النكت في القرآن الكريم

{ومن سورة الممتحنة}
* * *
قوله تعالى: {وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ} [الممتحنة: 1] .
يسأل عن موضع: {أَنْ تُؤْمِنُوا} ؟

(1/490)


والجواب: أن موضعها نصب، والمعنى: يخرجون الرسول ويخرجونكم؛ لأن تؤمنوا بالله، أي: من أجل ذلك، فـ {أَنْ} مفعول له.
و {إِيَّاكُمْ} معطوف على الرسول، إلا أنه ضمير منفصل، والكاف والميم في موضع جر بالإضافة عند الخليل وحكي: إذا بلغ الرجل الستين فإياه وإيا الشواب، أنكر ذلك أكثر العلماء؛ لأن (إِيَّا) مضمر والمضمر لا يضاف، وقال المبرد: (إِيَّا) اسم مبهم أضيف إلى الكاف والميم، ولا يعرف اسم مبهم غيره؛ وهذا أيضاً قد أنكر عليه؛ لأن المبهم لا يضاف، وأنه ليس بمبهم وإنما هو مضمر بمنزلة (الكاف) من (رأيتك) ويدل على أنه مضمر كونه على صفة واحدة لضرب واحد من الإعراب، وهذا شرط المضمر، وقال ابن كيسان: إنما جيء بها ليعتمد عليها (الكاف) ؛ لأنها لا تقوم بنفسها، وقال الكوفيون: (إِيَّاك) اسم بكماله، وقال الأخفش: الكاف للخطاب لا موضع لها بمنزلة الكاف في (ذلك) وكذا الهاء والياء في إياه وإياي، وهذا القول هو المختار عند أبي علي وأصحابه.
* * *
قوله تعالى: {وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ} [الممتحنة: 10] .
قيل في {الْكَوَافِرِ} قولان:
أحدهما: أن المعنى: لا تمسكوا بعصم النساء الكوافر، وهو الظاهر.
والثاني: أن المعنى: ولا تمسكوا بعصم الفرق الكوافر، ذكره أبو الفتح ابم جني، والآية تدل على القول الأول.
* * *
قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ} [الممتحنة: 13] .

(1/491)


اختلفوا في {الْكُفَّارُ} هاهنا:
فقيل: الكفار هاهنا يريد به: الذين يكفرون الموتى، أي: يدفنونهم؛ لأنهم إذا دفنوهم يئسوا منهم فكذلك هؤلاء الذين غضب الله عليهم قد يئسوا من البعث كما يئس هؤلاء الذين دفنوا الموتى منهم.
وقيل: الكفار هاهنا يريد به: الكفار بالله، والمعنى: أنهم قد يئسوا من البعث كما يئس الكفار الذين هم في القبورمن ثواب الله ورحمته؛ لأنهم إذا صاروا إلى القبور عاينوا ما أعد الله لهم من العذاب؛ لأنه جاء في الحديث أنه يفتح لهم أبواب من النار فيشاهدون مواضعهم فيها.
وقيل المعنى: كما يئس كفار العرب أن يحيى أهل القبور.
وقيل: هم أعداء المؤمنين من قريش، قد يئسوا من خير الآخرة كما يئس كفار العرب من النشأة الثانية.
{ومن سورة الصف}
* * *
قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (10) تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (11) يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [الصف: 10-12] .
التجارة: طلب الربح في شراء السلعة، فاستعير هاهنا لطلب الربح في عمل الطاعة.
والجهاد: مقاتلة العدو.
ومما يسأل عنه أن يقال: لم جاز {تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} فيما يقتضي الحمل على التجارة، ولا يصلح: التاجارة تؤمنون، وإنما: التجارة أن تؤمنوا بالله؟

(1/492)


والجواب: أنه جاء على طريق ما يدل على خير التجارة لا على نفس الخبر إذ الفعل يدل على مصدره وانعقاده بالتجارة في المعنى لا في اللفظ، وفي ذلك توطئة لما يبنى على المعنى في الإيجاز.
ويسأل عن جزم {يَغْفِرْ لَكُمْ} ، {وَيُدْخِلْكُمْ} ؟
أحدهما: أنه جواب {هَلْ} ؛ لأنها استفهام وجواب الاستفهام مجزوم، وهو قول الفراء، وأنكر هذا القول أصحابنا، وقالوا: الجلالة لا توجب المغفرة.
والقول الثاني: أنه محمول على المعنى: لأن قوله تعالى: {تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} معناه: آمنوا بالله ورسوله وجاهدوا في سبيل الله، فهو أمر جاء في لفظ الخبر، ويدل على ذلك أن عبد الله بن مسعود قرأ: " ءَامِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ" ولا يمتنع أن يأتي الأمر بلفظ الخبر كما أتى الخبر بلفظ الأمر في قوله تعالى: {فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدًّا} [مريم: 75] ، والمعنى: فمد له الرحمن مداً، لأن القديم تعالى لا يأمر نفسه، ومثل ذلك: {أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ} [مريم: 38] ، فلفظه لفظ الأمر، ومعناه الخبر أي: ما أسمعهم وأبصرهم، أي: هؤلاء ممن يجب أن يقال لهم ذلك.
{من سورة الجمعة}
* * *
قوله تعالى: {يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} [الجمعة: 1]
التسبيح: التنزيه لله تعالى، والقدوس: المطهر من العيوب، والتقديس: التطهير، ومنه يقال: القدس حظيرة الجنة، ويقال: للسطل قدس؛ لأنه يتطهر به، والعزيز: الممتنع،

