التبيان في إعراب القرآن ق وَالْقُرْآنِ
الْمَجِيدِ (1) بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ
مِنْهُمْ فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ (2)
أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ (3)
قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنَا
كِتَابٌ حَفِيظٌ (4) بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا
جَاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ (5) أَفَلَمْ يَنْظُرُوا
إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا
وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ (6) وَالْأَرْضَ
مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا
فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (7) تَبْصِرَةً وَذِكْرَى
لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (8)
سُورَةُ ق.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ.
قَالَ تَعَالَى: (ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ (1) بَلْ عَجِبُوا
أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا
شَيْءٌ عَجِيبٌ (2) أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا ذَلِكَ
رَجْعٌ بَعِيدٌ (3)) .
مَنْ قَالَ: (ق) قَسَمٌ؛ جَعَلَ الْوَاوَ فِي (وَالْقُرْآنِ)
عَاطِفَةً، وَمَنْ قَالَ غَيْرَ ذَلِكَ كَانَتْ وَاوَ
الْقَسَمِ، وَجَوَابُ الْقَسَمِ مَحْذُوفٌ. قِيلَ: هُوَ
قَوْلُهُ: (قَدْ عَلِمْنَا. . . (4)) أَيْ لَقَدْ، وَحُذِفَتِ
اللَّامُ لِطُولِ الْكَلَامِ.
وَقِيلَ: هُوَ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: لَتُبْعَثُنَّ، أَوْ
لَتُرْجَعُنَّ، عَلَى مَا دَلَّ عَلَيْهِ سِيَاقُ الْآيَاتِ.
وَ (بَلْ) : لِلْخُرُوجِ مِنْ قِصَّةٍ إِلَى قِصَّةٍ. وَ
(إِذَا) : مَنْصُوبَةٌ بِمَا دَلَّ عَلَيْهِ الْجَوَابُ؛ أَيْ
نَرْجِعُ.
قَالَ تَعَالَى: (أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ
فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا
مِنْ فُرُوجٍ (6) وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا
فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ
بَهِيجٍ (7) تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (8))
.
قَوْلُهُ تَعَالَى: (فَوْقَهُمْ) : هُوَ حَالٌ مِنَ
السَّمَاءِ، أَوْ ظَرْفٌ لِيَنْظُرُوا.
وَ (الْأَرْضُ) : مَعْطُوفٌ عَلَى مَوْضِعِ السَّمَاءِ؛ أَيْ
وَيَرَوُا الْأَرْضَ؛ فَـ «مَدَدْنَاهَا» عَلَى هَذَا حَالٌ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَنْتَصِبَ عَلَى تَقْدِيرِ: وَمَدَدْنَا
الْأَرْضَ.
وَ (تَبْصِرَةً) : مَفْعُولٌ لَهُ، أَوْ حَالٌ مِنَ
الْمَفْعُولِ؛ أَيْ ذَاتُ تَبْصِيرٍ؛ أَوْ مَصْدَرٌ؛ أَيْ
بَصَّرْنَاهُمْ تَبْصِرَةً. (وَذِكْرَى) : كَذَلِكَ.
(2/1173)
وَنَزَّلْنَا مِنَ
السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ
وَحَبَّ الْحَصِيدِ (9) وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ
نَضِيدٌ (10) رِزْقًا لِلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً
مَيْتًا كَذَلِكَ الْخُرُوجُ (11) كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ
نُوحٍ وَأَصْحَابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ (12) وَعَادٌ
وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوَانُ لُوطٍ (13) وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ
وَقَوْمُ تُبَّعٍ كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ
(14) أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي
لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ (15) وَلَقَدْ خَلَقْنَا
الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ
وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ (16) إِذْ
يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ
الشِّمَالِ قَعِيدٌ (17) مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا
لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ (18)
قَالَ تَعَالَى: (وَنَزَّلْنَا مِنَ
السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ
وَحَبَّ الْحَصِيدِ (9) وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ
نَضِيدٌ (10) رِزْقًا لِلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً
مَيْتًا كَذَلِكَ الْخُرُوجُ (11)) .
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَحَبَّ الْحَصِيدِ) : أَيْ وَحَبَّ
النَّبْتِ الْمَحْصُودِ، وَحُذِفَ الْمَوْصُوفُ. وَقَالَ
الْفَرَّاءُ: هُوَ فِي تَقْدِيرِ صِفَةِ الْأَوَّلِ؛ أَيْ
وَالْحَبَّ الْحَصِيدَ؛ وَهَذَا بَعِيدٌ لِمَا فِيهِ مِنْ
إِضَافَةِ الشَّيْءِ إِلَى نَفْسِهِ، وَمِثْلُهُ: (حَبْلِ
الْوَرِيدِ) [ق: 16] أَيْ حَبْلِ الْعِرْقِ الْوَرِيدِ؛ وَهُوَ
فَعِيلٌ بِمَعْنَى فَاعِلٍ؛ أَيْ وَارِدٌ، أَوْ بِمَعْنَى
مَوْرُودٍ فِيهِ.
