البرهان في علوم القرآن
النوع السابع: في أسرار الفواتح والسور
اعلم أن سور القرآن العظيم مائة وأربع عشرة سورة وفيها يلغز فيقال أي
شيء إذا عددته زاد على المائة وإذا عددت نصفه كان دون العشرين؟
وقد افتح سبحانه وتعالى كتابه العزيز بعشرة أنواع من الكلام لا يخرج
شيء من السور عنها
الاستفتاح بالثناء
الأول: استفتاحه بالثناء عليه عز وجل والثناء قسمان إثبات لصفات المدح
ونفي وتنزيه من صفات النقص
والإثبات نحو {الْحَمْدُ لِلَّهِ} في خمس سور و{تَبَارَكَ} في سورتين
الفرقان {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ} والملك {تَبَارَكَ
الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ}
(1/164)
والتنزيه
نحو {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ} {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ
الأَعْلَى} {سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ} {يُسَبِّحُ
لِلَّهِ} كلاهما في سبع سور فهذه أربع عشرة سورة استفتحت بالثناء على
الله لثبوت صفات الكمال ونصفها لسلب النقائص
قلت وهو سر عظيم من أسرار الألوهية قال صاحب العجائب سبح لله هذه كلمة
استأثر الله بها فبدأ بالمصدر منها في بني إسرائيل لأنه الأصل ثم
الماضي سبح لله في الحديد والحشر والصف لأنه أسبق الزمانين ثم المستقبل
في الجمعة والتغابن ثم بالأمر في سورة الأعلى استيعابا لهذه الكلمة من
جميع جهاتها وهى أربع المصدر والماضي والمستقبل والأمر المخاطب فهذه
أعجوبة وبرهان
2 الاستفتاح بحروف التهجي
الثاني استفتاح السور بحروف التهجي نحو الم المص المر كهيعص طه طس طسم
حم حمعسق ق ن وذلك في تسع وعشرين سورة
قال الزمخشرى وإذا تأملت الحروف التي افتتح الله بها السور وجدتها نصف
(1/165)
أسامي
حروف المعجم أربعة عشر الألف واللام والميم والصاد والراء والكاف
والهاء والياء والعين والطاء والسين والخاء والقاف والنون في تسع
وعشرين عدد حروف المعجم ثم تجدها مشتملة على أصناف أجناس الحروف
المهموسة والمجهورة والشديدة والمطبقة والمستعلية والمنخفضة وحروف
القلقلة ثم إذا استقريت الكلام تجد هذه الحروف هي أكثر دورا مما بقي
ودليله أن الألف واللام لما كانت أكثر تداورا جاءت في معظم هذه الفواتح
فسبحان الذي دقت في كل شيء حكمته انتهى
قيل وبقى عليه من الأصناف الشديدة والمنفتحة وقد ذكر تعالى نصفها أما
حروف الصفير فهي ثلاثة ليس لها نصف فجاء منها السين والصاد ولم يبق إلا
الزاي وكذلك الحروف اللينة ثلاثة ذكر منها اثنين الألف والياء أما
المكرر وهو الراء والهاوي وهو الألف والمنحرف وهو اللام فذكرها
ولم يأت خارجا عن هذا النمط إلا ما بين الشديدة والرخوة فإنه ذكر فيه
أكثر من النصف وهذا التداخل موجود في كل قسم قبله ولولاه لما انقسمت
هذه الأقسام كلها
ووهم الزمخشري في عدد حروف القلقلة إنما ذكر نصفها فإنها خمسة ذكر منها
حرفان القاف والطاء
(1/166)
وقال
القاضي أبو بكر إنما جاءت على نصف حروف المعجم كأنه قيل من زعم أن
القرآن ليس بآية فليأخذ الشطر الباقي ويركب عليه لفظا معارضة للقرآن
وقد علم ذلك بعض أرباب الحقائق
واعلم أن الأسماء المتهجاة في أول السور ثمانية وسبعون حرفا فالكاف
والنون كل واحد في مكان واحد والعين والياء والهاء والقاف كل واحد في
