المرشد الوجيز إلى علوم تتعلق بالكتاب العزيز الباب الرابع: في
معنى القراءات المشهورة الآن وتعريف الأمر في ذلك كيف كان
وقد قدمت في أول "إبراز المعاني" المختصر قولا موجزًا في ذلك
(1) وطولت النفس فيه في الكتاب الكبير في شرح:
"جزى الله بالخيرات ...
"فمنهم بدور سبعة ...
البيتين، فننقل ذلك إلى هذا الكتاب مع زيادة فوائد إن شاء
الله.
وقد ظن جماعة ممن لا خبرة له بأصول هذا العلم أن قراءة هؤلاء
الأئمة السبعة هي التي عبر عنها النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ بقوله: "أُنزل القرآن على سبعة أحرف"، فقراءة كل
واحد من هؤلاء حرف من تلك الأحرف، ولقد أخطأ من نسب إلى ابن
مجاهد (2) أنه قال ذلك.
قال أبو طاهر عبد الواحد بن أبي هاشم:
__________
(1) انظر: إبراز المعاني 1/ 1ظ، 5و.
(2) هو أحمد بن موسى العباسي التميمي، أبو بكر بن مجاهد،
الحافظ، أول من سبع السبعة، له مؤلفات في القراءات، توفي سنة
324هـ "غاية النهاية 1/ 139، شذرات الذهب 2/ 302".
(1/146)
"رام هذا [56 و] الغافل مطعنا في أبي بكر
شيخنا، فلم يجده، فحمله ذلك على أن قوله قولا لم يقله هو ولا
غيره، ليجد مساغا إلى ثلبه، فحكى عنه أنه اعتقد أن تفسير معنى
قول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أُنزل القرآن
على سبعة أحرف" أن تلك السبعة الأحرف هي قراءة السبعة القراء
الذين ائتم بهم أهل الأمصار، فقال على الرجل إفكا واحتقب عارا،
ولم يحظ من أكذوبته بطائل، وذلك أن أبا بكر رحمه الله كان أيقظ
من أن يتقلد مذهبا لم يقل به أحد، ولا يصح عند التفتيش
والفحص".
"وذلك أن أهل العلم قالوا في معنى قوله عليه السلام: "أُنزل
القرآن على سبعة أحرف": إنهن سبع لغات، بدلالة قول ابن مسعود
رضي الله عنه وغيره: إن ذلك كقولك هلم وتعال وأقبل" (1) .
"فكان ذلك جاريا مجرى قراءة عبد الله: "إن كانت إلا زقية
واحدة" (2) و"كالصوف المنفوش" (3) ، وقراءة أبي رضي الله عنه:
"أن بوركت النار ومن حولها" (4) ، "من الذين أوتوا الكتاب من
قبلكم ومن الكفار" (5) ، وكقراءة ابن عباس رضي الله عنهما:
"وعلى كل ضامر يأتون" (6) .
"وهذا النوع من الاختلاف معدوم اليوم، غير مأخوذ به ولا معمول
__________
(1) مر قول ابن مسعود هذا في ص89، 91، 136.
(2) يس: 29، انظر الحاشية رقم 2 ص91.
(3) القارعة: 5، انظر الحاشية رقم 2 ص95.
(4) النمل: 8، انظر الحاشية رقم 6 ص112.
(5) المائدة: 57، بزيادة "من" قبل "الكفار" "انظر: تفسير
الطبري 6/ 290، والكشاف 1/ 650".
(6) والقراءة المعروفة {وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ}
"الحج: 27"، وانظر: الكشاف 3/ 152.
(1/147)
بشيء منه بل هو اليوم متلو على حرف واحد
متفق الصورة في الرسم غير متنافٍ في المعاني إلا حروفا يسيرة
اختلفت صور رسمها في مصاحف الأمصار واتفقت معانيها فجرى مجرى
ما اتفقت [56 و] صورته".
"وذلك كالحرف المرسوم في مصحف أهل المدينة والشام "وأوصى بها
إبراهيمُ"، وفي مصحف الكوفيين "ووصى" (1) ، وفي مصحف أهل
الحرمين {لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا} ، وفي مصحف الكوفيين "أنجينا"
(2) .
قال: "ولا شك أن زيد بن ثابت سمع رسول الله صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقرؤها على هذه الهيئات فأثبتها في المصاحف
مختلفة الصور على ما سمعها من رسول الله صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ".
ثم ساق الكلام في تقرير ذلك على نحو مما تقدم عن الإمام أبي
جعفر بن جرير -وهو شيخه- فذكر أن الأمر بقراءة القرآن على سبعة
أحرف أمر تخيير، قال:
"فثبتت الأمة على حرف واحد من السبعة التي خيروا فيها، وكان
سبب ثباتهم على ذلك ورفض الستة ما أجمع عليه صحابة رسول الله
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حين خافوا على الأمة تكفير
بعضهم بعضا أن يستطيل ذلك إلى القتال
__________
(1) البقرة: 132، انظر الحاشية رقم 7 ص112.
(2) الأنعام: 63، "أنجيتنا" بالياء والتاء والنون، و"أنجينا":
بالياء بدلا من الألف، والنون "انظر: كتاب المصاحف ص39، 48،
والمقنع ص93". قال ابن الجوزي الجزري في النشر 2/ 259: واتفقوا
على "أنجيتنا" في سورة يونس "الآية: 22"؛ لأنه إخبار عن توجههم
إلى الله تعالى بالدعاء فقال عز وجل: {دَعَوُا اللَّهَ
مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا} ، وذلك إنما
يكون بالخطاب بخلاف ما في هذه السورة، فإنه قال تعالى أولا:
{قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ
تَدْعُونَه} قائلين ذلك؛ إذ يحتمل الخطاب ويحتمل حكاية الحال،
والله أعلم.
