِفَافًا
وَثِقَالًا} فَلَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ اشْتَدَّ
شَأْنُهَا عَلَى النَّاسِ، فَنَسَخَهَا اللَّهُ تَعَالَى
وَأَنْزَلَ: {لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى
الْمَرْضَى} الْآيَةَ. ثُمَّ أَنْزَلَ فِي الْمُتَخَلِّفِينَ
عَنْ غَزْوَةِ تَبُوكَ مِنَ الْمُنَافِقِينَ قَوْلَهُ
تَعَالَى: {لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا} الْآيَةَ. وَقَوْلَهُ
تَعَالَى: {لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا
خَبَالًا} وَذَلِكَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا خَرَجَ ضَرَبَ عَسْكَرَهُ عَلَى
ثَنِيَّةِ الْوَدَاعِ، وَضَرَبَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ
عَسْكَرَهُ عَلَى ذِي جُدَّةَ أَسْفَلَ مِنْ ثَنِيَّةِ
الْوَدَاعِ، وَلَمْ يَكُنْ بِأَقَلِّ الْعَسْكَرَيْنِ،
فَلَمَّا سَارَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - تَخَلَّفَ عَنْهُ عَبْدُ اللَّهِ بن أُبيّ بمن
تَخَلَّفَ مِنَ الْمُنَافِقِينَ وَأَهْلِ الرَّيْبِ،
فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى يُعَزِّي نَبِيَّهُ: {لَوْ
خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا} الْآيَةَ.
(1) - قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ
لِي} الْآيَةَ {49} .
نَزَلَتْ فِي جَدِّ بْنِ قَيْسٍ الْمُنَافِقِ، وَذَلِكَ أَنَّ
رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا
تَجَهَّزَ لِغَزْوَةِ تَبُوكَ قَالَ لَهُ: "يَا أَبَا
_________
(1) - أخرج الطبراني معناه (المعجم الكبير: 12/122 - ح: 12654)
من طريق الضحاك عن ابن عباس، وإسناده ضعيف، ومنقطع (مجمع
الزوائد: 7/30) (حاشية المعجم الكبير: 12/122) ويشهد له:
* ما أخرجه ابن جرير (10/104) من طريق ابن جريج عن ابن عباس
نحوه، وإسناده كسابقه ضعيف، ومنقطع.
* ما أخرجه الطبراني (المعجم الكبير: 11/63 - ح: 11052) عن ابن
عباس رضي الله عنهما نحوه دون ذكر الاسم، وضعفه الهيثمي (مجمع
الزوائد: 7/30) بسبب: إبراهيم بن عثمان العبسي، قلت: هو متروك
(تقريب التهذيب: 1/39 - رقم: 241) .
(1/247)
وَهْبٍ هَلْ لَكَ فِي جِلَادِ بَنِي
الْأَصْفَرِ تَتَّخِذُ مِنْهُمْ سَرَارِيَّ وَوُصَفَاءَ؟ "
فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ لَقَدْ عَرَفَ قَوْمِي أَنِّي
رَجُلٌ مُغْرَمٌ بِالنِّسَاءِ، وَإِنِّي أَخْشَى إِنْ رَأَيْتُ
بَنَاتِ بَنِي الْأَصْفَرِ أَنْ لا أصبر عنهم فَلَا تَفْتِنِّي
بِهِمْ وَائْذَنْ لِي فِي الْقُعُودِ عَنْكَ وَأُعِينُكَ
بِمَالِي، فَأَعْرَضَ عَنْهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَالَ: "قَدْ أَذِنْتُ لَكَ"،
فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ. فَلَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ
الْآيَةُ قَالَ: رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - لَبَنِي سَلِمَةَ - وَكَانَ الْجَدُّ مِنْهُمْ -:
"مَنْ سَيِّدُكُمْ يَا بَنِي سَلِمَةَ؟ " قَالُوا: الْجَدُّ
بْنُ قَيْسٍ غَيْرَ أَنَّهُ بَخِيلٌ جَبَانٌ. فَقَالَ
النَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - "وَأَيُّ
دَاءٍ أَدْوَى مِنَ الْبُخْلِ، بَلْ سَيِّدُكُمُ الْأَبْيَضُ
الْفَتَى الْجَعْدُ: بِشْرُ بْنُ الْبَرَاءِ بْنِ مَعْرُورٍ"،
فَقَالَ فِيهِ حَسَّانُ بْنُ ثَابِتٍ:
وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ وَالْحَقُّ لَاحِقٌ ... بِمَنْ قَالَ
مِنَّا مَنْ تَعُدُّونَ سَيِّدَا
فَقُلْنَا لَهُ: جَدُّ بْنُ قَيْسٍ عَلَى الَّذِي ...
نُبَخِّلُهُ فِينَا وَإِنْ كَانَ أَنْكَدَا
فَقَالَ وَأَيُّ الدَّاءِ أَدْوَى مِنَ الَّذِي ... رَمَيْتُمْ
بِهِ جَدًّا وعالى بها بدا
وَسَوَّدَ بِشْرَ بْنَ الْبَرَاءِ بِجُودِهِ ... وَحُقَّ
لِبِشْرٍ ذِي النَّدَا أَنْ يُسَوَّدَا
إِذَا مَا أَتَاهُ الْوَفْدُ أَنْهَبَ مَالَهُ ... وَقَالَ:
خُذُوهُ إِنَّهُ عَائِدٌ غَدَا
وَمَا بَعْدَ هَذِهِ الْآيَةِ كُلِّهَا لِلْمُنَافِقِينَ إِلَى
قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ}
الْآيَةَ.
(1) - قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي
الصَّدَقَاتِ} الْآيَةَ {58} .
أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ
الثَّعْلَبِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ حَامِدٍ
قَالَ: أَخْبَرَنَا
أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ الْحَافِظُ قَالَ:
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ
الرَّزَّاقِ قَالَ: حَدَّثَنَا مَعْمَرٌ عَنِ الزُّهْرِيِّ،
عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ،
_________
(1) - أخرجه البخاري (فتح الباري: 12/290 - ح: 6933) ومسلم
(2/744 - ح: 1064 "184") والإمام أحمد (الفتح الرباني: 18/160
- ح: 294) وابن جرير (10/109) والنسائي وابن المنذر وابن أبي
حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه (فتح القدير: 2/373) من طريق
الزهري عن أبي سلمة به.
(1/248)
عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ:
بَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
يَقْسِمُ قَسْمًا إِذْ جَاءَهُ ابْنُ ذِي الْخُوَيْصِرَةِ
التَّمِيمِيُّ وَهُوَ حَرْقُوصُ بْنُ زُهَيْرٍ أَصْلُ
الْخَوَارِجِ، فَقَالَ اعْدِلْ فِينَا يَا رَسُولَ اللَّهِ،
فَقَالَ: "وَيْلَكَ، وَمَنْ يَعْدِلُ إِذَا لَمْ أَعْدِلْ؟ "
فَنَزَلَتْ: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ}
الْآيَةَ. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
مُحَمَّدٍ، عَنْ هِشَامٍ، عَنْ مَعْمَرٍ.
وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: نَزَلَتْ فِي الْمُؤَلَّفَةِ
قُلُوبُهُمْ وَهُمُ الْمُنَافِقُونَ، قَالَ رَجُلٌ مِنْهُمْ
يُقَالُ لَهُ أَبُو الْجَوَّاظِ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ تَقْسِمْ بِالسَّوِيَّةِ،
فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي
الصَّدَقَاتِ} .
قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ
النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ} الْآيَةَ. نَزَلَتْ فِي
جَمَاعَةٍ مِنَ الْمُنَافِقِينَ كَانُوا يُؤْذُونَ الرَّسُولَ
وَيَقُولُونَ فِيهِ مَا لَا يَنْبَغِي، قَالَ بَعْضُهُمْ: لَا
تَفْعَلُوا فَإِنَّا نَخَافُ أَنْ يَبْلُغَهُ مَا تَقُولُونَ
فَيَقَعَ بِنَا: فَقَالَ الْجُلَاسُ بْنُ سُوَيْدٍ نَقُولُ مَا
شِئْنَا ثُمَّ نَأْتِيهِ فَيُصَدِّقُنَا بِمَا نَقُولُ،
فَإِنَّمَا مُحَمَّدٌ أُذُنٌ سَامِعَةٌ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ
تَعَالَى هَذِهِ الْآيَةَ.
