النشر في القراءات العشر

ـ[النشر في القراءات العشر]ـ
المؤلف: شمس الدين أبو الخير ابن الجزري، محمد بن محمد بن يوسف (المتوفى: 833 هـ)
المحقق: علي محمد الضباع (المتوفى 1380 هـ)
الناشر: المطبعة التجارية الكبرى [تصوير دار الكتاب العلمية]
عدد الأجزاء: 2
[ترقيم الكتاب موافق للمطبوع]

(/)


[مقدمة]
- ب -
بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم
الْحَمد لله الَّذِي يسر أَسبَاب السَّعَادَة لمن أَرَادَ الْخَيْر لَهُ، وخف باللطف من شَاءَ من عباده ولقصد الْخَيْر والإرشاد أهَّله، فاهتدى لمناهج الْفَلاح، وَرفعت لَهُ ألوية الْقبُول والنجاح، وَالصَّلَاة وَالسَّلَام على سيدنَا مُحَمَّد سَنَد كَافَّة الْفَضَائِل، وعَلى آله وَأَصْحَابه الَّذين نالوا بِصُحْبَتِهِ مَا سعدت بِهِ الْأَوَاخِر والأوائل.
(أما بعد) فَإِن كتاب ((النشر فِي الْقرَاءَات الْعشْر)) سفر جلّ قدره، وفاح بَين الْأَنَام عطره، وَعز على الزَّمَان أَن يَأْتِي بِمثلِهِ. وعجزت الأقلام عَن حصر فَضله، فَهُوَ كتاب حقيق أَن تشد إِلَيْهِ الرّحال، لما حواه من صَحِيح النقول وفصيح الْأَقْوَال، جمع فِيهِ مُؤَلفه رَحمَه الله تَعَالَى من الرِّوَايَات والطرق مَا لَا يعتوره وَهن، وَلَا يتَطَرَّق إِلَيْهِ شكّ وَلَا طعن، على تَوَاتر مُحكم، وَسَنَد مُتَّصِل معلم، فَهُوَ الْبَقِيَّة الْمُغنيَة فِي الْقرَاءَات، بِمَا حواه من مُحَرر طرق الرِّوَايَات. وَهُوَ الْبُسْتَان الْجَامِع وَالرَّوْضَة الزاهية، والإرشاد النافع والتذكرة الواقية.
هَذَا إِلَى مَا انطوى فِي ثناياه من عُلُوم الْأَدَاء، الْجَارِيَة فِي فقه اللُّغَة الْعَرَبيَّة مجْرى الأساس من الْبناء، فَمن علم مخارج الْحُرُوف وصفاتها، إِلَى علم الْوُقُوف وأحكامها، إِلَى بحوث فِي الإدغامين، والهمزات واليائين، وَالْفَتْح والإمالة والرسم، وفني الِابْتِدَاء والختم، إِلَى غير ذَلِك من:
معانٍ يجتليها كل ذِي بصر ... وروضة يجتذبها كل ذِي أدب
فَهُوَ سفر يحْتَاج إِلَيْهِ كل نَاظر فِيهِ: من قَارِئ وأديب ومؤرخ وفقيه.

(المقدمة/2)


- ج -
وَلما كَانَ هَذَا الْكتاب مجمع الطّرق المتواترة عَن رُوَاة الْقرَاءَات الْعشْر: كَانَ حَقًا على الْمُسلمين عُمُوما وجماعات حفاظ الْقُرْآن خُصُوصا من أهل هَذَا الْعَصْر. أَن يبادروا إِلَى حفظ هَذِه الْبَقِيَّة الْبَاقِيَة. ويسعوا إِلَى اقتناء هَذِه الدرة الصافية.
وَلما عرف الشهم الْهمام الأمجد (الْحَاج مصطفى مُحَمَّد) صَاحب المكتبة التجارية الْكُبْرَى بِالْقَاهِرَةِ المعزية/ مَا لهَذَا السّفر من عزة وجلال. وَأَن سَنَده لَا زَالَ على اتِّصَال، بَادر إِلَى طبعه، رَجَاء تَعْمِيم نَفعه. فجزاه الله عَن الْقُرْآن وَأَهله خيرا آمين.

(المقدمة/3)


- د -
نبذة يسيرَة للتنويه بمؤلف هَذَا الْكتاب
لَئِن كَانَ الْكتاب كَمَا قيل يقْرَأ من عنوانه وَدَلَائِل تباشيره تبدو من جداول بَيَانه: إِن فِي كتاب النشر فِي الْقرَاءَات الْعشْر لأصدق التباشير وأوضح الْأَدِلَّة على نباهة مُؤَلفه وعلو شَأْنه وسمو مرتبته فِي هَذَا الْفَنّ الْجَلِيل حَتَّى لقب بِحَق إِمَام المقرئين وخاتمة الْحفاظ المحقيين. فَهُوَ الإِمَام الْحجَّة الثبت الْمُحَقق المدقق شيخ الْإِسْلَام سَنَد مقرئي الْأَنَام: أَبُو الْخَيْر مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن عَليّ بن يُوسُف الجرزي.
ولد رَحمَه الله بِدِمَشْق الشَّام فِي لَيْلَة السبت الْخَامِس وَالْعِشْرين من شهر رَمَضَان سنة إِحْدَى وَخمسين وَسَبْعمائة هجرية. وَنَشَأ بهَا وَأتم حفظ الْقُرْآن الْكَرِيم فِي الرَّابِعَة عشرَة من عمره. ثمَّ أَخذ الْقرَاءَات افراداً على الشَّيْخ أبي مُحَمَّد عبد الْوَهَّاب ابْن السلار. وَالشَّيْخ أَحْمد بن إِبْرَاهِيم الطَّحَّان. وَالشَّيْخ أَحْمد بن رَجَب. ثمَّ جمع للسبعة على الشَّيْخ إِبْرَاهِيم الْحَمَوِيّ. ثمَّ جمع الْقرَاءَات بمضمن كتب عَليّ الشَّيْخ أبي الْمَعَالِي مُحَمَّد بن أَحْمد بن اللبان. ثمَّ فِي سنة 768 هـ حج وَقَرَأَ على إِمَام الْمَدِينَة الشَّرِيفَة وخطيبها أبي عبد الله مُحَمَّد بن صَالح الْخَطِيب بمضمن التَّيْسِير وَالْكَافِي.
ثمَّ رَحل فِي سنة 769 إِلَى الديار المصرية. فَدخل الْقَاهِرَة المعزية وَجمع الْقرَاءَات للإثني عشر على الشَّيْخ أبي بكر عبد الله بن الجندي. وللسبعة بمضمن العنوان والتيسير والشاطبية على أبي عبد الله مُحَمَّد بن الصَّائِغ. وَأبي مُحَمَّد عبد الرَّحْمَن بن الْبَغْدَادِيّ. وَلما وصل إِلَى قَوْله تَعَالَى (إِن الله يَأْمر بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَان) توفى ابْن الجندي. وَورد عَنهُ رَحمَه الله تَعَالَى أَنه استجازه فَأَجَازَهُ وَأشْهد عَلَيْهِ قبل وَفَاته. وَلما أكمل على الشَّيْخَيْنِ الْمَذْكُورين رَجَعَ إِلَى دمشق. ثمَّ رَحل ثَانِيَة إِلَى مصر وَجمع ثَانِيًا على ابْن الصَّائِغ للعشرة بمضمن الْكتب الثَّلَاثَة الْمَذْكُورَة والمستنير والتذكرة والإرشادين والتجريد. ثمَّ على ابْن الْبَغْدَادِيّ للأربعة عشر مَا عدا

(المقدمة/4)


- هـ -
اليزيدي ثمَّ عَاد إِلَى دمشق فَجمع بهَا الْقرَاءَات السَّبع فِي خَتمه على القَاضِي أبي يُوسُف أَحْمد بن الْحُسَيْن الكفري الْحَنَفِيّ. ثمَّ رَحل ثَالِثَة إِلَى الديار المصرية. وَقَرَأَ بمضمن الإعلان وَغَيره على الشَّيْخ عبد الْوَهَّاب الْقَرَوِي. وَسمع كثيرا من كتب الْقرَاءَات وأجيز بهَا.
وَقَرَأَ الحَدِيث وَالْفِقْه وَالْأُصُول والمعاني وَالْبَيَان على كثير من شُيُوخ مصر مِنْهُم الشَّيْخ ضِيَاء الدَّين سعد الله الْقزْوِينِي. وَأَجَازَهُ بالإفتاء شيخ الْإِسْلَام الْمُقْرِئ الْمُحدث المؤرخ أَبُو الْفِدَاء إِسْمَاعِيل بن كثير قبيل وَفَاته سنة 774 هـ وَكَذَلِكَ أذن لَهُ الشَّيْخ ضِيَاء الدَّين سنة 779 هـ وَكَذَلِكَ شيخ الْإِسْلَام البُلْقِينِيّ سنة 785 هـ.
وَجلسَ للإقراء تَحت قبَّة النسْر بالجامع الْأمَوِي سِنِين.
وَأخذ الْقرَاءَات عَنهُ كَثِيرُونَ. فَمن كمل عَلَيْهِ الْقرَاءَات الْعشْر بِالشَّام ومصر ابْنه أَبُو بكر أَحْمد. وَالشَّيْخ مَحْمُود بن الْحُسَيْن بن سُلَيْمَان الشِّيرَازِيّ. وَالشَّيْخ أَبُو بكر بن مصبح الْحَمَوِيّ. وَالشَّيْخ نجيب الدَّين عبد الله بن قطب بن الْحسن الْبَيْهَقِيّ. وَالشَّيْخ أَحْمد بن مَحْمُود بن أَحْمد الْحِجَازِي الضَّرِير. والمحب مُحَمَّد بن أَحْمد بن الهائم. وَالشَّيْخ الْخَطِيب مُؤمن بن عَليّ بن مُحَمَّد الرُّومِي. وَالشَّيْخ يُوسُف بن أَحْمد بن يُوسُف الحبشي. وَالشَّيْخ عَليّ بن إِبْرَاهِيم بن أَحْمد الصَّالِحِي. وَالشَّيْخ عَليّ بن حُسَيْن بن عَليّ اليزدي. وَالشَّيْخ مُوسَى الْكرْدِي. وَالشَّيْخ عَليّ بن مُحَمَّد بن عَليّ نَفِيس. وَالشَّيْخ أَحْمد بن عَليّ بن إِبْرَاهِيم الرماني.
وَولي قَضَاء الشَّام سنة 793 هـ. ثمَّ دخل الرّوم لما ناله بالديار المصرية من أَخذ مَاله فَنزل مَدِينَة بروسة دَار السُّلْطَان الْعَادِل بايزيد العثماني سنة 798 هـ فأكمل عَلَيْهِ الْقرَاءَات الْعشْر بهَا كَثِيرُونَ: مِنْهُم الشَّيْخ أَحْمد بن رَجَب. وَالشَّيْخ سُلَيْمَان الرُّومِي. وَالشَّيْخ عوض عبد الله والفاضل عَليّ باشا، وَالْإِمَام صفر شاه، والولدان الصالحان مُحَمَّد ومحمود أَبنَاء الشَّيْخ الصَّالح الزَّاهِد فَخر الدَّين الياس بن عبد الله، وَالشَّيْخ أَبُو سعيد بن بشلمش بن منتشا شيخ مَدِينَة العلايا وَغَيرهم.

(المقدمة/5)


- و -
ثمَّ لما كَانَت فتْنَة تيمورلنك سنة 855 هـ الَّتِي انْتَهَت بِمَوْت السُّلْطَان بايزيد احتشد تيمورلنك المترجم لَهُ مَعَه وَحمله إِلَى مَا وَرَاء النَّهر وأنزله بِمَدِينَة كش فأقرأ بهَا الْقرَاءَات وبسمرقند أَيْضا. وَمِمَّنْ أكمل عَلَيْهِ الْقرَاءَات الْعشْر بِمَدِينَة كش الشَّيْخ عبد الْقَادِر ابْن طلة الرُّومِي. والحافظ بايزيد الْكشِّي. والحافظ مَحْمُود بن الْمقري شيخ الْقرَاءَات بهَا.
ثمَّ لما توفى تيمورلنك سنة 8.7 هـ خرج مِمَّا وَرَاء النَّهر فوصل خُرَاسَان وأقرأ بِمَدِينَة هراة جمَاعَة للعشرة أكمل بهَا جمال مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن مُحَمَّد الشهير بِابْن افتخار الْهَرَوِيّ.
ثمَّ قفل رَاجعا إِلَى مَدِينَة يزدْ فأكمل عَلَيْهِ الْعشْر جمَاعَة مِنْهُم الْمُقْرِئ الْفَاضِل شمس الدَّين بن مُحَمَّد الدّباغ الْبَغْدَادِيّ. ثمَّ دخل أَصْبَهَان فَقَرَأَ عَلَيْهِ جمَاعَة أَيْضا. ثمَّ وصل إِلَى شيراز فِي رَمَضَان سنة 8.8 هـ فأمسكه بهَا سلطانها بير مُحَمَّد بن صَاحبهَا أَمِير عمر فَقَرَأَ عَلَيْهِ بهَا جمَاعَة كَثِيرُونَ للعشرة مِنْهُم السَّيِّد مُحَمَّد بن حيدر المسبحي. وَإِمَام الدَّين عبد الرَّحِيم الْأَصْبَهَانِيّ. وَنجم الدَّين الْخلال. وَأَبُو بكر الجنحي. ثمَّ ألزمهُ صَاحبهَا بير مُحَمَّد بِالْقضَاءِ بهَا وبممالكها وَمَا أضيف إِلَيْهَا كرها فَبَقيَ فِيهَا مُدَّة وتغيرت عَلَيْهِ الْمُلُوك فَلم تطب لَهُ الْإِقَامَة بهَا فَخرج مِنْهَا مُتَوَجها إِلَى الْبَصْرَة وَكَانَ قد رَحل إِلَيْهِ الْمُقْرِئ الْفَاضِل المبرز أَبُو الْحسن طَاهِر بن عرب الْأَصْبَهَانِيّ فَجمع عَلَيْهِ خَتمه بالعشر من الطّيبَة والنشر ثمَّ شرع فِي خَتمه للكسائي من روايتي قُتَيْبَة ونصير عَنهُ ففارقه بِالْبَصْرَةِ وَتوجه الْأُسْتَاذ وَمَعَهُ الْمولى معِين الدَّين بن عبد الله بن قَاضِي كازرون فوصلا إِلَى قَرْيَة عنيزة بِنَجْد وتوجها مِنْهَا قَاصِدين الْبَيْت الْحَرَام فَأَخذهُمَا أَعْرَاب من بني لَام بعد مرحلَتَيْنِ فنجاهما الله تَعَالَى ورجعا إِلَى عنيزة ونظم بهَا الدرة المضيئة فِي الْقرَاءَات الثَّلَاث حَسْبَمَا تضمنه كتاب تحبير التَّيْسِير لَهُ، ثمَّ تيَسّر لَهما الْحَج وَأقَام بِالْمَدِينَةِ مُدَّة قَرَأَ عَلَيْهِ بهَا

(المقدمة/6)


- ز -
شيخ الْحرم الطواشي وَألف بهَا فِي الْقرَاءَات كتاب نشر الْقرَاءَات الْعشْر ومختصره التَّقْرِيب وَغَيرهمَا.
وَبعد ذَلِك عَاد إِلَى شيراز وَبهَا كَانَت وَفَاته فِي ضحوة الْجُمُعَة لخمس خلون من ربيع الأول سنة 833 هـ وَدفن بدار الْقُرْآن الَّتِي أَنْشَأَهَا بهَا عَن 82 سنة رَحمَه الله وبوأه بحبوحة رِضَاهُ وَكفى بِهِ رحِيما.
آثاره (مؤلفاته)
كتاب النشر فِي الْقرَاءَات الْعشْر ((وَهُوَ هَذَا)) الدرة المضية فِي الْقرَاءَات الثَّلَاث المرضية. منجد المقرئين، الْمُقدمَة فِيمَا على قَارِئ الْقُرْآن أَن يعمله، تحبير التَّيْسِير فِي الْقرَاءَات الْعشْر، نِهَايَة الدرايات فِي أَسمَاء رجال الْقرَاءَات (الطَّبَقَات الْكُبْرَى) ، غَايَة النهايات فِي أَسمَاء رجال الْقرَاءَات (الطَّبَقَات الصُّغْرَى) ، إتحاف المهرة فِي تَتِمَّة الْعشْرَة، إِعَانَة المهرة فِي الزِّيَادَة على الْعشْرَة، التَّمْهِيد فِي التجويد، نظم الْهِدَايَة فِي تَتِمَّة الْعشْرَة، الْحصن الْحصين من كَلَام سيد الْمُرْسلين، عدَّة الْحصن الْحصين وجنة الْحصن الْحصين، التَّعْرِيف بالمولد الشريف، عرف التَّعْرِيف بالمولد الشريف، التَّوْضِيح فِي شرح المصابيح، الْبِدَايَة فِي عُلُوم الرِّوَايَة، الْهِدَايَة فِي فنون الحَدِيث (نظم) ، الأولية فِي الْأَحَادِيث الأولية، عقد اللآلي فِي الْأَحَادِيث المسلسلة العوالي، الْمسند الأحمد فِيمَا يتَعَلَّق بِمُسْنَد أَحْمد، الْقَصْد الأحمد فِي رجال أَحْمد، المصعد الأحمد فِي ختم مسانيد أَحْمد، الإجلال والتعظيم فِي مقَام إِبْرَاهِيم، الْإِبَانَة فِي الْعمرَة من الْجِعِرَّانَة، التكريم فِي العمره من التَّنْعِيم، غَايَة المنى فِي زِيَارَة منى، فضل حراء، أحاسن المنن، أَسْنَى المطالب فِي مَنَاقِب عَليّ بن أبي طَالب، الْجَوْهَرَة فِي النَّحْو، الإهتداء إِلَى معرفَة الْوَقْف والإبتداء، الظرائف فِي رسم الْمَصَاحِف.

(المقدمة/7)


- ح -
الْإِسْنَاد الَّذِي وصل إليَّ هَذَا الْكتاب بواسطته عَن مُؤَلفه رضوَان الله عَلَيْهِ
قَرَأت هَذَا الْكتاب من أَوله إِلَى آخِره على الْأُسْتَاذ الْجَلِيل الشَّيْخ عبد الرَّحْمَن ابْن حُسَيْن الْخَطِيب الشعار سنة 1338 هـ. وَأَخْبرنِي أَنه قَرَأَهُ على خَاتِمَة الْمُحَقِّقين شمس الْملَّة وَالدّين مُحَمَّد بن أَحْمد الْمُتَوَلِي شيخ قراء ومقارئ مصر الأسبق. وَهُوَ على شَيْخه الْمُحَقق الْعُمْدَة المدقق السَّيِّد أَحْمد الدُّرِّي الشهير بالتهامى. وَهُوَ على شيخ قراء وقته الْعَالم الْعَامِل الشَّيْخ أَحْمد سلمونة. وَهُوَ على شَيْخه السَّيِّد إِبْرَاهِيم العبيدي كَبِير المقرئين فِي وقته. وَهُوَ على سبط القطب الخضيري الشَّيْخ عبد الرَّحْمَن الأَجْهُورِيّ. وَهُوَ على الْعَلامَة أبي السماح البقري. وَهُوَ على شمس الدَّين مُحَمَّد ابْن قَاسم البقري. وَهُوَ على الشَّيْخ عبد الرَّحْمَن اليمني. وَهُوَ على وَالِده الشَّيْخ شحاذة الييمني. وَهُوَ على شيخ أهل زَمَنه نَاصِر الدَّين الطبلاوي. وَهُوَ على شيخ الْإِسْلَام وَالْمُسْلِمين أبي يحيى زَكَرِيَّا الْأنْصَارِيّ. وَهُوَ على شيخ شُيُوخ وقته أبي النَّعيم رضوَان العقبي. وَهُوَ على الْمُؤلف.
تغمد الله الْجَمِيع برحمته. وأسكنهم فسيح جنته. آمين
كتبه
مُحَمَّد عَليّ الضباع
شيخ عُمُوم المقارئ: بالديار المصرية

(المقدمة/8)


بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
قَالَ مَوْلَانَا الْإِمَامُ شَيْخُ الْإِسْلَامِ، مُقْتَدَى الْعُلَمَاءِ الْأَعْلَامِ، مُقْرِي دِيَارِ مِصْرَ وَالشَّامِ، افْتِخَارُ الْأَئِمَّةِ، نَاصِرُ الْأُمَّةِ، أُسْتَاذُ الْمُحَدِّثِينَ، بَقِيَّةُ الْعُلَمَاءِ الرَّاسِخِينَ، شَمْسُ الْمِلَّةِ وَالدِّينِ، أَبُو الْخَيْرِ مُحَمَّدُ بْنُ الْجَزَرِيِّ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ وَرَضِيَ عَنْهُ:
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ الْقُرْآنَ كَلَامَهُ وَيَسَّرَهُ، وَسَهَّلَ نَشْرَهُ لِمَنْ رَامَهُ وَقَدَّرَهُ، وَوَفَّقَ لِلْقِيَامِ بِهِ مَنِ اخْتَارَهُ وَبَصَّرَهُ، وَأَقَامَ لِحِفْظِهِ خِيرَتَهُ مِنْ بَرِيَّتِهِ الْخِيَرَةِ. وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ شَهَادَةَ مُقِرٍّ بِهَا بِأَنَّهَا لِلنَّجَاةِ مُقَرِّرَةٌ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ الْقَائِلُ: إِنَّ الْمَاهِرَ بِالْقُرْآنِ مَعَ السَّفَرَةِ الْكِرَامِ الْبَرَرَةِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ الَّذِينَ جَمَعُوا الْقُرْآنَ فِي صُدُورِهِمُ السَّلِيمَةِ وَصُحُفِهِ الْمُطَهَّرَةِ، وَسَلَّمَ وَشَرَّفَ وَكَرَّمَ، وَرَضِيَ اللَّهُ عَنْ أَئِمَّةِ الْقِرَاءَةِ الْمَهَرَةِ، خُصُوصًا الْقُرَّاءَ الْعَشْرَةَ، الَّذِينَ كُلٌّ مِنْهُمْ تَجَرَّدَ لِكِتَابِ اللَّهِ فَجَوَّدَهُ وَحَرَّرَهُ، وَرَتَّلَهُ كَمَا أُنْزِلَ وَعَمِلَ بِهِ وَتَدَبَّرَهُ، وَزَيَّنَهُ بِصَوْتِهِ وَتَغَنَّى بِهِ وَحَبَّرَهُ، وَرَحِمَ اللَّهُ السَّادَةَ الْمَشَايِخَ الَّذِينَ جَمَعُوا فِي اخْتِلَافِ حُرُوفِهِ وَرِوَايَاتِهِ الْكُتُبَ الْمَبْسُوطَةَ وَالْمُخْتَصَرَةَ، فَمِنْهُمْ مَنْ جَعَلَ تَيْسِيرَهُ فِيهَا عُنْوَانًا وَتَذْكِرَةً، وَمِنْهُمْ مَنْ أَوْضَحَ مِصْبَاحَهُ إِرْشَادًا وَتَبْصِرَةً، وَمِنْهُمْ مَنْ أَبْرَزَ الْمَعَانِيَ فِي حِرْزِ الْأَمَانِي مُفِيدَةً وَخَيِّرَةً، أَثَابَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى أَجْمَعِينَ، وَجَمَعَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ فِي دَارِ كَرَامَتِهِ فِي عِلِّيِّينَ بِمَنِّهِ وَكَرَمِهِ.
وَبَعْدُ: فَإِنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَشْرُفُ إِلَّا بِمَا يَعْرِفُ، وَلَا يَفْضُلُ إِلَّا بِمَا يَعْقِلُ، وَلَا يَنْجُبُ إِلَّا بِمَنْ يَصْحَبُ، وَلَمَّا كَانَ الْقُرْآنُ الْعَظِيمُ أَعْظَمَ كِتَابٍ أُنْزِلَ، كَانَ الْمُنَزَّلُ عَلَيْهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَفْضَلَ نَبِيٍّ أُرْسِلَ، وَكَانَتْ أُمَّتُهُ مِنَ الْعَرَبِ وَالْعَجَمِ أَفْضَلَ

(1/1)


أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ مِنَ الْأُمَمِ، وَكَانَتْ حَمَلَتُهُ أَشْرَفَ هَذِهِ الْأُمَّةِ، وَقُرَّاؤُهُ وَمُقْرِئُوهُ أَفْضَلَ هَذِهِ الْمِلَّةِ.
كَمَا أَخْبَرَنَا الشَّيْخُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ أَبُو الْعَبَّاسِ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْخَضِرُ الْحَنَفِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - بِقِرَاءَتِي عَلَيْهِ بِسَفْحِ قَاسِيُونَ ظَاهِرَ دِمَشْقَ الْمَحْرُوسَةِ فِي أَوَائِلِ سَنَةِ إِحْدَى وَسَبْعِينَ وَسَبْعِمِائَةٍ، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ أَحْمَدُ بْنُ أَبِي طَالِبِ بْنِ نِعْمَةَ الصَّالِحِيُّ سَمَاعًا عَلَيْهِ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ وَسَبْعِمِائَةٍ، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو طَالِبٍ عَبْدُ اللَّطِيفِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْقُبَيْطِيِّ فِي آخَرِينَ إِذْنًا، قَالُوا: أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ بْنُ الْمُقَرَّبِ الْكَرْخِيُّ، أَخْبَرَنَا الْإِمَامُ أَبُو طَاهِرٍ أَحْمَدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ الْبَغْدَادِيُّ، أَخْبَرَنَا شَيْخُنَا أَبُو عَلِيٍّ الْمُقْرِي - يَعْنِي الْحَسَنَ بْنَ عَلِيِّ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ الْعَطَّارَ -، أَخْبَرَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ أَحْمَدَ الطَّبَرِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْفَضْلِ الْعِجْلِيُّ قَالَ: حَدَّثَنِي عُمَرُ بْنُ أَيُّوبَ السَّقْطِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو إِبْرَاهِيمَ الْبُرْجُمَانِيُّ - يَعْنِي إِسْمَاعِيلَ بْنَ إِبْرَاهِيمَ -، حَدَّثَنَا سَعْدُ بْنُ سَعِيدٍ الْجُرْجَانِيُّ وَكُنَّا نَعُدُّهُ مِنَ الْأَبْدَالِ، عَنْ نَهْشَلٍ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْقُرَشِيِّ، عَنِ الضَّحَّاكِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَشْرَافُ أُمَّتِي حَمَلَةُ الْقُرْآنِ.
نَهْشَلٌ هَذَا ضَعِيفٌ، وَقَدْ رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْمُعْجَمِ الْكَبِيرِ مِنْ حَدِيثِ الْجُرْجَانِيِّ هَذَا عَنْ كَامِلٍ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الرَّاسِبِيِّ عَنِ الضَّحَّاكِ بِهِ، إِلَّا أَنَّهُ قَالَ: أَشْرَفُ أُمَّتِي حَمَلَةُ الْقُرْآنِ وَلَمْ يَذْكُرْ نَهْشَلًا فِي إِسْنَادِهِ، وَالصَّوَابُ ذِكْرُهُ كَمَا أَخْبَرَتْنَا سِتُّ الْعَرَبِ ابْنَةُ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ مُشَافَهَةً فِي دَارِهَا بِسَفْحِ قَاسِيُونَ سَنَةَ سِتٍّ وَسِتِّينَ وَسَبْعِمِائَةٍ، قَالَتْ: أَنَا جَدِّي عَلِيُّ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدِ الْوَاحِدِ، أَنَا أَبُو سَعْدٍ الصَّفَّارُ فِي كِتَابِهِ، أَنَا زَاهِرُ بْنُ طَاهِرٍ سَمَاعًا، أَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْحُسَيْنِ الْحَافِظُ، أَنَا أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيُّ وَأَبُو الْحُسَيْنِ مُحَمَّدُ بْنُ الْقَاسِمِ الْفَارِسِيُّ إِمْلَاءً، قَالَا: حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ قُرَيْشٍ، حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ سُفْيَانَ، حَدَّثَنَا أَبُو إِبْرَاهِيمَ الْبُرْجُمَانِيُّ، حَدَّثَنَا سَعْدُ بْنُ سَعِيدٍ الْجُرْجَانِيُّ، أَخْبَرَنَا نَهْشَلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ عَنِ الضَّحَّاكِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَشْرَافُ أُمَّتِي حَمَلَةُ الْقُرْآنِ

(1/2)


وَأَصْحَابُ اللَّيْلِ. كَذَا رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ وَهُوَ الصَّحِيحُ، وَرُوِّينَا فِيهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ثَلَاثَةٌ لَا يَكْتَرِثُونَ لِلْحِسَابِ وَلَا تُفْزِعُهُمُ الصَّيْحَةُ وَلَا يُحْزِنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ: حَامِلُ الْقُرْآنِ يُؤَدِّيهِ إِلَى اللَّهِ يَقْدَمُ عَلَى رَبِّهِ سَيِّدًا شَرِيفًا حَتَّى يُرَافِقَ الْمُرْسَلِينَ، وَمَنْ أَذَّنَ سَبْعَ سِنِينَ لَا يَأْخُذُ عَلَى أَذَانِهِ طَمَعًا، وَعَبْدٌ مَمْلُوكٌ أَدَّى حَقَّ اللَّهِ مِنْ نَفْسِهِ وَحَقَّ مَوَالِيهِ.
وَرُوِّينَا أَيْضًا فِي الطَّبَرَانِيِّ بِإِسْنَادٍ جَيِّدٍ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: خَيْرُكُمْ مَنْ قَرَأَ الْقُرْآنَ وَأَقْرَأَهُ وَرَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَلَفْظُهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: خَيْرُكُمْ مَنْ تَعَلَّمَ الْقُرْآنَ وَعَلَّمَهُ وَكَانَ الْإِمَامُ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيُّ التَّابِعِيُّ الْجَلِيلُ يَقُولُ لَمَّا يَرْوِي هَذَا الْحَدِيثَ عَنْ عُثْمَانَ: هَذَا الَّذِي أَقْعَدَنِي مَقْعَدِي هَذَا، يُشِيرُ إِلَى كَوْنِهِ جَالِسًا فِي الْمَسْجِدِ الْجَامِعِ بِالْكُوفَةِ يُعَلِّمُ الْقُرْآنَ وَيُقْرِئُهُ مَعَ جَلَالَةِ قَدْرِهِ وَكَثْرَةِ عِلْمِهِ، وَحَاجَةِ النَّاسِ إِلَى عِلْمِهِ، وَبَقِيَ يُقْرِئُ النَّاسَ بِجَامِعِ الْكُوفَةِ أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعِينَ سَنَةً، وَعَلَيْهِ قَرَأَ الْحَسَنُ وَالْحُسَيْنُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، وَلِذَلِكَ كَانَ السَّلَفُ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - لَا يَعْدِلُونَ بِإِقْرَاءِ الْقُرْآنِ شَيْئًا فَقَدْ رُوِّينَا عَنْ شَقِيقٍ أَبِي وَائِلٍ قَالَ: قِيلَ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: إِنَّكَ تُقِلُّ الصَّوْمَ. قَالَ: إِنِّي إِذَا صُمْتُ ضَعُفْتُ عَنِ الْقُرْآنِ، وَتِلَاوَةُ الْقُرْآنِ أَحَبُّ إِلَيَّ.
وَفِي جَامِعِ التِّرْمِذِيِّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: يَقُولُ اللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ -: مَنْ شَغَلَهُ الْقُرْآنُ عَنْ ذِكْرِي وَمَسْأَلَتِي أَعْطَيْتُهُ أَفْضَلَ مَا أُعْطِي السَّائِلِينَ قَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ. وَقَدْ جَمَعَ الْحَافِظُ أَبُو الْعَلَاءِ الْهَمَذَانِيُّ طُرُقَ هَذَا الْحَدِيثِ وَفِي بَعْضِهَا: مَنْ شَغَلَهُ قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ فِي أَنْ يَتَعَلَّمَهُ أَوْ يُعَلِّمَهُ عَنْ دُعَائِي وَمَسْأَلَتِي وَأَسْنَدَ الْحَافِظُ أَبُو الْعَلَاءِ أَيْضًا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَفْضَلُ الْعِبَادَةِ قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ وَرُوِّينَا عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَفْضَلُ عِبَادَةِ أُمَّتِي

(1/3)


قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ أَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ، وَعَنْ عَبْدِ الْحَمِيدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْحِمَّانِيِّ: سَأَلْتُ سُفْيَانَ الثَّوْرِيَّ عَنِ الرَّجُلِ يَغْزُو أَحَبُّ إِلَيْكَ أَوْ يُقْرِئُ الْقُرْآنَ؟ فَقَالَ: يُقْرِئُ الْقُرْآنَ ; لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: خَيْرُكُمْ مَنْ تَعَلَّمَ الْقُرْآنَ وَعَلَّمَهُ، وَرُوِّينَا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: " مَنْ قَرَأَ الْقُرْآنَ لَمْ يُرَدَّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا " وَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا قَالَ: إِلَّا الَّذِينَ قَرَءُوا الْقُرْآنَ، وَعَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عُمَيْرٍ: " أَبْقَى النَّاسِ عُقُولًا قُرَّاءُ الْقُرْآنِ ".
وَأَنْبَأَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْحُسَيْنِ الْبَنَّا، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَحْمَدَ، أَنَّ أَبَا مُحَمَّدٍ عَبْدَ الْغَنِيِّ بْنَ عَبْدِ الْوَاحِدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ سُرُورٍ الْمَقْدِسِيَّ الْحَافِظَ أَخْبَرَهُ قَالَ: أَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ بْنُ إِسْمَاعِيلَ الْقُوسِيَانِيُّ سَمَاعًا، أَنَا أَبُو شُجَاعٍ الدَّيْلَمِيُّ الْحَافِظُ، أَنَا أَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ بْنُ مَعْمَرٍ الْأَثْوَابِيُّ الْوَرَّاقُ، أَنَا أَبُو الْحَسَنِ طَاهِرُ بْنُ حَمَدِ بْنِ سَعْدَوَيْهِ الدِّهْقَانُ بِهَمَذَانَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ النَّيْسَابُورِيُّ بِهَا، حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيُّ (ح) وَأَخْبَرَنِي مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الصَّالِحِيُّ شِفَاهًا عَنْ أَبِي الْحَسَنِ بْنِ أَحْمَدَ الْفَقِيهِ قَالَ: كَتَبَ إِلَيَّ الْحَافِظُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَلِيٍّ السَّلَامِيُّ، أَنَا ابْنُ نَاصِرٍ، أَنْبَأَنَا أَبُو عَلِيٍّ الْحَسَنُ بْنُ أَحْمَدَ، أَنَا أَبُو مُحَمَّدٍ الْخَلَّالُ، أَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الزُّهْرِيُّ، أَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مِقْسَمٍ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا بَكْرٍ الرَّازِيَّ قَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَ الْعَزِيزِ بْنَ مُحَمَّدٍ النَّهَاوَنْدِيَّ يَقُولُ: سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ يَقُولُ: سَمِعْتُ أَبِي - رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ - يَقُولُ: رَأَيْتُ رَبَّ الْعِزَّةِ فِي النَّوْمِ فَقُلْتُ: يَا رَبِّ، مَا أَفْضَلُ مَا يَتَقَرَّبُ الْمُتَقَرِّبُونَ بِهِ إِلَيْكَ؟ فَقَالَ: بِكَلَامِي يَا أَحْمَدُ، فَقُلْتُ: يَا رَبِّ بِفَهْمٍ أَمْ بِغَيْرِ فَهْمٍ؟ فَقَالَ: بِفَهْمٍ وَبِغَيْرِ فَهْمٍ.
وَقَدْ خَصَّ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْأُمَّةَ فِي كِتَابِهِمْ هَذَا الْمُنَزَّلِ عَلَى نَبِيِّهِمْ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِمَا لَمْ يَكُنْ لِأُمَّةٍ مِنَ الْأُمَمِ فِي كُتُبِهَا الْمُنَزَّلَةِ، فَإِنَّهُ تَعَالَى تَكَفَّلَ بِحِفْظِهِ دُونَ سَائِرِ الْكُتُبِ، وَلَمْ يَكِلْ حِفْظَهُ إِلَيْنَا، قَالَ - تَعَالَى -: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ، وَذَلِكَ إِعْظَامٌ لِأَعْظَمِ مُعْجِزَاتِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ; لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى تَحَدَّى بِسُورَةٍ مِنْهُ أَفْصَحَ الْعَرَبِ لِسَانًا وَأَعْظَمَهُمْ عِنَادًا وَعُتُوًّا وَإِنْكَارًا فَلَمْ

(1/4)


يَقْدِرُوا عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِآيَةٍ مِثْلِهِ، ثُمَّ لَمْ يَزَلْ يُتْلَى آنَاءَ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنْ نَيِّفٍ وَثَمَانِمِائَةِ سَنَةٍ مَعَ كَثْرَةِ الْمُلْحِدِينَ وَأَعْدَاءِ الدِّينِ، وَلَمْ يَسْتَطِعْ أَحَدٌ مِنْهُمْ مُعَارَضَةَ شَيْءٍ مِنْهُ، وَأَيُّ دَلَالَةٍ أَعْظَمُ عَلَى صِدْقِ نُبُوَّتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ هَذَا؟ وَأَيْضًا فَإِنَّ عُلَمَاءَ هَذِهِ الْأُمَّةِ لَمْ تَزَلْ مِنَ الصَّدْرِ الْأَوَّلِ وَإِلَى آخِرِ وَقْتٍ يَسْتَنْبِطُونَ مِنْهُ مِنَ الْأَدِلَّةِ وَالْحُجَجِ وَالْبَرَاهِينِ وَالْحِكَمِ وَغَيْرِهَا مَا لَمْ يَطَّلِعْ عَلَيْهِ مُتَقَدِّمٌ وَلَا يَنْحَصِرُ لِمُتَأَخِّرٍ، بَلْ هُوَ الْبَحْرُ الْعَظِيمُ الَّذِي لَا قَرَارَ لَهُ يَنْتَهِي إِلَيْهِ، وَلَا غَايَةَ لِآخِرِهِ يُوقَفُ عَلَيْهِ، وَمِنْ ثَمَّ لَمْ تَحْتَجْ هَذِهِ الْأُمَّةُ إِلَى نَبِيٍّ بَعْدَ نَبِيِّهَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَمَا كَانَتِ الْأُمَمُ قَبْلَ ذَلِكَ لَمْ يَخْلُ زَمَانٌ مِنْ أَزْمِنَتِهِمْ عَنْ أَنْبِيَاءَ يُحَكِّمُونَ أَحْكَامَ كِتَابِهِمْ وَيَهْدُونَهُمْ إِلَى مَا يَنْفَعُهُمْ فِي عَاجِلِهِمْ وَمَآبِهِمْ، قَالَ - تَعَالَى -: إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ فَوَكَلَ حِفْظَ التَّوْرَاةِ إِلَيْهِمْ ; فَلِهَذَا دَخَلَهَا بَعْدَ أَنْبِيَائِهِمُ التَّحْرِيفُ وَالتَّبْدِيلُ.
وَلَمَّا تَكَفَّلَ تَعَالَى بِحِفْظِهِ خَصَّ بِهِ مَنْ شَاءَ مِنْ بَرِيَّتِهِ، وَأَوْرَثَهُ مَنِ اصْطَفَاهُ مِنْ خَلِيقَتِهِ، قَالَ - تَعَالَى -: ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إِنَّ لِلَّهِ أَهْلِينَ مِنَ النَّاسِ، قِيلَ: مَنْ هُمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: أَهْلُ الْقُرْآنِ هُمْ أَهْلُ اللَّهِ وَخَاصَّتُهُ رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ وَأَحْمَدُ وَالدَّارِمِيُّ وَغَيْرُهُمْ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ بِإِسْنَادٍ رِجَالُهُ ثِقَاتٌ.
وَقَدْ أَخْبَرَتْنَا بِهِ عَالِيًا أُمُّ مُحَمَّدٍ سِتُّ الْعَرَبِ ابْنَةُ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدِ الْوَاحِدِ الصَّالِحِيَّةُ مُشَافَهَةً، أَنَا جَدِّي قِرَاءَةً عَلَيْهِ وَأَنَا حَاضِرَةٌ، أَنَا أَبُو الْمَكَارِمِ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ اللَّبَّانُ فِي كِتَابِهِ مِنْ أَصْبَهَانَ، أَنَا الْحَسَنُ بْنُ أَحْمَدَ الْحَدَّادُ سَمَاعًا، أَنَا أَبُو نُعَيْمٍ الْحَافِظُ، أَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَعْفَرٍ، أَنَا يُونُسُ بْنُ حَبِيبٍ حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُدَ الطَّيَالِسِيُّ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ بُدَيْلٍ الْعُقَيْلِيُّ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إِنَّ لِلَّهِ أَهْلِينَ مِنَ النَّاسِ، قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَنْ هُمْ؟ قَالَ:

(1/5)


أَهْلُ الْقُرْآنِ هُمْ أَهْلُ اللَّهِ وَخَاصَّتُهُ، وَكَذَلِكَ رَوَاهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ بُدَيْلٍ.
ثُمَّ إِنَّ الِاعْتِمَادَ فِي نَقْلِ الْقُرْآنِ عَلَى حِفْظِ الْقُلُوبِ وَالصُّدُورِ لَا عَلَى حِفْظِ الْمَصَاحِفِ وَالْكُتُبِ، وَهَذِهِ أَشْرَفُ خَصِيصَةٍ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى لِهَذِهِ الْأُمَّةِ، فَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ الَّذِي رَوَاهُ مُسْلِمٌ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: إِنَّ رَبِّي قَالَ لِي: قُمْ فِي قُرَيْشٍ فَأَنْذِرْهُمْ فَقُلْتُ لَهُ: رَبِّ إِذًا يَثْلَغُوا رَأْسِي حَتَّى يَدَعُوهُ خُبْزَةً، فَقَالَ: مُبْتَلِيكَ وَمُبْتَلِي بِكَ وَمُنْزِلٌ عَلَيْكَ كِتَابًا لَا يَغْسِلُهُ الْمَاءُ، تَقْرَؤُهُ نَائِمًا وَيَقْظَانَ، فَابْعَثْ جُنْدًا أَبْعَثْ مِثْلَهُمْ، وَقَاتِلْ بِمَنْ أَطَاعَكَ مَنْ عَصَاكَ، وَأَنْفِقْ يُنْفَقْ عَلَيْكَ. فَأَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّ الْقُرْآنَ لَا يَحْتَاجُ فِي حِفْظِهِ إِلَى صَحِيفَةٍ تُغْسَلُ بِالْمَاءِ، بَلْ يَقْرَءُوهُ فِي كُلِّ حَالٍ كَمَا جَاءَ فِي صِفَةِ أُمَّتِهِ: " أَنَاجِيلُهُمْ فِي صُدُورِهِمْ "، وَذَلِكَ بِخِلَافِ أَهْلِ الْكِتَابِ الَّذِينَ لَا يَحْفَظُونَهُ لَا فِي الْكُتُبِ وَلَا يَقْرَءُونَهُ كُلَّهُ إِلَّا نَظَرًا لَا عَنْ ظَهْرِ قَلْبٍ، وَلَمَّا خَصَّ اللَّهُ تَعَالَى بِحِفْظِهِ مَنْ شَاءَ مِنْ أَهْلِهِ أَقَامَ لَهُ أَئِمَّةً ثِقَاتٍ تَجَرَّدُوا لِتَصْحِيحِهِ وَبَذَلُوا أَنْفُسَهُمْ فِي إِتْقَانِهِ وَتَلَقَّوْهُ مِنَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَرْفًا حَرْفًا، لَمْ يُهْمِلُوا مِنْهُ حَرَكَةً وَلَا سُكُونًا وَلَا إِثْبَاتًا وَلَا حَذْفًا، وَلَا دَخَلَ عَلَيْهِمْ فِي شَيْءٍ مِنْهُ شَكٌّ وَلَا وَهْمٌ، وَكَانَ مِنْهُمْ مَنْ حَفِظَهُ كُلَّهُ، وَمِنْهُمْ مَنْ حَفِظَ أَكْثَرَهُ، وَمِنْهُمْ مَنْ حَفِظَ بَعْضَهُ، كُلُّ ذَلِكَ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وَقَدْ ذَكَرَ الْإِمَامُ أَبُو عُبَيْدٍ الْقَاسِمُ بْنُ سَلَّامٍ فِي أَوَّلِ كِتَابِهِ فِي الْقِرَاءَاتِ: مَنْ نُقِلَ عَنْهُمْ شَيْءٌ مِنْ وُجُوهِ الْقِرَاءَةِ مِنَ الصَّحَابَةِ وَغَيْرِهِمْ، فَذَكَرَ مِنَ الصَّحَابَةِ أَبَا بَكْرٍ، وَعُمَرَ، وَعُثْمَانَ، وَعَلِيًّا، وَطَلْحَةَ، وَسَعْدًا، وَابْنَ مَسْعُودٍ، وَحُذَيْفَةَ، وَسَالِمًا، وَأَبَا هُرَيْرَةَ، وَابْنَ عُمَرَ، وَابْنَ عَبَّاسٍ، وَعَمْرَو بْنَ الْعَاصِ، وَابْنَهُ عَبْدَ اللَّهِ، وَمُعَاوِيَةَ، وَابْنَ الزُّبَيْرِ، وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ السَّائِبِ، وَعَائِشَةَ، وَحَفْصَةَ، وَأُمَّ سَلَمَةَ، وَهَؤُلَاءِ كُلُّهُمْ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ، وَذَكَرَ مِنَ الْأَنْصَارِ أُبَيَّ بْنَ كَعْبٍ، وَمُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ، وَأَبَا الدَّرْدَاءِ، وَزَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ، وَأَبَا زَيْدٍ، وَمُجَمِّعَ بْنَ جَارِيَةَ، وَأَنَسَ بْنَ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ.

