البرهان في علوم القرآن
النوع
الثاني والعشرون: معرفة اختلاف الألفاظ بزيادة أو نقص أو تغييرحركة أو
إثبات لفظ بدل آخر
وذلك متواتر وآحاد ويوجد هذا الوجه من علم القراءة وأحسن الموضوع
للقراءات السبع كتاب التيسير لأبي عمرو الداني وقد نظمه أبو محمد
القاسم الشاطبي في لاميته التي عم النفع بها وكتاب الإقناع لأبي جعفر
بن الباذش وفي القراءات العشر كتاب المصباح لأبي الكرم الشهرزوري
واعلم أن القرآن والقراءات حقيقتان متغايرتان فالقرآن هو الوحي المنزل
على محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ للبيان والإعجاز والقراءات
هي اختلاف ألفاظ الوحي المذكور في كتبة الحروف أو كيفيتها من تخفيف
وتثقيل وغيرهما ثم هاهنا أمور:
أحدها: أن القراءات السبع متواترة عند الجمهور وقيل بل مشهورة ولا عبرة
بإنكار المبرد قراءة حمزة
{وَالأَرْحَامَ} و{مُصْرِخِيَّ} ولا بإنكار مغاربة النحاة
(1/318)
كابن
عصفور قراءة ابن عامر {قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكَائهُمْ} والتحقيق
أنها متواترة عن الأئمة السبعة أما تواترها عن النبي صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ففيه نظر فإن إسناد الأئمة السبعة بهذه القراءات
السبعة موجود في كتب القراءات وهي نقل الواحد عن الواحد لم تكمل شروط
التواتر في استواء الطرفين والواسطة وهذا شيء موجود في كتبهم وقد أشار
الشيخ شهاب الدين أبو شامة في كتابه المرشد الوجيز إلى شيء من ذلك
الثاني: استثنى الشيخ أبو عمرو بن الحاجب قولنا إن القراءات السبع
متواترة ما ليس من قبيل الأداء ومثله بالمد والإمالة وتخفيف الهمزة
يعنى فإنها ليست متواترة وهذا ضعيف والحق أن المد والإمالة لا شك في
تواتر المشترك بينهما وهو المد من حيث هو مد والإمالة من حيث إنها
إمالة ولكن اختلف القراء في تقدير المد فمنهم من رآه طويلا ومنهم من
رآه قصيرا ومنهم من بالغ في القصر ومنهم من تزايد فحمزة وورش بمقدار ست
لغات وقيل خمس وقيل أربع وعن عاصم ثلاث وعن الكسائي ألفان ونصف وقالون
ألفان والسوسي ألف ونصف
قال الداني في التيسير أطوالهم مدا في الضربين جميعا يعني المتصل
والمنفصل ورش وحمزة ودونهما عاصم ودونه ابن عامر والكسائي ودونهما أبو
عمرو من طريق أهل العراق وقالون من طريق أبي نشيط بخلاف عنه وهذا كله
على التقريب من غير إفراط وإنما هو على مقدار مذاهبهم من التحقيق
والحذف انتهي كلامه
فعلم بهذا أن أصل المد متواتر والاختلاف والطرق إنما هو في كيفية
التلفظ به
(1/319)
وكان
الإمام أبو القاسم الشاطبي يقرأ بمدتين طولى لورش وحمزة ووسطى لمن بقي
وعن الإمام أحمد بن حنبل أنه كره قرأة حمزة لما فيها من طول المد وغيره
فقال لا تعجبني ولو كانت متواترة لما كرهها وكذلك ذكر القراء أن
الإمالة قسمان إمالة محضة وهي أن ينحى بالألف إلى الياء وتكون الياء
أقرب بالفتحة إلى الكسر وتكون الكسرة أقرب وإمالة تسمى بين بين وهي
كذلك إلا أن الألف والفتحة أقرب وهذه أصعب الإمالتين وهي المختارة عند
الأئمة ولا شك في تواتر الإمالة أيضا وإنما اختلافهم في كيفيتها مبالغة
وحضورا
أما تخفيف الهمزة وهو الذي يطلق عليه تخفيف وتليين وتسهيل أسماء