(1/493)


وقيل الغالب، ومنه قوله تعالى: {وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ} [ص: 23] ، والحكيم: المحكم للأشياء، وأصل أحكم: منع، قال الأصمعي: قرأت في كتاب بعض الخلفاء: (أحكموا بني فلان عن كذا) ، قال الشاعر:
أبني كليب أحكموا سفهاءكم إني أخاف عليكم أن أغضبا
ومن هذا أخذت حكمة الدابة للحديدة.
ومما يسأل عنه أن قال: لم جاز {يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ} ، و {مَا} إنما يقع على ما لا يعقل، والتسبيح إنما هو لمن يعقل؟ وعن هذا جوابان:
أحدهما: أن {مَا} هاهنا بمعنى (من) كما حكى أبو زيد عن أهل الحجاز أنهم كانوا إذا سمعوا الرعد قالوا: سبحان ما سبحت له.
والثاني: أن (ما) أعم من (من) وذلك أنها تقع على ما لا يعقل وعلى صفات من يعقل، فقد شاركت (من) في من يعقل وزادت عليها بكونها لما لا يعقل فصارت أعم منه، فجاءت لتدل على أن التسبيح من جميع عاقلهم وغير عاقلهم عام، ويدل على هذا قوله تعالى: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ} [الإسراء: 44] .
* * *
قوله تعالى: {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا} [الجمعة: 11] .
جاء في التفسير: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يخطب يوم الجمعة فقدم دحية الكلبي بتجارة من الشام وفيها كل ما يحتاج إليه الناس، فضرب الطبل ليؤذن الناس بقدومه، فخرج جميع الناس إلا ثمانية نفر، فأنزل الله سبحانه: {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً} ، يعني التي قدم بها، {أَوْ لَهْوًا} يعني الضرب بالطبل.
ويسأل عن قوله: {انْفَضُّوا إِلَيْهَا} ، ولم يقل: (إليهما) ؟

(1/494)


وفي حرف عبد الله {انْفَضُّوا إِلَيْهِ} ، ففي القراءة الأولى عاد الضمير إلى النجارة وفي القراءة الثانية على اللهو، وجاز أن يعود الضمير على أحدهما اكتفتء به، وكأنه على حذف، والمعنى: وإذا رأوا تجارة انفضوا إليها، وإذا رأوا انفضوا إليه، فحذف (إليه) لأن (إليها) يدل عليه.
قال الفراء: إنما قال: {إِلَيْهَا} ؛ لآنها كانت أهم إليهم، وهم بها أسر من الطبل؛ لأن الطبل إنما دل على التجارة، والمعنى كله له.
فصل:
ومما يسأل عنه أن يقال: لم قدم التجارة على اللهو هاهنا، وأخرها في وقوله: {قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ} ؟
والجواب: أن التجارة هي المطلوبة، والفائدة فيها، واللهو لا فائدة فيه، فأعلمهم أنهم إذا رأوا تجارة وهي المرغوب فيها عندهم أو لهواً ولا فائدة فيه فينفضون، وعجزهم بذلك وبكتهم لأنهم يعذرون في بعض الأحوال على التجارة ولا يعذرون على اللهو؛ لأنه ليس مما يرغب فيه العقلاء كما يرغبون في التجارة، ثم قال لنبيه - عليه السلام -: قل لهم: {قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ} الذي لا فائدة فيه {وَمِنَ التِّجَارَةِ} التي فيها الفائدة، فأخر الأول هاهنا ليعلمهم أن ما عند الله خير مما لا فائدة فيه ومن الذي فيه فائدة، والعرب تبتدي بالأدنى ثم تتبعه بالأعلى، نحو قولهم: فلان يعطي العشرات والميئات والآلاف.
{ومن سورة المنافقين}
* * *
قوله تعالى: {وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ} [المنافقون: 4] .

(1/495)