(1/6)


وَلَمَّا تُوُفِّيَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَامَ بِالْأَمْرِ بَعْدَهُ أَحَقُّ النَّاسِ بِهِ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وَقَاتَلَ الصَّحَابَةُ - رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ - أَهْلَ الرِّدَّةِ وَأَصْحَابَ مُسَيْلِمَةَ، وَقُتِلَ مِنَ الصَّحَابَةِ نَحْوُ الْخَمْسِمِائَةِ، أُشِيرَ عَلَى أَبِي بَكْرٍ بِجَمْعِ الْقُرْآنِ فِي مُصْحَفٍ وَاحِدٍ خَشْيَةَ أَنْ يَذْهَبَ بِذَهَابِ الصَّحَابَةِ، فَتَوَقَّفَ فِي ذَلِكَ مِنْ حَيْثُ إِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَأْمُرْ فِي ذَلِكَ بِشَيْءٍ، ثُمَّ اجْتَمَعَ رَأْيُهُ وَرَأْيُ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ - عَلَى ذَلِكَ، فَأَمَرَ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ بِتَتَبُّعِ الْقُرْآنِ وَجَمْعِهِ، فَجَمَعَهُ فِي صُحُفٍ كَانَتْ عِنْدَ أَبِي بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - حَتَّى تُوُفِّيَ، ثُمَّ عِنْدَ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - حَتَّى تُوُفِّيَ، ثُمَّ عِنْدَ حَفْصَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا.
وَلَمَّا كَانَ فِي نَحْوِ ثَلَاثِينَ مِنَ الْهِجْرَةِ فِي خِلَافَةِ عُثْمَانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - حَضَرَ حُذَيْفَةُ بْنُ الْيَمَانِ فَتْحَ أَرْمِينِيَّةَ وَأَذْرَبِيجَانَ، فَرَأَى النَّاسَ يَخْتَلِقُونَ فِي الْقُرْآنِ وَيَقُولُ أَحَدُهُمْ لِلْآخَرِ قِرَاءَتِي أَصَحُّ مِنْ قِرَاءَتِكَ، فَأَفْزَعَهُ ذَلِكَ وَقَدِمَ عَلَى عُثْمَانَ وَقَالَ: أَدْرِكْ هَذِهِ الْأُمَّةَ قَبْلَ أَنْ يَخْتَلِفُوا اخْتِلَافَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، فَأَرْسَلَ عُثْمَانُ إِلَى حَفْصَةَ أَنْ أَرْسِلِي إِلَيْنَا بِالصُّحُفِ نَنْسَخْهَا ثُمَّ نَرُدَّهَا إِلَيْكِ، فَأَرْسَلَتْهَا إِلَيْهِ، فَأَمَرَ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ الزُّبَيْرِ وَسَعِيدَ بْنَ الْعَاصِ وَعَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ أَنْ يَنْسَخُوهَا فِي الْمَصَاحِفِ، وَقَالَ: إِذَا اخْتَلَفْتُمْ أَنْتُمْ وَزَيْدٌ فِي شَيْءٍ فَاكْتُبُوهُ بِلِسَانِ قُرَيْشٍ، فَإِنَّمَا نَزَلَ بِلِسَانِهِمْ، فَكُتِبَ مِنْهَا عِدَّةُ مَصَاحِفَ، فَوَجَّهَ بِمُصْحَفٍ إِلَى الْبَصْرَةِ، وَمُصْحَفٍ إِلَى الْكُوفَةِ، وَمُصْحَفٍ إِلَى الشَّامِ، وَتَرَكَ مُصْحَفًا بِالْمَدِينَةِ، وَأَمْسَكَ لِنَفْسِهِ مُصْحَفًا الَّذِي يُقَالُ لَهُ الْإِمَامُ، وَوَجَّهَ بِمُصْحَفٍ إِلَى مَكَّةَ، وَبِمُصْحَفٍ إِلَى الْيَمَنِ، وَبِمُصْحَفٍ إِلَى الْبَحْرَيْنِ، وَأَجْمَعَتِ الْأُمَّةُ الْمَعْصُومَةُ مِنَ الْخَطَأِ عَلَى مَا تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الْمَصَاحِفُ وَتَرْكِ مَا خَالَفَهَا مِنْ زِيَادَةٍ وَنَقْصٍ وَإِبْدَالِ كَلِمَةٍ بِأُخْرَى مِمَّا كَانَ مَأْذُونًا فِيهِ تَوْسِعَةً عَلَيْهِمْ وَلَمْ يَثْبُتْ عِنْدَهُمْ ثُبُوتًا مُسْتَفِيضًا أَنَّهُ مِنَ الْقُرْآنِ، وَجُرِّدَتْ هَذِهِ الْمَصَاحِفُ جَمِيعُهَا مِنَ النُّقَطِ وَالشَّكْلِ لِيَحْتَمِلَهَا مَا صَحَّ نَقْلُهُ وَثَبَتَ تِلَاوَتُهُ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، إِذْ كَانَ الِاعْتِمَادُ عَلَى الْحِفْظِ لَا عَلَى مُجَرَّدِ الْخَطِّ، وَكَانَ مِنْ جُمْلَةِ الْأَحْرُفِ الَّتِي

(1/7)


أَشَارَ إِلَيْهَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِقَوْلِهِ: أُنْزِلَ الْقُرْآنُ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ فَكُتِبَتِ الْمَصَاحِفُ عَلَى اللَّفْظِ الَّذِي اسْتَقَرَّ عَلَيْهِ فِي الْعَرْضَةِ الْأَخِيرَةِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَمَا صَرَّحَ بِهِ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ أَئِمَّةِ السَّلَفِ: كَمُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ وَعُبَيْدَةَ السَّلْمَانِيِّ وَعَامِرٍ الشَّعْبِيِّ، قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: لَوْ وَلِيتُ فِي الْمَصَاحِفِ مَا وَلِيَ عُثْمَانُ لَفَعَلْتُ كَمَا فَعَلَ.
وَقَرَأَ كُلُّ أَهْلِ مِصْرٍ بِمَا فِي مُصْحَفِهِمْ، وَتَلَقَّوْا مَا فِيهِ عَنِ الصَّحَابَةِ الَّذِينَ تَلَقَّوْهُ مِنْ فِي رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ثُمَّ قَامُوا بِذَلِكَ مَقَامَ الصَّحَابَةِ الَّذِينَ تَلَقَّوْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
(فَمِمَّنْ كَانَ بِالْمَدِينَةِ) ابْنُ الْمُسَيَّبِ وَعُرْوَةُ وَسَالِمٌ وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَسُلَيْمَانُ وَعَطَاءٌ ابْنَا يَسَارٍ وَمُعَاذُ بْنُ الْحَارِثِ الْمَعْرُوفُ بِمُعَاذٍ الْقَارِئِ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ هُرْمُزَ الْأَعْرَجُ وَابْنُ شِهَابٍ الزُّهْرِيُّ وَمُسْلِمُ بْنُ جُنْدُبٍ وَزَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ، (وَبِمَكَّةَ) عُبَيْدُ بْنُ عُمَيْرٍ وَعَطَاءٌ وَطَاوُسٌ وَمُجَاهِدٌ وَعِكْرِمَةُ وَابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ، (وَبِالْكُوفَةِ) عَلْقَمَةُ وَالْأَسْوَدُ وَمَسْرُوقٌ وَعُبَيْدَةُ وَعَمْرُو بْنُ شُرَحْبِيلَ وَالْحَارِثُ بْنُ قَيْسٍ وَالرَّبِيعُ بْنُ خُثَيْمٍ وَعَمْرُو بْنُ مَيْمُونٍ وَأَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيُّ وَزِرُّ بْنُ حُبَيْشٍ وَعُبَيْدُ بْنُ نُضَيْلَةَ وَأَبُو زُرْعَةَ بْنُ عَمْرِو بْنِ جَرِيرٍ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَإِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ وَالشَّعْبِيُّ.
(وَبِالْبَصْرَةِ) عَامِرُ بْنُ عَبْدِ قَيْسٍ وَأَبُو الْعَالِيَةِ وَأَبُو رَجَاءٍ وَنَصْرُ بْنُ عَاصِمٍ وَيَحْيَى بْنُ يَعْمُرَ وَمُعَاذٌ وَجَابِرُ بْنُ زَيْدٍ وَالْحَسَنُ وَابْنُ سِيرِينَ وَقَتَادَةُ، (وَبِالشَّامِ) الْمُغِيرَةُ بْنُ أَبِي شِهَابٍ الْمَخْزُومِيُّ صَاحِبُ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ فِي الْقِرَاءَةِ، وَخُلَيْدُ بْنُ سَعْدٍ صَاحِبُ أَبِي الدَّرْدَاءِ. ثُمَّ تَجَرَّدَ قَوْمٌ لِلْقِرَاءَةِ وَالْأَخْذِ، وَاعْتَنَوْا بِضَبْطِ الْقِرَاءَةِ أَتَمَّ عِنَايَةٍ، حَتَّى صَارُوا فِي ذَلِكَ أَئِمَّةً يُقْتَدَى بِهِمْ وَيُرْحَلُ إِلَيْهِمْ وَيُؤْخَذُ عَنْهُمْ، أَجْمَعَ أَهْلُ بَلَدِهِمْ عَلَى تَلَقِّي قِرَاءَتِهِمْ بِالْقَبُولِ، وَلَمْ يَخْتَلِفْ عَلَيْهِمْ فِيهَا اثْنَانِ، وَلِتَصَدِّيهِمْ لِلْقِرَاءَةِ نُسِبَتْ إِلَيْهِمْ، (فَكَانَ بِالْمَدِينَةِ) أَبُو جَعْفَرٍ يَزِيدُ بْنُ الْقَعْقَاعِ، ثُمَّ شَيْبَةُ بْنُ نِصَاحٍ، ثُمَّ نَافِعُ بْنُ أَبِي نُعَيْمٍ، (وَكَانَ بِمَكَّةَ) عَبْدُ اللَّهِ بْنُ كَثِيرٍ وَحُمَيْدُ بْنُ قَيْسٍ الْأَعْرَجُ وَمُحَمَّدُ بْنُ مُحَيْصِنٍ، (وَكَانَ بِالْكُوفَةِ) يَحْيَى بْنُ وَثَّابٍ وَعَاصِمُ بْنُ أَبِي النَّجُودِ وَسُلَيْمَانُ الْأَعْمَشُ، ثُمَّ حَمْزَةُ، ثُمَّ الْكِسَائِيُّ، (وَكَانَ

(1/8)


بِالْبَصْرَةِ) عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي إِسْحَاقَ وَعِيسَى بْنُ عُمَرَ وَأَبُو عَمْرِو بْنُ الْعَلَاءِ، ثُمَّ عَاصِمٌ الْجَحْدَرِيُّ، ثُمَّ يَعْقُوبُ الْحَضْرَمِيُّ، (وَكَانَ بِالشَّامِ) عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَامِرٍ وَعَطِيَّةُ بْنُ قَيْسٍ الْكِلَابِيُّ وَإِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُهَاجِرِ، ثُمَّ يَحْيَى بْنُ الْحَارِثِ الذِّمَارِيُّ، ثُمَّ شُرَيْحُ بْنُ يَزِيدَ الْحَضْرَمِيُّ.
ثُمَّ إِنَّ الْقُرَّاءَ بَعْدَ هَؤُلَاءِ الْمَذْكُورِينَ كَثُرُوا وَتَفَرَّقُوا فِي الْبِلَادِ وَانْتَشَرُوا وَخَلْفَهُمْ أُمَمٌ بَعْدَ أُمَمٍ، عُرِفَتْ طَبَقَاتُهُمْ، وَاخْتَلَفَتْ صِفَاتُهُمْ، فَكَانَ مِنْهُمُ الْمُتْقِنُ لِلتِّلَاوَةِ الْمَشْهُورُ بِالرِّوَايَةِ وَالدِّرَايَةِ، وَمِنْهُمُ الْمُقْتَصِرُ عَلَى وَصْفٍ مِنْ هَذِهِ الْأَوْصَافِ، وَكَثُرَ بَيْنَهُمْ لِذَلِكَ الِاخْتِلَافُ، وَقَلَّ الضَّبْطُ، وَاتَّسَعَ الْخَرْقُ، وَكَادَ الْبَاطِلُ يَلْتَبِسُ بِالْحَقِّ، فَقَامَ جَهَابِذَةُ عُلَمَاءِ الْأُمَّةِ، وَصَنَادِيدُ الْأَئِمَّةِ، فَبَالَغُوا فِي الِاجْتِهَادِ وَبَيَّنُوا الْحَقَّ الْمُرَادَ، وَجَمَعُوا الْحُرُوفَ وَالْقِرَاءَاتِ، وَعَزَوُا الْوُجُوهَ وَالرِّوَايَاتِ، وَمَيَّزُوا بَيْنَ الْمَشْهُورِ وَالشَّاذِّ، وَالصَّحِيحِ وَالْفَاذِّ، بِأُصُولٍ أَصَّلُوهَا، وَأَرْكَانٍ فَصَّلُوهَا، وَهَا نَحْنُ نُشِيرُ إِلَيْهَا وَنُعَوِّلُ كَمَا عَوَّلُوا عَلَيْهَا فَنَقُولُ:
كُلُّ قِرَاءَةٍ وَافَقَتِ الْعَرَبِيَّةَ وَلَوْ بِوَجْهٍ، وَوَافَقَتْ أَحَدَ الْمَصَاحِفِ الْعُثْمَانِيَّةِ وَلَوِ احْتِمَالًا وَصَحَّ سَنَدُهَا، فَهِيَ الْقِرَاءَةُ الصَّحِيحَةُ الَّتِي لَا يَجُوزُ رَدُّهَا وَلَا يَحِلُّ إِنْكَارُهَا، بَلْ هِيَ مِنَ الْأَحْرُفِ السَّبْعَةِ الَّتِي نَزَلَ بِهَا الْقُرْآنُ وَوَجَبَ عَلَى النَّاسِ قَبُولُهَا، سَوَاءٌ كَانَتْ عَنِ الْأَئِمَّةِ السَّبْعَةِ، أَمْ عَنِ الْعَشْرَةِ، أَمْ عَنْ غَيْرِهِمْ مِنَ الْأَئِمَّةِ الْمَقْبُولِينَ، وَمَتَى اخْتَلَّ رُكْنٌ مِنْ هَذِهِ الْأَرْكَانِ الثَّلَاثَةِ أُطْلِقَ عَلَيْهَا ضَعِيفَةٌ أَوْ شَاذَّةٌ أَوْ بَاطِلَةٌ، سَوَاءٌ كَانَتْ عَنِ السَّبْعَةِ أَمْ عَمَّنْ هُوَ أَكْبَرُ مِنْهُمْ، هَذَا هُوَ الصَّحِيحُ عِنْدَ أَئِمَّةِ التَّحْقِيقِ مِنَ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ، صَرَّحَ بِذَلِكَ الْإِمَامُ الْحَافِظُ أَبُو عَمْرٍو عُثْمَانُ بْنُ سَعِيدٍ الدَّانِيُّ، وَنَصَّ عَلَيْهِ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ الْإِمَامُ أَبُو مُحَمَّدٍ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، وَكَذَلِكَ الْإِمَامُ أَبُو الْعَبَّاسِ أَحْمَدُ بْنُ عَمَّارٍ الْمَهْدَوِيُّ، وَحَقَّقَهُ الْإِمَامُ الْحَافِظُ أَبُو الْقَاسِمِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ إِسْمَاعِيلَ الْمَعْرُوفُ بِأَبِي شَامَةَ، وَهُوَ مَذْهَبُ السَّلَفِ الَّذِي لَا يُعْرَفُ عَنْ أَحَدٍ مِنْهُمْ خِلَافُهُ.
(قَالَ أَبُو شَامَةَ) - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي كِتَابِهِ " الْمُرْشِدِ الْوَجِيزِ ": فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُغْتَرَّ بِكُلِّ قِرَاءَةٍ

(1/9)


تُعْزَى إِلَى وَاحِدٍ مِنْ هَؤُلَاءِ الْأَئِمَّةِ السَّبْعَةِ وَيُطْلَقُ عَلَيْهَا لَفْظُ الصِّحَّةِ وَإِنْ هَكَذَا أُنْزِلَتْ، إِلَّا إِذَا دَخَلَتْ فِي ذَلِكَ الضَّابِطِ، وَحِينَئِذٍ لَا يَنْفَرِدُ بِنَقْلِهَا مُصَنِّفٌ عَنْ غَيْرِهِ، وَلَا يَخْتَصُّ ذَلِكَ بِنَقْلِهَا عَنْهُمْ، بَلْ إِنْ نُقِلَتْ عَنْ غَيْرِهِمْ مِنَ الْقُرَّاءِ فَذَلِكَ لَا يُخْرِجُهَا عَنِ الصِّحَّةِ، فَإِنَّ الِاعْتِمَادَ عَلَى اسْتِجْمَاعِ تِلْكَ الْأَوْصَافِ لَا عَمَّنْ تُنْسَبُ إِلَيْهِ، فَإِنَّ الْقِرَاءَاتِ الْمَنْسُوبَةَ إِلَى كُلِّ قَارِئٍ مِنَ السَّبْعَةِ وَغَيْرِهِمْ مُنْقَسِمَةٌ إِلَى الْمُجْمَعِ عَلَيْهِ وَالشَّاذِّ، غَيْرَ أَنَّ هَؤُلَاءِ السَّبْعَةَ لِشُهْرَتِهِمْ وَكَثْرَةِ الصَّحِيحِ الْمُجْتَمَعِ عَلَيْهِ فِي قِرَاءَتِهِمْ تَرْكَنُ النَّفْسُ إِلَى مَا نُقِلَ عَنْهُمْ فَوْقَ مَا يُنْقَلُ عَنْ غَيْرِهِمْ.
(قُلْتُ) : وَقَوْلُنَا فِي الضَّابِطِ وَلَوْ بِوَجْهٍ نُرِيدُ بِهِ وَجْهًا مِنْ وُجُوهِ النَّحْوِ، سَوَاءٌ كَانَ أَفْصَحَ أَمْ فَصِيحًا مُجْمَعًا عَلَيْهِ، أَمْ مُخْتَلَفًا فِيهِ اخْتِلَافًا لَا يَضُرُّ مِثْلُهُ إِذَا كَانَتِ الْقِرَاءَةُ مِمَّا شَاعَ وَذَاعَ وَتَلَقَّاهُ الْأَئِمَّةُ بِالْإِسْنَادِ الصَّحِيحِ، إِذْ هُوَ الْأَصْلُ الْأَعْظَمُ وَالرُّكْنُ الْأَقْوَمُ، وَهَذَا هُوَ الْمُخْتَارُ عِنْدَ الْمُحَقِّقِينَ فِي رُكْنِ مُوَافَقَةِ الْعَرَبِيَّةِ، فَكَمْ مِنْ قِرَاءَةٍ أَنْكَرَهَا بَعْضُ أَهْلِ النَّحْوِ أَوْ كَثِيرٌ مِنْهُمْ وَلَمْ يُعْتَبَرْ إِنْكَارُهُمْ، بَلْ أَجَمَعَ الْأَئِمَّةُ الْمُقْتَدَى بِهِمْ مِنَ السَّلَفِ عَلَى قَبُولِهَا كَإِسْكَانِ (بَارِئْكُمْ) وَ (يَأْمُرْكُمْ) وَنَحْوِهِ، وَ (سَبَأْ) وَ (يَا بُنَيْ) ، (وَمَكْرَ السَّيِّئْ) وَ (نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ) فِي الْأَنْبِيَاءِ، وَالْجَمْعِ بَيْنَ السَّاكِنَيْنِ فِي تَاءَاتِ الْبَزِّيِّ وَإِدْغَامِ أَبِي عَمْرٍو (وَاسْطَّاعُوا) لِحَمْزَةَ وَإِسْكَانِ (نِعْمَّا وَيَهْدِّي) ، وَإِشْبَاعِ الْيَاءِ فِي (نَرْتَعِي، وَيَتَّقِي وَيَصْبِرْ) وَ (أَفْئِيدَةٌ مِنَ النَّاسِ) ، وَضَمِّ الْمَلَائِكَةُ اسْجُدُوا، وَنَصْبِ (كُنْ فَيَكُونَ) ، وَخَفْضِ (وَالْأَرْحَامِ) ، وَنَصْبِ (لِيُجْزَى قَوْمًا) ، وَالْفَصْلِ بَيْنَ الْمُضَافَيْنِ فِي الْأَنْعَامِ، وَهَمْزِ (سَأْقَيْهَا) ، وَوَصْلِ (وَإِنَّ الْيَاسَ) ، وَأَلِفِ (إِنَّ هَذَانِ) ، وَتَخْفِيفِ (وَلَا تَتَّبِعَانِ) ، وَقِرَاءَةِ (لَيْكَةَ) فِي الشُّعَرَاءِ وَ " ص " وَغَيْرِ ذَلِكَ.
(قَالَ الْحَافِظُ أَبُو عَمْرٍو الدَّانِيُّ) فِي كِتَابِهِ " جَامِعِ الْبَيَانِ " بَعْدَ ذِكْرِ إِسْكَانِ (بَارِئِكُمْ) وَ (يَأْمُرُكُمْ) لِأَبِي عَمْرٍو وَحِكَايَةِ إِنْكَارِ سِيبَوَيْهِ لَهُ فَقَالَ أَعْنِي الدَّانِيَّ: وَالْإِسْكَانُ أَصَحُّ فِي النَّقْلِ وَأَكْثَرُ فِي الْأَدَاءِ وَهُوَ الَّذِي أَخْتَارُهُ وَآخُذُ بِهِ، ثُمَّ لَمَّا ذَكَرَ نُصُوصَ رُوَاتِهِ قَالَ: وَأَئِمَّةُ الْقُرَّاءِ لَا تَعْمَلُ فِي شَيْءٍ مِنْ حُرُوفِ الْقُرْآنِ عَلَى الْأَفْشَى فِي اللُّغَةِ

(1/10)


وَالْأَقْيَسِ فِي الْعَرَبِيَّةِ، بَلْ عَلَى الْأَثْبَتِ فِي الْأَثَرِ وَالْأَصَحِّ فِي النَّقْلِ وَالرِّوَايَةِ إِذَا ثَبَتَ عَنْهُمْ لَمْ يَرُدَّهَا قِيَاسُ عَرَبِيَّةٍ وَلَا فُشُوُّ لُغَةٍ ; لِأَنَّ الْقِرَاءَةَ سُنَّةٌ مُتَّبَعَةٌ يَلْزَمُ قَبُولُهَا وَالْمَصِيرُ إِلَيْهَا.
قُلْنَا: وَنَعْنِي بِمُوَافَقَةِ أَحَدِ الْمَصَاحِفِ مَا كَانَ ثَابِتًا فِي بَعْضِهَا دُونَ بَعْضٍ كَقِرَاءَةِ ابْنِ عَامِرٍ (قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا) فِي الْبَقَرَةِ بِغَيْرِ وَاوٍ، وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتَابِ الْمُنِيرِ بِزِيَادَةِ الْبَاءِ فِي الِاسْمَيْنِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَإِنَّ ذَلِكَ ثَابِتٌ فِي الْمُصْحَفِ الشَّامِيِّ، وَكَقِرَاءَةِ ابْنِ كَثِيرٍ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ فِي الْمَوْضِعِ الْأَخِيرِ مِنْ سُورَةِ بَرَاءَةَ بِزِيَادَةِ (مِنْ) ، فَإِنَّ ذَلِكَ ثَابِتٌ فِي الْمُصْحَفِ الْمَكِّيِّ، وَكَذَلِكَ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ.
فِي سُورَةِ الْحَدِيدِ بِحَذْفِ (هُوَ) ، وَكَذَا (سَارِعُوا) بِحَذْفِ الْوَاوِ، وَكَذَا (مِنْهُمَا مُنْقَلَبًا) بِالتَّثْنِيَةِ فِي الْكَهْفِ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ فِي الْقُرْآنِ اخْتَلَفَتِ الْمَصَاحِفُ فِيهَا فَوَرَدَتِ الْقِرَاءَةُ عَنْ أَئِمَّةِ تِلْكَ الْأَمْصَارِ عَلَى مُوَافَقَةِ مُصْحَفِهِمْ، فَلَوْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ كَذَلِكَ فِي شَيْءٍ مِنَ الْمَصَاحِفِ الْعُثْمَانِيَّةِ لَكَانَتِ الْقِرَاءَةُ بِذَلِكَ شَاذَّةً لِمُخَالَفَتِهَا الرَّسْمَ الْمُجْمَعَ عَلَيْهِ، (وَقَوْلُنَا) بَعْدَ ذَلِكَ وَلَوِ احْتِمَالًا نَعْنِي بِهِ مَا يُوَافِقُ الرَّسْمَ وَلَوْ تَقْدِيرًا، إِذْ مُوَافَقَةُ الرَّسْمِ قَدْ تَكُونُ تَحْقِيقًا وَهُوَ الْمُوَافَقَةُ الصَّرِيحَةُ، وَقَدْ تَكُونُ تَقْدِيرًا وَهُوَ الْمُوَافَقَةُ احْتِمَالًا، فَإِنَّهُ قَدْ خُولِفَ صَرِيحُ الرَّسْمِ فِي مَوَاضِعَ إِجْمَاعًا نَحْوَ: (السَّمَوَاتُ وَالصَّلِحَتُ وَالَّيْلِ وَالصَّلَوَةَ وَالزَّكَوَةَ وَالرِّبَوا) ، وَنَحْوَ (لِنَظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ) (وَجيءَ) فِي الْمَوْضِعَيْنِ حَيْثُ كُتِبَ بِنُونٍ وَاحِدَةٍ وَبِأَلِفٍ بَعْدَ الْجِيمِ فِي بَعْضِ الْمَصَاحِفِ، وَقَدْ تُوَافِقُ بَعْضُ الْقِرَاءَاتِ الرَّسْمَ تَحْقِيقًا، وَيُوَافِقُهُ بَعْضُهَا تَقْدِيرًا، نَحْوَ (مَلَكَ يَوْمَ الدِّينِ) فَإِنَّهُ كُتِبَ بِغَيْرِ أَلْفٍ فِي جَمِيعِ الْمَصَاحِفِ، فَقِرَاءَةُ الْحَذْفِ تَحْتَمِلُهُ تَخْفِيفًا كَمَا كُتِبَ مَلِكِ النَّاسِ، وَقِرَاءَةُ الْأَلِفِ مُحْتَمَلَةٌ تَقْدِيرًا كَمَا كُتِبَ مَالِكَ الْمُلْكِ، فَتَكُونُ الْأَلِفُ حُذِفَتِ اخْتِصَارًا، وَكَذَلِكَ (النَّشَاةُ) حَيْثُ كُتِبَتْ بِالْأَلِفِ وَافَقَتْ قِرَاءَةَ الْمَدِّ تَحْقِيقًا وَوَافَقَتْ قِرَاءَةَ الْقَصْرِ تَقْدِيرًا، إِذْ يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ الْأَلِفُ صُورَةَ الْهَمْزَةِ عَلَى غَيْرِ الْقِيَاسِ كَمَا كُتِبَ مَوْئِلًا، وَقَدْ تُوَافِقُ اخْتِلَافَاتُ الْقِرَاءَاتِ الرَّسْمَ تَحْقِيقًا نَحْوَ

(1/11)


أَنْصَارُ اللَّهِ، وَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ، وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَيَعْمَلُونَ وَهَيْتَ لَكَ وَنَحْوَ ذَلِكَ مِمَّا يَدُلُّ تَجَرُّدُهُ عَنِ النُّقَطِ وَالشَّكْلِ وَحَذْفُهُ وَإِثْبَاتُهُ عَلَى فَضْلٍ عَظِيمٍ لِلصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - فِي عِلْمِ الْهِجَاءِ خَاصَّةً، وَفَهْمٍ ثَاقِبٍ فِي تَحْقِيقِ كُلِّ عِلْمٍ، فَسُبْحَانَ مَنْ أَعْطَاهُمْ وَفَضَّلَهُمْ عَلَى سَائِرِ هَذِهِ الْأُمَّةِ.
(وَلِلَّهِ دَرُّ الْإِمَامِ الشَّافِعِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -) حَيْثُ يَقُولُ فِي وَصْفِهِمْ فِي رِسَالَتِهِ الَّتِي رَوَاهَا عَنْهُ الزَّعْفَرَانِيُّ مَا هَذَا نَصُّهُ: وَقَدْ أَثْنَى اللَّهُ - تَبَارَكَ وَتَعَالَى - عَلَى أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - فِي الْقُرْآنِ وَالتَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ، وَسَبَقَ لَهُمْ عَلَى لِسَانِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - مِنَ الْفَضْلِ مَا لَيْسَ لِأَحَدٍ بَعْدَهُمْ، فَرَحِمَهُمُ اللَّهُ وَهَنَّأَهُمْ بِمَا أَثَابَهُمْ مِنْ ذَلِكَ بِبُلُوغِ أَعْلَى مَنَازِلِ الصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ، أَدَّوْا إِلَيْنَا سُنَنَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَشَاهَدُوهُ وَالْوَحْيُ يَنْزِلُ عَلَيْهِ، فَعَلِمُوا مَا أَرَادَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَامًّا وَخَاصًّا وَعَزْمًا وَإِرْشَادًا وَعَرَفُوا مِنْ سُنَنِهِ مَا عَرَفْنَا وَجَهِلْنَا وَهُمْ فَوْقَنَا فِي كُلِّ عِلْمٍ وَاجْتِهَادٍ وَوَرَعٍ وَعَقْلٍ وَأَمْرٍ اسْتُدْرِكَ بِهِ عِلْمٌ وَاسْتُنْبِطَ بِهِ، وَآرَاؤُهُمْ لَنَا أَحْمَدُ وَأَوْلَى بِنَا مِنْ رَأْيِنَا عِنْدَ أَنْفُسِنَا.
(قُلْتُ) : فَانْظُرْ كَيْفَ كَتَبُوا الصِّرَاطَ وَالْمُصَيْطِرُونَ بِالصَّادِ الْمُبْدَلَةِ مِنَ السِّينِ، وَعَدَلُوا عَنِ السِّينِ الَّتِي هِيَ الْأَصْلُ لِتَكُونَ قِرَاءَةُ السِّيِنِ وَإِنْ خَالَفَتِ الرَّسْمَ مِنْ وَجْهٍ قَدْ أَتَتْ عَلَى الْأَصْلِ فَيَعْتَدِلَانِ، وَتَكُونَ قِرَاءَةُ الْإِشْمَامِ مُحْتَمَلَةً، وَلَوْ كُتِبَ ذَلِكَ بِالسِّينِ عَلَى الْأَصْلِ لَفَاتَ ذَلِكَ وَعُدَّتْ قِرَاءَةُ غَيْرِ السِّينِ مُخَالِفَةً لِلرَّسْمِ وَالْأَصْلِ، وَلِذَلِكَ كَانَ الْخِلَافُ فِي الْمَشْهُورِ فِي بَسْطَةً الْأَعْرَافِ دُونَ بَسْطَةً الْبَقَرَةِ ; لِكَوْنِ حَرْفِ الْبَقَرَةِ كُتِبَ بِالسِّينِ وَحَرْفِ الْأَعْرَافِ بِالصَّادِ، عَلَى أَنَّ مُخَالِفَ صَرِيحِ الرَّسْمِ فِي حَرْفٍ مُدْغَمٍ أَوْ مُبْدَلٍ أَوْ ثَابِتٍ أَوْ مَحْذُوفٍ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ لَا يُعَدُّ مُخَالِفًا إِذَا ثَبَتَتِ الْقِرَاءَةُ بِهِ وَوَرَدَتْ مَشْهُورَةً مُسْتَفَاضَةً، أَلَا تَرَى أَنَّهُمْ لَمْ يَعُدُّوا إِثْبَاتَ يَاءَاتِ الزَّوَائِدِ وَحَذْفَ يَاءِ تَسْئَلْنِي فِي الْكَهْفِ، وَقِرَاءَةَ (وَأَكُونُ مِنَ الصَّالِحِينَ) وَالظَّاءَ مِنْ بِضَنِينٍ وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنْ مُخَالَفَةِ الرَّسْمِ الْمَرْدُودِ، فَإِنَّ الْخِلَافَ

(1/12)


