المكتفى في الوقف والابتدا

تعليم الوقف التمام باب في الحض على تعليم التمام
(1) من ذلك ما حدثناه أبو الفتح فارس بن أحمد بن موسى المقرئ، قال: حدثنا أحمد بن محمد وعبيد الله بن محمد قالا: حدثنا علي بن الحسين القاضي قال: حدثنا يوسف بن موسى القطان قال: حدثنا عفان بن مسلم قال: حدثنا حماد بن سلمة وسمعته منه قال: أخبرنا علي بن زيد عن عبد الرحمن بن أبي بكرة عن أبيه أن جبريل عليه السلام، أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ((اقرأ القرآن على حرف. فقال ميكائيل استزده، حتى بلغ سبعة أحرف، كل حرف منها شاف كاف ما لم يختم آية عذاب بآية رحمة أو آية رحمة بآية عذاب)) .
(2) حدثنا خلف بن أحمد القاضي قال: حدثنا زياد بن عبد الرحمن قال: حدثنا محمد بن يحيى بن حميد قال: حدثنا محمد بن يحيى بن سلام عن أبيه عن حماد بن سلمة عن علي بن زيد عن عبد الرحمن بن أبي بكرة عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله إلا أنه قال: ((ما لم يختم آية رحمة بآية عذاب أو آية عذاب بمغفرة)) .
(3) حدثنا فارس بن أحمد المقرئ قال: حدثنا أحمد بن محمد وعبيد الله بن محمد قالا: حدثنا علي بن الحسين قال: حدثنا يوسف بن موسى قال: حدثنا هشام بن عبد الملك الطيالسي قال: حدثنا همام قال: حدثنا قتادة عن يحيى بن يعمر عن سليمان بن صرد الخزاعي عن أبي ابن كعب قال: أتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إن الملك كان معي فقال: ((اقرأ القرآن، فعد حتى بلغ سبعة أحرف. فقال: ليس منها إلا شافٍ كافٍ ما لم يختم آية

(1/2)


عذاب برحمة أو يختم رحمة بعذاب)) .
قال أبو عمرو: فهذا تعليم التمام من رسول الله صلى الله عليه وسلم عن جبريل عليه السلام، إذ ظاهره دال على أنه ينبغي أن يقطع على الآية التي فيها ذكر النار والعقاب، ويفصل مما بعدها إن كان بعدها ذكر الجنة والثواب، وكذلك يلزم أن يقطع على الآية التي فيها ذكر الجنة والثواب، ويفصل مما بعدها أيضاً إن كان بعدها ذكر النار والعقاب وذلك نحو قوله: {أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون} هنا الوقف، ولا يجوز أن يوصل ذلك بقوله: {والذين آمنوا وعملوا الصالحات} ، ويقطع على ذلك، ويختم به الآية.
ومثله: {وكذلك حقت كلمة ربك على الذين كفروا أنهم أصحاب النار} هنا التمام، ولا يجوز أن يوصل [ذلك] بقوله: {الذي يحملون العرش ومن حوله} ، ويقطع عليه، ويجعل خاتماً للآية. وكذلك: {يدخل من يشاء في رحمته} هنا الوقف. ولا يجوز أن يوصل ذلك بقوله: {والظالمين} ، ويقطع على ذلك. وكذلك ما أشبهه.
(4) ومما يبين ذلك ويوضحه ما روى تميم الطائي عن عدي بن حاتم قال: جاء رجلان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فتشهد أحدهما فقال: من يطع الله ورسوله فقد رشد ومن يعصهما: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((قم أو اذهب، بئس الخطيب [أنت] )) .
(5) قال: حدثنا عبد العزيز بن جعفر بن محمد الفارسي عن الإجازة قال:

(1/3)