(1) - وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ يَسَارٍ
وَغَيْرُهُ، نَزَلَتْ فِي رَجُلٍ مِنَ الْمُنَافِقِينَ يُقَالُ
لَهُ نَبْتَلُ بْنُ الْحَارِثِ، وَكَانَ رَجُلًا أَدْلَمَ
أَحْمَرَ الْعَيْنَيْنِ أَسْفَعَ الْخَدَّيْنِ مُشَوَّهَ
الْخِلْقَةِ، وَهُوَ الَّذِي قَالَ فِيهِ النَّبِيُّ - صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - "مَنْ أَرَادَ أَنْ يَنْظُرَ
الشَّيْطَانَ فَلْيَنْظُرْ إِلَى نَبْتَلِ بْنِ الْحَارِثِ"،
وكان ينم حديث النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
إِلَى الْمُنَافِقِينَ، فَقِيلَ لَهُ: لَا تَفْعَلْ، فَقَالَ:
إِنَّمَا مُحَمَّدٌ أُذُنٌ، مَنْ حَدَّثَهُ شَيْئًا صَدَّقَهُ.
نَقُولُ مَا شِئْنَا، ثُمَّ نَأْتِيهِ فَنَحْلِفُ لَهُ
فَيُصَدِّقُنَا. فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْآيَةَ.
وَقَالَ السُّدِّيُّ: اجْتَمَعَ نَاسٌ مِنَ الْمُنَافِقِينَ
فِيهِمْ جُلَاسُ بْنُ سُوَيْدِ بْنِ الصَّامِتِ وَوَدِيعَةُ
بْنُ ثَابِتٍ فَأَرَادُوا أَنْ يَقَعُوا فِي النَّبِيِّ -
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَعِنْدَهُمْ غُلَامٌ مِنَ
_________
(1) - أخرجه ابن المنذر وابن أبي حاتم (فتح القدير: 2/377) من
طريق ابن إسحاق بسنده عن ابن عباس رضي الله عنهما به، وإسناده
حسن.
(1/249)
الْأَنْصَارِ يُدْعَى: عَامِرَ بْنَ قَيْسٍ
فَحَقَّرُوهُ، فَتَكَلَّمُوا وَقَالُوا: وَاللَّهِ لَئِنْ
كَانَ مَا يَقُولُ مُحَمَّدٌ حَقًّا لَنَحْنُ شَرٌّ مِنَ
الْحَمِيرِ. فَغَضِبَ الْغُلَامُ وَقَالَ: وَاللَّهِ إِنَّ مَا
يَقُولُ مُحَمَّدٌ حَقٌّ وَإِنَّكُمْ لَشَرٌّ مِنَ الْحَمِيرِ،
ثُمَّ أَتَى النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
فَأَخْبَرَهُ، فَدَعَاهُمْ فَسَأَلَهُمْ، فَحَلَفُوا أَنَّ
عَامِرًا كَاذِبٌ وَحَلَفَ عَامِرٌ أَنَّهُمْ كَذَبَةٌ،
وَقَالَ: اللَّهُمَّ لَا تُفَرِّقْ بَيْنَنَا حَتَّى تُبَيِّنَ
صِدْقَ الصَّادِقِ مِنْ كَذِبِ الْكَاذِبِ، فَنَزَلَتْ
فِيهِمْ: {وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ}
وَنَزَلَ قَوْلُهُ: {يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ
لِيُرْضُوكُمْ}
قَوْلُهُ تَعَالَى: {يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ
عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ} الْآيَةَ {64} .
قَالَ السُّدِّيُّ: قَالَ بَعْضُ الْمُنَافِقِينَ: وَاللَّهِ
لَوَدِدْتُ أَنِّي قُدِّمْتُ فَجُلِدْتُ مِائَةً وَلَا
يَنْزِلُ فِينَا شَيْءٌ يَفْضَحُنَا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ
هَذِهِ الْآيَةَ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: كَانُوا يَقُولُونَ
الْقَوْلَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَقُولُونَ: عَسَى اللَّهُ أَنْ
لَا يُفْشِيَ عَلَيْنَا سِرَّنَا.
قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ
إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ} {65} .
قَالَ قَتَادَةُ: بَيْنَمَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ وَبَيْنَ يَدَيْهِ
نَاسٌ مِنَ الْمُنَافِقِينَ إِذْ قَالُوا: يَرْجُو هَذَا
الرَّجُلُ أَنْ يَفْتَحَ قُصُورَ الشَّامِ وَحُصُونَهَا!
هَيْهَاتَ لَهُ ذَلِكَ، فَأَطْلَعَ اللَّهُ نَبِيَّهُ عَلَى
ذَلِكَ، فَقَالَ نَبِيُّ اللَّهِ: "احْبِسُوا عَلَيَّ
الرَّكْبَ" فَأَتَاهُمْ فَقَالَ: "قُلْتُمْ كَذَا وَكَذَا؟ "
فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ
وَنَلْعَبُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْآيَةَ.
(1) - وقال زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ ومحمد بن وهب: قَالَ رَجُلٌ
مِنَ الْمُنَافِقِينَ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ: مَا
رَأَيْتُ مِثْلَ قُرَّائِنَا هَؤُلَاءِ أَرْغَبَ بُطُونًا
وَلَا أَكْذَبَ أَلْسُنًا وَلَا أَجْبَنَ عِنْدَ اللِّقَاءِ،
يَعْنِي رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
وَأَصْحَابَهُ، فَقَالَ عَوْفُ بْنُ مَالِكٍ: كَذَبْتَ
_________
(1) - أخرجه ابن جرير (10/119) وابن أبي حاتم وابن مردويه وأبو
الشيخ (فتح القدير: 2/378) من طريق هشام بن سعد عن زيد بن أسلم
عن ابن عمر رضي الله عنهما به موصولاً بالرواية الآتية.
وإسناده جيّد، وهشام بن سعد وإن كان في حفظه شيء، إلا أنه أثبت
الناس في روايته عن زيد بن أسلم (تهذيب التهذيب: 11/40) (ميزان
الاعتدال: 4/299) .
(1/250)
وَلَكِنَّكَ مُنَافِقٌ لَأُخْبِرَنَّ
رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
فَذَهَبَ عَوْفٌ لِيُخْبِرَهُ، فَوَجَدَ الْقُرْآنَ قَدْ
سَبَقَهُ، فَجَاءَ ذَلِكَ الرَّجُلُ إِلَى رَسُولِ - صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَدِ ارْتَحَلَ وَرَكِبَ
نَاقَتَهُ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّمَا كُنَّا
نَخُوضُ وَنَلْعَبُ وَنَتَحَدَّثُ بِحَدِيثِ الرَّكْبِ
نَقْطَعُ بِهِ عَنَّا الطَّرِيقَ.
أَخْبَرَنَا أَبُو نَصْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ
عَبْدِ اللَّهِ الْجَوْزَقِيُّ، أَخْبَرَنَا بِشْرُ بْنُ
أَحْمَدَ بْنِ بِشْرٍ، حَدَّثَنَا أَبُو جَعْفَرٍ مُحَمَّدُ
بْنُ مُوسَى الْحُلْوَانِيُّ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ
مَيْمُونٍ الْخَيَّاطُ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ دَاوُدَ
الْمِهْرَجَانِيُّ، حَدَّثَنَا مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ، عَنْ
نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: رَأَيْتُ عَبْدَ اللَّهِ
بْنَ أَبِي يَسِيرٍ قُدَّامَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالْحِجَارَةُ تَنْكُبُهُ وَهُوَ
يَقُولُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ
وَنَلْعَبُ، وَالنَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
يَقُولُ: {أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ
تَسْتَهْزِئُونَ} ؟.
قَوْلُهُ تَعَالَى: {يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا}
الْآيَةَ {74} .
قَالَ الضَّحَّاكُ: خَرَجَ الْمُنَافِقُونَ مَعَ رَسُولِ
اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَى تَبُوكَ،
وَكَانُوا إِذَا خَلَا بَعْضُهُمْ بِبَعْضٍ سَبُّوا رَسُولَ
اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَصْحَابَهُ
وَطَعَنُوا فِي الدِّينِ، فَنَقَلَ مَا قَالُوا حُذَيْفَةُ
إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - "يَا أَهْلَ النِّفَاقِ مَا هَذَا الَّذِي
بَلَغَنِي عَنْكُمْ"؟ فَحَلَفُوا مَا قَالُوا شَيْئًا مِنْ
ذَلِكَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْآيَةَ
إِكْذَابًا لَهُمْ.
