النكت في القرآن الكريم {من سورة
الأنعام}
* * *
قوله تعالى: {وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي
الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ} [الأنهام: 3] .
يسأل عن العامل في الظرف من وقوله: {فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي
الْأَرْضِ} ؟.
وفي هذا جوابان:
أحدهما: أن (في) متعلقة بما دل عليه اسم الله - عز وجل -؛ لأنه
وقع موقع (المدبر) كأنه قال: وهو المدبر في السموات وفي الأرض.
والجواب الثاني: أن تكون {فِي} متعلقة بمحذوف، كأنه قال: وهو
الله مدبر في السموات وفي الأرض.
وقوله: {فِي الْأَرْضِ} معطوف على {فِي السَّمَاوَاتِ} .
ويجوز فيه وجه آخر وهو أن يكون المعنى: وهو الله ملكه في
السموات، وفي الأرض يعلم سركم وجهركم، أي: ويعلم سركم وجهركم
في الأرض، ولا يجوز أن يتعلق بالاستقرار؛ لأن ذلك يؤدي إلى
احتواء الأمكنة عليه والله تعالى لا تحتويه الأمكنة ولا
الأزمنة.
(1/211)
قوله تعالى: {ثُمَّ لَمْ تَكُنْ
فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا
كُنَّا مُشْرِكِينَ} [الأنعام: 23] .
يقال كيف كذبوا مع علمهم بأن الكذب في الآخرة لا ينفعهم، وأن
الله تعالى يعلم ذلك منهم؟.
والجواب: أن للآخرة مواقف، فموقف لا يعلمون فيه ذلك، وموقف
يعلمون فيه، وهو استقرارهم في النار، وقال الحسن: جروا على
عادتهم في الدنيا لأنهم منافقون.
ويجوز في (فتْنتُهُم) الرفع والنصب:
فالرفع على أنه اسم (تكن) و {أَنْ قَالُوا} الخبر.
والنصب على أن يكون خبراً {إِلَّا أَنْ قَالُوا} الاسم. وهو
الوجه؛ لأمرين:
أحدهما: أن الخبر أولى بالنفي، والاسم اولى بالإثبات.
والثاني: أن قوله: {إِلَّا أَنْ قَالُوا} . يشبه المضمر من قبل
أنه لا يُوصف ولا يْوصف به، والمضمر أعرف المعارف، وإذا اجتمع
في كان اسمان أحدهما أعرف من الآخر كان به الأعرف اسماً لها
والآخر خبراً لها وكذا المعرفة والنكرة تكون المعرفة اسماً
والنكرة خبراً، قال الشاعر:
وقد علم الأقوام ما كان داءها بثهلان إلا الخزي ممن يقودها
فصل:
ومما يسأل عنه أن يقال: لم أنث {تَكُنْ} والاسم مذكر؟
(1/212)
والجواب: لأنه وقع على مؤنث وهو (الفتنة) ،
وهي أقرب إلى الفعل مثل قول لبيد:
فمضى وقدمها وكانت عادة منه إذا هي عردت إقدامها
قال الزجاج: يحوز أن يكون التقدير في قوله إلا أن قالوا: إلا
مقالتهم، فتؤنث لذلك، وهذا وجه جيد صحيح.
* * *
قوله تعالى: {وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ
فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلَا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ
رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [الأنعام: 27] .
يقال: وقف يقف وقوفاً، ووقف غيره يقفه وقفاً، وحكى عن أبي عمرو
أنه أجاز (ما أوقفك هاهنا) مع إخباره أنه لم يسمعه من العرب،
وهو غير جائز عند علمائنا. ومما يسأل عنه أن يقال: لم جاز
{وَلَوْ تَرَى} و (لو) إنما هي للماضي؟
والجواب: لأن الخبر لصحته وصدق المخبر به صار بمنزلة ما وقع،
وقد ذكرنا له نظائر. ويقال: (لو) فيها معنى الشرط فلمَ لمْ
تجزم؟
قيل: لمخالفتهما حروف الشرط، وذلك أن حروف الشرط ترد الماضي
مستقبلاً، نحو قولك: إن قمتَ قمتُ معك، كما تقول: إن تقم أقم
معك، و (لو) لا تفعل ذلك الفعل، فلم تجزم لذلك.
