الحجة للقراء السبعة

ـ[الحجة للقراء السبعة]ـ
المؤلف: الحسن بن أحمد بن عبد الغفار الفارسيّ الأصل، أبو علي (المتوفى: 377هـ)
المحقق: بدر الدين قهوجي - بشير جويجابي
راجعه ودققه: عبد العزيز رباح - أحمد يوسف الدقاق
الناشر: دار المأمون للتراث - دمشق / بيروت
الطبعة: الثانية، 1413 هـ - 1993م
عدد الأجزاء: 7
[ترقيم الكتاب موافق للمطبوع وهو مذيل بالحواشي]

(/)


[مقدمة التحقيق]
المقدّمة
بسم الله الرّحمن الرّحيم الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا قيّما.
كتابا ختم به الكتب، وأنزله على نبيّ ختم به الأنبياء، بدين شامل ختم به الأديان، صلى الله وسلّم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه الطيبين الواعين الذين حفظت صدورهم وسطّرت أقلامهم ما تنزل على نبيّهم من ربّه، ونقلوه لمن بعدهم كما حفظوه وسطروه، ونفوا عنه تحريف الغالين، وتأويل المبطلين.
وبعد، هذا كتاب الحجّة للقرّاء السبعة أئمة الأمصار بالحجاز والعراق والشام الذين ذكرهم ابن مجاهد في كتابه، نقدّمه للقرّاء في ثوب جديد وإخراج مشرق، وقد يئس المتلهفون إلى رؤيته من استكماله وذلك بعد مرور ثمانية عشر عاما على صدور جزئه الأول عن دار الكتاب العربي في القاهرة.
نقدم على طبعه ونشره مستعينين بالله على إتمامه، سائلين إياه أن يلقى القبول لدى المهتمين بكتاب الله عزّ وجلّ ولغته، راجين أن يجنّبنا الزلل، ويلهمنا الصواب في القول والعمل.
وقد جرت العادة في التحقيق والتأليف أن يقدم المحقق أو المؤلّف بين يدي كتابه مقدمة تكون بمثابة نافذة على الكتاب ومفتاح له، تمهّد لفهمه وتعطي القارئ نظرة شاملة وإلمامة سريعة عجلى، فيترجم للمؤلف، ويكشف النهج الذي سلكه، وخاصة إن كانت مقدمة الكتاب على النحو المقتضب الذي قدّمه الفارسي لكتابه هذا، كما توقف القارئ على الخطة التي التزمها المحقق في إبراز هذا المؤلّف والطريقة التي سلكها في إخراجه ونشره.

(المقدمة/3)


وقد رأيت قبل الحديث عن المؤلّف والكتاب أن أمهّد له بما يتصل بالموضوع ويحسن بالقارئ الاطّلاع عليه والإفادة منه، فأسوق جوابا لأسئلة تتعلق بقوله صلّى الله عليه وسلّم في الحديث المتفق عليه: «إن هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف فاقرءوا ما تيسر منه» «1» ثم أذكر شروط القراءة الصحيحة.

1 - ما سبب ورود القرآن على سبعة أحرف؟
سبب وروده على سبعة أحرف هو التخفيف على هذه الأمة، وإرادة اليسر بها، والتهوين عليها شرفا لها وتوسعة ورحمة، وإجابة لقصد نبيّها أفضل الخلق حيث أتاه جبريل فقال له: «إن الله يأمرك أن تقرئ أمتك القرآن على حرف، فقال صلّى الله عليه وسلّم: أسأل الله معافاته ومعونته، إن أمتي لا تطيق ذلك» ولم يزل يردّد المسألة حتى بلغ سبعة أحرف.
وذلك أن الأنبياء عليهم السلام كانوا يبعثون إلى قومهم الخاصين بهم، والنبي صلّى الله عليه وسلّم بعث إلى جميع الخلق أحمرها وأسودها، عربيّها وعجميّها، وكانت العرب الذين نزل القرآن بلغتهم لغاتهم مختلفة، وألسنتهم شتّى، ويعسر على أحدهم الانتقال من لغته إلى غيرها، أو من حرف إلى آخر، بل قد يكون بعضهم لا يقدر على ذلك ولو بالتعليم والعلاج، لا سيما الشيخ والمرأة، ومن لم يقرأ كتابا، فلو كلفوا العدول عن لغتهم والانتقال عن ألسنتهم لكان من التكليف بما لا يستطاع. قال ابن قتيبة في كتاب المشكل: فكان من تيسير الله تعالى أن أمر نبيّه صلّى الله عليه وسلّم بأن يقرئ كل قوم بلغتهم وما جرت عليه عادتهم:
فالهذلي يقرأ (عتّى حين) يريد: (حتى حين) لأنه هكذا يلفظ بها ويستعملها، والأسدي يقرأ: تعلمون، وتعلم. وتَسْوَدُّ وُجُوهٌ [آل عمران/ 106] وإِذا قِيلَ لَهُمْ [البقرة/ 11] وَغِيضَ الْماءُ [هود/ 44] بإشمام الضم مع الكسر وهذِهِ بِضاعَتُنا رُدَّتْ إِلَيْنا [يوسف/ 65] بإشمام الكسر مع الضم، وما لَكَ لا تَأْمَنَّا بإشمام الضم مع الإدغام، وهذا ما لا يطوع به كل لسان. ولو أن كل فريق أمر أن يزول عن لغته وما جرى عليه اعتياده طفلا وناشئا وكهلا لاشتد ذلك عليه، وعظمت المحنة فيه، ولم يمكنه إلا بعد رياضة للنفس طويلة، وتذليل للسان، وقطع للعادة، فأراد الله برحمته ولطفه، أن يجعل لهم متسعا في اللغات، ومتصرفا في الحركات كتيسيره عليهم في الدين «2»».
__________
(1) ملخصة من كتاب النشر للجزري.
(2) تأويل مشكل القرآن 39 - 40.

(المقدمة/4)


2 - معنى الأحرف:
قال أهل اللغة: حرف كل شيء، طرفه ووجهه، وحافته وحده وناحيته والقطعة منه. والحرف أيضا: واحد حروف التهجّي، كأنه قطعة من الكلمة.
قال الحافظ أبو عمرو الداني: معنى الأحرف التي أشار إليها النبي صلّى الله عليه وسلّم هاهنا يتوجه إلى وجهين:
أحدهما: أن يعني أن القرآن أنزل على سبعة أوجه من اللغات، لأن الأحرف جمع حرف في القليل، كفلس وأفلس. والحرف قد يراد به الوجه، بدليل قوله تعالى: يَعْبُدُ اللَّهَ عَلى حَرْفٍ [الحج/ 11] فالمراد بالحرف هنا الوجه، أي على النعمة والخير وإجابة السؤال والعافية، فإذا استقامت له هذه الأحوال اطمأن وعبد الله، وإذا تغيرت عليه، وامتحنه بالشدّة والضر ترك العبادة وكفر، فهذا عبد الله على وجه واحد، فلهذا سمّى النبي صلّى الله عليه وسلّم هذه الأوجه المختلفة من القراءات، والمتغاير من اللغات أحرفا، على معنى أن كل شيء منها وجه.
والوجه الثاني من معناها: أن يكون سمى القراءات أحرفا، على طريق السعة، كعادة العرب في تسميتهم الشيء باسم ما هو منه، وما قاربه وجاوره، وكان كسبب منه، وتعلق به ضربا من التعلّق، كتسميتهم الجملة باسم البعض منها، فلذلك سمى صلّى الله عليه وسلّم القراءة حرفا، وإن كان كلاما كثيرا من أجل أن منها حرفا من غير نظمه، أو
كسر، أو قلب إلى غيره، أو أميل، أو زيد أو نقص منه، على ما جاء في المختلف فيه من القراءة. فسمى القراءة إذا كان ذلك الحرف فيها حرفا، على عادة العرب في ذلك واعتمادا على استعمالها.
قلت: وكلا الوجهين محتمل، إلا أن الأول محتمل احتمالا قويا في قوله صلّى الله عليه وسلّم: «سبعة أحرف» أي: سبعة أوجه وأنحاء. والثاني محتمل احتمالا قويا في قول عمر رضي الله عنه في الحديث: سمعت هشاما يقرأ سورة الفرقان على حروف كثيرة لم يقرئنيها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. أي: على قراءات كثيرة. وكذا قوله في الرواية الأخرى: سمعته يقرأ فيها أحرفا لم يكن نبي الله صلّى الله عليه وسلّم أقرأنيها.
فالأول غير الثاني، كما يأتي بيانه.

(المقدمة/5)


3 - ما المقصود بهذه السبعة؟
اختلف العلماء في المقصود بهذه السبعة مع إجماعهم على أنه ليس المقصود أن يكون الحرف يقرأ على سبعة أوجه «1»، نحو: «أف، وجبريل، وأرجه، وهيهات، وهيت» وعلى أنه لا يجوز أن يكون المراد هؤلاء السبعة القرّاء المشهورين، وإن كان يظنه بعض العوّام، لأن هؤلاء السبعة لم يكونوا خلقوا ولا وجدوا. وأول من جمع قراءاتهم أبو بكر بن مجاهد في أثناء المائة الرابعة. وأكثر العلماء على أنها لغات، ثم اختلفوا في تعيينها. ثم يناقش ابن الجزري هذا القول ويعرض غيره من الآراء ثم يردّها.

4 - ما وجه كونها سبعة دون أن تكون أقل أو أكثر؟
قال الأكثرون: إن أصول قبائل العرب تنتهي إلى سبعة، أو أن اللغات الفصحى سبع، وكلاهما دعوى.
وقيل: ليس المراد بالسبعة حقيقة العدد بحيث لا يزيد ولا ينقص، بل المراد السعة والتيسير، وأنه لا حرج عليهم في قراءته بما هو من لغات العرب من حيث إن الله تعالى أذن لهم في ذلك، والعرب يطلقون لفظ السبع والسبعين والسبعمائة ولا يريدون حقيقة العدد بحيث لا يزيد ولا ينقص، بل يريدون الكثرة والمبالغة، من غير حصر، قال تعالى: (كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ) و (إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً) وقال صلّى الله عليه وسلّم: في الحسنة: «إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة». وهذا جيد لولا أن الحديث يأباه، فإنه ثبت في الحديث من غير وجه أنه لمّا أتاه جبريل بحرف واحد قال له ميكائيل:
استزده، وأنه سأل الله تعالى التهوين على أمته، فأتاه على حرفين، فأمره ميكائيل بالاستزادة، وسأل الله التخفيف، فأتاه بثلاثة. ولم يزل كذلك حتى بلغ سبعة أحرف.
وفي حديث أبي بكرة: «فنظرت إلى ميكائيل فسكت، فعلمت أنه قد انتهت العدّة» فدلّ على إرادة حقيقة العدد، وانحصاره.
__________
(1) انظر غريب الحديث لأبي عبيد 3/ 159.

(المقدمة/6)


ولا زلت أستشكل هذا الحديث وأفكر فيه، وأمعن النظر من نيف وثلاثين سنة حتى فتح الله عليّ بما يمكن أن يكون صوابا إن شاء الله، وذلك أني تتبّعت القراءات صحيحها وشاذّها، وضعيفها ومنكرها، فإذا هو يرجع اختلافها إلى سبعة أوجه من الاختلاف لا يخرج عنها. وذلك إما:
" 1 - في الحركات بلا تغيّر في المعنى والصورة، نحو: (البخل) بأربعة و (يحب) بوجهين.
" 2 - بتغيّر في المعنى فقط نحو: (فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ) (وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ) وإمة.
" 3 - في الحروف بتغيّر المعنى لا الصورة نحو: (تبلوا، وتتلوا. وننحّيك ببدنك لتكون لمن خلفك- وننجّيك ببدنك).
" 4 - عكس ذلك نحو: (بصطة وبسطة، والصراط والسراط).
" 5 - بتغيرهما- أي: المعنى والصورة- نحو: (أشدّ منكم ومنهم. ويأتل ويتأل. و: فامضوا إلى ذكر الله).
" 6 - في التقديم والتأخير نحو: (فيقتلون ويقتلون) (وجاءت سكرة الحق بالموت).
" 7 - في الزيادة والنقصان نحو: (وأوصى- ووصى. والذكر والأنثى).
فهذه سبعة أوجه لا يخرج الاختلاف عنها، وأما نحو اختلاف الإظهار والإدغام، والروم والإشمام، والتفخيم والترقيق، والمد والقصر، والإمالة والفتح، والتحقيق والتسهيل، والإبدال والنقل مما يعبّر عنه بالأصول فهذا ليس من الاختلاف الذي يتنوع فيه اللفظ والمعنى، لأن هذه الصفات المتنوعة في أدائه لا تخرجه عن أن يكون لفظا واحدا، ولئن فرض فيكون من الأول. ثم رأيت الإمام الرازي حاول ما ذكرته ... ثم وقفت على كلام ابن قتيبة «1» وقد حاول ما حاولنا بنحو آخر. ثم لخّص كلامهما واستدرك على ابن قتيبة.

5 - هل هذه السبعة الأحرف متفرقة في القرآن؟
لا شك عندنا في أنها متفرقة فيه، وفي كل رواية وقراءة باعتبار ما قررناه
__________
(1) انظر تأويل مشكل القرآن ص 36 - 38.