مكانين والصاد في ثلاثة والطاء في أربعة والسين في خمسة والراء في ستة
والحاء في سبعة والألف واللام في ثلاثة عشر والميم في سبعة عشر وقد جمع
بعضهم ذلك في بيتين وهما
كن واحد عيهق اثنان ثلاثة صا ... د الطاء أربعة والسين خمس علا
والراء ست وسبع الحاء آل ودج ... وميمها سبع عشر تم واكتملا
وهى في القرآن في تسعة وعشرين سورة وجملتها من غير تكرار أربعة عشر
حرفا يجمعها قولك نص حكيم قاطع له سر
وجمعها السهيلي في قوله الم يسطع نور حق كره
وهذا الضابط في لفظه ثقل وهو غير عذب في السمع ولا في اللفظ ولو قال لم
يكرها نص حق سطح لكان أعذب
ومنهم من ضبط بقوله طرق سمعك النصيحة وصن سرا يقطعك حمله وعلى صراط حق
يمسكه وقيل من حرص على بطه كاسر وقيل سر حصين قطع كلامه
ثم بنيتها ثلاثة حروف موحدة ص ق ن وعشرة مثنى طه طس يس حم واثنا عشر
مثلثة الحروف الم الر طسم واثنان حروفها أربعة المص المر واثنان حروفها
خمسة كهيعص حمعسق
وأكثر هذه السور التي ابتدئت بذكر الحروف ذكر منها ما هو ثلاثة أحرف
وما هو أربعة أحرف سورتان وما ابتدئ بخمسة أحرف سورتان
(1/167)
وأما ما
بدئ بحرف واحد فاختلفوا فيه فمنهم من لم يجعل ذلك حرفا وإنما جعله اسما
لشيء خاص ومنهم من جعله حرفا وقال أراد أن يتحقق الحروف مفردها
ومنظومتها
فأما ما ابتدئ بثلاثة أحرف ففيه سر وذلك أن الألف إذا بدئ بها أولا
كانت همزة وهي أول المخارج من أقصى الصدر واللام من وسط مخارج الحروف
وهي أشد الحروف اعتمادا على اللسان والميم آخر الحروف ومخرجها من الفم
وهذه الثلاثة هي أصل مخارج الحروف أعني الحلق واللسان والشفتين وترتبت
في التنزيل من البداية إلى الوسط إلى النهاية
فهذه الحروف تعتمد المخارج الثلاثة التي يتفرع منها ستة عشر مخرجا
ليصير منها تسعة وعشرون حرفا عليها مدار كلام الخلق أجمعين مع تضمنها
سرا عجيبا وهو أن الألف للبداية واللام للتوسط والميم للنهاية فاشتملت
هذه الأحرف الثلاثة على البداية والنهاية والواسطة بينهما
وكل سورة استفتحت بهذه الأحرف فهي مشتملة على مبدأ الخلق ونهايته
وتوسطه مشتملة على خلق العالم وغايته وعلى التوسط بين البداية من
الشرائع والأوامر فتأمل ذلك في البقرة وآل عمران وتنزيل السجدة وسورة
الروم
وأيضا فلأن الألف واللام كثرت في الفواتح دون غيرها من الحروف لكثرتها
في الكلام
وأيضا من أسرار علم الحروف أن الهمزة من الرئة فهي أعمق الحروف واللام
مخرجها من طرف اللسان ملصقة بصدر الغار الأعلى من الفم فصوتها يملأ ما
وراءها من هواء الفم والميم مطبقة لأن مخرجها من الشفتين إذا أطبقا
ويرمز بهن إلى باقي الحروف كما رمز
(1/168)
صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بقوله: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا
إله إلا الله" إلى الإتيان بالشهادتين وغيرهما مما هو من لوازمهما
وتأمل اقتران الطاء بالسين والهاء في القرآن فإن الطاء جمعت من صفات
الحروف خمس صفات لم يجمعها غيرها وهي
الجهر والشدة والاستعلاء والإطباق والإصمات والسين مهموس رخو مستفل
صفير منفتح فلا يمكن أن يجمع إلى الطاء حرف يقابلها كالسين والهاء فذكر
الحرفين اللذين جمعا صفات الحروف
وتأمل السورة التي اجتمعت على الحروف المفردة كيف تجد السورة مبنية على