وَقَالَ قَتَادَةُ: ذُكِرَ لَنَا أَنَّ رَجُلَيْنِ اقْتَتَلَا،
رَجُلًا مِنْ جُهَيْنَةَ وَرَجُلًا مِنْ غِفَارٍ، فَظَهَرَ
الْغِفَارِيُّ عَلَى الْجُهَيْنِيِّ، فَنَادَى عَبْدُ اللَّهِ
بْنُ أُبَيٍّ: يَا بَنِي الْأَوْسِ انْصُرُوا أَخَاكُمْ،
فَوَاللَّهِ مَا مَثَلُنَا وَمَثَلُ مُحَمَّدٍ إِلَّا كَمَا
قَالَ الْقَائِلُ: سَمِّنْ كَلْبَكَ يَأْكُلْكَ، فَوَاللَّهِ
لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ
مِنْهَا الْأَذَلَّ، فَسَمِعَ بِهَا رَجُلٌ مِنَ
الْمُسْلِمِينَ، فَجَاءَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَخْبَرَهُ، فَأَرْسَلَ
إِلَيْهِ، فَجَعَلَ يَحْلِفُ بِاللَّهِ مَا قَالَ، وَأَنْزَلَ
اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْآيَةَ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا} {74} .
قَالَ الضَّحَّاكُ: هَمُّوا أَنْ يَدْفَعُوا النَّبِيَّ -
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَيْلَةَ الْعَقَبَةِ
وَكَانُوا قَوْمًا قَدْ أَجْمَعُوا عَلَى أَنْ يَقْتُلُوا
رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُمْ
(1/251)
مَعَهُ، يَلْتَمِسُونَ غِرَّتَهُ حَتَّى
أَخَذَ فِي عَقَبَةٍ، فَتَقَدَّمَ بَعْضُهُمْ وَتَأَخَّرَ
بَعْضُهُمْ وَذَلِكَ كَانَ لَيْلًا قَالُوا: إِذَا أَخَذَ فِي
الْعَقَبَةِ دَفَعْنَاهُ عَنْ رَاحِلَتِهِ فِي الْوَادِي،
وَكَانَ قَائِدُهُ فِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ عَمَّارَ بْنَ
يَاسِرٍ وَسَائِقُهُ حُذَيْفَةَ فَسَمِعَ حُذَيْفَةُ وَقْعَ
أَخْفَافِ الْإِبِلِ، فَالْتَفَتَ فَإِذَا هُوَ بِقَوْمٍ
مُتَلَثِّمِينَ، فَقَالَ: إِلَيْكُمْ إِلَيْكُمْ يَا أَعْدَاءَ
اللَّهِ؛ فَأَمْسَكُوا، وَمَضَى النَّبِيُّ عَلَيْهِ
الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ حَتَّى نَزَلَ مَنْزِلَهُ الَّذِي
أَرَادَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى قَوْلَهُ: {وَهَمُّوا
بِمَا لَمْ يَنَالُوا}
(1) - قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ}
الْآيَةَ {75} .
أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ
الْفَضْلِ، حَدَّثَنَا أَبُو عَمْرٍو مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرِ
بْنِ مَطَرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عِمْرَانَ مُوسَى بن سهل
الحوني قَالَ: حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ عَمَّارٍ قَالَ:
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ شُعَيْبٍ قَالَ: حَدَّثَنَا مُعَاذُ
بن رفاعة السلمي عَنْ أَبِي عَبْدِ الْمَلِكِ عَلِيِّ بْنِ
يَزِيدَ أَنَّهُ أَخْبَرَهُ عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ عَبْدِ
الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ الْبَاهِلِيِّ: أَنَّ
ثَعْلَبَةَ بْنَ حَاطِبٍ الْأَنْصَارِيَّ أَتَى رَسُولَ
اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: يَا
رَسُولَ اللَّهِ ادْعُ اللَّهَ أَنْ يَرْزُقَنِي مَالًا،
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
"وَيْحَكَ يَا ثَعْلَبَةُ قَلِيلٌ تُؤَدِّي شُكْرَهُ خَيْرٌ
مِنْ كَثِيرٍ لَا تُطِيقُهُ"، ثُمَّ قَالَ مَرَّةً أُخْرَى:
"أَمَا تَرْضَى أَنْ تَكُونَ مِثْلَ نَبِيِّ اللَّهِ،
فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ شِئْتُ أَنْ تَسِيلَ مَعِيَ
الْجِبَالُ فِضَّةً وَذَهَبًا
لَسَالَتْ". فَقَالَ: وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ نَبِيًّا
لَئِنْ دَعَوْتَ اللَّهَ أَنْ يَرْزُقَنِي مَالًا لَأُوتِيَنَّ
كُلَّ ذِي حَقٍّ
_________
(1) - أخرجه ابن جرير (10/130) وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو
الشيخ والعسكري وابن منده والبارودي وأبو نعيم وابن مردويه
وابن عساكر (فتح القدير: 2/385) والبيهقي في "الدلائل" (5/289
- 292) والطبراني (المعجم الكبير: 8/260 - ح: 7873) من طريق
علي بن يزيد به. وضعفه الهيثمي (مجمع الزوائد: 7/32) بسبب علي
بن يزيد، وهو كما قال وضعفه القرطبي كذلك (الجامع لأحكام
القرآن: 8/210) ، ويشهد له:
* ما أخرجه ابن جرير (10/130) وابن أبي حاتم وابن مردويه (فتح
القدير: 2/386) والبيهقي في "الدلائل" (2/289) من طريق العوفي
عن ابن عباس نحوه مختصرًا وإسناده ضعيف.
(1/252)
حَقَّهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - "اللَّهُمَّ ارْزُقْ ثَعْلَبَةَ
مَالًا"، فَاتَّخَذَ غَنَمًا فَنَمَتْ كَمَا يَنْمُو الدُّودُ،
فَضَاقَتْ عَلَيْهِ الْمَدِينَةُ فَتَنَحَّى عَنْهَا، فَنَزَلَ
وَادِيًا مِنْ أَوْدِيَتِهَا حَتَّى جَعَلَ يُصَلِّي الظُّهْرَ
وَالْعَصْرَ فِي جَمَاعَةٍ وَيَتْرُكُ مَا سِوَاهُمَا، ثُمَّ
نَمَتْ وَكَثُرَتْ حَتَّى ترك الصلاة إلى الْجُمُعَةَ، وَهِيَ
تَنْمُو كَمَا يَنْمُو الدُّودُ حَتَّى تَرَكَ الْجُمُعَةَ،
فَسَأَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
فَقَالَ: "مَا فَعَلَ ثَعْلَبَةُ؟ " فَقَالُوا: اتَّخَذَ
غَنَمًا وَضَاقَتْ عَلَيْهِ الْمَدِينَةُ وَأَخْبَرُوهُ
بِخَبَرِهِ، فَقَالَ: "يَا وَيْحَ ثَعْلَبَةَ" ثَلَاثًا،
وَأَنْزَلَ اللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ - {خُذْ مِنْ
أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا}
وَأَنْزَلَ فَرَائِضَ الصَّدَقَةِ، فَبَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ -
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَجُلَيْنِ عَلَى
الصَّدَقَةِ رَجُلًا مِنْ جُهَيْنَةَ وَرَجُلًا مِنْ بَنِي
سُلَيْمٍ، وَكَتَبَ لَهُمَا كَيْفَ يَأْخُذَانِ الصَّدَقَةَ،
وَقَالَ لَهُمَا: مُرَّا بِثَعْلَبَةَ وَبِفُلَانٍ رَجُلٍ مِنْ
بَنِي سُلَيْمٍ، فَخُذَا صَدَقَاتِهِمَا، فَخَرَجَا حَتَّى
أَتَيَا ثَعْلَبَةَ فَسَأَلَاهُ الصَّدَقَةَ وَأَقْرَآهُ
كِتَابَ رَسُولِ اللَّهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ،
فَقَالَ: مَا هَذِهِ إِلَّا جِزْيَةٌ، مَا هَذِهِ إِلَّا
أُخْتُ الْجِزْيَةِ، مَا أَدْرِي مَا هَذَا؟ انْطَلِقَا حَتَّى
تَفْرَغَا ثُمَّ تَعُودَا إِلَيَّ، فَانْطَلَقَا وَأَخْبَرَا
السُّلَمِيَّ، فَنَظَرَ إِلَى خِيَارِ أَسْنَانِ إِبِلِهِ
فَعَزَلَهَا لِلصَّدَقَةِ ثُمَّ اسْتَقْبَلَهُمْ بِهَا،
فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوا: مَا يَجِبُ هَذَا عَلَيْكَ وَمَا
نُرِيدُ أَنْ نَأْخُذَهُ مِنْكَ، قَالَ: بَلَى خُذُوهُ فَإِنَّ
نَفْسِي بِذَلِكَ طَيِّبَةٌ، وَإِنَّمَا هِيَ إِبِلِي.