(المقدمة/7)


في وجه كونها سبعة أحرف، لا أنها منحصرة في قراءة ختمة وتلاوة رواية، فمن قرأ ولو بعض القرآن بقراءة معينة، اشتملت على الأوجه المذكورة فإنه يكون قد قرأ
بالأوجه السبعة التي ذكرناها، دون أن يكون قرأ بكل الأحرف السبعة.

6 - هل المصاحف العثمانية مشتملة عليها؟
أما كون المصاحف العثمانية مشتملة على جميع الأحرف السبعة، فإن هذه مسألة كبيرة اختلف العلماء فيها:
فذهب جماعات من الفقهاء والقرّاء والمتكلمين إلى أن المصاحف العثمانية مشتملة على جميع الأحرف السبعة. وبنوا ذلك على أنه لا يجوز على الأمة أن تهمل نقل شيء من الحروف السبعة التي نزل القرآن بها، وقد أجمع الصحابة على نقل المصاحف العثمانية من الصحف التي كتبها أبو بكر وعمر، وإرسال كل مصحف منها إلى مصر من أمصار المسلمين، وأجمعوا على ترك ما سوى ذلك.
قال هؤلاء: ولا يجوز أن ينهى عن القراءة ببعض الأحرف السبعة، ولا أن يجمعوا على ترك شيء من القرآن.
وذهب جماهير العلماء من السلف والخلف وأئمة المسلمين إلى أن هذه المصاحف العثمانية مشتملة على ما يحتمله رسمها من الأحرف السبعة فقط، جامعة للعرضة الأخيرة التي عرضها النبي صلّى الله عليه وسلّم على جبرائيل عليه السلام، متضمنة لها، لم تترك حرفا منها.
قلت- أي: ابن الجزري-: وهذا القول هو الذي يظهر صوابه لأن الأحاديث الصحيحة والآثار المشهورة المستفيضة تدل عليه وتشهد له.

7 - هل القراءات التي يقرأ بها اليوم في الأمصار جميع الأحرف السبعة أم بعضها؟
إن هذه المسألة تبتنى على الفصل المتقدم، فإن من عنده لا يجوز للأمة ترك شيء من الأحرف السبعة يدّعي أنها مستمرة النقل بالتواتر إلى اليوم، وإلّا

(المقدمة/8)


تكون الأمة جميعها عصاة مخطئين في ترك ما تركوا منه، كيف وهم معصومون من ذلك؟ وأنت ترى ما في هذا القول، فإن القراءات المشهورة اليوم عن السبعة والعشرة، والثلاثة عشر بالنسبة إلى ما كان مشهورا في الأعصار الأول قلّ من كثر، ونزر من بحر، فإن من له اطّلاع على ذلك يعرف علمه العلم اليقين وذلك أن القرّاء الذين أخذوا عن أولئك الأئمة المتقدمين من السبعة وغيرهم، كانوا أمما لا تحصى، وطوائف لا تستقصى، والذين أخذوا عنهم أيضا أكثر وهلمّ جرّا. فلما كانت المائة الثالثة واتسع الخرق وقل الضبط، وكان علم الكتاب والسنّة أوفر ما كان في ذلك العصر، تصدى بعض الأئمة لضبط ما رواه من القراءات، فكان أول إمام معتبر جمع القراءات في كتاب:
أبو عبيد القاسم بن سلّام، وجعلهم فيما أحسب خمسة وعشرين قارئا مع هؤلاء السبعة، وتوفي سنة أربع وعشرين ومائتين. وكان بعده أحمد بن جبير بن محمد الكوفي نزيل أنطاكية جمع كتابا في قراءات الخمسة من كل مصر واحد وتوفي سنة ثمان وخمسين ومائتين. وكان بعده القاضي إسماعيل بن إسحاق المالكي صاحب قالون ألّف كتابا في القراءات جمع فيه قراءة عشرين إماما منهم هؤلاء السبعة توفي سنة اثنتين وثمانين ومائتين، وكان بعده الإمام أبو جعفر محمد بن جرير الطبري جمع كتابا حافلا سمّاه «الجامع» فيه نيّف وعشرون قراءة توفي سنة عشر وثلاثمائة، وكان بعيده أبو بكر محمد بن أحمد بن عمر الداجوني، جمع كتابا في القراءات وأدخل معهم أبا جعفر أحد العشرة، وتوفي سنة أربع وعشرين وثلاثمائة، وكان في أثره أبو بكر أحمد بن موسى بن العباس بن مجاهد، أول من اقتصر على قراءات هؤلاء السبعة فقط، وروى فيه عن هذا الداجوني وعن ابن جرير أيضا، وتوفي سنة أربع وعشرين وثلاثمائة.
وقام الناس في زمانه وبعده فألفوا في القراءات أنواع التواليف. ثم عدّد ابن الجزري طائفة منهم مع ذكر مؤلفاتهم وسنة وفاتهم ثم قال: ولا زال الناس يؤلفون في كثير القراءات وقليلها، ويروون شاذّها وصحيحها بحسب ما وصل إليهم أو صحّ لديهم، ولا ينكر أحد عليهم، بل هم في ذلك متبعون سبيل السلف حيث قالوا: القراءة سنّة متّبعة يأخذها الآخر عن الأول، وما علمنا أحدا أنكر شيئا قرأ به الآخر، إلا ما قدّمنا عن ابن شنّبوذ، لكنه خرج عن المصحف العثماني.

(المقدمة/9)


ثم يقول: وإنما أطلنا هذا الفصل لما بلغنا عن بعض من لا علم له أن القراءات الصحيحة هي التي عن هؤلاء السبعة، أو أن الأحرف السبعة التي أشار إليها النبي صلّى الله عليه وسلّم هي قراءة هؤلاء السبعة، بل غلب على كثير من الجهال أن القراءات الصحيحة هي التي في الشاطبية والتيسير، وأنها هي المشار إليها بقوله صلّى الله عليه وسلّم: «أنزل القرآن على سبعة أحرف» حتى أن بعضهم يطلق على ما لم يكن في هذين الكتابين أنه شاذ. وكثير منهم يطلق على ما لم يكن عن هؤلاء السبعة شاذا، وربما كان كثير مما لم يكن في الشاطبية والتيسير، وعن غير هؤلاء السبعة، أصحّ من كثير مما فيهما، وإنما أوقع هؤلاء في الشبهة كونهم سمعوا: «أنزل القرآن على سبعة أحرف» وسمعوا قراءات السبعة، فظنوا أن هذه السبعة هي تلك المشار إليها، ولذلك كره كثير من الأئمة المتقدمين اقتصار ابن مجاهد على سبعة من القرّاء وخطئوه في ذلك وقالوا: ألا اقتصر على دون هذا العدد، أو زاده، أو بين مراده ليخلص من لا يعلم من هذه الشبهة، ثم احتجّ بأقوال بعض العلماء ومنهم شيخ الإسلام ابن تيمية في قوله: لا نزاع بين العلماء المعتبرين أن الأحرف السبعة التي ذكر النبي صلّى الله عليه وسلّم أن القرآن أنزل عليها ليست قراءات القرّاء السبعة المشهورة، بل أوّل من جمع ذلك ابن مجاهد ليكون ذلك موافقا لعدد الحروف التي أنزل عليها القرآن، لا لاعتقاده واعتقاد غيره من العلماء أن القراءات السبع هي الحروف السبعة، أو أن هؤلاء السبعة المعينين هم الذين لا يجوز أن يقرأ بغير قراءتهم. ولهذا قال بعض من قال من أئمة القرّاء: لولا أن ابن مجاهد سبقني إلى حمزة لجعلت مكانه يعقوب الحضرمي إمام جامع البصرة، وإمام قرّاء البصرة في زمانه في رأس المائتين ... ولذلك لم يتنازع علماء الإسلام المتّبعون من السلف والائمة في أنه لا يتعين أن يقرأ بهذه القراءات المعنية في جميع أمصار المسلمين، بل من ثبتت عنده قراءة الأعمش شيخ حمزة، أو قراءة يعقوب الحضرمي ونحوهما، كما ثبتت عنده قراءة حمزة والكسائي، فله أن يقرأ بها بلا نزاع بين العلماء المعتبرين المعدودين من أهل الإجماع والخلاف، بل أكثر العلماء الأئمة الذين أدركوا قراءة حمزة كسفيان بن عيينة وأحمد بن حنبل وبشر بن الحارث وغيرهم يختارون قراءة أبي جعفر بن القعقاع، وشيبة بن نصاح المدنيين، وقراءة البصريين كشيوخ يعقوب بن إسحاق وغيرهم على قراءة حمزة والكسائي.

(المقدمة/10)


وللعلماء الأئمة في ذلك من الكلام ما هو معروف عند العلماء، ولهذا كان أئمة أهل القرن الذي ثبتت عندهم قراءات العشرة أو الأحد عشر كثبوت هذه السبعة يجمعون ذلك في الكتب ويقرءونه في الصلاة وخارج الصلاة، وذلك متفق عليه بين العلماء لم ينكره أحد منهم.
وأما الذي ذكره القاضي عياض، ومن نقل كلامه من الإنكار على ابن شنبوذ الذي كان يقرأ بالشواذ في الصلاة في أثناء المائة الرابعة، وجرت له قصة مشهورة، فإنما كان ذلك في القراءات الشاذّة الخارجة عن المصحف.
ولم ينكر أحد من العلماء قراءة العشرة، ولكن من لم يكن عالما بها، أو لم تثبت عنده، كمن يكون في بلد من بلاد الإسلام بالمغرب أو غيره، ولم يتصل به بعض هذه القراءات، فليس له أن يقرأ بما لا يعلمه، فإن القراءة كما قال زيد بن ثابت سنة، يأخذها الآخر عن الأول، كما أن ما ثبت عن النبي صلّى الله عليه وسلّم من أنواع الاستفتاحات في الصلاة، ومن أنواع صفة الأذان والإقامة، وصفة صلاة الخوف وغير ذلك، كله حسن يشرع العمل به لمن علمه، وأما من علم نوعا ولم يعلم بغيره، فليس له أن يعدل عمّا علمه إلى ما لم يعلم، وليس له أن ينكر على من علم ما لم يعلمه من ذلك، ولا أن يخالفه.
ثم بسط القول في ذلك، ثم قال: فتبين بما ذكرناه أن القراءات المنسوبة إلى نافع وعاصم ليست هي الأحرف السبعة التي أنزل القرآن عليها، وذلك باتفاق علماء السلف والخلف، وكذلك ليست هذه القراءات السبع هي مجموع حرف واحد من الأحرف السبعة التي أنزل القرآن عليها باتفاق العلماء المعتبرين، بل القراءات الثابتة عن الأئمة القرّاء كالأعمش ويعقوب وخلف وأبي جعفر وشيبة ونحوهم، هي بمنزلة القراءات الثابتة عن هؤلاء السبعة عند من يثبت ذلك عنده. وهذا أيضا مما لم يتنازع فيه الأئمة المتبوعون من أئمة الفقهاء والقرّاء وغيرهم، وإنما تنازع الناس من الخلف في المصحف العثماني الإمام الذي أجمع عليه أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم والتابعون لهم بإحسان، والأمة بعدهم، هل هو بما فيه من قراءة السبعة، وتمام العشرة، وغير ذلك، هل هو حرف من الأحرف السبعة التي أنزل القرآن عليها؟ أو هو مجموع الأحرف السبعة؟ على قولين مشهورين. والأول قول أئمة السلف والعلماء والثاني قول طوائف من أهل الكلام والقرّاء وغيرهم ...

(المقدمة/11)


ثم قال في آخر جوابه: وتجوز القراءة في الصلاة وخارجها بالقراءات الثابتة الموافقة لرسم المصحف كما ثبتت هذه القراءات وليست شاذّة حينئذ والله أعلم «1».

شروط القراءة الصحيحة:
قال ابن الجزري بعد أن ذكر أسماء من اشتهر بالقراءة في المدينة ومكة والكوفة والبصرة والشام: ثم إن القرّاء بعد هؤلاء المذكورين كثروا وتفرقوا في البلاد وانتشروا، وخلفهم أمم بعد أمم، عرفت طبقاتهم، واختلفت صنعاتهم، فكان منهم المتقن للتلاوة المشهور بالرواية والدراسة، ومنهم المقتصر على وصف من هذه الأوصاف، وكثر بينهم لذلك الاختلاف، وقلّ الضبط، واتسع الخرق، وكاد الباطل يلتبس بالحق، فقام جهابذة علماء الأمة، وصناديد الأئمة، فبالغوا في الاجتهاد، وبيّنوا الحق المراد، وجمعوا الحروف والقراءات، وعزوا الوجوه والروايات، وميّزوا بين المشهور والشاذ، والصحيح والفاذ، بأصول أصلوها، وأركان فصلوها، وها نحن نشير إليها ونعوّل كما عوّلوا عليها فنقول:
كلّ قراءة وافقت العربية، ولو بوجه، ووافقت أحد المصاحف العثمانية ولو احتمالا، وصحّ سندها، فهي القراءة الصحيحة التي لا يجوز ردّها ولا يحلّ إنكارها، بل هي من الأحرف السبعة التي نزل بها القرآن، ووجب على الناس قبولها، سواء أكانت عن الأئمة السبعة أم عن العشرة أم عن غيرهم من الأئمة المقبولين، ومتى اختلّ ركن من هذه الأركان الثلاثة، أطلق عليها ضعيفة أو شاذّة أو باطلة، سواء كانت عن السبعة، أم عمن هو أكبر منهم.
هذا هو الصحيح عند أئمة التحقيق من السلف والخلف «2».
__________
(1) انتهى نقل ابن الجزري في النشر 1/ 39 عن ابن تيمية رحمه الله ملخصا. وانظر فتاويه 13/ 390 - 403.
(2) النشر 1/ 9.