الخشب: جمع خشبة، مثل: بدن وبدنة، والخشب: جمع خشبة أيضاً، مثل: شجرة وشجر، وقيل: خشب جمع خشاب، وخشاب جمع خشبة كما يقال: ثمرة وثمار، فعلى هذا يكون (خشب) جمع الجمع، وكذلك (ثمر) من قوله تعالى: {وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ} [الكهف: 42] ، فخشبة وخشب بمنزلة شجرة وشجر، وخشب وخشاب بمنزله جبل وجبال، وخشاب بمنزلة كتاب وكتب.
وقرأ ابن كثير وأبو عمرو الكسائي "خُشْبٌ" بإسكان الشين، وقرأ الباقون {خُشُبٌ} بالضم، وخُشْبٌ مخففة من خُشُبُ كما يقال: رسلٌ في رُسُلٍ وكتْبٌ وكُتُبٍ.
* * *
قوله تعالى: {يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ} [المنافقون: 8] .
جاء في التفسير: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان في غزوة من غزواته، فالتقى رجل من المسلمين يقال له (جعال) وأخر من المنافقين على الكاء فازدحما عليه فلطمه (جعال) وأبصره (عبد الله بن أبي) فغضب، وقال: ما أدخلنا هؤلاء القوم ديارنا إلا لتلطم ما لهم قاتلهم الله، يعني جعالاٍ وقومه، ثم قال: إنكم لو منعتم أصحاب هذا الرجل القوت، يعني: النبي - صلى الله عليه وسلم - لتفرقوا وانفضوا، فانزل الله تعالى: {هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لَا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ} [المنافقون: 7] ، ثم قال عبد الله بن أبي: لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منهت الأذل، وسمعها (زيد بن أرقم) فأخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - فأنزل الله تعالى: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ} [المنافقون: 8]
نصب {الْأَذَلَّ} ؛ لأنه مفعول و {الْأَعَزُّ} فاعل، وأجاز الفراء: (لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ) على أن (لَيُخْرِجَنَّ) غير متعد؛ لأنه من خرج يخرج، قال: كأنك قلت: ليخرجن العزيز منها ذليلاً، وفي هذا بعد، لأن {الْأَذَلَّ} معرفة، ولا يجوز أن تكون الحال معرفة، إلا أنه ربما قدرت الألف واللام كأنهما زائدتان، وفد حكى سيبويه:

(1/496)


أدخلوا الأول فالأول، أي: ادخلوا متتابعين، فهذا على تقدير طرح الألف واللام، قال: وقرأ بعضهم: {لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ} بنون مضمومة، وهذا يدل على هذه الإجازة، ونصب {الْأَعَزُّ} ؛ لأنه مفعول، قال: ومعناها: لنخرجن الأعز في نفسه ذليلاً.
* * *
قوله تعالى: {فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ} [المنافقون: 10] .
يسأل عن نصب: {فَأَصَّدَّقَ} ؟
والجواب: أنه منصوب؛ لأنه جواب التمني بالفاء، وكل جواب بالفاء نصب إلا جواب الجزاء فإنه رفع على الاستئناف؛ لأن الفاء في الجزاء وصلة إلى الجواب بالجملة من المبتدأ والخبر، وإنما نصب الجواب للإيذان بأن الثاني يجب أن يون بالأول، ودلت الفاء على ذلك، ولا يحتاج إلى ذلك في الجزاء، لأن حروف الجزاء تربط الكلام.
وقرأ أبو عمرو وحده {وَأَكُونْ} بالنصب والواو، وقرأ الباقون {وَأَكُنْ} ، وقيل لأبي عمرو: لم سقطت من المصحف؟ فقال: كما كتبوا (كلمن) ، يعني: أنها كذا يجب أن تكون، وإنما حذفت من المصحف استخفافاً، وهي قراءة عبد الله، وأجاز الفراء: النصب مع حذف الواو، والنصب على العطف.
وأما من قرأ {وَأَكُن} فإنه عطف على (الفاء) قبل دخولها؛ لأنها لو لم تدخل لكان الفعل مجوماً، وكل جواب يكون مصدراً منصوباً بالفاء فهو مجزوم بغير (الفاء) إلا الجحد فإنه لا يكون إلا بـ: (الفاء) ، و (الفاء) تدخل جواباً لسبعة أشياء وهي: الأمر والنهي والتمني والجحد والاستفهام والعرض والشرط.

(1/497)


{ومن سورة التغابن}
* * *
قوله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا وَاسْتَغْنَى اللَّهُ وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ} [التغابن: 6] .
قال علي بن عيسى: أنفوا من اتباع بشر؛ لأنه من جنسهم، فهو كما قال في موضع آخر {أَبَشَرًا مِنَّا وَاحِدًا نَتَّبِعُهُ} [القمر: 24] ، وكل متكبر من العباد مذموم؛ لأن كبره طريق إلى ترك تعلم ما ينبغي أن يتعلم، والاتباع لمن ينبغي أن يتبع.
ويقال: ما معنى {أَبَشَرًا} هاهنا؟
والجواب: أن البشر والإنسان سواء، وقيل: إنه مأخوذ من البشرة وهو ظاهر الجلد.
وفي رفع {أَبَشَراٌ} وجهان:
أحدهما: أنه فاعل بإضمار فعل يدل عليه {يَهْدُونَنَا} ، كأنه قال: أيهدينا بشر يهدوننا، وإنما احتجت إلى لإضمار فعل؛ لأن الاستفهام بالفعل أ, لى.
والقول الثاني: أنه مبتدأ {يَهْدُونَنَا} وخبره، وهو قول أبي الحسن الأخفش.
{ومن سورة الطلاق}
* * *
قوله تعالى: {وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا} [الطلاق: 4] .
المحيض: بمعنى الحيض، والمحيض أيضاً: موضع الحيض وزمانه.
والارتياب: الشك، وجاء في التفسير في قوله: {إِنِ ارْتَبْتُمْ} لأن المعنى: إذا لم تدروا

(1/498)