(1/148)
وسفك الدماء وتقطيع الأرحام، فرسموا لهم
مصحفا، أجمعوا جميعا عليه وعلى نبذ ما عداه لتصير الكلمة
واحدة، فكان ذلك حجة قاطعة وفرضا لازما".
قال: "وأما ما اختلف فيه أئمة القراءة بالأمصار من النصب
والرفع والتحريك والإسكان والهمز وتركه والتشديد والتخفيف
والمد والقصر وإبدال حرف بحرف يوافق صورته [57 و] فليس ذلك
بداخل في معنى قول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
"أُنزل القرآن على سبعة أحرف".
قال: "وذلك من قبل أن كل حرف اختلفت فيه أئمة القراءة لا يوجب
المراء كفرًا لمن مارى به في قول أحد من المسلمين، وقد أثبت
النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الكفر للمماري بكل
حرف من الحروف السبعة التي أنزل بها القرآن".
ثم قال: "فإن قيل: فما السبب في اختلاف هؤلاء الأئمة بعد
المرسوم لهم، ذلك شيء تخيروه من قبل أنفسهم، أم ذلك شيء وقفوا
عليه بعد توجيه المصاحف إليهم؟
"قيل: لما خلت تلك المصاحف من الشكل والإعجام وحصر الحروف
المحتملة على أحد الوجوه وكان أهل كل ناحية من النواحي التي
وجهت إليها المصاحف قد كان لهم في مصرهم ذلك من الصحابة معلمون
كأبي موسى (1) بالبصرة وعلي وعبد الله بالكوفة وزيد وأبي بن
كعب بالحجاز ومعاذ وأبي
__________
(1) هو عبد الله بن قيس بن سليم بن حضار اليماني، أبو موسى
الأشعري، صحابي من شجعانهم الفاتحين وأحد الحكمين اللذين بين
علي ومعاوية بعد حرب صفين، كان من أطيب الصحابة صوتا بالقرآن،
توفي سنة 44هـ على خلاف "الطبقات الكبرى 4/ 105، صفة الصفوة 1/
225، غاية النهاية 1/ 442، الإصابة 2/ 359".
(1/149)
الدرداء بالشام، فانتقلوا عما بان لهم أنهم
أمروا بالانتقال عنه مما كان بأيديهم، وثبتوا على ما لم يكن في
المصاحف الموجهة إليهم مما يستدلون به على انتقالهم عنه".
قلت: وذكر نحو ذلك مكي في كتابه المفرد (1) الذي ألحقه "بكتاب
الكشف" وكذلك الإمام أبو بكر بن العربي في "كتاب القبس"، قال:
"فإن [57 ظ] قيل: فما تقولون في هذه القراءات السبع التي ألفت
في الكتب؟
"قلنا: إنما أرسل أمير المؤمنين (2) المصاحف إلى الأمصار
الخمسة بعد أن كتبت بلغة قريش، فإن القرآن إنما نزل بلغتها ثم
أذن رحمة من الله تعالى لكل طائفة من العرب أن تقرأ بلغتها على
قدر استطاعتها، فلما صارت المصاحف في الآفاق غير مضبوطة ولا
معجمة قرأها الناس فما أنفذوه منها نفذ، وما احتمل وجهين طلبوا
فيه السماع حتى وجدوه".
"فلما أراد بعضهم أن يجمع ما شذ عن خط المصحف من الضبط جمعه
على سبعة أوجه اقتداء بقوله: "أُنزل القرآن على سبعة أحرف".
قال: "وليست هذه الروايات بأصل في التعيين، بل ربما خرج عنها
ما هو مثلها أو فوقها كحروف أبي جعفر المدني (3) وغيره" (4) .
__________
(1) هو كتاب "الإبانة عن معاني القراءات".
(2) يعني عثمان بن عفان ثالث الخلفاء الراشدين، مرت ترجمته في
الحاشية رقم 3 ص6.
(3) هو يزيد بن القعقاع المخزومي بالولاء، أبو جعفر المدني،
أحد القراء العشرة، من التابعين، أخذ القراءة عرضا عن ابن عباس
وعبد الله بن عياش وأبي هريرة، ويقال: قرأ على زيد بن ثابت،
توفي سنة 130هـ على خلاف "وفيات الأعيان 2/ 348، غاية النهاية
2/ 382: تهذيب التهذيب 12/ 58".
(4) القبس ص46و.
(1/150)
قال أبو محمد مكي:
"هذه القراءات كلها التي يقرؤها الناس اليوم، وصحت روايتها عن
الأئمة إنما هي جزء من الأحرف السبعة التي نزل بها القرآن،
ووافق اللفظ بها خط المصحف الذي أجمع الصحابة فمن بعدهم عليه
وعلى اطراح ما سواه، ولم ينقط ولم يضبط فاحتمل التأويل لذلك"
(1) .
قال: "فأما من ظن أن قراءة كل واحد من هؤلاء القراء [58 و]
كنافع (2) وعاصم وأبي عمرو، أحد الأحرف السبعة التي نص النبي
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فذلك منه غلط عظيم؛ إذ يجب
أن يكون ما لم يقرأ به هؤلاء السبعة متروكا؛ إذ قد استولوا على
الأحرف السبعة عنده، فما خرج عن قراءتهم فليس من السبعة عنده".