كلمة ذلك الحرف فمن ذلك: {ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ} فإن السورة مبنية
على الكلمات القافية من ذكر القرآن ومن ذكر الخلق وتكرار القول
ومراجعته مرارا والقرب من ابن آدم وتلقي الملكين وقول العتيد وذكر
الرقيب وذكر السابق والقرين والإلقاء في جهنم والتقدم بالوعد وذكر
المتقين وذكر القلب والقرن والتنقيب في البلاد وذكر القتل مرتين وتشقق
الأرض وإلقاء الرواسي فيها وبسوق النخل والرزق وذكر القوم وخوف الوعيد
وغير ذلك
وسر آخر وهو أن كل معاني السورة مناسب لما في حرف القاف من الشدة
والجهر والقلقلة والانفتاح وإذا أردت زيادة إيضاح فتأمل ما اشتملت عليه
سورة ص من الخصومات المتعددة فأولها خصومة الكفار مع النبي صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقولهم: {أَجَعَلَ الآلِهَةَ
(1/169)
ِإلَهاً
وَاحِداً} إلى آخر كلامهم ثم اختصام الخصمين عند داود ثم تخاصم أهل
النار ثم اختصام الملأ الأعلى في العلم وهو الدرجات والكفارات ثم تخاصم
إبليس واعتراضه على ربه وأمره بالسجود ثم اختصامه ثانيا في شأن بنيه
وحلفه ليغوينهم أجمعين إلا أهل الإخلاص منهم
وكذلك سورة: {نْ وَالْقَلَمِ} فإن فواصلها كلها على هذا الوزن مع ما
تضمنت من الألفاظ النونية
وتأمل سورة الأعراف زاد فيها ص لأجل قوله: {فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ
حَرَجٌ} وشرح فيها قصص آدم فمن بعده من الأنبياء ولهذا قال بعضهم معنى
المص: {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ} وقيل معناه المصور وقيل أشار
بالميم لمحمد وبالصاد للصديق وفيه إشارة لمصاحبة الصاد الميم وأنها
تابعة لها كمصاحبة الصديق لمحمد ومتابعته له
وجعل السهيلي هذا من أسرار الفواتح وزاد في الرعد راء لأجل قوله:
{اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ} ولأجل ذكر الرعد والبرق
وغيرهما
واعلم أن عادة القرآن العظيم في ذكر هذه الحروف أن يذكر بعدها ما يتعلق
بالقرآن كقوله: {الم ذَلِكَ الْكِتَابُ} وقد جاء بخلاف ذلك في العنكبوت
والروم فيسأل عن حكمة ذلك.
تنبيهات
ثم لا بد من التنبيه على أحكام تختص بهذه الفواتح الشريفة
الأول: أن البصريين لم يعدوا شيئا منها آية وأما الكوفيون فمنها ما
عدوه آية ومنها
(1/170)
ما لم
يعدوه آية وهو علم توقيفي لا مجال للقياس فيه كمعرفة السور أما الم
فآية حيث وقعت من السور المفتتحة بها وهي ست وكذلك المص آية والمر لم
تعد آية والر ليست بآية من سورها الخمس وطسم آية في سوريتيها وطه ويس
آيتان وطس ليست بآية وحم آية في سورها كلها وحم عسق آيتان وكهيعص آية
واحدة وص وق ون لم تعد واحدة منها آية وإنما عد ما هو في حكم كلمة
واحدة آية كما عد الرحمن وحده ومداهمتان وحدها آيتين على طريق التوقيف:
وقال الو احدي في البسيط في أول سورة يوسف لا يعد شيء منها آية إلا في
طه وسره أن جميعها لا يشاكل ما بعده من رءوس الآي فلهذا لم يعد آية
بخلاف طه فإنها تشاكل ما بعدها
الثاني: هذه الفواتح الشريفة على ضربين
أحدهما: امالا يتأتى فيه إعراب نحو كهيعص والم
والثاني: ما يتأتى فيه وهو إما أن يكون اسما مفردا كص وق ون أو أسماء
عدة مجموعها على زنة مفرد ك حم وطس ويس فإنها موازنة لقابيل وهابيل
وكذلك طسم يتأتى فيها أن تفتح نونها فتصير ميم مضمومة إلى طس فيجعلا
