البرهان في علوم القرآن

النوع الرابع: في جمع الوجوه والنظائر
وقد صنف فيه قديما مقاتل بن سليمان وجمع فيه من المتأخرين ابن الزاغوني وأبو الفرج بن الجوزي والدامغاني الواعظ وأبو الحسين بن فارس وسمى كتابه الأفراد
فالوجوه اللفظ المشترك الذي يستعمل في عدة معان كلفظ الأمة والنظائر كالألفاظ المتواطئة
وقيل النظائر في اللفظ والوجوه في المعاني وضعف لأنه لو أريد هذا لكان الجمع في الألفاظ المشتركة وهم يذكرون في تلك الكتب اللفظ الذي معناه واحد في مواضع كثيرة فيجعلون الوجوه نوعا لأقسام والنظائر نوعا آخر كالأمثال
وقد جعل بعضهم ذلك من أنواع معجزات القرآن حيث كانت الكلمة الواحدة تنصرف إلى عشرين وجها أو أكثر أو أقل ولا يوجد ذلك في كلام البشر

(1/102)


وذكر مقاتل في صدر كتابه حديثا مرفوعا لا يكون الرجل فقيها كل الفقه حتى يرى للقرآن وجوها كثيرة
فمنه الهدى سبعة عشر حرفا:
بمعنى البيان كقوله تعالى: {أُولَئِكَ عَلَى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ}
وبمعنى الدين: {إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ}
وبمعنى الإيمان: {وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدىً}
وبمعنى الداعي: {وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ} {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا}
وبمعنى الرسل والكتب {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً}
وبمعنى المعرفة: {وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ}
وبمعنى الرشاد: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ}
وبمعنى محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {إنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى}{مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى}
وبمعنى القرآن: {وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى}

(1/103)


وبمعنى التوراة: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْهُدَى}
وبمعنى الاسترجاع: {وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} ونظيرها في التغابن: {وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ} أي في المصيبة أنها من عند الله: {يَهْدِ قَلْبَهُ} للاسترجاع
وبمعنى الحجة: {وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} بعد قوله: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ} أي لا يهديهم إلى الحجة.
وبمعنى التوحيد: {إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ}
وبمعنى السنة: {وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ}
وبمعنى الإصلاح: {وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ}
وبمعنى الإلهام: {أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} هدى كلا في معيشته
وبمعنى التوبة: {إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ} أي تبنا
وهذا كثير الأنواع:

(1/104)


وقال ابن فارس في كتاب الأفراد:
كل ما في كتاب الله من ذكر الأسف فمعناه الحزن كقوله تعالى في قصة يعقوب عليه السلام { يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ} إلا قوله تعالى: {فَلَمَّا آسَفُونَا} فإن معناه أغضبونا وأما قوله في قصة موسى عليه السلام {غَضْبَانَ أَسِفاً } فقال ابن عباس مغتاظا
وكل ما في القرآن من ذكر البروج فإنها الكواكب كقوله تعالى {وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ} إلا التي في سورة النساء {وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ} فإنها القصور الطوال المرتفعة في السماء الحصينة.
وما في القرآن من ذكر البر والبحر فإنه يراد بالبحر الماء وبالبر التراب اليابس غير واحد في سورة الروم: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} فإنه بمعنى البرية والعمران وقال بعض علمائنا في البر قتل ابن آدم أخاه وفى {الْبَحْرِ} أخذ الملك كل سفينة غصبا
والبخس في القرآن النقص مثل قوله تعالى: {فَلا يَخَافُ بَخْساً وَلا رَهَقاً} إلا حرفا واحدا في سورة يوسف {وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ} فإن أهل التفسير قالوا بخس: حرام.
وما في القرآن من ذكر البعل فهو الزوج كقوله تعالى: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ

(1/105)


