الإتقان في علوم القرآن النَّوْعُ الْحَادِي وَالْعِشْرُونَ: فِي
مَعْرِفَةِ الْعَالِي وَالنَّازِلِ مِنْ أَسَانِيدِهِ
اعْلَمْ أَنَّ طَلَبَ عُلُوِّ الْإِسْنَادِ سُنَّةٌ فَإِنَّهُ
قُرْبٌ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى وَقَدْ قَسَّمَهُ أَهْلُ
الْحَدِيثِ إِلَى خَمْسَةِ أَقْسَامٍ وَرَأَيْتُهَا تَأْتِي
هُنَا:
الْأَوَّلُ: الْقُرْبُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ حَيْثُ الْعَدَدِ بِإِسْنَادٍ نَظِيفٍ
غَيْرِ ضَعِيفٍ وَهُوَ أَفْضَلُ أَنْوَاعِ الْعُلُوِّ
وَأَجَلُّهَا وَأَعْلَى مَا يَقَعُ لِلشُّيُوخِ فِي هَذَا
الزَّمَانِ إِسْنَادٌ رِجَالُهُ أَرْبَعَةَ عَشْرَ رَجُلًا
وَإِنَّمَا يَقَعُ ذَلِكَ مِنْ قِرَاءَةِ ابْنِ عَامِرٍ مِنْ
رِوَايَةِ ابْنِ ذَكْوَانَ ثُمَّ خَمْسَةَ عَشَرَ وَإِنَّمَا
يَقَعُ ذَلِكَ مِنْ قِرَاءَةِ عَاصِمٍ مِنْ رِوَايَةِ حَفْصٍ
وَقِرَاءَةِ يَعْقُوبَ مِنْ رِوَايَةِ رُوَيْسٍ.
الثَّانِي: مِنْ أَقْسَامِ الْعُلُوِّ عِنْدَ الْمُحَدِّثِينَ
الْقُرْبُ إِلَى إِمَامٍ مِنْ أَئِمَّةِ الْحَدِيثِ
كَالْأَعْمَشِ وَهُشَيْمٍ وابن جريح وَالْأَوْزَاعِيِّ
وَمَالِكٍ وَنَظِيرُهُ هُنَا الْقُرْبُ إِلَى إِمَامٍ من
الأئمة السَّبْعَةِ فَأَعْلَى مَا يَقَعُ الْيَوْمَ
لِلشُّيُوخِ بِالْإِسْنَادِ الْمُتَّصِلِ بِالتِّلَاوَةِ إِلَى
نَافِعٍ اثْنَا عَشَرَ وَإِلَى عَامِرٍ اثْنَا عَشَرَ.
الثَّالِثُ: عِنْدَ الْمُحَدِّثِينَ الْعُلُوُّ بِالنِّسْبَةِ
إِلَى رِوَايَةِ أَحَدِ الْكُتُبِ السِّتَّةِ بِأَنْ يَرْوِي
حَدِيثًا لَوْ رَوَاهُ مِنْ طَرِيقِ كِتَابٍ مِنَ السِّتَّةِ
وَقَعَ أَنْزَلَ مِمَّا لَوْ رَوَاهُ مِنْ غَيْرِ طَرِيقِهَا
وَنَظِيرُهُ هُنَا الْعُلُوُّ بِالنِّسْبَةِ إِلَى بَعْضِ
الْكُتُبِ الْمَشْهُورَةِ فِي الْقِرَاءَاتِ كَالتَّيْسِيرِ
وَالشَّاطِبِيَّةِ وَيَقَعُ فِي هَذَا النَّوْعِ
الْمُوَافَقَاتُ وَالْإِبْدَالُ وَالْمُسَاوَاةُ
وَالْمُصَافَحَاتُ.
(1/254)
فَالْمُوَافَقَةُ: أَنْ تَجْتَمِعَ
طَرِيقُهُ مَعَ أَحَدِ أَصْحَابِ الْكُتُبِ فِي شَيْخِهِ وقد
يَكُونُ مَعَ عُلُوٍّ عَلَى مَا لَوْ رَوَاهُ مِنْ طَرِيقِهِ
وَقَدْ لَا يَكُونُ مِثَالُهُ فِي هَذَا الْفَنِّ قِرَاءَةُ
ابْنِ كَثِيرٍ رِوَايَةَ الْبَزِّيِّ طَرِيقِ ابْنِ بَنَّانٍ
عَنْ أَبِي رَبِيعَةَ عَنْهُ يَرْوِيهَا ابْنُ الْجَزَرِيِّ
مِنْ كِتَابِ الْمِفْتَاحِ لِأَبِي منصور مُحَمَّدِ بْنِ
عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ خَيْرُونَ وَمِنْ كِتَابِ الْمِصْبَاحِ
لِأَبِي الكرم الشهر زوري وَقَرَأَ بِهَا كُلٌّ مِنَ
الْمَذْكُورِينَ عَلَى عَبْدِ السَّيِّدِ بْنِ عَتَّابٍ
فَرِوَايَتُهُ لَهَا مِنْ أَحَدِ الطَّرِيقَيْنِ تُسَمَّى
مُوَافَقَةٌ لِلْآخَرِ بِاصْطِلَاحِ أَهْلِ الْحَدِيثِ.