"ويجب من هذا القول أن تترك القراءة بما روي عن أئمة هؤلاء
السبعة من التابعين والصحابة مما يوافق خط المصحف، مما لم يقرأ
به هؤلاء السبعة".
"ويجب منه أن لا تروى قراءة عن ثامن فما فوقه؛ لأن هؤلاء
السبعة عند معتقد هذه القول قد أحاطت قراءتهم بالأحرف السبعة".
قال: "وقد ذكر الناس من الأئمة في كتبهم أكثر من سبعين ممن هو
أعلى رتبة وأجل قدرًا من هؤلا السبعة، على أنه قد ترك جماعة من
العلماء في كتبهم في القراءات ذكر بعض هؤلاء السبعة واطرحهم:
__________
(1) الإبانة ص2، 3.
(2) هو نافع بن عبد الرحمن بن أبي نعيم الليثي بالولاء، أحد
القراء السبعة، كان إمام أهل المدينة، أخذ القراءة عرضا عن
جماعة من التابعين، توفي سنة 169هـ على خلاف "وفيات الأعيان 2/
198، غاية النهاية 2/ 330، تهذيب التهذيب 10/ 407".
(1/151)
قد ترك أبو حاتم وغيره ذكر حمزة (1)
والكسائي (2) وابن عامر (3) ، وزاد نحو عشرين رجلا من الأئمة
ممن هو فوق هؤلاء السبعة".
"وكذلك زاد الطبري في "كتاب القراءات" له على هؤلاء السبعة نحو
خمسة عشر رجلا".
"وكذلك فعل أبو عبيد وإسماعيل القاضي".
"فكيف يجوز أن يظن ظان أن هؤلاء السبعة المتأخرين قراءة (4)
[58 ظ] كل واحد منهم أحد الحروف السبعة التي نص عليها النبي
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، هذا تخلف عظيم، أكان ذلك
ينص من النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أم كيف ذلك".
قال: "وكيف يكون ذلك والكسائي إنما ألحق بالسبعة بالأمس في
أيام
__________
(1) هو حمزة بن حبيب بن عمارة بن إسماعيل التيمي بالولاء، أبو
عمارة الكوفي، أحد القراء السبعة، أدرك الصحابة بالسن فيحتمل
أن يكون رأى بعضهم، وقيل له "الزيات"؛ لأنه كان يجلب الزيت من
الكوفة إلى حلوان ويجلب من حلوان الجبن والجوز إلى الكوفة فعرف
به، توفي سنة 156هـ "مراتب النحويين ص26، وفيات الأعيان 1/
259، ميزان الاعتدال 1/ 284، غاية النهاية 1/ 261، تهذيب
التهذيب 3/ 27".
(2) هو علي بن حمزة بن عبد الله الأسدي بالولاء الكسائي، أبو
الحسن الكوفي، أحد القراء السبعة وإمام في اللغة والنحو، له
تصانيف، توفي سنة 189هـ "مراتب النحويين ص74، إنباه الرواة 2/
256، وفيات الأعيان 1/ 416، غاية النهاية 1/ 535".
(3) هو عبد الله بن عامر بن يزيد بن تميم اليحصبي، أبو عمران
الدمشقي، أحد القراء السبعة، توفي سنة 118هـ "ميزان الاعتدال
2/ 51، غاية النهاية 1/ 423، تهذيب التهذيب 5/ 274".
(4) "قراءة" بدل من "هؤلاء".
(1/152)
المأمون (1) ، وغيره كان السابع -وهو يعقوب
الحضرمي- (2) فأثبت ابن مجاهد في سنة ثلاثمائة أو نحوها
الكسائي في موضع يعقوب"؟.
"وكيف يكون ذلك والكسائي إنما قرأ على حمزة وغيره، وإذا كانت
قراءة حمزة أحد الحروف السبعة فكيف يخرج حرف آخر من الحروف
السبعة؟ " (3) .
وأطال الكلام في تقرير ذلك، ثم قال:
"وأما قول الناس: قرأ فلان بالأحرف السبعة فمعناه أن قراءة كل
إمام تسمى حرفا، كما يقال: قرأت بحرف نافع، وبحرف أبي وبحرف
ابن مسعود، فهي أكثر من سبعمائة حرف لو عددنا الأئمة الذي نقلت
عنهم القراءات من الصحابة فمن بعدهم".
فحصل (4) أن الذي في أيدينا من القرآن هو ما في مصحف عثمان رضي
الله عنه الذي أجمع المسلمون عليه.
"والذي في أيدينا من القراءات هو ما وافق خط ذلك المصحف من
القراءات التي نزل بها القرآن وهو من الإجماع أيضا. وسقط العمل
بالقراءات
__________
(1) هو المأمون عبد الله بن هارون الرشيد بن محمد، أبو العباس
المهدوي، سابع الخلفاء من بني العباس في العراق، توفي سنة
198هـ "تاريخ بغداد 10/ 183، تاريخ الخلفاء ص121".
(2) هو يعقوب بن إسحاق بن زيد بن عبد الله الحضرمي بالولاء،
أبو محمد البصري، أحد القراء العشرة، كان من أعلم الناس بمذاهب
النحاة في القرآن الكريم ووجوه الاختلاف في عصره، توفي سنة
205هـ "معجم الأدباء 7/ 302، غاية النهاية 2/ 386".
(3) الإبانة ص5-8.
(4) عبارة الإبانة: "فحصل من جميع ما ذكرنا وبينا أن الذي في
أيدينا ... ".