فِي ذَلِكَ يُغْتَفَرُ، إِذْ هُوَ قَرِيبٌ يَرْجِعُ إِلَى مَعْنًى وَاحِدٍ وَتُمْشِيهِ صِحَّةُ الْقِرَاءَةِ وَشُهْرَتُهَا وَتَلَقِّيهَا بِالْقَبُولِ، وَذَلِكَ بِخِلَافِ زِيَادَةِ كَلِمَةٍ وَنُقْصَانِهَا وَتَقْدِيمِهَا وَتَأْخِيرِهَا حَتَّى وَلَوْ كَانَتْ حَرْفًا وَاحِدًا مِنْ حُرُوفِ الْمَعَانِي، فَإِنَّ حُكْمَهُ فِي حُكْمِ الْكَلِمَةِ لَا يُسَوِّغُ مُخَالَفَةَ الرَّسْمِ فِيهِ، وَهَذَا هُوَ الْحَدُّ الْفَاصِلُ فِي حَقِيقَةِ اتِّبَاعِ الرَّسْمِ وَمُخَالَفَتِهِ، (وَقَوْلُنَا) وَصَحَّ سَنَدُهَا، فَإِنَّا نَعْنِي بِهِ أَنْ يَرْوِيَ تِلْكَ الْقِرَاءَةَ الْعَدْلُ الضَّابِطُ عَنْ مِثْلِهِ كَذَا حَتَّى تَنْتَهِيَ، وَتَكُونَ مَعَ ذَلِكَ مَشْهُورَةً عِنْدَ أَئِمَّةٍ هَذَا الشَّأْنَ الضَّابِطِينَ لَهُ غَيْرَ مَعْدُودَةٍ عِنْدَهُمْ مِنَ الْغَلَطِ أَوْ مِمَّا شَذَّ بِهَا بَعْضُهُمْ، وَقَدْ شَرَطَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ التَّوَاتُرَ فِي هَذَا الرُّكْنِ وَلَمْ يَكْتَفِ فِيهِ بِصِحَّةِ السَّنَدِ، وَزَعَمَ أَنَّ الْقُرْآنَ لَا يَثْبُتُ إِلَّا بِالتَّوَاتُرِ، وَإِنَّ مَا جَاءَ مَجِيءَ الْآحَادِ لَا يَثْبُتُ بِهِ قُرْآنٌ، وَهَذَا مَا لَا يَخْفَى مَا فِيهِ، فَإِنَّ التَّوَاتُرَ إِذَا ثَبَتَ لَا يُحْتَاجُ فِيهِ إِلَى الرُّكْنَيْنِ الْأَخِيرَيْنِ مِنَ الرَّسْمِ وَغَيْرِهِ إِذْ مَا ثَبَتَ مِنْ أَحْرُفِ الْخِلَافِ مُتَوَاتِرًا عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَجَبَ قَبُولُهُ وَقُطِعَ بِكَوْنِهِ قُرْآنًا، سَوَاءٌ وَافَقَ الرَّسْمَ أَمْ خَالَفَهُ وَإِذَا اشْتَرَطْنَا التَّوَاتُرَ فِي كُلِّ حَرْفٍ مِنْ حُرُوفِ الْخِلَافِ انْتَفَى كَثِيرٌ مِنْ أَحْرُفِ الْخِلَافِ الثَّابِتِ عَنْ هَؤُلَاءِ الْأَئِمَّةِ السَّبْعَةِ وَغَيْرِهِمْ وَقَدْ كُنْتُ قَبْلُ أَجْنَحُ إِلَى هَذَا الْقَوْلِ، ثُمَّ ظَهَرَ فَسَادُهُ وَمُوَافَقَةُ أَئِمَّةِ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ.
(قَالَ) الْإِمَامُ الْكَبِيرُ أَبُو شَامَةَ فِي " مُرْشِدِهِ ": وَقَدْ شَاعَ عَلَى أَلْسِنَةِ جَمَاعَةٍ مِنَ الْمُقْرِئِينَ الْمُتَأَخِّرِينَ وَغَيْرِهِمْ مِنَ الْمُقَلِّدِينَ أَنَّ الْقِرَاءَاتِ السَّبْعَ كُلَّهَا مُتَوَاتِرَةٌ، أَيْ كُلُّ فَرْدٍ فَرْدٍ مَا رُوِيَ عَنْ هَؤُلَاءِ الْأَئِمَّةِ السَّبْعَةِ، قَالُوا وَالْقَطْعُ بِأَنَّهَا مُنَزَّلَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاجِبٌ وَنَحْنُ بِهَذَا نَقُولُ، وَلَكِنْ فِيمَا اجْتَمَعَتْ عَلَى نَقْلِهِ عَنْهُمُ الطُّرُقُ وَاتَّفَقَتْ عَلَيْهِ الْفِرَقُ مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ لَهُ مَعَ أَنَّهُ شَاعَ وَاشْتَهَرَ وَاسْتَفَاضَ، فَلَا أَقَلَّ مِنَ اشْتِرَاطِ ذَلِكَ إِذَا لَمْ يَتَّفِقِ التَّوَاتُرُ فِي بَعْضِهَا.
(وَقَالَ) الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ إِبْرَاهِيمُ بْنُ عُمَرَ الْجَعْبَرِيُّ أَقُولُ: الشَّرْطُ وَاحِدٌ وَهُوَ صِحَّةُ النَّقْلِ، وَيَلْزَمُ الْآخَرَانِ فَهَذَا ضَابِطٌ يُعْرَفُ مَا هُوَ مِنَ الْأَحْرُفِ السَّبْعَةِ وَغَيْرِهَا، فَمَنْ أَحْكَمَ مَعْرِفَةَ حَالِ النَّقَلَةِ وَأَمْعَنَ فِي الْعَرَبِيَّةِ وَأَتْقَنَ الرَّسْمَ انْحَلَّتْ لَهُ هَذِهِ الشُّبْهَةُ.
(وَقَالَ) الْإِمَامُ أَبُو مُحَمَّدٍ مَكِّيٌّ فِي مُصَنَّفِهِ الَّذِي أَلْحَقَهُ بِكِتَابِهِ " الْكَشْفِ " لَهُ: فَإِنْ سَأَلَ

(1/13)


سَائِلٌ فَقَالَ: فَمَا الَّذِي يُقْبَلُ مِنَ الْقُرْآنِ الْآنَ فَيُقْرَأُ بِهِ؟ وَمَا الَّذِي لَا يُقْبَلُ وَلَا يُقْرَأُ بِهِ؟ وَمَا الَّذِي يُقْبَلُ وَلَا يُقْرَأُ بِهِ؟ فَالْجَوَابُ أَنَّ جَمِيعَ مَا رُوِيَ فِي الْقُرْآنِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: قِسْمٌ يُقْرَأُ بِهِ الْيَوْمَ، وَذَلِكَ مَا اجْتَمَعَ فِيهِ ثَلَاثُ خِلَالٍ، وَهُنَّ: أَنْ يُنْقَلَ عَنِ الثِّقَاتِ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَيَكُونَ وَجْهُهُ فِي الْعَرَبِيَّةِ الَّتِي نَزَلَ بِهَا الْقُرْآنُ سَائِغًا، وَيَكُونَ مُوَافِقًا لِخَطِّ الْمُصْحَفِ. فَإِذَا اجْتَمَعَتْ فِيهِ هَذِهِ الْخِلَالُ الثَّلَاثُ قُرِئَ بِهِ وَقُطِعَ عَلَى مُغَيَّبِهِ وَصِحَّتِهِ وَصِدْقِهِ ; لِأَنَّهُ أُخِذَ عَنْ إِجْمَاعٍ مِنْ جِهَةِ مُوَافَقَةِ خَطِّ الْمُصْحَفِ، وَكَفَرَ مَنْ جَحَدَهُ.
قَالَ: (وَالْقِسْمُ الثَّانِي) مَا صَحَّ نَقْلُهُ عَنِ الْآحَادِ وَصَحَّ وَجْهُهُ فِي الْعَرَبِيَّةِ وَخَالَفَ لَفْظُهُ خَطَّ الْمُصْحَفِ، فَهَذَا يُقْبَلُ وَلَا يُقْرَأُ بِهِ لِعِلَّتَيْنِ: إِحْدَاهُمَا أَنَّهُ لَمْ يُؤْخَذْ بِإِجْمَاعٍ، إِنَّمَا أُخِذَ بِأَخْبَارِ الْآحَادِ وَلَا يَثْبُتُ قُرْآنٌ يُقْرَأُ بِهِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ، وَالْعِلَّةُ الثَّانِيَةُ أَنَّهُ مُخَالِفٌ لِمَا قَدْ أُجْمِعَ عَلَيْهِ فَلَا يُقْطَعُ عَلَى مُغَيَّبِهِ وَصِحَّتِهِ وَمَا لَمْ يُقْطَعْ عَلَى صِحَّتِهِ لَا يَجُوزُ الْقِرَاءَةُ بِهِ، وَلَا يَكْفُرُ مَنْ جَحَدَهُ، وَلَبِئْسَ مَا صَنَعَ إِذَا جَحَدَهُ.
قَالَ (وَالْقِسْمُ الثَّالِثِ) هُوَ مَا نَقَلَهُ غَيْرُ ثِقَةٍ أَوْ نَقَلَهُ ثِقَةٌ وَلَا وَجْهَ لَهُ فِي الْعَرَبِيَّةِ، فَهَذَا لَا يُقْبَلُ وَإِنْ وَافَقَ خَطَّ الْمُصْحَفِ، قَالَ: وَلِكُلِّ صِنْفٍ مِنْ هَذِهِ الْأَقْسَامِ تَمْثِيلٌ تَرَكْنَا ذِكْرَهُ اخْتِصَارًا. (قُلْتُ) : وَمِثَالُ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ مَالِكِ وَ (مَلِكِ) وَ (يَخْدَعُونَ) وَيُخَادِعُونَ (وَأَوْصَى) وَوَصَّى وَ (يَطَّوَّعُ) وَتَطَوَّعَ وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنَ الْقِرَاءَاتِ الْمَشْهُورَةِ. وَمِثَالُ الْقِسْمِ الثَّانِي قِرَاءَةُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ وَأَبِي الدَّرْدَاءِ: (وَالذَّكَرَ وَالْأُنْثَى) فِي وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى وَقِرَاءَةُ ابْنُ عَبَّاسٍ (وَكَانَ أَمَامَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ صَالِحَةٍ غَصْبًا وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ كَافِرًا) وَنَحْوَ ذَلِكَ مِمَّا ثَبَتَ بِرِوَايَاتِ الثِّقَاتِ، (وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ) فِي جَوَازِ الْقِرَاءَةِ بِذَلِكَ فِي الصَّلَاةِ، فَأَجَازَهَا بَعْضُهُمْ لِأَنَّ الصَّحَابَةَ وَالتَّابِعِينَ كَانُوا يَقْرَءُونَ بِهَذِهِ الْحُرُوفِ فِي الصَّلَاةِ، وَهَذَا أَحَدُ الْقَوْلَيْنِ لِأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَإِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ مَالِكٍ وَأَحْمَدَ. وَأَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ عَلَى عَدَمِ الْجَوَازِ ; لِأَنَّ هَذِهِ الْقِرَاءَاتِ لَمْ تَثْبُتْ مُتَوَاتِرَةً عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَإِنْ ثَبَتَتْ بِالنَّقْلِ فَإِنَّهَا مَنْسُوخَةٌ بِالْعَرْضَةِ الْأَخِيرَةِ أَوْ بِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ عَلَى الْمُصْحَفِ الْعُثْمَانِيِّ، أَوْ أَنَّهَا

(1/14)


لَمْ تُنْقَلْ إِلَيْنَا نَقْلًا يَثْبُتُ بِمِثْلِهِ الْقُرْآنُ أَوْ أَنَّهَا لَمْ تَكُنْ مِنَ الْأَحْرُفِ السَّبْعَةِ، كُلُّ هَذِهِ مَآخِذُ لِلْمَانِعِينَ، (وَتَوَسَّطَ بَعْضُهُمْ) فَقَالَ: إِنْ قَرَأَ بِهَا فِي الْقِرَاءَةِ الْوَاجِبَةِ وَهِيَ الْفَاتِحَةُ عِنْدَ الْقُدْرَةِ عَلَى غَيْرِهَا لَمْ تَصِحَّ صَلَاتُهُ ; لِأَنَّهُ لَمْ يَتَيَقَّنْ أَنَّهُ أَدَّى الْوَاجِبَ مِنَ الْقِرَاءَةِ لِعَدَمِ ثُبُوتِ الْقُرْآنِ بِذَلِكَ، وَإِنْ قَرَأَ بِهَا فِيمَا لَا يَجِبُ لَمْ تَبْطُلْ ; لِأَنَّهُ لَمْ يَتَيَقَّنْ أَنَّهُ أَتَى فِي الصَّلَاةِ بِمُبْطِلٍ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مِنَ الْحُرُوفِ الَّتِي أُنْزِلَ عَلَيْهَا الْقُرْآنُ، وَهَذَا يُبْتَنَى عَلَى أَصْلٍ، وَهُوَ أَنَّ مَا لَمْ يَثْبُتْ كَوْنُهُ مِنَ الْحُرُوفِ السَّبْعَةِ، فَهَلْ يَجِبُ الْقَطْعُ بِكَوْنِهِ لَيْسَ مِنْهَا؟
فَالَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ أَنَّهُ لَا يَجِبُ الْقَطْعُ بِذَلِكَ، إِذْ لَيْسَ ذَلِكَ مِمَّا وَجَبَ عَلَيْنَا أَنْ يَكُونَ الْعِلْمُ بِهِ فِي النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ قَطْعِيًّا وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ عِنْدَنَا، وَإِلَيْهِ أَشَارَ مَكِّيٌّ بِقَوْلِهِ: وَلَبِئْسَ مَا صَنَعَ إِذَا جَحَدَهُ. وَذَهَبَ بَعْضُ أَهْلِ الْكَلَامِ إِلَى وُجُوبِ الْقَطْعِ بِنَفْيِهِ حَتَّى قَطَعَ بَعْضُهُمْ بِخَطَأِ مَنْ لَمْ يُثْبِتِ الْبَسْمَلَةَ مِنَ الْقُرْآنِ فِي غَيْرِ سُورَةِ النَّمْلِ، وَعَكَسَ بَعْضُهُمْ فَقَطَعَ بِخَطَأِ مَنْ أَثْبَتَهَا ; لِزَعْمِهِمْ أَنَّ مَا كَانَ مِنْ مَوَارِدِ الِاجْتِهَادِ فِي الْقُرْآنِ فَإِنَّهُ يَجِبُ الْقَطْعُ بِنَفْيِهِ، وَالصَّوَابُ أَنَّ كُلًّا مِنَ الْقَوْلَيْنِ حَقٌّ، وَأَنَّهَا آيَةٌ مِنَ الْقُرْآنِ فِي بَعْضِ الْقِرَاءَاتِ وَهِيَ قِرَاءَةُ الَّذِينَ يَفْصِلُونَ بِهَا بَيْنَ السُّورَتَيْنِ، وَلَيْسَتْ آيَةً فِي قِرَاءَةِ مَنْ لَمْ يَفْصِلْ بِهَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَكَانَ بَعْضُ أَئِمَّتِنَا يَقُولُ: وَعَلَى قَوْلِ مَنْ حَرَّمَ الْقِرَاءَةَ بِالشَّاذِّ يَكُونُ عَالِمٌ مِنَ الصَّحَابَةِ وَأَتْبَاعِهِمْ قَدِ ارْتَكَبُوا مُحَرَّمًا بِقِرَاءَتِهِمْ بِالشَّاذِّ، فَيَسْقُطُ الِاحْتِجَاجُ بِخَبَرِ مَنْ يَرْتَكِبُ الْمُحَرَّمَ دَائِمًا وَهُمْ نَقَلَةُ الشَّرِيعَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ، فَيَسْقُطُ مَا نَقَلُوهُ فَيَفْسُدُ عَلَى قَوْلِ هَؤُلَاءِ نِظَامُ الْإِسْلَامِ وَالْعِيَاذُ بِاللَّهِ.
قَالَ: وَيَلْزَمُ أَيْضًا أَنَّ الَّذِينَ قَرَءُوا بِالشَّوَاذِّ لَمْ يُصَلُّوا قَطُّ ; لِأَنَّ تِلْكَ الْقِرَاءَةِ مُحَرَّمَةٌ وَالْوَاجِبُ لَا يَتَأَدَّى بِفِعْلِ الْمُحَرَّمِ وَكَانَ مُجْتَهِدُ الْعَصْرِ أَبُو الْفَتْحِ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ دَقِيقِ الْعِيدِ يَسْتَشْكِلُ الْكَلَامَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَيَقُولُ: الشَّوَاذُّ نُقِلَتْ نَقْلَ آحَادٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَيُعْلَمُ ضَرُورَةُ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَرَأَ بِشَاذٍّ مِنْهَا وَإِنْ لَمْ يُعَيَّنْ، قَالَ: فَتِلْكَ الْقِرَاءَةُ تَوَاتَرَتْ وَإِنْ لَمْ تَتَعَيَّنْ بِالشَّخْصِ، فَكَيْفَ يُسَمَّى شَاذًّا وَالشَّاذُّ لَا يَكُونُ مُتَوَاتِرًا؟
قُلْتُ: وَقَدْ تَقَدَّمَ آنِفًا مَا يُوَضِّحُ هَذِهِ الْإِشْكَالَاتِ

(1/15)


مِنْ مَآخِذَ مِنْ مَنْعِ الْقِرَاءَةِ بِالشَّاذِّ، وَقَضِيَّةُ ابْنِ شَنَبُوذَ فِي مَنْعِهِ مِنَ الْقِرَاءَةِ بِهِ مَعْرُوفَةٌ وَقِصَّتُهُ فِي ذَلِكَ مَشْهُورَةٌ ذَكَرْنَاهَا فِي كِتَابِ الطَّبَقَاتِ، وَأَمَّا إِطْلَاقُ مَنْ لَا يَعْلَمُ عَلَى مَا لَمْ يَكُنْ عَنِ السَّبْعَةِ الْقُرَّاءِ، أَوْ مَا لَمْ يَكُنْ فِي هَذِهِ الْكُتُبِ الْمَشْهُورَةِ كَالشَّاطِبِيَّةِ وَالتَّيْسِيرِ أَنَّهُ شَاذٌّ، فَإِنَّهُ اصْطِلَاحٌ مِمَّنْ لَا يَعْرِفُ حَقِيقَةَ مَا يَقُولُ كَمَا سَنُبَيِّنُهُ فِيمَا بَعْدُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
وَمِثَالُ (الْقِسْمِ الثَّالِثِ) مِمَّا نَقَلَهُ غَيْرُ ثِقَةٍ كَثِيرٌ مِمَّا فِي كُتُبِ الشَّوَاذِّ مِمَّا غَالِبُ إِسْنَادِهِ ضَعِيفٌ كَقِرَاءَةِ ابْنِ السَّمَيْفَعِ وَأَبِي السَّمَّالِ وَغَيْرِهِمَا فِي نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ (نُنَحِّيكَ) : بِالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ، لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً بِفَتْحِ سُكُونِ اللَّامِ، وَكَالْقِرَاءَةِ الْمَنْسُوبَةِ إِلَى الْإِمَامِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - الَّتِي جَمَعَهَا أَبُو الْفَضْلِ مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ الْخُزَاعِيُّ وَنَقَلَهَا عَنْهُ أَبُو الْقَاسِمِ الْهُذَلِيُّ وَغَيْرُهُ، فَإِنَّهَا لَا أَصْلَ لَهَا، قَالَ أَبُو الْعَلَاءِ الْوَاسِطِيُّ: إِنَّ الْخُزَاعِيَّ وَضَعَ كِتَابًا فِي الْحُرُوفِ نَسَبَهُ إِلَى أَبِي حَنِيفَةَ فَأَخَذْتُ خَطَّ الدَّارَقُطْنِيِّ وَجَمَاعَةٍ أَنَّ الْكِتَابَ مَوْضُوعٌ لَا أَصْلَ لَهُ.
(قُلْتُ) : وَقَدْ رُوِّيتُ الْكِتَابَ الْمَذْكُورَ وَمِنْهُ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ بِرَفْعِ الْهَاءِ وَنَصْبِ الْهَمْزَةِ، وَقَدْ رَاجَ ذَلِكَ عَلَى أَكْثَرِ الْمُفَسِّرِينَ وَنَسَبَهَا إِلَيْهِ وَتَكَلَّفَ تَوْجِيهَهَا، وَإِنَّ أَبَا حَنِيفَةَ لَبَرِيءٌ مِنْهَا، وَمِثَالُ مَا نَقَلَهُ ثِقَةٌ وَلَا وَجْهَ لَهُ فِي الْعَرَبِيَّةِ وَلَا يَصْدُرُ مِثْلُ هَذَا إِلَّا عَلَى وَجْهِ السَّهْوِ وَالْغَلَطِ وَعَدَمِ الضَّبْطِ وَيَعْرِفُهُ الْأَئِمَّةُ الْمُحَقِّقُونَ وَالْحُفَّاظُ الضَّابِطُونَ وَهُوَ قَلِيلٌ جِدًّا، بَلْ لَا يَكَادُ يُوجَدُ، وَقَدْ جَعَلَ بَعْضُهُمْ مِنْهُ رِوَايَةَ خَارِجَةَ عَنْ نَافِعٍ (مَعَائِشَ) بِالْهَمْزِ، وَمَا رَوَاهُ ابْنُ بِكَّارٍ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ يَحْيَى عَنِ ابْنِ عَامِرٍ مِنْ فَتْحِ يَاءِ (أَدْرِيَ أَقَرِيبٌ) مَعَ إِثْبَاتِ الْهَمْزَةِ، وَهِيَ رِوَايَةُ زَيْدٍ وَأَبِي حَاتِمٍ عَنْ يَعْقُوبَ، وَمَا رَوَاهُ أَبُو عَلِيٍّ الْعَطَّارُ عَنِ الْعَبَّاسِ عَنْ أَبِي عَمْرٍو (سَاحِرَانِ تَظَّاهَرَا) بِتَشْدِيدِ الظَّاءِ، وَالنَّظَرُ فِي ذَلِكَ لَا يَخْفَى، وَيَدْخُلُ فِي هَذَيْنَ الْقِسْمَيْنِ مَا يَذْكُرُهُ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ شُرَّاحِ الشَّاطِبِيَّةِ فِي وَقْفِ حَمْزَةَ عَلَى نَحْوِ (أَسْمَايِهِمْ) وَ (أُولَيِكَ) بِيَاءٍ خَالِصَةٍ، وَنَحْوِ (شُرَكَاوُهُمْ) وَ (أَحِبَّاوُهُ) بِوَاوٍ خَالِصَةٍ، وَنَحْوِ (بَدَاكُمْ) وَ (اخَاهُ) بِأَلِفٍ خَالِصَةٍ، وَنَحْوِ (رَاى: رَا، وَتَرَاى: تَرَا، وَاشْمَازَّتْ: اشْمَزَّتْ، وَفَادَّارَاتُمْ: فَادَّارَتُّمْ) بِالْحَذْفِ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ مِمَّا يُسَمُّونَهُ التَّخْفِيفَ الرَّسْمِيَّ وَلَا يَجُوزُ فِي وَجْهٍ

(1/16)


مِنْ وُجُوهِ الْعَرَبِيَّةِ، فَإِنَّهُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ مَنْقُولًا عَنْ ثِقَةٍ وَلَا سَبِيلَ إِلَى ذَلِكَ فَهُوَ مِمَّا لَا يُقْبَلُ، إِذْ لَا وَجْهَ لَهُ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مَنْقُولًا عَنْ غَيْرِ ثِقَةٍ فَمَنْعُهُ أَحْرَى وَرَدُّهُ أَوْلَى، مَعَ أَنِّي تَتَبَّعْتُ ذَلِكَ فَلَمْ أَجِدْ مَنْصُوصًا لِحَمْزَةَ لَا بِطُرُقٍ صَحِيحَةٍ وَلَا ضَعِيفَةٍ، وَسَيَأْتِي بَيَانُ ذَلِكَ فِي بَابِهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، وَبَقِيَ قِسْمٌ مَرْدُودٌ أَيْضًا وَهُوَ مَا وَافَقَ الْعَرَبِيَّةَ وَالرَّسْمَ وَلَمْ يُنْقَلِ الْبَتَّةَ، فَهَذَا رَدُّهُ أَحَقُّ وَمَنْعُهُ أَشَدُّ وَمُرْتَكِبُهُ مُرْتَكِبٌ لِعَظِيمٍ مِنَ الْكَبَائِرِ، وَقَدْ ذُكِرَ جَوَازُ ذَلِكَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ مِقْسَمٍ الْبَغْدَادِيِّ الْمُقْرِيِّ النَّحْوِيِّ، وَكَانَ بَعْدَ الثَّلَاثِمِائَةِ.
قَالَ الْإِمَامُ أَبُو طَاهِرِ بْنُ أَبِي هَاشِمٍ فِي كِتَابِهِ الْبَيَانِ: وَقَدْ نَبَغَ نَابِغٌ فِي عَصْرِنَا فَزَعَمَ أَنَّ كُلَّ مَنْ صَحَّ عِنْدَهُ وَجْهٌ فِي الْعَرَبِيَّةِ بِحَرْفٍ مِنَ الْقُرْآنِ يُوَافِقُ الْمُصْحَفَ فَقِرَاءَتُهُ جَائِزَةٌ فِي الصَّلَاةِ وَغَيْرِهَا، فَابْتَدَعَ بِدْعَةً ضَلَّ بِهَا عَنْ قَصْدِ السَّبِيلِ.
(قُلْتُ) : وَقَدْ عُقِدَ لَهُ بِسَبَبِ ذَلِكَ مَجْلِسٌ بِبَغْدَادَ حَضَرَهُ الْفُقَهَاءُ وَالْقُرَّاءُ وَأَجْمَعُوا عَلَى مَنْعِهِ، وَأُوقِفَ لِلضَّرْبِ فَتَابَ وَرَجَعَ وَكُتِبَ عَلَيْهِ بِذَلِكَ مَحْضَرٌ كَمَا ذَكَرَهُ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرٍ الْخَطِيبُ فِي تَارِيخِ بَغْدَادَ، وَأَشَرْنَا إِلَيْهِ فِي الطَّبَقَاتِ، وَمِنْ ثَمَّ امْتَنَعَتِ الْقِرَاءَةُ بِالْقِيَاسِ الْمُطْلَقِ وَهُوَ الَّذِي لَيْسَ لَهُ أَصْلٌ فِي الْقِرَاءَةِ يُرْجَعُ إِلَيْهِ وَلَا رُكْنٌ وَثِيقٌ فِي الْأَدَاءِ يُعْتَمَدُ عَلَيْهِ كَمَا رُوِّينَا عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - مِنَ الصَّحَابَةِ، وَعَنِ ابْنِ الْمُنْكَدِرِ وَعُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ وَعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَعَامِرٍ الشَّعْبِيِّ مِنَ التَّابِعَيْنِ أَنَّهُمْ قَالُوا: الْقِرَاءَةُ سُنَّةٌ يَأْخُذُهَا الْآخِرُ عَنِ الْأَوَّلِ فَاقْرَءُوا كَمَا عُلِّمْتُمُوهُ، وَلِذَلِكَ كَانَ الْكَثِيرُ مِنْ أَئِمَّةِ الْقِرَاءَةِ، كَنَافِعٍ وَأَبِي عَمْرٍو يَقُولُ: لَوْلَا أَنَّهُ لَيْسَ لِي أَنْ أَقْرَأَ إِلَّا بِمَا قَرَأْتُ، لَقَرَأْتُ حَرْفَ كَذَا كَذَا وَحَرْفَ كَذَا كَذَا، (أَمَّا) إِذَا كَانَ الْقِيَاسُ عَلَى إِجْمَاعٍ انْعَقَدَ، أَوْ عَنْ أَصْلٍ يُعْتَمَدُ فَيَصِيرُ إِلَيْهِ عِنْدَ عَدَمِ النَّصِّ وَغُمُوضِ وَجْهِ الْأَدَاءِ، فَإِنَّهُ مِمَّا يَسُوغُ قَبُولُهُ وَلَا يَنْبَغِي رَدُّهُ لَا سِيَّمَا فِيمَا تَدْعُو إِلَيْهِ الضَّرُورَةُ وَتَمَسُّ الْحَاجَةُ مِمَّا يُقَوِّي وَجْهَ التَّرْجِيحِ وَيُعِينُ عَلَى قُوَّةِ التَّصْحِيحِ، بَلْ قَدْ لَا يُسَمَّى مَا كَانَ كَذَلِكَ قِيَاسًا عَلَى الْوَجْهِ الِاصْطِلَاحِيِّ، إِذْ هُوَ فِي الْحَقِيقَةِ نِسْبَةُ جُزْئِيٍّ إِلَى كُلِّيٍّ كَمِثْلِ مَا اخْتِيرَ فِي تَخْفِيفِ بَعْضِ الْهَمَزَاتِ لِأَهْلِ الْأَدَاءِ وَفِي إِثْبَاتِ

(1/17)


الْبَسْمَلَةِ وَعَدَمِهَا لِبَعْضِ الْقُرَّاءِ، وَنَقْلِ (كِتَابِيَهِ انِّي) وَإِدْغَامِ (مَالِيَهْ هَلَكَ) قِيَاسًا عَلَيْهِ، وَكَذَلِكَ قِيَاسُ (قَالَ رَجُلَانِ، وَقَالَ رَجُلٌ) عَلَى (قَالَ رَبِّ) فِي الْإِدْغَامِ كَمَا ذَكَرَهُ الدَّانِيُّ وَغَيْرُهُ، وَنَحْوُ ذَلِكَ مِمَّا لَا يُخَالِفُ نَصًّا وَلَا يَرُدُّ إِجْمَاعًا وَلَا أَصْلًا مَعَ أَنَّهُ قَلِيلٌ جِدًّا كَمَا سَتَرَاهُ مُبَيَّنًا بَعْدُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَإِلَى ذَلِكَ أَشَارَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي آخِرِ كِتَابِهِ التَّبْصِرَةِ حَيْثُ قَالَ: فَجَمِيعُ مَا ذَكَرْنَاهُ فِي هَذَا الْكِتَابِ يَنْقَسِمُ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ: قِسْمٌ قَرَأْتُ بِهِ وَنَقَلْتُهُ وَهُوَ مَنْصُوصٌ فِي الْكُتُبِ مَوْجُودٌ، وَقِسْمٌ قَرَأْتُ بِهِ وَأَخَذْتُهُ لَفْظًا أَوْ سَمَاعًا وَهُوَ غَيْرُ مَوْجُودٍ فِي الْكُتُبِ، وَقِسْمٌ لَمْ أَقْرَأْ بِهِ وَلَا وَجَدْتُهُ فِي الْكُتُبِ وَلَكِنْ قِسْتُهُ عَلَى مَا قَرَأْتُ بِهِ، إِذْ لَا يُمْكِنُ فِيهِ إِلَّا ذَلِكَ عِنْدَ عَدَمِ الرِّوَايَةِ فِي النَّقْلِ وَالنَّصِّ وَهُوَ الْأَقَلُّ.
(قُلْتُ) : وَقَدْ زَلَّ بِسَبَبِ ذَلِكَ قَوْمٌ وَأَطْلَقُوا قِيَاسَ مَا لَا يُرْوَى عَلَى مَا رُوِيَ، وَمَا لَهُ وَجْهٌ ضَعِيفٌ عَلَى الْوَجْهِ الْقَوِيِّ، كَأَخْذِ بَعْضِ الْأَغْبِيَاءِ بِإِظْهَارِ الْمِيمِ الْمَقْلُوبَةِ مِنَ النُّونِ وَالتَّنْوِينِ، وَقَطْعِ بَعْضِ الْقُرَّاءِ بِتَرْقِيقِ الرَّاءِ السَّاكِنَةِ قَبْلَ الْكَسْرَةِ وَالْيَاءِ، وَإِجَازَةِ بَعْضِ مَنْ بَلَغَنَا عَنْهُ تَرْقِيقَ لَامِ الْجَلَالَةِ تَبَعًا لِتَرْقِيقِ الرَّاءِ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا تَجِدُهُ فِي مَوْضِعِهِ ظَاهِرًا فِي التَّوْضِيحِ مُبَيَّنًا فِي التَّصْحِيحِ مِمَّا سَلَكْنَا فِيهِ طَرِيقَ السَّلَفِ وَلَمْ نَعْدِلْ فِيهِ إِلَى تَمْوِيهِ الْخَلَفِ، وَلِذَلِكَ مَنَعَ بَعْضُ الْأَئِمَّةِ تَرْكِيبَ الْقِرَاءَاتِ بَعْضِهَا بِبَعْضٍ وَخَطَّأَ الْقَارِئَ بِهَا فِي السُّنَّةِ وَالْفَرْضِ، (قَالَ) الْإِمَامُ أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ السَّخَاوِيُّ فِي كِتَابِهِ جَمَالِ الْقُرَّاءِ: وَخَلْطُ هَذِهِ الْقِرَاءَاتِ بَعْضِهَا بِبَعْضٍ خَطَأٌ. (وَقَالَ) الْحَبْرُ الْعَلَّامَةُ أَبُو زَكَرِيَّا النَّوَوِيُّ فِي كِتَابِهِ التِّبْيَانِ: وَإِذَا ابْتَدَأَ الْقَارِئُ بِقِرَاءَةِ شَخْصٍ مِنَ السَّبْعَةِ فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَزَالَ عَلَى تِلْكَ الْقِرَاءَةِ مَا دَامَ لِلْكَلَامِ ارْتِبَاطٌ، فَإِذَا انْقَضَى ارْتِبَاطُهُ فَلَهُ أَنْ يَقْرَأَ بِقِرَاءَةِ آخَرَ مِنَ السَّبْعَةِ وَالْأَوْلَى دَوَامُهُ عَلَى تِلْكَ الْقِرَاءَةِ فِي ذَلِكَ الْمَجْلِسِ.
(قُلْتُ) : وَهَذَا مَعْنَى مَا ذَكَرَهُ أَبُو عَمْرِو بْنُ الصَّلَاحِ فِي فَتَاوِيهِ. وَقَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ الْجَعْبَرِيُّ: وَالتَّرْكِيبُ مُمْتَنِعٌ فِي كَلِمَةٍ وَفِي كَلِمَتَيْنِ إِنْ تَعَلَّقَ أَحَدُهُمَا بِالْآخَرِ وَإِلَّا كُرِهَ.
(قُلْتُ) : وَأَجَازَهَا أَكْثَرُ الْأَئِمَّةِ مُطْلَقًا وَجَعَلَ خَطَأَ مَانِعِي ذَلِكَ

(1/18)


مُحَقَّقًا، وَالصَّوَابُ عِنْدَنَا فِي ذَلِكَ التَّفْصِيلُ وَالْعُدُولُ بِالتَّوَسُّطِ إِلَى سَوَاءِ السَّبِيلِ، فَنَقُولُ: إِنْ كَانَتْ إِحْدَى الْقِرَاءَتَيْنِ مُتَرَتِّبَةً عَلَى الْأُخْرَى فَالْمَنْعُ مِنْ ذَلِكَ مَنْعُ تَحْرِيمٍ، كَمَنْ يَقْرَأُ فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ بِالرَّفْعِ فِيهِمَا، أَوْ بِالنَّصْبِ آخِذًا رَفْعَ آدَمَ مِنْ قِرَاءَةِ غَيْرِ ابْنِ كَثِيرٍ وَرَفْعَ كَلِمَاتٍ مِنْ قِرَاءَةِ ابْنِ كَثِيرٍ، وَنَحْوَ وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا بِالتَّشْدِيدِ مَعَ الرَّفْعِ، أَوْ عَكْسِ ذَلِكَ، وَنَحْوِ أَخَذَ مِيثَاقَكُمْ وَشِبْهُهُ مِمَّا يُرَكَّبُ بِمَا لَا تُجِيزهُ الْعَرَبِيَّةُ وَلَا يَصِحُّ فِي اللُّغَةِ، وَأَمَّا مَا لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ فَإِنَّا نُفَرِّقُ فِيهِ بَيْنَ مَقَامِ الرِّوَايَةِ وَغَيْرِهَا، فَإِنْ قَرَأَ بِذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ الرِّوَايَةِ، فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ أَيْضًا مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ كَذِبٌ فِي الرِّوَايَةِ وَتَخْلِيطٌ عَلَى أَهْلِ الدِّرَايَةِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَى سَبِيلِ النَّقْلِ، بَلْ عَلَى سَبِيلِ الْقِرَاءَةِ وَالتِّلَاوَةِ، فَإِنَّهُ جَائِزٌ صَحِيحٌ مَقَبُولٌ لَا مَنْعَ مِنْهُ وَلَا حَظْرَ، وَإِنْ كُنَّا نَعِيبُهُ عَلَى أَئِمَّةِ الْقِرَاءَاتِ الْعَارِفِينَ بِاخْتِلَافِ الرِّوَايَاتِ مِنْ وَجْهِ تَسَاوِي الْعُلَمَاءِ بِالْعَوَامِّ لَا مِنْ وَجْهِ أَنَّ ذَلِكَ مَكْرُوهٌ أَوْ حَرَامٌ، إِذْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلَى قَلْبِ سَيِّدِ الْمُرْسَلِينَ تَخْفِيفًا عَنِ الْأُمَّةِ، وَتَهْوِينًا عَلَى أَهْلِ هَذِهِ الْمِلَّةِ، فَلَوْ أَوْجَبْنَا عَلَيْهِمْ قِرَاءَةَ كُلِّ رِوَايَةٍ عَلَى حِدَةٍ لَشَقَّ عَلَيْهِمْ تَمْيِيزُ الْقِرَاءَةِ الْوَاحِدَةِ وَانْعَكَسَ الْمَقْصُودُ مِنَ التَّخْفِيفِ وَعَادَ بِالسُّهُولَةِ إِلَى التَّكْلِيفِ، وَقَدْ رُوِّينَا فِي الْمُعْجَمِ الْكَبِيرِ لِلطَّبَرَانِيِّ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْ إِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ قَالَ: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ: (لَيْسَ الْخَطَأُ أَنْ يَقْرَأَ بَعْضَهُ فِي بَعْضٍ، وَلَكِنْ أَنْ يُلْحِقُوا بِهِ مَا لَيْسَ مِنْهُ) .
وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ أُنْزِلَ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ، فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ، مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ وَهَذَا لَفْظُ الْبُخَارِّيِّ عَنْ عُمَرَ، وَفِي لَفْظِ الْبُخَارِيِّ أَيْضًا عَنْ عُمَرَ: سَمِعْتُ هِشَامَ بْنَ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ يَقْرَأُ سُورَةَ الْفُرْقَانِ عَلَى غَيْرِ مَا أَقْرَأَنِيهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْحَدِيثَ.
وَفِي لَفْظِ مُسْلِمٍ عَنْ أُبَيٍّ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ عِنْدَ أَضَاةِ بَنِي غِفَارٍ فَأَتَاهُ جِبْرِيلُ فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكَ أَنْ تَقْرَأَ أُمَّتُكَ الْقُرْآنَ عَلَى حَرْفٍ، فَقَالَ: أَسْأَلُ اللَّهَ مُعَافَاتَهُ وَمَعُونَتَهُ، وَإِنَّ أُمَّتِي لَا تُطِيقُ ذَلِكَ، ثُمَّ أَتَاهُ الثَّانِيَةَ عَلَى حَرْفَيْنِ فَقَالَ لَهُ مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ أَتَاهُ الثَّالِثَةَ بِثَلَاثَةٍ

(1/19)


فَقَالَ لَهُ مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ أَتَاهُ الرَّابِعَةَ فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكَ أَنْ تَقْرَأَ أُمَّتُكَ الْقُرْآنَ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ، فَأَيُّمَا حَرْفٍ قَرَءُوا عَلَيْهِ فَقَدْ أَصَابُوا وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَأَحْمَدُ وَهَذَا لَفْظُهُ مُخْتَصَرًا، وَفِي لَفْظٍ لِلتِّرْمِذِيِّ أَيْضًا عَنْ أُبَيٍّ قَالَ: لَقِيَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جِبْرِيلَ عِنْدَ أَحْجَارِ الْمِرَا قَالَ: فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِجِبْرِيلَ إِنِّي بُعِثْتُ إِلَى أُمَّةِ أُمِّيِّينَ فِيهِمُ الشَّيْخُ الْفَانِي وَالْعَجُوزُ الْكَبِيرَةُ وَالْغُلَامُ، قَالَ: فَمُرْهُمْ فَلْيَقْرَءُوا الْقُرْآنَ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ قَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ صَحِيحٌ. وَفِي لَفْظٍ: فَمَنْ قَرَأَ بِحَرْفٍ مِنْهَا فَهُوَ كَمَا قَرَأَ، وَفِي لَفْظِ حُذَيْفَةَ: فَقُلْتُ: يَا جِبْرِيلُ، إِنِّي أُرْسِلْتُ إِلَى أُمَّةٍ أُمِّيَّةٍ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ وَالْغُلَامِ وَالْجَارِيَةِ وَالشَّيْخِ الْفَانِي الَّذِي لَمْ يَقْرَأْ كِتَابًا قَطُّ، قَالَ: إِنَّ الْقُرْآنَ أُنْزِلَ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ. وَفِي لَفْظٍ لِأَبِي هُرَيْرَةَ: أُنْزِلَ الْقُرْآنُ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ عَلِيمًا حَكِيمًا غَفُورًا رَحِيمًا، وَفِي رِوَايَةٍ لِأُبَيٍّ: " دَخَلْتُ الْمَسْجِدَ أُصَلِّي فَدَخَلَ رَجُلٌ فَافْتَتَحَ النَّحْلَ فَخَالَفَنِي فِي الْقِرَاءَةِ، فَلَمَّا انْفَتَلَ قُلْتُ: مَنْ أَقْرَأَكَ؟ قَالَ: رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ثُمَّ جَاءَ رَجُلٌ يُصَلِّي فَقَرَأَ وَافْتَتَحَ النَّحْلَ فَخَالَفَنِي وَخَالَفَ صَاحِبِي، فَلَمَّا انْفَتَلَ قُلْتُ: مَنْ أَقْرَأَكَ؟ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قَالَ: فَدَخَلَ قَلْبِي مِنَ الشَّكِّ وَالتَّكْذِيبِ أَشَدَّ مِمَّا كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَأَخَذْتُ بِأَيْدِيهِمَا إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقُلْتُ: اسْتَقْرِئْ هَذَيْنِ فَاسْتَقْرَأَ أَحَدَهُمَا، قَالَ: أَحْسَنْتَ. فَدَخَلَ قَلْبِي مِنَ الشَّكِّ وَالتَّكْذِيبِ أَشَدَّ مِمَّا كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، ثُمَّ اسْتَقْرَأَ الْآخَرَ فَقَالَ: أَحْسَنْتَ. فَدَخَلَ صَدْرِي مِنَ الشَّكِّ وَالتَّكْذِيبِ أَشَدَّ مِمَّا كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَضَرَبَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَدْرِي فَقَالَ: أُعِيذُكَ بِاللَّهِ يَا أُبَيُّ مِنَ الشَّكِّ، ثُمَّ قَالَ: جِبْرِيلُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَتَانِي فَقَالَ: إِنَّ رَبَّكَ - عَزَّ وَجَلَّ - يَأْمُرُكَ أَنْ تَقْرَأَ الْقُرْآنَ عَلَى حَرْفٍ وَاحِدٍ، فَقُلْتُ: اللَّهُمَّ خَفِّفْ عَنْ أُمَّتِي فَقَالَ: إِنَّ رَبَّكَ - عَزَّ وَجَلَّ - يَأْمُرُكَ أَنْ تَقْرَأَ الْقُرْآنَ عَلَى حَرْفَيْنِ، فَقُلْتُ: اللَّهُمَّ خَفِّفْ عَنْ أُمَّتِي، ثُمَّ عَادَ فَقَالَ: إِنَّ رَبَّكَ - عَزَّ وَجَلَّ - يَأْمُرُكَ أَنْ تَقْرَأَ الْقُرْآنَ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ وَأَعْطَاكَ بِكُلِّ رَدَّةٍ مَسْأَلَةً " الْحَدِيثَ رَوَاهُ الْحَارِثُ بْنُ أَبِي أُسَامَةَ