فَأَخَذُوهَا مِنْهُ، فَلَمَّا فَرَغَا مِنْ صَدَقَتِهَا
رَجَعَا حَتَّى مَرَّا بِثَعْلَبَةَ، فَقَالَ: أَرُونِي
كِتَابَكُمَا حَتَّى أَنْظُرَ فِيهِ، فَقَالَ: مَا هَذِهِ
إِلَّا أُخْتُ الْجِزْيَةِ انْطَلِقَا حَتَّى أَرَى رَأْيِي،
فَانْطَلَقَا حَتَّى أَتَيَا النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ
وَالسَّلَامُ، فَلَمَّا رَآهُمَا قَالَ: "يَا وَيْحَ
ثَعْلَبَةَ" قَبْلَ أَنْ يُكَلِّمَهُمَا، وَدَعَا
لِلسُّلَمِيِّ بِالْبَرَكَةِ، فَأَخْبَرُوهُ بِالَّذِي صَنَعَ
ثَعْلَبَةُ وَالَّذِي صَنَعَ السُّلَمِيُّ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ
- عَزَّ وَجَلَّ - {وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ
آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ} إِلَى قَوْلِهِ
تَعَالَى: {بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ} وَعِنْدَ رَسُولِ
اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَجُلٌ مِنْ
أَقَارِبِ ثَعْلَبَةَ، فَسَمِعَ ذَلِكَ، فَخَرَجَ حَتَّى أَتَى
ثَعْلَبَةَ فَقَالَ: وَيْحَكَ يَا ثَعْلَبَةُ قَدْ أَنْزَلَ
اللَّهُ فِيكَ
كَذَا وَكَذَا، فَخَرَجَ ثَعْلَبَةُ حَتَّى أَتَى النبيّ عليه
الصلاة والسلام فَسَأَلَهُ أَنْ يَقْبَلَ مِنْهُ صَدَقَتَهُ
فَقَالَ: "إِنَّ اللَّهَ قَدْ مَنَعَنِي أَنْ أَقْبَلَ مِنْكَ
صَدَقَتَكَ"، فَجَعَلَ يَحْثُو التُّرَابَ عَلَى رَأْسِهِ،
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
"هَذَا عَمَلُكَ، قَدْ أَمَرْتُكَ فَلَمْ تُطِعْنِي"، فَلَمَّا
(1/253)
أَبَى أَنْ يَقْبَلَ مِنْهُ شَيْئًا رَجَعَ
إِلَى مَنْزِلِهِ، وَقُبِضَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَمْ يَقْبَلْ مِنْهُ شَيْئًا، ثُمَّ
أَتَى أَبَا بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - حِينَ
اسْتُخْلِفَ، فَقَالَ: قَدْ عَلِمْتَ مَنْزِلَتِي مِنْ رَسُولِ
اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَمَوْضِعِي مِنَ
الْأَنْصَارِ فَاقْبَلْ صَدَقَتِي، فَقَالَ: لَمْ يَقْبَلْهَا
رَسُولُ اللَّهِ وَأَنَا أَقْبَلُهَا؟ فَقُبِضَ أَبُو بَكْرٍ
وَأَبَى أَنْ يَقْبَلَهَا، فَلَمَّا وَلِيَ عُمَرُ بْنُ
الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَتَاهُ فَقَالَ: يَا
أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ اقْبَلْ صَدَقَتِي، فَقَالَ: لَمْ
يَقْبَلْهَا رَسُولُ اللَّهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ
وَلَا أَبُو بَكْرٍ أَنَا أَقْبَلُهَا مِنْكَ؟ فَلَمْ
يَقْبَلْهَا، وَقُبِضَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ثُمَّ
وَلِيَ عُثْمَانُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَأَتَاهُ
فَسَأَلَهُ أَنْ يَقْبَلَ صَدَقَتَهُ فَقَالَ: رَسُولُ اللَّهِ
- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَقْبَلْهَا وَلَا
أَبُو بَكْرٍ وَلَا عُمَرُ وَأَنَا أَقْبَلُهَا مِنْكَ؟ فَلَمْ
يَقْبَلْهَا عُثْمَانُ، فَهَلَكَ ثَعْلَبَةُ فِي خِلَافَةِ
عُثْمَانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -.
(1) - قَوْلُهُ تَعَالَى: {الَّذِينَ يَلْمِزُونَ
الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ}
الْآيَةَ {79} .
أَخْبَرَنَا سَعِيدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ
جَعْفَرٍ، أَخْبَرَنَا أَبُو عَلِيٍّ الْفَقِيهُ، أَخْبَرَنَا
أَبُو عَلِيٍّ مُحَمَّدُ بْنُ سُلَيْمَانَ الْمَالِكِيُّ
قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو مُوسَى مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى،
حَدَّثَنَا أَبُو النُّعْمَانِ الْحَكَمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ
الْعِجْلِيُّ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ سُلَيْمَانَ، عَنْ
أَبِي وَائِلٍ، عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ
آيَةُ الصَّدَقَةِ كُنَّا نُحَامِلُ، فَجَاءَ رَجُلٌ
فَتَصَدَّقَ بِشَيْءٍ كَثِيرٍ فَقَالُوا: مُرَائِي، وجاء
رَجُلٌ فَتَصَدَّقَ بِصَاعٍ، فَقَالُوا: إِنَّ اللَّهَ
لَغَنِيٌّ عَنْ صَاعِ هَذَا، فَنَزَلَتْ: {الَّذِينَ
يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ
الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ
إِلَّا جُهْدَهُمْ} رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ أَبِي
قُدَامَةَ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ أَبِي
النُّعْمَانِ.
_________
(1) - أخرجه البخاري (فتح الباري: 3/282 - ح: 1415) ومسلم
(2/706 - ح: 1018) والنسائي (جامع الأصول: 2/165) وابن جرير
(10/136) والطبراني (المعجم الكبير: 17/200 - ح: 535) من طريق
أبي وائل عن أبي مسعود رضي الله عنه به، ويشهد له:
1 - ما أخرجه ابن مردويه (لباب النقول: 121) عن أبي هريرة وأبي
عقيل وأبي سعيد الخدري وابن عباس وعميرة بنت سهيل بن رافع
بمعناه.
الرواية الآتية:.
(1/254)
(1) - وَقَالَ قَتَادَةُ وَغَيْرُهُ: حَثَّ
رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى
الصَّدَقَةِ، فَجَاءَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ
بِأَرْبَعَةِ آلَافِ دِرْهَمٍ وَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ
مَالِي ثَمَانِيَةُ آلَافٍ جِئْتُكَ بِنِصْفِهَا فَاجْعَلْهَا
فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَأَمْسَكْتُ نِصْفَهَا لِعِيَالِي،
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
"بَارَكَ اللَّهُ لَكَ فِيمَا أَعْطَيْتَ وَفِيمَا
أَمْسَكْتَ"، فَبَارَكَ اللَّهُ فِي مَالِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ
حَتَّى أَنَّهُ خَلَّفَ امْرَأَتَيْنِ يَوْمَ مَاتَ، فَبَلَغَ
ثُمُنُ مَالِهِ لَهُمَا مِائَةً وَسِتِّينَ أَلْفَ دِرْهَمٍ،
وَتَصَدَّقَ يَوْمَئِذٍ عَاصِمُ بْنُ عَدِيِّ بْنِ
الْعَجْلَانِ بِمِائَةِ وَسْقٍ مِنْ تَمْرٍ، "وَجَاءَ أَبُو
عُقَيْلٍ الْأَنْصَارِيُّ بِصَاعٍ مِنْ تَمْرٍ وَقَالَ: يَا
رَسُولَ اللَّهِ بِتُّ لَيْلَتِي أَجُرُّ بِالْجَرِيرِ
الْمَاءَ حَتَّى نِلْتُ صَاعَيْنِ مِنْ تَمْرٍ، فَأَمْسَكْتُ
أَحَدَهُمَا لِأَهْلِي وَأَتَيْتُكَ بِالْآخَرِ، فَأَمَرَهُ
رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ
يَنْثُرَهُ فِي الصَّدَقَاتِ، فَلَمَزَهُمُ الْمُنَافِقُونَ
وَقَالُوا: مَا أَعْطَى عَبْدُ الرَّحْمَنِ وَعَاصِمٌ إِلَّا
رِيَاءً، وَإِنْ كَانَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ غَنِيَّيْنِ عَنْ
صَاعِ أَبِي عُقَيْلٍ، وَلَكِنَّهُ أَحَبَّ أَنْ يَذْكُرَ
نَفْسَهُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْآيَةَ.