للكبر أم لدم الاستحاضة، فالعدة ثلاثة شهور، وهو قول الزهري وعكرمة وقتادة، وقيل: إن ارتبتم فلم تدروا الحكم في ذلك فعدتهن ثلاثة أشهر.
ويشأل عن خير قوله: {وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ} ؟
والجواب: أنه محذوف وهو جملة تقديرها: واللائي لم يحضن عدتهن ثلاثة أشهر، ودل عليه ما قبله.
و {وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ} مقطوع مما قبله؛ لأن أجلهن مؤقت، وهو موضع حملهنا.
* * *
قوله تعالى: {قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا (10) رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِ اللَّهِ مُبَيِّنَاتٍ} [الطلاق: 10-11] .
يسأل عن نصب {رَسُولًا} ؟. وفيه ثلاثة أجوبة:
أحدهما: أن يكون بدلاً من {ذِكْرًا} من وجهين:
أحدها: أن يكون القرآن، فيكون {رَسُولًا} المعنى يشتمل عليه، ويكون الذكر هو الرسول، فكأنه في التقدير: قد أنزل الله إليكم ذكراً ذا رسول.
والوجه الثاني: أن يكون الذكر الشرف، فيكون الرسول هو الذكر في المعنى، كما قال تعالى: {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ} [الزخرف: 44] .
والثاني: أن يكون منصوباً بـ: (جعل) ؛ لأن {أَنْزَلَ} يدل عليه لما قال أنزل ذكراً، دل على أنه جعل رسولاً، ومثله قول الشاعر:
بادت وغير أيهن مع البلى إلا رواكدا حمرهن هباء
ومشجج أما سواء قذاله فبذا وغير ساره المعزاء

(1/499)


لأنه لما قال: (إلا رواكد) ، دل على أن بها رواكد، فحمل قوله: ومشجج على المعنى.
والثالث: أن يكون منصوبا بإضمار (أعني) .
وأجاز الفراء: الرفع في {رَسُولًا} ؛ لأن {ذِكْرًا} رأس آية والإئتناف بعد الآيات حسن.
{ومن سورة التحريم}
* * *
قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [التحريم: 1] .
قال الفراء: نزلت في (مارية القبطية) ، كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يجعل لكل امرأة من نسائه يوما، فلما كان يوم عائشة - رضي الله عنها - زارتها حفصة فخلا بيتها، فبعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى مارية وكانت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في بيت حفصة، وجاءت حفصة إلى منزلها فإذا الستر مرخي، وخرج النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: أتكتمين علي؟ قالت: نعم، قال: فإنها علي حرام، يعني (مارية) وأخبرك أن أباك وأبا بكر سيملكان من بعدي، فأخبرت حفصة عائشة الخبر، ونزل الوحي على النبي - صلى الله عليه وسلم - بذلك، فقال: ما حملك على ما فعلت؟ قالت له: ومن أخبرك أني قلت ذلك لعائشة؟ قال: {قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ} [التحريم: 3] ، ثم طلق حفصة تطليقة واحدة، واعتزل نساءه تسعة وعشرين يوما، ونزل عليه: {لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} من نكاح مارية، ثم قال: {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} [التحريم: 2] فكفَّر النبي - صلى الله عليه وسلم - عن يمينه، والتحلة: الكفارة، فأعتق رقبة، وعاد إلى مارية، ثم قال: عرف حفصة بعض الحديث، وترك بعض الحديث، وهذا الذي قال الفراء قول زيد بن أسلم ومسروق وقتادة والشعبي وعبد الرحمن بن زيد والضحاك.
وفي (النبي) لغتان: الهمز وترك الهمز

(1/500)


فمن همز أخذ من أنبأ، وهو (فعيل) بمعنى (مفعل) أي: منبئ، والمنبئ: المخبر؛ لأنه يخبر عن الله تعالى، ويقال: سميع بمعنى مسمع، قال عمرو بن معدي كرب:
أمن ريحانة الداعي السميع يؤرقني وأصحابي هجوع
يريد: المسمع.
وجمع (نبئ) بالهمز: نباء، قيل: كريم وكرماء، قال عباس بن مرداس:
يا خاتم النباء إنك مرسل بالحق كل هدى الإله هداكا
ويقال: نبي بغير همز، ويحتمل وجهين:
أحدهما: أن يكون من (أنبأ) إلا أنه خفف بترك الهمز، كما قالوا: برية وروية، وأصلها الهمز.
والوجه الثاني: أنه يحتمل أن يكون من (النباوة) وهي المرتفع من الأرض، فالارتفاع ذكره سمي بذلك، وجمعه على هذا: أنبياء، بمنزلة: غني وأغنياء، وترك الهمز أفصح.
ويروى أن رجلا قال للنبي - صلى الله عليه وسلم -: يا نبيء الله بالهمز فقال: لست بنبيء الله ولكنني نبي الله، فهذا يدل على ترك الهمز، وكأنه كره التقعير.
* * *
قوله تعالى: {فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} [التحريم: 4] .
يقال: لم جمعت القلوب؟
وعن هذا أجوبة:
أحدها: أن التثنية جمع في المعنى، فوضع الجمع موضع التثنية، كما قال تعالى: {وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ} [الأنبياء: 78] ، وإنما هو داود وسليمان عليهما السلام.