(1/20)


فِي مُسْنَدِهِ بِهَذَا اللَّفْظِ، وَفِي لَفْظٍ لِابْنِ مَسْعُودٍ: " فَمَنْ قَرَأَ عَلَى حَرْفٍ مِنْهَا فَلَا يَتَحَوَّلْ إِلَى غَيْرِهِ رَغْبَةً عَنْهُ "، وَفِي لَفْظٍ لِأَبِي بَكْرَةَ: " كُلٌّ شَافٍ كَافٍ مَا لَمْ تَخْتِمْ آيَةَ عَذَابٍ بِرَحْمَةٍ وَآيَةَ رَحْمَةٍ بِعَذَابٍ "، وَهُوَ كَقَوْلِكَ: هَلُمَّ، وَتَعَالَ، وَأَقْبِلْ، وَأَسْرِعْ، وَاذْهَبْ، وَاعْجَلْ. وَفِي لَفْظٍ لِعَمْرِو بْنِ الْعَاصِ: " فَأَيَّ ذَلِكَ قَرَأْتُمْ فَقَدْ أَصَبْتُمْ وَلَا تُمَارُوا فِيهِ، فَإِنَّ الْمِرَاءَ فِيهِ كُفْرٌ ". (وَقَدْ نَصَّ) الْإِمَامُ الْكَبِيرُ أَبُو عُبَيْدٍ الْقَاسِمُ بْنُ سَلَّامٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - عَلَى أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ تَوَاتَرَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
(قُلْتُ) : وَقَدْ تَتَبَّعْتُ طُرُقَ هَذَا الْحَدِيثِ فِي جُزْءٍ مُفْرَدٍ جَمَعْتُهُ فِي ذَلِكَ فَرُوِّينَاهُ مِنْ حَدِيثِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَهِشَامِ بْنِ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ وَأُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ وَمُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ وَأَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ وَحُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ وَأَبِي بَكْرَةَ وَعَمْرِو بْنِ الْعَاصِ وَزَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ وَأَنَسِ بْنِ مَالِكٍ وَسَمُرَةَ بْنِ جُنْدَبٍ وَعُمَرَ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ وَأَبِي جُهَيْمٍ وَأَبِي طَلْحَةَ الْأَنْصَارِيِّ، وَأُمِّ أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيَّةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، وَرَوَى الْحَافِظُ أَبُو يَعْلَى الْمَوْصِلِيُّ فِي مُسْنَدِهِ الْكَبِيرِ أَنَّ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ يَوْمًا وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ: أَذْكُرُ أَنَّ رَجُلَا سَمِعَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: إِنَّ الْقُرْآنَ أُنْزِلَ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ كُلُّهَا شَافٍ كَافٍ لَمَّا قَامَ، فَقَامُوا حَتَّى لَمْ يُحْصَوْا فَشَهِدُوا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: أُنْزِلَ الْقُرْآنُ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ كُلُّهَا شَافٍ كَافٍ فَقَالَ عُثْمَانُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: وَأَنَا أَشْهَدُ مَعَهُمْ، وَقَدْ تَكَلَّمَ النَّاسُ عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ بِأَنْوَاعِ الْكَلَامِ، وَصَنَّفَ الْإِمَامُ الْحَافِظُ أَبُو شَامَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِيهِ كِتَابًا حَافِلًا وَتَكَلَّمَ بَعْدَهُ قَوْمٌ وَجَنَحَ آخَرُونَ إِلَى شَيْءٍ آخَرَ، وَالَّذِي ظَهَرَ لِي أَنَّ الْكَلَامَ عَلَيْهِ يَنْحَصِرُ فِي عَشَرَةِ أَوْجُهٍ:
(الْأَوَّلُ) فِي سَبَبِ وُرُودِهِ.
(الثَّانِي) فِي مَعْنَى الْأَحْرُفِ.
(الثَّالِثُ) فِي الْمَقْصُودِ بِهَا هُنَا.
(الرَّابِعُ) مَا وَجْهُ كَوْنِهَا سَبْعَةً؟
(الْخَامِسُ) عَلَى أَيِّ شَيْءٍ يَتَوَجَّهُ اخْتِلَافُ هَذِهِ السَّبْعَةِ؟
(السَّادِسُ) عَلَى كَمْ مَعْنًى تَشْتَمِلُ هَذِهِ السَّبْعَةُ؟
(السَّابِعُ) هَلْ هَذِهِ السَّبْعَةُ مُتَفَرِّقَةٌ فِي الْقُرْآنِ؟
(الثَّامِنُ) هَلِ الْمَصَاحِفُ الْعُثْمَانِيَّةُ مُشْتَمِلَةٌ عَلَيْهَا؟
(التَّاسِعُ) هَلِ الْقِرَاءَاتُ الَّتِي بَيْنَ أَيْدِي النَّاسِ الْيَوْمَ

(1/21)


هِيَ السَّبْعَةُ أَمْ بَعْضُهَا؟
(الْعَاشِرُ) مَا حَقِيقَةُ هَذَا الِاخْتِلَافِ وَفَائِدَتُهُ؟
فَأَمَّا سَبَبُ وُرُودِهِ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ فَلِلتَّخْفِيفِ عَلَى هَذِهِ الْأُمَّةِ وَإِرَادَةِ الْيُسْرِ بِهَا، وَالتَّهْوِينِ عَلَيْهَا شَرَفًا لَهَا وَتَوْسِعَةً وَرَحْمَةً وَخُصُوصِيَّةً لِفَضْلِهَا، وَإِجَابَةً لِقَصْدِ نَبِيِّهَا أَفْضَلِ الْخَلْقِ وَحَبِيبِ الْحَقِّ حَيْثُ أَتَاهُ جِبْرِيلُ فَقَالَ لَهُ: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكَ أَنْ تُقْرِأَ أُمَّتَكَ الْقُرْآنَ عَلَى حَرْفٍ فَقَالَ: أَسْأَلُ اللَّهَ مُعَافَاتَهُ وَمَعُونَتَهُ وَإِنَّ أُمَّتِي لَا تُطِيقُ ذَلِكَ وَلَمْ يَزَلْ يُرَدِّدُ الْمَسْأَلَةَ حَتَّى بَلَغَ سَبْعَةَ أَحْرُفٍ، وَفِي الصَّحِيحِ أَيْضًا: إِنَّ رَبِّي أَرْسَلَ إِلَيَّ أَنِ اقْرَأِ الْقُرْآنَ عَلَى حَرْفٍ، فَرَدَدْتُ إِلَيْهِ أَنْ هَوِّنْ عَلَى أُمَّتِي، وَلَمْ يَزَلْ يُرْدِدُ حَتَّى بَلَغَ سَبْعَةَ أَحْرُفٍ، وَكَمَا ثَبَتَ صَحِيحًا: إِنَّ الْقُرْآنَ نَزَلَ مِنْ سَبْعَةِ أَبْوَابٍ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ، وَإِنَّ الْكِتَابَ قَبْلَهُ كَانَ يَنْزِلُ مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ عَلَى حَرْفٍ وَاحِدٍ، وَذَلِكَ أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ - عَلَيْهِمُ السَّلَامُ - كَانُوا يُبْعَثُونَ إِلَى قَوْمِهِمُ الْخَاصِّينَ بِهِمْ، وَالنَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بُعِثَ إِلَى جَمِيعِ الْخَلْقِ أَحْمَرِهَا وَأَسْوَدِهَا عَرَبِيِّهَا وَعَجَمِيِّهَا، وَكَانَتِ الْعَرَبُ الَّذِينَ نَزَلَ الْقُرْآنُ بِلُغَتِهُمْ لُغَاتُهُمْ مُخْتَلِفَةً وَأَلْسِنَتُهُمْ شَتَّى وَيَعْسُرُ عَلَى أَحَدِهِمُ الِانْتِقَالُ مِنْ لُغَتِهِ إِلَى غَيْرِهَا، أَوْ مِنْ حَرْفٍ إِلَى آخَرَ، بَلْ قَدْ يَكُونُ بَعْضُهُمْ لَا يَقْدِرُ عَلَى ذَلِكَ وَلَا بِالتَّعْلِيمِ وَالْعِلَاجِ، لَا سِيَّمَا الشَّيْخُ وَالْمَرْأَةُ، وَمَنْ لَمْ يَقْرَأْ كِتَابًا كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَلَوْ كُلِّفُوا الْعُدُولَ عَنْ لُغَتِهِمْ وَالِانْتِقَالَ عَنْ أَلْسِنَتِهِمْ لَكَانَ مِنَ التَّكْلِيفِ بِمَا لَا يُسْتَطَاعُ، وَمَا عَسَى أَنْ يَتَكَلَّفَ الْمُتَكَلِّفُ وَتَأْبَى الطِّبَاعُ ; وَلِذَلِكَ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي جَوَازِ الْقِرَاءَةِ بِلُغَةٍ أُخْرَى غَيْرِ الْعَرَبِيِّ عَلَى أَقْوَالٍ، ثَالِثُهَا إِنْ عَجَزَ عَنِ الْعَرَبِيِّ جَازَ وَإِلَّا فَلَا، وَلَيْسَ هَذَا مَوْضِعَ التَّرْجِيحِ فَقَدْ ذُكِرَ فِي مَوْضِعِهِ.
(قَالَ الْإِمَامُ أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ قُتَيْبَةَ) فِي كِتَابِ الْمُشْكِلِ: فَكَانَ مِنْ تَيْسِيرِ اللَّهِ تَعَالَى أَنْ أَمَرَ نَبِيَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِأَنْ يُقْرِئَ كُلَّ أُمَّةٍ بِلُغَتِهِمْ وَمَا جَرَتْ عَلَيْهِ عَادَتُهُمْ فَالْهُذَلِيُّ يَقْرَأُ (عَتَّى حِينَ) يُرِيدُ (حَتَّى) هَكَذَا يَلْفِظُ بِهَا وَيَسْتَعْمِلُهَا، وَالْأَسَدِيُّ يَقْرَأُ (تِعْلَمُونَ وَتِعْلَمُ وَتِسْوَدُّ وَأَلَمْ إِعْهَدْ إِلَيْكُمْ) ، وَالتَّمِيمِيُّ يَهْمِزُ وَالْقُرَشِيُّ لَا يَهْمِزُ، وَالْآخَرُ يَقْرَأُ قِيلَ لَهُمْ، وَغِيضَ الْمَاءُ بِإِشْمَامِ الضَّمِّ مَعَ الْكَسْرِ، وَبِضَاعَتُنَا رُدَّتْ بِإِشْمَامِ الْكَسْرِ مَعَ

(1/22)


الضَّمِّ وَمَا لَكَ لَا تَأْمَنَّا بِإِشْمَامِ الضَّمِّ مَعَ الْإِدْغَامِ.
(قُلْتُ) : وَهَذَا يَقْرَأُ (عَلَيْهِمْ وَفِيهِمْ) بِالضَّمِّ وَالْآخَرُ يَقْرَأُ (عَلَيْهِمُو، وَمِنْهُمُو) بِالصِّلَةِ، وَهَذَا يَقْرَأُ قَدْ أَفْلَحَ، وَقُلْ أُوحِيَ وَخَلَوْا إِلَى بِالنَّقْلِ وَالْآخَرُ يَقْرَأُ (مُوسَى، وَعِيسَى، وَدُنْيَا) بِالْإِمَالَةِ وَغَيْرُهُ يُلَطِّفُ، وَهَذَا يَقْرَأُ (خَبِيرًا وَبَصِيرًا) بِالتَّرْقِيقِ، وَالْآخَرُ يَقْرَأُ (الصَّلَاةَ، وَالطَّلَاقُ) بِالتَّفْخِيمِ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ (قَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ) : وَلَوْ أَرَادَ كُلُّ فَرِيقٍ مِنْ هَؤُلَاءِ أَنْ يَزُولَ عَنْ لُغَتِهِ وَمَا جَرَى عَلَيْهِ اعْتِيَادُهُ طِفْلًا وَنَاشِيًا وَكَهْلًا لَاشْتَدَّ ذَلِكَ عَلَيْهِ وَعَظُمَتِ الْمِحْنَةُ فِيهِ وَلَمْ يُمْكِنْهُ إِلَّا بَعْدَ رِيَاضَةٍ لِلنَّفْسِ طَوِيلَةٍ وَتَذْلِيلٍ لِلِّسَانٍ وَقَطْعٍ لِلْعَادَةِ فَأَرَادَ اللَّهُ بِرَحْمَتِهِ وَلُطْفِهِ أَنْ يَجْعَلَ لَهُمْ مُتَّسَعًا فِي اللُّغَاتِ وَمُتَصَرَّفًا فِي الْحَرَكَاتِ كَتَيْسِيرِهِ عَلَيْهِمْ فِي الدِّينِ، (وَأَمَّا) مَعْنَى الْأَحْرُفِ فَقَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ: حَرْفُ كُلٍّ شَيْءٍ طَرَفُهُ وَوَجْهُهُ وَحَافَّتُهُ وَحَدُّهُ وَنَاحِيَتُهُ وَالْقِطْعَةُ مِنْهُ، وَالْحَرْفُ أَيْضًا وَاحِدُ حُرُوفُ التَّهَجِّي كَأَنَّهُ قِطْعَةٌ مِنَ الْكَلِمَةِ.
(قَالَ) الْحَافِظُ أَبُو عَمْرٍو الدَّانِيُّ: مَعْنَى الْأَحْرُفِ الَّتِي أَشَارَ إِلَيْهَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هَا هُنَا يَتَوَجَّهُ إِلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنْ يَعْنِيَ أَنَّ الْقُرْآنَ أُنْزِلَ عَلَى سَبْعَةِ أَوْجُهٍ مِنَ اللُّغَاتِ ; لِأَنَّ الْأَحْرُفَ جَمْعُ حَرْفٍ فِي الْقَلِيلِ، كَفَلْسٍ وَأَفْلُسٍ، وَالْحَرْفُ قَدْ يُرَادُ بِهِ الْوَجْهُ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ الْآيَةَ، فَالْمُرَادُ بِالْحَرْفِ هُنَا الْوَجْهُ، أَيْ: عَلَى النِّعْمَةِ وَالْخَيْرِ وَإِجَابَةِ السُّؤَالِ وَالْعَافِيَةِ، فَإِذَا اسْتَقَامَتْ لَهُ هَذِهِ الْأَحْوَالُ اطْمَأَنَّ وَعَبَدَ اللَّهَ، وَإِذَا تَغَيَّرَتْ عَلَيْهِ وَامْتَحَنَهُ بِالشِّدَّةِ وَالضُّرِّ تَرَكَ الْعِبَادَةَ وَكَفَرَ، فَهَذَا عَبَدَ اللَّهَ عَلَى وَجْهٍ وَاحِدٍ ; فَلِهَذَا سَمَّى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هَذِهِ الْأَوْجُهَ الْمُخْتَلِفَةَ مِنَ الْقِرَاءَاتِ وَالْمُتَغَايِرَةَ مِنَ اللُّغَاتِ أَحْرُفًا عَلَى مَعْنَى أَنَّ كُلَّ شَيْءٍ مِنْهَا وَجْهٌ.
(قَالَ) وَالْوَجْهُ الثَّانِي مِنْ مَعْنَاهَا أَنْ يَكُونَ سَمَّى الْقِرَاءَاتِ أَحْرُفًا عَلَى طَرِيقِ السَّعَةِ كَعَادَةِ الْعَرَبِ فِي تَسْمِيَتِهِمُ الشَّيْءَ بِاسْمِ مَا هُوَ مِنْهُ وَمَا قَارَبَهُ وَجَاوَرَهُ وَكَانَ كَسَبَبٍ مِنْهُ وَتَعَلَّقَ بِهِ ضَرْبًا مِنَ التَّعَلُّقِ، كَتَسْمِيَتِهِمُ الْجُمْلَةَ بِاسْمِ الْبَعْضِ مِنْهَا ; فَلِذَلِكَ سَمَّى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْقِرَاءَةَ حَرْفًا، وَإِنْ كَانَ كَلَامًا كَثِيرًا مِنْ أَجْلِ أَنَّ مِنْهَا حَرْفًا قَدْ غَيَّرَ نَظْمَهُ، أَوْ كُسِرَ، أَوْ قُلِبَ إِلَى غَيْرِهِ، أَوْ أُمِيلَ

(1/23)


أَوْ زِيدَ، أَوْ نُقِصَ مِنْهُ عَلَى مَا جَاءَ فِي الْمُخْتَلَفِ فِيهِ مِنَ الْقِرَاءَةِ فَسَمَّى الْقِرَاءَةَ، إِذْ كَانَ ذَلِكَ الْحَرْفُ فِيهَا حَرْفًا عَلَى عَادَةِ الْعَرَبِ فِي ذَلِكَ وَاعْتِمَادًا عَلَى اسْتِعْمَالِهَا.
(قُلْتُ) : وَكِلَا الْوَجْهَيْنِ مُحْتَمَلٌ إِلَّا أَنَّ الْأَوَّلَ مُحْتَمَلٌ احْتِمَالًا قَوِيًّا فِي قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: سَبْعَةُ أَحْرُفٍ أَيْ: سَبْعَةُ أَوْجُهٍ وَأَنْحَاءٍ. وَالثَّانِي مُحْتَمَلٌ احْتِمَالًا قَوِيًّا فِي قَوْلِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي الْحَدِيثِ: سَمِعْتُ هِشَامًا يَقْرَأُ سُورَةَ الْفُرْقَانِ عَلَى حُرُوفٍ كَثِيرَةٍ لَمْ يُقْرِئْنِيهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أَيْ: عَلَى قِرَاءَاتٍ كَثِيرَةٍ وَكَذَا قَوْلُهُ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى سَمِعْتُهُ يَقْرَأُ فِيهَا أَحْرُفًا لَمْ يَكُنْ نَبِيُّ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَقْرَأَنِيهَا، فَالْأَوَّلُ غَيْرُ الثَّانِي كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ، (وَأَمَّا) الْمَقْصُودُ بِهَذِهِ السَّبْعَةِ فَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي ذَلِكَ مَعَ إِجْمَاعِهِمْ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ الْمَقْصُودُ أَنْ يَكُونَ الْحَرْفُ الْوَاحِدُ يُقْرَأُ عَلَى سَبْعَةِ أَوْجُهٍ، إِذْ لَا يُوجَدُ ذَلِكَ إِلَّا فِي كَلِمَاتٍ يَسِيرَةٍ نَحْوَ أُفٍّ، وَجِبْرِيلُ، وَأَرْجِهْ، وَهَيْهَاتَ، وَهَيْتَ، وَعَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ هَؤُلَاءِ السَّبْعَةَ الْقُرَّاءَ الْمَشْهُورِينَ، وَإِنْ كَانَ يَظُنُّهُ بَعْضُ الْعَوَامِّ ; لِأَنَّ هَؤُلَاءِ السَّبْعَةَ لَمْ يَكُونُوا خُلِقُوا وَلَا وُجِدُوا، وَأَوَّلُ مَنْ جَمَعَ قِرَاءَاتِهِمْ أَبُو بَكْرِ بْنُ مُجَاهِدٍ فِي أَثْنَاءِ الْمِائَةِ الرَّابِعَةِ كَمَا سَيَأْتِي، وَأَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّهَا لُغَاتٌ، ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي تَعْيِينِهَا فَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: قُرَيْشٌ، وَهُذَيْلٌ، وَثَقِيفٌ، وَهَوَازِنُ، وَكِنَانَةُ، وَتَمِيمٌ، وَالْيَمَنُ. وَقَالَ غَيْرُهُ خَمْسُ لُغَاتٍ فِي أَكْنَافِ هَوَازِنَ: سَعْدٌ، وَثَقِيفٌ، وَكِنَانَةُ، وَهُذَيْلٌ، وَقُرَيْشٌ، وَلُغَتَانِ عَلَى جَمِيعِ أَلْسِنَةِ الْعَرَبِ، وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مُحَمَّدٍ الْهَرَوِيُّ: يَعْنِي عَلَى سَبْعِ لُغَاتٍ مِنْ لُغَاتِ الْعَرَبِ أَيْ أَنَّهَا مُتَفَرِّقَةٌ فِي الْقُرْآنِ فَبَعْضُهُ بِلُغَةِ قُرَيْشٍ وَبَعْضُهُ بِلُغَةِ هُذَيْلٍ وَبَعْضُهُ بِلُغَةِ هَوَازِنَ وَبَعْضُهُ بِلُغَةِ الْيَمَنِ.
(قُلْتُ) : وَهَذِهِ الْأَقْوَالُ مَدْخُولَةٌ، فَإِنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ وَهِشَامَ بْنَ حَكِيمٍ اخْتَلَفَا فِي قِرَاءَةِ سُورَةِ الْفُرْقَانِ كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ وَكِلَاهُمَا قُرَشِيَّانِ مِنْ لُغَةٍ وَاحِدَةٍ وَقَبِيلَةٍ وَاحِدَةٍ، (وَقَالَ) بَعْضُهُمْ: الْمُرَادُ بِهَا مَعَانِي الْأَحْكَامِ: كَالْحَلَالِ وَالْحَرَامِ، وَالْمُحْكَمِ وَالْمُتَشَابِهِ، وَالْأَمْثَالِ، وَالْإِنْشَاءِ، وَالْإِخْبَارِ. (وَقِيلَ) النَّاسِخُ وَالْمَنْسُوخُ، وَالْخَاصُّ وَالْعَامُّ، وَالْمُجْمَلُ وَالْمُبَيَّنُ، وَالْمُفَسَّرُ (وَقِيلَ) الْأَمْرُ، وَالنَّهْيُ، وَالطَّلَبُ،

(1/24)


وَالدُّعَاءُ، وَالْخَبَرُ، وَالِاسْتِخْبَارُ، وَالزَّجْرُ (وَقِيلَ) الْوَعْدُ، وَالْوَعِيدُ، وَالْمُطْلَقُ، وَالْمُقَيَّدُ، وَالتَّفْسِيرُ، وَالْإِعْرَابُ، وَالتَّأْوِيلُ.
(قُلْتُ) : وَهَذِهِ الْأَقْوَالُ غَيْرُ صَحِيحَةٍ، فَإِنَّ الصَّحَابَةَ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا وَتَرَافَعُوا إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَمَا ثَبَتَ فِي حَدِيثِ عُمَرَ وَهِشَامٍ وَأُبَيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَعَمْرِو بْنِ الْعَاصِ وَغَيْرِهِمْ لَمْ يَخْتَلِفُوا فِي تَفْسِيرِهِ وَلَا أَحْكَامِهِ، وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا فِي قِرَاءَةِ حُرُوفِهِ، (فَإِنْ قِيلَ) فَمَا تَقُولُ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ مِنْ حَدِيثِ عُمَرَ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ الْمَخْزُومِيِّ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لِابْنِ مَسْعُودٍ: " إِنَّ الْكُتُبَ كَانَتْ تَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ، وَإِنَّ الْقُرْآنَ أُنْزِلَ مِنْ سَبْعَةِ أَبْوَابٍ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ حَلَالٍ وَحَرَامٍ، وَمُحْكَمٍ وَمُتَشَابِهٍ، وَضَرْبِ أَمْثَالٍ، وَآمِرٍ وَزَاجِرٍ، فَأَحِلَّ حَلَالَهُ وَحَرِّمْ حَرَامَهُ، وَاعْمَلْ بِمُحَكَمِهِ وَقِفْ عِنْدَ مُتَشَابِهِهِ، وَاعْتَبِرْ أَمْثَالَهُ، فَإِنَّ كُلًّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ؟ " (فَالْجَوَابُ) عَنْهُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ:
(أَحَدُهَا) أَنَّ هَذِهِ السَّبْعَةَ غَيْرُ السَّبْعَةِ الْأَحْرُفِ الَّتِي ذَكَرَهَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي تِلْكَ الْأَحَادِيثِ وَذَلِكَ مِنْ حَيْثُ فَسَّرَهَا فِي هَذَا الْحَدِيثِ فَقَالَ: حَلَالٌ وَحَرَامٌ إِلَى آخِرِهِ وَأَمْرٌ بِإِحْلَالِ حَلَالِهِ وَتَحْرِيمِ حَرَامِهِ إِلَى آخِرِهِ، ثُمَّ أَكَّدَ ذَلِكَ بِالْأَمْرِ بِقَوْلِ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ هَذِهِ غَيْرُ تِلْكَ الْقِرَاءَاتِ.
(الثَّانِي) أَنَّ السَّبْعَةَ الْأَحْرُفَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ هِيَ هَذِهِ الْمَذْكُورَةُ فِي الْأَحَادِيثِ الْأُخْرَى الَّتِي هِيَ الْأَوْجُهُ وَالْقِرَاءَاتُ، وَيَكُونُ قَوْلُهُ حَلَالٌ وَحَرَامٌ إِلَى آخِرِهِ تَفْسِيرًا لِلسَّبْعَةِ الْأَبْوَابِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
(الثَّالِثُ) أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ حَلَالٌ وَحَرَامٌ إِلَى آخِرِهِ لَا تَعَلُّقَ لَهُ بِالسَّبْعَةِ الْأَحْرُفِ وَلَا بِالسَّبْعَةِ الْأَبْوَابِ، بَلْ إِخْبَارٌ عَنِ الْقُرْآنِ، أَيْ هُوَ كَذَا وَكَذَا وَاتَّفَقَ كَوْنُهُ بِصِفَاتٍ سَبْعٍ كَذَلِكَ، (وَأَمَّا) وَجْهُ كَوْنِهَا سَبْعَةَ أَحْرُفٍ دُونَ أَنْ لَا كَانَتْ أَقَلَّ أَوْ أَكْثَرَ، فَقَالَ الْأَكْثَرُونَ: إِنَّ أُصُولَ قَبَائِلِ الْعَرَبِ تَنْتَهِي إِلَى سَبْعَةٍ، أَوْ إِنَّ اللُّغَاتِ الْفُصْحَى سَبْعٌ وَكِلَاهُمَا دَعْوَى، وَقِيلَ: لَيْسَ الْمُرَادُ بِالسَّبْعَةِ حَقِيقَةَ الْعَدَدِ بِحَيْثُ لَا يَزِيدُ وَلَا يَنْقُصُ، بَلِ الْمُرَادُ السَّعَةُ وَالتَّيْسِيرُ وَأَنَّهُ لَا حَرَجَ عَلَيْهِمْ فِي قِرَاءَتِهِ بِمَا هُوَ مِنْ لُغَاتِ الْعَرَبِ مِنْ حَيْثُ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى

(1/25)


أَذِنَ لَهُمْ فِي ذَلِكَ وَالْعَرَبُ يُطْلِقُونَ لَفْظَ السَّبْعِ وَالسَّبْعِينَ وَالسَّبْعِمِائَةَ وَلَا يُرِيدُونَ حَقِيقَةَ الْعَدَدِ بِحَيْثُ لَا يَزِيدُ وَلَا يَنْقُصُ، بَلْ يُرِيدُونَ الْكَثْرَةَ وَالْمُبَالَغَةَ مِنْ غَيْرِ حَصْرٍ، قَالَ - تَعَالَى -: كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ، وَإِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً، وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْحَسَنَةِ: إِلَى سَبْعِمِائَةِ ضِعْفٍ إِلَى أَضْعَافٍ كَثِيرَةٍ، وَكَذَا حَمَلَ بَعْضُهُمْ قَوْلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: الْإِيمَانُ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ شُعْبَةً، وَهَذَا جَيِّدٌ لَوْلَا أَنَّ الْحَدِيثَ يَأْبَاهُ، فَإِنَّهُ ثَبَتَ فِي الْحَدِيثِ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ أَنَّهُ لَمَّا أَتَاهُ جِبْرِيلُ بِحَرْفٍ وَاحِدٍ قَالَ لَهُ مِيكَائِيلُ: اسْتَزِدْهُ. وَإِنَّهُ سَأَلَ اللَّهَ تَعَالَى التَّهْوِينَ عَلَى أُمَّتِهِ فَأَتَاهُ عَلَى حَرْفَيْنِ فَأَمَرَهُ مِيكَائِيلُ بِالِاسْتِزَادَةِ، وَسَأَلَ اللَّهَ التَّخْفِيفَ فَأَتَاهُ بِثَلَاثَةٍ وَلَمْ يَزَلْ كَذَلِكَ حَتَّى بَلَغَ سَبْعَةَ أَحْرُفٍ. وَفِي حَدِيثِ أَبِي بَكْرَةَ: فَنَظَرْتُ إِلَى مِيكَائِيلَ فَسَكَتَ فَعَلِمْتُ أَنَّهُ قَدِ انْتَهَتِ الْعِدَّةُ فَدَلَّ عَلَى إِرَادَةِ حَقِيقَةِ الْعَدَدِ وَانْحِصَارِهِ وَلَا زِلْتُ أَسْتَشْكِلُ هَذَا الْحَدِيثَ وَأُفَكِّرُ فِيهِ وَأُمْعِنُ النَّظَرَ مِنْ نَيِّفٍ وَثَلَاثِينَ سَنَةً حَتَّى فَتَحَ اللَّهُ عَلَيَّ بِمَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ صَوَابًا إِنْ شَاءَ اللَّهُ، وَذَلِكَ أَنِّي تَتَبَّعْتُ الْقِرَاءَاتِ صَحِيحَهَا وَشَاذَّهَا وَضَعِيفَهَا وَمُنْكَرَهَا، فَإِذَا هُوَ يَرْجِعُ اخْتِلَافُهَا إِلَى سَبْعَةِ أَوْجُهٍ مِنَ الِاخْتِلَافِ لَا يَخْرُجُ عَنْهَا، وَذَلِكَ إِمَّا فِي الْحَرَكَاتِ بِلَا تَغْيِيرٍ فِي الْمَعْنَى وَالصُّورَةِ: نَحْوَ (الْبُخْلِ) بِأَرْبَعَةٍ (وَيَحْسَبُ) بِوَجْهَيْنِ، أَوْ بِتَغَيُّرٍ فِي الْمَعْنَى فَقَطْ نَحْوَ فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ، وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ، وَ (أَمَهٍ) ، وَإِمَّا فِي الْحُرُوفِ بِتَغَيُّرِ الْمَعْنَى لَا الصُّورَةِ نَحْوَ (تَبْلُوا وَتَتْلُوا) وَ (نُنَحِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ) وَنُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ، أَوْ عَكْسِ ذَلِكَ نَحْوَ (بَصْطَةً وَبَسْطَةً) وَ (الصِّرَاطَ وَالسِّرَاطَ) ، أَوْ بِتَغَيُّرِهِمَا نَحْوَ (أَشَدَّ مِنْكُمْ، وَمِنْهُمْ) وَ (يَأْتَلِ وَيَتَأَلَّ) وَ (فَامْضُوا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ) ، وَإِمَّا فِي التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ نَحْوَ (فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ) (وَجَاءَتْ سَكْرَتُ الْحَقِّ بِالْمَوْتِ) ، أَوْ فِي الزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ نَحْوَ (وَأَوْصَى وَوَصَّى) وَ (الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى) فَهَذِهِ سَبْعَةُ أَوْجُهٍ لَا يَخْرُجُ الِاخْتِلَافُ عَنْهَا، وَأَمَّا نَحْوُ اخْتِلَافِ الْإِظْهَارِ، وَالْإِدْغَامِ، وَالرَّوْمِ، وَالْإِشْمَامِ، وَالتَّفْخِيمِ، وَالتَّرْقِيقِ، وَالْمَدِّ، وَالْقَصْرِ، وَالْإِمَالَةِ، وَالْفَتْحِ، وَالتَّحْقِيقِ، وَالتَّسْهِيلِ، وَالْإِبْدَالِ، وَالنَّقْلِ مِمَّا يُعَبَّرُ

(1/26)


عَنْهُ بِالْأُصُولِ، فَهَذَا لَيْسَ مِنَ الِاخْتِلَافِ الَّذِي يَتَنَوَّعُ فِيهِ اللَّفْظُ وَالْمَعْنَى ; لِأَنَّ هَذِهِ الصِّفَاتِ الْمُتَنَوِّعَةَ فِي أَدَائِهِ لَا تُخْرِجُهُ عَنْ أَنْ يَكُونَ لَفْظًا وَاحِدًا، وَلَئِنْ فُرِضَ فَيَكُونُ مِنَ الْأَوَّلِ.
ثُمَّ رَأَيْتُ الْإِمَامَ الْكَبِيرَ أَبَا الْفَضْلِ الرَّازِيَّ حَاوَلَ مَا ذَكَرْتُهُ فَقَالَ: إِنَّ الْكَلَامَ لَا يَخْرُجُ اخْتِلَافُهُ عَنْ سَبْعَةِ أَوْجُهٍ:
(الْأَوَّلُ) اخْتِلَافُ الْأَسْمَاءِ مِنَ الْإِفْرَادِ وَالتَّثْنِيَةِ وَالْجَمْعِ وَالتَّذْكِيرِ وَالتَّأْنِيثِ وَالْمُبَالَغَةِ وَغَيْرِهَا.
(الثَّانِي) اخْتِلَافُ تَصْرِيفِ الْأَفْعَالِ وَمَا يُسْنَدُ إِلَيْهِ مِنْ نَحْوِ الْمَاضِي وَالْمُضَارِعِ وَالْأَمْرِ وَالْإِسْنَادِ إِلَى الْمُذَكَّرِ وَالْمُؤَنَّثِ وَالْمُتَكَلِّمِ وَالْمُخَاطَبِ وَالْفَاعِلِ وَالْمَفْعُولِ بِهِ.
(الثَّالِثُ) وُجُوهُ الْإِعْرَابِ.
(الرَّابِعُ) الزِّيَادَةُ وَالنَّقْصُ.
(الْخَامِسُ) التَّقْدِيمُ وَالتَّأْخِيرُ.
(السَّادِسُ) الْقَلْبُ وَالْإِبْدَالُ فِي كَلِمَةٍ بِأُخْرَى وَفِي حَرْفٍ بِآخَرَ.
(السَّابِعُ) اخْتِلَافُ اللُّغَاتِ مِنْ فَتْحٍ وَإِمَالَةٍ وَتَرْقِيقٍ وَتَفْخِيمٍ وَتَحْقِيقٍ وَتَسْهِيلٍ وَإِدْغَامٍ وَإِظْهَارٍ، وَنَحْوِ ذَلِكَ.
ثُمَّ وَقَفْتُ عَلَى كَلَامِ ابْنِ قُتَيْبَةَ وَقَدْ حَاوَلَ مَا حَاوَلْنَا بِنَحْوٍ آخَرَ فَقَالَ: وَقَدْ تَدَبَّرْتُ وُجُوهَ الِاخْتِلَافِ فِي الْقِرَاءَاتِ فَوَجَدْتُهَا سَبْعَةً:
(الْأَوَّلُ) فِي الْإِعْرَابِ بِمَا لَا يُزِيلُ صُورَتَهَا فِي الْخَطِّ وَلَا يُغَيِّرُ مَعْنَاهَا نَحْوَ هَؤُلَاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ وَ (أَطْهَرَ) ، (وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ) وَنُجَازِي إِلَّا الْكُفُورَ وَ (الْبُخْلِ وَالْبَخَلِ، وَمَيْسَرَةٍ وَمَيْسُرَةٍ) .
(وَالثَّانِي) الِاخْتِلَافُ فِي إِعْرَابِ الْكَلِمَةِ وَحَرَكَاتِ بِنَائِهَا بِمَا يُغَيِّرُ مَعْنَاهَا وَلَا يُزِيلُهَا عَنْ صُورَتِهَا نَحْوَ رَبَّنَا بَاعِدْ وَ (رَبُّنَا بَاعَدَ) وَإِذْ تَلَقَّوْنَهُ وَ (تُلْقُونَهُ) وَبَعْدَ أُمَّةٍ وَ (بَعْدَ أَمَهٍ) .
(وَالثَّالِثُ) الِاخْتِلَافُ فِي حُرُوفِ الْكَلِمَةِ دُونَ إِعْرَابِهَا بِمَا يُغَيِّرُ مَعْنَاهَا وَلَا يُزِيلُ صُورَتَهَا نَحْوَ (وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نَنْشُرُهَا) وَنُنْشِزُهَا وَإِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ وَ (فَزَّعَ) .
(وَالرَّابِعُ) أَنْ يَكُونَ الِاخْتِلَافُ فِي الْكَلِمَةِ بِمَا يُغَيِّرُ صُورَتَهَا وَمَعْنَاهَا نَحْوَ طَلْعٌ نَضِيدٌ فِي مَوْضِعٍ، وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ فِي آخَرَ.
(وَالْخَامِسُ) أَنْ يَكُونَ الِاخْتِلَافُ فِي الْكَلِمَةِ بِمَا يُغَيِّرُ صُورَتَهَا فِي الْكِتَابِ وَلَا يُغَيِّرُ مَعْنَاهَا نَحْوُ (إِلَّا ذَقْيَةً وَاحِدَةً) وَصَيْحَةً وَاحِدَةً وَكَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ وَ (كَالصُّوفِ) .
(وَالسَّادِسُ) أَنْ يَكُونَ الِاخْتِلَافُ بِالتَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ نَحْوَ: (وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْحَقِّ بِالْمَوْتِ) فِي:

(1/27)


سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ.
(وَالسَّابِعُ) أَنْ يَكُونَ الِاخْتِلَافُ بِالزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ نَحْوَ (وَمَا عَمِلَتْ أَيْدِيهِمْ) وَعَمِلَتْهُ، وَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ وَ (هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً أُنْثَى) .
ثُمَّ قَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: وَكُلُّ هَذِهِ الْحُرُوفِ كَلَامُ اللَّهِ تَعَالَى نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - انْتَهَى.
(قُلْتُ) : وَهُوَ حَسَنٌ كَمَا قُلْنَا إِلَّا أَنَّ تَمْثِيلَهُ بِ (طَلْعٍ نَضِيدٍ وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ) لَا تَعَلُّقَ لَهُ بِاخْتِلَافِ الْقِرَاءَاتِ، وَلَوْ مَثَّلَ عِوَضَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: بِضَنِينٍ بِالضَّادِ وَ (بِظَنِينٍ) بِالظَّاءِ وَ (أَشَدَّ مِنْكُمْ) وَأَشَدَّ مِنْهُمْ لَاسْتَقَامَ، وَطَلَعَ بَدْرُ حُسْنِهِ فِي تَمَامٍ، عَلَى أَنَّهُ قَدْ فَاتَهُ كَمَا فَاتَ غَيْرَهُ أَكْثَرُ أُصُولِ الْقِرَاءَاتِ: كَالْإِدْغَامِ، وَالْإِظْهَارِ، وَالْإِخْفَاءِ، وَالْإِمَالَةِ، وَالتَّفْخِيمِ، وَبَيْنَ بَيْنَ، وَالْمَدِّ، وَالْقَصْرِ، وَبَعْضِ أَحْكَامِ الْهَمْزِ، كَذَلِكَ الرَّوْمُ، وَالْإِشْمَامُ، عَلَى اخْتِلَافِ أَنْوَاعِهِ وَكُلُّ ذَلِكَ مِنَ اخْتِلَافِ الْقِرَاءَاتِ وَتَغَايُرِ الْأَلْفَاظِ مِمَّا اخْتَلَفَ فِيهِ أَئِمَّةُ الْقُرَّاءِ وَكَانُوا يَتَرَافَعُونَ بِدُونِ ذَلِكَ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ -، وَيَرُدُّ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ كَمَا سَيَأْتِي تَحْقِيقُهُ وَبَيَانُهُ فِي بَابِ الْهَمْزِ وَالنَّقْلِ وَالْإِمَالَةِ، وَلَكِنْ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ هَذَا مِنَ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ فَيَشْمَلُ الْأَوْجُهَ السَّبْعَةَ عَلَى مَا قَرَّرْنَاهُ.
(وَأَمَّا) عَلَى أَيِّ شَيْءٍ يَتَوَجَّهُ اخْتِلَافُ هَذِهِ السَّبْعَةِ، فَإِنَّهُ يَتَوَجَّهُ عَلَى أَنْحَاءٍ وَوُجُوهٍ مَعَ السَّلَامَةِ مِنَ التَّضَادِّ وَالتَّنَاقُضِ كَمَا سَيَأْتِي إِيضَاحُهُ فِي حَقِيقَةِ اخْتِلَافِ هَذِهِ السَّبْعَةِ.
(فَمِنْهَا) مَا يَكُونُ لِبَيَانِ حُكْمٍ مُجْمَعٍ عَلَيْهِ كَقِرَاءَةِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَاصٍّ وَغَيْرِهِ (وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ مِنْ أُمٍّ) فَإِنَّ هَذِهِ الْقِرَاءَةَ تُبَيِّنُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْإِخْوَةِ هُنَا هُوَ الْإِخْوَةُ لِلْأُمِّ، وَهَذَا أَمْرٌ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ ; وَلِذَلِكَ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي الْمَسْأَلَةِ الْمُشْتَرَكَةِ وَهِيَ زَوْجٌ وَأُمٌّ، أَوْ جَدَّةٌ وَاثْنَانِ مِنْ إِخْوَةِ الْأُمِّ وَوَاحِدٌ أَوْ أَكْثَرُ مِنْ إِخْوَةِ الْأَبِ وَالْأُمِّ، فَقَالَ الْأَكْثَرُونَ مِنَ الصَّحَابَةِ وَغَيْرِهِمْ بِالتَّشْرِيكِ بَيْنَ الْإِخْوَةِ ; لِأَنَّهُمْ مِنْ أُمٍّ وَاحِدَةٍ وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَمَالِكٍ وَإِسْحَاقَ وَغَيْرِهِمْ، وَقَالَ جَمَاعَةٌ مِنَ الصَّحَابَةِ وَغَيْرِهِمْ بِجَعْلِ الثُّلُثِ لِإِخْوَةِ الْأُمِّ وَلَا شَيْءَ لِإِخْوَةِ الْأَبَوَيْنِ لِظَاهِرِ الْقِرَاءَةِ الصَّحِيحَةِ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَصْحَابِهِ الثَّلَاثَةِ وَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ وَدَاوُدَ

(1/28)


الظَّاهِرِيِّ وَغَيْرِهِمْ.
(وَمِنْهَا) مَا يَكُونُ مُرَجِّحًا لِحُكْمٍ اخْتُلِفَ فِيهِ، كَقِرَاءَةِ (أَوْ تَحْرِيرِ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ) فِي كَفَّارَةِ الْيَمِينِ فِيهَا تَرْجِيحٌ لِاشْتِرَاطِ الْإِيمَانِ فِيهَا كَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الشَّافِعِيُّ وَغَيْرُهُ وَلَمْ يَشْتَرِطْهُ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
(وَمِنْهَا) مَا يَكُونُ لِلْجَمْعِ بَيْنَ حُكْمَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ يَطْهُرْنَ وَ (يَطَّهَّرْنَ) بِالتَّخْفِيفِ وَالتَّشْدِيدِ يَنْبَغِي الْجَمْعُ، وَهُوَ أَنَّ الْحَائِضَ لَا يَقْرَبُهَا زَوْجُهَا حَتَّى تَطْهُرَ بِانْقِطَاعِ حَيْضِهَا وَتَطْهُرَ بِالِاغْتِسَالِ.
(وَمِنْهَا) مَا يَكُونُ لِأَجْلِ اخْتِلَافِ حُكْمَيْنِ شَرْعِيَّيْنِ كَقِرَاءَةِ وَأَرْجُلَكُمْ بِالْخَفْضِ وَالنَّصْبِ، فَإِنَّ الْخَفْضَ يَقْتَضِي فَرْضَ الْمَسْحِ وَالنَّصْبَ يَقْتَضِي فَرْضَ الْغَسْلِ فَبَيَّنَهُمَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَجَعَلَ الْمَسْحَ لِلَابِسِ الْخُفِّ وَالْغَسْلَ لِغَيْرِهِ، وَمِنْ ثَمَّ وَهِمَ الزَّمَخْشَرِيُّ حَيْثُ حَمَلَ اخْتِلَافَ الْقِرَاءَتَيْنِ فِي إِلَّا امْرَأَتَكَ رَفْعًا وَنَصْبًا عَلَى اخْتِلَافِ قَوْلَيِ الْمُفَسِّرِينَ، (وَمِنْهَا) مَا يَكُونُ لِإِيضَاحِ حُكْمٍ يَقْتَضِي الظَّاهِرُ خِلَافَهُ كَقِرَاءَةِ (فَامْضُوا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ) ؛ فَإِنَّ قِرَاءَةَ فَاسْعَوْا يَقْتَضِي ظَاهِرُهَا الْمَشْيَ السَّرِيعَ وَلَيْسَ كَذَلِكَ، فَكَانَتِ الْقِرَاءَةُ الْأُخْرَى مُوَضِّحَةً لِذَلِكَ وَرَافِعَةً لِمَا يُتَوَهَّمُ مِنْهُ.
(وَمِنْهَا) مَا يَكُونُ مُفَسِّرًا لِمَا لَعَلَّهُ لَا يُعْرَفُ مِثْلَ قِرَاءَةِ (كَالصُّوفِ الْمَنْفُوشِ) .
(وَمِنْهَا) مَا يَكُونُ حُجَّةً لِأَهْلِ الْحَقِّ وَدَفْعًا لِأَهْلِ الزَّيْغِ كَقِرَاءَةِ (وَمِلْكًا كَبِيرًا) بِكَسْرِ اللَّامِ وَرَدَتْ عَنِ ابْنِ كَثِيرٍ وَغَيْرِهِ وَهِيَ مِنْ أَعْظَمِ دَلِيلٍ عَلَى رُؤْيَةِ اللَّهِ تَعَالَى فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ.
(وَمِنْهَا) مَا يَكُونُ حُجَّةً بِتَرْجِيحٍ لِقَوْلِ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ كَقِرَاءَةِ (أَوْ لَمَسْتُمُ النِّسَاءَ) إِذِ اللَّمْسُ يُطْلَقُ عَلَى الْجَسِّ وَالْمَسِّ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ أَيْ: مَسُّوهُ. وَمِنْهُ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لَعَلَّكَ قَبَّلْتَ، أَوْ لَمَسْتَ. وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
وَأَلْمَسْتُ كَفِّي كَفَّهُ طَلَبَ الْغِنَا
(وَمِنْهَا) مَا يَكُونُ حُجَّةً لِقَوْلِ بَعْضِ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ كَقِرَاءَةِ (وَالْأَرْحَامِ) بِالْخَفْضِ، وَ (لِيُجْزَى قَوْمًا) عَلَى مَا لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ مَعَ النَّصْبِ.
(وَأَمَّا) عَلَى كَمْ مَعْنًى تَشْتَمِلُ هَذِهِ الْأَحْرُفُ السَّبْعَةُ، فَإِنَّ مَعَانِيَهَا مِنْ حَيْثُ وُقُوعِهَا وَتَكْرَارِهَا شَاذًّا وَصَحِيحًا لَا تَكَادُ تَنْضَبِطُ مِنْ حَيْثُ التَّعْدَادُ، بَلْ يَرْجِعُ ذَلِكَ كُلُّهُ إِلَى مَعْنَيَيْنِ:
(أَحَدُهُمَا) مَا اخْتَلَفَ لَفْظُهُ وَاتَّفَقَ

(1/29)


مَعْنَاهُ، سَوَاءٌ كَانَ الِاخْتِلَافُ اخْتِلَافَ كُلٍّ، أَوْ جُزْءٍ، نَحْوَ (أَرْشِدْنَا) وَاهْدِنَا وَالْعِهْنِ وَ (الصُّوفِ) وَ (ذَقْيَةً) وَصَيْحَةً وَخُطُوَاتِ، وَ (خُطْوَاتِ) وَهُزُوًا وَ (هُزًّا وَهُزُؤًا) ، كَمَا مَثَّلَ فِي الْحَدِيثِ: هَلُمَّ، وَتَعَالَ، وَأَقْبِلْ.
(وَالثَّانِي) مَا اخْتَلَفَ لَفْظُهُ وَمَعْنَاهُ نَحْوَ (قَالَ رَبِّ) وَقُلْ رَبِّ وَلَنُبَوِّئَنَّهُمْ وَ (لَنُثْوِيَنَّهُمْ) وَيَخْدَعُونَ وَ (يُخَادِعُونَ) وَ (يَكْذِبُونَ وَيُكَذِّبُونَ) وَ (اتَّخَذُوا) وَاتَّخِذُوا وَكَذَّبُوا وَ (كُذِّبُوا) وَلِتَزُولَ وَ (لَتَزُولُ) . وَبَقِيَ مَا اتَّحَدَ لَفْظُهُ وَمَعْنَاهُ مِمَّا يَتَنَوَّعُ صِفَةُ النُّطْقِ بِهِ كَالْمَدَّاتِ وَتَخْفِيفِ الْهَمَزَاتِ وَالْإِظْهَارِ وَالْإِدْغَامِ وَالرَّوْمِ وَالْإِشْمَامِ وَتَرْقِيقِ الرَّاءَاتِ وَتَفْخِيمِ اللَّامَاتِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا يُعَبِّرُ عَنْهُ الْقُرَّاءُ بِالْأُصُولِ، فَهَذَا عِنْدَنَا لَيْسَ مِنَ الِاخْتِلَافِ الَّذِي يَتَنَوَّعُ فِيهِ اللَّفْظُ، أَوِ الْمَعْنَى ; لِأَنَّ هَذِهِ الصِّفَاتِ الْمُتَنَوِّعَةَ فِي أَدَائِهِ لَا تُخْرِجُهُ عَنْ أَنْ يَكُونَ لَفْظًا وَاحِدًا وَهُوَ الَّذِي أَشَارَ إِلَيْهِ أَبُو عَمْرِو بْنُ الْحَاجِبِ بِقَوْلِهِ: وَالسَّبْعَةُ مُتَوَاتِرَةٌ فِيمَا لَيْسَ مِنْ قَبِيلِ الْأَدَاءِ: كَالْمَدِّ، وَالْإِمَالَةِ، وَتَخْفِيفِ الْهَمْزِ وَنَحْوِهِ، وَهُوَ وَإِنْ أَصَابَ فِي تَفْرِقَتِهِ بَيْنَ الْخِلَافَيْنِ فِي ذَلِكَ كَمَا ذَكَرْنَاهُ فَهُوَ وَاهِمٌ فِي تَفْرِقَتِهِ بَيْنَ الْحَالَتَيْنِ نَقْلِهِ وَقَطْعِهِ بِتَوَاتُرِ الِاخْتِلَافِ اللَّفْظِيِّ دُونَ الْأَدَائِيِّ، بَلْ هُمَا فِي نَقْلِهِمَا وَاحِدٌ وَإِذَا ثَبَتَ تَوَاتُرُ ذَلِكَ كَانَ تَوَاتُرُ هَذَا مِنْ بَابٍ أَوْلَى، إِذِ اللَّفْظُ لَا يَقُومُ إِلَّا بِهِ، أَوْ لَا يَصِحُّ إِلَّا بِوُجُودِهِ وَقَدْ نَصَّ عَلَى تَوَاتُرِ ذَلِكَ كُلِّهِ أَئِمَّةُ الْأُصُولِ كَالْقَاضِي أَبِي بَكْرِ بْنِ الطَّيِّبِ الْبَاقِلَّانِيِّ فِي كِتَابَهِ الِانْتِصَارِ وَغَيْرِهِ، وَلَا نَعْلَمُ أَحَدًا تَقَدَّمَ ابْنَ الْحَاجِبِ إِلَى ذَلِكَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. نَعَمْ هَذَا النَّوْعُ مِنَ الِاخْتِلَافِ هُوَ دَخَلٌ فِي الْأَحْرُفِ السَّبْعَةِ لَا أَنَّهُ وَاحِدٌ مِنْهَا.
(وَأَمَّا) هَلْ هَذِهِ السَّبْعَةُ الْأَحْرُفُ مُتَفَرِّقَةٌ فِي الْقُرْآنِ، فَلَا شَكَّ عِنْدِنَا فِي أَنَّهَا مُتَفَرِّقَةٌ فِيهِ، بَلْ وَفِي كُلِّ رِوَايَةٍ وَقِرَاءَةٍ بِاعْتِبَارِ مَا قَرَّرْنَاهُ فِي وَجْهِ كَوْنِهَا سَبْعَةَ أَحْرُفٍ لَا أَنَّهَا مُنْحَصِرَةٌ فِي قِرَاءَةِ خَتْمَةٍ وَتِلَاوَةِ رِوَايَةٍ، فَمَنْ قَرَأَ وَلَوْ بَعْضَ الْقُرْآنِ بِقِرَاءَةٍ مُعَيَّنَةٍ اشْتَمَلَتْ عَلَى الْأَوْجُهِ الْمَذْكُورَةِ، فَإِنَّهُ يَكُونُ قَدْ قَرَأَ بِالْأَوْجُهِ السَّبْعَةِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا دُونَ أَنْ يَكُونَ قَرَأَ بِكُلِّ الْأَحْرُفِ السَّبْعَةِ.
(وَأَمَّا) قَوْلُ أَبِي عَمْرٍو الدَّانِيِّ إِنَّ الْأَحْرُفَ السَّبْعَةَ لَيْسَتْ مُتَفَرِّقَةً فِي الْقُرْآنِ

(1/30)


كُلَّهَا وَلَا مَوْجُودَةً فِيهِ فِي خَتْمَةٍ وَاحِدَةٍ، بَلْ بَعْضِهَا. فَإِذَا قَرَأَ الْقَارِئُ بِقِرَاءَةٍ مِنَ الْقِرَاءَاتِ، أَوْ رِوَايَةٍ مِنَ الرِّوَايَاتِ فَإِنَّمَا قَرَأَ بِبَعْضِهَا لَا بِكُلِّهَا، فَإِنَّهُ صَحِيحٌ عَلَى مَا أَصْلُهُ مِنْ أَنَّ الْأَحْرُفَ هِيَ اللُّغَاتُ الْمُخْتَلِفَاتُ وَلَا شَكَّ أَنَّهُ مَنْ قَرَأَ بِرِوَايَةٍ مِنَ الرِّوَايَاتِ لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يُحَرِّكَ الْحَرْفَ وَيُسَكِّنَهُ فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ، أَوْ يَرْفَعَهُ وَيَنْصِبَهُ، أَوْ يُقَدِّمَهُ وَيُؤَخِّرَهُ فَدَلَّ عَلَى صِحَّةِ مَا قَالَهُ.
(وَأَمَّا) كَوْنُ الْمَصَاحِفِ الْعُثْمَانِيَّةِ مُشْتَمِلَةً عَلَى جَمِيعِ الْأَحْرُفِ السَّبْعَةِ، فَإِنَّ هَذِهِ مَسْأَلَةٌ كَبِيرَةٌ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِيهَا: فَذَهَبَ جَمَاعَاتٌ مِنَ الْفُقَهَاءِ وَالْقُرَّاءِ وَالْمُتَكَلِّمِينَ إِلَى أَنَّ الْمَصَاحِفَ الْعُثْمَانِيَّةَ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى جَمِيعِ الْأَحْرُفِ السَّبْعَةِ، وَبَنَوْا ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ عَلَى الْأُمَّةِ أَنْ تُهْمِلَ نَقْلَ شَيْءٍ مِنَ الْحُرُوفِ السَّبْعَةِ الَّتِي نَزَلَ الْقُرْآنُ بِهَا، وَقَدْ أَجْمَعَ الصَّحَابَةُ عَلَى نَقْلِ الْمَصَاحِفِ الْعُثْمَانِيَّةِ مِنَ الصُّحُفِ الَّتِي كَتَبَهَا أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَإِرْسَالِ كُلِّ مُصْحَفٍ مِنْهَا إِلَى مِصْرٍ مِنْ أَمْصَارِ الْمُسْلِمِينَ وَأَجْمَعُوا عَلَى تَرْكِ مَا سِوَى ذَلِكَ، قَالَ هَؤُلَاءِ: وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَنْهَى عَنِ الْقِرَاءَةِ بِبَعْضِ الْأَحْرُفِ السَّبْعَةِ وَلَا أَنْ يُجْمِعُوا عَلَى تَرْكِ شَيْءٍ مِنَ الْقُرْآنِ، وَذَهَبَ جَمَاهِيرُ الْعُلَمَاءِ مِنَ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ وَأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ إِلَى أَنَّ هَذِهِ الْمَصَاحِفَ الْعُثْمَانِيَّةَ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى مَا يَحْتَمِلُهُ رَسْمُهَا مِنَ الْأَحْرُفِ السَّبْعَةِ فَقَطْ جَامِعَةٌ لِلْعَرْضَةِ الْأَخِيرَةِ الَّتِي عَرَضَهَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى جِبْرَائِيلَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - مُتَضَمِّنَةٌ لَهَا لَمْ تَتْرُكْ حَرْفًا مِنْهَا.
(قُلْتُ) : وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ الَّذِي يَظْهَرُ صَوَابُهُ ; لِأَنَّ الْأَحَادِيثَ الصَّحِيحَةَ وَالْآثَارَ الْمَشْهُورَةَ الْمُسْتَفِيضَةَ تَدُلُّ عَلَيْهِ وَتَشْهَدُ لَهُ إِلَّا أَنَّ لَهُ تَتِمَّةً لَا بُدَّ مِنْ ذِكْرِهَا نَذْكُرُهَا آخِرَ هَذَا الْفَصْلِ، (وَقَدْ أُجِيبَ) عَمَّا اسْتَشْكَلَهُ أَصْحَابُ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ بِأَجْوِبَةٍ مِنْهَا مَا قَالَهُ الْإِمَامُ الْمُجْتَهِدُ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ وَغَيْرُهُ وَهُوَ أَنَّ الْقِرَاءَةَ عَلَى الْأَحْرُفِ السَّبْعَةِ لَمْ تَكُنْ وَاجِبَةً عَلَى الْأُمَّةِ، وَإِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ جَائِزًا لَهُمْ وَمُرَخَّصًا فِيهِ وَقَدْ جُعِلَ لَهُمُ الِاخْتِيَارُ فِي أَيِّ حَرْفٍ قَرَءُوا بِهِ كَمَا فِي الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ، قَالُوا: فَلَمَّا رَأَى الصَّحَابَةُ أَنَّ الْأُمَّةَ تَفْتَرِقُ وَتَخْتَلِفُ وَتَتَقَاتَلُ إِذَا لَمْ يَجْتَمِعُوا عَلَى حَرْفٍ وَاحِدٍ اجْتَمَعُوا عَلَى ذَلِكَ اجْتِمَاعًا سَائِغًا وَهُمْ مَعْصُومُونَ أَنْ يَجْتَمِعُوا

(1/31)


عَلَى ضَلَالَةٍ، وَلَمْ يَكُنْ فِي ذَلِكَ تَرْكٌ لِوَاجِبٍ وَلَا فِعْلٌ لِمَحْظُورٍ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ التَّرْخِيصَ فِي الْأَحْرُفِ السَّبْعَةِ كَانَ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ لِمَا فِي الْمُحَافَظَةِ عَلَى حَرْفٍ وَاحِدٍ مِنَ الْمَشَقَّةِ عَلَيْهِمْ أَوَّلًا، فَلَمَّا تَذَلَّلَتْ أَلْسِنَتُهُمْ بِالْقِرَاءَةِ وَكَانَ اتِّفَاقُهُمْ عَلَى حَرْفٍ وَاحِدٍ يَسِيرًا عَلَيْهِمْ، وَهُوَ أَوْفَقُ لَهُمْ أَجْمَعُوا عَلَى الْحَرْفِ الَّذِي كَانَ فِي الْعَرْضَةِ الْأَخِيرَةِ، وَبَعْضُهُمْ يَقُولُ إِنَّهُ نَسَخَ مَا سِوَى ذَلِكَ ; وَلِذَلِكَ نَصَّ كَثِيرٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّ الْحُرُوفَ الَّتِي وَرَدَتْ عَنْ أُبَيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَغَيْرِهِمَا مِمَّا يُخَالِفُ هَذِهِ الْمَصَاحِفَ مَنْسُوخَةٌ، وَأَمَّا مَنْ يَقُولُ: إِنَّ بَعْضَ الصَّحَابَةِ كَابْنِ مَسْعُودٍ كَانَ يُجِيزُ الْقِرَاءَةَ بِالْمَعْنَى فَقَدْ كَذَبَ عَلَيْهِ، إِنَّمَا قَالَ: نَظَرْتُ الْقِرَاءَاتِ فَوَجَدْتُهُمْ مُتَقَارِبِينَ فَاقْرَءُوا كَمَا عُلِّمْتُمْ. نَعَمْ كَانُوا رُبَّمَا يُدْخِلُونَ التَّفْسِيرَ فِي الْقِرَاءَةِ إِيضَاحًا وَبَيَانًا لِأَنَّهُمْ مُحَقِّقُونَ لِمَا تَلَقَّوْهُ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قُرْآنًا فَهُمْ آمِنُونَ مِنَ الِالْتِبَاسِ وَرُبَّمَا كَانَ بَعْضُهُمْ يَكْتُبُهُ مَعَهُ، لَكِنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كَانَ يَكْرَهُ ذَلِكَ وَيَمْنَعُ مِنْهُ فَرَوَى مَسْرُوقٌ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ يَكْرَهُ التَّفْسِيرَ فِي الْقُرْآنِ وَرَوَى غَيْرُهُ عَنْهُ: " جَرِّدُوا الْقُرْآنَ وَلَا تُلْبِسُوا بِهِ مَا لَيْسَ مِنْهُ ".
(قُلْتُ) : وَلَا شَكَّ أَنَّ الْقُرْآنَ نُسِخَ مِنْهُ وَغُيِّرَ فِيهِ فِي الْعَرْضَةِ الْأَخِيرَةِ فَقَدْ صَحَّ النَّصُّ بِذَلِكَ عَنْ غَيْرِ وَاحِدٍ مِنَ الصَّحَابَةِ، وَرُوِّينَا بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَنْ زِرِّ بْنِ حُبَيْشٍ قَالَ: قَالَ لِي ابْنُ عَبَّاسٍ أَيُّ الْقِرَاءَتَيْنِ تَقْرَأُ؟ قُلْتُ: الْأَخِيرَةُ قَالَ: فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَعْرِضُ الْقُرْآنَ عَلَى جِبْرِيلَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً قَالَ: فَعَرَضَ عَلَيْهِ الْقُرْآنَ فِي الْعَامِ الَّذِي قُبِضَ فِيهِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَرَّتَيْنِ، فَشَهِدَ عَبْدُ اللَّهِ - يَعْنِي ابْنَ مَسْعُودٍ - مَا نُسِخَ مِنْهُ وَمَا بُدِّلَ، فَقِرَاءَةُ عَبْدِ اللَّهِ الْأَخِيرَةُ. وَإِذْ قَدْ ثَبَتَ ذَلِكَ فَلَا إِشْكَالَ أَنَّ الصَّحَابَةَ كَتَبُوا فِي هَذِهِ الْمَصَاحِفِ مَا تَحَقَّقُوا أَنَّهُ قُرْآنٌ وَمَا عَلِمُوهُ اسْتَقَرَّ فِي الْعَرْضَةِ الْأَخِيرَةِ، وَمَا تَحَقَّقُوا صِحَّتَهُ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِمَّا لَمْ يُنْسَخْ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ دَاخِلَةً فِي الْعَرْضَةِ الْأَخِيرَةِ ; وَلِذَلِكَ اخْتَلَفَتِ الْمَصَاحِفُ بَعْضَ اخْتِلَافٍ، إِذْ لَوْ كَانَتِ الْعَرْضَةُ الْأَخِيرَةُ فَقَطْ لَمْ تَخْتَلِفِ الْمَصَاحِفُ بِزِيَادَةٍ وَنَقْصٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ وَتَرَكُوا مَا سِوَى ذَلِكَ ; وَلِذَلِكَ لَمْ يَخْتَلِفْ عَلَيْهِمُ اثْنَانِ حَتَّى

(1/32)


إِنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لَمَّا وَلِيَ الْخِلَافَةَ بَعْدَ ذَلِكَ لَمْ يُنْكِرْ حَرْفًا وَلَا غَيَّرَهُ، مَعَ أَنَّهُ هُوَ الرَّاوِي أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَقْرَءُوا الْقُرْآنَ كَمَا عُلِّمْتُمْ، وَهُوَ الْقَائِلُ: لَوْ وَلِيتُ مِنَ الْمَصَاحِفِ مَا وَلِيَ عُثْمَانُ لَفَعَلْتُ كَمَا فَعَلَ. وَالْقِرَاءَاتُ الَّتِي تَوَاتَرَتْ عِنْدَنَا عَنْ عُثْمَانَ وَعَنْهُ وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَأُبَيٍّ وَغَيْرِهِمْ مِنَ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - لَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمْ فِيهَا إِلَّا الْخِلَافُ الْيَسِيرُ الْمَحْفُوظُ بَيْنَ الْقُرَّاءِ، ثُمَّ إِنَّ الصَّحَابَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - لَمَّا كَتَبُوا تِلْكَ الْمَصَاحِفَ جَرَّدُوهَا مِنَ النُّقَطِ وَالشَّكْلِ لِيَحْتَمِلَهُ مَا لَمْ يَكُنْ فِي الْعَرْضَةِ الْأَخِيرَةِ مِمَّا صَحَّ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَإِنَّمَا أَخْلَوُا الْمَصَاحِفَ مِنَ النُّقَطِ وَالشَّكْلِ لِتَكُونَ دِلَالَةُ الْخَطِّ الْوَاحِدِ عَلَى كِلَا اللَّفْظَيْنِ الْمَنْقُولَيْنِ الْمَسْمُوعَيْنِ الْمَتْلُوَّيْنِ شَبِيهَةً بِدَلَالَةِ اللَّفْظِ الْوَاحِدِ عَلَى كِلَا الْمَعْنَيَيْنِ الْمَعْقُولَيْنِ الْمَفْهُومَيْنِ، فَإِنَّ الصَّحَابَةَ - رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ - تَلَقَّوْا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا أَمَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِتَبْلِيغِهِ إِلَيْهِمْ مِنَ الْقُرْآنِ لَفْظِهِ وَمَعْنَاهُ جَمِيعًا، وَلَمْ يَكُونُوا لِيُسْقِطُوا شَيْئًا مِنَ الْقُرْآنِ الثَّابِتِ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَا يَمْنَعُوا مِنَ الْقِرَاءَةِ بِهِ.
(وَأَمَّا) هَلِ الْقِرَاءَاتُ الَّتِي يُقْرَأُ بِهَا الْيَوْمَ فِي الْأَمْصَارِ جَمِيعُ الْأَحْرُفِ السَّبْعَةِ أَمْ بَعْضُهَا، فَإِنَّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ تُبْتَنَى عَلَى الْفَصْلِ الْمُتَقَدِّمِ، فَإِنَّ مَنْ عِنْدَهُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِلْأُمَّةِ تَرْكُ شَيْءٍ مِنَ الْأَحْرُفِ السَّبْعَةِ يَدَّعِي أَنَّهَا مُسْتَمِرَّةُ النَّقْلِ بِالتَّوَاتُرِ إِلَى الْيَوْمِ، وَإِلَّا تَكُونُ الْأُمَّةُ جَمِيعُهَا عُصَاةً مُخْطِئِينَ فِي تَرْكِ مَا تَرَكُوا مِنْهُ، كَيْفَ وَهُمَ مَعْصُومُونَ مِنْ ذَلِكَ؟ ! وَأَنْتَ تَرَى مَا فِي هَذَا الْقَوْلِ، فَإِنَّ الْقِرَاءَاتِ الْمَشْهُورَةَ الْيَوْمَ عَنِ السَّبْعَةِ وَالْعَشَرَةِ وَالثَّلَاثَةَ عَشْرَةَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا كَانَ مَشْهُورًا فِي الْأَعْصَارِ الْأُوَلِ، قِلٌّ مَنْ كُثْرٍ وَنَزْرٌ مِنْ بَحْرٍ، فَإِنَّ مِنْ لَهُ اطِّلَاعٌ عَلَى ذَلِكَ يَعْرِفُ عِلْمَهُ الْعِلْمَ الْيَقِينَ، وَذَلِكَ أَنَّ الْقُرَّاءَ الَّذِينَ أَخَذُوا عَنْ أُولَئِكَ الْأَئِمَّةِ الْمُتَقَدِّمِينَ مِنَ السَّبْعَةِ وَغَيْرِهِمْ كَانُوا أُمَمًا لَا تُحْصَى، وَطَوَائِفَ لَا تُسْتَقْصَى، وَالَّذِينَ أَخَذُوا عَنْهُمْ أَيْضًا أَكْثَرُ وَهَلُمَّ جَرَّا، فَلَمَّا كَانَتِ الْمِائَةُ الثَّالِثَةُ وَاتَّسَعَ الْخَرْقُ وَقَلَّ الضَّبْطُ وَكَانَ عِلْمُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ أَوْفَرَ مَا كَانَ مِنْ ذَلِكَ الْعَصْرِ تَصَدَّى بَعْضُ الْأَئِمَّةِ لِضَبْطِ مَا رَوَاهُ مِنَ الْقِرَاءَاتِ فَكَانَ أَوَّلَ إِمَامٍ مُعْتَبَرٍ جَمَعَ

(1/33)


الْقِرَاءَاتِ فِي كِتَابٍ أَبُو عُبَيْدٍ الْقَاسِمُ بْنُ سَلَّامٍ، وَجَعَلَهُمْ فِيمَا أَحْسَبُ خَمْسَةً وَعِشْرِينَ قَارِئًا مَعَ هَؤُلَاءِ السَّبْعَةِ، وَتُوُفِّيَ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ وَمِائَتَيْنِ، وَكَانَ بَعْدَهُ أَحْمَدُ بْنُ جُبَيْرِ بْنِ مُحَمَّدٍ الْكُوفِيُّ نَزِيلُ أَنْطَاكِيَةَ جَمَعَ كِتَابًا فِي قِرَاءَاتِ الْخَمْسَةِ مِنْ كُلِّ مِصْرٍ وَاحِدٌ، وَتُوُفِّيَ سَنَةَ ثَمَانٍ وَخَمْسِينَ وَمِائَتَيْنِ، وَكَانَ بَعْدَهُ الْقَاضِي إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِسْحَاقَ الْمَالِكِيُّ صَاحِبُ قَالُونَ أَلَّفَ كِتَابًا فِي الْقِرَاءَاتِ جَمَعَ فِيهِ قِرَاءَةَ عِشْرِينَ إِمَامًا، مِنْهُمْ هَؤُلَاءِ السَّبْعَةُ تُوُفِّيَ سَنَةَ اثْنَتَيْنِ وَثَمَانِينَ وَمِائَتَيْنِ، وَكَانَ بَعْدَهُ الْإِمَامُ أَبُو جَعْفَرٍ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ جَمَعَ كِتَابًا حَافِلًا سَمَّاهُ الْجَامِعَ فِيهِ نَيِّفٌ وَعِشْرُونَ قِرَاءَةً، تُوُفِّيَ سَنَةَ عَشْرٍ وَثَلَاثِمِائَةٍ، وَكَانَ بُعَيْدَهُ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ عُمَرَ الدَّاجُونِيُّ جَمَعَ كِتَابًا فِي الْقِرَاءَاتِ وَأَدْخَلَ مَعَهُمْ أَبَا جَعْفَرٍ أَحَدَ الْعَشْرَةِ، وَتُوُفِّيَ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ، وَكَانَ فِي أَثَرِهِ أَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ بْنُ مُوسَى بْنِ الْعَبَّاسِ بْنِ مُجَاهِدٍ أَوَّلُ مَنِ اقْتَصَرَ عَلَى قِرَاءَاتِ هَؤُلَاءِ السَّبْعَةِ فَقَطْ. وَرَوَى فِيهِ عَنْ هَذَا الدَّاجُونِيُّ وَعَنِ ابْنِ جَرِيرٍ أَيْضًا، وَتُوُفِّيَ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ. وَقَامَ النَّاسُ فِي زَمَانِهِ وَبَعْدَهُ فَأَلَّفُوا فِي الْقِرَاءَاتِ أَنْوَاعَ التَّوَالِيفِ، كَأَبِي بَكْرٍ أَحْمَدَ بْنِ نَصْرٍ الشَّذَائِيِّ، تُوُفِّيَ سَنَةَ سَبْعِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ، وَأَبِي بَكْرٍ أَحْمَدَ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ مِهْرَانَ مُؤَلِّفِ كِتَابِ الشَّامِلِ وَالْغَايَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ فِي قِرَاءَاتِ الْعَشَرَةِ، وَتُوُفِّيَ سَنَةَ إِحْدَى وَثَمَانِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ، وَالْإِمَامِ الْأُسْتَاذِ أَبِي الْفَضْلِ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرٍ الْخُزَاعِيِّ مُؤَلِّفِ الْمُنْتَهَى جَمَعَ فِيهِ مَا لَمْ يَجْمَعْهُ مَنْ قَبْلَهُ، وَتُوُفِّيَ سَنَةَ ثَمَانٍ وَأَرْبَعِمِائَةٍ.
وَانْتُدِبَ النَّاسُ لِتَأْلِيفِ الْكُتُبِ فِي الْقِرَاءَاتِ بِحَسَبِ مَا وَصَلَ إِلَيْهِمْ وَصَحَّ لَدَيْهِمْ، كُلُّ ذَلِكَ وَلَمْ يَكُنْ بِالْأَنْدَلُسِ وَلَا بِبِلَادِ الْغَرْبِ شَيْءٌ مِنْ هَذِهِ الْقِرَاءَاتِ إِلَى أَوَاخِرِ الْمِائَةِ الرَّابِعَةِ، فَرَحَلَ مِنْهُمْ مَنْ رَوَى الْقِرَاءَاتِ بِمِصْرَ وَدَخَلَ بِهَا، وَكَانَ أَبُو عُمَرَ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الطَّلَمَنْكِيُّ مُؤَلِّفُ الرَّوْضَةِ أَوَّلَ مَنْ أَدْخَلَ الْقِرَاءَاتِ إِلَى الْأَنْدَلُسِ، وَتُوُفِّيَ سَنَةَ تِسْعٍ وَعِشْرِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ، ثُمَّ تَبِعَهُ أَبُو مُحَمَّدٍ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ الْقَيْسِيُّ مُؤَلِّفُ التَّبْصِرَةِ وَالْكَشْفِ وَغَيْرِ ذَلِكَ وَتُوُفِّيَ سَنَةَ سَبْعٍ وَثَلَاثِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ، ثُمَّ الْحَافِظُ أَبُو عَمْرٍو عُثْمَانُ بْنُ سَعِيدٍ الدَّانِيُّ مُؤَلِّفُ التَّيْسِيرِ وَجَامِعِ الْبَيَانِ

(1/34)


وَغَيْرِ ذَلِكَ تُوُفِّيَ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَأَرْبَعِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ، وَهَذَا كِتَابُ جَامِعِ الْبَيَانِ لَهُ فِي قِرَاءَاتِ السَّبْعَةِ فِيهِ عَنْهُمْ أَكْثَرُ مِنْ خَمْسمِائَةِ رِوَايَةٍ وَطَرِيقٍ، وَكَانَ بِدِمَشْقَ الْأُسْتَاذُ أَبُو عَلِيٍّ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الْأَهْوَازِيُّ مُؤَلِّفُ الْوَجِيزِ وَالْإِيجَازِ وَالْإِيضَاحِ وَالِاتِّضَاحِ، وَجَامِعِ الْمَشْهُورِ وَالشَّاذِّ وَمَنْ لَمْ يَلْحَقْهُ أَحَدٌ فِي هَذَا الشَّأْنِ، وَتُوُفِّيَ سَنَةَ سِتٍّ وَأَرْبَعِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ.
وَفِي هَذِهِ الْحُدُودِ رَحَلَ مِنَ الْمَغْرِبِ أَبُو الْقَاسِمِ يُوسُفُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ جُبَارَةَ الْهُذَلِيُّ إِلَى الْمَشْرِقِ وَطَافَ الْبِلَادَ، وَرَوَى عَنْ أَئِمَّةِ الْقِرَاءَةِ حَتَّى انْتَهَى إِلَى مَا وَرَاءَ النَّهْرِ وَقَرَأَ بِغَزْنَةَ وَغَيْرِهَا وَأَلَّفَ كِتَابَهُ الْكَامِلَ جَمَعَ فِيهِ خَمْسِينَ قِرَاءَةً عَنِ الْأَئِمَّةِ وَأَلْفًا وَأَرْبَعَمِائَةٍ وَتِسْعَةً وَخَمْسِينَ رِوَايَةً وَطَرِيقًا، قَالَ فِيهِ: فَجُمْلَةُ مَنْ لَقِيتُ فِي هَذَا الْعِلْمِ ثَلَاثُمِائَةٍ وَخَمْسَةٌ وَسِتُّونَ شَيْخًا مِنْ آخِرِ الْمَغْرِبِ إِلَى بَابِ فَرْغَانَةَ يَمِينًا وَشِمَالًا وَجَبَلًا وَبَحْرًا، وَتُوُفِّيَ سَنَةَ خَمْسٍ وَسِتِّينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ.
وَفِي هَذَا الْعَصْرِ كَانَ أَبُو مَعْشَرٍ عَبْدُ الْكَرِيمِ بْنُ عَبْدِ الصَّمَدِ الطَّبَرِيُّ بِمَكَّةَ مُؤَلِّفُ كِتَابِ التَّلْخِيصِ فِي الْقِرَاءَاتِ الثَّمَانِ وَسُوقِ الْعَرُوسِ فِيهِ أَلْفٌ وَخَمْسُمِائَةٍ وَخَمْسُونَ رِوَايَةً وَطَرِيقًا، وَتُوُفِّيَ سَنَةَ ثَمَانٍ وَسَبْعِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ، وَهَذَانَ الرَّجُلَانِ أَكْثَرُ مَنْ عَلِمْنَا جَمِيعًا فِي الْقِرَاءَاتِ، لَا نَعْلَمُ أَحَدًا بَعْدَهُمَا جَمَعَ أَكْثَرَ مِنْهُمَا إِلَّا أَبَا الْقَاسِمِ عِيسَى بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ الْإِسْكَنْدَرِيَّ، فَإِنَّهُ أَلَّفَ كِتَابًا سَمَّاهُ الْجَامِعَ الْأَكْبَرَ وَالْبَحْرَ الْأَزْخَرَ يَحْتَوِي عَلَى سَبْعَةِ آلَافِ رِوَايَةٍ وَطَرِيقٍ، وَتُوُفِّيَ سَنَةَ تِسْعٍ وَعِشْرِينَ وَسِتِّمِائَةٍ، وَلَا زَالَ النَّاسُ يُؤَلِّفُونَ فِي كَثِيرِ الْقِرَاءَاتِ وَقَلِيلِهَا وَيَرْوُونَ شَاذَّهَا وَصَحِيحَهَا بِحَسَبِ مَا وَصَلَ إِلَيْهِمْ، أَوْ صَحَّ لَدَيْهِمْ وَلَا يُنْكِرُ أَحَدٌ عَلَيْهِمْ، بَلْ هُمْ فِي ذَلِكَ مُتَّبِعُونَ سَبِيلَ السَّلَفِ حَيْثُ قَالُوا: الْقِرَاءَةُ سُنَّةٌ مُتَّبَعَةٌ يَأْخُذُهَا الْآخِرُ عَنِ الْأَوَّلِ، وَمَا عَلِمْنَا أَحَدًا أَنْكَرَ شَيْئًا قَرَأَ بِهِ الْآخَرُ إِلَّا مَا قَدَّمْنَا عَنِ ابْنِ شَنَبُوذَ، لَكِنَّهُ خَرَجَ عَنِ الْمُصْحَفِ الْعُثْمَانِيِّ، وَلِلنَّاسِ فِي ذَلِكَ خِلَافٌ كَمَا قَدَّمْنَاهُ وَكَذَا مَا أُنْكِرَ عَلَى ابْنِ مِقْسَمٍ مِنْ كَوْنِهِ أَجَازَ الْقِرَاءَةَ بِمَا وَافَقَ الْمُصْحَفَ مِنْ غَيْرِ أَثَرٍ كَمَا قَدَّمْنَا. أَمَّا مَنْ قَرَأَ بِالْكَامِلِ لِلْهُذَلِيِّ، أَوْ سُوقِ الْعَرُوسِ لِلطَّبَرَيِّ، أَوْ إِقْنَاعِ الْأَهْوَازِيِّ، أَوْ كِفَايَةِ أَبِي الْعِزِّ، أَوْ مُبْهِجِ سِبْطِ الْخَيَّاطِ، أَوْ رَوْضَةِ الْمَالِكِيِّ، وَنَحْوِ