(المقدمة/12)


كتاب الحجة
الذين ترجموا للفارسي ذكروا في ثبت مؤلفاته كتاب الحجة هذا بعبارات ليست متساوية، وإن كانت تشترك جميعها في كلمة (الحجة) محور التسمية، وكل ذلك بداعية الاختصار والاجتزاء بالبعض المفهم عن الكل.
فالخطيب البغدادي في تاريخه 7/ 276 سمّاه: الحجة في علل القراءات، وابن خلكان في الوفيات (2/ 81) وابن الأثير في الكامل (9/ 21) وابن تغري بردي في النجوم الزاهرة (6/ 267) أطلقوا عليه الحجة في القراءات، وزاد ابن الأنباري في نزهة الألبّاء (ص 316) كلمة «السبع» على القراءات. في حين اكتفى ابن النديم في الفهرست (ص 95) وياقوت في معجم الأدباء (7/ 210) وابن عطية في فهرسه (ص 86) والسيوطي في البغية (1/ 496) وابن الجزري في طبقاته (1/ 207) باللفظة المشتركة بين الجميع فأسموه (الحجة) فقط.
وقد آثرنا أن نعتمد على ما أثبت على غلاف الأجزاء الثلاثة الأخيرة من نسخة مراد ملا المنسوخة بخط طاهر بن غلبون ونصه: الحجة للقرّاء السبعة أئمة الأمصار بالحجاز والعراق والشام الذين ذكرهم أبو بكر بن مجاهد. وهو عنوان مناسب للكتاب، ولا مبرر للعدول عنه إلى غيره من الأسماء التي آثر أصحابها الاختصار فيها.
وهذا الكتاب واحد من عدة كتب صنّفها الفارسي وقدّمها لعضد الدولة الذي كان يعدّ نفسه غلاما في النحو لأبي علي، نستدلّ على ذلك من مقدمة كتابه التي صدّرها بالدعاء له، كما هو ثابت في نسختنا هذه حيث يقول:

(المقدمة/13)


أطال الله بقاء مولانا الملك السيد الأجل المنصور وليّ النعم عضد الدولة وتاج الملّة ... فإن هذا كتاب نذكر فيه ... وواضح أنه بالإضافة لما ذكرناه من تقديم هذه النسخة لعضد الدولة فإن في هذه المقدمة ما يدلّ على أن كتاب الحجة قد ألّفه أبو علي قبل سنة 372 هـ وهي السنة التي توفي فيها عضد الدولة، وبتحديد أكثر فإنه ألّفه ما بين سنتي 367 هـ، وهي السنة التي لقّب فيها عضد الدولة بتاج الملّة، وبين سنة وفاته وهي سنة 372 هـ.
كما أن في مقدمته ما يدلّ على منهج أبي علي في كتابه بشكل موجز، وهو أن يذكر ما ثبت عن ابن مجاهد من وجوه قراءات القرّاء في كتابه السبعة، وهم الذين ذكرنا ترجمتهم في أول فاتحة الكتاب.
وقد كان شائعا في عصر أبي علي تأليف العلماء مؤلفاتهم للملوك والرؤساء وذلك لأنه كان لهؤلاء مشاركة في العلوم، ويضربون بسهم وافر فيها، وكانت بلاطاتهم موئلا للعلماء، وكانت أكرم هدية يقدمها هؤلاء العلماء لأولئك الرؤساء ما ينتجونه من عصارة عقولهم، وثمرة قرائحهم، وكان كتاب الحجة أيضا مما أهداه أبو علي للصاحب ابن عباد وأجاز له أن يرويه عنه.
قال ياقوت في معجم الأدباء (7/ 239، 240): قرأت بخط سلامة بن عياض النحوي ما صورته: وقفت على نسخة من كتاب الحجة لأبي علي في صفر سنة اثنتين وعشرين وخمسمائة بالريّ في دار كتبها التي وقفها الصاحب بن عباد رحمه الله، وعلى ظهرها بخط أبي علي ما حكايته هذه: أطال الله بقاء سيدنا الصاحب الجليل، أدام الله عزّه ونصره وتأييده وتمكينه. كتابي في قرّاء الأمصار الذين بيّنت قراءتهم في كتاب أبي بكر أحمد بن موسى المعروف بكتاب السبعة، فما تضمن من أثر وقراءة ولغة، فهو عن المشايخ الذين أخذت ذلك عنهم، وأسندته إليهم، فمتى أثر سيدنا الصاحب الجليل- أدام الله عزّه ونصره وتأييده وتمكينه- حكاية شيء منه عنهم أو عني لهذه المكاتبة فعل. وكتب الحسن بن أحمد الفارسي بخطه.

موضوعه وطريقته:
أما موضوع الكتاب فهو الاحتجاج للقراءات وتوثيقها وتوجيهها والتماس الدليل لقراءة كل قارئ من القرّاء السبعة الذين اختارهم ابن مجاهد، وذلك

(المقدمة/14)


إما بالاستناد إلى قاعدة مشهورة في العربية، أو بالتماس علّة خفية بعيدة الإدراك يحاول اقتناصها، أو توليدها أو بالاعتماد على القياس وحشد النظائر ومقارنة المثيل بالمثيل وهو مما برع فيه أبو علي. وكان يسوق لكل أسلوب من أساليب احتجاجه الآيات القرآنية والشعر الصالح للاحتجاج والحديث النبوي والأمثال العربية، ولغات العرب ولهجاتها وأقوال أئمة العربية وعلى رأسهم سيبويه الذي انتثرت عبارات كتابه في حجته «1».
وطريقته في ذلك طريقة المتن «2» والشرح فهو يعرض أولا نص ابن مجاهد في عرضه لاختلاف القرّاء في كل حرف من الحروف، مصرّحا باسمه أو مغفلا له مكتفيا بقوله: اختلفوا ... ثم يعقبه بقول شيخه ابن السراج وذلك في القسم الذي شرع في تفسيره من الفاتحة وسورة البقرة. أو بكلامه هو بقوله: قال أبو علي.
ولعلّ أبرز ما يتميز به أسلوب أبي علي هو ظاهرة الاستطراد والانطلاق بعيدا عن أصل الموضوع المطروق حتى يكاد ينسي آخره أوله، فهو ينتقل بالقارئ من الكلام على الحرف والخلاف فيه والاحتجاج له إلى تفسير الآية، فيغوص في الأعماق فيستخرج من كنوز المعاني ودرر الحقائق ما ينتزع إعجابنا بسعة عقله ونفاذ فكره، أو يتناول الكلمة وما يتفرع عنها من معان وما تدلّ عليه من دلالات فيتناولها معنى معنى مبيّنا له مع شواهده، ثم يتجاوزه إلى الحديث عن الوجوه الإعرابية أو العلل الصرفية، ويناقش جميع ذلك ويحشد له الشواهد والأدلة، فيشبعه ولا يترك بعده زيادة لمستزيد، وهو أشبه
__________
(1) لأستاذنا سعيد الأفغاني رأي سديد في موضوع الاحتجاج للقراءات أورده في مقدمته لكتاب حجة القراءات لابن زنجلة ص 18 بعد أن قدم عرضا تاريخيا موجزا للقراءات والمقرئين فقال: قدّمت كل هذا من تاريخ القراءة والمقرئين لأؤيّد ما كنت ذهبت إليه منذ أكثر من عشرين سنة من أن تأليف المؤلفين القدامى يحتجّون للقراءات المتواترة بالنحو وشواهده عكس للوضع الصحيح، وأن السلامة في المنهج، والسداد في المنطق العلمي التاريخي يقضيان بأن يحتجّ للنحو ومذاهبه وقواعده وشواهده بهذه القراءات المتواترة، لما توافر لها من الضبط والوثوق والدقة والتحرّي ... شيء لم يتوافر لأوثق شواهد النحو ... وأي كان فهذا ما وقع.
(2) وقد ميّزنا المتن الذي هو نص ابن مجاهد بالحرف الأسود تسهيلا لفصله عن الشرح.

(المقدمة/15)


ما يكون بالنبع الغزير المتدفق في الأرض المستوية، ينبثق فيشق دروبا لنفسه في كل مكان قبل أن يأخذ مجراه.
وهذا الاستطراد كان مدعاة للإطالة، وقد رافقه بعض الغموض في العبارة أحيانا وعلى الأخص في الجزء الأول من الكتاب الذي استغرق فيه سورة فاتحة الكتاب وثلاثين آية من سورة البقرة فقط، ولعلّ ذلك دعا تلميذه ابن جنّي لأن يقول عنه: «وقد كان شيخنا أبو علي عمل كتاب الحجة في قراءة السبعة، فأغمضه وأطاله حتى منع كثيرا ممّن يدّعي العربية فضلا على القراء منه وأجفاهم عنه» «1».
ولا تدل هذه العبارة على طعن ابن جني في ما صنع أستاذه كما فهمها بعض الباحثين المحدثين، وإنما تعني أن من لم يكن من أهل العربية متمرسا بها يصعب أن يفهم كتابه، وهذا حق، فقد أثنى القدماء من مؤرخين ونحويين ولغويين وقرّاء ومفسرين على الحجة وأعجبوا به، وراحوا يتدارسونه ويختصرونه، وينقلون منه في مؤلفاتهم، وأخصّ بالذكر عبد القادر البغدادي فقد نقل عنه في الخزانة في سبعة مواضع، وفي شرح أبيات المغني الذي امتنّ الله علينا بتحقيقه ونشره في ثمانية وعشرين موضعا. وممّن نقل عنه وأثنى عليه الطبرسي المفسّر قال في مجمع البيان (3/ 256) بعد أن نقل كلاما حسنا للفارسي في توجيه إعراب الآية الكريمة يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
شَهادَةُ بَيْنِكُمْ ...
من سورة المائدة/ 106: هذا كله مأخوذ من كلام أبي علي الفارسي، وناهيك به فارسا في هذا الميدان نقابا، يخبر عن مكنون هذا العلم بواضح البيان. وكذلك الزركشي نقل عنه في كثير من أبحاث كتابه البرهان.
وأيضا فإن قيام الأستاذ العارف والثقة الضابط مؤلّف التذكرة في القراءات الثمان طاهر بن غلبون شيخ الداني نفسه بنسخ الحجة، وإلقاء نظرة متأملة في نص السماع المثبت في آخر أجزاء نسخته والذي أثبتناه عند وصفنا للمخطوطات، كل ذلك يدلنا على مدى اهتمام العلماء بالكتاب والحرص على سماعه وقراءته.
ومن أقوال العلماء التي تحمل الثناء عليه هذه الأمثلة:
__________
(1) المحتسب 1/ 236.

(المقدمة/16)


- قال في ذيل تجارب الأمم: «صنّف في أيام عضد الدولة المصنفات الرائعة في أجناس العلوم المتفرقة، فمنها كتاب الحجة في القراءات السبع، وهو كتاب ليس له نظير في جلالة قدر، واشتهار ذكر» «1».
- وجاء في طبقات النحاة واللغويين لابن قاضي شهبة: «كتاب الحجة في تخريج القراءات السبعة من أحسن الكتب وأعظمها» «2».
وقال ابن الجزري في طبقات القرّاء: «وألّف كتاب التذكرة وكتاب الحجة شرح سبعة ابن مجاهد فأجاد وأفاد» «3».
ومهما يكن من أمر فإن أفضل ما يشهد على الإنسان عمله الذي قدّمه وأثره الذي تركه، وها هو ذا الكتاب نقدمه بين أيدي العلماء وطلاب العلم للحكم عليه.
وقد اختصره جماعة من الأندلسيين منهم فيما ذكره ياقوت مكي بن أبي طالب المتوفى سنة 437 هـ في كتاب سمّاه «منتخب الحجة في القراءات، وجعله في ثلاثين جزءا» «4» واختصره كذلك أبو طاهر إسماعيل بن خلف الأندلسي المتوفى سنة 455 هـ وانتفع به الناس، كما ذكر السيوطي «5» واختصره محمد بن شريح الرعيني المتوفى سنة 476 «6».
__________
(1) ذيل تجارب الأمم 183.
(2) طبقات النحاة 295.
(3) طبقات القرّاء 1/ 207.
(4) معجم الأدباء 19/ 169.
(5) انظر بغية الوعاة 1/ 448.
(6) الصلة لابن بشكوال 2/ 553.