(1/153)
التي تخالف خط المصحف، فكأنها [59 و]
منسوخة بالإجماع على خط المصحف".
"والنسخ للقرآن بالإجماع فيه اختلاف، فلذلك تمادى بعض الناس
على القراءة بما يخالف خط المصحف مما ثبت نقله، وليس ذلك بجيد
ولا صواب؛ لأن فيه مخالفة الجماعة، وفيه أخذ القرآن بأخبار
الآحاد، وذلك غير جائز عند أحد من الناس" (1) .
قلت: مثال هذا ما ثبت في الصحيحين من قراءة عبد الله بن مسعود
وأبي الدرداء: "والليل إذا يغشى والنهار إذا تجلى والذكر
والأنثى" (2) . وقراءة الجماعة على وفق خط المصحف: {وَمَا
خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى} (3) ، وقد أوضحت هذا في أول
ترجمة علقمة بن قيس من التاريخ الكبير.
وأما قول مكي: "إن الكسائي ألحق بالسبعة في أيام المأمون، وكان
السابع يعقوب" ففيه نظر، فإن ابن مجاهد صنف "كتاب السبعة" وهو
متأخر عن زمن المأمون بكثير، فإنه توفي سنة أربع وعشرين
وثلاثمائة، ومات المأمون سنة ثماني عشرة ومائتين، فلعل مصنفا
آخر سبق ابن مجاهد إلى تصنيف قراءات السبعة، وذكر يعقوب دون
الكسائي، إن صح ما أشار إليه مكي.
فإن غيره من الأئمة المصنفين في القراءات الثماني يقولون:
وإنما ألحق يعقوب بهؤلاء السبعة أخيرًا لكثرة روايته وحسن
اختياره ودرايته. [59 ظ]
__________
(1) الإبانة ص9، 10.
(2) البخاري 4/ 318، 6/ 84، مسلم 2/ 206، ورواه الترمذي في
صحيحه 11/ 59
(3) الليل: 1-3.
(1/154)
وأما قوله: "إن نسخ القرآن بالإجماع فيه
اختلاف"، فالمحققون من الأصوليين لا يرضون هذه العبارة، بل
يقولون: الإجماع لا ينسخ به؛ إذ لا نسخ بعد انقطاع الوحي، وما
نسخ بالإجماع، فالإجماع يدل على ناسخ قد سبق في زمن نزول الوحي
من كتاب أو سنة.
ثم قال مكي رحمه الله:
"فإن سأل سائل: ما العلة التي من أجلها كثر الاختلاف عن هؤلاء
الأئمة، وكل واحد منهم قد انفرد بقراءة اختارها مما قرأ به على
أئمته"؟
قال: "فالجواب: أن كل واحد من الأئمة قرأ على جماعات بقراءات
مختلفة فنقل ذلك على ما قرأ، فكانوا في برهة من أعمارهم،
يقرءون الناس بما قرءوا، فمن قرأ عليهم بأي حرف كان لم يردوه
عنه؛ إذ كان ذلك مما قرءوا به على أئمتهم".
"ألا ترى أن نافعا قال: قرأ على سبعين من التابعين، فما اتفق
عليه اثنان أخذته، وما شك فيه واحد تركته. يريد -والله أعلم-
مما خالف المصحف. وكان من قرأ عليه بما اتفق فيه اثنان من
أئمته لم ينكر عليه ذلك".
"وقد روي عنه أنه كان يقرئ الناس بكل ما قرأ به حتى يقال له:
نريد أن نقرأ عليك باختيارك مما رويت".
"وهذا قالون (1) ربيبه وأخص الناس به، وورش (2) أشهر الناس
المتحملين
__________
(1) هو عيسى بن مينا بن وردان بن عيسى، أبو موسى المدني، أحد
القراء المشهورين من أهل المدينة، سماه أستاذه نافع بقالون
لجودة قراءته، كان أصم لا يسمع البوق، فإذا قرئ عليه القرآن
يسمعه ويفهم خطأه ولحنه بالشفة، توفي سنة 220هـ على خلاف "معجم
الأدباء 6/ 103، غاية النهاية 1/ 615، شذرات الذهب 2/ 48".
(2) هو عثمان بن سعيد بن عدي بن غزوان، أبو سعيد المصري،
المعروف بورش، من كبار القراء، توفي سنة 197هـ "معجم الأدباء
5/ 33، غاية النهاية 1/ 502، سراج القارئ ص9".
(1/155)
[60 و] إليه اختلفا في أكثر من ثلاثة آلاف
حرف من قطع وهمز وتخفيف وإدغام وشبهه".
"ولم يوافق أحد من الرواة عن نافع رواية ورش عنه ولا نقلها أحد
عن نافع غير ورش، وإنما ذلك لأن ورشًا قرأ عليه بما تعلم في
بلده فوافق ذلك رواية قرأها نافع على بعض أئمته فتركه على ذلك.
وكذلك ما قرأ عليه به قالون وغيره" (1) .
ثم قال: "فإن سأل سائل: "ما العلة التي من أجلها اشتهر هؤلاء
السبعة بالقراءة دون من هو فوقهم، فنسبت إليهم السبعة الأحرف
مجازًا، وصاروا في وقتنا أشهر من غيرهم ممن هو أعلى درجة منهم
وأجل قدرًا؟ ".