(وَالنَّخْلَ) مَعْطُوفٌ عَلَى الْحَبِّ. وَ (بَاسِقَاتٍ) :
حَالٌ. وَ (لَهَا طَلْعٌ) : حَالٌ أَيْضًا. وَنَضِيدٌ
بِمَعْنَى مَنْضُودٍ وَ (رِزْقًا) : مَفْعُولٌ لَهُ، أَوْ
وَاقِعٌ مَوْقِعَ الْمَصْدَرِ. وَ (بِهِ) أَيْ بِالْمَاءِ.
قَالَ تَعَالَى: (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ
مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ
حَبْلِ الْوَرِيدِ (16)) .
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَنَعْلَمُ) : أَيْ وَنَحْنُ نَعْلَمُ،
فَالْجُمْلَةُ حَالٌ مُقَدَّرَةٌ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ
مُسْتَأْنَفًا.
قَالَ تَعَالَى: (إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ
الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ (17) مَا يَلْفِظُ مِنْ
قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ (18)) .
قَوْلُهُ تَعَالَى (إِذْ يَتَلَقَّى) : يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ
ظَرْفًا لِأَقْرَبُ، وَأَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ: اذْكُرْ.
وَ (قَعِيدٌ) : مُبْتَدَأٌ، وَ «عَنِ الشِّمَالِ» خَبَرُهُ،
وَدَلَّ «قَعِيدٌ» هَذَا عَلَى «قَعِيدٌ» الْأَوَّلِ؛ أَيْ
عَنِ الْيَمِينِ قَعِيدٌ.
وَقِيلَ: «قَعِيدٌ» الْمَذْكُورُ الْأَوَّلُ، وَالثَّانِي:
مَحْذُوفٌ.
(2/1174)
وَجَاءَتْ سَكْرَةُ
الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ (19)
وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ (20)
وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ (21) لَقَدْ
كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ
فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ (22) وَقَالَ قَرِينُهُ هَذَا
مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ (23) أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ
كَفَّارٍ عَنِيدٍ (24)
وَقِيلَ: لَا حَذْفَ، وَقَعِيدٌ بِمَعْنَى
قَعِيدَانِ، وَأَغْنَى الْوَاحِدُ عَنْ الِاثْنَيْنِ، وَقَدْ
سَبَقَتْ لَهُ نَظَائِرُ. وَ (رَقِيبٌ عَتِيدٌ) : وَاحِدٌ فِي
اللَّفْظِ، وَالْمَعْنَى: رَقِيبَانِ عَتِيدَانِ.
قَالَ تَعَالَى: (وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ
ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ (19)) .
قَوْلُهُ تَعَالَى: (بِالْحَقِّ) : هُوَ حَالٌ، أَوْ مَفْعُولٌ
بِهِ.
قَالَ تَعَالَى: (وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ
وَشَهِيدٌ (21) لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا
فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ
(22)) .
قَوْلُهُ تَعَالَى: (مَعَهَا سَائِقٌ) : الْجُمْلَةُ صِفَةٌ
لِنَفْسٍ، أَوْ كُلٍّ، أَوْ حَالٌ مِنْ كُلٍّ؛ وَجَازَ لِمَا
فِيهِ مِنَ الْعُمُومِ، وَالتَّقْدِيرُ: يُقَالُ لَهُ: لَقَدْ
كُنْتَ، وَذُكِّرَ عَلَى الْمَعْنَى.
قَالَ تَعَالَى: (وَقَالَ قَرِينُهُ هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ
(23)) .
قَوْلُهُ تَعَالَى: (هَذَا) : مُبْتَدَأٌ، وَفِي «مَا»
وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: هِيَ نَكِرَةٌ، وَ «عَتِيدٌ»
صِفَتُهَا. وَ «لَدَيَّ» مَعْمُولُ عَتِيدٍ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ «لَدَيَّ» صِفَةً أَيْضًا،
فَيَتَعَلَّقُ بِمَحْذُوفٍ، وَ «مَا» وَصِفَتُهَا خَبَرُ
هَذَا.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنْ تَكُونَ «مَا» بِمَعْنَى الَّذِي،
فَعَلَى هَذَا تَكُونُ «مَا» مُبْتَدَأً، وَ «لَدَيَّ» صِلَةً،
وَ «عَتِيدٌ» خَبَرَ «مَا» وَالْجُمْلَةُ خَبَرَ «هَذَا» .