ويسأل عن جواب (لو) ؟
والجواب: أنه محذوف، وتاقديره: أرايت أمراً هائلاً، وهذه
الأجوبة تحذف لتعظيم الأمر وتفخيمه، نحو قوله تعالى: {وَلَوْ
أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ
(1/213)
الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى}
[الرعد: 31] .
يريد: لكان هذا القرآن، مثله قول امرئ القيس:
وجدك لو شيء أتانا رسوله سواك ولكن لم نجد لك مدفعا
يريد: لو أتانا رسوله سواك لما جئنا.
وقرأ ابن عامر وعاصم في رواية حفص وحمزة "ولا نُكذَّبَ ونكونَ"
نصب فيهما جميعاً. وقرأ الباقون بالرفع.
وفي النصب أوجه:
أحدها: أن يكون على إضمار (أنْ) ، وهو الذي يسميه الكوفيون
نصباً على الصرف، تقديره: وأن لا نكذب وأن يكون، وإنما احتجت
إلى إضمار (أن) ليكون مع الفعل مصدراً، فتعطف مصدراً على مصدر،
كأنه في التقدير: ياليتنا اجتمع لنا الرد وترك التكذيب مع
الإيمان، ويجوز أ، يكونوا قالوه على الوجهين جميعاً، فاكذبوا
على الوجه الأول.
وأجاز الزجاج أن تكون (الواو) بمنزلة (الفاء) في الجواب، فيصير
كقولك: لو رددنا لم نكذب بآيات ربنا ولكنا من المؤمنين فاكذبوا
في هذا، وهو مذهب الكوفيين؛ لأن أكثر البصريين لا يجيز أن يكون
الجواب إلا بالفاء.
وأما الرفع فعلى القطع والاستئناف، أي: ونحن لا نكذب بآيات
ربنا رددنا أو لم نرد.
قال سيبويه: دعني ولا أعود، أي: وأنا لاأعود على كل حال تركتني
أو لم تتركني،
(1/214)
ويدل عليه {وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ}
[الأنعام: 28]
ويجوز أن يكون على إضمار مبتدأ، أي: ونحن لا نكذب.
* * *
قوله تعالى: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ
يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا
فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام: 38] .
الدابة: كل ما دب من الحيوان.
ومما يسأل عنه أن يقال: لم قال: {وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ
بِجَنَاحَيْهِ} وقد علم أن الطائر لا يطير إلا بجناحيه؟
والجواب: أن هذا إنما جاء للتوكيد ورفع اللبس؛ لأنه قد يقول
القائل: طرفي حاجتي، أي: أسرع فيها، فجاء هذا التوكيد لإزالة
اللبس، وهو كما تقول: مشى برجليه.
ومعنى قوله: {إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ} ، أي: في الحاجة
وشدة الفاقة إلى مدبر يدبرهم في أغذيتهم وكسبهم ونومهم ويقظتهم
وما أشبه ذلك.
ويسأل عن قوله: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} ؟
وفيه جوابان:
أحدهما: أنه قد أتى فيه بكل ما يحتاج إليه العباد في أمور
دينهم مجملاً ومفصلاً.
والثاني: أنه ذكر فيه جميع الاحتجاجات على مخالفيه.
* * *
قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ
سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ} [الأنعام: 55]
يسأل: ما المشبه وماالمشبه به في قوله: {وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ
الْآيَاتِ} ؟
وفيه جوابان:
أحدهما: التفصيل الذي تقدم في صفة المهتدين وصفة الضالين شبه
بتفصيل الدلائل
(1/215)
على الحق من الباطل في صفة غيرهم من كل
مخالف للحق.
والثاني: أن المعنى كما فصلنا ما تقدم من الآيات لكم نفصله
لغيركم.