(1/501)


والثاني: أن أكثر ما في الإنسان اثنان نحو: اليدين والرجلين والعينين والخدين، وما أشبه ذلك، وإذا جمع اثنان إلى اثنين صار جمعا، فيقال: أيديهما وأرجلهما، ثم حمل ما كان في الإنسان منه واحدا على ذلك لئلا يختلف حكم لفظ أعضاء الإنسان.
والثالث: أن المضاف إليه مثنى فكرهوا أن يجمعوا بين تثنيتين فصرفوا الأول منهما إلى لفظ الجمع؛ لأن لفظ الجمع أخف؛ لأنه أشبه بالواحد؛ لأنه يعرف بإعرابه ويستأنف كما يستأنف الواحد، وليست التثنية كذلك؛ لأنها لا تكون إلا على حد واحد، ولا تختلف، ومن العرب من يثني فيقول: قلباهما، قال الراجز فجمع بين اللغتين:
ومهمهين قذفين مرتين
ظهرا هما مثل ظهور الترسين
وقال الفرزدق:
بما في فؤادينا من البث والهوى فيبرأ منهاض الفؤاد المشعف
ومن العرب من يفرد، ويروى أن بعضهم قرأ {فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا} [طه: 121] .
قال الفراء في قوله: {صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} يعني: عائشة وحفصة قد صغت قلوبهما، وذلك أن عائشة قالت: يا رسول الله: أما يوم غيري فتتمه وأما يومي فتفعل فيه، فنزلت: {إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ} [التحريم: 4] .
ومعنى صغت: زالت ومالت إلى ما كان من تحريم، وقيل: زاغت إلى الإثم، وهو قول ابن عباس ومجاهد والضحاك.

(1/502)


قوله تعالى: {فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ} [التحريم: 4] .
المولى في الكلام على تسعة أوجه:
المولى: السيد، والمولى: العبد، والمولى: المنعم، والمولى: المنعم عليه، والمولى: الولي، والمولى: ابن العم، والمولى: واحد الموالي وهم العصبة من قوله تعالى: {وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي} [مريم: 5] ، والمولى: أولى من قوله تعالى: {وَهُوَ وَلِيُّهُمْ} [الأنعام: 127] ، أي: أولى بهم قال لبيد:
فغدت كلا الفرجين تحسب أنه مولى المخافة خلفها وأمامها
أي: أولى.
وفي {جِبْرِيلُ} أربع لغات:
جبريل: بكسر الجيم، وجبريل: بفتحها، وجبرئيل: بفتح الجيم وكسر الهمزة، وجبرئل، وقد قرأ بذلك كله؛ فقرأ نافع وأبو عمرو وابن عامر وحفص عن عاصم بكسر الجيم دون همز {جِبْرِيل} ، وقرأ الكسائي وحمزة جبرئيل مفتوح الجيم مهموز بين الراء والياء، وقرأ أبو بكر عن عاصم جبرئيل على وزن (فبرعيل) ، وقرأ ابن كثير جبريل بفتح الجيم وكسر الراء من غير همز، ومن العرب من يقول: جبريلُّ بتشديد اللام، ومنهم من يبدل من اللام نوناً.
وقيل في {صَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ} ثلاثة أقوال:
أحدها: خيار المؤمنين، وهو قول الضحاك.
والثاني: الآنبياء، وهو وقل قتادة، و {ظَهِيرٌ} في هذين القولين في معنى ظهراء، والظهير: المعين، وقع الواحد موقع الجمع وكذا: {صَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ} واحد في معنى

(1/503)


الجمع، كما قال: {فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا} [الأنعام: 45] ، ومثله: {سَامِرًا تَهْجُرُونَ} [المؤمنون: 67] .
والقول الثالث: أنه عنى (أبا بكر) وقيل (عمر) وقيل (علي) رضي الله عنهم.
وقوله: {فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ} يجوز في قوله: {هُوَ} وجهان:
أحدهما: أن يكون فصلاً دخل ليفصل بين المبتدأ والخبر، والكوفيون يسمونه (عماداً)
والثاني: أن يكون مبتدأ و {مَوْلَاهُ} الخبر، والجملة خبر {إِن} .
ومن جعل {مَوْلَاهُ} بمعنى السيد والخالق كان الوقف على قوله: {مَوْلَاهُ} وكان {جِبْرِيلُ} مبتدأ و {ظَهِيرٌ} خبره. ومن جعل {مَوْلَاهُ} بمعنى ولي وناصر جاز أن يكون الوقف على قوله: {جِبْرِيلُ} ، وجاز أن يكون على قوله: {صَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ} ويبتدأ {وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ} ، فيكون {ظَهِيرٌ} عائداً على {وَالْمَلَائِكَةُ}
* * *
قوله تعالى: {وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ} [التحريم: 12] .
قرأ أبو عمرو وحفص عن عاصم وخارجة عن نافع {وَكُتُبِهِ} وقرأ الباقون "وَكَتَبِهِ"، والمعنى واحد، إلا من قرأ بالإفراد جعل الواحد في موضع جمع، ومن قرأ على الأصل؛ لأن الله تعالى قد أنزل عدة كتب قبل مريم - عليها السلام - وقد آمنت بجميعها، ويجوز أن يعود قوله: "وكَتَبهِ" على التوارة؛ لأنها كانت أظهر عندهم، وإذا حمل على الجمع أراد التوارة وصحف إبراهيم وإدريس وآدم - عليهم السلام - وغيرها من الصحف التي أنزل الله تعالى.
ويسأل عن قوله: {مِنَ الْقَانِتِينَ} ، كيف قال: من القانتين، ولم يقل من القانتات؟
والجواب: أن القنوت يقع من المذكر والمؤنث، وإذا اجتمعا غلب الذكر على المؤنث، فكأنه في التقدير: كانت من العباد القانتين، فعم في القانتين، ولأنها كانت في قنوتها