اسما واحدا كدار انجرد فالنوع الأول محكي ليس إلا وأما النوع الثاني
فسائغ فيه الأمران الإعراب والحكاية
(1/171)
الثالث:
أنه يوقف على جميعها وقف التمام إن حملت على معنى مستقل غير محتاج إلى
ما بعده وذلك إذا لم تجعل أسماء للسور وينعق بها كما ينعق بالأصوات أو
جعلت وحدها أخبار ابتداء محذوف كقوله تعالى: {الم اللَّهُ} أي هذه
السورة آلم ثم ابتدأ فقال: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ
الْقَيُّومُ}
الرابع: أنها كتبت في المصاحف الشريفة على صورة الحروف أنفسها لا على
صورة أساميها وعلل ذلك بأن الكلمة لما كانت مركبة من ذوات الحروف
واستمرت العادة متى تهجيت ومتى قيل للكاتب اكتب كيت وكيت أن يلفظ
بالأسماء وتقع في الكتابة الحروف أنفسها فحمل على ذلك للمشاكلة
المألوفة في كتابة هذه الفواتح وأيضا فإن شهرة أمرها وإقامة ألسنة
الأحمر والأسود لها وأن اللافظ بها غير متهجاة لا يجيء بطائل فيها وأن
بعضها مفرد لا يخطر ببال غير ما هو عليه من مورده أمنت وقوع اللبس فيها
وقد اتفقت في خط المصحف أشياء خارجة عن القياسات التي يبنى عليها علم
الخط والهجاء ثم ما عاد ذلك بنكير ولا نقصان لاستقامة اللفظ وبقاء
الحفظ وكان اتباع خط المصحف سنة لا تخالف أشار إلى هذه الأحكام
المذكورة صاحب الكشاف
وقد اختلف الناس في الحروف المقطعة أوائل السور على قولين:
(1/172)
أحدهما:
أن هذا علم مستور وسر محجوب استأثر الله به ولهذا قال الصديق رضي الله
عنه في كل كتاب سر وسره في القرآن أوائل السور قال الشعبي إنها من
المتشابه نؤمن بظاهرها ونكل العلم فيها إلى الله عز وجل.
قال الإمام الرازي وقد أنكر المتكلمون هذا القول وقالوا لا يجوز أن يرد
في كتاب الله ما لا يفهمه الخلق لأن الله تعالى أمر بتدبره والاستنباط
منه وذلك لا يمكن إلا مع الإحاطة بمعناه ولأنه كما جاز التعبد بما لا
يعقل معناه في الأفعال فلم لا يجوز في الأقوال بأن يأمرنا الله تارة
بأن نتكلم بما نقف على معناه وتارة بما لا نقف على معناه ويكون القصد
منه ظهور الانقياد والتسليم.
القول الثاني أن المراد منها معلوم وذكروا فيه ما يزيد على عشرين وجها
فمنها البعيد ومنها القريب
أحدها ويروى عن ابن عباس رضي الله عنهما أن كل حرف منها مأخوذ من اسم
من أسمائه سبحانه فالألف من الله واللام من لطيف والميم من مجيد أو
الألف من آلائه واللام من لطفه والميم من مجده
قال ابن فارس وهذا وجه جيد وله في كلام العرب شاهد
قلنا لها قفي فقالت ق فعبر عن قولها وقفت بق
الثاني: أن الله أقسم بهذه الحروف بأن هذا الكتاب الذي يقرؤه محمد هو
الكتاب المنزل لا شك فيه وذلك يدل على جلالة قدر هذه الحروف إذ كانت
مادة البيان وما في كتب الله المنزلة باللغات المختلفة وهي أصول كلام
الأمم بها يتعارفون وقد أقسم الله تعالى ب: {الْفَجْرِ}{وَالطُّورِ}
فكذلك شأن هذه الحروف في القسم بها
(1/173)
الثالث:
أنها الدائرة من الحروف التسعة والعشرين فليس منها حرف إلا وهو مفتاح
اسم من أسمائه عز وجل أو آلائه أو بلائه أو مدة أقوام أو آجالهم فالألف
سنة واللام ثلاثون سنة والميم أربعون روي عن الربيع بن أنس قال ابن
فارس وهو قول حسن لطيف لأن الله تعالى أنزل على نبيه الفرقان فلم يدع
نظما عجيبا ولا علما نافعا إلا أودعه إياه علم ذلك من علمه وجهله من