(المقدمة/17)


النسختان المعتمدتان في النشر:
اعتمدنا في نشر هذا الكتاب على نسختين خطيتين:
الأولى: وهي نسخة محفوظة في مكتبة بلدية الإسكندرية برقم 3570 ولها مصوّرة في دار الكتب المصرية برقم 462 قراءات، وهي التي رمزنا لها ب (م). وتقع هذه النسخة في سبعة أجزاء ينقصها الخامس. وقد نسخت بخط النسخ الجميل الواضح وضبطت كلماتها ضبطا كاملا. مسطرتها 17 × 5.21 وعدد سطور صفحتها 15 سطرا. ومجموع صفحاتها 2223 صفحة كتب في آخر أجزائها: نجز كتاب الحجة للقرّاء، وبلغ الفراغ منه في يوم الخميس لسبع بقين من ذي القعدة سنة تسعين وثلاثمائة.
اسم الناسخ غير مذكور، وهو واحد في الأجزاء جميعها، إلا أنه فيما يترجح قد ذهبت الورقة الأولى التي عليها العنوان والصفحة الأولى من الكتاب من أجزاء الكتاب جميعها، فاستدركت بخط متأخر مغاير للأصل، وكذلك حدث في الورقة الأخيرة لبعض الأجزاء. وفي طرة بعض صفحاتها عبارة بلغ دلالة على قراءتها.
النسخة الثانية: نسخة محفوظة في مكتبة مراد ملّا بإستانبول، رقمها 6 - 9 ومنها مصوّرة في معهد إحياء المخطوطات، وهي التي رمزنا لها ب (ط) وتقع في أربعة أجزاء تامة كتبت بخط نسخ قديم وضبطت بالشكل الكامل.
نسخها طاهر بن غلبون النحوي. قال عنه ابن الجزري. في طبقاته 1/ 339:
أستاذ عارف وثقة ضابط، وحجة محرّر، شيخ الداني ومؤلّف التذكرة في القراءات الثمان، أخذ القراءات عرضا عن أبيه وعبد العزيز بن علي، ثم رحل

(المقدمة/18)


إلى العراق فقرأ بالبصرة على محمد بن يوسف بن نهار وغيره، وسمع سبعة ابن مجاهد من أبي الحسن علي بن محمد بن إسحاق المعدل عنه، قال الداني: لم ير في وقته مثله في فهمه وعلمه، مع فضله وصدق لهجته، كتبنا عنه كثيرا، وتوفي بمصر لعشر مضين من شوال سنة تسع وتسعين وثلاثمائة.
وعلى يسار ما قبل الصفحة الأخيرة من الجزء الأول كتب بشكل شاقولي بخط أحمد بن مكتوم ما نصه: ذكر المختار عز الملك محمد بن عبيد الله بن أحمد بن إسماعيل بن عبد العزيز المسبّحي المؤرخ في تاريخ (.؟.) «1» أن أبا الحسن طاهر بن عبد المنعم بن غلبون المصري توفي يوم الأحد من ذي القعدة سنة تسع وتسعين وثلاثمائة. وقال:
كان مقدما بعد أبيه عالما بعلل النحو ومعانيه. انتهى كلامه ونقله كما وجده أحمد بن مكتوم.
ونلاحظ أن تحديد سنة وفاته ب 399 عند المسبّحي وابن الجزري، تختلف عمّا ورد في تاريخ نسخ كتاب الحجة، المدوّن في آخر الأجزاء الثلاثة بخط الناسخ نفسه وهو سنة 427 هـ وسنة 428 هـ في نهاية الجزء الرابع.
ولم نقف على ترجمة لابن غلبون في غير ما ذكرناه، واضطراب المترجمين وتعدّد الأقوال في سنيّ وفاة من يترجمون لهم أمر واقع عندهم. وما يمكننا القطع به هو أن وفاته كانت بعد تاريخ نسخة للكتاب، ولا نمتلك تحديدا لها.
والذي يبدو لي أن الأمر قد اضطرب على من ترجم لابن غلبون ولوالده. الذي كانت وفاته كما ذكر ابن الجزري سنة 389 هـ «2».
وعلى غلاف النسخة وفي آخرها سماعات وإجازة بقراءتها. وفي داخلها تعليقات وتهميشات على كلام المؤلّف، وعبارة بلغ في عدة مواطن من حواشيها مما يدل على قراءتها والعناية بها من العلماء وطلاب العلم. ومما
__________
(1) الكلمة غير واضحة في الأصل، وذكر ابن خلكان 4/ 377: أنه صاحب التاريخ المشهور وغيره من المصنفات مولده سنة (366) ووفاته سنة (420). قال في الأنساب للسمعاني: المسبحي صاحب تاريخ المغاربة ومصر.
(2) انظر ترجمته في طبقاته 1/ 470.

(المقدمة/19)


كتب على الصفحة الأولى- صفحة الغلاف- من السماعات على جميع أجزاء الكتاب ما يلي:
على الجزء الأول: الحمد لله سمع هذا الجزء في جمع بقراءة غيره علي الشيخ الجليل الفاضل منتجب الدين منتجب بن أبي العز الرشيد الهمذاني «1»، نفعه الله في مجالس، وهو أحد مقروءاتي على شيخي الإمام أبي محمد المعرّي النحوي عن أبي طاهر بن سولة المعري النحوي، عن أبي عبد الله الآمدي عن الربعي النحوي عن أبي علي الفارسي. وكتب زيد بن الحسن بن زيد الكندي أبو اليمن «2» في ذي الحجة من سنة ست وست مائة.
وهذا الجزء أحد أربعة، وحسبنا الله ونعم الوكيل.
وعلى الجزء الثاني: سمع جميع هذا الجزء الثاني وما قبله يقرأ على الشيخ الجليل منتجب الدين بن أبي العز بن الرشيد الهمذاني بالإسناد المذكور في الأصل. وكتب زيد بن الحسن الكندي أبو اليمن في أواخر ذي الحجة من سنة ست وست مائة.
__________
(1) كان رأسا في القراءات والعربية صالحا متواضعا، قرأ القراءات على أبي الجود غياث بن فارس وسمع من ابن طبرزد والكندي، وقرأ عليه بالروايات الصائن الضرير نزيل قونية والنظام محمد بن عبد الكريم. توفي سنة 643 هـ. (معرفة القرّاء للذهبي 2/ 508).
(2) زيد بن الحسن بن زيد بن الحسن بن زيد بن الحسن بن سعيد بن عصمة بن حمير بن الحارث ذي رعين الأصغر، الإمام تاج الدين أبو اليمن الكندي النحوي اللغوي المقرئ المحدّث الحافظ. ولد ببغداد سنة 520 وحفظ القرآن وهو ابن سبع سنين، وأكمل القراءات العشر وهو ابن عشر. وكان أعلى الأرض إسنادا في القراءات. قال الذهبي:
لا أعلم أحدا من الأئمة عاش بعد ما قرأ القرآن ثلاثا وثمانين سنة غيره. وقرأ العربية على أبي محمد سبط أبي منصور الخياط وابن الشجري وابن الخشاب، واللغة على موهوب الجواليقي وسمع الحديث من أبي بكر بن عبد الباقي وخلائق. وخرج له أبو القاسم ابن عساكر مشيخة في أربعة أجزاء.
وقدم دمشق وازدحم عليه الطلبة، وأفتى ودرس وصنّف وأقرأ القراءات والنحو واللغة والشعر كان حنبليا فصار حنفيا وتقدم في مذهب أبي حنيفة. كان صحيح السماع ثقة بالنقل ظريفا في العشرة. واستوزره فروخ شاه ثم اتصل بأخيه تقي الدين صاحب حماة واختصّ به، وله خزانة كتب بالجامع الأموي فيها كل نفيس.
توفي في يوم الاثنين سادس شوال سنة 613 هـ وانقطع بموته إسناد عظيم. (بغية الوعاة 1/ 571).

(المقدمة/20)


وعلى الجزء الثالث: سمعه وما قبله بقراءة غيره عليّ الشيخ الجليل الفاضل منتجب الدين منتجب بن أبي العز بن الرشيد الهمذاني المقرئ نفعه الله بالإسناد المذكور في أول الكتاب. وكتب زيد بن الحسن بن زيد الكندي أبو اليمن في مستهل صفر من سنة سبع وست مائة. وكتبت أيضا إجازة في ذيل الصفحة.
وعلى الجزء الرابع: سمع جميع هذا الجزء وما قبله وهو آخر الكتاب بقراءة غيره علي الشيخ الجليل الفاضل منتجب الدين منتجب بن أبي العز بن الرشيد الهمذاني فتم له سماع جميع الكتاب ورويته له بالإسناد المذكور في الجزء الأول. وكتب زيد بن الحسن بن زيد الكندي أبو اليمن في صفر من سنة سبع وستمائة.
وهذا نص السماع المثبت في آخر الجزء الثالث، وقد ورد قريبا منه في بقية الأجزاء أيضا:
سمع هذا المجلد، وهو الثالث من كتاب الحجة لأبي علي الفارسي، رحمه الله على سيدنا الشيخ الإمام الأجل الصدر الكبير العلّامة تاج الدين شيخ الإسلام أوحد العصر حجة العرب رئيس الأصحاب أبي اليمن زيد بن الحسن بن زيد الكندي أيده الله نحو سماعه على الشيخ أبي عبد الله بن علي النحوي عن أبي طاهر بن سوار عن أبي عبد الله الآمدي عن علي الربعي عن الفارسي بقراءة الشيخ الفقيه الإمام شهاب الدين أبي إسحاق إبراهيم بن محمد بن أبي بكر العفصي، المولى القاضي الإمام الأجل الصدر الكبير العالم ركن الدين صدر الإسلام قاضي القضاة أبو العباس الطاهر بن قاضي القضاة الإمام أبي المعالي محمد بن علي بن محمد بن يحيى القرشي أدام الله عمره، وأخوه القاضي المنتجب كمال الدين أبو الفضل يحيى بن محمد بن علي، والأجل أمين الدين أبو العباس أحمد بن أبي محمد عبد الله بن الحسن بن أخي الشيخ المسمع، والأجل عزيز
الدين أبو حامد بن محمد بن محمد القرشي الأصبهاني، والإمام علم الدين أبو الحسن علي بن محمد بن عبد الصمد السخاوي «1» وابنه محمود، وصاحب الكتاب الأجل العالم الفاضل
__________
(1) صاحب سفر السعادة وسفير الإفادة (ط. مجمع اللغة العربية. وتحقيق محمد أحمد الدالي) وفيه ترجمته ومصادرها. مولده في 558 هـ ووفاته سنة 643 هـ.

(المقدمة/21)


الجليل منتجب الدين منتجب بن أبي العز بن الرشيد الهمذاني نفعه الله بالعلم وعز الدين أبو عبد الله محمد بن تاج الأمناء أبي الفضل أحمد بن محمد بن الحسن وأخوه أبو العباس الفضل وابنا عمهما أبو الحسن عبد الوهاب وأبو علي عبد اللطيف ابنا زين الأمناء الحسن بن محمد بن الحسن رحمه الله، وأمين الدين أبو الفضل عبد المحسن بن حمود بن المحسن الكاتب الحلبي وأخوه أبو عبد الله جعفر وعز الدين أبو محمد عبد العزيز بن عثمان بن أبي طاهر الإربلي وابن أخته يوسف بن يعقوب، والإمام العالم تقي الدين أبو طاهر إسماعيل بن عبد المحسن بن عبد الله الأنصاري بن الأنماطي، والشريف شهاب الدين أبو الفضل إسماعيل بن زيد بن إسماعيل الحسني (القحديهي) وبنوه محمد وإسحاق والحسن، وأبو محمد عبد الله بن صدقة بن محمد الخزرجي، ويوسف بن مكتوم بن أحمد القيسي، وأبو العباس أحمد ابن تميم بن هشام اللبلي وأبو الغنائم المسلم بن محمد بن المسلم بن علّان القيسي وفتاه الطوبغا التركي، وأبو محمد عبد الرحمن بن عبد الله بن عبد الله الفرّاء وابنه محمد وأبو عبد الله بن عبد الرحمن بن عماد العسقلاني وفتاه أقسر التركي الأبيض الصغير، وعبد الرحمن بن يونس بن إبراهيم المؤنسي وعبد المحسن بن خير بن أبي القاسم الأهناسي ومنصور بن عبد الله بن جامع الضرير، ونصر الله بن تروس القصوي، وأبو نصر فتوح بن نوح بن عيسى الحومي والنقيب عبد الرحمن بن إبراهيم بن عطاء وأبار الرومي وشيخه التركي فتيا العز بن عساكر، وأبو عبد الله بن أبي طالب بن (رزمين) البعلبكي وأبو الفتح أسعد بن عثمان بن أسعد بن المنجا التنوخي، وأبو القاسم بن أحمد بن الموفق الغزي ومحمد وعلي ومنصور ومؤمل بنو محمد بن علي البالسي وخالهم محمد بن عبد الرحمن بن نصر الله العصي، وتمام بن إسماعيل بن تمام السلمي وابنه يوسف وعلي بن أبي بكر بن الحسين اليمني، وسليمان بن عبد الكريم بن عبد الرحمن الدمشقي وشاكر بن عكاشة بن مخلوف العبسي وأبو العباس عمر بن علي بن (مظفر الليثي) وأبو الفضل بن أحمد بن إبراهيم البيطار وعلي بن أبي بكر بن محمد الشاطبي، وأبو الحسن علي بن أبي الحسن بن أبي عبد الله الواسطي. ومثبت أسمائهم عبد الجليل بن عبد الجبار بن عبد الواسع الأبهري أصلحه الله، وآخرون بفوات أسماؤهم على أصل الشيخ بخط ابن الأنماطي وذلك في مجالس آخرها مستهل صفر

(المقدمة/22)


سنة سبع وستمائة بمدرسة العزيزية بدمشق والحمد لله.
وعلى طرّة السماع ما نصه: «وسمع المجلد جميعه مع الجماعة علي بن محمد بن منصور اليمني. هذا صحيح وكتبه أبو اليمن الكندي بخطه».
وعلى غلاف النسخة في جميع أجزائها تمليكات من أبرز أصحابها أحمد بن عبد القادر بن أحمد بن مكتوم (تلميذ أبي حيّان ت 749 هـ). وفي وسط الصفحة ختم بيضوي كتب فيه: وقف لوجه الله تعالى- أفقر الورى أبو الخير أحمد- الشهير بداماذزاده.