وَيَجُوزُ أَنَّ تَكُونَ «مَا» بَدَلًا مِنْ هَذَا.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ «عَتِيدٌ» خَبَرَ مُبْتَدَأٍ
مَحْذُوفٍ، وَيَكُونُ «مَا لَدَيَّ» خَبَرًا عَنْ «هَذَا» أَيْ
هُوَ عَتِيدٌ، وَلَوْ جَاءَ ذَلِكَ فِي غَيْرِ الْقُرْآنِ
لَجَازَ نَصْبُهُ عَلَى الْحَالِ.
قَالَ تَعَالَى: (أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ
عَنِيدٍ (24)) .
قَوْلُهُ تَعَالَى: (أَلْقِيَا) أَيْ يُقَالُ ذَلِكَ، وَفِي
لَفْظِ التَّثْنِيَةِ هُنَا أَوْجُهٌ؛ أَحَدُهَا: أَنَّهُ
خِطَابُ الْمَلَكَيْنِ. وَالثَّانِي: هُوَ لِوَاحِدٍ،
وَالْأَلِفُ عِوَضٌ مِنْ تَكْرِيرِ الْفِعْلِ؛ أَيْ أَلْقِ
أَلْقِ.
وَالثَّالِثُ: هُوَ لِوَاحِدٍ؛ وَلَكِنْ خَرَجَ عَلَى لَفْظِ
التَّثْنِيَةِ عَلَى عَادَتِهِمْ، كَقَوْلِهِمْ خَلِيلِيَّ
عُوجَا،
(2/1175)
مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ
مُعْتَدٍ مُرِيبٍ (25) الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا
آخَرَ فَأَلْقِيَاهُ فِي الْعَذَابِ الشَّدِيدِ (26) قَالَ
قَرِينُهُ رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ وَلَكِنْ كَانَ فِي
ضَلَالٍ بَعِيدٍ (27) قَالَ لَا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ
قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ (28) مَا يُبَدَّلُ
الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (29)
يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ
مِنْ مَزِيدٍ (30) وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ
غَيْرَ بَعِيدٍ (31) هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ
حَفِيظٍ (32) مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ
بِقَلْبٍ مُنِيبٍ (33) ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ ذَلِكَ يَوْمُ
الْخُلُودِ (34)
وَخَلِيلِيَّ مُرَّا بِي؛ وَذَلِكَ أَنَّ
الْغَالِبَ مِنْ حَالِ الْوَاحِدِ مِنْهُمْ أَنْ يَصْحَبَهُ
فِي السَّفَرِ اثْنَانِ. وَالرَّابِعُ: أَنَّ مِنَ الْعَرَبِ
مَنْ يُخَاطِبُ الْوَاحِدَ بِخِطَابِ الِاثْنَيْنِ، كَقَوْلِ
الشَّاعِرِ:
فَإِنْ تَزْجُرَانِي يَا بْنَ عَفَّانَ أَنْزَجِرْ ... وَإِنْ
تَدَعَانِي أَحْمِ عِرْضًا مُمَنَّعًا
وَالْخَامِسُ: أَنَّ الْأَلِفَ بَدَلٌ مِنَ النُّونِ
الْخَفِيفَةِ، وَأُجْرِيَ الْوَصْلُ مَجْرَى الْوَقْفِ.
قَالَ تَعَالَى: (مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُرِيبٍ
الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَأَلْقِيَاهُ فِي
الْعَذَابِ الشَّدِيدِ (26)) .
قَوْلُهُ تَعَالَى: (مُرِيبٍ الَّذِي) : الْجُمْهُورُ عَلَى
كَسْرِ التَّنْوِينِ. وَقُرِئَ بِفَتْحِهَا فِرَارًا مِنَ
الْكَسَرَاتِ وَالْيَاءِ.
قَالَ تَعَالَى: (وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ
غَيْرَ بَعِيدٍ (31) هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ
حَفِيظٍ (32)) .
(غَيْرَ بَعِيدٍ) : أَيْ مَكَانًا غَيْرَ بَعِيدٍ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ حَالًا مِنَ الْجَنَّةِ، وَلَمْ
يُؤَنَّثْ؛ لِأَنَّ الْجَنَّةَ وَالْبُسْتَانَ وَالْمَنْزِلَ
مُتَقَارِبَاتٌ.
وَ (هَذَا مَا تُوعَدُونَ) : التَّقْدِيرُ: يُقَالُ لَهُمْ:
«هَذَا. . .» وَالْيَاءُ فِي «تُوعَدُونَ» عَلَى الْغَيْبَةِ؛
وَالتَّاءُ عَلَى الرُّجُوعِ إِلَى الْخِطَابِ.