مترادفة فإنه يشمل أربعة أنواع من التخفيف وكل منها متواتر بلا شك:
أحدها: النقل وهو نقل حركة الهمزة إلى الساكن قبلها، نحو: {قَدْ
أَفْلَحَ} بنقل حركة الهمزة وهي الفتحة إلى دال قد وتسقط الهمزة فيبقى
اللفظ بدال مفتوحة بعدها فاء وهذا النقل قراءة نافع من طريق ورش في حال
الوصل والوقف وقراءة حمزة في حال الوقف
الثاني: أن تبدل الهمزة حرف مد من جنس حركة ما قبلها إن كان قبلها فتحة
أبدلت ألفها نحو باس وهذا البدل قراءة أبي عمرو بن العلاء ونافع من
طريق ورش في فاء الفعل وحمزة إذا وقف على ذلك
الثالث: تخفيف الهمز بين بين ومعناه أن تسهل الهمزة بينها وبين الحرف
الذي منه حركتها فإن كانت مضمومة سهلت بين الهمزة والواو أو مفتوحة
فبين الهمزة والألف أو مكسورة فبين الهمزة والياء وهذا يسمى إشماما
وقرأ به كثير من القراء وأجمعوا عليه في قوله تعالى: {قُلْ
آلذَّكَرَيْنِ} ونحوه وذكره النحاة عن لغات العرب
(1/320)
قال: ابن
الحاجب في تصريفه واغتفر التقاء الساكنين في نحو آلحسن عندك؟ وآيمن
الله يمينك؟ وهو في كل كلمة أولها همزة وصل مفتوحة ودخلت همزة
الاستفهام عليها وذلك ما فيه لام التعريف مطلقا وفي ايمن الله وأيم
الله خاصة إذ لا ألف وصل مفتوحة سواها وإنما فعلوا ذلك خوف لبس الخبر
بالاستخبار ألا ترى أنهم لو قالوا ألحسن عندك وحذفوا همزة الوصل على
القياس في مثلها لم يعلم استخبار هو أم خبر؟ فأتوا بهذه عوضا عن همزة
الوصل قبل الساكن فصار قبل الساكن مدة فقالوا آلحسن عندك وكذلك آيمن
الله يمينك فيما ذكره وبعض العرب يجعل همزة الوصل فيما ذكرنا بين بين
ويقول آلحسن عندك وآيمن الله يمينك فيما ذكرنا وقد جاء عن القراء
بالوجهين في مثل ذلك والمشهور الأول وقد أشار الصحابة رضي الله عنهم
إلى التسهيل بين بين في رسم المصاحف العثمانية فكتبوا صورة الهمزة
الثانية في قوله تعالى في سورة آل عمران: {قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ} واوا
على إرادة التسهيل بين بين قاله الداني وغيره
الرابع: تخفيف الإسقاط وهو أن تسقط الهمزة رأسا وقد قرأ به أبو عمرو في
الهمزتين من كلمتين إذا اتفقتا في الحركة فأسقط الأولى منهما على رأي
الشاطبي وقيل الثانية في نحو: {جَاءَ أَجَلُهُمْ} ووافقه على ذلك في
المفتوحتين نافع من طريق قالون وابن كثير من طريق البزي وجاء هذا
الإسقاط في كلمة واحدة في قراءة قنبل عن ابن كثير في: {أَيْنَ
شُرَكَايَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ} بإسقاط همزة:
{شُرَكَائِيَ}
الثالث: أن القراءات توقيفية وليست اختيارية خلافا لجماعة منهم
الزمخشري حيث ظنوا أنها اختيارية تدور مع اختيار الفصحاء واجتهاد
البلغاء ورد على حمزة قراءة
(1/321)
{وَالأَرْحَامِ} بالخفض ومثل ما حكي عن أبي زيد والأصمعي ويعقوب
الحضرمي أن خطئوا حمزة في قراءته: {وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ} بكسر
الياء المشددة وكذا أنكروا على أبي عمرو إدغامه الراء عند اللام في:
{يَغْفِلَكُمْ}
وقال: الزجاج إنه خطأ فاحش ولا تدغم الراء في اللام إذا قلت مرلي بكذا
لأن الراء حرف مكرر ولا يدغم الزائد في الناقص للإخلال به فأما اللام