(2) - قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ
مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا} {84} .
حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ
أَحْمَدَ الْوَاعِظُ إِمْلَاءً، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ
بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ نَصْرٍ، أَخْبَرَنَا يُوسُفُ بْنُ عَاصِمٍ
الرَّازِيُّ، حَدَّثَنَا الْعَبَّاسُ بْنُ الْوَلِيدِ
النَّرْسِيُّ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ
سَعِيدٍ الْقَطَّانُ، حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ
عُمَرَ، عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ
_________
(1) - أخرجه ابن جرير (10/135) عن قتادة مختصرًا جدًّا،
وإسناده صحيح، ويشهد له:
1 - ما أخرجه ابن جرير (10/134) عن ابن عباس نحوه، وإسناده
صحيح.
ما أخرجه ابن جرير (10/135) عن عبد الرحمن بن عوف نحوه،
وإسناده صحيح.
(2) - أخرجه البخاري (فتح الباري: 8/333 - ح: 4670) ومسلم
(4/1865 - ح: 2400) والإمام أحمد (الفتح الرباني: 18/63 - ح:
297) والنسائي (جامع الأصول: 2/167) وابن ماجه (1/487 - ح:
1523) وابن جرير (10/141) وابن أبي حاتم (فتح الباري: 8/336)
والبيهقي في الدلائل (5/287) كلهم من طريق عبيد الله بن عمرعن
نافع به، ويشهد له:
الرواية الآتية:.
(1/255)
قَالَ: لَمَّا تُوُفِّيَ عَبْدُ اللَّهِ
بْنُ أُبَيٍّ جَاءَ ابْنُهُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَوَاتُ
اللَّهِ عَلَيْهِ وَقَالَ: أَعْطِنِي قَمِيصَكَ حَتَّى
أُكَفِّنَهُ فِيهِ وأصلي عَلَيْهِ وَاسْتَغْفِرْ لَهُ،
فَأَعْطَاهُ قَمِيصَهُ ثُمَّ قَالَ: "آذِنِّي حَتَّى أُصَلِّيَ
عَلَيْهِ"، فَآذَنَهُ، فَلَمَّا أَرَادَ أَنْ يُصَلِّيَ
عَلَيْهِ جَذَبَهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ وَقَالَ: أَلَيْسَ
قَدْ نَهَاكَ اللَّهُ أَنْ تُصَلِّيَ عَلَى الْمُنَافِقِينَ؟
فَقَالَ: "أَنَا بَيْنَ خِيرَتَيْنِ: أَسْتَغْفِرُ لَهُمْ أَوْ
لَا أَسْتَغْفِرُ". ثُمَّ نَزَلَتْ عَلَيْهِ هَذِهِ الْآيَةُ:
{وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا
تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ} فَتَرَكَ الصَّلَاةَ عَلَيْهِمْ.
رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ مُسَدَّدٍ، وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ
عَنْ أَبِي قُدَامَةَ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ سَعِيدٍ
كِلَاهُمَا عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ.
(1) - أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ
النَّصْرَابَاذِيُّ أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ مَالِكٍ
الْقَطِيعِيُّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ
حَنْبَلٍ حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ
إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ حَدَّثَنِي أَبِي عَنْ مُحَمَّدِ
بْنِ إِسْحَاقَ، حَدَّثَنِي الزُّهْرِيُّ، عَنْ عُبَيْدِ
اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ مَسْعُودٍ،
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: سَمِعْتُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ
- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يَقُولُ: لَمَّا تُوُفِّيَ عَبْدُ
اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ دُعِيَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِلصَّلَاةِ عَلَيْهِ، فَقَامَ إِلَيْهِ،
فَلَمَّا وَقَفَ عَلَيْهِ يُرِيدُ الصَّلَاةَ عَلَيْهِ
تَحَوَّلْتُ حَتَّى قُمْتُ فِي صَدْرِهِ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ
اللَّهِ أَعَلَى عَدُوِّ اللَّهِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ
الْقَائِلِ يَوْمَ كَذَا: وكذا وَكَذَا؟ أُعَدِّدُ أَيَّامَهُ،
وَرَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
يَبْتَسِمُ، حَتَّى إِذَا أَكْثَرْتُ عَلَيْهِ قَالَ:
_________
(1) - أخرجه البخاري (فتح الباري: 8/333 - ح: 4671) والإمام
أحمد (الفتح الرباني: 18/162 - ح: 296) والترمذي (5/279 - ح:
3097) والطبراني (المعجم الكبير: 11/438 - ح: 12244) وابن جرير
(10/142) وعبد بن حميد (فتح الباري: 8/335) والنسائي وابن أبي
حاتم وابن حبان وابن مردويه وأبو نعيم (فتح القدير: 2/389) من
طريق عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود به، ويشهد لهما:
1 - ما أخرجه ابن جرير (10/141) وابن ماجه (1/488 - ح: 1524)
والبزار وابن مردويه (فتح القدير: 2/390) عن جابر رضي الله عنه
نحوه. وإسناده صحيح.
ما أخرجه البيهقي في "الدلائل" (5/288) عن ابن عباس رضي الله
عنهما نحوه، وإسناده صحيح.
(1/256)
"أَخِّرْ عَنِّي يَا عُمَرُ، إِنِّي
خُيِّرْتُ فَاخْتَرْتُ، قَدْ قِيلَ لِي: {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ
أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ
سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ} لَوْ
عَلِمْتُ أَنِّي إِنْ زِدْتُ عَلَى السَّبْعِينَ غُفِرَ لَهُ
لَزِدْتُ" قَالَ: ثُمَّ صَلَّى
- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَمَشَى مَعَهُ، فَقَامَ
عَلَى قَبْرِهِ حَتَّى فُرِغَ مِنْهُ قَالَ: فَعَجِبْتُ لِي
وَجَرَاءَتِي عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ:
فَوَاللَّهِ مَا كَانَ إِلَّا يَسِيرًا حَتَّى نَزَلَ: {وَلَا
تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ
عَلَى قَبْرِهِ} الْآيَةَ. فَمَا صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ -
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَعْدَهُ عَلَى مُنَافِقٍ،
وَلَا قَامَ عَلَى قَبْرِهِ حَتَّى قَبَضَهُ اللَّهُ تَعَالَى.
قَالَ الْمُفَسِّرُونَ. وَكُلِّمَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِيمَا فُعِلَ بِعَبْدِ اللَّهِ
بْنِ أُبَيٍّ فَقَالَ: "وَمَا يُغْنِي عَنْهُ قَمِيصِي
وَصَلَاتِي مِنَ اللَّهِ؟ وَاللَّهِ إِنِّي كُنْتُ أَرْجُو
أَنْ يُسْلِمَ بِهِ أَلْفٌ مِنْ قَوْمِهِ".
قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ
لِتَحْمِلَهُمْ} {92} .
نَزَلَتْ فِي الْبَكَّائِينَ وَكَانُوا سَبْعَةً: مَعْقِلُ
بْنُ يَسَارٍ وَصَخْرُ بْنُ خُنَيْسٍ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ
كعب الأنصاري وعلبة بْنُ زَيْدٍ الْأَنْصَارِيُّ وَسَالِمُ
بْنُ عُمَيْرٍ وَثَعْلَبَةُ بْنُ غَنَمَةَ وَعَبْدُ اللَّهِ
بْنُ مُغَفَّلٍ، أَتَوْا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالُوا: يَا نَبِيَّ اللَّهِ إِنَّ
اللَّهَ - عَزَّ وَجَلَّ - قَدْ نَدَبَنَا لِلْخُرُوجِ مَعَكَ،
فَاحْمِلْنَا عَلَى الْخِفَافِ الْمَرْقُوعَةِ وَالنِّعَالِ
الْمَخْصُوفَةِ نَغْزُو مَعَكَ، فَقَالَ: "لَا أَجِدُ مَا
أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ"، فَتَوَلَّوْا وَهُمْ يَبْكُونَ.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: نَزَلَتْ فِي بَنِي مُقَرِّنٍ: مَعْقِلٍ
وَسُوَيْدٍ وَالنُّعْمَانِ (1)
قَوْلُهُ تَعَالَى: {الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا}
{97} .