قَالَ تَعَالَى: (مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ
بِقَلْبٍ مُنِيبٍ (33) ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ ذَلِكَ يَوْمُ
الْخُلُودِ (34)) .
قَوْلُهُ تَعَالَى: (مَنْ خَشِيَ) : فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ؛ أَيْ
هُمْ مَنْ خَشِيَ، أَوْ فِي مَوْضِعِ جَرٍّ بَدَلًا مِنَ
«الْمُتَّقِينَ» أَوْ مِنْ «كُلِّ أَوَّابٍ» أَوْ فِي مَوْضِعِ
نَصْبٍ؛ أَيْ أَعْنِي مَنْ خَشِيَ.
وَقِيلَ: «مَنْ» : مُبْتَدَأٌ، وَالْخَبَرُ مَحْذُوفٌ
تَقْدِيرُهُ: يُقَالُ لَهُمُ ادْخُلُوهَا.
وَ (بِسَلَامٍ) : حَالٌ.
(2/1176)
لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ
فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ (35) وَكَمْ أَهْلَكْنَا
قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشًا
فَنَقَّبُوا فِي الْبِلَادِ هَلْ مِنْ مَحِيصٍ (36) إِنَّ فِي
ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى
السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ (37) وَلَقَدْ خَلَقْنَا
السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ
أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ (38) فَاصْبِرْ عَلَى
مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ
الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ (39) وَمِنَ اللَّيْلِ
فَسَبِّحْهُ وَأَدْبَارَ السُّجُودِ (40) وَاسْتَمِعْ يَوْمَ
يُنَادِ الْمُنَادِ مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ (41) يَوْمَ
يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ
(42) إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ
(43) يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِرَاعًا ذَلِكَ
حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ (44)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (ذَلِكَ) أَيْ زَمَنُ
ذَلِكَ «يَوْمُ الْخُلُودِ» .
قَالَ تَعَالَى: (لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا
مَزِيدٌ (35) وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ
أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشًا فَنَقَّبُوا فِي الْبِلَادِ هَلْ
مِنْ مَحِيصٍ (36)) .
قَوْلُهُ تَعَالَى: (فِيهَا) : يَجُوزُ أَنْ يَتَعَلَّقَ
بِيَشَاءُونَ؛ وَأَنْ يَكُونَ حَالًا مِنْ «مَا» أَوْ مِنَ
الْعَائِدِ الْمَحْذُوفِ. وَ (كَمْ) : نُصِبَ بِـ
«أَهْلَكْنَا» . وَ (هُمْ أَشَدُّ) : يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ
جَرًّا صِفَةً لِقَرْنٍ، وَنَصْبًا صِفَةً لِكَمْ.
وَدَخَلَتِ الْفَاءُ فِي «فَنَقَّبُوا» عَطْفًا عَلَى
الْمَعْنَى؛ أَيْ بَطَشُوا فَنَقَّبُوا، وَفِيهَا قِرَاءَاتٌ
ظَاهِرَةُ الْمَعْنَى، وَالْمَعْنَى: هَلْ لَهُمْ، أَوْ هَلْ
لِمَنْ سَلَكَ طَرِيقَهُمْ.
(مِنْ مَحِيصٍ) : أَيْ مَهْرَبٍ، فَحُذِفَ الْخَبَرُ.
قَالَ تَعَالَى: (وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبَارَ
السُّجُودِ (40) وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنَادِي الْمُنَادِي مِنْ
مَكَانٍ قَرِيبٍ (41) يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ
بِالْحَقِّ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ (42) إِنَّا نَحْنُ
نُحْيِي وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ (43) يَوْمَ
تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِرَاعًا ذَلِكَ حَشْرٌ
عَلَيْنَا يَسِيرٌ (44)) .
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَأَدْبَارَ السُّجُودِ) بِفَتْحِ
الْهَمْزَةِ، جَمْعُ دُبُرٍ، وَبِكَسْرِهَا مَصْدَرُ أَدْبَرَ؛
وَالتَّقْدِيرُ: وَقْتَ إِدْبَارِ السُّجُودِ. وَ (يَوْمَ
يَسْمَعُونَ) : بَدَلٌ مِنْ «يَوْمَ يُنَادِي» . وَ (يَوْمَ
تَشَقَّقُ) ظَرْفٌ لِلْمَصِيرِ، أَوْ بَدَلٌ مِنْ يَوْمَ
الْأَوَّلِ. وَ (سِرَاعًا) : حَالٌ؛ أَيْ يَخْرُجُونَ
سِرَاعًا.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ «يَوْمَ تَشَقَّقُ» ظَرْفًا لِهَذَا
الْمُقَدَّرِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
(2/1177)
وَالذَّارِيَاتِ
ذَرْوًا (1) فَالْحَامِلَاتِ وِقْرًا (2) فَالْجَارِيَاتِ
يُسْرًا (3) فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْرًا (4) إِنَّمَا
تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ (5) وَإِنَّ الدِّينَ لَوَاقِعٌ (6)
وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْحُبُكِ (7) إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ
مُخْتَلِفٍ (8) يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ (9) قُتِلَ
الْخَرَّاصُونَ (10) الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ سَاهُونَ
(11) يَسْأَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ (12) يَوْمَ هُمْ
عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ (13)
سُورَةُ الذَّارِيَاتِ.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ.