وقرأ حمزة والكسائي وأبوبكر عن عاصم {وَليَسْتَبِينَ سَبِيلُ
الْمُجْرِمِينَ} بالياء ورفع اللام، وقرأ نافع بالتاء ونصب
اللام، وقرأ ابن كثير وابن عامر وأبو عمرو وحفص عن عاصم بالتاء
ورفع اللام. فمن قرأ بالياء وضم اللام جعل (السًّبيل) فاعلاً
وذكره وهي لغة بني تميم. ومن قرأ بالتاء ونصب اللام جعل
المخاطب فاعلاً ونصب (السَّبيل) ؛ لأنه مفعول تقديره: ولتستبين
أنت يا محمد سبيل المجرمين. ومن قرأ بالتاء ورفع اللام جعل
(السَّبيل) فاعله وأنثها وهي لغة أهل الحجاز.
وقد روي في في الشاذ. {وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ} بالياء وفتح
اللام على تقدير: وليستبين السائل سبيل.
* * *
قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ
أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي
ضَلَالٍ مُبِينٍ} [الأنعام: 74] .
الأصنام: جمع صنم، الصنم ما كان مصوراً، والوثن ما كان غير
مصور.
والآلهة: جمه إله، كإزارٍ وآزرة.
وفي (آزر) ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه أسم أب إبراهيم، وهو قول الحسن والسًّدي وسعيد بن
جبير وابن إسحاق.
والثاني: أنه اسم صنم، وهو قول مجاهد.
(1/216)
والثالث: أنه صفة عيب قال الفراء معناه:
معوج عن الدين.
وقيل: هو لقب له واسمه تارج.
وهو في هذه الأقوال مجرور الموضع على البدل من (أبيه) ولا
ينصرف؛ لأنه أعجمي معرفة. وأما على قول مجاهد فقال الزجاج:
يكون منصوباً على إضمار فعل دل عليه الكلام، كأنه قال: أتتخذ
آزر إلهاً أتتخذ أصناماً آلهة.
وقرئ في الشواذ (آزر) ، وتقديره: وإذ قال لإبراهيم لأبيه يا
آزر أتتخذ أصناماً آلهة. والعامل في (إذ) فعل مضمر تقديره
(اذكر) .
فوله تعالى: {فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا
رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ
إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ} [الأنعام: 78] .
البزوغ: البروز والطلوع، يقال: بزغ يبزغ بزوغاً. والأفول:
الغيبوبة.
ومما يسأل عنه أن يقال: ما في أفولها من الدلالة على أنه لا
يجوز عبادتها، وقد عبدها كثير من الناس مع العلم بذلك؟
والجواب: أن الأفول بعد الطلوع تغير والتغير صفة نقص ودلالة
على أن للمغير مدبراً يدبره، وأنه مسخر محدث، وما كان بهذه
الصفة وجب أن لايعبد.
فصل:
ومما يسأل عنه أن يقال: لمَ لمْ يقل: هذي ربي: كما قال:
{بَازَغَةً} ؟
والجواب: أن التقدير هذا النور الطالع ربي، ليكون الخبر
والمخبر عنه جميعاً على
(1/217)
التذكير، كما كانا جميعاً على التأنيث في
{الشَّمْسَ بَازِغَةً} ، هذا الذي قاله العلماء، وعندي أن قوله
تعالى: {فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً} إخبار من الله
تعالى، وقوله: {هَذَا رَبِّي} من كلام إبراهيم - عليه السلام
-. والشمس مؤنثة في كلام العرب فأما في كلام سواهم فيجوز أنها
ليست كذلك، وإبراهيم - عليه السلام - لم يكن عربياً فحكى لنا
الله تعالى ما كان في لغته.
فصل:
ومما يسأل عنه أن يقال: لم أنث الشمس وذكر القمر؟
والجواب: أن تأنيثها تفخيم لها لكثرة ضيائها، وعلى حد قولهم:
نسابة وعلامة، وليس القمر كذلك؛ لأنه دونها في الضياء.