"فالجواب: أن الرواة عن الأئمة من القراءة كانوا في العصر
الثاني والثالث كثيرا في العدد، كثيرًا في الاختلاف. فأراد
الناس في العصر الرابع أن يقتصروا من القراءات التي توافق
المصحف على ما يسهل حفظه وتنضبط القراءة به، فنظروا إلى إمام
مشهور بالثقة والأمانة في النقل وحسن الدين وكمال العلم،
واشتهر أمره وأجمع أهل مصره على عدالته فيما نقل، وثقته فيما
قرأ وروى، وعلمه بما يقرئ به، ولم تخرج قراءته عن خط مصحفهم
المنسوب إليهم، فافردوا [60 ظ] من كل مصر وجه إليه عثمان رضي
الله عنه مصحفا إماما، هذه وقراءته في مصحف ذلك المصر".
"فكان أبو عمرو من أهل البصرة، وحمزة وعاصم من أهل الكوفة
__________
(1) الإبانة ص45، 46.
(1/156)
وسوادها، والكسائي من أهل العراق، وابن
كثير (1) من أهل مكة، وابن عامر من أهل الشام، ونافع من أهل
المدينة، كلهم ممن اشتهرت أمانته وطال عمره في الإقراء، وارتحل
الناس إليه من البلدان، ولم يترك الناس مع هذا نقل ما كان عليه
أئمة هؤلاء من الاختلاف ولا القراءة بذلك".
"وأول من اقتصر على هؤلاء السبعة أبو بكر بن مجاهد، قبل سنة
ثلاثمائة أو في نحوها وتابعه على ذلك من أتى بعده إلى الآن،
ولم تترك القراءة برواية غيرهم واختيار من أتى بعدهم إلى
الآن".
"فهذه قراءة يعقوب الحضرمي غير متروكة، وكذلك قراءة عاصم
الجحدري (2) وقراءة أبي جعفر وشيبة (3) إمامي نافع، وكذلك
اختيار أبي حاتم وأبي عبيد، واختيار المفضل (4) ، واختيارات
لغير هؤلاء الناس على القراءة كذلك في كل الأمصار من المشرق".
"وهؤلاء الذين اختاروا إنما قرءوا للجماعة بروايات، فاختار كل
واحد
__________
(1) هو عبد الله بن كثير الداري، أبو معبد المكي، مولى عمرو بن
علقمة، تابعي، أحد القراء السبعة، عالم بالعربية، لقي من
الصحابة عبد الله بن الزبير وأبا أيوب الأنصاري وأنس بن مالك،
توفي سنة 120هـ "وفيات الأعيان 1/ 314، غاية النهاية 1/ 443،
سراج القارئ ص9.
(2) هو عاصم بن أبي الصباح العجاج الجحدري، أبو المجشر البصري،
توفي سنة 128هـ على خلاف "الطبقات الكبرى 7/ 235، ميزان
الاعتدال 2/ 4، غاية النهاية 1/ 349".
(3) هو شيبة بن نصاح بن سرجس بن يعقوب المخزومي المدني، من
قراء التابعين وثقات رجال الحديث، توفي سنة 130هـ "غاية
النهاية 1/ 329، تهذيب التهذيب 4/ 377".
(4) هو المفضل بن محمد بن يعلى الضبي، أبو محمد الكوفي، مقرئ،
نحوي، من أكابر علماء الكوفة، له تصانيف، توفي سنة 168هـ
"تاريخ بغداد 13/ 121، معجم الأدباء 7/ 171، غاية النهاية 2/
307، لسان الميزان 6/ 81، بغية الوعاة ص396".
(1/157)
مما قرأ وروى قراءة تنسب إليه بلفظ
الاختيار، وقد اختار الطبري وغيره، [61 و] وأكثر اختياراتهم
إنما هو في الحرف إذا اجتمع فيه ثلاثة أشياء:
"قوة وجهه في العربية، وموافقته للمصحف، واجتماع الأمة عليه".
"والعامة عندهم ما اتفق عليه أهل المدينة وأهل الكوفة، فذلك
عندهم حجة قوية توجب الاختيار".
"وربما جعلوا العامة ما اجتمع عليه أهل الحرمين (1) ، وربما
جعلوا الاختيار ما اتفق عليه نافع وعاصم، فقراءة هذين الإمامين
أوثق القراءات وأصحها سندًا وأفصحها في العربية، ويتلوها في
الفصاحة خاصة قراءة أبي عمرو والكسائي رحمهم الله" (2) .
ثم قال: "فإن سأل سائل: لم جعل القراء الذين اختيروا للقراءة
سبعة؟ ألا كانوا أكثر أو أقل؟ ".
"فالجواب: أنهم جعلوا سبعة لعلتين:
"إحداهما: أن عثمان رضي الله عنه كتب سبعة مصاحف ووجه بها إلى
الأمصار، فجعل عدد القراء على عدد المصاحف".
"والثانية: أنه جعل عددهم على عدد الحروف التي نزل بها القرآن،
وهي سبعة على أنه لو جعل عددهم أكثر أو أقل لم يمتنع ذلك؛ إذ
عدد الرواة الموثوق بهم أكثر من أن يحصى".
__________
(1) أهل الحرمين: أهل مكة والمدينة.
(2) الإبانة ص47-50.
(1/158)
"وقد ألف ابن جبير المقرئ (1) -وكان قبل
ابن مجاهد- كتابا في القراءات وسماه "كتاب الخمسة"، ذكر فيه
خمسة من القراء (2) [61 ظ] لا غير، وألف غيره كتابا وسماه
"كتاب الثمانية"، وزاد على هؤلاء السبعة يعقوب الحضرمي، وهذا
باب واسع".