قَالَ تَعَالَى: (وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا (1) فَالْحَامِلَاتِ
وِقْرًا (2) فَالْجَارِيَاتِ يُسْرًا (3) فَالْمُقَسِّمَاتِ
أَمْرًا (4)) .
قَوْلُهُ تَعَالَى: (ذَرْوًا) : مَصْدَرٌ الْعَامِلُ فِيهِ
اسْمُ الْفَاعِلِ. وَ (وِقْرًا) : مَفْعُولُ «الْحَامِلَاتِ»
وَ (يُسْرًا) : مَصْدَرٌ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ؛ أَيْ
مُيَسَّرَةً. وَ (أَمْرًا) : مَفْعُولُ «الْمُقَسِّمَاتِ» .
قَالَ تَعَالَى: (يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ (9)) .
قَوْلُهُ تَعَالَى: (يُؤْفَكُ عَنْهُ) : الْهَاءُ عَائِدَةٌ
عَلَى الدِّينِ؛ أَوْ عَلَى «مَا تُوعَدُونَ» .
وَقِيلَ: عَلَى «قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ» أَيْ يُصْرَفُ عَنْ ذَلِكَ
مَنْ صُرِفَ عَنِ الْحَقِّ.
قَالَ تَعَالَى: (يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ
(13)) .
قَوْلُهُ تَعَالَى: (يَوْمَ هُمْ) : هُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى
الْفَتْحِ لِإِضَافَتِهِ إِلَى الْجُمْلَةِ، وَمَوْضِعُهُ
رَفْعٌ؛ أَيْ هُوَ يَوْمُ هُمْ. . . .
وَقِيلَ: هُوَ مُعْرَبٌ، وَفُتِحَ عَلَى حُكْمِ الظَّرْفِ.
وَقِيلَ: مَوْضِعُهُ نَصْبٌ؛ أَيْ أَعْنِي يَوْمَهُمْ.
وَقِيلَ: هُوَ ظَرْفٌ لِلدِّينِ؛ أَيْ يَوْمَ الْجَزَاءِ.
وَقِيلَ: التَّقْدِيرُ: يُجَازَوْنَ يَوْمَ هُمْ.
وَ (هُمْ) : مُبْتَدَأٌ وَ «يُفْتَنُونَ» : الْخَبَرُ
وَعَدَّاهُ بِعَلَى؛ لِأَنَّ الْمَعْنَى يُجْبَرُونَ عَلَى
النَّارِ.
وَقِيلَ: هُوَ بِمَعْنَى فِي.
(2/1178)
إِنَّ الْمُتَّقِينَ
فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (15) آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ
إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ (16) كَانُوا
قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ (17)
وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (18)
قَالَ تَعَالَى: (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي
جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (15) آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ
إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ (16)) .
وَ (آخِذِينَ) : حَالٌ مِنَ الضَّمِيرِ فِي الظَّرْفِ
وَالظَّرْفُ خَبَرُ إِنَّ.
فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ جَاءَ الظَّرْفُ هُنَا خَبَرًا؛ وَ
«آخِذِينَ» حَالًا، وَعَكْسُ ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: (إِنَّ
الْمُجْرِمِينَ فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ)
[الزُّخْرُفِ: 74] .
قِيلَ: الْخَبَرُ مَقْصُودُ الْجُمْلَةِ، وَالْغَرَضُ مِنْ
ذِكْرِ الْمُجْرِمِينَ الْإِخْبَارُ عَنْ تَخْلِيدِهِمْ؛
لِأَنَّ الْمُؤْمِنَ قَدْ يَكُونُ فِي النَّارِ؛ وَلَكِنْ
يَخْرُجُ مِنْهَا؛ فَأَمَّا «إِنَّ الْمُتَّقِينَ. . .»
فَجُعِلَ الظَّرْفُ فِيهَا خَبَرًا؛ لِأَنَّهُمْ يَأْمَنُونَ
الْخُرُوجَ مِنْهَا، فَجُعِلَ آخِذِينَ فَضْلَةً.