منهج التحقيق:
قام الأستاذان المحققان بنسخ الكتاب عن نسخة مكتبة بلدية الإسكندرية أولا، ثم أجريا مطابقة المنسوخ على الأصلين، وقاما بإثبات الفروق بين النسختين على الحواشي بعد إثبات الراجح في إحدى النسختين لديهما في صلب الكتاب، أما الجزء الخامس وهو الناقص من نسخة مكتبة بلدية الإسكندرية فاعتمدا في نسخه على مخطوطة مراد ملا فقط.
ثم أثبتا فيما نسخا علامات الترقيم، وخرّجا الآيات، ووضعا أسماء سورها وأرقامها بين معقوفين عقب كل آية حتى لا تثقل حواشي الكتاب بها، وخرّجا كثيرا من أحاديث الكتاب وشواهده وأمثاله العربية من مظانها، وعزوا ما أمكن عزوه إلى أصحابه، وترجما لكثير من أعلامه في أماكن ورودها، وردّا النقول إلى مصادرها، وبذلا في ذلك جهد المستطيع جزاهما الله خيرا.
وقد كان العمل من مراحله الأولى إلى نهايته يجري بإشراف المراجعين (أحمد يوسف الدقاق وعبد العزيز رباح صاحبي دار المأمون للتراث) اللذين أعادا النظر في العمل جميعه قبل دفعه للمطبعة، واستكملا في التحقيق ما وجداه ناقصا، وخاصة في تخريج الأحاديث، أو في عزو الأبيات الشعرية غير المعزوة إلى أصحابها ما أمكن، أو شرح ما يحتاج إلى شرح منها، أو حذف ما لا ضرورة لذكره من شرح أو تعليق. كما أعادا قراءة تجارب طباعة الكتاب حرصا على صحته، وحدّدا نوع الحرف الطباعي وطريقة إخراجه حتى يغدو

(المقدمة/23)


العمل بإذن الله متكاملا ما أمكن يزهو بصحة المخبر ويزدان بجمال المظهر.
ثم قاما بوضع مقدمة الكتاب (وقد كتبها عبد العزيز رباح) وترجمة المؤلّف (وقد أعدّها أحمد دقاق) وأخذا على عاتقهما وضع فهارس مفصّلة للكتاب في آخر أجزائه جميعها.
ذلك هو نصيب كلّ في إخراج هذا المؤلّف العظيم.
فإن وفّقنا فيما نسعى إليه فبفضل الله كان توفيقنا، وذلك ما كنّا نبغي.
وإن بدا في العمل بعض الزلّات والهفوات، أو شيء من الثغرات ينفذ منها من يجدون للكلام منفذا، فذلك منّا، ويأبى الله أن تكون العصمة إلا لكتابه.
وإننا لواثقون أنه مهما كان الجهد المبذول واسعا فلن يسامي ما يستأهله كتاب مثل الحجة وعالم مثل أبي علي الفارسي.
والحمد لله أولا وآخرا- دمشق- 1404 هـ، 1984 م عبد العزيز رباح

(المقدمة/24)


ترجمة المؤلف أبي علي الحسن بن عبد الغفّار الفارسي
توطئة
عصره:
عاش أبو علي الفارسي عصر تمزق الدولة العباسية، وعاين الضعف والوهن الذي أصاب هذا الجسم العملاق ورأى بأمّ عينه كيف بدأ يتهاوى، من بعد إحكام البنيان، عرش بني العباس، فتداعت أصحاب المطامع كما تداعى الأكلة إلى قصعتها، على الاستقلال بالبلاد والمقاطعات، وصار كل حاكم يدعو لنفسه، وينشئ دولة وبلاطا، وتسمّوا بأسماء الأمراء والسلاطين والملوك ولم يبق لخليفة بغداد إلا بغداد وما حولها وليس له من هيبة الخلافة إلا الرسم.
ولئن كانت الحياة السياسية في عصر أبي علي منحدرة، تعيش الأمة فيه عصر الدويلات وحكم الأمراء والسلاطين، لقد كانت الحياة العلمية بأنواعها متقدمة مزدهرة، ولم يحل تعدّد الدويلات والحكام بين انتقال العلماء من بلد إلى بلد ومن أمير إلى أمير أو سلطان إلى سلطان، فالبلاد الإسلامية كلها مفتوحة أمام جميع الناس، يتنقلون فيما بينها من دون حواجز أو موانع، فالبلاد، وإن كانت مفككة سياسيا، فهي مترابطة اجتماعيا وثقافيا. فعالم بغداد متصل بعالم خراسان وما وراء النهر شرقا، وبعالم إفريقيا والأندلس غربا، تسودهم ثقافة واحدة، وسلوك منتظم واحد تنظمه مبادئ الإسلام وقواعده.
إن هذا الالتئام الاجتماعي والثقافي كان له الأثر الأكبر على ازدهار

(المقدمة/25)


ثقافتنا العربية الإسلامية، إذ كان عاملا مهما في نضوجها، كما كان عاملا مهما أيضا في التنافس بين العلماء، وإثبات الذات، ومن هنا كانت مهمة طالب العلم شاقة وصعبة، فهو يسعى دائبا من شيخ إلى شيخ ومن بلد إلى بلد للدرس والتحصيل، فأصبحت الرحلة في طلب العلم ديدن علماء ذلك العصر.

مولده وموطنه ونسبه:
تذكر المصادر التي تناولت حياة أبي علي الفارسي- وما أكثرها- أنه ولد في مدينة فسا «1»، وكانت ولادته في سنة ثمان وثمانين ومائتين. قال ياقوت في معجم البلدان [4/ 260]: «فسا بالفتح والقصر، كلمة عجمية، وعندهم بسا، بالباء، وكذا يتلفظون بها، وأصلها في كلامهم الشمال من الرياح، مدينة بفارس أنزه مدينة بها فيما قيل، بينها وبين شيراز أربع مراحل.
قال الاصطخري: وهي مدينة مفترشة البناء، واسعة الشوارع، تقارب في الكبر شيراز، وهي أصحّ هواء من شيراز، وأوسع أبنية ... وهي مدينة قديمة، ولها حصن، وخندق، وربض، وأسواقها في ربضها ... وإليها ينسب أبو علي الفارسي الفسوي».
فهذه المدينة الجميلة هي مسقط رأس أبي علي الفارسي.
__________
(1) ضبطها في الروض المعطار ص 442: فسّا: بتشديد ثانيه، مقصور، مدينة من بلاد فارس، أنشد الأصمعي: «من أهل فسّا ودارابجرد» والنسب إليها فسوي، وإليها ينسب أبو علي الحسن بن أحمد بن عبد الغفار الفارسي الفسوي.
وهذا الضبط لم تذكره المصادر على كثرتها. والملاحظ أن الحميري ضبطه تبعا لما أنشده الأصمعي. وإنني أرى هذا التشديد ضرورة شعرية. والضرورات لا تكون حكما.
ومما يدل على أنه ضرورة شعرية 1 - النسب إلى «فسا» وهو: فسوي فلو كانت فسّا لكان النسب إليها فسّاوي. 2 - انكسار وزن الشعر برواية التخفيف، إذ لا تستقيم التفعيلة ولوجب أن تكون: على النحو التالي:
«من أهل ف» مستفعل «ساودرا» متفعلن، «بجردي» فعولن.
ولا أعلم في أوزان الشعر القديم وزنا من هذا اللون.
وانظر الأنساب للسمعاني 6/ 305، ولب اللباب في تحرير الأنساب ص 197 للسيوطي.

(المقدمة/26)


أما نسبه:
فقد ذكره تلميذه أبو الحسن علي بن عيسى الربعي في صدر شرحه لكتاب الإيضاح فقال: «أبو علي الحسن بن أحمد بن عبد الغفار بن محمد بن سليمان الفارسي، وأمه من ربيعة الفرس، سدوسية من سدوس شيبان» ذكره القفطي في إنباه الرواة [1/ 274] وأضاف ابن حجر في لسان الميزان [2/ 195] فقال: «واسم جده عبد الغفار بن محمد بن سليمان بن أبان».

رحلته في طلب العلم:
لم تكن مدينة فسا لتشبع نهم أبي علي من العلم وإن كانت المصادر لا تسعفنا بشيء عن حياته العلمية في بداياتها- فيمّم وجهه شطر مدينة السلام التي كانت قبلة العلماء في ذلك العصر، فانتقل إلى بغداد، ودخل إليها سنة سبع وثلاثمائة، كما قال ابن خلكان في [وفيات الأعيان 2/ 80] ومنه نعلم أن أبا علي الفارسي بدأ رحلة العلم الطويلة،
وسنّه تسع عشرة سنة.
وقال ياقوت في معجم الأدباء [7/ 232] وابن خلكان: وطوف كثيرا في بلاد الشام، ومضى إلى طرابلس فأقام بحلب مدة، وخدم سيف الدولة ابن حمدان، وكان قدومه عليه في سنة إحدى وأربعين وثلاثمائة. قال ابن العديم [مجلة المجمع 4/ 1984 ص 743] واجتمع بأبي عبد الله الحسين بن خالويه، وأبي سعيد السيرافي بحضرته. وجرت بينهما وبينه بحوث ومناظرات ومسائل.

شيوخه:
وفي بغداد تلقى العلم على أئمتها الأعلام، قال عنه ياقوت في معجم الأدباء [7/ 232]: «أخذ النحو عن جماعة من أعيان أهل هذا الشأن، كأبي إسحاق الزجاج، وأبي بكر بن السرّاج، وأبي بكر مبرمان- وأخذ عنهم كتاب سيبويه- وأبي بكر بن الخياط» فكان أبو علي إمام وقته في علم النحو كما قال ابن خلكان.
وأخذ عن أبي بكر بن دريد، وأبي الحسن علي بن سليمان الأخفش،

(المقدمة/27)


قال ابن العديم وابن تغري بردي [النجوم الزاهرة 4/ 151]، وقدم بغداد وسمع الحديث وبرع في علم النحو وانفرد به.
فرواية الحديث هذه أخذها عن علي بن الحسين بن معدان الفارسي عن إسحاق بن راهويه، وعنده جزء سمعه منه كما قال الخطيب البغدادي في تاريخ بغداد [7/ 275] والذهبي في ميزان الاعتدال [1/ 480].
وروى القراءة عرضا عن أبي بكر بن مجاهد، كما قال ابن الجزري في طبقات القرّاء [1/ 207].
- أما أبو إسحاق الزجّاج إبراهيم بن سهل فهو إمام في النحو، إمام في التفسير ومن تلاميذ المبرد الأثيرين عنده روى عنه أبو علي الفارسي كتابه «تفسير أسماء الله الحسنى» وسيبويه كما في فهرس ابن عطية ص 78، وهو أشهر من أن يعرّف [انظر مقدمة تفسير أسماء الله الحسنى].
- وأبو بكر بن السرّاج صاحب كتاب الأصول في النحو، إذ قيل عنه: ما زال النحو مجنونا حتى عقله ابن السراج بأصوله.
قال المرزباني عنه: كان أحدث أصحاب المبرد سنا مع ذكاء وفطنة، وكان المبرد يقربه فقرأ عليه كتاب سيبويه ... ثم نظر في دقائق مسائله، وعوّل على مسائل الأخفش والكوفيين وخالف أصول البصريين في مسائل كثيرة.
وقال أبو علي جئت لأسمع منه الكتاب وحملت إليه ما حملت فلما انتصف عسر عليّ إتمامه، فانقطعت عنه لتمكّني من الكتاب، فقلت في نفسي بعد مدة: إذا عدت إلى فارس، وسئلت عن إتمامه، فإن قلت نعم كذبت وإن قلت لا، بطلت الرواية والرحلة، فدعتني الضرورة أن حملت إليه رزمة، فلما بصر بي من بعيد أنشد:
كم قد تجرعت من غيظ ومن حزن ... إذا تجدد حزني هون الماضي
وكم غضبت وما باليتم غضبي ... حتى رجعت بقلب ساخط راض
وحكى ابن الرماني قال: ذكر كتاب الأصول بحضرته، فقال قائل: هو أحسن من المقتضب، فقال ابن السرّاج: لا تقل هكذا، وأنشد:

(المقدمة/28)


ولو قبل مبكاها بكيت صبابة ... بسعدى شفيت النفس قبل التندم
ولكن بكت قبلي فهيج لي البكا ... بكاها فقلت الفضل للمتقدم
[بغية الوعاة 1/ 109 - 110] وقد أخذ عنه أبو علي ما شرع في شرحه من كتاب تفسير القراءات ...
وأبو بكر محمد بن علي بن إسماعيل أبو بكر العسكري المعروف بمبرمان.
أخذ عن المبرد، وأكثر بعده عن الزجّاج، وكان قيّما بالنحو، أخذ عنه الفارسي والسيرافي، وكان ضنينا بالأخذ عنه، لا يقرئ كتاب سيبويه إلا بمائة دينار. كما في بغية الوعاة [1/ 176] وفي طبقات الزبيدي: «قال أبو علي:
قال ولد أبي العباس محمد بن يزيد: في تلاميذ أبي رجلان: أحدهما يسفل والآخر يعلو، فقيل: من هما؟ فقال: المبرمان، يقرأ على أبي ويأخذ عنه كتاب سيبويه، ثم يقول: قال الزجّاج، والكلابزي يقرأ عليه ثم يقول: قال المازني- وكان الكلابزي قد أدرك المازني» [الطبقات للزبيدي ص 114].
- وأبو بكر بن الخياط، محمد بن أحمد بن منصور النحوي. «قرأ عليه أبو علي الفارسي، وكتب عنه شيئا من علم العربية، ورأيت ذلك بخط أبي علي. وأخذ عنه أبو القاسم الزجّاجي أيضا، وكان ابن الخياط جميل الأخلاق، طيب العشرة، محبوب الخلقة ... » قاله ياقوت في معجم الأدباء [17/ 142].
هؤلاء المتقدمون شيوخه في علوم العربية أما شيخه في القراءة فهو ابن مجاهد. قال عنه ابن الجزري في طبقات القرّاء [1/ 139]: «أحمد بن موسى بن العباس بن مجاهد التميمي الحافظ الأستاذ أبو بكر بن مجاهد البغدادي شيخ الصنعة وأول من سبّع السبعة، ولد سنة خمس وأربعين ومائتين بسوق العطش ببغداد».
ويقول أبو علي الفارسي في مقدمة كتابه الحجة: «فإن هذا كتاب نذكر فيه وجوه قراءات القرّاء الذين ثبتت قراءاتهم في كتاب أبي بكر أحمد بن العباس بن مجاهد المترجم بمعرفة قراءات أهل الأمصار والحجاز، والعراق،

(المقدمة/29)


والشام بعد أن نقدم ذكر كل حرف من ذلك على حسب ما رواه وأخذناه عنه».