فيجوز إدغامه في الراء ولو أدغمت اللام في الراء لزم التكرير من الراء
وهذا إجماع النحويين انتهي
وهذا تحامل وقد انعقد الإجماع على صحة قراءة هؤلاء الأئمة وأنها سنة
متبعة ولا مجال للاجتهاد فيها ولهذا قال سيبويه في كتابه في قوله
تعالى: {مَا هَذَا بَشَراً} وبنو تميم يرفعونه إلا من درى كيف هي في
المصحف
وإنما كان كذلك لأن القراءة سنة مروية عن النبي صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولا تكون القراءة بغير ما روي عنه انتهى
(1/322)
الرابع:
ما تضمنه التيسير والشاطبية قال الشيخ أثير الدين أبو حيان لم يحويا
جميع القراءات السبع وإنما هي
نزر يسير منها ومن عنى بفن القراءات وطالع ما صنفه علماء الإسلام في
ذلك علم ذلك العلم اليقين وذلك أن بلادنا جزيرة الأندلس لم تكن من قديم
بلاد إقراء السبع لبعدها عن بلاد الإسلام واجتازوا عند الحج بديار مصر
وتحفظوا ممن كان بها من المصريين شيئا يسيرا من حروف السبع وكان
المصريون بمصر إذ ذاك لم تكن لهم روايات متسعة ولا رحلة إلى غيرها من
البلاد التي اتسعت فيها الروايات كأبي الطيب بن غلبون وابنه أبي الحسن
طاهر وأبي الفتح فارس بن أحمد وابنه عبد الباقي وأبي العباس بن نفيس
وكان بها أبو أحمد السامري وهو أعلاهم إسنادا
(1/323)
وسبب قلة
العلم والروايات بديار مصر ما كان غلب على أهلها من تغلب الإسماعيلية
عليها وقتل ملوكهم العلماء فكان من قدماء علمائنا ممن حج يأخذ بمصر
شيئا يسيرا كأبي عمر الطلمنكي صاحب الروضة وأبي محمد مكي بن أبي طالب
ثم رحل أبو عمرو الداني لطول إقامته بدانية فأخذ عن أبي خافان وفارس
وابن غلبون وصنف كتاب التيسير وقرأ على هؤلاء ورحل أيضا أبو القاسم
يوسف بن جبارة الأندلسي فأبعد في الشقة وجمع بين طريق المشرق والمغرب
وصنف كتاب الكامل يحتوى على القراءات السبع وغيرها ولم أر ولم أسمع
أوسع رحلة منه ولا أكثر شيوخا
وقد أقرأ القرآن بمكة أبو معشر الطبري وأبو عبد الله الكارزيني وكانا
متسعي الرواية
(1/324)
وكان بمصر
أبو علي المالكي مؤلف الروضة وكان قد قرأ بالعراق وأقرأ بمصر وبعدهم
التاج الكندي فأقرأ الناس بروايات كثيرة لم تصل إلى بلادنا وكان أيضا
ابن ماموية بدمشق يقرئ القرآن بالقراءات العشر وبمصر النظام الكوفي
يقرئ بالعشر وبغيرها كقراءة ابن محيصن والحسن وكان بمكة أيضا زاهر بن
رستم وأبو بكر الزنجاني وكانا قد أخذا عن أبي الكرم الشهرزوري كتاب
المصباح الزاهر في القراءات العشر البواهر وأقرأه الزنجاني لبعض شيوخنا
وكان عز الدين الفاروثي بدمشق يقرئ القرآن بروايات كثيرة حتى قيل إنه
أقرأ بقراءة أبى حنيفة
والحاصل اتساع روايات غير بلادنا وأن الذي تضمنه التيسير والتبصرة
والكافي وغيرها من تآليفهم إنما هو قل من كثر ونزر من بحر
وبيانه أن في هذه الكتب مثلا قراءة نافع من رواية ورش وقالون وقد روى
الناس عن نافع غيرهما منهم إسماعيل بن أبي جعفر المدني وأبو خلف وابن
حبان والأصمعي
(1/325)
والسبتي
وغيرهم ومن هؤلاء من هو أعلم وأوثق من ورش وقالون وكذا العمل في كل راو
وقارئ
الخامس: أن باختلاف القراءات يظهر الاختلاف في الأحكام ولهذا بنى
الفقهاء نقض وضوء الملموس وعدمه على اختلاف القراءات في {لمَسْتُمُ}
و{لامَسْتُمُ}