قَالَ تَعَالَى: (كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا
يَهْجَعُونَ (17) وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (18))
.
قَوْلُهُ تَعَالَى: (كَانُوا قَلِيلًا) : فِي خَبَرِ «كَانَ»
وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: «مَا يَهْجَعُونَ» وَفِي «مَا» عَلَى هَذَا
وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: هِيَ زَائِدَةٌ؛ أَيْ كَانُوا
يَهْجَعُونَ قَلِيلًا، وَ «قَلِيلًا» نَعْتٌ لِظَرْفٍ، أَوْ
مَصْدَرٌ؛ أَيْ زَمَانًا قَلِيلًا، أَوْ هُجُوعًا قَلِيلًا.
وَالثَّانِي: هِيَ نَافِيَةٌ؛ ذَكَرَهُ بَعْضُ
النَّحْوِيِّينَ، وَرُدَّ ذَلِكَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ النَّفْيَ
لَا يَتَقَدَّمُ عَلَيْهِ مَا فِي حَيِّزِهِ، وَ «قَلِيلًا»
مِنْ حَيِّزِهِ.
وَالثَّانِي: أَنَّ (قَلِيلًا) : خَبَرُ كَانَ وَ (مَا)
مَصْدَرِيَّةٌ؛ أَيْ كَانُوا قَلِيلًا هُجُوعُهُمْ؛ كَمَا
تَقُولُ: كَانُوا يَقِلُّ هُجُوعُهُمْ.
وَيَجُوزُ عَلَى هَذَا أَنْ يَكُونَ «مَا يَهْجَعُونَ» بَدَلًا
مِنَ اسْمِ كَانَ بَدَلَ الِاشْتِمَالِ.
وَ
(مِنَ اللَّيْلِ) لَا يَجُوزُ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِـ
«يَهْجَعُونَ» عَلَى هَذَا الْقَوْلِ؛ لِمَا فِيهِ مِنْ
تَقْدِيمِ مَعْمُولِ الْمَصْدَرِ عَلَيْهِ؛ وَإِنَّمَا هُوَ
مَنْصُوبٌ عَلَى التَّبْيِينِ؛ أَيْ يَتَعَلَّقُ بِفِعْلٍ
مَحْذُوفٍ يُفَسِّرُهُ يَهْجَعُونَ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: تَمَّ
الْكَلَامُ عَلَى قَوْلِهِ «قَلِيلًا» ثُمَّ اسْتَأْنَفَ؛
فَقَالَ: مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ. وَفِيهِ بُعْدٌ؛
لِأَنَّكَ إِنْ جَعَلْتَ «مَا» نَافِيَةً فَسَدَ لِمَا
ذَكَرْنَا، وَإِنْ جَعَلْتَهَا مَصْدَرِيَّةً لَمْ يَكُنْ
فِيهِ مَدْحٌ؛ لِأَنَّ كُلَّ النَّاسِ يَهْجَعُونَ فِي
اللَّيْلِ. (
(2/1179)
وَفِي أَنْفُسِكُمْ
أَفَلَا تُبْصِرُونَ (21) وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا
تُوعَدُونَ (22) فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ
لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ (23)
وَبِالْأَسْحَارِ) : الْبَاءُ بِمَعْنَى
فِي.
قَالَ تَعَالَى: (وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ
(21)) .
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَفِي أَنْفُسِكُمْ) : الْمُبْتَدَأُ
مَحْذُوفٌ؛ أَيْ وَفِي أَنْفُسِكُمْ آيَاتٌ، وَمَنْ رَفَعَ
بِالظَّرْفِ جَعَلَ ضَمِيرَ الْآيَاتِ فِي الظَّرْفِ.
وَقِيلَ: يَتَعَلَّقُ بِـ «تُبْصِرُونَ» وَهَذَا ضَعِيفٌ؛
لِأَنَّ الِاسْتِفْهَامَ وَالْفَاءَ يَمْنَعَانِ مِنْ ذَلِكَ.
قَالَ تَعَالَى: (وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا
تُوعَدُونَ (22)) .
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ) : أَيْ
سَبَبُ رِزْقِكُمْ، يَعْنِي الْمَطَرَ.
قَالَ تَعَالَى: (فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ
لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ (23)) .
قَوْلُهُ تَعَالَى: (مِثْلَ مَا) : يُقْرَأُ بِالرَّفْعِ عَلَى
أَنَّهُ نَعَتٌ لِـ «حَقٌّ» أَوْ خَبَرٌ ثَانٍ، أَوْ عَلَى
أَنَّهُمَا خَبَرٌ وَاحِدٌ؛ مِثْلَ حُلْوٍ حَامِضٍ. وَ «مَا»
زَائِدَةٌ عَلَى الْأَوْجُهِ الثَّلَاثَةِ.