جهله
الرابع: ويروى عن ابن عباس أيضا في قوله تعالى الم أنا الله أعلم وفي
المص أنا الله أفصل والر أنا الله أرى ونحوه من دلالة الحرف الواحد على
الاسم العام والصفة التامة
الخامس أنها أسماء للسور ف الم اسم لهذه وحم اسم لتلك وذلك أن الأسماء
وضعت للتمييز فهكذا هذه الحروف وضعت لتمييز هذه السور من غيرها ونقله
الزمخشري عن الأكثرين وأن سيبويه نص عليه في كتابه
وقال الإمام فخر الدين هو قول أكثر المتكلمين فإن قيل فقد وجدنا الم
افتتح بها عدة سور فأين التمييز قلنا قد يقع الوفاق بين اسمين لشخصين
ثم يميز بعد ذلك بصفة وقعت كما يقال زيد وزيد ثم يميزان بأن يقال زيد
الفقيه وزيد النحوي فكذلك إذا قرأ القارئ الم ذلك الكتاب فقد ميزها عن
الم الله لا إله إلا هو الحي القيوم
السادس: أن لكل كتاب سرا وسر القرآن فواتح السور قال ابن فارس وأظن
قائل ذلك أراد أنه من السر الذي لا يعلمه إلا الله والراسخون في العلم
واختاره جماعة منهم أبو حاتم بن حبان
(1/174)
قلت وقد
استخرج بعض أئمة المغرب من قوله تعالى {الم غُلِبَتِ الرُّومُ} فتوح
بيت المقدس واستنقاذه من العدو في سنة معينة وكان كما قال
السابع: أن العرب كانوا إذا سمعوا القرآن لغوا فيه وقال بعضهم: {لا
تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ} فأنزل الله هذا النظم
البديع ليعجبوا منه ويكون تعجبهم سببا لاستماعهم واستماعهم له سببا
لاستماع ما بعده فترق القلوب وتلين الأفئدة
الثامن: أن هذه الحروف ذكرت لتدل على أن القرآن مؤلف من الحروف التي هي
أ ب ت ث فجاء بعضها مقطعا وجاء تمامها مؤلفا ليدل القوم الذين نزل
القرآن بلغتهم أنه بالحروف التي يعقلونها ويبنون كلامهم منها
التاسع: واختاره ابن فارس وغيره أن تجعل هذه التأويلات كلها تأويلا
واحدا فيقال إن الله جل وعلا افتتح السور بهذه الحروف إرادة منه
للدلالة بكل حرف منها على معان كثيرة لا على معنى واحد فتكون هذه
الحروف جامعة لأن تكون افتتاحا وأن يكون كل واحد منها مأخوذا من اسم من
أسماء الله تعالى وأن يكون الله عز وجل قد وضعها هذا الوضع فسمى بها
وأن كل حرف منها في آجال قوم وأرزاق آخرين وهي مع ذلك مأخوذة من صفات
الله تعالى في إنعامه وإفضاله ومجده وأن الافتتاح بها سبب لأن يسمع
القرآن من لم يكن سمع وأن فيها إعلاما للعرب أن القرآن الدال على نبوة
محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بهذه الحروف وأن عجزهم عن
الإتيان بمثله مع نزوله بالحروف المتعالمة بينهم دليل على كفرهم
وعنادهم وجحودهم وأن كل عدد منها إذا وقع أول كل سورة فهو اسم لتلك
السورة
قال وهذا القول الجامع للتأويلات كلها والله أعلم بما أراد من ذلك
(1/175)
العاشر:
أنها كالمهيجة لمن سمعها من الفصحاء والموقظة للهمم الراقدة من البلغاء
لطلب التساجل والأخذ في التفاصيل وهي بمنزلة زمجرة الرعد قبل الناظر في
الأعلام لتعرف الأرض فضل الغمام وتحفظ ما أفيض عليها من الإنعام وما
هذا شأنه خليق بالنظر فيه والوقوف على معانيه بعد حفظ مبانيه
الحادي عشر: التنبيه على أن تعداد هذه الحروف ممن لم يمارس الخط ولم
يعان الطريقة على ما قال تعالى: {وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ
مِنْ كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لارْتَابَ
