تأويل مشكل القرآن

باب ذكر العرب وما خصّهم الله به من العارضة والبيان واتّساع المجاز
وإنما يعرف فضل القرآن من كثر نظره، واتسع علمه، وفهم مذاهب العرب وافتنانها في الأساليب، وما خصّ الله به لغتها دون جميع اللغات، فإنه ليس في جميع الأمم أمّة أوتيت من العارضة، والبيان، واتساع المجال، ما أوتيته العرب خصّيصى من الله، لما أرهصه في الرسول، وأراده من إقامة الدليل على نبوّته بالكتاب، فجعله علمه، كما جعل علم كل نبي من المرسلين من أشبه الأمور بما في زمانه المبعوث فيه:
فكان لموسى فلق البحر، واليد، والعصا، وتفجّر الحجر في التّيه بالماء الرّواء، إلى سائر أعلامه زمن السّحر.
وكان لعيسى إحياء الموتى، وخلق الطير من الطين، وإبراء الأكمه والأبرص، إلى سائر أعلامه زمن الطب.
وكان لمحمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، الكتاب الذي لو اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثله، لم يأتوا به، ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا، إلى سائر أعلامه زمن البيان.
فالخطيب من العرب، إذا ارتجل كلاما في نكاح، أو حمالة، أو تحضيض، أو صلح، أو ما أشبه ذلك- لم يأت به من واد واحد، بل يفتنّ: فيختصر تارة إرادة التخفيف، ويطيل تارة إرادة الإفهام، ويكرّر تارة إرادة التوكيد، ويخفي بعض معانيه حتى يغمض على أكثر السامعين، ويكشف بعضها حتى يفهمه بعض الأعجميين، ويشير إلى الشيء ويكني عن الشيء.
وتكون عنايته بالكلام على حسب الحال، وقدر الحفل، وكثرة الحشد، وجلالة المقام.
ثمّ لا يأتي بالكلام كلّه، مهذّبا كلّ التّهذيب، ومصفّى كلّ التّصفية، بل تجده يمزج ويشوب، ليدل بالنّاقص على الوافر، وبالغثّ على السمين. ولو جعله كلّه

(1/17)


نجرا «1» واحدا، لبخسه بهاءه، وسلبه ماءه.
ومثل ذلك الشّهاب من القبس نبرزه للشّعاع، والكوكبان يقترنان، فينقص النّوران، والسّخاب «2» ينظم بالياقوت والمرجان والعقيق والعقيان، ولا يجعل كلّه جنسا واحدا من الرفيع الثّمين، ولا النّفيس المصون.
وألفاظ العرب مبنية على ثمانية وعشرين حرفا، وهي أقصى طوق اللّسان.
وألفاظ جميع الأمم قاصرة عن ثمانية وعشرين ولست واجدا في شيء من كلامهم حرفا ليس في حرفنا إلا معدولا عن مخرجه شيئا، مثل الحرف المتوسط مخرجي القاف والكاف، والحرف المتوسط مخرجي الفاء والباء.
فهذه حال العرب في مباني ألفاظها.
ولها الإعراب الذي جعله الله وشيا لكلامها، وحلية لنظامها، وفارقا في بعض الأحوال بين الكلامين المتكافئين، والمعنيين المختلفين كالفاعل والمفعول، لا يفرّق بينهما، إذا تساوت حالاهما في إمكان الفعل أن يكون لكلّ واحد منهما- إلا بالإعراب.
ولو أن قائلا قال: هذا قاتل أخي بالتنوين، وقال آخر: هذا قاتل أخي بالإضافة- لدّل التنوين على أنه لم يقتله، ودلّ حذف التنوين على أنه قد قتله.
ولو أن قارئا قرأ: فَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّا نَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ (76) [يس:
76] وترك طريق الابتداء بإنّا، وأعمل القول فيها بالنصب على مذهب من ينصب (أنّ) بالقول كما ينصبها بالظن- لقلب المعنى عن جهته، وأزاله عن طريقته، وجعل النبيّ، عليه السلام، محزونا لقولهم: إنّ الله يعلم ما يسرّون وما يعلنون. وهذا كفر ممن تعمّده، وضرب من اللحن لا تجوز الصلاة به، ولا يجوز للمأموين أن يتجوّزوا فيه.
وقد قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: «لا يقتل قرشي صبرا بعد اليوم» «3» .
فيمن رواه «حزما» أوجب ظاهر الكلام للقرشي ألا تقتل إن ارتد، ولا يقتصّ منه إن قتل.
__________
(1) النجر: اللون.
(2) السخاب، بالخاء المعجمة: كل قلادة كانت ذات جواهر، أو لم تكن.
(3) أخرجه مسلم في الجهاد حديث 88، وأحمد في المسند 3/ 412، 4/ 213، والدارمي 2/ 198، والبيهقي في دلائل النبوة 5/ 79، والحميدي في مسنده 568، وابن أبي عاصم في السنة 2/ 638، وابن أبي شيبة في مصنفه 12/ 173، 14/ 490، والتبريزي في مشكاة المصابيح 5993، والمتقي الهندي في كنز العمال 33804، 33885، 37985. [.....]