نَزَلَتْ فِي أَعَارِيبَ مِنْ أَسَدٍ وَغَطَفَانَ،
وَأَعَارِيبَ مِنْ أَعْرَابِ حَاضِرِي الْمَدِينَةِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ
مُنَافِقُونَ} {101} .
قَالَ الْكَلْبِيُّ: نَزَلَتْ فِي جُهَيْنَةَ وَمُزَيْنَةَ
وَأَشْجَعَ وَأَسْلَمَ وَغِفَارٍ {وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ}
يَعْنِي
_________
(1) وبقيتهم: عبد الله، عبد الرحمن، عقيل، سنان، وليس في
الصحابة سبعة إخوة غيرهم. (تحقيق السيد أحمد صقر لأسباب النزول
للواحدي: 258) نشر دار القبلة.
(1/257)
عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أُبَيٍّ وَجَدَّ بْنَ
قَيْسٍ، وَمُعَتِّبَ بْنَ قُشَيْرٍ وَالْجُلَاسَ بْنَ
سُوَيْدٍ، وَأَبَا عَامِرٍ
الرَّاهِبَ.
(1) - قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا
بِذُنُوبِهِمْ} {102، 103} .
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي رِوَايَةِ الْوَالِبِيِّ: نَزَلَتْ
فِي قَوْمٍ كَانُوا قَدْ تَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ -
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ ثُمَّ
نَدِمُوا عَلَى ذَلِكَ، وَقَالُوا: نَكُونُ فِي الْكِنِّ
وَالظِّلَالِ مَعَ النِّسَاءِ وَرَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَصْحَابُهُ فِي الْجِهَادِ،
وَاللَّهِ لَنُوَثِّقَنَّ أَنْفُسَنَا بِالسَّوَارِي فَلَا
نُطْلِقُهَا حَتَّى يَكُونَ الرَّسُولُ هُوَ الَّذِي
يُطْلِقُنَا وَيَعْذِرُنَا، وَأَوْثَقُوا أَنْفُسَهُمْ
بِسَوَارِي الْمَسْجِدِ، فَلَمَّا رَجَعَ رَسُولُ اللَّهِ -
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَرَّ بِهِمْ فَرَآهُمْ،
فَقَالَ: "مَنْ هَؤُلَاءِ؟ " قَالُوا: هَؤُلَاءِ تَخَلَّفُوا
عَنْكَ، فَعَاهَدُوا اللَّهَ أَنْ لَا يُطْلِقُوا أَنْفُسَهُمْ
حَتَّى تَكُونَ أَنْتَ الَّذِي تُطْلِقُهُمْ وَتَرْضَى
عَنْهُمْ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - "وَأَنَا أُقْسِمُ بِاللَّهِ لَا أُطْلِقُهُمْ
وَلَا أَعْذِرُهُمْ حَتَّى أُومَرَ بإطلاقهم، رغبوا عني
وتخلفوا عَنِ الْغَزْوِ مَعَ الْمُسْلِمِينَ"، فَأَنْزَلَ
اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْآيَةَ، فَلَمَّا نَزَلَتْ أَرْسَلَ
إِلَيْهِمُ النَّبِيُّ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ
وَأَطْلَقَهُمْ وَعَذَرَهُمْ، فَلَمَّا أَطْلَقَهُمْ قَالُوا:
يَا رَسُولَ اللَّهِ هَذِهِ أَمْوَالُنَا الَّتِي خَلَّفَتْنَا
عَنْكَ فَتَصَدَّقْ بِهَا عَنَّا وَطَهِّرْنَا وَاسْتَغْفِرْ
لَنَا، فَقَالَ: "مَا أُمِرْتُ أَنْ آخُذَ مِنْ أَمْوَالِكُمْ
شَيْئًا"، فَأَنْزَلَ اللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ - {خُذْ مِنْ
أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ} الآية. وقال ابن عباس:
كانوا عشرة رهط.
قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ}
الْآيَةَ {106} .
نَزَلَتْ فِي كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ وَمُرَارَةَ بْنِ الرَّبِيعِ
أَحَدِ بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ وَهِلَالِ بْنِ أُمَيَّةَ
مِنْ بَنِي وَاقِفٍ تَخَلَّفُوا عَنْ غَزْوَةِ تَبُوكَ، وَهُمُ
الَّذِينَ ذُكِرُوا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَعَلَى
الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا} الْآيَةَ.
_________
(1) - أخرجه ابن جرير (11/10) والبيهقي فى "الدلائل" (5/272)
من طريق الوالبي عن ابن عباس رضي الله عنهما نحوه، إلى قوله:
"عن الغزو مع المسلمين" وإسناده صحيح ويشهد له:
* ما أخرجه أبو الشيخ وابن منده في "الصحابة" (لباب النقول:
124) عن جابر نحوه، وقوّاه السيوطي (المصدر السابق) .
(1/258)
[260] قوله تعالى: وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا
مَسْجِداً ضِراراً وَكُفْراً وَتَفْرِيقاً بَيْنَ
الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصاداً لِمَنْ حارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ
مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنا إِلَّا الْحُسْنى
وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ لا تَقُمْ فِيهِ
أَبَداً..... [107، 108] .
قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: إِنَّ بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ
اتَّخَذُوا مَسْجِدَ قُبَاءَ وَبَعَثُوا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ
- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يَأْتِيَهُمْ،
فَأَتَاهُمْ فَصَلَّى فِيهِ، فحسدهم إخوتهم بنوغُنم بْنِ
عَوْفٍ، وَقَالُوا: نَبْنِي مَسْجِدًا وَنُرْسِلُ إِلَى
رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
لِيُصَلِّيَ فِيهِ كَمَا صَلَّى فِي مَسْجِدِ إِخْوَانِنَا،
وَلْيُصَلِّ فِيهِ أَبُو عَامِرٍ الرَّاهِبُ إِذَا قَدِمَ مِنَ
الشَّامِ، وَكَانَ أَبُو عَامِرٍ قَدْ تَرَهَّبَ فِي
الْجَاهِلِيَّةِ وَتَنَصَّرَ وَلَبِسَ الْمُسُوحَ، وَأَنْكَرَ
دِينَ الْحَنِيفِيَّةِ لَمَّا قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْمَدِينَةَ وَعَادَاهُ،
وَسَمَّاهُ النَّبِيُّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ:
أَبَا عَامِرٍ الْفَاسِقَ، وَخَرَجَ إِلَى الشَّامِ وَأَرْسَلَ
إِلَى الْمُنَافِقِينَ أَنْ اسْتَعِدُّوا بِمَا اسْتَطَعْتُمْ
مِنْ قُوَّةٍ وَسِلَاحٍ، وَابْنُوا لِي مَسْجِدًا فَإِنِّي
ذَاهِبٌ إِلَى قَيْصَرَ فَآتِي بِجُنْدِ الرُّومِ، فَأُخْرِجُ
مُحَمَّدًا وَأَصْحَابَهُ، فَبَنَوْا لَهُ مَسْجِدًا إِلَى
جَنْبِ مَسْجِدِ قُبَاءَ، وَكَانَ الَّذِينَ بَنَوْهُ اثْنَيْ
عَشَرَ رَجُلًا: خِذَامُ بْنُ خَالِدٍ، وَمِنْ دَارِهِ
أَخْرَجَ مَسْجِدَ الشِّقَاقِ، وَثَعْلَبَةُ بْنُ حَاطِبٍ
وَمُعَتِّبُ بْنُ قُشَيْرٍ وَأَبُو حَبِيبَةَ بْنُ الْأَزْعَرِ
وَعَبَّادُ بْنُ حُنَيْفٍ وَجَارِيَةُ بْنُ عَمْرٍو وَابْنَاهُ
مُجَمِّعٌ وَزَيْدٌ وَنَبْتَلُ بْنُ حَارِثٍ وَبَحْزَجٌ
وَبِجَادُ بْنُ عُثْمَانَ وَوَدِيعَةُ بْنُ ثَابِتٍ، فَلَمَّا
فَرَغُوا مِنْهُ أَتَوْا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالُوا: إِنَّا قَدْ بَنَيْنَا
مَسْجِدًا لِذِي الْعِلَّةِ وَالْحَاجَةِ وَاللَّيْلَةِ
المطيرة والليلة الشانية، وَإِنَّا نُحِبُّ أَنْ تَأْتِيَنَا
فَتُصَلِّيَ لَنَا فِيهِ، فَدَعَا بِقَمِيصِهِ لِيَلْبَسَهُ
فَيَأْتِيَهُمْ، فَنَزَلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ وَأَخْبَرَهُ
اللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ - خَبَرَ مَسْجِدِ الضِّرَارِ وَمَا
هَمُّوا بِهِ، فَدَعَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَالِكَ بْنَ الدُّخْشُمِ وَمَعْنَ بْنَ
عَدِيٍّ وَعَامِرَ بْنَ السَّكَنِ وحشيًّا قَاتِلَ حَمْزَةَ،
وَقَالَ لَهُمْ: انْطَلِقُوا إِلَى هَذَا الْمَسْجِدِ
الظَّالِمِ أَهْلُهُ فَاهْدِمُوهُ وَأَحْرِقُوهُ، فَخَرَجُوا
وَانْطَلَقَ مَالِكٌ وَأَخَذَ سَعَفًا مِنَ النَّخْلِ
فَأَشْعَلَ فِيهِ نَارًا، ثُمَّ دَخَلُوا الْمَسْجِدَ
وَفِيهِ أَهْلُهُ فَحَرَّقُوهُ وَهَدَمُوهُ وَتَفَرَّقَ عَنْهُ
أَهْلُهُ، وَأَمَرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - أَنْ يُتَّخَذَ ذَلِكَ كُنَاسَةً
_________
(1) - إسناده ضعيف جدا، من أجل داود بن الزبرقان فإنه متروك
(تقريب التهذيب 1/231 - رقم: 11) لكن صحت القصة من طريق آخر:
فأخرج ابن جرير (11/19) وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه
(فتح القدير: 2/404) والبيهقي في "الدلائل" (5/263) من طريق
علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما نحوه، وإسناده
صحيح.