وكذلك جواز وطء الحائض عند الانقطاع وعدمه إلى الغسل على اختلافهم في:
{حَتَّى يَطْهُرْنَ}
وكذلك آية السجدة في سورة النمل مبنية على القراءتين قال الفراء من
خفف: {أَلا} كان الأمر بالسجود ومن شدد لم يكن فيها أمر به وقد نوزع في
ذلك
إذا علمت ذلك فاختلفوا في الآية إذا قرئت بقراءتين على قولين أحدهما أن
الله تعالى قال بهما جميعا والثاني أن الله تعالى قال بقراءة واحدة إلا
أنه أذن أن يقرأ بقراءتين
وهذا الخلاف غريب رأيته في كتاب البستان لأبي الليث السمرقندي ثم
اختاروا في المسألة توسطا وهو أنه إن كان لكل قراءة تفسير يغاير الآخر
فقد قال بهما جميعا
(1/326)
وتصير
القراءات بمنزلة آيتين مثل قوله: {وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى
يَطْهُرْنَ} وإن كان تفسيرهما واحدا كالبِيوت والبُيوت والمحصِنات
والمحصَنات بالنصب والجر فإنما قال بأحدهما وأجاز القراءة بهما لكل
قبيلة على ما تعود لسانهم
فإن قيل: إذا صح أنه قال بأحدهما فبأي القراءتين قال؟ قيل: بلغة قريش
انتهي
السادس: أن القراءات لم تكن متميزة عن غيرها إلا في قرن الأربعمائة
جمعها أبو بكر ابن مجاهد ولم يكن متسع الرواية والرحلة كغيره والمراد
بالقراءات السبع المنقولة عن الأئمة السبعة:
أحدهم عبد الله بن كثير المكي القرشي مولاهم أبو سعيد وقيل أبو محمد
وقيل أبو بكر وقيل أبو الصلت ويقال له الداري وهو من التابعين وسمع عبد
الله بن الزبير وغيره توفي بمكة سنة عشرين ومائة وقيل اثنتين وعشرين
الثاني: نافع بن عبد الرحمن بن أبى نعيم مولى جعونة بن شعوب الليثي هو
مدني أصله من أصبهان كنيته أبو رويم وقيل أبو الحسن وقيل أبو عبد
الرحمن وقيل
(1/327)
أبو عبد
الله توفي بالمدينة سنة تسع وستين ومائة
الثالث: عبد الله بن عامر بن يزيد بن ربيعة اليحصبي الدمشقي قاضى دمشق
وهو من كبار التابعين ولد في أول سنة إحدى وعشرين من الهجرة وتوفي
بدمشق يوم عاشوراء سنة ثمان عشرة ومائة وقيل ولد سنة ثمان من الهجرة
ومات وهو ابن مائة وعشر سنين وفي كنيته سبعة أقوال أصحها أبو عمرو وقيل
أبو محمد وأبو عبد الله وأبو موسى وأبو نعيم وأبو عثمان وأبو مغيث
الرابع: أبو عمرو بن العلاء بن عمار بن عبد الله البصرى قيل اسمه زبان
وقيل يحيى وقيل عثمان وقيل محبوب وقيل اسمه كنيته توفي بالكوفة سنة
أربع وخمسين ومائة وقرأ على ابن كثير وغيره
الخامس: عاصم بن أبي النجود بفتح النون أبو بكر الأسدى الكوفي توفي
بالكوفة سنة سبع وقيل ثمان وعشرين ومائة قال سفيان وأحمد بن حنبل
وغيرهما بهدلة هو أبو النجود وقال عمرو بن علي بهدلة أمه قال أبو بكر
داود هذا خطأ
وقال عبد الله بن أحمد قال أبي أنا أختار قراءة عاصم
السادس: حمزة بن حبيب بن عمارة بن إسماعيل الزيات التيمي مولاهم الكوفي
أبو عمارة توفي بحلوان سنة ثمان وقيل ست وخمسين ومائة
(1/328)
السابع:
الكسائي على بن حمزة الأسدي مولاهم الكوفي توفي سنة تسع وثمانين ومائة
كان قرأ على حمزة قال مكي وإنما ألحق بالسبعة في أيام المأمون وإنما
كان السابع يعقوب الحضرمي فأثبت ابن مجاهد في سنة ثلاثمائة أ ونحوها
الكسائي في موضع يعقوب
وليس في هؤلاء السبعة من العرب إلا ابن عامر وأبو عمرو.