(1/35)


ذَلِكَ عَلَى مَا فِيهِ مِنْ ضَعِيفٍ وَشَاذٍّ عَنِ السَّبْعَةِ وَالْعَشَرَةِ وَغَيْرِهِمْ فَلَا نَعْلَمُ أَحَدًا أَنْكَرَ ذَلِكَ، وَلَا زَعَمَ أَنَّهُ مُخَالِفٌ لِشَيْءٍ مِنَ الْأَحْرُفِ السَّبْعَةِ، بَلْ مَا زَالَتْ عُلَمَاءُ الْأُمَّةِ وَقُضَاةُ الْمُسْلِمِينَ يَكْتُبُونَ خُطُوطَهُمْ وَيُثْبِتُونَ شَهَادَتَهُمْ فِي إِجَازَاتِنَا بِمِثْلِ هَذِهِ الْكُتُبِ وَالْقِرَاءَاتِ.
وَإِنَّمَا أَطَلْنَا هَذَا الْفَصْلَ لِمَا بَلَغَنَا عَنْ بَعْضِ مَنْ لَا عِلْمَ لَهُ أَنَّ الْقِرَاءَاتِ الصَّحِيحَةَ هِيَ الَّتِي عَنْ هَؤُلَاءِ السَّبْعَةِ، أَوْ أَنَّ الْأَحْرُفَ السَّبْعَةَ الَّتِي أَشَارَ إِلَيْهَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هِيَ قِرَاءَةُ هَؤُلَاءِ السَّبْعَةِ، بَلْ غَلَبَ عَلَى كَثِيرٍ مِنَ الْجُهَّالِ أَنَّ الْقِرَاءَاتِ الصَّحِيحَةَ هِيَ الَّتِي فِي الشَّاطِبِيَّةِ وَالتَّيْسِيرِ وَأَنَّهَا هِيَ الْمُشَارُ إِلَيْهَا بِقَوْلِهِ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أُنْزِلَ الْقُرْآنُ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ، حَتَّى أَنَّ بَعْضَهُمْ يُطْلِقُ عَلَى مَا لَمْ يَكُنْ فِي هَذَيْنَ الْكِتَابَيْنِ أَنَّهُ شَاذٌّ، وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ يُطْلِقُ عَلَى مَا لَمْ يَكُنْ عَنْ هَؤُلَاءِ السَّبْعَةِ شَاذًّا، وَرُبَّمَا كَانَ كَثِيرٌ مِمَّا لَمْ يَكُنْ فِي الشَّاطِبِيَّةِ وَالتَّيْسِيرِ وَعَنْ غَيْرِ هَؤُلَاءِ السَّبْعَةِ أَصَحَّ مِنْ كَثِيرٍ مِمَّا فِيهِمَا، وَإِنَّمَا أَوْقَعَ هَؤُلَاءِ فِي الشُّبْهَةِ كَوْنُهُمْ سَمِعُوا: أُنْزِلَ الْقُرْآنُ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ، وَسَمِعُوا قِرَاءَاتِ السَّبْعَةِ فَظَنُّوا أَنَّ هَذِهِ السَّبْعَةَ هِيَ تِلْكَ الْمُشَارُ إِلَيْهَا ; وَلِذَلِكَ كَرِهَ كَثِيرٌ مِنَ الْأَئِمَّةِ الْمُتَقَدِّمِينَ اقْتِصَارَ ابْنِ مُجَاهِدٍ عَلَى سَبْعَةٍ مِنَ الْقُرَّاءِ وَخَطَّئُوهُ فِي ذَلِكَ، وَقَالُوا: أَلَا اقْتَصَرَ عَلَى دُونِ هَذَا الْعَدَدِ أَوْ زَادَهُ أَوْ بَيَّنَ مُرَادَهُ؟ لِيُخَلِّصَ مَنْ لَا يَعْلَمُ مِنْ هَذِهِ الشُّبْهَةِ.
(قَالَ الْإِمَامُ أَبُو الْعَبَّاسِ أَحْمَدُ بْنُ عَمَّارٍ الْمَهْدَوِيُّ) : فَأَمَّا اقْتِصَارُ أَهْلِ الْأَمْصَارِ فِي الْأَغْلَبِ عَلَى نَافِعٍ وَابْنِ كَثِيرٍ وَأَبِي عَمْرٍو وَابْنِ عَامِرٍ وَعَاصِمٍ وَحَمْزَةَ وَالْكِسَائِيِّ، فَذَهَبَ إِلَيْهِ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ اخْتِصَارًا وَاخْتِبَارًا، فَجَعَلَهُ عَامَّةُ النَّاسِ كَالْفَرْضِ الْمَحْتُومِ حَتَّى إِذَا سَمِعَ مَا يُخَالِفُهَا خَطَّأَ، أَوْ كَفَّرَ وَرُبَّمَا كَانَتْ أَظْهَرَ وَأَشْهَرَ، ثُمَّ اقْتَصَرَ مَنْ قَلَّتْ عِنَايَتُهُ عَلَى رَاوِيَيْنِ لِكُلِّ إِمَامٍ مِنْهُمْ، فَصَارَ إِذَا سَمِعَ قِرَاءَةَ رَاوٍ عَنْهُ غَيْرَهُمَا أَبْطَلَهَا وَرُبَّمَا كَانَتْ أَشْهَرَ، وَلَقَدْ فَعَلَ مُسَبِّعُ هَؤُلَاءِ السَّبْعَةِ مَا لَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَفْعَلَهُ، وَأَشْكَلَ عَلَى الْعَامَّةِ حَتَّى جَهِلُوا مَا لَمْ يَسَعْهُمْ جَهْلُهُ وَأَوْهَمَ كُلَّ مَنْ قَلَّ نَظَرُهُ أَنَّ هَذِهِ هِيَ الْمَذْكُورَةَ فِي الْخَبَرِ النَّبَوِيِّ لَا غَيْرَ وَأَكَّدَ وَهْمَ اللَّاحِقِ السَّابِقُ، وَلَيْتَهُ، إِذِ اقْتَصَرَ نَقَصَ عَنِ السَّبْعَةِ، أَوْ زَادَ لِيُزِيلَ هَذِهِ

(1/36)


الشُّبْهَةَ.
(وَقَالَ أَيْضًا) : الْقِرَاءَةُ الْمُسْتَعْمَلَةُ الَّتِي لَا يَجُوزُ رَدُّهَا مَا اجْتَمَعَ فِيهَا الثَّلَاثَةُ الشُّرُوطُ فَمَا جَمَعَ ذَلِكَ وَجَبَ قَبُولُهُ وَلَمْ يَسَعْ أَحَدًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ رَدُّهُ، سَوَاءٌ كَانَتْ عَنْ أَحَدِ الْأَئِمَّةِ السَّبْعَةِ الْمُقْتَصَرِ عَلَيْهِمْ فِي الْأَغْلَبِ أَوْ غَيْرِهِمْ.
قَالَ الْإِمَامُ أَبُو مُحَمَّدٍ مَكِّيٌّ: وَقَدْ ذَكَرَ النَّاسُ مِنَ الْأَئِمَّةِ فِي كُتُبِهِمْ أَكْثَرَ مِنْ سَبْعِينَ مِمَّنْ هُوَ أَعْلَى مَرْتَبَةً وَأَجَلَّ قَدْرًا مِنْ هَؤُلَاءِ السَّبْعَةِ، عَلَى أَنَّهُ قَدْ تَرَكَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ فِي كُتُبِهِمْ فِي الْقِرَاءَاتِ ذِكْرَ بَعْضِ هَؤُلَاءِ السَّبْعَةِ وَاطَّرَحَهُمْ.
فَقَدْ تَرَكَ أَبُو حَاتِمٍ وَغَيْرُهُ ذِكْرَ حَمْزَةَ وَالْكِسَائِيِّ وَابْنِ عَامِرٍ وَزَادَ نَحْوَ عِشْرِينَ رَجُلًا مِنَ الْأَئِمَّةِ مِمَّنْ هُوَ فَوْقَ هَؤُلَاءِ السَّبْعَةِ، وَكَذَلِكَ زَادَ الطَّبَرَيُّ فِي كِتَابِ الْقِرَاءَاتِ لَهُ عَلَى هَؤُلَاءِ السَّبْعَةِ نَحْوَ خَمْسَةَ عَشَرَ رَجُلًا، وَكَذَلِكَ فَعَلَ أَبُو عُبَيْدٍ وَإِسْمَاعِيلُ الْقَاضِي، فَكَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يَظُنَّ ظَانٌّ أَنَّ هَؤُلَاءِ السَّبْعَةَ الْمُتَأَخِّرِينَ قِرَاءَةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ أَحَدُ الْحُرُوفِ السَّبْعَةِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهَا؟ هَذَا تَخَلُّفٌ عَظِيمٌ، أَكَانَ ذَلِكَ بِنَصٍّ مِنَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمْ كَيْفَ ذَلِكَ؟ وَكَيْفَ يَكُونُ ذَلِكَ وَالْكِسَائِيُّ إِنَّمَا أُلْحِقَ بِالسَّبْعَةِ بِالْأَمْسِ فِي أَيَّامِ الْمَأْمُونِ وَغَيْرِهِ وَكَانَ السَّابِعُ يَعْقُوبَ الْحَضْرَمِيَّ فَأَثْبَتَ ابْنُ مُجَاهِدٍ فِي سَنَةَ ثَلَاثِمِائَةٍ أَوْ نَحْوِهَا الْكِسَائِيَّ فِي مَوْضِعِ يَعْقُوبَ، ثُمَّ أَطَالَ الْكَلَامَ فِي تَقْرِيرِ ذَلِكَ.
وَقَالَ الْإِمَامُ الْحَافِظُ أَبُو عَمْرٍو الدَّانِيُّ بَعْدَ أَنْ سَاقَ اعْتِقَادَهُ فِي الْأَحْرُفِ السَّبْعَةِ وَوُجُوهِ اخْتِلَافهَا، وَإِنَّ الْقُرَّاءَ السَّبْعَةَ وَنَظَائِرَهُمْ مِنَ الْأَئِمَّةِ مُتَّبِعُونَ فِي جَمِيعِ قِرَاءَتِهِمُ الثَّابِتَةِ عَنْهُمُ الَّتِي لَا شُذُوذَ فِيهَا.
وَقَالَ أَبُو الْقَاسِمِ الْهُذَلِيُّ فِي كَامِلِهِ: وَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَقُولَ لَا تُكْثِرُوا مِنَ الرِّوَايَاتِ وَيُسَمِّيَ مَا لَمْ يَصِلْ إِلَيْهِ شَاذًّا ; لِأَنَّ مَا مِنْ قِرَاءَةٍ قُرِئَتْ وَلَا رِوَايَةٍ رُوِيَتْ إِلَّا وَهِيَ صَحِيحَةٌ إِذَا وَافَقَتْ رَسْمَ الْإِمَامِ وَلَمْ تُخَالِفِ الْإِجْمَاعَ.
(قُلْتُ) : وَقَدْ وَقَفْتُ عَلَى نَصِّ الْإِمَامِ أَبِي بَكْرٍ الْعَرَبِيِّ فِي كِتَابِهِ الْقَبَسِ عَلَى جَوَازِ الْقِرَاءَةِ وَالْإِقْرَاءِ بِقِرَاءَةِ أَبِي جَعْفَرٍ وَشَيْبَةَ وَالْأَعْمَشِ وَغَيْرِهِمْ، وَأَنَّهَا لَيْسَتْ

(1/37)


مِنَ الشَّاذَّةِ، وَلَفْظُهُ: وَلَيْسَتْ هَذِهِ الرِّوَايَاتُ بِأَصْلٍ لِلتَّعْيِينِ، رُبَّمَا خَرَجَ عَنْهَا مَا هُوَ مِثْلُهَا، أَوْ فَوْقَهَا كَحُرُوفِ أَبِي جَعْفَرٍ الْمَدَنِيِّ وَغَيْرِهِ. وَكَذَلِكَ رَأَيْتُ نَصَّ الْإِمَامِ أَبِي مُحَمَّدِ بْنِ حَزْمٍ فِي آخِرِ كِتَابِ السِّيرَةِ، وَقَالَ الْإِمَامُ مُحْيِي السُّنَّةِ أَبُو مُحَمَّدٍ الْحُسَيْنُ بْنُ مَسْعُودٍ الْبَغَوِيُّ فِي أَوَّلِ تَفْسِيرِهِ: ثُمَّ إِنَّ النَّاسَ كَمَا أَنَّهُمْ مُتَعَبِّدُونَ بِاتِّبَاعِ أَحْكَامِ الْقُرْآنِ وَحِفْظِ حُدُودِهِ، فَهُمْ مُتَعَبِّدُونَ بِتِلَاوَتِهِ وَحِفْظِ حُرُوفِهِ عَلَى سَنَنِ خَطِّ الْمُصْحَفِ الْإِمَامِ الَّذِي اتَّفَقَتِ الصَّحَابَةُ عَلَيْهِ، وَأَنْ لَا يُجَاوِزُوا فِيمَا يُوَافِقُ الْخَطَّ عَمَّا قَرَأَ بِهِ الْقُرَّاءُ الْمَعْرُوفُونَ الَّذِينَ خَلَفُوا الصَّحَابَةَ وَالتَّابِعِينَ وَاتَّفَقَتِ الْأُمَّةُ عَلَى اخْتِيَارِهِمْ، قَالَ: وَقَدْ ذَكَرْتُ فِي هَذَا الْكِتَابِ قِرَاءَاتِ مَنِ اشْتَهَرَ مِنْهُمْ بِالْقِرَاءَةِ وَاخْتِيَارَاتِهِمْ عَلَى مَا قَرَأْتُهُ وَذَكَرَ إِسْنَادَهُ إِلَى ابْنِ مِهْرَانَ، ثُمَّ سَمَّاهُمْ فَقَالَ: وَهُمْ أَبُو جَعْفَرٍ وَنَافِعٌ الْمَدَنِيَّانِ، وَابْنُ كَثِيرٍ الْمَكِّيُّ وَابْنُ عَامِرٍ الشَّامِيُّ وَأَبُو عَمْرِو بْنُ الْعَلَاءِ وَيَعْقُوبُ الْحَضْرَمِيُّ الْبَصْرِيَّانِ، وَعَاصِمٌ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ الْكُوفِيُّونَ، ثُمَّ قَالَ: فَذَكَرْتُ قِرَاءَةَ هَؤُلَاءِ لِلِاتِّفَاقِ عَلَى جَوَازِ الْقِرَاءَةِ بِهَا.
وَقَالَ الْإِمَامُ الْكَبِيرُ الْحَافِظُ الْمُجْمَعُ عَلَى قَوْلِهِ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ أَبُو الْعَلَاءِ الْحَسَنُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ الْحَسَنِ الْهَمَذَانِيُّ فِي أَوَّلِ غَايَتِهِ: أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فِي اخْتِلَافِ الْقُرَّاءِ الْعَشَرَةِ الَّذِينَ اقْتَدَى النَّاسُ بِقِرَاءَتِهِمْ وَتَمَسَّكُوا فِيهَا بِمَذَاهِبِهِمْ مِنْ أَهْلِ الْحِجَازِ وَالشَّامِ وَالْعِرَاقِ، ثُمَّ ذَكَرَ الْقُرَّاءَ الْعَشَرَةَ الْمَعْرُوفِينَ، وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ وَمُفْتِي الْأَنَامِ الْعَلَّامَةُ أَبُو عَمْرٍو عُثْمَانُ بْنُ الصَّلَاحِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - مِنْ جُمْلَةِ جَوَابِ فَتْوَى وَرَدَتْ عَلَيْهِ مِنْ بِلَادِ الْعَجَمِ ذَكَرَهَا الْعَلَّامَةُ أَبُو شَامَةَ فِي كِتَابِهِ الْمُرْشِدِ الْوَجِيزِ، أَشَرْنَا إِلَيْهَا فِي كِتَابِنَا الْمُنْجِدِ: يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ الْمَقْرُوءُ بِهِ قَدْ تَوَاتَرَ نَقْلُهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قُرْآنًا وَاسْتَفَاضَ نَقْلُهُ كَذَلِكَ وَتَلَقَّتْهُ الْأُمَّةُ بِالْقَبُولِ كَهَذِهِ الْقِرَاءَاتِ السَّبْعِ ; لِأَنَّ الْمُعْتَبَرَ فِي ذَلِكَ الْيَقِينُ وَالْقَطْعُ عَلَى مَا تَقَرَّرَ وَتَمَهَّدَ فِي الْأُصُولِ، فَمَا لَمْ يُوجَدْ فِيهِ ذَلِكَ كَمَا عَدَا السَّبْعَ أَوْ كَمَا عَدَا الْعَشْرَ فَمَمْنُوعٌ مِنَ الْقِرَاءَةِ بِهِ مَنْعَ تَحْرِيمٍ لَا مَنْعَ كَرَاهَةٍ، انْتَهَى.

(1/38)


وَلِمَا قَدِمَ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الْمُؤْمِنِ الْوَاسِطِيُّ دِمَشْقَ فِي حُدُودِ سَنَةِ ثَلَاثِينَ وَسَبْعِمِائَةٍ وَأَقْرَأَ بِهَا لِلْعِشْرَةِ بِمُضَمَّنِ كِتَابَيْهِ الْكَنْزِ وَالْكِفَايَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، بَلَغَنَا أَنَّ بَعْضَ مُقْرِئِي دِمَشْقَ مِمَّنْ كَانَ لَا يَعْرِفُ سِوَى الشَّاطِبِيَّةِ وَالتَّيْسِيرِ حَسَدَهُ وَقَصَدَ مَنْعَهُ مِنْ بَعْضِ الْقُضَاةِ، فَكَتَبَ عُلَمَاءُ ذَلِكَ الْعَصْرِ فِي ذَلِكَ وَأَئِمَّتُهُ وَلَمْ يَخْتَلِفُوا فِي جَوَازِ ذَلِكَ وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ قِرَاءَاتِ هَؤُلَاءِ الْعَشْرِ وَاحِدَةٌ، وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا فِي إِطْلَاقِ الشَّاذِّ عَلَى مَا عَدَا هَؤُلَاءِ الْعَشَرَةَ وَتَوَقَّفَ بَعْضُهُمْ وَالصَّوَابُ أَنَّ مَا دَخَلَ فِي تِلْكَ الْأَرْكَانِ الثَّلَاثَةِ فَهُوَ صَحِيحٌ، وَمَا لَا فَعَلَى مَا تَقَدَّمَ.
وَكَانَ مِنْ جَوَابِ الشَّيْخِ الْإِمَامِ مُجْتَهِدِ ذَلِكَ الْعَصْرِ أَبِي الْعَبَّاسِ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدِ الْحَلِيمِ بْنِ عَبْدِ السَّلَامِ بْنِ تَيْمِيَّةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لَا نِزَاعَ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ الْمُعْتَبَرِينَ أَنَّ الْأَحْرُفَ السَّبْعَةَ الَّتِي ذَكَرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّ الْقُرْآنَ أُنْزِلَ عَلَيْهَا لَيْسَتْ قِرَاءَاتِ الْقُرَّاءِ السَّبْعَةِ الْمَشْهُورَةَ، بَلْ أَوَّلُ مَنْ جَمَعَ ذَلِكَ ابْنُ مُجَاهِدٍ ; لِيَكُونَ ذَلِكَ مُوَافِقًا لِعَدَدِ الْحُرُوفِ الَّتِي أُنْزِلَ عَلَيْهَا الْقُرْآنُ، لَا لِاعْتِقَادِهِ وَاعْتِقَادِ غَيْرِهِ مِنَ الْعُلَمَاءِ أَنَّ الْقِرَاءَاتِ السَّبْعَ هِيَ الْحُرُوفُ السَّبْعَةُ، أَوْ أَنَّ هَؤُلَاءِ السَّبْعَةَ الْمُعَيَّنِينَ هُمُ الَّذِينَ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقْرَأَ بِغَيْرِ قِرَاءَتِهِمْ، وَلِهَذَا قَالَ بَعْضُ مَنْ قَالَ مِنْ أَئِمَّةِ الْقُرَّاءِ: لَوْلَا أَنَّ ابْنَ مُجَاهِدٍ سَبَقَنِي إِلَى حَمْزَةَ لَجَعَلْتُ مَكَانَهُ يَعْقُوبَ الْحَضْرَمِيَّ إِمَامَ جَامِعِ الْبَصْرَةِ وَإِمَامَ قُرَّاءِ الْبَصْرَةِ فِي زَمَانِهِ وَفِي رَأْسِ الْمِائَتَيْنِ، ثُمَّ قَالَ - أَعْنِي ابْنَ تَيْمِيَّةَ -: وَلِذَلِكَ لَمْ يَتَنَازَعْ عُلَمَاءُ الْإِسْلَامِ الْمُتَّبِعُونَ مِنَ السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ فِي أَنَّهُ لَا يَتَعَيَّنُ أَنْ يُقْرَأَ بِهَذِهِ الْقِرَاءَاتِ الْمُعَيَّنَةِ فِي جَمِيعِ أَمْصَارِ الْمُسْلِمِينَ، بَلْ مَنْ ثَبَتَتْ عِنْدَهُ قِرَاءَةُ الْأَعْمَشِ شَيْخِ حَمْزَةَ، أَوْ قِرَاءَةُ يَعْقُوبَ الْحَضْرَمِيِّ وَنَحْوِهِمَا، كَمَا ثَبَتَتْ عِنْدَهُ قِرَاءَةُ حَمْزَةَ وَالْكِسَائِيِّ فَلَهُ أَنْ يَقْرَأَ بِهَا بِلَا نِزَاعٍ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ الْمُعْتَبَرِينَ مِنْ أَهْلِ الْإِجْمَاعِ وَالْخِلَافِ، بَلْ أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ الْأَئِمَّةِ الَّذِينَ أَدْرَكُوا قِرَاءَةَ حَمْزَةَ: كَسُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ وَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ وَبِشْرِ بْنِ الْحَارِثِ وَغَيْرِهِمْ يَخْتَارُونَ قِرَاءَةَ أَبِي جَعْفَرِ بْنِ الْقَعْقَاعِ وَشَيْبَةَ بْنِ نِصَاحٍ الْمَدَنِيَّيْنِ، وَقِرَاءَةَ الْبَصْرِيِّينَ كَشُيُوخِ يَعْقُوبَ وَغَيْرِهِمْ عَلَى قِرَاءَةِ حَمْزَةَ وَالْكِسَائِيِّ، وَلِلْعُلَمَاءِ الْأَئِمَّةِ فِي ذَلِكَ مِنَ

(1/39)


الْكَلَامِ مَا هُوَ مَعْرُوفٌ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ، وَلِهَذَا كَانَ أَئِمَّةُ أَهْلِ الْعِرَاقِ الَّذِينَ ثَبَتَتْ عِنْدَهُمْ قِرَاءَاتُ الْعَشَرَةِ وَالْأَحَدَ عَشَرَ كَثُبُوتِ هَذِهِ السَّبْعَةِ يَجْمَعُونَ فِي ذَلِكَ الْكُتُبَ وَيَقْرَءُونَهُ فِي الصَّلَاةِ وَخَارِجَ الصَّلَاةِ وَذَلِكَ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ لَمْ يُنْكِرْهُ أَحَدٌ مِنْهُمْ.
وَأَمَّا الَّذِي ذَكَرَهُ الْقَاضِي عِيَاضٌ وَمَنْ نَقَلَ كَلَامَهُ مِنَ الْإِنْكَارِ عَلَى ابْنِ شَنَبُوذَ الَّذِي كَانَ يَقْرَأُ بِالشَّوَاذِّ فِي الصَّلَاةِ فِي أَثْنَاءِ الْمِائَةِ الرَّابِعَةِ وَجَرَتْ لَهُ قِصَّةٌ مَشْهُورَةٌ، فَإِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ فِي الْقِرَاءَاتِ الشَّاذَّةِ الْخَارِجَةِ عَنِ الْمُصْحَفِ وَلَمْ يُنْكِرْ أَحَدٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ قِرَاءَةَ الْعَشَرَةِ، وَلَكِنْ مَنْ لَمْ يَكُنْ عَالِمًا بِهَا، أَوْ لَمْ تَثْبُتْ عِنْدَهُ كَمَنْ يَكُونُ فِي بَلَدٍ مِنْ بِلَادِ الْإِسْلَامِ بِالْمَغْرِبِ، أَوْ غَيْرِهِ لَمْ يَتَّصِلْ بِهِ بَعْضُ هَذِهِ الْقِرَاءَاتِ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَقْرَأَ بِمَا لَا يَعْلَمُهُ، فَإِنَّ الْقِرَاءَةَ كَمَا قَالَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ سُنَّةٌ يَأْخُذُهَا الْآخِرُ عَنِ الْأَوَّلِ، كَمَا أَنَّ مَا ثَبَتَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ أَنْوَاعِ الِاسْتِفْتَاحَاتِ فِي الصَّلَاةِ وَمِنْ أَنْوَاعِ صِفَةِ الْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ، وَصِفَةِ صَلَاةِ الْخَوْفِ وَغَيْرِ ذَلِكَ كُلُّهُ حَسُنٌ يُشْرَعُ الْعَمَلُ بِهِ لِمَنْ عَلِمَهُ، وَأَمَّا مَنْ عَلِمَ نَوْعًا وَلَمْ يَعْلَمْ بِغَيْرِهِ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَعْدِلَ عَمَّا عَلِمَهُ إِلَى مَا لَمْ يَعْلَمْ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُنْكِرَ عَلَى مَنْ عَلِمَ مَا لَمْ يَعْلَمْهُ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَنْ يُخَالِفَهُ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لَا تَخْتَلِفُوا ; فَإِنَّ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمُ اخْتَلَفُوا فَهَلَكُوا، ثُمَّ بَسَطَ الْقَوْلَ فِي ذَلِكَ، ثُمَّ قَالَ: فَتَبَيَّنَ بِمَا ذَكَرْنَاهُ أَنَّ الْقِرَاءَاتِ الْمَنْسُوبَةَ إِلَى نَافِعٍ وَعَاصِمٍ لَيْسَتْ هِيَ الْأَحْرُفَ السَّبْعَةَ الَّتِي أُنْزِلَ الْقُرْآنُ عَلَيْهَا وَذَلِكَ بِاتِّفَاقِ عُلَمَاءِ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ، وَكَذَلِكَ لَيْسَتْ هَذِهِ الْقِرَاءَاتُ السَّبْعُ هِيَ مَجْمُوعَ حَرْفٍ وَاحِدٍ مِنَ الْأَحْرُفِ السَّبْعَةِ الَّتِي أُنْزِلَ الْقُرْآنُ عَلَيْهَا بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ الْمُعْتَبَرِينَ، بَلِ الْقِرَاءَاتُ الثَّابِتَةُ عَنِ الْأَئِمَّةِ الْقُرَّاءِ: كَالْأَعْمَشِ وَيَعْقُوبَ وَخَلَفٍ وَأَبِي جَعْفَرٍ، وَشَيْبَةَ وَنَحْوِهِمْ هِيَ بِمَنْزِلَةِ الْقِرَاءَاتِ الثَّابِتَةِ عَنْ هَؤُلَاءِ السَّبْعَةِ عِنْدَ مَنْ يَثْبُتُ ذَلِكَ عِنْدَهُ، وَهَذَا أَيْضًا مِمَّا لَمْ يَتَنَازَعْ فِيهِ الْأَئِمَّةُ الْمُتَّبَعُونَ مِنْ أَئِمَّةِ الْفُقَهَاءِ وَالْقُرَّاءِ وَغَيْرِهِمْ، وَإِنَّمَا تَنَازَعَ النَّاسُ مِنَ الْخَلَفِ فِي الْمُصْحَفِ الْعُثْمَانِيِّ الْإِمَامِ الَّذِي أَجْمَعَ عَلَيْهِ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالتَّابِعُونَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ وَالْأُمَّةُ بَعْدَهُمْ هَلْ هُوَ بِمَا فِيهِ مِنْ قِرَاءَةِ السَّبْعَةِ وَتَمَامِ الْعَشْرَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ حَرْفٌ مِنَ الْأَحْرُفِ السَّبْعَةِ الَّتِي أُنْزِلَ الْقُرْآنُ عَلَيْهَا

(1/40)


أَوْ هُوَ مَجْمُوعُ الْأَحْرُفِ السَّبْعَةِ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ مَشْهُورَيْنِ، وَالْأَوَّلُ قَوْلُ أَئِمَّةِ السَّلَفِ وَالْعُلَمَاءِ وَالثَّانِي قَوْلُ طَوَائِفَ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ وَالْقُرَّاءِ وَغَيْرِهِمْ، ثُمَّ قَالَ فِي آخِرِ جَوَابِهِ: وَتَجُوزُ الْقِرَاءَةُ فِي الصَّلَاةِ وَخَارِجِهَا بِالْقِرَاءَاتِ الثَّابِتَةِ الْمُوَافِقَةِ لِرَسْمِ الْمُصْحَفِ كَمَا ثَبَتَتْ هَذِهِ الْقِرَاءَاتُ وَلَيْسَتْ شَاذَّةً حِينَئِذٍ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَكَانَ مِنْ جَوَابِ الْإِمَامِ الْحَافِظِ أُسْتَاذِ الْمُفَسِّرِينَ أَبِي حَيَّانَ مُحَمَّدِ بْنِ يُوسُفَ بْنِ حَيَّانَ الْجَيَّانِيِّ الْأَنْدَلُسِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وَمِنْ خَطِّهِ نَقَلْتُ: قَدْ ثَبَتَ لَنَا بِالنَّقْلِ الصَّحِيحِ أَنَّ أَبَا جَعْفَرٍ شَيْخُ نَافِعٍ، وَأَنَّ نَافِعًا قَرَأَ عَلَيْهِ، وَكَانَ أَبُو جَعْفَرٍ مِنْ سَادَاتِ التَّابِعِينَ وَهُمَا بِمَدِينَةِ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، حَيْثُ كَانَ الْعُلَمَاءُ مُتَوَافِرِينَ وَأَخَذَ قِرَاءَتَهُ عَنِ الصَّحَابَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ تَرْجُمَانِ الْقُرْآنِ وَغَيْرِهِ وَلَمْ يَكُنْ مَنْ هُوَ بِهَذِهِ الْمَثَابَةِ لِيَقْرَأَ كِتَابَ اللَّهِ بِشَيْءٍ مُحَرَّمٍ عَلَيْهِ، وَكَيْفَ وَقَدْ تَلَقَّفَ ذَلِكَ فِي مَدِينَةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ صَحَابَتِهِ غَضًّا رَطْبًا قَبْلَ أَنْ تَطُولَ الْأَسَانِيدُ وَتَدْخُلَ فِيهَا النَّقَلَةُ غَيْرُ الضَّابِطِينَ، وَهَذَا وَهُمْ عَرَبٌ آمِنُونَ مِنَ اللَّحْنِ، وَأَنَّ يَعْقُوبَ كَانَ إِمَامَ الْجَامِعِ بِالْبَصْرَةِ يَؤُمُّ بِالنَّاسِ، وَالْبَصْرَةُ إِذْ ذَاكَ مَلْأَى مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَلَمْ يُنْكِرْ أَحَدٌ عَلَيْهِ شَيْئًا مِنْ قِرَاءَتِهِ وَيَعْقُوبُ تِلْمِيذُ سَلَّامٍ الطَّوِيلِ وَسَلَّامٌ تِلْمِيذُ أَبِي عَمْرٍو وَعَاصِمٍ، فَهُوَ مِنْ جِهَةِ أَبِي عَمْرٍو كَأَنَّهُ مِثْلُ الدُّورِيِّ الَّذِي رَوَى عَنِ الْيَزِيدِيِّ عَنْ أَبِي عَمْرٍو وَمِنْ جِهَةِ عَاصِمٍ كَأَنَّهُ مِثْلُ الْعُلَيْمِيِّ، أَوْ يَحْيَى اللَّذَيْنِ رَوَيَا عَنْ أَبِي بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ وَقَرَأَ يَعْقُوبُ أَيْضًا عَلَى غَيْرِ سَلَّامٍ، ثُمَّ قَالَ: وَهَلْ هَذِهِ الْمُخْتَصَرَاتُ الَّتِي بِأَيْدِي النَّاسِ الْيَوْمَ كَالتَّيْسِيرِ وَالتَّبْصِرَةِ وَالْعُنْوَانِ وَالشَّاطِبِيَّةِ بِالنِّسْبَةِ لِمَا اشْتَهَرَ مِنْ قِرَاءَاتِ الْأَئِمَّةِ السَّبْعَةِ إِلَّا نَزْرٌ مِنْ كُثْرٍ، وَقَطْرَةٌ مِنْ قَطْرٍ، وَيَنْشَأُ الْفَقِيهُ الْفُرُوعِيُّ فَلَا يَرَى إِلَّا مِثْلَ الشَّاطِبِيَّةِ وَالْعُنْوَانِ فَيَعْتَقِدُ أَنَّ السَّبْعَةَ مَحْصُورَةٌ فِي هَذَا فَقَطْ، وَمَنْ كَانَ لَهُ اطِّلَاعٌ عَلَى هَذَا الْفَنِّ رَأَى أَنَّ هَذَيْنِ الْكِتَابَيْنِ وَنَحْوَهُمَا مِنَ السَّبْعَةِ (كَثَغْبَةٍ مِنْ دَأْمَاءَ وَتُرْبَةٍ فِي بَهْمَاءَ) هَذَا أَبُو عَمْرِو بْنُ الْعَلَاءِ الْإِمَامُ الَّذِي يَقْرَأُ أَهْلُ الشَّامِ وَمِصْرَ بِقِرَاءَتِهِ اشْتَهَرَ عَنْهُ فِي هَذِهِ الْكُتُبِ الْمُخْتَصَرَةِ الْيَزِيدِيُّ وَعَنْهُ رَجُلَانِ الدُّورِيُّ وَالسُّوسِيُّ

(1/41)


وَعِنْدَ أَهْلِ النَّقْلِ اشْتَهَرَ عَنْهُ سَبْعَةَ عَشَرَ رَاوِيًا: الْيَزِيدِيُّ وَشُجَاعٌ وَعَبْدُ الْوَارِثِ وَالْعَبَّاسُ بْنُ الْفَضْلِ وَسَعِيدُ بْنُ أَوْسٍ وَهَارُونُ الْأَعْوَرُ وَالْخِفَافُ وَعُبَيْدُ بْنُ عَقِيلٍ وَحُسَيْنٌ الْجُعْفِيُّ وَيُونُسُ بْنُ حَبِيبٍ وَاللُّؤْلُؤِيُّ وَمَحْبُوبٌ وَخَارِجَةُ وَالْجَهْضَمِيُّ وَعِصْمَةُ وَالْأَصْمَعِيُّ وَأَبُو جَعْفَرٍ الرُّؤَاسِيُّ، فَكَيْفَ تُقْصَرُ قِرَاءَةُ أَبِي عَمْرٍو عَلَى الْيَزِيدِيِّ، وَيُلْغَى مَنْ سِوَاهُ مِنَ الرُّوَاةِ عَلَى كَثْرَتِهِمْ وَضَبْطِهِمْ وَدِرَايَتِهِمْ وَثِقَتِهِمْ، وَرُبَّمَا يَكُونُ فِيهِمْ مَنْ هُوَ أَوْثَقُ وَأَعْلَمُ مِنَ الْيَزِيدِيِّ؟
وَنَنْتَقِلُ إِلَى الْيَزِيدِيِّ فَنَقُولُ: اشْتَهَرَ مِمَّنْ رَوَى عَنِ الْيَزِيدِيِّ: الدُّورِيُّ وَالسُّوسِيُّ وَأَبُو حَمْدَانَ وَمُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ جُبَيْرٍ وَأُوقِيَّةُ أَبُو الْفَتْحِ وَأَبُو خَلَّادٍ وَجَعْفَرُ بْنُ حَمْدَانَ سَجَّادَةُ وَابْنُ سَعْدَانَ وَأَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْيَزِيدِيِّ وَأَبُو الْحَارِثِ اللَّيْثُ بْنُ خَالِدٍ، فَهَؤُلَاءِ عَشَرَةٌ فَكَيْفَ يُقْتَصَرُ عَلَى أَبِي شُعَيْبٍ وَالدُّورِيِّ وَيُلْغَى بَقِيَّةُ هَؤُلَاءِ الرُّوَاةِ الَّذِينَ شَارَكُوهُمَا فِي الْيَزِيدِيِّ، وَرُبَّمَا فِيهِمْ مَنْ هُوَ أَضْبَطُ مِنْهُمَا وَأَوْثَقُ؟
وَنَنْتَقِلُ إِلَى الدُّورِيِّ فَنَقُولُ: اشْتَهَرَ مِمَّنْ رَوَى عَنْهُ ابْنُ فَرَحٍ وَابْنُ بَشَّارٍ وَأَبُو الزَّعْرَاءِ وَابْنُ مَسْعُودٍ السَّرَّاجُ: وَالْكَاغِدِيُّ وَابْنُ بَرْزَةَ وَأَحْمَدُ بْنُ حَرْبٍ الْمُعَدَّلُ.
وَنَنْتَقِلُ إِلَى ابْنِ فَرَحٍ فَنَقُولُ: رَوَى عَنْهُ مِمَّا اشْتَهَرَ: زَيْدُ بْنُ أَبِي بِلَالٍ وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ الصَّمَدِ وَأَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ مُحَيْرِيزٍ وَأَبُو مُحَمَّدٍ الْقَطَّانُ وَالْمُطَّوِّعِيُّ، وَهَكَذَا نُنْزِلُ هَؤُلَاءِ الْقُرَّاءَ طَبَقَةً طَبَقَةً إِلَى زَمَانِنَا هَذَا فَكَيْفَ، وَهَذَا نَافِعٌ الْإِمَامُ الَّذِي يَقْرَأُ أَهْلُ الْمَغْرِبِ بِقِرَاءَتِهِ اشْتَهَرَ عَنْهُ فِي هَذِهِ الْكُتُبِ الْمُخْتَصَرَةِ وَرْشٌ وَقَالُونُ، وَعِنْدَ أَهْلِ النَّقْلِ اشْتَهَرَ عَنْهُ تِسْعَةُ رِجَالٍ: وَرْشٌ وَقَالُونُ وَإِسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرٍ وَأَبُو خُلَيْدٍ وَابْنُ جَمَّازٍ وَخَارِجَةُ وَالْأَصْمَعِيُّ وَكَرْدَمٌ وَالْمُسَيَّبِيُّ.
وَهَكَذَا كُلُّ إِمَامٍ مِنْ بَاقِي السَّبْعَةِ قَدِ اشْتَهَرَ عَنْهُ رُوَاةٌ غَيْرُ مَا فِي هَذِهِ الْمُخْتَصَرَاتِ، فَكَيْفَ يُلْغَى نَقْلُهُمْ وَيُقْتَصَرُ عَلَى اثْنَيْنِ؟ وَأَيُّ مَزِيَّةٍ وَشَرَفٍ لِذَيْنِكَ الِاثْنَيْنِ عَلَى رُفَقَائِهِمَا وَكُلُّهُمْ أَخَذُوا عَنْ شَيْخٍ وَاحِدٍ وَكُلُّهُمْ ضَابِطُونَ ثِقَاتٌ؟ وَأَيْضًا فَقَدْ كَانَ فِي زَمَانِ هَؤُلَاءِ السَّبْعَةِ مِنْ أَئِمَّةِ الْإِسْلَامِ النَّاقِلِينَ الْقِرَاءَاتِ عَالَمٌ لَا يُحْصَوْنَ، وَإِنَّمَا