قال: "وإنما الأصل الذي يعتمد عليه في هذا: أن ما صح سنده،
واستقام وجهه في العربية، ووافق لفظه خط المصحف فهو من السبعة
المنصوص عليها، ولو رواه سبعون ألفا، مفترقين أو مجتمعين، فهذا
هو الأصل الذي بُني عليه في ثبوت القراءات عن سبعة أو عن سبعة
آلاف، فاعرفه وابن عليه" (3) .
قال أبو علي الأهوازي:
"وإنما كانوا من هذه الأمصار الخمسة دون غيرها لأجل أن عثمان
رضي الله عنه جعل لكل مصر من هذه الأمصار مصحفا، وأمر باتباعه،
ووجه بمصحف إلى اليمن، وبمصحف إلى البحرين، فلم نسمع لهما خبرا
ولا رأينا لهما أثرًا".
قال: "وهؤلاء السبعة لزموا القيام بمصحفهم، وانتصبوا لقراءته،
وتجردوا لروايته، ولم يشتهروا بغيره، واتبعوا ولم يبتدعوا.
قال: "وقد كان في وقتهم جماعة في مصر كل واحد منهم من القرأة
__________
(1) هو أحمد بن جبير بن محمد بن جعفر بن أحمد، أبو جعفر "وقيل
أبو بكر" الكوفي، نزيل أنطاكية، من أئمة القراء، توفي سنة
258هـ "غاية النهاية 1/ 42".
(2) انظر: النشر 1/ 34.
(3) الإبانة ص51.
(1/159)
ولم يجمعوا عليهم لأجل مخالفتهم للمصحف في
يسير من الحروف".
قال: "ولسنا نقول: إن ما قرأه هؤلاء السبعة يشتمل على جميع ما
أنزله الله عز وجل [62 و] من الأحرف السبعة التي أباح رسول
الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يقرأ بها، ولا معنى
ما ورد عنهم معنى ذلك".
قال: "وقد ظن بعض من لا معرفة له بالآثار أنه إذا أتقن عن
هؤلاء السبعة قراءتهم أنه قد قرأ السبعة الأحرف التي جاء بها
جبريل إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ". قال:
"وهو خطأ بين وغلط ظاهر عند جميع أهل البصر بالتأويل".
وقال شيخنا أبو الحسن علي بن محمد رحمه الله:
"لما كان العصر الرابع سنة ثلاثمائة وما قاربها، كان أبو بكر
بن مجاهد رحمه الله، قد انتهت إليه الرياسة في علم القراءة،
وقد تقدم في ذلك على أهل ذلك العصر، اختار من القراءات ما وافق
خط المصحف ومن القراء بها من اشتهرت قراءته، وفاقت معرفته، وقد
تقدم أهل زمانه في الدين والأمانة والمعرفة والصيانة، واختاره
أهل عصره في هذا الشأن، وأطبقوا على قراءته، وقصد من سائر
الأقطار، وطالت ممارسته للقراءة والإقراء، وخص في ذلك بطول
البقاء، ورأى أن يكونوا سبعة تأسيا بعدة المصاحف الأئمة، وبقول
النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إن هذا القرآن [62
ظ] أُنزل على سبعة أحرف من سبعة أبواب" (1) ، فاختار هؤلاء
القراء السبعة أئمة الأمصار، فكان أبو بكر بن مجاهد أول من
اقتصر على هؤلاء السبعة، وصنف كتابه في قراءاتهم، واتبعه الناس
على ذلك، ولم يسبقه أحد
__________
(1) انظر ص107، 137.
(1/160)
إلى تصنيف قراءة هؤلاء السبعة" (1) .
"وقد أضاف قوم بعد ابن مجاهد إلى هؤلاء السبعة يعقوب الحضرمي،
وكان فاعل ذلك نسب ابن مجاهد إلى التقصير في اقتصاره على
السبعة، ولم يكن عالمًا بغرض ابن مجاهد، وقراءة يعقوب خارجة عن
غرضه لنزول الإسناد؛ لأنه قرأ على سلام بن سليمان (2) وقرأ
سليمان على عاصم، ولما فيها (3) من الخروج عن قراءة العامة،
وكذلك من صنف العشرة" (4) .
قلت: ووقع في "كتاب البيان" لأبي طاهر بن أبي هاشم كلام لأبي
جعفر الطبري، ظن منه أنه طعن على قراءة ابن عامر، وإنما حاصله
أنه استبعد قراءته على عثمان بن عفان رضي الله عنه على ما جاء
في بعض الروايات عنه على ما نقلناه في "الكتاب الكبير من إبراز
المعاني"، وذلك غير ضائر.
فهب أنه لم يصح أنه قرأ على عثمان، فقد قرأ على غيره من
الصحابة، وكان يقول: هذه حروف أهل الشام التي يقرءونها.
قال أبو جعفر: [63 و] .
"ولعله أراد أنه أخذ ذلك عن جماعة من قرائها، فقد كان أدرك
منهم من الصحابة وقدماء السلف خلقا كثيرا".
ثم قال أبو طاهر:
"وأحسن الوجوه عندي أن يقال: إن قراءة ابن عامر قراءة اتفق
عليها
__________
(1) جمال القراء ص111و، ظ.
(2) هو سلام بن سليمان الطويل، أبو المنذر المزني مولاهم
البصري ثم الكوفي، ثقة، مقرئ كبير، توفي سنة 171هـ "غاية
النهاية 1/ 309".
(3) أي: في قراءة يعقوب.
(4) جمال القراء ص113و.