قال مكي: وإنما كانوا سبعة لوجهين : أحدهما أن عثمان رضي الله عنه كتب
سبعة مصاحف ووجه بها إلى الأمصار فجعل عدد القراء على عدد المصاحف
الثاني: أنه جعل عددهم على عدد الحروف التي نزل بها القرآن وهي سبعة
على أنه لو جعل عددهم أكثر أو أقل لم يمتنع ذلك إذا عدد الرواة الموثوق
بهم أكثر من أن يحصى وقد ألف ابن جبير المقرئ وكان قبل ابن مجاهد كتابا
في القراءات وسماه كتاب الخمسة ذكر فيه خمسة من القراء لا غير وألف
غيره كتابا وسماه الثمانية وزاد على هؤلاء السبعة يعقوب الحضرمي انتهي
قلت: ومنهم من زاد ثلاثة وسماه كتاب العشرة
قال مكي: والسبب في اشتهار هؤلاء السبعة دون غيرهم أن عثمان رضي الله
عنه لما كتب المصاحف ووجهها إلى الأمصار وكان القراء في العصر الثاني
والثالث كثيري العدد فأراد الناس أن يقتصروا في العصر الرابع على ما
وافق المصحف فنظروا إلى إمام مشهور بالفقه والأمانة في النقل وحسن
الدين وكمال العلم قد طال عمره واشتهر أمره وأجمع أهل مصر على عدالته
فأفردوا من كل مصر وجه إليه عثمان مصحفا إماما هذه صفة قراءته على مصحف
ذلك المصر فكان أبو عمرو من أهل البصرة وحمزة وعاصم من أهل الكوفة
وسوادها والكسائي من العراق وابن كثير من أهل مكة
(1/329)
وابن عامر
من أهل الشام ونافع من أهل المدينة كلهم ممن اشتهرت إمامتهم وطال عمرهم
في الإقراء وارتحل الناس إليهم من البلدان
وأول من اقتصر على هؤلاء السبعة أبو بكر بن مجاهد سنة ثلاثمائة وتابعه
الناس وألحق المحققون منهم البغوي في تفسيره بهؤلاء السبعة قراءة ثلاثة
وهم يعقوب الحضرمي وخلف وأبو جعفر بن قعقاع المدني شيخ نافع لأنها لا
تخالف رسم السبع
وقال الإمام أبو محمد إسماعيل بن إبراهيم الهروي في كتاب الكافي له فإن
قال قائل فلم أدخلتم قراءة أبي حفص المدني ويعقوب الحضرمي في جملتهم
وهم خارجون عن السبعة المتفق عليهم؟ قلنا: إنما اتبعنا قراءتهما كما
اتبعنا السبعة لأنا وجدنا قراءتهما على الشرط الذي وجدناه في قراءة
غيرهما ممن بعدهما في العلم والثقة بهما واتصال إسنادهما وانتفاء الطعن
عن روايتهما ثم ان التمسك بقراءة سبعة فقط ليس له أثر ولا سنة وإنما
السنة أن تؤخذ القراءة إذا اتصلت رواتها نقلا وقراءة ولفظا ولم يوجد
طعن على أحد من رواتها ولهذا المعنى قدمنا السبعة على غيرهم وكذلك نقدم
أبا جعفر ويعقوب على غيرهما
ولا يتوهم أن قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أنزل القرآن
على سبعة أحرف" انصرافه إلى قراءة سبعة من القراء يولدون من بعد عصر
الصحابة بسنين كثيرة لأنه يؤدى إلى أن يكون الخبر متعريا عن فائدة إلى
أن يحدثوا ويؤدى إلى أنه لا يجوز لأحد من الصحابة أن يقرءوا إلا بما
علموا أن السبعة من القراء يختارونه قال وإنما ذكرناه لأن قوما من
العامة يتعلقون به
(1/330)
وقال
الشيخ موفق الدين الكواشي كل ما صح سنده واستقام مع جهة العربية وافق
لفظه خط المصحف الإمام فهو من السبع المنصوص عليها ولو رواه سبعون ألفا
مجتمعين أو متفرقين فعلى هذا الأصل يبني من يقول القراءات عن سبعة كان
أو سبعة آلاف ومتى فقد واحد من هذه الثلاثة المذكورة في القراءة فاحكم
بأنها شاذة ولا يقرأ بشيء من الشواذ وإنما يذكر ما يذكر من الشواذ
ليكون دليلا على حسب المدلول عليه أو مرجحا