بِرَدِّهِنَّ} إلا حرفا واحدا في الصافات: {أَتَدْعُونَ بَعْلاً} فإنه أراد صنما
وما في القرآن من ذكر البكم فهو الخرس عن الكلام بالإيمان كقوله: {صُمٌّ بُكْمٌ}. إنما أراد بكم عن النطق والتوحيد مع صحة ألسنتهم إلا حرفين أحدهما في سورة بني إسرائيل: {عُمْياً وَبُكْماً وَصُمّاً}
والثاني في سورة النحل قوله عز وجل: {أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ} فإنهما في هذين الموضعين اللذان لا يقدران على الكلام وكل شيء في القرآن {جثيا} فمعنا جميعا إلا التي في سورة الشريعة: {وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً} فإنه أراد تجثو على ركبتيها
وكل حرف في القرآن حسبان فهو من العدد غير حرف في سورة الكهف {حُسْبَاناً مِنَ السَّمَاءِ} فإنه بمعنى العذاب
وكل ما في القرآن حسرة فهو الندامة كقوله عز وجل {يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ} إلا التي في سورة آل عمران {يَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ} فإنه يعني به حزنا
وكل شيء في القرآن الدحض والداحض فمعناه الباطل كقوله: {حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ} إلا التي في سورة الصافات: {فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ} وكل حرف في القرآن من رجز فهو العذاب كقوله تعالى في قصة بني إسرائيل

(1/106)


{لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ} إلا في سورة المدثر والرجز فاهجر فإنه يعني الصنم فاجتنبوا عبادته
وكل شيء في القرآن من ريب فهو شك غير حرف واحد وهو قوله تعالى {نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ} فإنه يعني حوادث الدهر
وكل شيء في القرآن يرجمنكم ويرجموكم فهو القتل غير التي في سورة مريم عليها السلام {لأَرْجُمَنَّكَ} يعني لأشتمنك
قلت وقوله {رَجْماً بِالْغَيْبِ} أي ظنا والرجم أيضا الطرد واللعن ومنه قيل للشيطان رجيم
وكل شيء في القرآن من زور فهو الكذب ويراد به الشرك غير التي في المجادلة منكرا من القول وزورا فإنه كذب غير شرك
وكل شيء في القرآن من زكاة فهو المال غير التي في سورة مريم وحنانا من لدنا وزكاة فإنه يعنى تعطفا
وكل شيء في القرآن من زاغوا ولا تزغ فإنه من مالوا ولا تمل غير واحد في سورة الأحزاب {وَإِذْ زَاغَتِ الأَبْصَارُ} بمعنى شخصت
وكل شيء في القرآن من يسخرون وسخرنا فإنه يراد به الاستهزاء غير التي في سورة الزخرف {لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيّاً} فإنه أراد أعوانا وخدما
وكل سكينة في القرآن طمأنينة في القلب غير واحد في سورة البقرة {فِيهِ سَكِينَةٌ

(1/107)


مِنْ رَبِّكُمْ} فإنه يعني شيئا كرأس الهرة لها جناحان كانت في التابوت
وكل شيء في القرآن من ذكر السعير فهو النار والوقود إلا قوله عز وجل: {إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ} فإنه العناد
وكل شيء في القرآن من ذكر شيطان فإنه إبليس وجنوده وذريته إلا قوله تعالى في سورة البقرة {وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ} فإنه يريد كهنتهم مثل كعب بن الأشرف وحيي بن أخطب وأبي ياسر أخيه
وكل شهيد في القرآن غير القتلى في الغزو فهم الذين يشهدون على أمور الناس إلا التي في سورة البقرة قوله عز وجل: {وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ} فإنه يريد شركاءكم
وكل ما في القرآن من أصحاب النار فهم أهل النار إلا قوله: {وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلاَّ مَلائِكَةً} فإنه يريد خزنتها
وكل صلاة في القرآن فهي عبادة ورحمة إلا قوله تعالى: {وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ} فإنه يريد بيوت عبادتهم
وكل صمم في القرآن فهو عن الاستماع للإيمان غير واحد في بني إسرائيل قوله عز وجل {عُمْياً وَبُكْماً وَصُمّاً} معناه لا يسمعون شيئا
وكل عذاب في القرآن فهو التعذيب إلا قوله عز وجل: {وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا} فإنه يريد الضرب
والقانتون المطيعون لكن قوله عز وجل في البقرة {كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ}