(1/504)


وخدمتها لبيت المقدس مقام رجل أو رجال.
{ومن سورة الملك}
* * *
قوله تعالى: {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ} [الملك: 1] .
قال علي بن عيسى: معنى {تَبَارَكَ} تعالى؛ لأنه الثابت الدائم الذي لم يزل ولا يزال؛ وذلك أن أصل الصفة: الثبوت، من البروك وهو ثبوت الطير على الماء، ومنه البركة لثبوت الخير بها، قال: ويجوز في معنى {تَبَارَكَ} تعالى من جميع البركات منه، إلا أن هذا المعنى مضمن في الصفة غير مصرح به، وإنما المصرح به: تعالى باستحقاق التعظيم والُملْكُ: القدرة والسلطان، وأصله من أصل المَلك، وأصل المَلك من الشد، يقال: ملكت العجين إذا شددته، وقد شرح في الفاتحة.
* * *
قوله تعالى: {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [الملك: 2] .
الابتلاء: الاختبار، يقال: بلوت هذا الأمر وابتليته أي: اختبرته، قال زهير:
فأبلاهم خير البلاء الذي يبلو
ويقال: لم يبل من يخبر، أي: يعلم، والجواب لتقوم الحجة، لئلا يبقى للخلق على الله حجة، ويكون الثواب والعقاب بعد العلم بوقوع الأمر دون العلم بأنه سيكون كذلك.
وقوله تعالى: {أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} مبتدأ وخبر، ولا يعمل فيه {لِيَبْلُوَكُمْْ} لأن البلوى لم تقع على قوله: {أَيُّكُمْ} ، وفي الكلام لإضمار فعل، والتقدير: ليبلوكم؛ لينظر أيكم أطوع له، وكذلك قوله تعالى: {سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذَلِكَ زَعِيمٌ} [القلم: 40] ، وإنما يأتي هذا ونحوه في أفعال علم، ولو قلت: اضرب أيهم ذهب أو يذهب، لم يكن إلا

(1/505)


نصباً لأن الضرب ليس من هذا القبيل، ومن هذا القيبل قوله تعالى: {لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى} [الكهف: 12] ، وقوله: {لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ عِتِيًّا} [مريم: 69] ، وقوله: {فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا} [الكهف: 19] ، وقد شرحنا ذلك.
* * *
قوله تعالى: {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك: 14] .
يسأل عن موضع {مَنْ} من الإعراب؟
والجواب: أنها في موضع رفع؛ لأنه فاعل {يَعْلَمُ} والتقدير: يعلم الذي خلق ما في الصدور، ولا يجوز أن تكون مفعولة لـ {يَعْلَمُ} ؛ لأن المعنى لا يصح على ذلك، وذلك أن (من) لمن يعقل دون ما لا يعقل فلو جعلت _من) مفعولة لصار المعنى أنه يعلم العقلاء خاصة ولا يعلم سواهم وهذا لا يصح على القديم.
* * *
قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمَنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ} [الملك: 19] .
يقال ما معنى: {مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمَنُ} ؟
والجواب: أنه تعالى وطأ لهن الهواء، ولولا ذلك لسقطن، وفي ذلك أكبر آية، قال مجاهد وقتادة: الطير تصف أجنحتها تارة وتقبضها أخرى.
ومما يسأل عنه أن يقال: كيف عطف {يَقْبِضْنَ} وهو فعل على {صَافَّاتٍ} وهو اسم، ومن الأصل المقر لأن الفعل لا يعطف على الاسم، كذلك الاسم لا يعطف على الفعل؟
والجواب: أن {يَقْبِضْنَ} وإن كان فعلاً فهو في موضع الحال وتقديره تقدير اسم فاعل، و {صَافَّاتٍ} حال، فجاز أن يعطف عليه، فكأنه قال: أو لم يروا أن الطير فوقهم صافات وقابضات، وقد جاء مثل هذا في الشعر، قال الراجز:

(1/506)