حدثنا محمد بن عبد الرزاق قال: حدثنا أبو داود سليمان بن الأشعث قال: حدثنا مسدد قال: حدثنا يحيى عن سفيان بن سعيد قال: حدثنا عبد العزيز بن رفيع عن تميم الطائي عن عدي بن حاتم، فذكره.
قال أبو عمرو: ففي هذا الخبر أذانٌ بكراهية القطع على المستبشع من اللفظ، المتعلق بما يبين حقيقته، ويدل على المراد منه، لأنه، عليه السلام، إنما أقام الخطيب لما قطع على ما يقبح إذ جمع بقطعه بين حال من أطاع ومن عصى، ولم يفصل بين ذلك، وإنما كان ينبغي له أن يقطع على قوله: ((فقد رشد)) ثم يستأنف ما بعد ذلك، أو يصل كلامه إلى آخره، فيقول: ((ومن يعصهما فقد غوى)) . وإذا كان مثل هذا مكروهاً مستبشعاً في الكلام الجاري بين المخلوقين فهو في كتاب الله، عز وجل، الذي هو كلام رب العالمين، أشد كراهة واستبشاعاً، وأحق وأولى أن يتجنب.
وقد جاء عن عبد الله بن عمر أنه قال: لقد عشنا برهة من دهرنا وإن أحدنا ليؤتي الإيمان قبل القرآن، وتنزل السورة على محمد صلى الله عليه وسلم، فيتعلم حلالها وحرامها وأمرها وزجرها، وما ينبغي أن يقف عنده منها.
ففي قول ابن عمر دليل على أن تعليم ذلك توقيفٌ من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنه إجماع من الصحابة، رضوان الله عليهم.
(6) ومما يؤكد ذلك ويحققه ما حدثناه شيخنا أبو الفتح قال: حدثنا بشر بن عبد الله الحافي البغدادي قال: حدثناه أحمد بن موسى قال: حدثنا علي بن عبد الرحمن الرازي قال: حدثنا أبو حاتم محمد بن إدريس الحنظلي قال: حدثنا صالح

(1/4)


الهاشمي قال: حدثنا أبو المليح، يعني الرقي، واسمه الحسن بن عمر عن ميمون بن مهران قال: إني لأقشعر من قراءة أقوام يرى أحدهم حتماً عليه أن لا يقصر عن العشر. إنما كانت القراء تقرأ القصص إن طالت أو قصرت، يقرأ أحدهم اليوم {وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون} : ويقوم في الركعة الثانية فيقرأ: {ألا إنهم هم المفسدون} قال أبو عمرو: فهذا يبين أن الصحابة رضوان الله عليهم كانوا يتجنبون القطع على الكلام الذي يتصل بعضه ببعض، ويتعلق آخره بأوله، لأن ميمون بن مهران إنما حكى ذلك عنهم، إذ هو من كبار التابعين. ولقد لقي جماعة منهم، فدل جميع ما ذكرناه على وجوب استعمال القطع على التمام، وتجنب القطع على القبيح، وحض على تعليم ذلك وعلى معرفته.
فأما القطع على الكافي الذي هو دون التمام فمستعمل جائز. وقد وردت السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، به، وثبت التوقيف عنه باستعماله.
(7) كما حدثنا محمد بن خليفة الإمام قال: حدثنا محمد بن الحسين قال: حدثنا الفريابي قال: حدثنا محمد بن الحسين البلخي قال: حدثنا عبد الله بن المبارك قال: حدثنا سفيان عن سليمان، يعني الأعمش، عن إبراهيم عن عبيدة عن ابن مسعود قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم، ((اقرأ علي)) فقلت: له: أأقرأ عليك وعليك أنزل فقال: ((إني أحب أن أسمعه من غيري)) . قال فافتتحت سورة النساء فلما بلغت: {فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيداً} قال: فرأيته وعيناه تذرفان دموعاً. فقال لي: ((حسبك)) .

(1/5)


ألا ترى أن القطع على قوله ((شهيداً)) كاف وليس بتام، لأن المعنى: فكيف يكون حالهم إذا كان هذا {يومئذ يود الذين كفروا} فما قبله متعلق بما بعده، والتمام: {ولا يكتمون الله حديثاً} لأنه انقضاء القصة، وهو في الآية الثانية. وقد أمر النبي عبد الله أن يقطع دونه مع تقارب ما بينهما، فدل ذلك دلالة واضحة على جواز القطع على الكافي ووجوب استعماله، وبالله التوفيق.

(1/6)