الْمُبْطِلُونَ}
الثاني عشر: انحصارها في نصف أسماء حروف المعجم لأنها أربعة عشر حرفا
على ما سبق تفصيله وهذا واضح على من عد حروف المعجم ثمانية وعشرين حرفا
وقال لا مركبة من اللام والألف والصحيح أنها تسعة وعشرون حرفا والنطق
بلا في الهجاء كالنطق في لا رجل في الدار وذلك لأن الواضع جعل كل حرف
من حروف المعجم صدر اسمه إلا الألف فإنه لما لم يمكن أن يبتدأ به لكونه
مطبوعا على السكون فلا يقبل الحركة أصلا توصل إليه باللام لأنها شابهته
في الاعتداد والانتصاب ولذلك يكتب على صورة الألف إلا إذا اتصل بما
بعده
فإن قلت: فقد تقدم اسم الألف في أول حروف الهجاء قلت ذلك اسم الهمزة
لوجهين أحدهما أنه صدره والثاني أنتها صدر ما تصدر من حروف المعجم
لتكون صورته ثلاثا وإنما كانت صدره لأن صورتها كالمتكررة أربع مرات
لأنها تلبس صورة العين وصورة الألف والواو والياء لما يعرض من الحركة
والسكون ولذلك أخروا ما بعد الطاء
(1/176)
والظاء
والعين لأن صورتها ليست متكررة وجوابه على هذا المذهب أن الحرف لا يمكن
تنصيفه فيتعين سقوط حرف لأنه الأليق بالإيجاز.
الثالث عشر: مجيئها في تسع وعشرين سورة بعدد الحروف فإن قلت هلا روعي
صورتها كما روعي عددها قلت عرض لبعضها الثقل لفظا فأهمل.
فصل
اعلم أنه لما كانت هذه الحروف ضرورية في النطق واجبة في الهجاء لازمة
التقدم في الخط والنطق إذ المفرد مقدم على المركب فقدمت هذه المفردات
على مركباتها في القرآن فليس في المفرد ما في المركب بل في المركب ما
في المفرد وزيادة ولما كان نزول القرآن في أزمنة متطاولة تزيد على
عشرين سنة وكان باقيا إلى آخر الزمان لأنه ناسخ لما قبله ولا كتاب بعده
جعل الله تعالى حروفه كالعلائم مبينة أن هذه السورة هي من قبيل تلك
التي أنزلت من عشر سنين مثلا حتى كأنها تتمة لها وإن كان بينهما مدة
وأما نزول ذلك في مدد وأزمنة أو نزول سور خالية عن الحروف فبحسب تلك
الوقائع وأما ترتيب وضعها في المصحف أعنى السور فله أسباب مذكورة في
النوع الثالث عشر
وأما زيادة بعض الحروف في بعض السور وتغيير بعضها فليعلم أن المراد
الإعلام بالحروف فقط وذلك أنه متى فرض الإنسان في بعضها شيئا مثل {الم}
السجدة لزمه في مثلها مثله كألف لام ميم البقرة فلما لم يجد دله ذلك
الثاني على بطلان الأول وتحقق أن هذه الحروف هي علامات المكتوب
والمنطوق وأما كونها اختصت بسورة البقرة فيحتمل أن
(1/177)
ذلك تنبيه
على السور وأنها احتوت على جملة المنطوق به من جهة الدلالة ولهذا حصلت
في تسعة وعشرين سورة بعدد جملة الحروف ولو كان القصد الاحتواء على نصف
الكتاب لجاءت في أربع عشرة سورة وهذا الاحتواء ليس من كل وجه بل من وجه
يرجع إلى النطق والفصاحة وتركيب ألفاظ اللغة العربية وما يقتضي أن يقع
فيه التعجيز ويحتمل لأن يكون لمعان أخر يجدها من يفتح الله عليه
بالتأمل والنظر أو هبة من لدنه سبحانه
ولا يمتنع أن يكون في بقية السور أيضا كما في ذوات الحروف بل هذه خصصت
بعلامات لفضيلة وجب من أجلها أن تعلم عليها السور لينبه على فضلها وهذا
من باب الاحتمال والأولى أن الأحرف إنما جاءت في تسعة وعشرين سورة
لتكون عدة السور دالة لنا على عدة الحروف فتكون السور من جهة العدة
مؤدية إلى الحروف من جهة العدة فيعلم أن الأربعة عشر عوض عن تسعة
وعشرين
3ـ الاستفتاح بالنداء