تلاميذه:
لقد نبغ لأبي علي الفارسي تلاميذ كانوا من بعده أئمة عصرهم. يقول الخطيب في تاريخ بغداد [7/ 275] وابن الجوزي في المنتظم [7/ 138] وغيرهما «اشتهر ذكره في الآفاق وبرع له غلمان حذّاق، مثل أبي عثمان بن جنّي، وعلي بن عيسى الشيرازي وغيرهما». وقال ابن الأنباري في النزهة [ص 315 - 317]: «وأخذ عنه جماعة من الحذّاق النحويين، كأبي الفتح بن جني وعلي بن عيسى الربعي، وأبي طالب العبدي، وأبي الحسن الزعفراني وغيرهم. 1 هـ. ومن تلاميذه ابن أخته أبو الحسين محمد بن الحسين الفارسي النحوي ذكره صاحب يتيمة الدهر [4/ 384] فقال: ومنه أخذ، وعليه درس، حتى استغرق علمه، واستحق مكانه.
وذكر صاحب الروضات من تلاميذ أبي علي: أبو إسحاق إبراهيم بن علي الفارسي اللغوي النحوي.
- أبو القاسم علي بن عبد الله الدقاق.
- أبو محمد عبد الله بن أحمد القزاز النحوي، قاضي القضاة بشيراز.
- الحسين بن محمد الخالع.
- عبد الباقي بن محمد بن الحسن بن عبد الله النحوي.
ومن تلاميذه من الملوك عضد الدولة فناخسرو الذي كان يقول مفتخرا:
معلمي في النحو أبو علي الفارسي الفسوي، ومرة يقول: أنا غلام أبي علي النحوي الفسوي في النحو. كما في تاريخ بغداد [7/ 275] وأخبار الحكماء [ص 152] وغيرهما.
أما من روى عنه في الحديث فقد قال الخطيب البغدادي وغيره: أبو علي الفارسي، سمع عليّ بن الحسين بن معدان- صاحب إسحاق بن راهويه- وكان عنده عنه جزء واحد حدّثنا عنه [أبو القاسم عبيد الله] الأزهري، والجوهري، وأبو الحسن محمد بن عبد الواحد، وعلي بن محمد بن الحسن

(المقدمة/30)


المالكي، والقاضي أبو القاسم التنوخي. قال لي التنوخي: وسمعنا منه في رجب سنة خمس وسبعين وثلاثمائة.
وهنالك فقرة عند ابن العديم يذكر فيها من قرأ عليه وهي في توضيح الأسماء أبين، يقول:
«قرأ عليه عضد الدولة فناخسرو بن بويه الأدب، وحظي عنده، وروى عنه، وكانت مكانته عنده جليلة، وصنّف له الإيضاح العضدي، والتكملة.
وقرأ عليه علي بن عيسى بن الفرج بن صالح الربعي، وأبو الفتح عثمان بن جنّي، وأبو طالب أحمد بن بكر العبدي، وروى عنه القاضي أبو القاسم علي بن المحسن التنوخي وأبو الحسن محمد بن عبد الواحد، وعلي بن محمد بن الحسن المالكي، وأبو محمد الجوهري، وأبو القاسم الأزهري، وأبو عبد الله الحسين بن محمد بن جعفر الخالع، وأحمد بن فارس الأديب المنبجي، وأبو الحسن الزعفراني» [مجلة المجمع 4/ 743، المجلد 58].

منزلته العلمية والاجتماعية:
أبو علي الفارسي شيخ العربية في عصره بلا منازع، وقد أجمعت المصادر التي ترجمت له، على أنّه لم يكن في زمانه مثله في النحو. يقول أبو طالب العبدي: لم يكن بين أبي علي وبين سيبويه أحد أبصر بالنحو من أبي علي. [معجم الأدباء 7/ 232].
ويقول ابن جني في الخصائص [1/ 208]: وقلت مرة لأبي بكر أحمد بن علي الرازي [المشهور بالجصاص صاحب كتاب أحكام القرآن- وهو حنفي] رحمه الله، وقد أفضنا في ذكر أبي علي، ونبل قدره، ونباوة محلّه:
أحسب أن أبا علي قد خطر له، وانتزع من علل هذا العلم ثلث ما وقع لجميع أصحابنا! فأصغى أبو بكر إليه، ولم يتبشع هذا القول عليه.
وقال ابن العديم: قرأت بخط أبي منصور، موهوب بن أحمد بن محمد الجواليقي- رحمه الله- في تعليق له نقله من خط ابن برهان، وأنبأنا به شيخنا أبو اليمن الكندي عنه، قال فيما نقله من خط ابن برهان، قال أبو الفتح، بعد أن دعا لأبي علي: كان إذا قعد على سريره الذي كان يقعد عليه أوقات درسه

(المقدمة/31)


لا يرى العالم إلا دونه، وما كان يفكر في أحد، حتى إنه كان إذا جرى حديث عضد الدولة قال: صاحب السطح فعل كذا، وصاحب السطح قال كذا، وذلك أن الملك بشيراز كان يقعد في أكثر أوقاته على سطح له كان فيه مجلسه. ثم قال أبو الفتح: وما كان مع ذلك إلا بحيث يضع نفسه، فإنه كان فوق كلّ من نظر في هذا العلم، ولو عاش أبو العباس وأبو بكر وطبقتهما لأخذوا عنه بلا أنفة، ولو أدركه الخليل وسيبويه لكانا يقرّان له ويتجملان به.
وقال ابن العديم: وكان أهل بغداد يقولون في زمانه: لو عاش سيبويه لاحتاج إليه. [مجلة المجمع 4/ 752 المجلد 58]. وكان عضد الدولة يتشاغل بالعلم فوجد له في تذكرة: «إذا فرغنا من حلّ أوقليدس كله تصدقت بعشرين ألف درهم، وإذا فرغنا من كتاب أبي علي النحوي تصدّقت بخمسين ألف درهم ... » قاله ابن الجوزي في المنتظم [7/ 115]. وقد حظي أبو علي الفارسي بمنزلة عالية عند عضد الدولة، فكان أكيله وجليسه، يدلّنا على ذلك ما نقله ابن العديم في ترجمته له [مجلة المجمع ... ] حيث قال: «أخبرنا أبو يعقوب، يوسف بن محمود بن الحسين السادي بالقاهرة، قال: أخبرنا أبو طاهر أحمد بن محمد بن أحمد الأصبهاني إجازة إن لم يكن سماعا، قال: سمعت القاضي أبا منصور العمراني بآمد يقول: سمعت أبا الحسن علي بن فضال النحوي يقول: كان عضد الدولة يقرأ الأدب على أبي علي الفارسي، ويبالغ في إكرامه ويحضره معه المائدة، فلما كبر وأضرّ، كان يحضره أيضا على العادة المستمرة، وكان رسمه أنه إذا فرغ من الأكل يلتفت والفراش قائم، فيقلب الماء على يده، فاتفق يوما أن كان الفراش مشغولا، فلما التفت الشيخ ليغسل يده اختلسه عضد الدولة، وجاء مجيء الفراش، فأخذ الإبريق، وقلب على يده الماء. فجاء الفراش، فأومأ إليه أن أمسك إلى أن فرغ، وأعطاه المنديل، فمسح يده ورجع مكانه. فقال الفراش: يا سيدنا! تعلم من قلب على يدك الماء؟ فقال: أنت. فقال: إنّما كان مولانا عضد الدولة. فقام الشيخ أبو علي قائما وقال: لو لم أجد من حلاوة العلم إلّا هذا لكان فضلا كثيرا.
ثم رفع يديه نحو السماء وقال: أكرمك الله الذي أكرمتني لأجله، أكرمك الله الذي أكرمتني لأجله وجعل يكرره.
وقد بلغ من مكانة أبي علي عند عضد الدولة أن جعله وكيله في العقد

(المقدمة/32)


على بنته الكبرى. قال ابن الجوزي في المنتظم [7/ 101]: وفي يوم الثلاثاء لتسع بقين من ذي القعدة سنة 369 هـ تزوج الطائع لله بنت عضد الدولة الكبرى، وعقد العقد بحضرة الطائع، وبمشهد من الأشراف والقضاة والشهود ووجوه الدولة على صداق مبلغه مائة ألف دينار، وفي رواية مائتي ألف دينار، والوكيل عن عضد الدولة في العقد أبو علي الحسن بن أحمد الفارسي النحوي، والخطيب القاضي أبو علي المحسن بن علي التنوخي.
إن هذا النص يدلنا دلالة واضحة على منزلة أبي علي الفارسي، ومكانته الاجتماعية الرفيعة. وهو لا يحتاج إلى تدليل.

أبو علي الفارسي وقول الشعر:
هل كان أبو علي الفارسي شاعرا؟
إن أبا علي على جلالة قدره وعلوّ منزلته في علم العربية لم يكن يجيد قول الشعر. وإن المصادر تجمع على أنه لم يقرض الشعر شأن غيره من علماء عصره، كشيخه ابن السراج مثلا- ونترك هنا الكلام لتلميذه ابن جنّي كما نقله ياقوت في معجم الأدباء [7/ 251] حيث يقول:
«لم أسمع لأبي علي شعرا قطّ، إلى أن دخل إليه في بعض الأيام رجل من الشعراء، فجرى ذكر الشعر. فقال أبو علي: إنّي لأغبطكم على قول الشعر هذا! فإن خاطري لا يواتيني على قوله، مع تحققي للعلوم التي هي من موارده. فقال له ذلك الرجل: فما قلت قطّ شيئا منه البتّة؟! فقال: ما أعهد لي شعرا إلا ثلاثة أبيات قلتها في الشيب وهي قولي:
خضبت الشيب لما كان عيبا ... وخضب الشيب أولى أن يعابا
ولم أخضب مخافة هجر خلّ ... ولا عيبا خشيت ولا عتابا
ولكنّ المشيب بدا ذميما ... فصيرت الخضاب له عقابا

مذهب أبي علي النحوي:
كان أبو علي الفارسي من نحاة البصرة، وهو خليفة سيبويه، إذ لم يكن في عصره أبصر منه بكتاب سيبويه، رأس المدرسة البصرية.
وعند ما احترقت كتبه ذكر أنه كتب علم البصريين بخط يده، وقرأه على

(المقدمة/33)


أصحابه، فلا غرابة بعد ذلك أن يغدو إماما من أئمة البصريين، وشيخا كبيرا من شيوخها المجتهدين في النحو. إذ كانت له شخصيّته البارزة في سوق الأدلة ومناقشتها، وعقلية نفّاذة غوّاصة في الوصول إلى خفايا المعاني، وتقليبها على وجوهها المختلفة، ثم ترجيح الوجه الذي يرتضيه، وإن خالف فيه غيره من أئمة البصريين. وكتاب الحجة الذي بين أيدينا خير دليل على ذلك.

عقيدة أبي علي ومذهبه الفقهي:
تكاد تجمع المصادر على أن أبا علي الفارسي كان متهما بالاعتزال، ولم يزيدوا شيئا على كلمة الاتهام هذه.
وأول من أطلق عليه هذه التهمة الخطيب البغدادي في تاريخ بغداد نقلا عن محمد بن أبي الفوارس الذي قال: «في سنة تسع وسبعين وثلاثمائة توفي أبو علي الفسوي النحوي، ولم أسمع منه شيئا، وكان متهما بالاعتزال».
هذا هو النص بحروفه، ثم توالت المصادر تنقل العبارة بالمعنى نفسه، فلا تزيد على الاتهام بالاعتزال، ونقل هذه العبارة رجال الجرح والتعديل من أمثال الذهبي في الميزان وابن حجر في لسان الميزان، ولكنهما عقّبا على هذه العبارة بقولهما: لكنه صدوق في نفسه.
فهذه الشهادة لها مدلولها عند الذهبي، وهي تعني أن أبا علي ثقة يؤخذ بحديثه لأنه شهد بالشهادة نفسها لعمران بن حطان الخارجي بعد أن رمز له بأن البخاري وأبا داود والنسائي قد خرّجوا حديثه، فقال: فإن عمران صدوق في نفسه، قد روى عنه يحيى بن أبي كثير، وقتادة، ومحارب بن دثار. والحقيقة أن كلمة: «صدوق في نفسه» نعت لم أقف عليه إلا عند الذهبي، ووافقه عليه ابن حجر في لسان الميزان من دون أي تعليق عليه، فكاد يجعل في النفس شيئا لولا أنني وقفت على ما ذكره في ترجمة عمران بن حطان في ميزان الاعتدال [3/ 235] من توثيق لمن هذا نعته. والذي ينطبق على أبي علي.
وقد ذكر الذهبي في مقدمة ميزان الاعتدال وابن حجر في مقدمة لسان الميزان مراتب الرواة المقبولين، قال الذهبي: فأعلى العبارات في الرواة المقبولين:
ثبت حجة، وثبت حافظ، وثقة متقن، وثقة ثقة، ثم ثقة، ثم صدوق، ولا بأس به، وليس به بأس ...

