إعراب القرآن للباقولي منسوب خطأ للزجاج

الباب السابع والأربعون
هذا باب ما جاء في التنزيل من إضمار الحال والصفة جميعا وهو شيء لطيف غريب، فمن ذلك قوله تعالى: (فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ) «1» ، أي: فمن شهده منكم صحيحا بالغا.
ومن ذلك قوله في الصفة: (وَإِنْ كانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ) «2» والتقدير: وله أخ أو أخت من أم، فحذف الصفة.
وقال: (وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ) «3» ، (فَتَحْنا عَلَيْهِمْ أَبْوابَ كُلِّ شَيْءٍ) «4» ، كان المعنى: كل شيء أحبته، وكل شيء أحبوه.
وقال في الريح: (ما تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ) » .
وقال: (تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ) «6» ولم تجتح هودا والمسلمين معه.
وقوله: (وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ) «7» يعني «الكافرين» لأن فيهم حمزة وعلياً وجعفرا.
وقال: (حَتَّى إِذا جاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً) «8» ، أي: شيئا مما ظنه وقدره، يبين ذلك قول العباس بن مرداس:
وقد كنت فى الحرب «9» ذا تدرأ «10» ... فلم أعط شيئاً ولم أمنع
/ أراد شيئاً مما قدرت إعطائي إياه. وبعد هذا البيت:
__________
(1) البقرة: 185.
(2) النساء: 11.
(3) النمل: 23.
(4) الأنعام: 44.
(5) الذاريات: 42.
(6) الأحقاف: 25.
(7) الأنعام: 66. [.....]
(8) النور: 39.
(9) الرواية في اللسان «درأ» : «القوم» .
(10) ذو تدرأ: ذو هجوم لا يتوقى ولا يهاب، ففيه قوة على دفع أعدائه.

(3/783)


إلا أفائل أعطيتها عديد قوائمه الأربع «1» فقال: لم أعط شيئا. ثم قال: إلا أفائل أعطيتها.
وعلى هذا قولهم: ما أنت بشيء، أي: شيء يقع به اعتداد. فهذا قريب من قولهم: تكلمت ولم تتكلم.
وقريب من هذا قول الكميت:
سئلت فلم تمنع ولم تعط نائلا ... فسيان لا ذم عليك ولا حمد
كأنه لم يعط عطاء يكون له موضع، أو يكون له اعتداد.
وقريب من هذا قوله تعالى: (فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لا يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى) «2» والذي لا يموت يحيا، والذي لا يحيا يموت ولكن المعنى: لا يحيى حياة طيبة يعتد بها ولا يموت موتا مريحا، مما دفعوا إليه من مقاساة العذاب، وكأن الإحياء للعذاب ليس بحياة معتدٍّ بها.
قال عثمان: وأما حذف الحال فلا يحسن، وذلك أن الغرض فيها إنما هو توكيد الخبر بها، وما طريقه طريق التوكيد غير لائقٍ به الحذف، لأنه ضد الغرض ونقيضه، ولأجل ذلك لم يجز أبو الحسن تأكيد «الهاء» المحذوف من الصلة، نحو: الذي ضربت نفسه زيد، على أن يكون «نفسه» توكيدا للهاء المحذوفة من «ضربت» وهذا مما يترك مثله كما يترك إدغام الملحق إشفاقا من انتقاض الغرض بإدغامه.
__________
(1) الأفائل: صفار الإبل.
(2) طه: 74.

(3/784)


فأما ما أجزناه من حذف الحال في قوله تعالى: (فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ) «1» ، أي: فمن شهده صحيحا بالغا، فطريقه: أنه لما دلت الدلالة عليه من الإجماع والسنة جاز حذفه تخفيفا.
وإما إذا عريت الحال من هذه القرينة، وتجرد الأمر دونها، لما جاء حذف الحال على وجه.
وحكى سيبويه: سير عليه ليل، وهم يريدون: ليل طويل، وكأن هذا إنما حذفت فيه الصفة لما دل من الحال على موضعها، وذلك أنك تحس في كلام القائل لذلك من التطويح والتطريح والتفخيم والتعظيم ما يقوم مقامه قوله:
«طويل» / ونحو ذلك، وأنت تحس هذا من نفسك إذا تأملته، وذلك أن يكون في مدح، فتقول: كان والله رجلاً، فتزيد في قوة اللفظ «بالله» هذه الكلمة، وتمكن في تمطيط اللام وإطالة الصوت عليها، أي: رجلا فاضلا شجاعا، أو كريما، أو نحو ذلك وكذلك تقول: سألناه فوجدناه إنسانا، وتمكن الصوت بإنسان وتفخمه فتستغنى بذلك عن وصفه، وتريد: إنسانا سمحا، أو جوادا، أو نحو ذلك وكذلك إن ذممته ووصفته بالضيق، قلت: سألناه وكان إنسانا.
وتزوى وجهك وتقطبه، فيغنى عن ذلك قولك: إنسانا لئيما، أو بخيلا، أو نحو ذلك. فعلى هذا وما يجري مجراه تحذف الصفة.
فأما إن عريت من الدلالة عليها من اللفظ أو الحال فإن حذفها لا يجوز، ألا تراك لو قلت: وردنا البصرة فاجتزنا بالأبلة على رجل، أو رأينا بستانا،
__________
(1) البقرة: 185.

(3/785)


وسكت، لم تفد بذلك شيئا، لأن هذا ونحوه مما لا يعرى منه ذلك المكان، وإنما المتوقع أن تصف من ذكرت وما ذكرت، فإن لم تفعل كلفت علم ما لا يدل عليه، وهو لغو من الحديث، وتجوز في التكليف.
ومن ذلك ما يروى في الحديث: «لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد» .
أي: لا صلاة كاملة أو فاضلة، ونحو ذلك. ومثله: لا سيف إلا ذو الفقار، ولا فتى إلا علي، عليه السلام.

(3/786)