(1/161)
أهل الشام وإنها مسندة إلى أحد من أصحاب
رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ".
قال: "ولم يتفقوا إن شاء الله عليها، إلا ولها مادة صحيحة من
بعض الصحابة تتصل برسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ، وإن كنا لا نعلمها كعلمنا بمادة قراءة أهل الحرمين
(1) والعراقين" (2) .
قال: "ولولا أن أبا بكر شيخنا جعله سابعا لأئمة القراءة،
فاقتدينا بفعله؛ لأنه لم يزل موفقا، فاتبعنا أثره، واهتدينا
بهديه لما كان إسناد قراءته مرضيا، لكان (3) أبو محمد سليمان
بن مهران الأعمش بذلك أولى منه؛ إذ كانت قراءته منقولة عن
الأئمة المرضيين، وموافقة للمصحف المأثور باتباع ما فيه، ولكنا
لا نعدل عما مضى عليه أئمتنا، ولا نتجاوز ما رسمه أولونا؛ إذ
كان ذلك بنا أولى، وكنا إلى التمسك بفعلهم أحرى".
قلت: وكان غرض ابن مجاهد أن يأتي بسبعة من القراء من الأمصار
التي نفدت إليها المصاحف، ولم يمكنه ذلك في البحرين [63 ظ]
واليمن لإعواز أئمة القراءة منهما، فأخذ بدلهما من الكوفة
لكثرة القراء بها، وإذا كان هذا غرضه فلم يكن له بد من ذكر
إمام من أهل الشام، ولم يكن فيهم من انتصب لذلك من التابعين
مثل ابن عامر، فذكره.
وقال في كتابه:
"وعلى قراءة ابن عامر أهل الشام وبلاد الجزيرة".
ثم قال: "فهؤلاء السبعة من أهل الحجاز والعراق والشام خلفوا في
__________
(1) الحرمين: مكة والمدينة.
(2) العراقين: مثنى العراق، اسم أطلق على الكوفة والبصرة سابقا
"انظر: معجم البلدان 6/ 133".
(3) "لكان": جواب "لولا".
(1/162)
القراءة التابعين، وأجمع على قراءتهم من
أهل كل مصر من هذه الأمصار وغيرها من البلدان التي تقرب من هذه
الأمصار، إلا أن يستحسن رجل لنفسه حرفا شاذا فيقرأ به من
الحروف التي رويت عن بعض الأوائل منفردة، فذلك غير داخل في
قراءة العوام".
قال: "ولا ينبغي لذي لب أن يتجاوز ما مضت عليه الأئمة والسلف
بوجه يراه جائزًا في العربية، أو مما قرأ به قارئ غير مجمع
عليه" (1) .
وقد ذكر الإمام أبو عبيد في أول كتابه في القراءات ما يعرفك
كيف كان هذا الشأن من أول الإسلام إلى آخره ما ذكره.
فذكر القراء من الصحابة على ما سبق ذكره في آخر الباب الأول
(2) ، ثم قال بعد ذكر التابعين:
"فهؤلاء الذين سمينا من الصحابة والتابعين [64 و] هم الذين
يحكى عنهم عظم القراءة، وإن كان الغالب عليهم الفقه والحديث".
قال: "ثم قام من بعدهم بالقرآن قوم، ليست لهم أسنان من ذكرنا
ولا قدمهم، غير أنهم تجردوا في القراءة، فاشتدت بها عنايتهم،
ولها طلبهم، حتى صاروا بذلك أئمة يأخذها الناس عنهم ويقتدون
بهم فيها، وهم خمسة عشر رجلا من هذه الأمصار، في كل مصر منهم
ثلاثة رجال:
"فكان من قراء المدينة: أبو جعفر ثم شيبة بن نصاح ثم نافع
وإليه صارت قراءة أهل المدينة".
__________
(1) كتاب السبعة ص12و.
(2) انظر ص40-42.
(1/163)
"وكان من قراء مكة: عبد الله بن كثير وحميد
بن قيس الأعرج (1) ومحمد بن محيصن (2) ، وأقدمهم ابن كثير،
وإليه صارت قراءة أهل مكة أو أكثرهم".
"وكان من قراء الكوفة: يحيى بن وثاب (3) وعاصم والأعمش، ثم
تلاهم حمزة رابعا، وهو الذي صار عظم أهل الكوفة إلى قراءته من
غير أن يطبق عليه جماعتهم. وأما الكسائي فإنه يتخير القراءات،
فأخذ من قراءة حمزة بعضا وترك بعضا".
"وكان من قراء البصرة: عبد الله بن أبي إسحاق (4) ، وأبو عمرو
بن العلاء وعيسى بن عمر (5) . والذي صار إليه أهل البصرة في
القراءة، واتخذوه إماما أبو عمرو. وقد كان لهم [64 ظ] رابعا،
وهو عاصم الجحدري، غير أنه لم يرو عنه في الكثرة ما روي عن
هؤلاء الثلاثة".
__________
(1) هو حميد بن قيس الأعرج الأسدي بالولاء، أبو صفوان المكي،
توفي سنة 130هـ "غاية النهاية 1/ 265، تهذيب التهذيب 3/ 46".
(2) هو محمد بن عبد الرحمن بن محيصن السهمي بالولاء المكي،
المقرئ، كان نحويا وعالما بالعربية، له اختيار في القراءة،
توفي سنة 123هـ "غاية النهاية 2/ 167".