وقال مكي وقد اختار الناس بعد ذلك وأكثر اختياراتهم إنما هو في الحرف
إذا اجتمع فيه ثلاثة أشياء قوة وجه العربية وموافقته للمصحف واجتماع
العامة عليه والعامة عندهم هو ما اتفق عليه أهل المدينة وأهل الكوفة
فذلك عندهم حجة قوية توجب الاختيار وربما جعلوا العامة ما اجتمع عليه
أهل الحرمين وربما جعلوا الاعتبار بما اتفق عليه نافع وعاصم فقراءة
هذين الإمامين أولى القراءات وأصحها سندا وأفصحها في العربية ويتلوها
في الفصاحة خاصة قراءة أبي عمرو والكسائي
وقال الشيخ شهاب الدين أبو شامة كل قراءة ساعدها خط المصحف مع صحة
النقل فيها ومجيئها على الفصيح من لغة العرب فهي قراءة صحيحة معتبرة
فإن اختل أحد هذه الأركان الثلاثة أطلق على تلك القراءة أنها شاذة
وضعيفة أشار إلى جماعة من الأئمة المتقدمين ونص عليه الشيخ أبو محمد
مكي بن أبي طالب القيرواني في كتاب مفرد صنفه في معاني القراءات السبع
وأمر بإلحاقه بكتاب الكشف وذكره شيخنا أبو الحسن في كتابه جمال القراء
(1/331)
قال أبو
شامة رحمة الله وقد ورد إلى دمشق استفتاء من بلاد العجم عن القراءة
الشاذة هل تجوز القراءة بها؟ وعن قراءة القارئ عشرا كل آية بقراءة قارئ
فأجاب عن ذلك جماعة من مشايخ عصرنا منهم شيخنا الشافعية والمالكية
حينئذ وكلاهما أبو عمر وعثمان يعنى ابن الصلاح وابن الحاجب
قال شيخ الشافعية: يشترط أن يكون المقروء به على تواتر نقله عن رسول
الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قرآنا واستفاض نقله بذلك
وتلقته الأمة بالقبول كهذه القراءات السبع لأن المعتبر في ذلك اليقين
والقطع على ما تقرر وتمهد في الأصول فما لم يوجد فيه ذلك ما عدا العشرة
فممنوع من القراءة به منع تحريم لا منع كراهة في الصلاة وخارج الصلاة
وممنوع منه ممن عرف المصادر والمعاني ومن لم يعرف ذلك وواجب على من قدر
على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أن يقوم بواجب ذلك وإنما نقلها من
نقلها من العلماء لفوائد منها ما يتعلق بعلم العربية لا القراءة بها
هذا طريق من استقام سبيله ثم قال والقراءة الشاذة ما نقل قرآنا من غير
تواتر واستفاضة متلقاة بالقبول من الأئمة كما يشتمل عليه المحتسب لابن
جني وغيره وأما القراءة بالمعنى على تجويزه من غير أن ينقل قرآنا فليس
ذلك من القراءة الشاذة أصلا والمتجرئ على ذلك متجرئ على عظيم وضال
ضلالا بعيدا فيعزر ويمنع بالحبس ونحوه ويجب منع القارئ بالشواذ وتأثيمه
بعد تعريفه وإن لم يمتنع فعليه التعزير بشرطه وأما إذا شرع القارئ في
قراءة فينبغي ألا يزال يقرأ بها ما بقى للكلام متعلق بما ابتدأ به وما
خالف هذا فمنه جائز وممتنع وعذره مانع من قيامه بحقه والعلم عند الله
تعالى
وقال شيخ المالكية رحمه الله لا يجوز أن يقرأ بالقراءة الشاذة في صلاة
ولا غيرها
(1/332)
عالما
بالعربية كان أو جاهلا وإذا قرأها قارئ فإن كان جاهلا بالتحريم عرف به
وأمر بتركها وإن كان عالما أدب بشرطه وإن أصر على ذلك أدب على إصراره
وحبس إلى أن يرتدع عن ذلك وأما تبديل آتينا بأعطينا وسولت بزينت ونحوه
فليس هذا من الشواذ وهو أشد تحريما والتأديب عليه أبلغ والمنع منه اوجب
وأما القراءة بالقراءات المختلفة في آي العشر الواحد فالأولى ألا يفعل