(1/108)


معناه مقرون وكذلك في سورة الروم {وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ} يعنى مقرون بالعبودية
وكل كنز في القرآن فهو المال إلا الذي في سورة الكهف {وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا} فإنه أراد صحفا وعلما
وكل مصباح في القرآن فهو الكوكب إلا الذي في سورة النور {الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ} فإنه السراج نفسه
النكاح في القرآن التزوج إلا قوله جل ثناؤه: {حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ} فإنه يعنى الحلم
النبأ والأنباء في القرآن الأخبار إلا قوله تعالى: {فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الأَنْبَاءُ} فإنه بمعنى الحجج
الورود في القرآن الدخول إلا في القصص: {وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ} يعنى هجم عليه ولم يدخله
وكل شيء في القرآن من {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاََّ وُسْعَهَا} يعني عن العمل إلا التي في سورة النساء {لاَّ مَا آتَاهَا} يعنى النفقة
وكل شيء في القرآن من يأس فهو القنوط إلا التي في الرعد: {أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا} أي ألم يعلموا قال ابن فارس أنشدني أبى فارس بن زكريا:

(1/109)


أقول لهم بالشعب إذ ييسرونني ... ألم تيئسوا أني ابن فارس زهدم
قال الصاغاني: البيت لسحيم بن وثيل اليربوعي
وكل شيء في القرآن من ذكر الصبر محمود إلا قوله عز وجل {لَوْلا أَنْ صَبَرْنَا عَلَيْهَا} و: {وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ} انتهى ما ذكره ابن فارس
وزاد غيره: كل شيء في القرآن لعلكم فهو بمعنى لكي غير واحد في الشعراء: {لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ} فإنه للتشبيه أي كأنكم
وكل شيء في القرآن أقسطوا فهو بمعنى العدل إلا واحد في الجن: {وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً} يعني العادلين الذين يعدلون به غيره هذا باعتبار صورة اللفظ وإلا فمادة الرباعي تخالف مادة الثلاثي
وكل كسف في القرآن يعني جانبا من السماء غير واحد في سورة الروم: {وَيَجْعَلُهُ كِسَفاً} يعني السحاب قطعا
وكل ماء معين فالمراد به الماء الجاري غير الذي في سورة تبارك فإن المراد به الماء الطاهر الذي تناله الدلاء وهى زمزم

(1/110)


وكل شيء في القرآن "لئلا" فهو بمعنى كيلا غير واحد في الحديد: {لِئَلاَّ يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ} يعني لكي يعلم
وكل شيء في القرآن من الظلمات إلى النور فهو بمعنى الكفر والإيمان غير واحد في أول الأنعام: {وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ} يعني ظلمة الليل ونور النهار
وكل صوم في القرآن فهو الصيام المعروف إلا الذي في سورة مريم {إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْماً} يعني صمتا وذكر أبو عمرو الداني في قوله تعالى {وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ} أن المراد بالحضور هنا المشاهدة قال وهو بالظاء بمعنى المنع والتحويط قال ولم يأت بهذا المعنى إلا في موضع واحد وهو قوله تعالى {فَكَانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ}
قيل وكل شيء في القرآن {وَمَا أَدْرَاكَ} فقد أخبرنا به وما فيه: {وَمَا يُدْرِيكَ} فلم يخبرنا به حكاه البخاري رحمه الله في تفسيره واستدرك بعضهم عليه موضعا وهو قوله وما يدريك لعل الساعة قريب وقيل الإنفاق حيث وقع القرآن فهو الصدقة إلا قوله تعالى: {فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُمْ مِثْلَ مَا أَنْفَقُوا} فإن المراد به المهر وهو صدقة في الأصل تصدق الله بها على النساء

(1/111)