وَيُقْرَأُ بِالْفَتْحِ وَفِيهِ وَجْهَانِ؛ أَحَدُهُمَا: هُوَ
مُعْرَبٌ، ثُمَّ فِي نَصْبِهِ عَلَى هَذَا أَوْجُهٌ؛ إِمَّا
هُوَ حَالٌ مِنَ النَّكِرَةِ، أَوْ مِنَ الضَّمِيرِ فِيهَا،
أَوْ عَلَى إِضْمَارِ أَعْنِي، أَوْ عَلَى أَنَّهُ مَرْفُوعُ
الْمَوْضِعِ؛ وَلَكِنَّهُ فُتِحَ كَمَا فُتِحَ الظَّرْفُ فِي
قَوْلِهِ: (لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ) [الْأَنْعَامِ: 94]
عَلَى قَوْلِ الْأَخْفَشِ وَ «مَا» عَلَى هَذِهِ الْأَوْجُهِ
زَائِدَةٌ أَيْضًا. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: هُوَ مَبْنِيٌّ،
وَفِي كَيْفِيَّةِ بِنَائِهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ رَكِبَ مَعَ «مَا» كَخَمْسَةَ عَشَرَ، وَ
«مَا» عَلَى هَذَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ زَائِدَةً، وَأَنْ
تَكُونَ نَكِرَةً مَوْصُوفَةً. وَالثَّانِي: أَنْ تَكُونَ
بُنِيَتْ لِأَنَّهَا أُضِيفَتْ إِلَى مُبْهَمٍ، وَفِيهَا
إِبْهَامٌ، وَقَدْ ذُكِرَ مِثْلُهُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:
(وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ) [هُودٍ: 66] فَتَكُونُ «مَا» عَلَى
هَذَا أَيْضًا إِمَّا زَائِدَةً، وَإِمَّا بِمَعْنَى شَيْءٍ.
(2/1180)
هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ
ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ (24) إِذْ دَخَلُوا
عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ
(25) فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ (26)
فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ (27)
فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لَا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ
بِغُلَامٍ عَلِيمٍ (28) فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ
فَصَكَّتْ وَجْهَهَا وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ (29) قَالُوا
كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ
(30) قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (31)
قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (32)
لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ طِينٍ (33) مُسَوَّمَةً
عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ (34) فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ
فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (35) فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا
غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (36) وَتَرَكْنَا فِيهَا
آيَةً لِلَّذِينَ يَخَافُونَ الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (37) وَفِي
مُوسَى إِذْ أَرْسَلْنَاهُ إِلَى فِرْعَوْنَ بِسُلْطَانٍ
مُبِينٍ (38) فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ وَقَالَ سَاحِرٌ أَوْ
مَجْنُونٌ (39) فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي
الْيَمِّ وَهُوَ مُلِيمٌ (40) وَفِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا
عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ (41) مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ
أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ (42) وَفِي
ثَمُودَ إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ (43)
وَأَمَّا «أَنَّكُمْ» فَيَجُوزُ أَنْ
يَكُونَ مَوْضِعُهَا جَرًّا بِالْإِضَافَةِ إِذَا جُعِلَتْ
«مَا» زَائِدَةً، وَأَنْ تَكُونَ بَدَلًا مِنْهَا إِذَا
كَانَتْ بِمَعْنَى شَيْءٍ؛ وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ فِي
مَوْضِعِ نَصْبٍ بِإِضْمَارِ أَعْنِي، أَوْ رَفْعٍ عَلَى
تَقْدِيرِ: هُوَ أَنَّكُمْ.
قَالَ تَعَالَى: (هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ
الْمُكْرَمِينَ (24) إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا
سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ (25)) .
قَوْلُهُ تَعَالَى: (إِذْ دَخَلُوا) : «إِذْ» ظَرْفٌ
لِحَدِيثٍ، أَوْ لِضَيْفٍ، أَوْ لِمُكْرَمِينَ؛ لَا لِأَتَاكَ.
وَقَدْ ذُكِرَ الْقَوْلُ فِي «سَلَامًا» فِي هُودٍ.
قَالَ تَعَالَى: (فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ
فَصَكَّتْ وَجْهَهَا وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ قَالُوا
كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكِ إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ
(30)) .
قَوْلُهُ تَعَالَى: (فِي صَرَّةٍ) : هُوَ حَالٌ مِنَ
الْفَاعِلِ.
وَ (كَذَلِكَ) فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ بِـ «قَالَ» الثَّانِيَةِ.
قَالَ تَعَالَى: (لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ طِينٍ
(33) مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ (34)) .