(1/42)


جَاءَ مُقْرِئٌ اخْتَارَ هَؤُلَاءِ وَسَمَّاهُمْ، وَلِكَسَلِ بَعْضِ النَّاسِ وَقِصَرِ الْهِمَمِ، وَإِرَادَةِ اللَّهِ أَنْ يَنْقُصَ الْعِلْمُ اقْتَصَرُوا عَلَى السَّبْعَةِ، ثُمَّ اقْتَصَرُوا مِنَ السَّبْعَةِ عَلَى نَزْرٍ يَسِيرٍ مِنْهَا. انْتَهَى.
وَقَالَ الْإِمَامُ مُؤَرِّخُ الْإِسْلَامِ وَحَافِظُ الشَّامِ وَشَيْخُ الْمُحَدِّثِينَ وَالْقُرَّاءِ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الذَّهَبِيُّ فِي تَرْجَمَةِ ابْنِ شَنَبُوذَ مِنْ طَبَقَاتِ الْقُرَّاءِ لَهُ: إِنَّهُ كَانَ يَرَى جَوَازَ الْقِرَاءَةِ بِالشَّاذِّ وَهُوَ مَا خَالَفَ رَسْمَ الْمُصْحَفِ الْإِمَامِ مَعَ أَنَّ الْخِلَافَ فِي جَوَازِ ذَلِكَ مَعْرُوفٌ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ قَدِيمًا وَحَدِيثًا وَمَا رَأَيْنَا أَحَدًا أَنْكَرَ الْإِقْرَاءَ بِمِثْلِ قِرَاءَةِ يَعْقُوبَ وَأَبِي جَعْفَرٍ، وَإِنَّمَا أَنْكَرَ مَنْ أَنْكَرَ الْقِرَاءَةَ بِمَا لَيْسَ بَيْنَ الدَّفَّتَيْنِ.
وَقَالَ الْحَافِظُ أَبُو عَمْرٍو الدَّانِيُّ صَاحِبُ التَّيْسِيرِ فِي طَبَقَاتِهِ: وَائْتَمَّ بِيَعْقُوبَ فِي اخْتِيَارِهِ عَامَّةُ الْبَصْرِيِّينَ بَعْدَ أَبِي عَمْرٍو، فَهُمْ أَوْ أَكْثَرُهُمْ عَلَى مَذْهَبِهِ، قَالَ: وَقَدْ سَمِعْتُ طَاهِرَ بْنَ غَلْبُونَ يَقُولُ: إِمَامُ الْجَامِعِ بِالْبَصْرَةِ لَا يَقْرَأُ إِلَّا بِقِرَاءَةِ يَعْقُوبَ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَشْتَةَ الْأَصْبَهَانِيُّ وَعَلَى قِرَاءَةِ يَعْقُوبَ إِلَى هَذَا الْوَقْتِ أَئِمَّةُ الْمَسْجِدِ الْجَامِعِ بِالْبَصْرَةِ، وَكَذَلِكَ أَدْرَكْنَاهُمْ.
وَقَالَ الْإِمَامُ شَيْخُ الْإِسْلَامِ أَبُو الْفَضْلِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَحْمَدَ الرَّازِيُّ بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ الشُّبْهَةَ الَّتِي مِنْ أَجْلِهَا وَقَعَ بَعْضُ الْعَوَامِّ الْأَغْبِيَاءِ فِي أَنَّ أَحْرُفَ هَؤُلَاءِ الْأَئِمَّةِ السَّبْعَةِ هِيَ الْمُشَارُ إِلَيْهَا بِقَوْلِهِ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أُنْزِلَ الْقُرْآنُ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ، وَأَنَّ النَّاسَ إِنَّمَا ثَمَّنُوا الْقِرَاءَاتِ وَعَشَّرُوهَا وَزَادُوا عَلَى عَدَدِ السَّبْعَةِ الَّذِينَ اقْتَصَرَ عَلَيْهِمُ ابْنُ مُجَاهِدٍ لِأَجْلِ هَذِهِ الشُّبْهَةِ، ثُمَّ قَالَ: وَإِنِّي لَمْ أَقْتَفِ أَثَرَهُمْ تَثْمِينًا فِي التَّصْنِيفِ، أَوْ تَعْشِيرًا، أَوْ تَفْرِيدًا إِلَّا لِإِزَالَةِ مَا ذَكَرْتُهُ مِنَ الشُّبْهَةِ، وَلِيُعْلَمَ أَنْ لَيْسَ الْمُرَاعَى فِي الْأَحْرُفِ السَّبْعَةِ الْمُنَزَّلَةِ عَدَدًا مِنَ الرِّجَالِ دُونَ آخَرِينَ وَلَا الْأَزْمِنَةَ وَلَا الْأَمْكِنَةَ، وَأَنَّهُ لَوِ اجْتَمَعَ عَدَدٌ لَا يُحْصَى مِنَ الْأُمَّةِ فَاخْتَارَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ حُرُوفًا بِخِلَافِ صَاحِبِهِ وَجَرَّدَ طَرِيقًا فِي الْقِرَاءَةِ عَلَى حِدَةٍ فِي أَيِّ مَكَانٍ كَانَ وَفِي أَيِّ أَوَانٍ أَرَادَ بَعْدَ الْأَئِمَّةِ الْمَاضِينَ فِي ذَلِكَ بَعْدَ أَنْ كَانَ ذَلِكَ الْمُخْتَارُ بِمَا اخْتَارَهُ مِنَ الْحُرُوفِ

(1/43)


بِشَرْطِ الِاخْتِيَارِ، لَمَا كَانَ بِذَلِكَ خَارِجًا عَنِ الْأَحْرُفِ السَّبْعَةِ الْمُنَزَّلَةِ، بَلْ فِيهَا مُتَّسَعٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ.
وَقَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ الْوَلِيُّ مُوَفَّقُ الدِّينِ أَبُو الْعَبَّاسِ أَحْمَدُ بْنُ يُوسُفَ الْكَوَاشِيُّ الْمَوْصِلِيُّ فِي أَوَّلِ تَفْسِيرِهِ التَّبْصِرَةِ: وَكُلُّ مَا صَحَّ سَنَدُهُ وَاسْتَقَامَ وَجْهُهُ فِي الْعَرَبِيَّةِ وَوَافَقَ لَفْظُهُ خَطَّ الْمُصْحَفِ الْإِمَامِ فَهُوَ مِنَ السَّبْعَةِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهَا وَلَوْ رَوَاهُ سَبْعُونَ أَلْفًا مُجْتَمِعِينَ، أَوْ مُتَفَرِّقِينَ فَعَلَى هَذَا الْأَصْلِ بُنِيَ قَبُولُ الْقِرَاءَاتِ عَنْ سَبْعَةٍ كَانُوا أَوْ سَبْعَةِ آلَافٍ، وَمَتَى فُقِدَ وَاحِدٌ مِنْ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْقِرَاءَةِ فَاحْكُمْ بِأَنَّهَا شَاذَّةٌ. انْتَهَى.
وَقَالَ الْإِمَامُ الْعَلَّامَةُ شَيْخُ الشَّافِعِيَّةِ وَالْمُحَقِّقُ لِلْعُلُومِ الشَّرْعِيَّةِ أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ الْكَافِي السُّبْكِيُّ فِي شَرْحِ الْمِنْهَاجِ فِي صِفَةِ الصَّلَاةِ: (فَرْعٌ) قَالُوا - يَعْنِي أَصْحَابَنَا الْفُقَهَاءَ -: تَجُوزُ الْقِرَاءَةُ فِي الصَّلَاةِ وَغَيْرِهَا بِالْقِرَاءَاتِ السَّبْعِ وَلَا تَجُوزُ بِالشَّاذَّةِ. وَظَاهِرُ هَذَا الْكَلَامِ يُوهِمُ أَنَّ غَيْرَ السَّبْعِ الْمَشْهُورَةِ مِنَ الشَّوَاذِّ، وَقَدْ نَقَلَ الْبَغَوِيُّ فِي أَوَّلِ تَفْسِيرِهِ الِاتِّفَاقَ عَلَى الْقِرَاءَةِ بِقِرَاءَةِ يَعْقُوبَ وَأَبِي جَعْفَرٍ مَعَ السَّبْعِ الْمَشْهُورَةِ، قَالَ: وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ الصَّوَابُ. وَاعْلَمْ أَنَّ الْخَارِجَ عَنِ السَّبْعَةِ الْمَشْهُورَةِ عَلَى قِسْمَيْنِ: مِنْهُ مَا يُخَالِفُ رَسْمَ الْمُصْحَفِ، فَهَذَا لَا شَكَّ فِي أَنَّهُ لَا يَجُوزُ قِرَاءَتُهُ لَا فِي الصَّلَاةِ وَلَا فِي غَيْرِهَا، وَمِنْهُ مَا لَا يُخَالِفُ رَسْمَ الْمُصْحَفِ وَلَمْ تَشْتَهِرِ الْقِرَاءَةُ بِهِ، وَإِنَّمَا وَرَدَ مِنْ طَرِيقٍ غَرِيبَةٍ لَا يُعَوَّلُ عَلَيْهَا، وَهَذَا يُظْهِرُ الْمَنْعَ مِنَ الْقِرَاءَةِ بِهِ أَيْضًا، وَمِنْهُ مَا اشْتَهَرَ عِنْدَ أَئِمَّةِ هَذَا الشَّأْنِ الْقِرَاءَةُ بِهِ قَدِيمًا وَحَدِيثًا، فَهَذَا لَا وَجْهَ لِلْمَنْعِ مِنْهُ وَمِنْ ذَلِكَ قِرَاءَةُ يَعْقُوبَ وَغَيْرِهِ، قَالَ: وَالْبَغَوِيُّ أَوْلَى مَنْ يُعْتَمَدُ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ ; فَإِنَّهُ مُقْرِئٌ فَقِيهٌ جَامِعٌ لِلْعُلُومِ، قَالَ: وَهَكَذَا التَّفْصِيلُ فِي شَوَاذَّ السَّبْعَةِ، فَإِنَّ عَنْهُمْ شَيْئًا كَثِيرًا شَاذًّا. انْتَهَى.
وَسُئِلَ وَلَدُهُ الْعَلَّامَةُ قَاضِي الْقُضَاةِ أَبُو نَصْرٍ عَبْدُ الْوَهَّابِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - عَنْ قَوْلِهِ فِي كِتَابِ جَمْعِ الْجَوَامِعِ فِي الْأُصُولِ: وَالسَّبْعُ مُتَوَاتِرَةٌ مَعَ قَوْلِهِ وَالصَّحِيحُ أَنَّ مَا وَرَاءَ الْعَشَرَةِ فَهُوَ شَاذٌّ: إِذَا كَانَتِ الْعَشْرُ مُتَوَاتِرَةً فَلِمَ لَا قُلْتُمْ وَالْعَشَرُ مُتَوَاتِرَةٌ بَدَلَ قَوْلِكُمْ

(1/44)


وَالسَّبْعُ؟ فَأَجَابَ: أَمَّا كَوْنُنَا لَمْ نَذْكُرِ الْعَشْرَ بَدَلَ السَّبْعِ مَعَ ادِّعَائِنَا تَوَاتُرَهَا فَلِأَنَّ السَّبْعَ لَمْ يُخْتَلَفْ فِي تَوَاتُرِهَا، وَقَدْ ذَكَرْنَا أَوَّلًا مَوْضِعَ الْإِجْمَاعِ، ثُمَّ عَطَفْنَا عَلَيْهِ مَوْضِعَ الْخِلَافِ، عَلَى أَنَّ الْقَوْلَ بِأَنَّ الْقِرَاءَاتِ الثَّلَاثَ غَيْرُ مُتَوَاتِرَةٍ فِي غَايَةِ السُّقُوطِ وَلَا يَصِحُّ الْقَوْلُ بِهِ عَمَّنْ يُعْتَبَرُ قَوْلُهُ فِي الدِّينِ وَهِيَ - أَعْنِي الْقِرَاءَاتِ الثَّلَاثَ -: قِرَاءَةُ يَعْقُوبَ وَخَلَفٍ وَأَبِي جَعْفَرِ بْنِ الْقَعْقَاعِ، لَا تُخَالِفُ رَسْمَ الْمُصْحَفِ، ثُمَّ قَالَ: سَمِعْتُ الشَّيْخَ الْإِمَامَ يَعْنِي وَالِدَهُ الْمَذْكُورَ يُشَدِّدُ النَّكِيرَ عَلَى بَعْضِ الْقُضَاةِ، وَقَدْ بَلَغَهُ عَنْهُ أَنَّهُ مَنَعَ مِنَ الْقِرَاءَةِ بِهَا وَاسْتَأْذَنَهُ بَعْضُ أَصْحَابِنَا مَرَّةً فِي إِقْرَاءِ السَّبْعِ فَقَالَ: أَذِنْتُ لَكَ أَنْ تُقْرِئَ الْعَشْرَ. انْتَهَى نَقَلْتُهُ مِنْ كِتَابِهِ مَنْعِ الْمَوَانِعِ عَلَى سُؤَالَاتِ جَمْعِ الْجَوَامِعِ، (وَقَدْ جَرَى) بَيْنِي وَبَيْنَهُ فِي ذَلِكَ كَلَامٌ كَثِيرٌ وَقُلْتُ لَهُ: يَنْبَغِي أَنْ تَقُولَ وَالْعَشْرُ مُتَوَاتِرَةٌ وَلَا بُدَّ، فَقَالَ: أَرَدْنَا التَّنْبِيهَ عَلَى الْخِلَافِ فَقُلْتُ: وَأَيْنَ الْخِلَافُ، وَأَيْنَ الْقَائِلُ بِهِ؟ وَمَنْ قَالَ: إِنَّ قِرَاءَةَ أَبِي جَعْفَرٍ وَيَعْقُوبَ وَخَلَفٍ غَيْرُ مُتَوَاتِرَةٍ، فَقَالَ: يُفْهَمُ مِنْ قَوْلِ ابْنِ الْحَاجِبِ وَالسَّبْعُ مُتَوَاتِرَةٌ. فَقُلْتُ: أَيُّ سَبْعٍ وَعَلَى تَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ هَؤُلَاءِ السَّبْعَةُ مَعَ أَنَّ كَلَامَ ابْنِ الْحَاجِبِ لَا يَدُلُّ عَلَيْهِ فَقِرَاءَةُ خَلَفٍ لَا تَخْرُجُ عَنْ قِرَاءَةِ أَحَدٍ مِنْهُمْ، بَلْ وَلَا عَنْ قِرَاءَةِ الْكُوفِيِّينَ فِي حَرْفٍ، فَكَيْفَ يَقُولُ أَحَدٌ بِعَدَمِ تَوَاتُرِهَا مَعَ ادِّعَائِهِ تَوَاتُرَ السَّبْعِ، وَأَيْضًا فَلَوْ قُلْنَا إِنَّهُ يَعْنِي هَؤُلَاءِ السَّبْعَةَ، فَمِنْ أَيِّ رِوَايَةٍ وَمِنْ أَيِّ طَرِيقٍ وَمِنْ أَيِّ كِتَابٍ؟ إِذِ التَّخْصِيصُ لَمْ يَدَّعِهِ ابْنُ الْحَاجِبِ وَلَوِ ادَّعَاهُ لَمَا سَلِمَ لَهُ، بَقِيَ الْإِطْلَاقُ فَيَكُونُ كُلَّمَا جَاءَ عَنِ السَّبْعَةِ فَقِرَاءَةُ يَعْقُوبَ جَاءَتْ عَنْ عَاصِمٍ وَأَبِي عَمْرٍو، وَأَبُو جَعْفَرٍ هُوَ شَيْخُ نَافِعٍ وَلَا يَخْرُجُ عَنِ السَّبْعَةِ مِنْ طُرُقٍ أُخْرَى، فَقَالَ: فَمِنْ أَجْلِ هَذَا قُلْتُ: وَالصَّحِيحُ أَنَّ مَا وَرَاءَ الْعَشَرَةِ فَهُوَ شَاذٌّ، وَمَا يُقَابِلُ الصَّحِيحَ إِلَّا فَاسِدٌ، ثُمَّ كَتَبْتُ لَهُ اسْتِفْتَاءً فِي ذَلِكَ وَصُورَتُهُ: مَا تَقُولُ السَّادَةُ الْعُلَمَاءُ أَئِمَّةُ الدِّينِ فِي الْقِرَاءَاتِ الْعَشْرِ الَّتِي يُقْرَأُ بِهَا الْيَوْمَ وَهَلْ هِيَ مُتَوَاتِرَةٌ أَمْ غَيْرُ مُتَوَاتِرَةٍ؟ وَهَلْ كُلَّمَا انْفَرَدَ بِهِ وَاحِدٌ مِنَ الْعَشَرَةِ بِحَرْفٍ مِنَ الْحُرُوفِ مُتَوَاتِرٌ أَمْ لَا؟ وَإِذَا كَانَتْ مُتَوَاتِرَةً فَمَا يَجِبُ عَلَى مَنْ جَحَدَهَا أَوْ حَرْفًا مِنْهَا؟ فَأَجَابَنِي وَمِنْ خَطِّهِ نَقَلْتُ:

(1/45)


الْحَمْدُ لِلَّهِ؛ الْقِرَاءَاتُ السَّبْعُ الَّتِي اقْتَصَرَ عَلَيْهَا الشَّاطِبِيُّ وَالثَّلَاثُ الَّتِي هِيَ قِرَاءَةُ أَبِي جَعْفَرٍ وَقِرَاءَةُ يَعْقُوبَ وَقِرَاءَةُ خَلَفٍ مُتَوَاتِرَةٌ مَعْلُومَةٌ مِنَ الدِّينِ بِالضَّرُورَةِ وَكُلُّ حَرْفٍ انْفَرَدَ بِهِ وَاحِدٌ مِنَ الْعَشَرَةِ مَعْلُومٌ مِنَ الدِّينِ بِالضَّرُورَةِ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا يُكَابِرُ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ إِلَّا جَاهِلٌ، وَلَيْسَ تَوَاتُرُ شَيْءٍ مِنْهَا مَقْصُورًا عَلَى مَنْ قَرَأَ بِالرِّوَايَاتِ، بَلْ هِيَ مُتَوَاتِرَةٌ عِنْدَ كُلِّ مُسْلِمٍ يَقُولُ أَشْهَدَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، وَلَوْ كَانَ مَعَ ذَلِكَ عَامِّيًّا جِلْفًا لَا يَحْفَظُ مِنَ الْقُرْآنِ حَرْفًا، وَلِهَذَا تَقْرِيرٌ طَوِيلٌ وَبُرْهَانٌ عَرِيضٌ لَا يَسَعُ هَذِهِ الْوَرَقَةَ شَرْحُهُ وَحَظُّ كُلِّ مُسْلِمٍ وَحَقُّهُ أَنْ يَدِينَ لِلَّهِ تَعَالَى وَيَجْزِمَ نَفْسَهُ بِأَنَّ مَا ذَكَرْنَاهُ مُتَوَاتِرٌ مَعْلُومٌ بِالْيَقِينِ لَا يَتَطَرَّقُ الظُّنُونُ وَلَا الِارْتِيَابُ إِلَى شَيْءٍ مِنْهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. كَتَبَهُ عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ السُّبْكِيِّ الشَّافِعِيُّ.
وَقَالَ الْإِمَامُ الْأُسْتَاذُ إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُحَمَّدٍ الْقَرَّابُ فِي أَوَّلِ كِتَابِهِ الشَّافِي: ثُمَّ التَّمَسُّكُ بِقِرَاءَةِ سَبْعَةٍ مِنَ الْقُرْآنِ دُونَ غَيْرِهِمْ لَيْسَ فِيهِ أَثَرٌ وَلَا سُنَّةٌ، وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ جَمْعِ بَعْضِ الْمُتَأَخِّرِينَ لَمْ يَكُنْ قَرَأَ بِأَكْثَرَ مِنَ السَّبْعِ فَصَنَّفَ كِتَابًا وَسَمَّاهُ السَّبْعَ فَانْتَشَرَ ذَلِكَ فِي الْعَامَّةِ وَتَوَهَّمُوا أَنَّهُ لَا تَجُوزُ الزِّيَادَةُ عَلَى مَا ذُكِرَ فِي ذَلِكَ الْكِتَابِ لِاشْتِهَارِ ذِكْرِ مُصَنِّفِهِ، وَقَدْ صَنَّفَ غَيْرُهُ كُتُبًا فِي الْقِرَاءَاتِ وَبَعْدَهُ وَذَكَرَ لِكُلِّ إِمَامٍ مِنْ هَؤُلَاءِ الْأَئِمَّةِ رِوَايَاتٍ كَثِيرَةً وَأَنْوَاعًا مِنَ الِاخْتِلَافِ، وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ إِنَّهُ لَا يَجُوزُ الْقِرَاءَةُ بِتِلْكَ الرِّوَايَاتِ مِنْ أَجْلِ أَنَّهَا غَيْرُ مَذْكُورَةٍ فِي كِتَابِ ذَلِكَ الْمُصَنِّفِ، وَلَوْ كَانَتِ الْقِرَاءَةُ مَحْصُورَةً بِسَبْعِ رِوَايَاتٍ لِسَبْعَةٍ مِنَ الْقُرَّاءِ لَوَجَبَ أَنْ لَا يُؤْخَذَ عَنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ إِلَّا رِوَايَةٌ، وَهَذَا لَا قَائِلَ بِهِ، وَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَتَوَهَّمَ مُتَوَهِّمٌ فِي قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أُنْزِلَ الْقُرْآنُ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ، أَنَّهُ مُنْصَرِفٌ إِلَى قِرَاءَةِ سَبْعَةٍ مِنَ الْقُرَّاءِ الَّذِينَ وُلِدُوا بَعْدَ التَّابِعِينَ ; لِأَنَّهُ يُؤَدِّي أَنْ يَكُونَ الْخَبَرُ مُتَعَرِّيًا عَنِ الْفَائِدَةِ إِلَى أَنْ يُولَدَ هَؤُلَاءِ الْأَئِمَّةُ السَّبْعَةُ فَيُؤْخَذُ عَنْهُمُ الْقِرَاءَةُ وَيُؤَدِّي أَيْضًا إِلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ مِنَ الصَّحَابَةِ أَنْ يَقْرَأَ إِلَّا بِمَا يَعْلَمُ أَنَّ هَؤُلَاءِ السَّبْعَةَ مِنَ

(1/46)


الْقُرَّاءِ إِذَا وُلِدُوا وَتَعَلَّمُوا اخْتَارُوا الْقِرَاءَةَ بِهِ، وَهَذَا تَجَاهُلٌ مِنْ قَائِلِهِ، قَالَ: وَإِنَّمَا ذَكَرْتُ ذَلِكَ لِأَنَّ قَوْمًا مِنَ الْعَامَّةِ يَقُولُونَهُ جَهْلًا وَيَتَعَلَّقُونَ بِالْخَبَرِ وَيَتَوَهَّمُونَ أَنَّ مَعْنَى السَّبْعَةِ الْأَحْرُفِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْخَبَرِ اتِّبَاعُ هَؤُلَاءِ الْأَئِمَّةِ السَّبْعَةِ وَلَيْسَ ذَلِكَ عَلَى مَا تَوَهَّمُوهُ، بَلْ طَرِيقُ أَخْذِ الْقِرَاءَةِ أَنْ تُؤْخَذَ عَنْ إِمَامٍ ثِقَةٍ لَفْظًا عَنْ لَفْظٍ إِمَامًا عَنْ إِمَامٍ إِلَى أَنْ يَتَّصِلَ بِالنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِجَمِيعِ ذَلِكَ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَبُو مُحَمَّدٍ مَكِّيٌّ فِي إِبَانَتِهِ: ذِكْرُ اخْتِلَافِ الْأَئِمَّةِ الْمَشْهُورِينَ غَيْرِ السَّبْعَةِ فِي سُورَةِ " الْحَمْدِ " مِمَّا يُوَافِقُ خَطَّ الْمُصْحَفِ وَيُقْرَأُ بِهِ، (قَرَأَ) إِبْرَاهِيمُ بْنُ أَبِي عَبْلَةَ (الْحَمْدُ لُلَّهِ) بِضَمِّ اللَّامِ الْأُولَى، (وَقَرَأَ) الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ بِكَسْرِ الدَّالِ وَفِيهِمَا بُعْدٌ فِي الْعَرَبِيَّةِ وَمَجَازُهُمَا الِاتِّبَاعُ، (وَقَرَأَ) أَبُو صَالِحٍ (مَالِكَ يَوْمِ الدِّينِ) بِأَلِفٍ وَالنَّصْبِ عَلَى النِّدَاءِ، وَكَذَلِكَ مُحَمَّدُ بْنُ السَّمَيْفَعِ الْيَمَانِيُّ وَهِيَ قِرَاءَةٌ حَسَنَةٌ، (وَقَرَأَ) أَبُو حَيْوَةَ (مَلِكَ) بِالنَّصْبِ عَلَى النِّدَاءِ مِنْ غَيْرِ أَلِفٍ، (وَقَرَأَ) عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ (مَلَكَ يَوْمَ) فَنَصَبَ اللَّامَ وَالْكَافَ وَنَصَبَ (يَوْمَ) فَجَعَلَهُ فِعْلًا مَاضِيًا، وَرَوَى عَبْدُ الْوَارِثِ عَنْ أَبِي عَمْرٍو (مَلْكِ يَوْمِ الدِّينِ) بِإِسْكَانِ اللَّامِ وَالْخَفْضِ وَهِيَ مَنْسُوبَةٌ لِعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، (وَقَرَأَ) عَمْرُو بْنُ فَائِدٍ الْإِسْوَارِيُّ (إِيَاكَ نَعْبُدُ وَإِيَاكَ) بِتَخْفِيفِ الْيَاءِ فِيهِمَا، وَقَدْ كَرِهَ ذَلِكَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ لِمُوَافَقَةِ لَفْظِهِ لَفْظَ إِيَا الشَّمْسِ وَهُوَ ضِيَاؤُهَا، (وَقَرَأَ) يَحْيَى بْنُ وَثَّابٍ (نِسْتَعِينُ) بِكَسْرِ النُّونِ الْأُولَى وَهِيَ لُغَةٌ مَشْهُورَةٌ حَسَنَةٌ، (وَرَوَى) الْخَلِيلُ بْنُ أَحْمَدَ عَنِ ابْنِ كَثِيرٍ (غَيْرَ الْمَغْضُوبِ) بِالنَّصْبِ وَنَصْبُهُ حَسَنٌ عَلَى الْحَالِ، أَوْ عَلَى الصِّفَةِ، (وَقَرَأَ) أَيُّوبُ السَّخْتِيَانِيُّ (وَلَا الضَّأْلِينَ) بِهَمْزَةٍ مَفْتُوحَةٍ فِي مَوْضِعِ الْأَلِفِ وَهُوَ قَلِيلٌ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ، قَالَ: فَهَذَا كُلُّهُ مُوَافِقٌ لِخَطِّ الْمُصْحَفِ وَالْقِرَاءَةُ بِهِ لِمَنْ رَوَاهُ عَنِ الثِّقَاتِ جَائِزَةٌ لِصِحَّةِ وَجْهِهِ فِي الْعَرَبِيَّةِ وَمُوَافَقَتِهِ الْخَطَّ إِذَا صَحَّ نَقْلُهُ.
(قُلْتُ) : كَذَا اقْتُصِرَ عَلَى نِسْبَةِ هَذِهِ الْقِرَاءَاتِ لِمَنْ نَسَبَهَا إِلَيْهِ، وَقَدْ وَافَقَهُمْ عَلَيْهَا غَيْرُهُمْ وَبَقِيَتْ قِرَاءَاتٌ أُخْرَى عَنِ الْأَئِمَّةِ الْمَشْهُورِينَ فِي الْفَاتِحَةِ تُوَافِقُ خَطَّ الْمُصْحَفِ

(1/47)


وَحُكْمُهَا حُكْمُ مَا ذُكِرَ ذَكَرَهَا الْإِمَامُ الصَّالِحُ الْوَلِيُّ أَبُو الْفَضْلِ الرَّازِيُّ فِي كِتَابِ اللَّوَامِحِ لَهُ: وَهِيَ (الْحَمْدَ لِلَّهِ) بِنَصْبِ الدَّالِ، (عَنْ) زَيْدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، (وَعَنْ) رُؤْبَةَ بْنِ الْعَجَّاجِ وَعَنْ هَارُونَ بْنِ مُوسَى الْعَتَكِيِّ وَوَجْهَا النَّصْبِ عَلَى الْمَصْدَرِ وَتَرْكِ فِعْلِهِ لِلشُّهْرَةِ، (وَعَنِ) الْحَسَنِ أَيْضًا، (الْحَمْدَ لَلَّهِ) بِفَتْحِ اللَّامِ إِتْبَاعًا لِنَصْبِ الدَّالِ وَهِيَ لُغَةُ بَعْضِ قَيْسٍ وَإِمَالَةِ الْأَلِفِ مِنْ (لِلَّهِ) لِقُتَيْبَةَ عَنِ الْكِسَائِيِّ وَوَجْهُهَا الْكَسْرَةُ بَعْدُ، (وَعَنْ) أَبِي زَيْدٍ سَعِيدِ بْنِ أَوْسٍ الْأَنْصَارِيِّ، (رَبُّ الْعَالَمِينَ) بِالرَّفْعِ وَالنَّصْبِ وَحَكَاهُ عَنِ الْعَرَبِ وَوَجْهُهُ أَنَّ النُّعُوتَ إِذَا تَتَابَعَتْ وَكَثُرَتْ جَازَتِ الْمُخَالَفَةُ بَيْنَهَا فَيُنْصَبُ بَعْضُهَا بِإِضْمَارِ فِعْلٍ وَيُرْفَعُ بَعْضُهَا بِإِضْمَارِ الْمُبْتَدَأِ وَلَا يَجُوزُ أَنْ تَرْجِعَ إِلَى الْجَرِّ بَعْدَمَا انْصَرَفْتَ عَنْهُ إِلَى الرَّفْعِ وَالنَّصْبِ، (وَعَنِ) الْكِسَائِيِّ فِي رِوَايَةِ سَوْرَةَ بْنِ الْمُبَارَكِ وَقُتَيْبَةَ (مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) بِالْإِمَالَةِ، (وَعَنْ) عَاصِمٍ الْجَحْدَرِيِّ، (مَالِكٌ) بِالرَّفْعِ وَالْأَلِفِ مُنَوَّنًا وَنَصْبِ (يَوْمَ الدِّينِ) بِإِضْمَارِ الْمُبْتَدَأِ وَإِعْمَالِ مَالِكِ فِي يَوْمِ، (وَعَنْ) عَوْنِ بْنِ أَبِي شَدَّادٍ الْعُقَيْلِيِّ (مَالِكُ) بِالْأَلِفِ وَالرَّفْعِ مَعَ الْإِضَافَةِ وَرَفْعُهُ بِإِضْمَارِ الْمُبْتَدَأِ وَهِيَ أَيْضًا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَأَبِي حَيْوَةَ وَعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، (وَعَنْ) عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ (مَلَّاكِ يَوْمِ الدِّينِ) بِتَشْدِيدِ اللَّامِ مَعَ الْخَفْضِ وَلَيْسَ ذَلِكَ بِمُخَالِفٍ لِلرَّسْمِ، بَلْ يَحْتَمِلُهُ تَقْدِيرًا كَمَا تَحْتَمِلُهُ قِرَاءَةُ (مَالِكِ) ، وَعَلَى ذَلِكَ قِرَاءَةُ حَمْزَةَ وَالْكِسَائِيِّ، (عَلَّامُ الْغَيْبِ) وَعَنِ الْيَمَانِيِّ أَيْضًا (مَلِيكِ يَوْمِ الدِّينِ) بِالْيَاءِ وَهِيَ مُوَافِقَةٌ لِلرَّسْمِ أَيْضًا كَتَقْدِيرِ الْمُوَافَقَةِ فِي جِبْرِيلَ وَمِيكَائِيلَ بِالْيَاءِ وَالْهَمْزَةِ وَكَقِرَاءَةِ أَبِي عَمْرٍو (وَأَكُونُ مِنَ الصَّالِحِينَ) بِالْوَاوِ، (وَعَنِ) الْفَضْلِ بْنِ مُحَمَّدٍ الرَّقَاشِيِّ (أَيَّاكَ نَعْبُدُ وَأَيَّاكَ) بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ فِيهِمَا، وَهِيَ لُغَةٌ وَرَوَاهَا سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ عَنْ عَلِيٍّ أَيْضًا، (وَعَنْ) أَبِي عَمْرٍو فِي رِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دَاوُدَ الْخُرَيْبِيِّ إِمَالَةُ الْأَلِفِ مِنْهُمَا وَوَجْهُ ذَلِكَ الْكَسْرَةُ مِنْ قَبْلُ، وَعَنْ بَعْضِ أَهْلِ مَكَّةَ (نَعْبُدْ) بِإِسْكَانِ الدَّالِ وَوَجْهُهَا التَّخْفِيفُ كَقِرَاءَةِ أَبِي عَمْرٍو (يَأْمُرْكُمْ) بِالْإِسْكَانِ، وَقِيلَ: إِنَّهُ عِنْدَهُمْ رَأْسُ آيَةٍ فَنَوَى الْوَقْفَ لِلسُّنَّةِ وَحَمَلَ الْوَصْلَ عَلَى الْوَقْفِ، وَرَوَى الْأَصْمَعِيُّ عَنْ

(1/48)


أَبِي عَمْرٍو، (الزِّرَاطَ) بِالزَّاي الْخَالِصَةِ وَجَاءَ أَيْضًا عَنْ حَمْزَةَ وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّ حُرُوفَ الصَّفِيرِ يُبْدَلُ بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ، وَهِيَ مُوَافِقَةٌ لِلرَّسْمِ كَمُوَافَقَةِ قِرَاءَةِ السِّينِ، وَعَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، (غَيْرُ الْمَغْضُوبِ) بِالرَّفْعِ، أَيْ: هُمْ غَيْرُ الْمَغْضُوبِ أَوْ أُولَئِكَ. وَعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ هُرْمُزَ الْأَعْرَجِ وَمُسْلِمِ بْنِ جُنْدُبٍ وَعِيسَى بْنِ عُمَرَ الثَّقَفِيِّ الْبَصْرِيِّ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَزِيدَ الْقَصِيرِ (عَلَيْهُمُ) بِضَمِّ الْهَاءِ وَوَصْلِ الْمِيمِ بِالْوَاو، وَعَنِ الْحَسَنِ وَعَمْرِو بْنِ فَائِدٍ (عَلَيْهِمِ) بِكَسْرِ الْهَاءِ وَوَصْلِ الْمِيمِ بِالْيَاءِ، وَعَنِ ابْنِ هُرْمُزَ أَيْضًا بِضَمِّ الْهَاءِ وَالْمِيمِ مِنْ غَيْرِ صِلَةٍ، وَعَنْهُ أَيْضًا بِكَسْرِ الْهَاءِ وَضَمِّ الْمِيمِ مِنْ غَيْرِ صِلَةٍ فَهَذِهِ أَرْبَعَةُ أَوْجُهٍ وَفِي الْمَشْهُورِ ثَلَاثَةٌ فَتَصِيرُ سَبْعَةً، وَكُلُّهَا لُغَاتٌ وَذَكَرَ أَبُو الْحَسَنِ الْأَخْفَشُ فِيهَا ثَلَاثُ لُغَاتٍ أُخْرَى لَوْ قُرِئَ بِهَا لَجَازَ، وَهِيَ ضَمُّ الْهَاءِ وَكَسْرُ الْمِيمِ مَعَ الصِّلَةِ وَالثَّانِيَةُ كَذَلِكَ إِلَّا أَنَّهُ بِغَيْرِ صِلَةٍ، وَالثَّالِثَةُ بِالْكَسْرِ فِيهِمَا مِنْ غَيْرِ صِلَةٍ وَلَمْ يَخْتَلِفْ عَنْ أَحَدٍ مِنْهُمْ فِي الْإِسْكَانِ وَقْفًا.
(قُلْتُ) : وَبَقِيَ مِنْهَا رِوَايَاتٌ أُخْرَى رُوِّينَاهَا مِنْهَا إِمَالَةُ (الْعَالَمِينَ وَالرَّحْمَنِ) بِخِلَافٍ لِقُتَيْبَةَ عَنِ الْكِسَائِيِّ، وَمِنْهَا إِشْبَاعُ الْكَسْرَةِ مِنْ (مَلِكِ يَوْمَ الدِّينِ) قَبْلَ الْيَاءِ حَتَّى تَصِيرَ يَاءً، وَإِشْبَاعُ الضَّمَّةِ مِنْ (نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ) حَتَّى تَصِيرَ وَاوًا رِوَايَةُ كَرْدَمٍ عَنْ نَافِعٍ وَرَوَاهَا أَيْضًا الْأَهْوَازِيُّ عَنْ وَرْشٍ وَلَهَا وَجْهٌ وَمِنْهَا، (يُعْبَدُ) بِالْيَاءِ وَضَمِّهَا وَفَتْحِ الْبَاءِ عَلَى الْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ قِرَاءَةُ الْحَسَنِ، وَهِيَ مُشْكَلَةٌ وَتُوَجَّهُ عَلَى الِاسْتِعَارَةِ وَالِالْتِفَاتِ.
وَأَمَّا حَقِيقَةُ اخْتِلَافِ هَذِهِ السَّبْعَةِ الْأَحْرُفِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهَا مِنَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَفَائِدَتُهُ، فَإِنَّ الِاخْتِلَافَ الْمُشَارَ إِلَيْهِ فِي ذَلِكَ اخْتِلَافُ تَنَوُّعٍ وَتَغَايُرٍ لَا اخْتِلَافَ تَضَادٍّ وَتَنَاقُضٍ، فَإِنَّ هَذَا مُحَالٌ أَنْ يَكُونَ فِي كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى قَالَ - تَعَالَى -: أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا، وَقَدْ تَدَبَّرْنَا اخْتِلَافَ الْقِرَاءَاتِ كُلِّهَا فَوَجَدْنَاهَا لَا تَخْلُو مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ: (أَحَدُهَا) اخْتِلَافُ اللَّفْظِ وَالْمَعْنَى وَاحِدٌ، (الثَّانِي) اخْتِلَافُهُمَا جَمِيعًا مَعَ جَوَازِ اجْتِمَاعِهِمَا فِي شَيْءٍ وَاحِدٍ، (الثَّالِثُ) اخْتِلَافُهُمَا جَمِيعًا مَعَ امْتِنَاعِ جَوَازِ اجْتِمَاعِهِمَا فِي شَيْءٍ