(1/259)
تُلْقَى فِيهَا الْجِيَفُ وَالنَّتْنُ
وَالْقُمَامَةُ، وَمَاتَ أَبُو عَامِرٍ بِالشَّامِ وَحِيدًا
غَرِيبًا.
(1) - أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُحَمَّدِ
بْنِ يَحْيَى، حَدَّثَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ إِسْمَاعِيلَ
بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مِيكَالَ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ
اللَّهِ بْنُ مُوسَى الْأَهْوَازِيُّ، أَخْبَرَنَا
إِسْمَاعِيلُ بْنُ زَكَرِيَّا، حَدَّثَنَا دَاوُدُ بْنُ
الزِّبْرِقَانِ عَنْ صَخْرِ بْنِ جُوَيْرِيَةَ، عَنْ عَائِشَةَ
بِنْتِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، عَنْ أَبِيهَا قَالَ:
إِنَّ الْمُنَافِقِينَ عَرَضُوا المسجد يبنونه ليضاهؤا بِهِ
مَسْجِدَ قُبَاءَ - وَهُوَ قَرِيبٌ مِنْهُ - لِأَبِي عَامِرٍ
الرَّاهِبِ يَرْصُدُونَهُ إِذَا قَدِمَ لِيَكُونَ إِمَامَهُمْ
فِيهِ، فَلَمَّا فَرَغُوا مِنْ بِنَائِهِ أَتَوْا رَسُولَ
اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالُوا:
إِنَّا قَدْ بَنَيْنَا مَسْجِدًا فَصَلِّ فِيهِ حَتَّى
نَتَّخِذَهُ مُصَلًّى، فَأَخَذَ ثَوْبَهُ لِيَقُومَ مَعَهُمْ،
فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: {لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا}
قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ
الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ} الْآيَةَ {111}
.
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ الْقُرَظِيُّ: لَمَّا بَايَعَتِ
الْأَنْصَارُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - لَيْلَةَ الْعَقَبَةِ بِمَكَّةَ وَهُمْ سَبْعُونَ
نَفْسًا، قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ: يَا رَسُولَ
اللَّهِ اشْتَرِطْ لِرَبِّكَ وَلِنَفْسِكَ مَا شِئْتَ،
فَقَالَ: "أَشْتَرِطُ لِرَبِّي أَنْ تَعْبُدُوهُ وَلَا
تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، وَأَشْتَرِطُ لِنَفْسِي أَنْ
تَمْنَعُونِي مِمَّا تَمْنَعُونَ مِنْهُ أَنْفُسَكُمْ"،
قَالُوا: فَإِذَا فَعَلْنَا ذَلِكَ فَمَاذَا لَنَا؟ قَالَ:
"الْجَنَّةُ". قَالُوا: رَبِحَ الْبَيْعُ لَا نُقِيلُ وَلَا
نَسْتَقِيلُ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ.
(2) - قَوْلُهُ تَعَالَى: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ
آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ}
{113، 114} .
أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ
اللَّهِ الشِّيرَازِيُّ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ
اللَّهِ بْنِ خَمِيرُوَيْهِ الْهَرَوِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو
الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ الْخُزَاعِيُّ، حَدَّثَنَا
أَبُو الْيَمَانِ قَالَ: أَخْبَرَنِي شُعَيْبٌ عَنِ
الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، عَنْ أَبِيهِ
قَالَ: لَمَّا حَضَرَ أَبَا طَالِبٍ الْوَفَاةُ دخل عليه رسول
الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَعِنْدَهُ أَبُو
_________
(1) - أخرجه البخاري (فتح الباري: 8/341 - ح: 4675) ومسلم
(1/54 - ح: 24) والإمام أحمد (الفتح الرباني: 18/165 - ح: 300)
وابن جرير (11/30) الطبراني (المعجم الكبير: 20/349 - ح: 278)
والبيهقي في "الدلائل" (2/342، 343) من طريق ابن شهاب الزهري
به.
(2) - أخرجه البخاري (فتح الباري: 8/341 - ح: 4675) ومسلم
(1/54 - ح: 24) والإمام أحمد (الفتح الرباني: 18/165 - ح: 300)
وابن جرير (11/30) الطبراني (المعجم الكبير: 20/349 - ح: 278)
والبيهقي في "الدلائل" (2/342، 343) من طريق ابن شهاب الزهري
به.
(1/260)
جَهْلٍ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي
أُمَيَّةَ فَقَالَ: "أَيْ عَمِّ قُلْ مَعِي لَا إِلَهَ إِلَّا
اللَّهُ أُحَاجُّ لَكَ بِهَا عِنْدَ اللَّهِ"، فَقَالَ أَبُو
جَهْلٍ وَابْنُ أَبِي أُمَيَّةَ: يَا أَبَا طَالِبٍ أَتَرْغَبُ
عَنْ مِلَّةِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ؟ فَلَمْ يَزَالَا
يُكَلِّمَانِهِ حَتَّى قَالَ آخِرَ شَيْءٍ كَلَّمَهُمْ بِهِ
عَلَى مِلَّةِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، فَقَالَ النَّبِيُّ -
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - "لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ
مَا لَمْ أُنْهَ عَنْكَ"، فَنَزَلَتْ: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ
وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ
وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ
لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} رَوَى الْبُخَارِيُّ
عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ،
عَنْ مَعْمَرٍ، وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنْ حَرْمَلَةَ، عَنِ
ابْنِ وَهْبٍ، عَنْ يُونُسَ، كِلَاهُمَا عَنِ الزُّهْرِيِّ.