ويقالك لمَ دخل الألف واللام فيها وهي واحدة، ولم يدخل في زيد
وعمرو؟
قيل: لأن شعاع الشمس يقع عليه أسم الشمس، فاحتج إلى التعريف
إذا قصد إلى جرم الشمس أو إلى الشعاع، على طريق الجنس أو
الواحد من الجنس، وليس زيد ونحوه كذلك.
* * *
قوله تعالى: {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ
لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا قُلْ إِنَّمَا
الْآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا
جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ} [الأنعام: 109]
يقال لم أقسموا، وما الآية التي طلبوا؟
والجواب: أنهم أرادوا أن يتحكموا على النبي - صلى الله عليه
وسلم -. بأقسامهم، وسألوا أن يحول الصفا ذهباً.
وقيل: سألوا ما ذكره الله تعالى في الآية الأخرى من وقله:
{وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ
الْأَرْضِ يَنْبُوعًا} [الإسراء: 90] ، الآيات.
(1/218)
ومعنى قوله: التنبيه على موضع الحجة عليهم
في أنه ليس لهم مالا سبيل لهم إلى علمه، وقيل المخاطب بهذا
المشركون، وهو قول مجاهد وابن زيد، وقيل المؤمنون، وهو قول
الفراء وغيره.
وقرأ ابن كثير وأبو عمرو {إِنَّهَا} بالكسر، وقرأ عاصم في
رواية حفص وحمزة والكسائي بالفتح، قال ابن مجاهد وأحسب ابن
عامر، وقرأ حمزة وابن عامر {تؤْمِنُونَ} بالتاء، وقرأ الباقون
بالياء.
فوجه الكسر: أن (إن) جواب هاهنا؛ لأنه استئناف على القطع بأنهم
لا يؤمنون، ولو فتحت وأعمل فيها (يُشْعُركُم) لكان عذراً لهم.
وأما الفتح فعلى أن تكون (أن) بمعنى (لعل) حكى الخليل: إئت
السوق أنَّك تشتري لنا شيئاً، وقال عدي بن زيد:
أعاذل ما يدريك أن منيتي إلى ساعة في اليوم أو في ضحى الغد
والتقدير على هذا: لعلها إذا جاءت لا يؤمنون.
وقال الفراء تكون (لا) صلة، نحو قوله تعالى: {مَا مَنَعَكَ
أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ} [الأعراف: 12] ، كقوله
تعالى: {وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ
لَا يَرْجِعُونَ} [الأنبياء: 95] . وقال الأحفش، التقدير وما
يشعركم بأنها إذا جاءت يؤمنون، فجعل (لا) زائدة، وجعل (أن) في
موضع نصب على حذف حرف الجر.
(1/219)
قوله تعالى: {إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ
مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ
بِالْمُهْتَدِينَ} [الأنعام: 117] .
يقال: لم جاز في صفة القديم تعالى (أعْلَم) مع أنه لا يخلو أن
يكون (أعْلَم) بالمعنى ممن يعلمه أو ممن لا يعلمه وكلاهما لا
يصح فيه (أَفْعَلَ) ؟
والجواب أن المعنى: هو أ'لم به ممن يعلمه، لأنه يعلمه من وجوه
تخفى على غيره، وذلك أنه يعلم ما يكون منه وما كان وما هو كائن
من وجوه لا تحصى.
وأما موضع (منْ) من الإعراب:
فقال بعض البصريين: موضعها نصب على حذف (الباء) حتى يكون
مقابلاً لقوله:
{وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} . وقال الفراء والزجاج:
موضعها رفع: لأنها بمعنى (أي) كقوله تعالى: {أَيُّ
الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى} [الكهف: 12] . وهذه المسألة فيها خلاف،
وسأشرحها في موضعها إن شاء الله.
قال أبو علي. (من) في موضع نصب بفعل مضمر يدل عليه (أعلم) ،
كأنه قال: إن ربك أعلم يعلم من يضل عن سبيله.