بات يعيشها باتر
يعدل في أسواقها وجائر
* * *
قوله تعالى: {أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الملك: 22] .
يقال: ما معنى الاستفهام هاهنا، وقد علم أن من يمشي على صراط مستقيم أهدى ممن يمشي مكباً؟
والجواب: أنه إنكار وتبكيت وليس باستفهام في الحقيقة؛ لأن الاستفهام إنما يكون عن جهل من المستفهم بما يستفهم عنه، وهذا لا يجوز على القديم تعالى، ومثل هذا الإنكار قوله تعالى: {أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ} [يونس: 59] .
وكذلك قوله تعالى: {آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ} [الأنعام: 143] فأما قوله: {آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ} [النمل: 59] ، فإنما جاز هذا وقد علم أنه تعالى لا خير مما يشركون من قبل أنهم كانوا يعتقدون أن فيما يشركون خيراً، فخاطبهم على قدر اعتقادهم من جهة التبكيت لهم والإنكار عليهم، وفيه حذف والتقدير: أعبادة الله خيراً أم عبادة ما يشركون، مثله: {يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ} [يوسف: 39] .
ويقال: أكب الرجل على الرجل فهو مكب، وكببتُهُ أنا، وهذا من نوادر الفعل، وذلك أن (أًفْعَلَ) لازم و (فَعَلَ) متعد، والأصول المقررة بخلاف ذلك، نحو قولك: قام وأقمته وخرج وأخرجته، فيكون (فَعَلَ) لازما في مثل هذا، و (أَفْعلَ) متعدياً، ومثل (أًكَبَّ) قولهم: أنزفت البئر، إذا ذهب ماؤها، وأنزفتها أنا، وأقشع الغيم، وقشعته الريح، وأنسل ريش الطائر، ووبر البعير إذا تقطع وسقط، ونسلته أن نسلاً، وأمرت الناقة، إذ رد لبنها، ومريتها أنا إّذا استدررتها بالمسح، وأشنق البعير إذا رفع رأسه، وشنقته أنا إذا مددته بالزمام، وقال الله تعالى في (كبَّ) متعدياً: {فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ} [النمل: 90] ، وكذلك: {فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ} [الشعراء: 94] .

(1/507)


قوله تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ} [الملك: 30] .
يقال غار الماء يغور غوراً، إذا غاض في الأرض.
والمعين: الذي يراه العيون، وقيل المعين: الجاري، وهو قول قتادة والضحاك، فعلى القول الأول يكون (مفعولاً) من العين، كمبيع من البيع ومكيل من الكيل، وعلى القول الثاني يكون في تقدير (الفاعل) وتكون (ميمه) أصلية، ويكون من الإمعان في الجري، ويجوز أن يكون في معنى (مفعول) فتكون (الميم) زائدة، كأنه قد أجري عيوناً، قال الفراء: العرب تقول: (أصبح ماؤكم غوراً ومياهكم غوراً) ، ويقال: هذا ماء غور وبئر غور وماءان غور ومياه غور، فلا يجمعون ولا يثنون ولا يقولون: غوران ولا أغور، وهو بمنزلة: الزور، يقال: هؤلاء زور لفلان، وكذلك: الضيف والصوم والفطر وفي تقديره وجهان:
أحدهما: أن يكون في تقدير: ذا غور.
والثاني: أن يكون المصدر وضع موضع اسم الفاعل، كما قالوا: جاء ركضاً ومشياً، أي: راكضاً وماشياً.
{ومن سورة القلم}
* * *
قوله تعالى: {ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ} [القلم: 1] .
النون: في قول ابن عباس ومجاهد: الحوت الذي عليه الأرضون وجمعه (نينان) سماعاً لا قياساً، وروي عن ابن عباس من طريقة أخرى: أن (النون) الدواة، وهو قول الحسن وقتادة، وقيل: (النون) لوح من نور ذكر في خبر مرفوع، وقيل: هو اسم للسورة، وحكمه في الإعراب إذا كان اسماً للسورة حكم {الم} [البقرة: 1] .

(1/508)


وقرأ الكسائي وعاصم في طريقة أبي بكر {ن وَالْقَلَمِ} بالإخفاء، وقرأ الباقون بالإظهار، وقال الفراء: وإظهار أعجب إلي؛ لأنها هجاء، والهجاء كالموقوف عليه وإن اتصل، ومن أخفاها بني على الاتصال.
* * *
قوله تعالى: {بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ} [القلم: 6] .
يسأل عن (الباء) هاهنا؟ وفيها ثلاثة أجوبة"
أحدها: أنها زائدة، والتقدير: أيكم المفتون.
والثاني: أنها بمعنى (في) والتقدير: في أي فرقكم المفتون، أي: المجنون، وهذا قول الفراء.
والقول الثالث: أن {الْمَفْتُونُ} بمعنى: الفتون، كما يقال: ماله معقول، وليس له محصول، وهذا قول ابن عباس.
قال مجاهد: المفتون: المجنون، وقال قتادة في {بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ} أيكم أولى بالشيطان، جعل (الباء) زائدة.
قال الراجز:
نحن بني جعدة أصحاب الفلج
نضرب بالسيف ونرجو بالفرج
أي: نرجو الفرج.
* * *
قوله تعالى: {سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ (16) إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ (17) وَلَا يَسْتَثْنُونَ (18) فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ (19) فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ} [القلم: 16-20] .