وَالْبَدَلُ: أَنْ يَجْتَمِعَ مَعَهُ في شَيْخُ شَيْخِهِ
فَصَاعِدًا وَقَدْ يَكُونُ أَيْضًا بِعُلُوٍّ وَقَدْ لَا
يَكُونُ مِثَالُهُ هُنَا قِرَاءَةُ أَبِي عَمْرٍو رِوَايَةَ
الدُّورِيِّ طَرِيقِ ابْنِ مُجَاهِدٍ عَنْ أَبِي الزَّعْرَاءِ
عَنْهُ رَوَاهَا ابْنُ الْجَزَرِيِّ مِنْ كِتَابِ التَّيْسِيرِ
قَرَأَ بِهَا الدَّانِيُّ عَلَى أَبِي الْقَاسِمِ عَبْدِ
الْعَزِيزِ بْنِ جَعْفَرٍ الْبَغْدَادِيِّ وَقَرَأَ أبو القاسم
بِهَا عَلَى أَبِي طَاهِرٍ عَنِ ابْنِ مُجَاهِدٍ وَمِنْ
الْمِصْبَاحِ قَرَأَ بِهَا أَبُو الْكَرَمِ عَلَى أَبِي
الْقَاسِمِ يَحْيَى بْنِ أَحْمَدَ السَّبْتِيِّ وَقَرَأَ بها
يحيى عَلَى أَبِي الْحَسَنِ الْحَمَّامِيِّ وَقَرَأَ أبو الحسن
عَلَى أَبِي طَاهِرٍ فَرِوَايَتُهُ لَهَا مِنْ طَرِيقِ
الْمِصْبَاحِ تُسَمَّى بَدَلًا لِلدَّانِي فِي شَيْخِ
شَيْخِهِ.
وَالْمُسَاوَاةُ: أَنْ يَكُونَ بَيْنَ الرَّاوِي وَالنَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوِ الصَّحَابِيِّ أَوْ
مَنْ دُونَهُ إِلَى شَيْخِ أَحَدِ أَصْحَابِ الْكُتُبِ كَمَا
بَيْنَ أَحَدِ أَصْحَابِ الْكُتُبِ وَالنَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوِ الصَّحَابِيِّ أَوْ مَنْ
دُونَهُ عَلَى مَا ذُكِرَ مِنَ الْعَدَدِ.
وَالْمُصَافَحَةُ: أَنْ يَكُونَ أَكْثَرَ عَدَدًا مِنْهُ
بِوَاحِدٍ فَكَأَنَّهُ لَقِيَ صَاحِبَ ذَلِكَ الْكِتَابِ
وَصَافَحَهُ وَأَخَذَ عَنْهُ مِثَالُهُ قِرَاءَةُ نَافِعٍ
رَوَاهَا الشَّاطِبِيُّ عَنْ أَبِي عَبْدِ الله محمد ابن
عَلِيٍّ النِّفَّرِيِّ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ غُلَامِ
الْفُرْسِ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ نَجَاحٍ وَغَيْرِهِ عَنْ
أَبِي عَمْرٍو الدَّانِيِّ عَنْ أَبِي الْفَتْحِ فَارِسِ بْنِ
أَحْمَدَ،
(1/255)
عَنْ عَبْدِ الْبَاقِي بْنِ الْحَسَنِ عَنْ
إِبْرَاهِيمَ بن عمر المقرئ عن أبي الحسين بْنِ بُويَانَ عَنْ
أَبِي بَكْرِ بْنِ الْأَشْعَثِ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ
الرَّبَعِيِّ الْمَعْرُوفِ بِأَبِي نَشِيطٍ عَنْ قَالُونَ عَنْ
نَافِعٍ وَرَوَاهَا ابْنُ الْجَزَرِيِّ عَنْ أَبِي بَكْرٍ
الْخَيَّاطِ عَنْ أَبِي مُحَمَّدٍ الْبَغْدَادِيِّ وَغَيْرِهِ
عَنِ الصَّائِغِ عَنِ الْكَمَالِ بْنِ فَارِسٍ عَنْ أَبِي
الْيُمْنِ الْكِنْدِيِّ عَنْ أَبِي الْقَاسِمِ هِبَةِ اللَّهِ
بْنِ أَحْمَدَ الْحَرِيرِيِّ عَنْ الْفَرَضِيِّ عَنِ ابْنِ
بُويَانَ. فَهَذِهِ مُسَاوَاةٌ لِابْنِ الْجَزَرِيِّ لِأَنَّ
بَيْنَهُ وَبَيْنَ ابْنِ بُويَانَ سَبْعَةٌ وَهُوَ الْعَدَدُ
الَّذِي بَيْنَ الشَّاطِبِيِّ وَبَيْنَهُ وَهِيَ لِمَنْ أَخَذَ
عَنِ ابْنِ الْجَزَرِيِّ مُصَافَحَةً لِلشَّاطِبِيِّ.