وزعم قوم أن (أعلم) بمعنى (يعلم) ، وهذا فاسد ولا يجوز أ، يكون
(من) في موضع جر بإضافة (أعلم) ؛ لأن (أفعل) لا يضاف إلا إلى
ما هو بعضه، وليس ربنا تعالى بعض الضالين، ولا بعض المضلين
فامتنع ذلك لذلك.
* * *
قوله تعالى: {النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلَّا
مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ} [الأنعام:
128] .
المثوى: موضع الثواء، والثواء الإقامة، قال الله تعالى: {وَمَا
كُنْتَ ثَاوِيًا فِي أَهْلِ مَدْيَنَ} [القصص: 45] .
(1/220)
قال الأعشى:
لقد كان في حول ثواء ثويته تقضي لبانات ويسام سائم
والخلود: البقاء، يقال: خلد يخلد خلداً وخلوداً، والرجل حالد،
والخالد اسم من أسماء الجنة، ويقال: أخلد الرجل إذا أبطأ عنه
الشيب، وخلد أيضاً، كذلك أخلد إلى الأرض وخلد، ويقال: أصاب
فلان خلد الأرض إذا وجد كنزاً.
ومما يسأل عنه أي يقال: ما معنى الاستثناء في قوله تعالى:
{خَالِدِينَ فِيهَا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ} ؟
وللعلماء في ذلك عشرة أجوبة:
أحدها: قاله ابن عباس وهو أ، هـ قال: لا ينبغي لأحد أن يحكم
على الله تعالى في خلقه بأن لهم جنة ولا ناراً، وهذا الاستثناء
لأهل التوحيد دون أهل الكفر، وهو منقطع على هذا القول.
والجواب الثاني: عنه أيضاً وهو أنه لأهل الإيمان، قال: الخلود
البقاء فيها، ثم استثنى أهل التوحيد أنهم لا يخلدون فيها كما
يخلد أهل الكفر، وإنما يخلدونها فيقمون فيها بقدر ذنوبهم ثم
يخرجون.
والجواب الثالث: وهو له أيضاً قال: قد جعل الله أمد هؤلاء
القوم في مبلغ عذابهم إلى مشيئته، والاستثناء على هذا لأهل
الكفر، وهو متصل.
والجواب الرابع: للفراء وهو ان العزيمة قد تقدمت بالخلود وهو
لا يشاء تركه.
والجواب الخامس: لمحمد بن جرير وهو أنه استثنى الزمان الذي هو
مدة قيامهم من قبورهم إلى أن يصلوا إلى المحشر؛ لأنهم حينئذ
ليسوا في جنة ولا نار.
(1/221)
والجواب السادس: للزجاج قال: أوجب لهم
النار بقوله {النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا} وقامهم
في الحشر والوقوف للمحاسبة ليس هم في نار. وهو كالجواب الذي
قبله.
والجواب السابع: أنه على الزمان الذي هم فيه من قيام في المحشر
إلى أن يدخلوا النار، وهو استثناء من الخلود فيها وهو متصل.
والجواب الثامن: للزجاج أيضاً وجماعة معه قالوا: الاستثناء في
الزيادة من العذاب لهم، أي: إلا ما شاء الله من الزيادة في
عذابهم، والاستثناء على هذا القول منقطع، والنحويون مختلفون في
تقديره بـ: (لكن) وكذلك جميع أصحابه، والفراء يقدره بـ: (سوى)
وكذا من تابعه.
والجواب التاسع: قاله بعض أصحاب المعاني وهو أن (ما) في الآية
بمعنى (من) والاستثناء منقطع، والمعنى: إلا من شاء الله إخراجه
من النار، يعني الموحدين الذين يخرجون بالشفاعة.
وقيل: بل هو متصل و (ما) بمعنى (من) والتقدير: إلا ما شاء الله
أن يعذبه بأصناف العذاب، يعني الكفَّار. والاستثناء في هذين
الجوابين من الأعيان، وعلى ما تقدم قبلها من الأزمان.