نعم إن قرأ بقراءتين في موضع إحداهما مبنية على الأخرى مثل أن يقرأ
نغفر لكم بالنون وخطيئاتكم بالجمع ومثل: {أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا
فَتُذَكِّرَ} بالنصب فهذا أيضا ممتنع وحكم المنع كما تقدم
قال الشيخ شهاب الدين: والمنع من هذا ظاهر وأما ما ليس كذلك فلا يمنع
منه فإن الجمع جائز والتخيير فيه بأكثر من ذلك كان حاصلا بما ثبت من
إنزال القرآن على سبعة حروف توسعة على القراء فلا ينبغي أن يضيق بالمنع
من هذا ولا ضرر فيه نعم أكره ترداد الآية بقراءات مختلفة كما يفعله أهل
زماننا في جمع القرآن لما فيه من الابتداع ولم يرد فيه شيء من
المتقدمين وقد بلغني كراهته عن بعض متصدري المغاربة المتأخرين
قلت: وما أفتى به الشيخان نقله النووي في شرح المهذب عن أصحاب الشافعي
فقال: قال أصحابنا وغيرهم لا تجوز القراءة في الصلاة ولا غيرها
بالقراءة الشاذة لأنها ليست قرآنا لأن القرآن لا يثبت إلا بالتواتر
والقراءة الشاذة ليست متواترة ومن قال غيره فغالط أو جاهل فلو خالف
وقرأ بالشاذ أنكر عليه قرءاتها في الصلاة وغيرها وقد اتفق فقهاء بغداد
على استتابة من قرأ بالشواذ ونقل ابن عبد البر إجماع المسلمين على أنه
لا تجوز القراءة بالشواذ ولا يصلى خلف من يقرأ بها
(1/333)
الأمر
السابع: أن حاصل اختلاف القراء يرجع إلى سبعة أوجه:
الأول: الاختلاف في إعراب الكلمة أو في حركات بقائها بما لا يزيلها عن
صورتها في الكتاب ولا يغير معناها نحو{البُخْل}و{البَخَل} و{مَيْسَرَة}
و{ميسُرة} {ومَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ}، {وهُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ}
و{أَطْهَرُ لَكُمْ} {وَهَلْ نُجَازِي إِلاَّ الْكَفُورَ}{وَهَلْ
يجَازِي إِلاَّ الْكَفُورَ}
الثاني: الاختلاف في إعراب الكلمة في حركات بما يغير معناها ولا يزيلها
عن صورتها في الخط نحو {رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا}
و{رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا }و {إِذْ تَلَقَّوْنَهُ} و{
تَلَقَّوْنَهُ} {وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ }و {بَعْدَ أُمَّةٍ} وهو
كثير يقرأ به لما صحت روايته ووافق العربية
الثالث: الاختلاف في تبديل حروف الكلمة دون إعرابها بما يغير معناها
ولا يغير
(1/334)
صورة الخط
بها في رأي العين نحو {كَيْفَ نُنْشِزُهَا} و{نُنْشِزُهَا} و{فُزِّعَ
عَنْ قُلُوبِهِمْ } و{فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ} و{يَقُصُّ الْحَقَّ}
و{يَقْضِي الْحَقَّ} وهو كثير يقرأ به إذا صح سنده ووجهه لموافقته
لصورة الخط في رأي العين
الرابع: الاختلاف في الكلمة بما يغير صورتها في الكتابة ولا يغير
معناها نحو: {إِنْ كَانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً وَاحِدَةً} و{إلا زقية
واحدة} و{كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ} و{ كالصَّوف المنقوش} فهذا يقبل
إذا صحت روايته ولا يقرأ به اليوم لمخالفته لخط المصحف ولأنه إنما ثبت
عن آحاد
الخامس: الاختلاف في الكلمة بما يزيل صورتها في الخط ويزيل معناها
نحو{آلم تَنْزِيلُ الْكِتَابِ}في موضع
{آلم ذَلِكَ الْكِتَابُ}و{طَلْحٍ مَنْضُودٍ}و{طَلْع مَنْضُودٍ} فهذا لا