(1/509)


السمة: العلامة، يقال: وسمه يسمه وسماً وسمةً.
والخرطوم: ما نتأ من الأنف، وهو الذي يقع به الشم، ومنه قيل: خرطوم الفيل، وخرطمه: إذا قطع أنفه، وجمعه: خراطيم.
قال قتادة المعنى: سنسمه على أنفه، وروي عن ابن عباس في {سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ} سنحطمه بالسيف في يوم بدر، قال الفراء: أي سنكويه ونسمه سمة أهل النار، ومعناه: سنسود وجهه، وهو وإن كان الخرطوم قد خص بالسمة فإنه كأنه في مذهب الوجه؛ لأن بعض الوجه يؤدي عن البعض والعرب تقول: والله لأسمنك وسماً لا يفارقك.
وقيل: الخرطوم: الخمر، والمعنى، سنسمه على شرب الخبر، قال الشاعر:
أبا حاضرٍ من يزن يعرف زناؤه ومن يشرب الخرطوم يصبح مسكرا
والجنة: البستان، والصرام: الجداد في النخيل بمنزلة: الحصاد والقطاف في الزرع والكرم، يقال: صرمت النخل وجددتها، وأصرمت هي وأجدت إذا حان ذلك منها.
ومصبحين: داجلين وقت الصبح.
ولا يستثنون: لا يقولون (إن شاء الله) .
والطائف: الطارق بالليل، فإذا قيل: (أطاف به) صلح في الليل والنهار.
وأنشد الفراء:
أطفت بها نهاراً غير ليلٍ وألهى ربها طلب الرخال

(1/510)


والرخال: الإناث من أولاد الضأن، والصريم: الليل الأسود، قاله ابن عباس، وأنشد أبو عمرو:
ألا بكرت وعاذلتي تلوم تهجدني وما انكشف الصريم
وقال آخر:
تطاول ليلك الجون البهيم فما ينجاب عن صبحٍ صريم
إذا ما قلت أقشع أو تناهى جرت من كل ناحيةٍ غيوم
ويسمى النهار صريما، وهو من الأضداد؛ لأن الليل ينصرم عند مجيء النهار، والنهار ينصرم عند مجيء الليل، وقيل: الصريم: المصروم، أي: صرم جميع ثمارها، والمعنى: فأصبحت كالشيء المصروم، وقيل: الصريم: الصحيفة، أي: أصبحت بيضاء لا شيء فيها، وقيل: الصريم: منقطع الرمل الذي لا نبات فيه، قال الفراء المعنى: بلونا أهل مكة كما بلونا أصحاب الجنة، وهم قوم من أهل اليمن كان لرجل منهم زرع وكرم ونخل، وكان يترك للمساكين من زرعه ما أخطأه المنجل، ومن النخل ما سقط عن البسط، ومن الكرم ما أخطاه القطاف، فكان ذلك يرتفع إلى شيء كثير، ويعيش به اليتامى والأرامل والمساكين، فمات الرجل وله بنون ثلاثة، فقالوا: كان أبونا يفعل ذلك والمال كثير والعيال قليل، فأما إذ كثر العيال وقل المال فإنا لا نفع ذلك، ثم تآمروا أن يصرموا في سدف، أي: في ظلمة باقية من الليل؛ لئلا يبقى للمساكين شيء، فسلط الله على مالهم ناراً فأحرقته ليلاً.
و {وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ} [القلم: 25] أي: على منع، من قولهم: حاردت السنة إذا منعت قطرها، وقال الفراء: على قصد، وقال أيضاً: على قدرة وجد في أنفسهم، وأنشد في الحرد بمعنى القصد:

(1/511)


أقبل سيل جاء من أمر الله
يحرد حرد الجنة المغلة
في كل شهرٍ دائمٍ الأهلة
وقيل: {عَلَى حَرْدٍ} على جد من أمرهم، وهو قول مجاهد وقتادة وعبد الرحمن بن زيد، وقال الحسن: على جهد من الفاقة، وقال سفيان: على حنق، قال الأشهب بن رميلة:
أسود شرى لاقت أسود خفية تساقوا على حردٍ دماء الأساود
وقيل: {عَلَى حَرْدٍ} على غضب.
قال: قلما جاءوا إليها ليصرموها لم يروا شيئاً إلا سواداً، فقالوا: إنا لضالون ما هذا بمالنا الذي نعرف، لي: ضللنا عن جنتنا، وقيل: ضالون عن طريق الرشاد في إدراك جنتنا قال قتادة: أخطانا الطريق، وقيل: ضالون عن الحق في أمرنا، ولذلك عوقبنا بذهاب ثمرتنا، ثم قال بعضهم: هو مالنا، وحرمنا بما ضنعنا بالأرامل والمساكين، {قَالَ أَوْسَطُهُمْ} [القلم: 28] ، أي: أعدلهم طريقة، وكانوا قد أقسموا ليصرمنها في أول الصباح، ولم يقولوا (إن شاء الله) فقال لهم أوسطهم، وهو أخ لهم: أم أقل لكم لولا تسبحون، أي: تستثنون، والتسبيح هاهنا: الاستثناء، وهو أن يقول: (إن شاء الله) .
وموضع (الكاف) نصب؛ لأنها نعت لمصدر محذوف، والتقدير: إنا بلوناهم بلاء كما بلونا أصحاب الجنة.