و (ما) قد تقع في معنى (من) قال الله تعالى: {إِنِّي نَذَرْتُ
لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا} [آل عمران: 35] أي: من،
وقال: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ}
[النساء: 3] وكذلك: {يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ
وَمَا فِي الْأَرْضِ} [الجمعة: 1] وهو كثير، وحكى أبو زيد أن
أهل الحجاز كانوا إذا يمعوا الرعد يقولون: سبحان ما سَبَّحتَ
له.
(1/222)
والجواب العاشر: ذهب إليه بعض المتكلمين
قال المعنى: إلا ما شاء الله من الفائت قبل ذلك من الاستحقاق،
كأنه قال: خالدين فيها على مقدار مقادير الاستحقاق إلا ما شاء
الله من الفائت قبل ذلك، والفائت من العقاب يجوز تركه بالعفو
عنه، والاستثناء على هذا متصل.
قال بعض شيوخنا: المعنى: إلا ما شاء الله من تجديد الجلود بعد
إحراقها وتصريفهم في أنواع العذاب معها، أي: خالدين فيها على
صفة واحدة إلا ما شاء الله من هذه الأحوال والأمور التي ذكرت،
و (ما) على بابها على هذا القول.
* * *
قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ
الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلَادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ
لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ وَلَوْ
شَاءَ اللَّهُ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ}
[الأنعام: 137] .
الشركاء هاهنا الشياطين، زينوا للمشركين وأدَ البنات وهو دفنهن
وهن في الحياة خوفاً من الفقر والعار، وهذا قول الحسن ومجاهد
والسدي، وقيل: هم الغواة من الناس، وقيل: شركاؤهم في نعمتهم
وأموالهم، وقيل: شركاؤهم في الاشراك والكفر وما يعتقدونه
وينالون عنه، وقيل: هم قوه كانوا يخدمون الأوثان ويقومون
بأمرها وإصلاح شأنها وما تحتاج إليه، وهذا قول الفراء والزجاج.
وفذ هذه الآية أربع قراءات:
قراءة الجماعة: {زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ
أَوْلَادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ} ،
(1/223)
ووجه هذه القراءة ظاهرة. إلا ابن عامر فإنه
قرأ {زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ
أَوْلَادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ} ، بضم (الزاي) ونصب (الأولاد)
وجر (الشركاء) ، فهذه الرواية المشهورة عنه.
ورويت عنه رواية أخرى وهي جر (الأولاد) و (الشركاء) جميعاً،
فهذه ثلاث قراءات.
والقراءة الرابعة: {زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ
قَتْلَ أَوْلَادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ} ، بضم (الزاي) ورفع (قتل)
وجر (الأولاد) ورفع (الشُّركاء) وأظنها قراءة أبي عبد الرحمن
السلمي.
ووجه قراءة ابن عامر أنه فرق بين المضاف والمضاف إليه
بالمفعول، كأنه قال: قتل شركائهم أولادهم، والشركاء في المعنى
فاعلون، وهذا ضعيف في العربية، وإنما يجوز في ضرورة الشعر نحو
قول الشاعر:
فزججتها متمكنا زج القلوص أبي مزادة
وأما القراءة الثانية: فوجهها أنه جعل (الشركاء) بدلاً من
(الأولاد) لمشاركتهم إياهم في النسب والميراث، ويقال إن الذي
حمله على هذه القراءة أنه وجد (شركائهم) في مصاحف أهل الشام
بالياء.
وأما القراءة الرابعة: وهي شاذة، فعلى أنه لما قال {وَكَذَلِكَ
زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلَادِهِمْ}
قيل: من زينة؟ قيل: شركاؤهم، أي زينه شركاؤهم، ومثله قوله
تعالى: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ
فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ
وَالْآصَالِ (36) رِجَالٌ} [النور: 36-37] على مذهب من قرأ
{يُسَبِّح} على ما لم يسم فاعله.
وأنشد سيبويه:
(1/224)
يبك يزيد ضارع لخصومة ومختبط مما تطيح الطوائح
كأنه قال: ليبك يزيد، قيل: من يبكيه؟ قال: ضارع لخصومه. |