النوع الثالث من أنواع استفتاح السور النداء نحو {يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا} {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ}{يَا أَيُّهَا
الْمُدَّثِّرُ} وذلك في عشر سور
(1/178)
4ـ
الاستفتاح بالجمل الخبرية
الرابع: الجمل الخبرية نحو {يَسْأَلونَكَ عَنِ الأَنْفَالِ} {بَرَاءَةٌ
مِنَ اللَّهِ} {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ}{اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ
حِسَابُهُمْ} {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ}{سُورَةٌ
أَنْزَلْنَاهَا}{تَنْزِيلُ الْكِتَابِ}{الَّذِينَ كَفَرُوا}{إِنَّا
فَتَحْنَا}{اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ} {الرَّحْمَنُ عَلَّمَ
الْقُرْآنَ}{قَدْ سَمِعَ اللَّهُ}{الْحَاقَّةُ}{سَأَلَ سَائِلٌ}{إِنَّا
أُرْسِلْنَا}{لا أُقْسِمُ} في موضعين {عَبَسَ}{إِنَّا
أَنْزَلْنَاهُ}{لَمْ يَكُنْ}{الْقَارِعَةُ}{أَلْهَاكُمُ}{إِنَّا
أَعْطَيْنَاكَ} فتلك ثلاث وعشرون سورة
5ـ الاستفتاح بالقسم
الخامس القسم نحو
{وَالصَّافَّاتِ}{وَالذَّارِيَاتِ}{وَالطُّورِ}{وَالنَّجْمِ}{وَالْمُرْسَلاتِ}
{وَالنَّازِعَاتِ}{وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ}{وَالسَّمَاءِ
وَالطَّارِقِ}{وَالْفَجْرِ}{وَالشَّمْسَ}{وَاللَّيْلِ}{وَالضُّحَى}{وَالتِّينِ}{وَالْعَادِيَاتِ}{وَالْعَصْرِ}
فتلك خمس عشرة سورة
(1/179)
6ـ
الاستفتاح بالشرط
السادس: الشرط نحو {إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ} {إِذَا جَاءَكَ
الْمُنَافِقُونَ} {إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ}{إِذَا السَّمَاءُ
انْفَطَرَتْ} {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ}
{إِذَا زُلْزِلَتِ} {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ} فذلك سبع سور
7ـ الاستفتاح بالأمر
االسابع الاستفتاح بالأمر في ست سور {قُلْ أُوحِيَ} {اقْرَأْ بِاسْمِ
رَبِّكَ} {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} {قُلْ هُوَ اللَّهُ
أَحَدٌ} {قُلْ أَعُوذُ} في سورتين
8ـ الاستفتاح بالاستفهام
الثامن لفظ الاستفهام في {هَلْ أَتَى}{عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ} {هَلْ
أَتَاكَ}{أَلَمْ نَشْرَحْ}{أَلَمْ تَرَ}{أَرَأَيْتَ} فتلك ست سور
9ـ الاستفتاح بالدعاء
التاسع الدعاء في ثلاث سور {وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ} {وَيْلٌ لِكُلِّ
هُمَزَةٍ} {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ}
10 ـ الاستفتاح بالتعليل
العاشر التعليل في موضع واحد نحو {لإِيلافِ قُرَيْشٍ}
هكذا جمع الشيخ شهاب الدين أبو شامة المقدسي قال وما ذكرناه في قسم
(1/180)
الدعاء
يجوز أن يذكر مع الخبر وكذا الثناء على الله سبحانه وتعالى كله خبر
إلا: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} فإنه يدخل أيضا في
قسم الأمر و: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ}
يحتمل الأمر والخبر ونظم ذلك في بيتين فقال
أثنى على نفسه سبحانه بثبو ... ت المدح والسلب لما استفتح السورا
والأمر شرط الندا التعليل والقسم الدعا حروف التهجي استفهم الخبرا
(1/181)
|