يقرأ به أيضا لمخالفته الخط ويقبل منه ما لم يكن فيه تضاد لما عليه
المصحف
السادس: الاختلاف بالتقديم والتأخير نحو ما روي عن أبي بكر الصديق رضي
الله عنه أنه قرأ عند الموت
{وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْحَقِّ بِالْمَوْتِ} وبهذا قرأ ابن
(1/335)
مسعود
فهذا يقبل لصحة معناه إذا صحت روايته ولا يقرأ به لمخالفته المصحف
ولأنه غير واحد
السابع: الاختلاف بالزيادة والنقص في الحروف والكلم نحو: {وَمَا
عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ} {وَمَا عَمِلَتْ}
و{نعجة أنثى} ونظائره فهذا يقبل منه ما لم يحدث حكما لم يقله أحد ويقرأ
منه ما اتفقت عليه المصاحف في إثباته وحذفه نحو{تجرى تحتها} في براءة
عند رأس المائة و{مِنْ تَحْتِهَا} و{فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ
الْحَمِيدُ} في الحديد و{ فإن الله الغني} ونحو ذلك مما اختلف فيه
المصاحف التي وجه بها عثمان إلى الأمصار فيقرأ به إذ لم يخرجه عن خط
المصحف ولا يقرأ منه ما لم تختلف فيه المصاحف لا يزاد شيء لم يزد فيها
ولا ينقص شيء لم ينقص منها
الأمر الثامن: قال أبو عبيد في كتاب فضائل القرآن إن القصد من القراءة
الشاذة تفسير القراءة المشهورة وتبيين معانيها وذلك كقراءة عائشة وحفصة
حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى صلاة العصر
وكقراءة ابن مسعود والسارق والسارقة فاقطعوا أيمانهما
(1/336)
ومثل
قراءة أبي {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ
أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا فِيهِن}
وكقراءة سعد بن أبي وقاص: {وإن كان له أخ أو أخت من أم فلكل. . . . . .
. . }
وكما قرأ ابن عباس {لا جناح عليكم أن تبتغوا فضلا من ربكم في مواسم
الحج}
قلت: وكذا قراءته "وأيقن أنه الفراق" وقال: ذهب الظن قال أبو الفتح
يريد أنه ذهب اللفظ الذي يصلح للشك وجاء اللفظ الذي هو مصرح باليقين
انتهي
وكقراءة جابر: "فإن الله من بعد إكراههن له غفور رحيم"
فهذه الحروف وما شاكلها قد صارت مفسرة للقرآن وقد كان يروى مثل هذا عن
بعض التابعين في التفسير فيستحسن ذلك فكيف إذا روي عن كبار الصحابة ثم
صار في نفس القراءة فهو الآن أكثر من التفسير وأقوى فأدنى ما يستنبط من
هذه الحروف معرفة صحة التأويل على أنها من العلم الذي لا يعرف العامة
فضله إنما يعرف ذلك
(1/337)
العلماء
ولذلك يعتبر بهما وجه القرآن كقراءة من قرأ {يَقُضِ الْحَقَّ} فلما
وجدتها في قراءة عبد الله {يقضِي الحق} علمت أنها إنما هي {يقضِ}
فقرأتها على ما في المصحف واعتبرت صحتها بتلك القراءة وكذلك قراءة من
قرأ: {أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ} ثم
لما وجدتها في قراءة أبي تنبئهم علمت أن وجه القراءة {تُكَلِّمُهُمْ}
في أشباه من هذا كثيرة
فائدة
قيل قراءة ابن كثير ونافع وأبي عمرو راجعة إلى أبي وقراءة ابن عامر إلى
عثمان بن عفان وقراءة عاصم وحمزة والكسائي إلى عثمان وعلى وابن مسعود
فائدة
قال ابن مجاهد إذا شك القارئ في حرف هل هو ممدود أو مقصور فليقرأ
بالقصر وإن شك في حرف هل هو مفتوح أو مكسور فليقرأ بالفتح لأن الأول
غير لحن في بعض المواضع
(1/338)
|