أَخْبَرَنَا أَبُو سَعِيدِ بْنُ أَبِي عَمْرٍو
النَّيْسَابُورِيُّ، أَخْبَرَنَا الْحَسَنُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ
مُؤَمَّلٍ، أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ عَبْدِ اللَّهِ
الْبَصْرِيُّ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْوَهَّابِ،
أَخْبَرَنَا جَعْفَرُ بْنُ عَوْنٍ، أَخْبَرَنَا مُوسَى بْنُ
عُبَيْدَةَ قَالَ: أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ
الْقُرَظِيُّ قَالَ: بَلَغَنِي أَنَّهُ لَمَّا اشْتَكَى أَبُو
طَالِبٍ شَكْوَاهُ الَّتِي قُبِضَ فِيهَا، قَالَتْ لَهُ
قُرَيْشٌ: يَا أَبَا طَالِبٍ أَرْسِلْ إِلَى ابْنِ أَخِيكَ،
فَيُرْسِلَ إِلَيْكَ مِنْ هَذِهِ الْجَنَّةِ الَّتِي ذَكَرَهَا
تَكُونُ لَكَ شِفَاءً، فَخَرَجَ الرَّسُولُ حَتَّى وَجَدَ
رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَبَا
بَكْرٍ جَالِسًا مَعَهُ فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ إِنَّ عَمَّكَ
يَقُولُ لَكَ إِنِّي كَبِيرٌ ضَعِيفٌ سَقِيمٌ، فَأَرْسِلْ
إِلَيَّ مِنْ جَنَّتِكَ هَذِهِ الَّتِي تَذْكُرُ مِنْ
طَعَامِهَا وَشَرَابِهَا شَيْئًا يَكُونُ لِي فِيهِ شِفَاءٌ،
فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهَا عَلَى
الْكَافِرِينَ، فَرَجَعَ إِلَيْهِمُ الرَّسُولُ، فَقَالَ:
بَلَّغْتُ مُحَمَّدًا الَّذِي أَرْسَلْتُمُونِي بِهِ فَلَمْ
يُحْرِ إِلَيَّ شَيْئًا. وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: إِنَّ اللَّهَ
حَرَّمَهَا عَلَى الْكَافِرِينَ، فَحَمَلُوا أَنْفُسَهُمْ
عَلَيْهِ حَتَّى
أَرْسَلَ رَسُولًا مِنْ عِنْدِهِ، فَوَجَدَ الرَّسُولَ فِي
مَجْلِسِهِ، فَقَالَ لَهُ مِثْلَ ذَلِكَ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ
اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - "إِنَّ اللَّهَ
حَرَّمَ عَلَى الْكَافِرِينَ طَعَامَهَا وَشَرَابَهَا"، ثُمَّ
قَامَ فِي إِثْرِ الرَّسُولِ حَتَّى دَخَلَ مَعَهُ بَيْتَ
أَبِي طَالِبٍ، فَوَجَدَهُ مَمْلُوءًا رِجَالًا فَقَالَ:
"خَلُّوا بَيْنِي وَبَيْنَ عَمِّي"، فَقَالُوا: مَا نَحْنُ
بِفَاعِلِينَ مَا أَنْتَ أَحَقُّ بِهِ مِنَّا إِنْ كَانَتْ
لَكَ قَرَابَةٌ، فَلَنَا قَرَابَةٌ مِثْلُ قَرَابَتِكَ،
فَجَلَسَ إِلَيْهِ فَقَالَ: "يَا عَمِّ جُزِيتَ عَنِّي خَيْرًا
كَفَلْتَنِي صَغِيرًا وَحُطْتَنِي كَبِيرًا
(1/261)
جُزِيتَ عَنِّي خَيْرًا، يَا عَمِّ
أَعِنِّي عَلَى نَفْسِكَ بِكَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ أَشْفَعُ لَكَ
بِهَا عِنْدَ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ"، قَالَ: وَمَا هِيَ
يَا ابْنَ أَخِي؟ قَالَ: "قُلْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ
وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ"، فَقَالَ: إِنَّكَ لِي نَاصِحٌ
وَاللَّهِ لَوْلَا أَنْ تُعَيِّرُنِي قُرَيْشٌ عَنْهُ
فَيُقَالُ: جَزِعَ عَمُّكَ مِنَ الْمَوْتِ لَأَقْرَرْتُ بِهَا
عَيْنَكَ، قَالَ: فَصَاحَ الْقَوْمُ: يَا أَبَا طالب أن رَأْسُ
الْحَنِيفِيَّةِ مِلَّةِ الْأَشْيَاخِ، فَقَالَ: لَا تُحَدِّثُ
نِسَاءُ قُرَيْشٍ أَنَّ عَمَّكَ جَزِعَ عِنْدَ الْمَوْتِ،
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
"لَا أَزَالُ أَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي حَتَّى يَرُدَّنِي"،
فاستغفر له بعد ما مَاتَ، فَقَالَ الْمُسْلِمُونَ مَا
يَمْنَعُنَا أَنْ نَسْتَغْفِرَ لِآبَائِنَا وَلِذِي
قَرَابَاتِنَا قَدِ اسْتَغْفَرَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ،
وَهَذَا مُحَمَّدٌ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
يَسْتَغْفِرُ لِعَمِّهِ، فَاسْتَغْفَرُوا لِلْمُشْرِكِينَ
حَتَّى نَزَلَ: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا
أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي
قُرْبَى}
(1) - أَخْبَرَنَا أَبُو الْقَاسِمِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ
بْنِ أَحْمَدَ الْحَرَّانِيُّ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ نُعَيْمٍ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ
يَعْقُوبَ الْأُمَوِيُّ، حَدَّثَنَا بَحْرُ بْنُ نَصْرٍ،
حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ، عَنْ
أَيُّوبَ بْنِ هَانِئٍ، عَنْ مَسْرُوقِ بْنِ الْأَجْدَعِ، عَنْ
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: خَرَجَ
رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَنْظُرُ
فِي الْمَقَابِرِ وَخَرَجْنَا مَعَهُ فَأَمَرَنَا فَجَلَسْنَا،
ثُمَّ تَخَطَّى الْقُبُورَ حَتَّى انْتَهَى إِلَى قَبْرٍ
مِنْهَا
_________
(1) - أخرجه الحاكم (المستدرك: 2/336) وابن أبي حاتم وابن
مردويه (فتح القدير: 2/411) من طريق ابن جريج عن أيوب بن هانئ
به. وضعفه الذهبي (التلخيص بحاشية المستدرك: 2/336) بسبب أيوب
(تقريب التهذيب: 1/91 - رقم: 713) .
قلت: وفيه أيضا عنعنة ابن جريج وهو مدلس، ويشهد له:
1 - ما أخرجه الطبراني (المعجم الكبير: 11/374 - ح: 12049)
وابن مردوية (تفسير ابن كثير: 2/393، 394) عن ابن عباس رضي
الله عنهما نحوه وضعفه الحافظ ابن كثير: (المصدر السابق وانظر:
مجمع الزوائد: 1/117) وهو كما قال.
ما أخرجه ابن جرير (11/31) من طريق العوفي عن ابن عباس مختصرًا
وإسناده ضعيف.
(1/262)
فَنَاجَاهُ طَوِيلًا ثُمَّ ارْتَفَعَ
نَحِيبُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
بَاكِيًا، فَبَكَيْنَا لِبُكَاءِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثُمَّ إِنَّهُ أَقْبَلَ إِلَيْنَا
فَتَلَقَّاهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ فَقَالَ: يَا رَسُولَ
اللَّهِ، مَا الَّذِي أَبْكَاكَ؟ فَقَدْ أَبْكَانَا
وَأَفْزَعَنَا! فَجَاءَ فَجَلَسَ إِلَيْنَا فَقَالَ:
"أَفْزَعَكُمْ بُكَائِي؟ " فَقُلْنَا: نَعَمْ يَا رَسُولَ
اللَّهِ، فَقَالَ: "إِنَّ الْقَبْرَ الَّذِي رَأَيْتُمُونِي
أُنَاجِي فِيهِ قَبْرُ آمِنَةَ بِنْتِ وَهْبٍ، وَإِنِّي
اسْتَأْذَنْتُ رَبِّي فِي زِيَارَتِهَا فَأَذِنَ لِي فِيهِ
وَاسْتَأْذَنْتُ رَبِّي فِي الِاسْتِغْفَارِ لَهَا فَلَمْ
يَأْذَنْ لِي فِيهِ"، وَنَزَلَ: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ
وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ}
حَتَّى خَتَمَ الْآيَةَ {وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ
إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا
إِيَّاهُ} "فَأَخَذَنِي مَا يَأْخُذُ الْوَلَدَ لِلْوَالِدَةِ
مِنَ الرِّقَّةِ، فَذَلِكَ الَّذِي أَبْكَانِي".
قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا
كَافَّةً} {122} .
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي رِوَايَةِ الْكَلْبِيِّ: لَمَّا
أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى عُيُوبَ الْمُنَافِقِينَ
لِتَخَلُّفِهِمْ عَنِ الْجِهَادِ قَالَ الْمُؤْمِنُونَ:
وَاللَّهِ لَا نَتَخَلَّفُ عَنْ غَزْوَةٍ يَغْزُوهَا رَسُولُ
اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَا سَرِيَّةٍ
أَبَدًا، فَلَمَّا أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالسَّرَايَا إِلَى الْعَدُوِّ نَفَرَ
الْمُسْلِمُونَ جَمِيعًا وَتَرَكُوا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَحْدَهُ بِالْمَدِينَةِ،
فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْآيَةَ.
(1/263)
|