البرهان فى تناسب سور القرآن

سورة النساء
لما تضمنت سورة البقرة ابتداء الخلق وإيجاد آدم عليه السلام من غير أب
ولا أم، وأعقبت بسورة آل عمران لتضمنها - مع ما ذكر في صدرها أمر عيسى عليه السلام

(1/198)


وأنه كمثل آدم في (عدم) الافتقار إلى أب، وعلم الموقنون من ذلك أنه
تعالى لو شاء لكانت سنة فيمن بعد آدم عليه السلام، (فكان سائر الحيوان لا
يتوقف على أبوين، أو كان يكون) عيسى عليه السلام لا يتوقف إلا على أم
فقط، أعلم سبحانه أن من عدا المذكورين عليهم السلام من ذرية آدم سبيلهم سبيل الأبوين فقال تعالى: "يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً".
ثم أعلم تعالى بكيفية النكاح المجعول سببا في التناسل وما يتعلق به،
وبين حكم الأرحام والمواريث، وتضمنت السورة ابتداء الأمر وانهاءه فاعلمنا
بكيفية الناكح، وصورة الاعتصام واحترام بعضنا لبعض كيفية تناول الإصلاح فيما بين الزوجين عند التشاجر والشقاق، وبين لنا ما ينكح وما لا ينكح وما أبيح من العدد، وحكم من لم يجد الطول وما يتعلق بهذا إلى المواريث، فصل ذلك كله، إلا الطلاق لأن أحكامه قد تقدمت، ولأن بناء هذه السورة على التواصل والائتلاف ورعي حقوق ذوي الأرحام) وحفظ ذلك كله إلى حالة الموت

(1/199)


المكتوب علينا وناسب هذا المقصود (من) التواصل والألفة ما افتتحت به
السورة من قوله (تعالى) : "اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا"
بالالتئام والوصلة، ولهذا خصت حكم تشاجر الزوجين بالإعلام بصورة الإصلاح والعدل إبقاء لذلك التواصل، فلم يكن الطلاق
ليناسب هذا فلم يقع له هنا ذكر ولا إيماء "وإن يتفرقا يغن الله كلا من سعته " ولكثرة ما يعرض من رعى حظوظ النفوس عند الزوجية ومع القرابة
ويدق ذلك ويغمض، لذلك ما تكرر كثيرا في هذه السورة الأمر بالاتقاء،
وبه افتتحت "اتقوا ربكم " "وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ"
"وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ"
ثم حذروا من حال من صمم على الكفر، وحال اليهود والنصارى
والمنافقين وذوى التقلب في الأديان بعدًا عن اليقين، "وكل ذلك تأكيد لا
أمروا به من الاتقاء، والتحمت الآيات إِلى الختم بالكلالة من المواريث المتقدمة.
سورة المائدة
لما بين تعالى حالة أهل الصراط المستقيم ومن تنكب عن نهجهم، ومآل
الفريقين من المغضوب عليهم ولا الضالين، وبين لعباده المتقين ما فيه هداهم وبه خلاصهم أخذا وتركا، وحصل طي ذلك الأسهم الثمانية الواردة في حديث

(1/200)


حذيفة من قوله: (الإسلام ثمانية أسهم: الشهادة سهم، والصلاة سهم،
والصوم سهم، والحج سهم، والجهاد سهم، والأمر بالمعروف سهم، وقد خاب من لا سهم له) ، وقال - صلى الله عليه وسلم -: بني الإسلام على خمس، وقد تحصلت وتحصل مما تقدم أيضا أن أسوأ حال المخالفين حال من غضب الله عليه ولعنه، وإن ذلك ببغيهم وعدوانهم ونقضهم العهود "فبما نقضهم ميثاقهم لعناهم "

(1/201)


وكان النقض كل مخالفة، قال الله تعالى: لعباده المؤمنين: "يا أيها
الذين آمنوا أوفوا بالعقود"
لأن اليهود والنصارى إنما أتي عليهم من عدم الوفاء ونقض العهود فحذر المؤمنين.
ولهذا الغرض والله أعلم ذكر هنا العهد المشار إليه في قوله تعالى:
"وأوفوا بعهدي " (البقرة: 40) فقال تعالى: " ولقد أخذ الله ميثاق بني
إسرائيل " إلى قوله: "فقد ضل سواء السبيل " (المائدة: 12) .
ثم بين نقضهم وبنى اللعنة وكل محنة ابتلوا بها عليه فقال: "فبما نقضهم
ميثاقهم " (آية: 13) وذكر تعالى عهد الآخرين فقال: "ومن الذين قالوا إنا
نصارى أخذنا ميثاقهم.... الآية (آية: 14) ، ثم فصل تعالى للمؤمنين أفعال
الفريقين ليتبين لهم فيما نقضوا (فيه من ادعائهم في المسيح ما ادعوا، وقولهم نحن أبناء الله وأحباؤه، وكفهم عن فتح الأرض المقدسة، وإسرافهم في القتل وغيره، وتغييرهم أحكام التوراة إلى غير ذلك مما ذكره في أحكام هذه السورة ثم بين تفاوتهمِ في البعد عن الاستجابة فقال تعالى: "لتجدن أشد الناس عداوة.... الآية (آية: 82) ثم نصح عباده وبين لهم أبوابا منها دخول الامتحان، وهي سبب في كل ابتلاء فقال تعالى: "لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ولا تعتدوا" (آية: 89) .
وأعقب ذلك بقوله: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ ... الآية " (آية: 95) ثم قال تعالى: "جعل الله الكعبة البيت الحرام ... الآية (آية: 97) فنبه على سوء العاقبة في تتبع البحث عن التعليل، وطلب الوقوف على ما لعله استأثر الله بعلمه، ومن هذا الباب أتي على بني إسرائيل في أمر البقرة وغير ذلك، وجعل هذا التنبيه إيماء، ثم أعقبه بما يفسره "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ" (آية: 151) ووعظهم بحال غيرهم في

(1/202)


هذا، وأنهم سألوا فخيروا ثم امتحنوا، وقد كان التسليم أولى لهم فقال تعالى: "قد سألها قوم من قبلكم ثم أصبحوا بها كافرين " (آية: 102) ثم عرف عباده أنهم إذا استقاموا فلن يضرهم خذلان غيرهم "يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم " (آية: 103) فلما طلب تعالى المؤمنين بالوفاء فيما نقض فيه غيرهم وذكرهم ببعض ما وقع فيه النقض، وما أعقب ذلك فاعله، واعلمهم بثمرة التزام التسليم والامتثال أراهم جل وتعالى ثمرة الوفاء وعاقبته فقال تعالى: "وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ" إلى قوله تعالى "هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ" إلى آخر السورة (116 - 120) .
فحصل من جملتها الأمر بالوفاء فيما تقدمها وحال من حاد ونقض، وعاقبة
من وفى وأنهم الصادقون، وقد أمرنا أن نكون معهم "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ (119) ".