(المقدمة/34)


وقال ابن أبي حاتم في مقدمة الجرح والتعديل: ومنهم العدل في نفسه، الثبت في روايته، الصدوق في نقله ... [1/ 10].
فأبو علي إذن عند رجال الجرح والتعديل صدوق يؤخذ بحديثه، فلو كان صاحب بدعة أو هوى من الأهواء لأسقطوا حديثه، أو بيّنوا حاله كما فعل الذهبي في الميزان [1/ 5] في ترجمة أبان بن تغلب الكوفي قال: شيعي جلد، ولكنه صدوق، فلنا صدقه وعليه بدعته. ثم يقول:
فلقائل أن يقول: كيف ساغ توثيق مبتدع، وحدّ الثقة العدالة والإتقان؟
فكيف يكون عدلا من هو صاحب بدعة؟
وجوابه أن البدعة على ضربين: فبدعة صغرى، كغلوّ التشيع أو التشيع بلا غلو ولا تحرف، فهذا كثير في التابعين وتابعيهم مع الدين والورع والصدق، فلو ردّ حديث هؤلاء لذهب جملة من الآثار النبوية، وهذه مفسدة بيّنة.
ثم بدعة كبرى، كالرفض الكامل والغلو فيه، والحطّ على أبي بكر وعمر رضي الله عنهما والدعاء إلى ذلك، فهذا النوع لا يحتجّ به ولا كرامة. ثم يقول: فالشيعي الغالي في زمان السلف وعرفهم هو من تكلم في عثمان والزبير وطلحة، ومعاوية، وطائفة ممّن حارب عليّا رضي الله عنه وتعرّض لسبّهم.
والغالي في زماننا وعرفنا هو الذي يكفّر هؤلاء السادة، ويتبرأ من الشيخين أيضا فهذا ضالّ معثّر. 1 هـ.
وقال في [1/ 3] من ميزان الاعتدال: روى عاصم الأحول عن ابن سيرين قال: لم يكونوا يسألون عن الأسناد حتى وقعت الفتنة، فلما وقعت نظروا من كان من أهل السنّة أخذوا حديثه، ومن كان من أهل البدعة تركوا حديثه. 1 هـ.
نستخلص مما تقدم أن أبا علي الفارسي لا ينطبق عليه تعريف الشيعي بحديه المتقدمين. إذ لو كان شيعيا أي صاحب بدعة صغرى كانت أو كبرى

(المقدمة/35)


- كما سمّاها الذهبي- لذكره وبيّن حاله، وهو الذي قطع على نفسه بيان ذلك في مقدمة كتابه ميزان الاعتدال الذي ترجم فيه أبا علي الفارسي. ولكننا لا نرى عند الذهبي وغيره من نعته بنعت الشيعي. مع حرصهم على بيان مذهب وعقيدة المترجم إن لم يكن من أهل السنّة والجماعة. وخاصة إذا علمنا أن أبا علي الفارسي كان عنده جزء من الحديث عن معدان عن ابن راهويه، وتفرّد بهذا الجزء. فلو كان صاحب بدعة لما سكتوا عنه، ولبينوا حاله.
والذي ساقني إلى الحديث عن أبي علي هذا المساق هو أن الدكتور شلبي صنع كتابا درس فيه أبا علي الفارسي سمّاه: «من أعيان الشيعة أبو علي الفارسي». جعله معتزلي الاعتقاد ثم جاء بأدلة حشدها لذلك الغرض. ثم خلص منها إلى تقرير شيعية أبي علي الفارسي، وساق في ذلك أدلة أوهى من بيت العنكبوت، أجد نفسي مضطرا لسردها حتى لا نكون في أحكامنا ظالمين. قال الدكتور شلبي بعد أن ذكر أدلة عامة لما ذهب إليه: فإذا تلمسنا أدلّة خاصة على تشيّع أبي علىّ رأينا ذلك:
أولا: في شيوع التشيّع ب «فسا» مولد أبي علي وفي ذلك الوقت المبكر من حياته ...
ثانيا: في انعقاد الصلات بين أبي علي وتلاميذه من بعده، وشيعيين، وهذه الصلات فيما أرى دليل على ما كان عند أبي علي من التشيّع، ومن هذه الصلات:
أ- ما كان بينه وبين الصاحب بن عباد من مواصلة ومراسلة.
ب- وجود نسخة من الشيرازيات عتيقة عادية عليها خط أبي علي في خزانة كتب الأمير علي (رضي الله عنه) بنجف، فالحرص على هذه النسخة التي عليها خط أبي علي في خزائن الشيعة، دليل على هذه الصلة بين أبي علي والشيعيين.
ج- وابن جنّي- تلميذ أبي علي الملازم له- ينزل في دار الشريف أبي علي الجواني نقيب العلويين، وكان الناس يترددون عليه ويسألونه.
د- ويصاحب ابن جنّي الرضي والمرتضى العلويين، ويهتم ابن جنّي

(المقدمة/36)


بقصائد الشريف الرضي فيؤلف كتابا خاصا سمّاه: تفسير العلويات، وعلي بن عيسى الربعي تلميذ أبي علي يأخذ عنه يحيى بن طباطبا العلوي.
هـ- ويرى أحد تلاميذ ابن جنّي (علي بن أبي طالب) في المنام يأمر ابن جنّي بإتمام كتاب المحتسب، ويثبت هذه الرؤيا ابن جنّي بخطه على ظهر نسخة كتاب المحتسب.
ووهذا الشريف عمر بن إبراهيم بن محمد العلوي الزيدي أبو البركات ... يسافر إلى الشام ويقيم بدمشق ثم بحلب كذلك، ويقرأ بها كتاب الإيضاح لأبي علي الفارسي في سنة 445 هـ ... 1 هـ منه ص 83.
هذه هي الأدلة الخاصة التي استدلّ بها الدكتور عبد الفتاح شلبي على شيعية أبي علي الفارسي ولو أردنا أن نناقش الدكتور بمنطقه هذا لقلنا:
إنّ أبا علي الفارسي كان تلميذ أبي إسحاق الزجّاج. والزجّاج حنبلي، إذن أبو علي الفارسي يكون حنبليا!.
ولو فرضنا أن أبا بكر بن السراج كان شافعيا، وأبو علي تلميذ أبي بكر بن السراج، إذن: أبو علي يمكن أن يكون شافعيا!!! وإذا عكسنا فقلنا إن أبا علي الفارسي- كما يقول الدكتور شلبي- شيعي، فتكون النتيجة أن شيوخه هؤلاء الذين درس عليهم من الشيعة بحسب قياس الدكتور واستدلالاته. فهل هذا دليل مقبول؟! ثم إن كثيرا من العلماء في عصر أبي علي كانوا أحنافا وحنابلة وشافعية، وغير ذلك ... مع أن محيطهم من الولاة والحكام كانوا من الشيعة، فهل أثّر ذلك في تمذهبهم؟
ولكنها التهم والتخرصات تردي بصاحبها إلى المهالك! وإذا أردنا أن نبرهن على فساد هذا المذهب نتخذ مثلا على ذلك الإمام محمد بن جرير الطبري، صاحب التفسير والتاريخ وناصر السنّة وأهلها، فإنّه اتّهم بالتشيّع كما قال ياقوت في معجم الأدباء [18/ 40]: «قال غير الخطيب: ودفن ليلا خوفا من العامة، لأنّه كان يتّهم بالتشيّع».
هذا مع أن ياقوت ينقل في معجم الأدباء [18/ 85] عن عبد العزيز فيقول:

(المقدمة/37)


وقال عبد العزيز بن محمد الطبري. أخبرني غير واحد من أصحابنا أنّه رأى عند أبي جعفر شيخا مسنّا، فقام له أبو جعفر وأكرمه ثم قال أبو جعفر:
إن هذا الرجل نال فيّ ما قد صار له عليّ به الحق الكثير، وذلك أني دخلت إلى طبرستان، وقد شاع سبّ أبي بكر وعمر فيها، فسألوني أن أملي فضائلهما، ففعلت وكان سلطان البلد يكره ذلك فاجتمع إليه من عرّفه ما أمليته، فوجه إليّ فبادر هذا وأرسل إليّ من أخبرني أنّي طلبت، فخرجت من وقتي عن البلد، ولم يشعر بي، وحصل هذا في أيديهم فضرب بسببي ألفا.
فأيّ تشيّع هذا؟! وأيّ اتهام يرمى به هذا الإمام الكبير المعروف بشدة وطأته على أصحاب البدع والأهواء، والمتمسك بما تتمسك به أهل السنّة والجماعة؟ فهل نقبل هذا
الاتهام لمجرد أن زيدا من الناس قال به؟
وقصة الإمام النسائي معروفة مشهورة- وقد ألّف كتابا خاصا بفضائل علي رضي الله عنه وهو شافعي المذهب، وله مناسك للحج على مذهب الإمام الشافعي رضي الله عنه.
قلت قصته معروفة عند ما خرج إلى دمشق عائدا من مصر، سأله أصحاب معاوية رضي الله عنه من أهل الشام تفضيله على علي- كرّم الله وجهه- فقال: ألا يرضى معاوية رأسا برأس حتى يفضل عليا!.
وسألوه عمّا يرويه لمعاوية من فضائل؟ فقال: ما أعرف له فضيلة إلا:
«لا أشبع الله بطنه» فما زال به أهل الشام يضربونه على خصييه بأرجلهم حتى أخرجوه من المسجد، ثم حمل إلى الرملة. [انظر مقدمة سنن النسائي] وكان هذا سبب وفاته. فهل الإمام النسائي شيعي لأنّه فضّل عليا على معاوية ... ؟!
فإن كان الدكتور شلبي يقصد أن هذا اللون من التشيّع كان عند أبي علي الفارسي، وهو تفضيل عليّ وآل البيت فهو صحيح. وهذا عليه أكثرية من السلف الصالح من المسلمين ومن أهل السنّة والجماعة. ومن منّا اليوم من أهل السنّة والجماعة لا يقرّ بالفضل لسيدنا علي على من جاء بعده من الخلفاء وغيرهم؟! ولو أردنا أن نذهب مذهب الدكتور شلبي في هذا الباب لما سلم لنا إلا النزر اليسير من العلماء الذين عاشوا تلك الفترة. ولكان معظمهم عندنا اليوم متهم بنحلة من النحل ثم إننا لم نظفر بنقل في المراجع

(المقدمة/38)


التي ترجمت للفارسي على كثرتها- تقول بتشيّعه، بل جلّ ما نقرأه فيها أنه كان متهما بالاعتزال أو وقيل كان معتزليا، ولم يقل أحد منهم إنّه كان معتزليا ... بعبارة التقرير. بل نراها إمّا بصيغة الشك أو التمريض.
ثم إن القارئ ليندهش عند ما يقرأ للدكتور شلبي نفسه بعد صفحات أدلة يحشدها ليثبت فيها أن أبا علي الفارسي درس من المذاهب الفقهية مذهب أبي حنيفة وتأثر به، بنفس الطريقة التي دلّل بها على تشيّعه.
ويبدو أن الدكتور شلبي كان موفقا هنا في سرد أكثر الأدلة على تأثّر أبي علي بالمذهب الحنفي. منها:
1 - ما ذكره ابن جني (تلميذ أبي علي) قائلا: «اعلم أن أصحابنا انتزعوا العلل من كتب محمد بن الحسن، وجمعوها منها بالملاطفة والرفق.
2 - ثناء أبي علي على أبي حنيفة في أمثلة وردت بكتبه فمن ذلك ما قال: «كما يجوز تشبيه المعنى بالعين للمبالغة في أمره، والرفع منه جاز أيضا تشبيه العين بالمعنى إذا أكثر من محاولة ذلك المعنى، وكثر أخذه فيه، وإكثاره منه، فتقول على ذلك: أبو حنيفة الفقه!، وأصبح ماؤكم غورا».
3 - وكذلك ثناؤه على أبي يوسف في قوله: «أبو يوسف أبو حنيفة!».
4 - استشهاده بأقوال أبي يوسف.
5 - ولما احترقت كتب أبي علي لم يبق منها إلا نصف كتاب الطلاق عن محمد بن الحسن. 1 هـ.
قلت والعبارة الأخيرة كاملة كما في معجم الأدباء [7/ 256] وابن العديم في ترجمة أبي علي [مجلة المجمع] قال ابن جني: وحدّثني أبو علي أنّه وقع حريق بمدينة السلام فذهب له جميع علم البصريين، قال: وكنت قد كتبت ذلك كلّه بخطي، وقرأته على أصحابنا، فلم أجد من الصندوق الذي احترق شيئا البتة إلّا كتاب الطلاق عن محمد بن الحسن.
وهذه الفقرة تدل دلالة واضحة على تحصيل أبي علي الفارسي علم البصريين وقراءة ذلك كلّه على أصحابه بما فيه الفقه، وخاصة فقه أبي حنيفة.