(1/49)


وَاحِدٍ، بَلْ يَتَّفِقَانِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ لَا يَقْتَضِي التَّضَادَّ.
فَأَمَّا الْأَوَّلُ فَكَالِاخْتِلَافِ فِي (الصِّرَاطَ وَعَلَيْهِمْ وَيُؤَدِّهِ وَالْقُدُسِ وَيَحْسَبُ) وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا يُطْلَقُ عَلَيْهِ أَنَّهُ لُغَاتٌ فَقَطْ.
وَأَمَّا الثَّانِي فَنَحْوُ (مَالِكِ، وَمَلِكِ) فِي الْفَاتِحَةِ ; لِأَنَّ الْمُرَادَ فِي الْقِرَاءَتَيْنِ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى ; لِأَنَّهُ مَالِكُ يَوْمِ الدِّينِ وَمَلِكُهُ وَكَذَا (يُكَذِّبُونَ، وَيَكْذِبُونَ) ; لِأَنَّ الْمُرَادَ بِهِمَا هُمُ الْمُنَافِقُونَ لِأَنَّهُمْ يُكَذِّبُونَ بِالنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَيَكْذِبُونَ فِي أَخْبَارِهِمْ وَكَذَا (كَيْفَ نُنْشِرُهَا) بِالرَّاءِ وَالزَّايِ ; لِأَنَّ الْمُرَادَ بِهِمَا هِيَ الْعِظَامُ وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ أَنْشَرَهَا أَيْ: أَحْيَاهَا، وَأَنْشَزَهَا أَيْ: رَفَعَ بَعْضَهَا إِلَى بَعْضٍ حَتَّى الْتَأَمَتْ فَضَمِنَ اللَّهُ تَعَالَى الْمَعْنَيَيْنِ فِي الْقِرَاءَتَيْنِ.
وَأَمَّا الثَّالِثُ فَنَحْوَ (وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا) بِالتَّشْدِيدِ وَالتَّخْفِيفِ، وَكَذَا (وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ) بِفَتْحِ اللَّامِ وَرَفْعِ الْأُخْرَى وَبِكَسْرِ الْأُولَى وَفَتْحِ الثَّانِيَةِ، وَكَذَا (لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا، وَفَتَنُوا) بِالتَّسْمِيَةِ وَالتَّجْهِيلِ، وَكَذَا قَالَ: (لَقَدْ عَلِمْتَ) بِضَمِّ التَّاءِ وَفَتْحِهَا، وَكَذَلِكَ مَا قُرِئَ شَاذًّا (وَهُوَ يُطْعَمُ وَلَا يُطْعِمُ) عَكْسَ الْقِرَاءَةِ الْمَشْهُورَةِ، وَكَذَلِكَ (يُطْعِمُ وَلَا يُطْعِمُ) عَلَى التَّسْمِيَةِ فِيهِمَا، فَإِنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ وَإِنِ اخْتَلَفَ لَفْظًا وَمَعْنَى وَامْتَنَعَ اجْتِمَاعُهُ فِي شَيْءٍ وَاحِدٍ، فَإِنَّهُ يَجْتَمِعُ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ يَمْتَنِعُ فِيهِ التَّضَادُّ وَالتَّنَاقُضُ. فَأَمَّا وَجْهُ تَشْدِيدِ (كُذِّبُوا) فَالْمَعْنَى وَتَيَقَّنَ الرُّسُلُ أَنَّ قَوْمَهُمْ قَدْ كَذَّبُوهُمْ، وَوَجْهُ التَّخْفِيفِ: وَتَوَهَّمَ الْمُرْسَلُ إِلَيْهِمْ أَنَّ الرُّسُلَ قَدْ كَذَبُوهُمْ فِيمَا أَخْبَرُوهُمْ بِهِ، فَالظَّنُّ فِي الْأُولَى يَقِينٌ، وَالضَّمَائِرُ الثَّلَاثَةُ لِلرُّسُلِ، وَالظَّنُّ فِي الْقِرَاءَةِ الثَّانِيَةِ شَكٌّ، وَالضَّمَائِرُ الثَّلَاثَةُ لِلْمُرْسَلِ إِلَيْهِمْ. وَأَمَّا وَجْهُ فَتْحِ اللَّامِ الْأُولَى وَرَفْعِ الثَّانِيَةِ مِنْ (لَتَزُولُ) فَهُوَ أَنْ يَكُونَ (إِنْ) مُخَفَّفَةً مِنَ الثَّقِيلَةِ، أَيْ: وَإِنَّ مَكْرَهُمْ كَانَ مِنَ الشِّدَّةِ بِحَيْثُ تَقْتَلِعُ مِنْهُ الْجِبَالُ الرَّاسِيَاتُ مِنْ مَوَاضِعِهَا، وَفِي الْقِرَاءَةِ الثَّانِيَةِ (إِنْ) نَافِيَةٌ، أَيْ: مَا كَانَ مَكْرُهُمْ وَإِنْ تَعَاظَمَ وَتَفَاقَمَ لِيَزُولَ مِنْهُ أَمْرُ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَدِينُ الْإِسْلَامِ، فَفِي الْأُولَى تَكُونُ الْجِبَالُ حَقِيقَةً وَفِي

(1/50)


الثَّانِيَةِ مَجَازًا.
وَأَمَّا وَجْهُ مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا عَلَى التَّجْهِيلِ فَهُوَ أَنَّ الضَّمِيرَ يَعُودُ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا، وَفِي التَّسْمِيَةِ يَعُودُ إِلَى الْخَاسِرُونَ. وَأَمَّا وَجْهُ ضَمِّ تَاءِ (عَلِمْتُ) ، فَإِنَّهُ أَسْنَدَ الْعِلْمَ إِلَى مُوسَى حَدِيثًا مِنْهُ لِفِرْعَوْنَ حَيْثُ قَالَ: إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ، فَقَالَ مُوسَى عَلَى نَفْسِهِ: (لَقَدْ عَلِمْتُ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ) ، فَأَخْبَرَ مُوسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - عَنْ نَفْسِهِ بِالْعِلْمِ بِذَلِكَ، أَيْ أَنَّ الْعَالِمَ ذَلِكَ لَيْسَ بِمَجْنُونٍ، وَقِرَاءَةُ فَتْحِ التَّاءِ أَنَّهُ أَسْنَدَ هَذَا الْعِلْمَ لِفِرْعَوْنَ مُخَاطَبَةً مِنْ مُوسَى لَهُ بِذَلِكَ عَلَى وَجْهِ التَّقْرِيعِ لِشِدَّةِ مُعَانَدَتِهِ لِلْحَقِّ بَعْدَ عِلْمِهِ، وَكَذَلِكَ وَجْهُ قِرَاءَةِ الْجَمَاعَةِ يُطْعِمُ بِالتَّسْمِيَةِ، وَلَا يُطْعَمُ عَلَى التَّجْهِيلِ أَنَّ الضَّمِيرَ فِي (وَهُوَ) يَعُودُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، أَيْ: وَاللَّهُ تَعَالَى يَرْزُقُ الْخَلْقَ وَلَا يَرْزُقُهُ أَحَدٌ، وَالضَّمِيرُ فِي عَكْسِ هَذِهِ الْقِرَاءَةِ يَعُودُ إِلَى الْوَلِيِّ، أَيْ: وَالْوَلِيُّ الْمُتَّخَذُ يُرْزَقُ وَلَا يَرْزُقُ أَحَدًا، وَالضَّمِيرُ فِي الْقِرَاءَةِ الثَّالِثَةِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، أَيْ: وَاللَّهُ يُطْعِمُ مَنْ يَشَاءُ وَلَا يُطْعِمُ مَنْ يَشَاءُ. فَلَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنَ الْقِرَاءَاتِ تَنَافٍ وَلَا تَضَادٌّ وَلَا تَنَاقُضٌ.
وَكُلُّ مَا صَحَّ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ ذَلِكَ فَقَدْ وَجَبَ قَبُولُهُ، وَلَمْ يَسَعْ أَحَدًا مِنَ الْأُمَّةِ رَدُّهُ وَلَزِمَ الْإِيمَانُ بِهِ، وَإِنَّ كُلَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، إِذْ كُلُّ قِرَاءَةٍ مِنْهَا مَعَ الْأُخْرَى بِمَنْزِلَةِ الْآيَةِ مَعَ الْآيَةِ يَجِبُ الْإِيمَانُ بِهَا كُلِّهَا وَاتِّبَاعُ مَا تَضَمَّنَتْهُ مِنَ الْمَعْنَى عِلْمًا وَعَمَلًا، وَلَا يَجُوزُ تَرْكُ مُوجِبِ إِحْدَاهُمَا لِأَجْلِ الْأُخْرَى ظَنًّا أَنَّ ذَلِكَ تَعَارُضٌ، وَإِلَى ذَلِكَ أَشَارَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بِقَوْلِهِ: " لَا تَخْتَلِفُوا فِي الْقُرْآنِ وَلَا تَتَنَازَعُوا فِيهِ ; فَإِنَّهُ لَا يَخْتَلِفُ وَلَا يَتَسَاقَطُ، أَلَا تَرَوْنَ أَنَّ شَرِيعَةَ الْإِسْلَامِ فِيهِ وَاحِدَةٌ، حُدُودُهَا وَقِرَاءَتُهَا وَأَمْرُ اللَّهِ فِيهَا وَاحِدٌ، وَلَوْ كَانَ مِنَ الْحَرْفَيْنِ حَرْفٌ يَأْمُرُ بِشَيْءٍ يَنْهَى عَنْهُ الْآخَرُ كَانَ ذَلِكَ الِاخْتِلَافَ، وَلَكِنَّهُ جَامِعٌ ذَلِكَ كُلَّهُ، وَمَنْ قَرَأَ عَلَى قِرَاءَةٍ فَلَا يَدَعْهَا رَغْبَةً عَنْهَا، فَإِنَّهُ مَنْ كَفَرَ بِحَرْفٍ مِنْهُ كَفَرَ بِهِ كُلَّهُ ".
(قُلْتُ) : وَإِلَى ذَلِكَ أَشَارَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَيْثُ قَالَ: لِأَحَدِ الْمُخْتَلِفِينَ: " أَحْسَنْتَ "، وَفِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ: " أَصَبْتَ "، وَفِي الْآخَرِ: " هَكَذَا أُنْزِلَتْ ". فَصَوَّبَ

(1/51)


النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قِرَاءَةَ كُلٍّ مِنَ الْمُخْتَلِفِينَ، وَقَطَعَ بِأَنَّهَا كَذَلِكَ أُنْزِلَتْ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، وَبِهَذَا افْتَرَقَ اخْتِلَافُ الْقُرَّاءِ مِنَ اخْتِلَافِ الْفُقَهَاءِ، فَإِنَّ اخْتِلَافَ الْقُرَّاءِ كُلٌّ حَقٌّ وَصَوَابٌ نَزَلَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَهُوَ كَلَامُهُ لَا شَكَّ فِيهِ وَاخْتِلَافُ الْفُقَهَاءِ اخْتِلَافٌ اجْتِهَادِيٌّ وَالْحَقُّ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ فِيهِ وَاحِدٌ، فَكُلُّ مَذْهَبٍ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْآخَرِ صَوَابٌ يَحْتَمِلُ الْخَطَأَ، وَكُلُّ قِرَاءَةٍ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْأُخْرَى حَقٌّ وَصَوَابٌ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ نَقْطَعُ بِذَلِكَ وَنُؤْمِنُ بِهِ، وَنَعْتَقِدُ أَنَّ مَعْنَى إِضَافَةِ كُلِّ حَرْفٍ مِنْ حُرُوفِ الِاخْتِلَافِ إِلَى مَنْ أُضِيفَ إِلَيْهِ مِنَ الصَّحَابَةِ وَغَيْرِهِمْ، إِنَّمَا هُوَ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ كَانَ أَضْبَطَ لَهُ وَأَكْثَرَ قِرَاءَةً وَإِقْرَاءً بِهِ، وَمُلَازَمَةً لَهُ، وَمَيْلًا إِلَيْهِ، لَا غَيْرَ ذَلِكَ. وَكَذَلِكَ إِضَافَةُ الْحُرُوفِ وَالْقِرَاءَاتِ إِلَى أَئِمَّةِ الْقِرَاءَةِ وَرُوَاتِهِمُ الْمُرَادُ بِهَا أَنَّ ذَلِكَ الْقَارِئَ وَذَلِكَ الْإِمَامَ اخْتَارَ الْقِرَاءَةَ بِذَلِكَ الْوَجْهِ مِنَ اللُّغَةِ حَسْبَمَا قَرَأَ بِهِ، فَآثَرَهُ عَلَى غَيْرِهِ، وَدَاوَمَ عَلَيْهِ وَلَزِمَهُ حَتَّى اشْتَهَرَ وَعُرِفَ بِهِ، وَقُصِدَ فِيهِ، وَأُخِذَ عَنْهُ ; فَلِذَلِكَ أُضِيفَ إِلَيْهِ دُونَ غَيْرِهِ مِنَ الْقُرَّاءِ، وَهَذِهِ الْإِضَافَةُ إِضَافَةُ اخْتِيَارٍ وَدَوَامٍ وَلُزُومٍ لَا إِضَافَةَ اخْتِرَاعٍ وَرَأْيٍ وَاجْتِهَادٍ.
وَأَمَّا فَائِدَةُ اخْتِلَافِ الْقِرَاءَاتِ وَتَنَوُّعِهَا، فَإِنَّ فِي ذَلِكَ فَوَائِدَ غَيْرَ مَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ سَبَبِ التَّهْوِينِ وَالتَّسْهِيلِ وَالتَّخْفِيفِ عَلَى الْأُمَّةِ.
وَمِنْهَا مَا فِي ذَلِكَ مِنْ نِهَايَةِ الْبَلَاغَةِ، وَكَمَالِ الْإِعْجَازِ وَغَايَةِ الِاخْتِصَارِ، وَجِمَالِ الْإِيجَازِ، إِذْ كُلُّ قِرَاءَةٍ بِمَنْزِلَةِ الْآيَةِ، إِذْ كَانَ تَنَوُّعُ اللَّفْظِ بِكَلِمَةٍ تَقُومُ مَقَامَ آيَاتٍ، وَلَوْ جُعِلَتْ دَلَالَةُ كُلِّ لَفْظٍ آيَةً عَلَى حِدَتِهَا لَمْ يَخَفْ مَا كَانَ فِي ذَلِكَ مِنَ التَّطْوِيلِ.
وَمِنْهَا مَا فِي ذَلِكَ مِنْ عَظِيمِ الْبُرْهَانِ وَوَاضِحِ الدِّلَالَةِ، إِذْ هُوَ مَعَ كَثْرَةِ هَذَا الِاخْتِلَافِ وَتَنَوُّعِهِ لَمْ يَتَطَرَّقْ إِلَيْهِ تَضَادٌّ وَلَا تَنَاقُضٌ وَلَا تَخَالُفٌ، بَلْ كُلُّهُ يُصَدِّقُ بَعْضُهُ بَعْضًا، وَيُبَيِّنُ بَعْضُهُ بَعْضًا، وَيَشْهَدُ بَعْضُهُ لِبَعْضٍ عَلَى نَمَطٍ وَاحِدٍ وَأُسْلُوبٍ وَاحِدٍ، وَمَا ذَلِكَ إِلَّا آيَةٌ بَالِغَةٌ، وَبُرْهَانٌ قَاطِعٌ عَلَى صِدْقِ مَنْ جَاءَ بِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَمِنْهُ سُهُولَةُ حِفْظِهِ وَتَيْسِيرُ نَقْلِهِ عَلَى هَذِهِ الْأُمَّةِ، إِذْ هُوَ عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ مِنَ الْبَلَاغَةِ

(1/52)


وَالْوَجَازَةِ، فَإِنَّهُ مَنْ يَحْفَظُ كَلِمَةً ذَاتَ أَوْجُهٍ أَسْهَلُ عَلَيْهِ وَأَقْرَبُ إِلَى فَهْمِهِ وَأَدْعَى لِقَبُولِهِ مِنْ حِفْظِهِ جُمَلًا مِنَ الْكَلَامِ تُؤَدِّي مَعَانِيَ تِلْكَ الْقِرَاءَاتِ الْمُخْتَلِفَاتِ، لَا سِيَّمَا فِيمَا كَانَ خَطُّهُ وَاحِدًا، فَإِنَّ ذَلِكَ أَسْهَلُ حِفْظًا وَأَيْسَرُ لَفْظًا.
وَمِنْهَا إِعْظَامُ أُجُورِ هَذِهِ الْأُمَّةِ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُمْ يُفْرِغُونَ جُهْدَهُمْ لِيَبْلُغُوا قَصْدَهُمْ فِي تَتَبُّعِ مَعَانِي ذَلِكَ وَاسْتِنْبَاطِ الْحُكْمِ وَالْأَحْكَامِ مِنْ دِلَالَةِ كُلِّ لَفْظٍ، وَاسْتِخْرَاجِ كَمِينِ أَسْرَارِهِ وَخَفِيِّ إِشَارَاتِهِ، وَإِنْعَامِهِمُ النَّظَرَ وَإِمْعَانِهِمُ الْكَشْفَ عَنِ التَّوَجُّهِ وَالتَّعْلِيلِ وَالتَّرْجِيحِ، وَالتَّفْصِيلِ بِقَدْرِ مَا يَبْلُغُ غَايَةُ عِلْمِهِمْ، وَيَصِلُ إِلَيْهِ نِهَايَةُ فَهْمِهِمْ فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى، وَالْأَجْرُ عَلَى قَدْرِ الْمَشَقَّةِ.
وَمِنْهَا بَيَانُ فَضْلِ هَذِهِ الْأُمَّةِ وَشَرَفِهَا عَلَى سَائِرِ الْأُمَمِ، مِنْ حَيْثُ تَلَقِّيهِمْ كِتَابَ رَبِّهِمْ هَذَا التَّلَقِّي، وَإِقْبَالُهُمْ عَلَيْهِ هَذَا الْإِقْبَالَ، وَالْبَحْثُ عَنْ لَفْظَةٍ لَفْظَةٍ، وَالْكَشْفُ عَنْ صِيغَةٍ صِيغَةٍ، وَبَيَانُ صَوَابِهِ، وَبَيَانُ تَصْحِيحِهِ، وَإِتْقَانُ تَجْوِيدِهِ، حَتَّى حَمَوْهُ مِنْ خَلَلِ التَّحْرِيفِ، وَحَفِظُوهُ مِنَ الطُّغْيَانِ وَالتَّطْفِيفِ، فَلَمْ يُهْمِلُوا تَحْرِيكًا وَلَا تَسْكِينًا، وَلَا تَفْخِيمًا وَلَا تَرْقِيقًا، حَتَّى ضَبَطُوا مَقَادِيرَ الْمَدَّاتِ وَتَفَاوُتَ الْإِمَالَاتِ وَمَيَّزُوا بَيْنَ الْحُرُوفِ بِالصِّفَاتِ، مِمَّا لَمْ يَهْتَدِ إِلَيْهِ فِكْرُ أُمَّةٍ مِنَ الْأُمَمِ، وَلَا يُوصَلُ إِلَيْهِ إِلَّا بِإِلْهَامِ بَارِئِ النَّسَمِ.
وَمِنْهَا مَا ادَّخَرَهُ اللَّهُ مِنَ الْمَنْقَبَةِ الْعَظِيمَةِ، وَالنِّعْمَةِ الْجَلِيلَةِ الْجَسِيمَةِ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ الشَّرِيفَةِ، مِنْ إِسْنَادِهَا كِتَابَ رَبِّهَا، وَاتِّصَالُ هَذَا السَّبَبِ الْإِلَهِيِّ بِسَبَبِهَا خَصِيصَةُ اللَّهِ تَعَالَى هَذِهِ الْأُمَّةَ الْمُحَمَّدِيَّةَ، وَإِعْظَامًا لِقَدْرِ أَهْلِ هَذِهِ الْمِلَّةِ الْحَنِيفِيَّةِ، وَكُلُّ قَارِئٍ يُوصِلُ حُرُوفَهُ بِالنَّقْلِ إِلَى أَصْلِهِ، وَيَرْفَعُ ارْتِيَابَ الْمُلْحِدِ قَطْعًا بِوَصْلِهِ، فَلَوْ لَمْ يَكُنْ مِنَ الْفَوَائِدِ إِلَّا هَذِهِ الْفَائِدَةُ الْجَلِيلَةُ لَكَفَتْ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ مِنَ الْخَصَائِصِ إِلَّا هَذِهِ الْخَصِيصَةُ النَّبِيلَةُ لَوَفَتْ.
وَمِنْهَا ظُهُورُ سِرِّ اللَّهِ فِي تَوَلِّيهِ حِفْظَ كِتَابِهِ الْعَزِيزِ وَصِيَانَةَ كَلَامِهِ الْمُنَزَّلِ

(1/53)


بِأَوْفَى الْبَيَانِ وَالتَّمْيِيزِ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يُخْلِ عَصْرًا مِنَ الْأَعْصَارِ، وَلَوْ فِي قُطْرٍ مِنَ الْأَقْطَارِ، مِنْ إِمَامٍ حُجَّةٍ قَائِمٍ بِنَقْلِ كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى وَإِتْقَانِ حُرُوفِهِ وَرِوَايَاتِهِ، وَتَصْحِيحِ وُجُوهِهِ وَقِرَاءَاتِهِ، يَكُونُ وَجُودُهُ سَبَبًا لِوُجُودِ هَذَا السَّبَبِ الْقَوِيمِ عَلَى مَمَرِّ الدُّهُورِ، وَبَقَاؤُهُ دَلِيلًا عَلَى بَقَاءِ الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ فِي الْمَصَاحِفِ وَالصُّدُورِ.
فَصْلٌ
وَإِنِّي لَمَّا رَأَيْتُ الْهِمَمَ قَدْ قَصُرَتْ، وَمَعَالِمَ هَذَا الْعِلْمِ الشَّرِيفِ قَدْ دُثِرَتْ، وَخَلَتْ مِنْ أَئِمَّتِهِ الْآفَاقُ، وَأَقْوَتْ مِنْ مُوَفَّقٍ يُوقِفُ عَلَى صَحِيحِ الِاخْتِلَافِ وَالِاتِّفَاقِ، وَتُرِكَ لِذَلِكَ أَكْثَرُ الْقِرَاءَاتِ الْمَشْهُورَةِ، وَنُسِيَ غَالِبُ الرِّوَايَاتِ الصَّحِيحَةِ الْمَذْكُورَةِ، حَتَّى كَادَ النَّاسُ لَمْ يُثْبِتُوا قُرْآنًا إِلَّا مَا فِي الشَّاطِبِيَّةِ وَالتَّيْسِيرِ وَلَمْ يَعْلَمُوا قِرَاءَاتٍ سِوَى مَا فِيهِمَا مِنَ النَّذْرِ الْيَسِيرِ، وَكَانَ مِنَ الْوَاجِبِ عَلَى التَّعْرِيفِ بِصَحِيحِ الْقِرَاءَاتِ، وَالتَّوْقِيفِ عَلَى الْمَقْبُولِ مِنْ مَنْقُولِ مَشْهُورِ الرِّوَايَاتِ، فَعَمَدْتُ إِلَى أَثْبَتِ مَا وَصَلَ إِلَيَّ مِنْ قِرَاءَاتِهِمْ، وَأَوْثَقِ مَا صَحَّ لَدَيَّ مِنْ رِوَايَاتِهِمْ، مِنَ الْأَئِمَّةِ الْعَشْرَةِ قُرَّاءِ الْأَمْصَارِ، وَالْمُقْتَدَى بِهِمْ فِي سَالِفِ الْأَعْصَارِ، وَاقْتَصَرْتُ عَنْ كُلِّ إِمَامٍ بِرَاوِيَيْنِ، وَعَنْ كُلِّ رَاوٍ بِطَرِيقَيْنِ، وَعَنْ كُلِّ طَرِيقِ بِطْرِيقَيْنِ: مَغْرِبِيَّةٍ وَمَشْرِقِيَّةٍ، مِصْرِيَّةٍ وَعِرَاقِيَّةٍ، مَعَ مَا يَتَّصِلُ إِلَيْهِمْ مِنَ الطُّرُقِ، وَيَتَشَعَّبُ عَنْهُمْ مِنَ الْفِرَقِ:
فَنَافِعٌ مِنْ رِوَايَتَيْ قَالُونَ وَوَرْشٍ عَنْهُ.
وَابْنُ كَثِيرٍ مِنْ رِوَايَتَيِ الْبَزِّيِّ وَقُنْبُلٍ عَنْ أَصْحَابِهِمَا عَنْهُ.
وَأَبُو عَمْرٍو مِنْ رِوَايَتَيِ الدُّورِيِّ وَالسُّوسِيِّ عَنِ الْيَزِيدِيِّ عَنْهُ.
وَابْنُ عَامِرٍ مِنْ رِوَايَتَيْ هِشَامٍ وَابْنِ ذَكْوَانَ عَنْ أَصْحَابِهِمَا عَنْهُ،.
وَعَاصِمٌ مِنْ رِوَايَتَيْ أَبِي بَكْرٍ شُعْبَةَ وَحَفْصٍ عَنْهُ.
وَحَمْزَةُ مِنْ رِوَايَتَيْ خَلَفٍ وَخَلَّادٍ عَنْ سُلَيْمٍ عَنْهُ.
وَالْكِسَائِيُّ مِنْ رِوَايَتَيْ أَبِي الْحَارِثِ وَالدُّورِيِّ عَنْهُ.
وَأَبُو جَعْفَرٍ مِنْ رِوَايَتَيْ عِيسَى بْنِ وَرْدَانَ وَسُلَيْمَانَ بْنِ جَمَّازٍ عَنْهُ.
وَيَعْقُوبُ مِنْ رِوَايَتَيْ رُوَيْسٍ وَرَوْحٍ عَنْهُ.
وَخَلَفٌ مِنْ رِوَايَتَيْ إِسْحَاقَ الْوَرَّاقِ وَإِدْرِيسَ الْحَدَّادِ عَنْهُ.
فَأَمَّا قَالُونُ فَمِنْ طَرِيقَيْ أَبِي نَشِيطٍ وَالْحُلْوَانِيِّ

(1/54)


عَنْهُ. فَأَبُو نَشِيطٍ مِنْ طَرِيقَيِ ابْنِ بُويَانَ وَالْقَزَّازِ عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ الْأَشْعَثِ عَنْهُ فَعَنْهُ، وَالْحُلْوَانِيُّ مِنْ طَرِيقَيِ ابْنِ أَبِي مِهْرَانَ وَجَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْهُ فَعَنْهُ.
وَأَمَّا وَرْشٌ فَمِنْ طَرِيقَيِ الْأَزْرَقِ وَالْأَصْبَهَانِيِّ، فَالْأَزْرَقُ مِنْ طَرِيقَيِ إِسْمَاعِيلَ النَّحَّاسِ وَابْنِ يُوسُفَ عَنْهُ. وَالْأَصْبَهَانِيُّ مِنْ طَرِيقَيِ ابْنِ جَعْفَرٍ وَالْمُطَّوِّعِيِّ عَنْهُ عَنْ أَصْحَابِهِ فَعَنْهُ.
وَأَمَّا الْبَزِّيُّ فَمِنْ طَرِيقَيِ أَبِي رَبِيعَةَ وَابْنِ الْحُبَابِ عَنْهُ، فَأَبُو رَبِيعَةَ مِنْ طَرِيقَيِ النَّقَّاشِ وَابْنِ بَنَانٍ عَنْهُ فَعَنْهُ، وَابْنُ الْحُبَابِ مِنْ طَرِيقَيِ ابْنِ صَالِحٍ وَعَبْدِ الْوَاحِدِ بْنِ عُمَرَ عَنْهُ فَعَنْهُ.
وَأَمَّا قُنْبُلٌ فَمِنْ طَرِيقَيِ ابْنِ مُجَاهِدٍ وَابْنِ شَنَبُوذَ عَنْهُ، فَابْنُ مُجَاهِدٍ مِنْ طَرِيقَيِ السَّامَرِّيِّ وَصَالِحٍ عَنْهُ فَعَنْهُ، وَابْنُ شَنَبُوذَ مِنْ طَرِيقَيِ الْقَاضِي أَبِي الْفَرَجِ وَالشَّطَوِيِّ عَنْهُ فَعَنْهُ.
وَأَمَّا الدُّورِيُّ فَمِنْ طَرِيقَيْ أَبِي الزَّعْرَاءِ وَابْنِ فَرَحٍ بِالْحَاءِ عَنْهُ، فَأَبُو الزَّعْرَاءِ مِنْ طَرِيقَيِ ابْنِ مُجَاهِدٍ وَالْمُعَدَّلِ عَنْهُ فَعَنْهُ، وَابْنُ فَرَحٍ مِنْ طَرِيقَيِ ابْنِ أَبِي بِلَالٍ وَالْمُطَّوِّعِيِّ عَنْهُ فَعَنْهُ.
وَأَمَّا السُّوسِيُّ فَمِنْ طَرِيقَيِ ابْنِ جَرِيرٍ وَابْنِ جُمْهُورٍ عَنْهُ، فَابْنُ جَرِيرٍ مِنْ طَرِيقَيِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحُسَيْنِ وَابْنِ حَبَشٍ عَنْهُ فَعَنْهُ، وَابْنُ جُمْهُورٍ مِنْ طَرِيقَيِ الشَّذَائِيِّ وَالشَّنَبُوذِيِّ عَنْهُ فَعَنْهُ.
وَأَمَّا هِشَامٌ فَمِنْ طَرِيقَيِ الْحُلْوَانِيِّ عَنْهُ وَالدَّاجُونِيِّ عَنْ أَصْحَابِهِ عَنْهُ، فَالْحُلْوَانِيُّ مِنْ طَرِيقَيِ ابْنِ عَبْدَانَ وَالْجَمَّالِ عَنْهُ فَعَنْهُ، وَالدَّاجُونِيُّ مِنْ طَرِيقَيْ زَيْدِ بْنِ عَلِيٍّ وَالشَّذَائِيِّ عَنْهُ فَعَنْهُ.
وَأَمَّا ابْنُ ذَكْوَانَ فَمِنْ طَرِيقَيِ الْأَخْفَشِ وَالصُّورِيِّ عَنْهُ، فَالْأَخْفَشُ مِنْ طَرِيقَيِ النَّقَّاشِ وَابْنِ الْأَخْرَمِ عَنْهُ فَعَنْهُ، وَالصُّورِيُّ مِنْ طَرِيقَيِ الرَّمْلِيِّ وَالْمُطَّوِّعِيِّ عَنْهُ فَعَنْهُ.
وَأَمَّا أَبُو بَكْرٍ فَمِنْ طَرِيقَيْ يَحْيَى بْنِ آدَمَ وَالْعُلَيْمِيِّ عَنْهُ، فَابْنُ آدَمَ مِنْ طَرِيقَيْ شُعَيْبٍ وَأَبِي حَمْدُونَ عَنْهُ فَعَنْهُ، وَالْعُلَيْمِيُّ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ خُلَيْعٍ وَالرَّزَّازُ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الْوَاسِطِيِّ عَنْهُ فَعَنْهُ.
وَأَمَّا حَفْصٌ فَمِنْ طَرِيقَيْ عُبَيْدِ بْنِ الصَّبَّاحِ وَعَمْرِو بْنِ الصَّبَّاحِ، فَعُبَيْدٌ مِنْ طَرِيقَيْ أَبِي الْحَسَنِ الْهَاشِمِيِّ وَأَبِي طَاهِرٍ عَنِ الْأُشْنَانِيِّ عَنْهُ فَعَنْهُ، وَعَمْرٌو عَنْ طَرِيقَيِ الْفِيلِ وَزَرْعَانَ عَنْهُ فَعَنْهُ.
وَأَمَّا خَلَفٌ فَمِنْ طُرُقِ ابْنِ عُثْمَانِ وَابْنِ مِقْسَمٍ وَابْنِ صَالِحٍ وَالْمُطَّوِّعِيِّ أَرْبَعَتِهِمْ عَنْ إِدْرِيسَ عَنْ خَلَفٍ.

(1/55)


وَأَمَّا خَلَّادٌ فَمِنْ طُرُقِ: ابْنِ شَاذَانَ وَابْنِ الْهَيْثَمِ وَالْوَزَّانِ وَالطَّلْحِيِّ، أَرْبَعَتِهِمْ عَنْ خَلَّادٍ.
وَأَمَّا أَبُو الْحَارِثِ فَمِنْ طَرِيقَيْ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى وَسَلَمَةَ بْنِ عَاصِمٍ عَنْهُ، فَابْنُ يَحْيَى مِنْ طَرِيقَيِ الْبَطِّيِّ وَالْقَنْطَرِيِّ عَنْهُ فَعَنْهُ، وَسَلَمَةُ مِنْ طَرِيقَيْ ثَعْلَبٍ وَابْنِ الْفَرَجِ عَنْهُ فَعَنْهُ.
وَأَمَّا الدُّورِيُّ فَمِنْ طَرِيقَيْ جَعْفَرٍ النَّصِيبِيِّ وَأَبِي عُثْمَانَ الضَّرِيرِ عَنْهُ، فَالنَّصِيبِيُّ مِنْ طَرِيقَيِ ابْنِ الْجَلَنْدَا وَابْنِ دِيزَوَيْهِ عَنْهُ فَعَنْهُ، وَأَبُو عُثْمَانَ مِنْ طَرِيقَيِ ابْنِ أَبِي هَاشِمٍ وَالشَّذَائِيِّ عَنْهُ فَعَنْهُ.
وَأَمَّا عِيسَى بْنُ وَرْدَانَ فَمِنْ طَرِيقَيِ الْفَضْلِ بْنِ شَاذَانَ وَهِبَةِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ عَنْ أَصْحَابِهِمَا عَنْهُ، فَالْفَضْلُ مِنْ طَرِيقَيِ ابْنِ شَبِيبٍ وَابْنِ هَارُونَ عَنْهُ عَنْ أَصْحَابِهِ عَنْهُ، وَهِبَةُ اللَّهِ مِنْ طَرِيقَيِ الْحَنْبَلِيِّ وَالْحَمَّامِيِّ عَنْهُ.
وَأَمَّا ابْنُ جَمَّازٍ فَمِنْ طَرِيقَيْ أَبِي أَيُّوبَ الْهَاشِمِيِّ وَالدُّورِيِّ عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ جَعْفَرٍ عَنْهُ فَعَنْهُ، فَالْهَاشِمِيُّ مِنْ طَرِيقَيِ ابْنِ رَزِينٍ وَالْأَزْرَقِ الْجَمَّالِ عَنْهُ فَعَنْهُ. وَالدُّورِيُّ مِنْ طَرِيقَيِ ابْنِ النَّفَّاخِ وَابْنِ نَهْشَلٍ عَنْهُ فَعَنْهُ.
وَأَمَّا رُوَيْسٌ فَمِنْ طُرُقِ النَّخَّاسِ بِالْمُعْجَمَةِ وَأَبِي الطَّيِّبِ وَابْنِ مِقْسَمٍ وَالْجَوْهَرِيِّ أَرْبَعَتِهِمْ عَنِ التَّمَّارِ عَنْهُ.
وَأَمَّا رَوْحٌ فَمِنْ طَرِيقَيِ ابْنِ وَهْبٍ وَالزُّبَيْرِيِّ عَنْهُ، فَابْنُ وَهْبٍ مِنْ طَرِيقَيِ الْمُعَدَّلِ وَحَمْزَةَ بْنِ عَلِيٍّ عَنْهُ فَعَنْهُ، وَالزُّبَيْرِيُّ مِنْ طَرِيقَيْ غُلَامِ بْنِ شَنَبُوذَ وَابْنِ حُبْشَانَ عَنْهُ فَعَنْهُ.
وَأَمَّا الْوَرَّاقُ فَمِنْ طَرِيقَيِ السُّوسَنْجِرْدِيِّ وَبَكْرِ بْنِ شَاذَانَ عَنِ ابْنِ أَبِي عُمَرَ عَنْهُ، وَمِنْ طَرِيقَيْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ الْوَرَّاقِ وَالْبُرْصَاطِيِّ عَنْهُ.
وَأَمَّا إِدْرِيسُ الْحَدَّادُ فَمِنْ طَرِيقِ الشَّطِّيِّ وَالْمُطَّوِّعِيِّ وَابْنِ بُويَانَ وَالْقَطِيعِيِّ الْأَرْبَعَةِ عَنْهُ.
وَجَمَعْتُهَا فِي كِتَابٍ يُرْجَعُ إِلَيْهِ، وَسِفْرٍ يُعْتَمَدُ عَلَيْهِ، لَمْ أَدَعْ عَنْ هَؤُلَاءِ الثِّقَاتِ الْأَثْبَاتِ حَرْفًا إِلَّا ذَكَرْتُهُ، وَلَا خُلْفًا إِلَّا أَثْبَتُّهُ، وَلَا إِشْكَالًا إِلَّا بَيَّنْتُهُ وَأَوْضَحْتُهُ، وَلَا بَعِيدًا إِلَّا قَرَّبْتُهُ، وَلَا مُفَرَّقًا إِلَّا جَمَعْتُهُ وَرَتَّبْتُهُ، مُنَبِّهًا عَلَى مَا صَحَّ عَنْهُمْ وَشَذَّ وَمَا انْفَرَدَ بِهِ مُنْفَرِدٌ وَفَذٌّ، مُلْتَزِمًا لِلتَّحْرِيرِ وَالتَّصْحِيحِ وَالتَّضْعِيفِ وَالتَّرْجِيحِ مُعْتَبِرًا لِلْمُتَابَعَاتِ وَالشَّوَاهِدِ، رَافِعًا إِبْهَامَ التَّرْكِيبِ بِالْعَزْوِ الْمُحَقَّقِ إِلَى كُلِّ وَاحِدٍ جَمَعَ طُرُقًا بَيْنَ الشَّرْقِ وَالْغَرْبِ، فَرَوَى الْوَارِدَ وَالصَّادِرَ بِالْغَرْبِ، وَانْفَرَدَ

(1/56)


بِالْإِتْقَانِ وَالتَّحْرِيرِ، وَاشْتَمَلَ جُزْءٌ مِنْهُ عَلَى كُلِّ مَا فِي الشَّاطِبِيَّةِ وَالتَّيْسِيرِ ; لِأَنَّ الَّذِي فِيهِمَا عَنِ السَّبْعَةِ أَرْبَعَةَ عَشَرَ طَرِيقًا، وَأَنْتَ تَرَى كِتَابَنَا هَذَا حَوَى ثَمَانِينَ طَرِيقًا تَحْقِيقًا، غَيْرَ مَا فِيهِ مِنْ فَوَائِدَ لَا تُحْصَى وَلَا تُحْصَرُ، وَفَرَائِدَ دُخِرَتْ لَهُ فَلَمْ تَكُنْ فِي غَيْرِهِ تُذْكَرُ، فَهُوَ فِي الْحَقِيقَةِ نَشْرُ الْعَشْرِ، وَمَنْ زَعَمَ أَنَّ هَذَا الْعِلْمَ قَدْ مَاتَ قِيلَ لَهُ حَيٌّ بِالنَّشْرِ. وَإِنِّي لَأَرْجُو عَلَيْهِ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى عَظِيمَ الْأَجْرِ وَجَزِيلَ الثَّوَابِ يَوْمَ الْحَشْرِ، وَأَنْ يَجْعَلَهُ لِوَجْهِهِ الْكَرِيمِ مِنْ خَالِصِ الْأَعْمَالِ، وَأَنْ لَا يَجْعَلَ حَظَّ تَعَبِي وَنَصَبِي فِيهِ أَنْ يُقَالَ، وَأَنْ يَعْصِمَنِي فِي الْقَوْلِ وَالْعَمَلِ مِنْ زَيْغِ الزَّلَلِ وَخَطَأِ الْخَطَلِ.

(1/57)