قَوْلُهُ تَعَالَى: (مُسَوَّمَةً) : هُوَ نَعْتٌ لِحِجَارَةٍ
أَوْ حَالٌ مِنَ الضَّمِيرِ فِي الْجَارِّ.
وَ (عِنْدَ) : ظَرْفٌ لِمُسَوَّمَةٍ.
قَالَ تَعَالَى: (وَفِي مُوسَى إِذْ أَرْسَلْنَاهُ إِلَى
فِرْعَوْنَ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (38) فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ
وَقَالَ سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (39)) .
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَفِي مُوسَى) أَيْ وَتَرَكْنَا فِي
مُوسَى آيَةً.
وَ (إِذْ) : ظَرْفٌ لِآيَةٍ، أَوْ لِتَرَكْنَا، أَوْ نَعْتٌ
لَهَا. وَ (بِسُلْطَانٍ) : حَالٌ مِنْ مُوسَى، أَوْ مِنْ
ضَمِيرِهِ.
وَ (بِرُكْنِهِ) : حَالٌ مِنْ ضَمِيرِ فِرْعَوْنَ.
قَالَ تَعَالَى: (وَفِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ
الرِّيحَ الْعَقِيمَ (41) مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ
عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ (42) وَفِي ثَمُودَ
إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ (43)) .
(وَفِي عَادٍ) ؛ (وَفِي ثَمُودَ) أَيْ وَتَرَكْنَا آيَةَ.
(2/1181)
وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ
قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (46)
وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ
(47) وَالْأَرْضَ فَرَشْنَاهَا فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ (48)
وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ
تَذَكَّرُونَ (49) فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ
مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ (50) وَلَا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ
إِلَهًا آخَرَ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ (51)
كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ
إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (52) أَتَوَاصَوْا بِهِ
بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ (53) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَا
أَنْتَ بِمَلُومٍ (54) وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ
الْمُؤْمِنِينَ (55) وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ
إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56) مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ
وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ (57) إِنَّ اللَّهَ هُوَ
الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ (58)
قَالَ تَعَالَى: (وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ
قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (46)
وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ
(47) وَالْأَرْضَ فَرَشْنَاهَا فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ (48)
وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ
تَذَكَّرُونَ (49)) .
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَقَوْمَ نُوحٍ) : يُقْرَأُ بِالْجَرِّ
عَطْفًا عَلَى ثَمُودَ.
وَبِالنَّصْبِ عَلَى تَقْدِيرِ: وَأَهْلَكْنَا؛ وَدَلَّ
عَلَيْهِ مَا تَقَدَّمَ مِنْ إِهْلَاكِ الْأُمَمِ
الْمَذْكُورِينَ؛ وَيَجُوزُ أَنْ يُعْطَفَ عَلَى مَوْضِعِ
«وَفِي مُوسَى» .
وَبِالرَّفْعِ عَلَى الِابْتِدَاءِ، وَالْخَبَرُ مَا بَعْدَهُ،
أَوْ عَلَى تَقْدِيرِ: أُهْلِكُوا.
(وَالسَّمَاءَ) : مَنْصُوبَةٌ بِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ؛ أَيْ
وَرَفَعْنَا السَّمَاءَ، وَهُوَ أَقْوَى مِنَ الرَّفْعِ؛
لِأَنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلَى مَا عَمِلَ فِيهِ الْفِعْلُ.
«وَالْأَرْضَ» مِثْلُهُ.
وَ (بِأَيْدٍ) : حَالٌ مِنَ الْفِعْلِ. وَ (نِعْمَ
الْمَاهِدُونَ) أَيْ نَحْنُ، فَحُذِفَ الْمَخْصُوصُ
بِالْمَدْحِ.
(وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ) : مُتَعَلِّقٌ بِـ «خَلَقْنَا» .
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ نَعْتًا لِـ «زَوْجَيْنِ» قُدِّمَ
فَصَارَ حَالًا.
قَالَ تَعَالَى: (كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ
قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ
مَجْنُونٌ (52)) .
قَوْلُهُ تَعَالَى: (كَذَلِكَ) : أَيِ الْأَمْرُ كَذَلِكَ.
قَالَ تَعَالَى: (إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو
الْقُوَّةِ الْمَتِينُ (58)) .
قَوْلُهُ تَعَالَى: (الْمَتِينُ) : بِالرَّفْعِ عَلَى
النَّعْتِ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ.
وَقِيلَ: هُوَ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ؛ أَيْ هُوَ
الْمَتِينُ، وَهُوَ هُنَا كِنَايَةٌ عَنْ مَعْنَى الْقُوَّةِ؛
إِذْ مَعْنَاهُ الْبَطْشُ، وَهَذَا فِي مَعْنَى الْقِرَاءَةِ
بِالْجَرِّ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
(2/1182)
|