(المقدمة/39)


الممثل بتلميذه محمد بن الحسن.
ونحن لو سلّمنا أن أبا علي كان معتزليا، وأردنا أن نسلّم أن من كان في اعتقاده معتزليا يمكن أن يكون شيعيا، لأن كل شيعي معتزلي في اعتقاده وليس العكس، ولكن الأمر المحيّر هو أن يكون أبو علي معتزليا شيعيا حنفيا بحسب الدراسة التي توصل إليها الدكتور بالأدلة والبراهين.
ومن يدري؟! فلعله يخطر له خاطر يجعله فيه شافعيا أو حنبليا أو مالكيا، وإذ يمكن للدارس- بيسر- أن يتلمس له من الآراء ما يوافق فيه هذه المذاهب؟! فما رأيكم!! ولعلّ القارى الكريم يستشرف لمعرفة رأينا في هذا الموضوع فنقول:
الحقيقة أن مذهب الأحناف أقرب المذاهب التي تتلاءم مع طبيعة أبي علي الفارسي التي تكاد تكون مفطورة على حب القياس والولع به مما جعله يقول: لأن أخطئ في خمسين مسألة مما بابه الرواية أحبّ إليّ من أن أخطئ في مسألة واحدة قياسية (ياقوت 7/ 254)، وسمة القياس هذه من أبرز سمات فقه أبي حنيفة ثم تصريح أبي علي بأنه قرأ جميع علم البصريين على أصحابه، وكتاب الطلاق لمحمد بن الحسن فهذه قرينة دالّة على ما ذهبنا إليه. وإذا أضفنا ما ذكره ابن جنّي في الخصائص [1/ 208] حيث قال:
وقلت مرة لأبي بكر بن علي الرازي المشهور بالجصاص صاحب أحكام القرآن، وهو حنفي «1» - وقد أفضنا في ذكر أبي علي، ونبل قدره، ونباوة محلّه: أحسب أن أبا علي قد خطر له، وانتزع من علل هذا العلم ثلث ما وقع لجميع أصحابنا، فأصغى أبو بكر إليه ولم يتبشّع هذا القول عليه» يمكننا أن نقرر مطمئنين إلى أن أبا علي كان حنفي المذهب لا شيعيا. وما يصادفه القارئ من قوله: «عليه السلام» حينما يذكر عليا رضي الله عنه، ليس هذا بالدليل على أن أبا علي الفارسي شيعي، بل كان في ذلك يجاري وليّ نعمته، عضد الدولة الذي قدّم له كتاب الحجة وغيره والذي كان يترضاه، ويتملقه. وقد ذكر ابن خلكان وصاحب شذرات الذهب، ومرآة الجنان وغيرهم أن سبب
استشهاد أبي علي الفارسي في كتاب الإيضاح في باب كان
__________
(1) انظر الطبقات السنية 1/ 477.

(المقدمة/40)


ببيت أبي تمام:
من كان مرعى عزمه وهمومه ... روض الأماني لم يزل مهزولا
لم يكن ذلك لأن أبا تمام يستشهد بشعره، لكن عضد الدولة كان يحب هذا البيت وينشده كثيرا. ثم لم تكن عبارة «عليه السلام» من اختصاص الشيعة ويكفي أن أذكر ابن الأثير في الكامل في التاريخ وكثيرا ما يذكر «عليه السلام» عند ما يرد ذكر سيدنا علي عليه السلام. (انظر 1/ 112، 335) وغيرها كثير متناثر في الأجزاء.
وهنالك كلمة أخيرة هي الفيصل في هذا الأمر، وهي أن الحق الذي لا معدل عنه ما يقوله رجال الجرح والتعديل في أبي علي الفارسي لأنّهم هم أصحاب هذا الفن المعتمد، والمعوّل عليهم في بيان حالة الرجل، لا ما يستنبط بالظن والتخمين.

مؤلفاته:
تعدّ كتب أبي علي الفارسي- رحمه الله- أساسا ركينا، ومرجعا أصيلا من مراجع مكتبتنا العربية في اللغة والنحو، وأصبح في كتابه الحجة لا يستغني عنه كبار المفسّرين واللغويين والنحاة.
وإننا لا نكاد نجد عالما جاء بعده من علماء العربية إلّا وكان على بحر علمه من الواردين، ومن نفائس درره من اللاقطين، جميعهم يعرف فضله، فينهل من معينه بلا أنفة، ويزين كتبه بنقول عنه، يجعلها في باب احتجاجه فيصلا حكما. فشاعت مؤلفاته، وانتشر علمه بين العلماء والدارسين من سابقين ولاحقين.
ولقد ذكر مؤلفاته ياقوت في معجم الأدباء [7/ 240]: قال: ولأبي عليّ من التصانيف:
1 - كتاب الحجة، وهو كتابنا هذا الذي نقدمه بين يدي القرّاء.
2 - كتاب التذكرة (قال عنه في كشف الظنون 1/ 384 وهو كبير في مجلدات ... ).

(المقدمة/41)


3 - كتاب أبيات الإعراب.
4 - كتاب الإيضاح الشعري.
5 - كتاب الإيضاح النحوي، (والتكملة).
6 - كتاب مختصر عوامل الإعراب.
7 - كتاب المسائل الحلبية.
8 - كتاب المسائل البغدادية.
9 - كتاب المسائل الشيرازية.
10 - كتاب المسائل القصرية.
11 - كتاب الأغفال.
12 - كتاب المقصور والممدود.
13 - نقض الهاذور (في الرد على ابن خالويه انظر شرح أبيات المغني 8/ 447).
14 - كتاب الترجمة.
15 - كتاب المسائل المنثورة.
16 - كتاب المسائل الدمشقية.
17 - كتاب أبيات المعاني.
18 - كتاب التتبّع لكلام أبي علي الجبائي في التفسير نحو مائة وتسع عشرة ورقة.
19 - كتاب تفسير قوله تعالى: إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ ....
20 - كتاب المسائل البصرية.
21 - كتاب المسائل العسكرية.
22 - كتاب المسائل المصلحة من كتاب ابن السراج.
23 - كتاب المسائل المشكلة «1».
24 - كتاب المسائل الكرمانية.
ونضيف إلى ما ذكره ياقوت رحمه الله:- 25 - كتاب الهيثيات ذكره ابن هشام في المغني والبغدادي في الخزانة 2/ 63.
26 - كتاب القدّ: جمعه ابن جنّي من كلام شيخه أبي علي ذكره
__________
(1) ذكره بروكلمان 2/ 193 وأضاف إليه بين هلالين ما يلي (البغدادية، ذكره صاحب الخزانة، انظر إقليد الخزانة/ 101/) قلت: نظرت في الإقليد 101 والخزانة 1/ 9، 152، 230، و 2/ 80 فلم أجد ما ذهب إليه بروكلمان. فالكتاب مذكور في الإقليد والخزانة باسم المسائل البغدادية أو البغداديات.

(المقدمة/42)


البغدادي في شرح أبيات المغني 2/ 119.
27 - كتاب جواهر النحو منه نسخة في مشهد 12: 7، 19 ذكره بروكلمان 2/ 193.
29 - الأوليات في النحو: (بخط ابن الأفقه) في الخزانة الغروية، ذكره المحسن في الذريعة 2/ 489 رقم 1888. قاله بروكلمان 2/ 193.
30 - مقاصد ذوي الألباب في العمل بالأصطرلاب: مكتبة قوله 2/ 282. المصدر السابق.
31 - كتاب التكملة في النحو وصنّفه لعضد الدولة. المصدر السابق ص 190 - 191.
هذه هي المؤلفات التي وقفنا على ذكرها لأبي علي الفارسي- رحمه الله، ونفع بها- وقد تجنبنا فيها الإطالة واكتفينا بسردها كما ذكرتها المصادر، لأننا رأينا في الإفاضة عنها في التعريف بها يحتاج وحده إلى فصل كامل ليس هنا مكانه.

وفاته:
لقد اتفق العلماء الذين ترجموا لأبي علي الفارسي أنه توفي يوم الأحد لسبع عشرة خلت من ربيع وهنالك اختلاف أكانت الوفاة في ربيع الأول أم في ربيع الآخر؟. فالبغدادي وابن الأنباري يذكران أنه كانت الوفاة في ربيع الأول. وعليه أكثر من ترجم له. وابن خلكان يذكر أنّه توفي في ربيع الآخر.
أما سنة وفاته فقد اختلفوا فيها، فابن النديم يذكر أنه توفي قبل سنة 370، وابن الأثير يذكره في تاريخه في وفيات سنة 376. أما بقية المصادر فتجعل وفاته سنة 377.
قال الخطيب البغدادي، قال أبو الفوارس: في سنة سبع وسبعين وثلاثمائة توفي أبو علي الفسوي النحوي.

(المقدمة/43)


وقال البغدادي: حدّثني أحمد بن علي التوزي، قال: توفي أبو علي الفارسي النحوي في يوم الأحد السابع عشر من شهر ربيع الأول سنة سبع وسبعين وثلاثمائة. [تاريخ بغداد 7/ 276].
وقال ابن العديم: قرأت في ديوان الشريف الرضي محمد بن الحسين العلوي، قال يرثي «1» أبا علي الحسن بن أحمد الفارسي النحوي، وتوفي ليلة السابع عشر من شهر ربيع الأول سنة سبع وسبعين وثلاثمائة، ودفن بالشونيزية عند قبر أبي بكر الرازي الفقيه، وكان قد نيّف على التسعين.
وقال ابن العديم: وقرأت بخط الحافظ السلفي، وذكر أنه نقله من خط علي بن عبد الملك بن الحسين بن عبد الملك الدبيقي: مات أبو علي الفارسي سنة سبع وسبعين وثلاثمائة [مجلة المجمع 1/ 47 سنة 1984].
وقال ابن تغري بردي في النجوم الزاهرة [4/ 151] في سنة 377.
توفي الحسن بن أحمد بن عبد الغفار أبو علي الفارسي النحوي الإمام المشهور.
__________
(1) وأبيات الشريف الرضي في رثائه في ديوانه 1/ 588 وإنك لا تلمس فيها روح البكاء على أبي علي بقدر ما تلمس فيها إعجاب الرضي بمقدرته العلمية، فالأبيات في تأبين أبي علي، ومدحه. وإليكم أبيات مختارة منها:
أبا علي للألدّ إن سطا ... وللخصوم إن أطالوا اللغطا
تصيب عمدا إن أصابوا غلطا ... ولمع تكشف عنهنّ الغطا
إلى أن يقول:
غلّل ما بين العقاص المشطا ... ضلّ المجارون وما تورّطا
خلّوا مجاراة فنيق قد مطا ... قرم يهدّ الأرض إن تخمّطا
لا جزعا أودى ولا مغتبطا ... كانوا العقابيل وكنت الفرطا
عند السراع يعرف القوم البطا ... أرضى زمان بك ثمّ أسخطا
ما أطلب الأيام منّا شططا.

(المقدمة/44)


المصادر التي ترجمت لأبي علي الفارسي كثيرة نذكر أبرزها:
1 - الفهرست لابن النديم ص 95 دار المعرفة.
2 - تاريخ بغداد للخطيب البغدادي 7/ 275 - 276.
3 - نزهة الألباء لابن الأنباري 315 - 317 أبو الفضل إبراهيم 1386 - 1967.
4 - المنتظم لابن الجوزي طبعة حيدرآباد الدكن 1358 هـ ج 7/ 138 وهي نفس ترجمة الخطيب البغدادي.
5 - معجم الأدباء لياقوت الحموي 7/ 232 - 261 وفيه أوسع ترجمة له.
6 - الكامل في التاريخ لابن الأثير طبعة صادر 9/ 51 هـ 1966 م.
7 - إنباه الرواة 1/ 273 - 275.
8 - وفيات الأعيان لابن خلكان (إحسان عباس) 2/ 80 - 82.
9 - ميزان الاعتدال للذهبي القاهرة سنة 1963 - / 480، 481.
10 - الوافي بالوفيات للصفدي 11/ 376 - 379 (1401 هـ 1981 م باعتناء الدكتور شكري فيصل.
11 - مرآة الجنان لليافعي 2/ 406 - 407.
12 - لسان الميزان للحافظ ابن حجر العسقلاني طبعة الهند 2/ 195.
13 - النجوم الزاهرة لابن تغري بردي 4/ 135 و 151.
14 - بغية الوعاة للسيوطي.
15 - طبقات القرّاء لابن الجزري.
16 - شذرات الذهب 3/ 88.
17 - شرح أبيات المغني (تحقيق عبد العزيز رباح وأحمد يوسف الدقاق طبع دار المأمون للتراث) انظر فهارسه 8/ 365، 366 وورد اسمه سهوا:
[الحسين بن أحمد بن عبد الغفار والصواب الحسن ... ].
18 - تاريخ الأدب العربي لبروكلمان، النسخة العربية 2/ 190 - 194.
19 - مجلة المجمع مجلد 4/ 58 سنة 1983 ومجلد 1/ 59 سنة 1984. ترجمة أبي علي الفارسي بتحقيق الدكتور شاكر الفحام وهي ترجمة مستلّة من كتاب بغية الطلب في تاريخ حلب لابن العديم.

(المقدمة/45)