(3) هو يحيى بن وثاب الأسدي بالولاء الكوفي، تابعي، مقرئ، كان
لا يقرأ "بسم الله الرحمن الرحيم" في عرض ولا في غيره، توفي
سنة 103هـ "غاية النهاية 2/ 380، تهذيب التهذيب 11/ 294".
(4) هو عبد الله بن أبي إسحاق الحضرمي البصري، جد يعقوب
الحضرمي أحد القراء العشرة، توفي سنة 129هـ "غاية النهاية 1/
401".
(5) هو عيسى بن عمر الثقفي بالولاء، أبو عمر البصري، عالم
بالنحو والعربية والقراءة، له اختيار في القراءة على مذاهب
العربية يفارق قراءة العامة ويستنكره الناس، توفي سنة 149هـ
"معجم الأدباء 6/ 100، وفيات الأعيان 1/ 497، غاية النهاية 1/
613، بغية الوعاة ص370".
(1/164)
"وكان من قراء الشام: عبد الله بن عامر
ويحيى بن الحارث الذماري (1) وثالث، قد سمي لي بالشام ونسيت
اسمه، فهؤلاء قراء الأمصار الذين كانوا من التابعين".
قلت: الذي نسيه أبو عبيد، قيل: هو خليد بن سعد (2) صاحب أبي
الدرداء، وعندي أنه عطية بن قيس الكلابي (3) أو إسماعيل بن
عبيد الله بن أبي المهاجر (4) . فإن كل واحد منهما كان قارئا
للجند، وكان عطية بن قيس تصلح المصاحف على قراءته بدمشق على ما
نقلناه في ترجمتهما في التاريخ.
ثم إن القراء بعد هؤلاء كثروا، وتفرقوا في البلاد، وانتشروا،
وخلفهم أمم بعد أمم، عرفت طبقاتهم واختلفت صفاتهم، فمنهم
المحكم للتلاوة المعروف بالرواية والدراية، ومنهم المقتصر على
وصف من هذه الأوصاف، وكثر بسبب ذلك بينهم الاختلاف، وقل الضبط،
واتسع الحرق، والتبس الباطل بالحق، فميز جهابذة العلماء
بتصانيفهم،
__________
(1) هو يحيى بن الحارث بن عمرو يحيى، أبو عمرو الشامي، شيخ
القراءة بدمشق بعد ابن عامر أحد السبعة، يعد من التابعين، توفي
سنة 145هـ "غاية النهاية 2/ 367، تهذيب التهذيب 11/ 193".
(2) هو خليد بن سعد السلاماني، انظر ترجمته في: ميزان الاعتدال
1/ 310.
(3) هو عطية بن قيس الكلابي الحمصي، أبو يحيى الدمشقي، تابعي،
ولد سنة سبع في حياة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
قارئ دمشق بعد ابن عامر، توفي سنة 121هـ "غاية النهاية 1/ 513،
تهذيب التهذيب 7/ 228".
(4) هو إسماعيل بن عبيد الله بن أبي المهاجر "أو إسماعيل بن
عبد الله بن المهاجر كما ورد في: النشر 1/ 9"، توفي سنة 131هـ
"تهذيب التهذيب 1/ 317".
(1/165)
وحرروه وضبطوه في تواليفهم على ما سيأتي
شرحه في الباب الخامس إن شاء الله تعالى [65 و] .
وقد قال القاضي أبو بكر الأشعري رحمه الله:
"جميع ما قرأ به قراء الأمصار مما اشتهر عنهم واستفاض نقله ولم
يدخل في حكم الشذوذ، ولم يقع بين القراء تناكر له، ولا تخطئه
لقارئه، بل رواه سائغا جائزًا من همز وإدغام ومد وتشديد وحذف
وإمالة، أو ترك كل ذلك، أو شيء منه، أو تقديم وتأخير، فإنه كله
منزل من عند الله تعالى ومما وقف الرسول صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على صحته وخير بينه وبين غيره وصوب جميع
القراءة به. ولو سوغنا لبعض القراء إمالة ما لم يمله الرسول
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والصحابة أو غير ذلك،
لسوغنا لهم مخالفة جميع قراءة الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ".
وأطال الكلام في تقرير ذلك، وجوز أن يكون الرسول صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقرئ واحدًا بعض القرآن بحرف،
وبعضه بحرف آخر على قدر ما يراه أيسر على القارئ.
فظهر لي من هذا: أن اختلاف القراء في الشيء الواحد مع اختلاف
المواضع من هذا على قدر ما رووا، وأن ذلك المتلقن له من النبي
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على ذلك الوجه أقرأ غيره
كما سمعه، ثم من بعده كذلك إلى أن اتصل بالسبعة، ومثاله قراءة
نافع "يُحْزِنُ" بضم الياء وكسر الزاي في جميع [65 ظ] القرآن
(1) ، إلا حرف
__________
(1) يعني "ولا يحزنك" في آل عمران: 176، و"ليحزنني" في يوسف:
13، و"ليحزن" في المجادلة: 10، وقراءة الباقين بفتح الياء وضم
الزاي في الكل "انظر: التيسير ص91-92، والنشر 2/ 244".
(1/166)
الأنبياء (1) ، وقراءة ابن عامر "إبراهام"
بالألف في بعض السور (2) دون بعض، ونحو ذلك مما يقال فيه: إنه
جمع بين اللغتين، والله أعلم.
__________
(1) هو {لا يَحْزُنُهُم} في سورة الأنبياء: 103، قرأه بفتح
الياء وضم الزاي كالباقين من السبعة "انظر: التيسير ص92".
(2) انظر: التيسير ص76، 77.
(1/167)
|