وَمِمَّا يُشْبِهُ هَذَا التَّقْسِيمَ الَّذِي لِأَهْلِ
الْحَدِيثِ تَقْسِيمُ الْقُرَّاءِ أَحْوَالَ الْإِسْنَادِ
إِلَى قِرَاءَةٍ وَرِوَايَةٍ وَطَرِيقٍ وَوَجْهٍ فَالْخِلَافُ
إِنْ كَانَ لِأَحَدِ الْأَئِمَّةِ السبعة أو العشرة أَوْ
نَحْوِهِمْ وَاتَّفَقَتْ عَلَيْهِ الرِّوَايَاتُ وَالطُّرُقُ
عَنْهُ فَهُوَ قِرَاءَةٌ وَإِنْ كَانَ لِلرَّاوِي عَنْهُ
فَرِوَايَةٌ أَوْ لمن بعده فنازلا فطريق أولا عَلَى هَذِهِ
الصِّفَةِ مِمَّا هُوَ رَاجِعٌ إِلَى تَخْيِيرِ الْقَارِئِ
فِيهِ فَوَجْهٌ.
الرَّابِعُ: مِنْ أَقْسَامِ الْعُلُوِّ تَقَدُّمُ وَفَاةِ
الشَّيْخِ عَنْ قَرِينِهِ الَّذِي أَخَذَ عَنْ شَيْخِهِ
فَالْأَخْذُ مَثَلًا عَنِ التَّاجِ بْنِ مَكْتُومٍ أَعْلَى
مِنَ الْأَخْذِ عَنْ أَبِي الْمَعَالِي بْنِ اللَّبَّانِ
وَعَنِ ابْنِ اللَّبَّانِ أَعْلَى مِنَ الْبُرْهَانِ
الشَّامِيِّ وَإِنِ اشْتَرَكُوا فِي الْأَخْذِ عَنْ أَبِي
حَيَّانَ لِتَقَدُّمِ وَفَاةِ الْأَوَّلِ عَلَى الثَّانِي
وَالثَّانِي عَلَى الثَّالِثِ.
الخامس: الْعُلُوُّ بِمَوْتِ الشَّيْخِ لَا مَعَ الْتِفَاتٍ
لِأَمْرٍ آخَرَ أَوْ شَيْخٍ آخَرَ مَتَى يَكُونُ قَالَ بَعْضُ
الْمُحَدِّثِينَ يُوصَفُ الْإِسْنَادُ بِالْعُلُوِّ إِذَا
مَضَى عَلَيْهِ مِنْ مَوْتِ
(1/256)
الشَّيْخِ خَمْسُونَ سَنَةً. وَقَالَ ابْنُ
مَنْدَهْ: ثَلَاثُونَ فَعَلَى هَذَا الْأَخْذُ عَنْ أَصْحَابِ
ابْنِ الْجَزَرِيِّ عَالٍ مِنْ سَنَةِ ثَلَاثٍ وَسِتِّينَ
وَثَمَانِمِائَةٍ لِأَنَّ ابْنَ الْجَزَرِيِّ آخِرُ مَنْ كَانَ
سَنَدُهُ عَالِيًا وَمَضَى عَلَيْهِ حِينَئِذٍ مِنْ مَوْتِهِ
ثَلَاثُونَ سَنَةً.
فَهَذَا مَا حَرَّرْتُهُ مِنْ قَوَاعِدِ الْحَدِيثِ
وَخَرَّجْتُ عَلَيْهِ قَوَاعِدُ الْقِرَاءَاتِ وَلَمْ أُسْبَقْ
إِلَيْهِ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ.
وَإِذَا عَرَفْتَ الْعُلُوَّ بِأَقْسَامِهِ عَرَفْتَ
النُّزُولَ فَإِنَّهُ ضِدُّهُ وَحَيْثُ ذُمَّ النُّزُولُ
فَهُوَ مَا لَمْ ينجبر بكون رجاله أعلم وأحفظ وأتقن أَوْ
أَجَلُّ أَوْ أَشْهَرُ أَوْ أَوْرَعُ أَمَّا إِذَا كَانَ
كَذَلِكَ فَلَيْسَ بِمَذْمُومٍ وَلَا مَفْضُولٍ.
(1/257)
|