(1/18)


ومن رواه «رفعا» انصرف التأويل إلى الخبر عن قريش: أنه لا يرتدّ منها أحد عن الإسلام فيستحقّ القتل.
أفما ترى الإعراب كيف فرق بين هذين المعنيين.
وقد يفرقون بحركة البناء في الحرف الواحد بين المعنيين.
فيقولون: رجل لعنة، إذا كان يلعنه الناس. فإن كان هو الذي يلعن الناس، قالوا:
رجل لعنة فحركوا العين بالفتح.
ورجل سبّة إذا كان يسبه الناس، فإن كان هو يسبّ الناس قالوا: رجل سببة.
وكذلك: هزأة، وهزأة وسخرة، وسخرة وضحكة، وضحكة وخدعة، وخدعة.
وقد يفرقون بين المعنيين المتقاربين بتغيير حرف في الكلمة حتى يكون تقارب ما بين اللفظين، كتقارب ما بين المعنيين.
كقولهم للماء الملح الذي لا يشرب إلا عند الضرورة: شروب، ولما كان دونه مما قد يتجوّز به: شريب.
وكقولهم لما ارفضّ على الثوب من البول إذ كان مثل رؤوس الإبر: نضح، ورشّ الماء عليه يجزىء من الغسل، فإن زاد على ذلك قليلا قيل له: نضخ ولم يجزىء فيه إلا الغسل.
وكقولهم للقبض بأطراف الأصابع: قبض وبالكف: قبض وللأكل بأطراف الأسنان: قضم وبالفم: خضم.
ولما ارتفع من الأرض: حزن فإن زاد قليلا قيل: حزم.
وللذي يجد البرد: خصر فإن كان مع ذلك جوع قيل: خرص.
وللنار إذا طفئت: هامدة فإن سكن اللهب وبقي من جمرها شيء قيل: خامدة.
وللقائم من الخبل: صائم فإن كان ذلك من حفىّ أو وجى، قيل: صائن.
وللعطاء: شكد فإن كان مكافأة قيل: شكم.
وللخطأ من غير التعمد: غلط فإن كان في الحساب قيل: غلت.
وللضيق في العين: خوص فإن كان ذلك في مؤخّرها قيل: حوص.

(1/19)


وقد يكتنف الشيء معان فيشتقّ لكل معنى منها اسم من اسم ذلك الشيء، كاشتقاقهم من البطن للخميص: مبطّن وللعظيم البطن إذا كان خلقة: بطين فإذا كان من كثرة الأكل قيل مبطان وللمنهوم: بطن وللعليل البطن: مبطون.
ويقولون: وجدت الضّالة ووجدت في الغضب، ووجدت في الحزن، ووجدت في الاستغناء. ثم يجعلون الاسم الضّالة: وجودا ووجدانا وفي الحزن وجدا وفي الغضب موجدة وفي الاستغناء وجدا.
في أشياء كثيرة، ليس لاستقصاء ذكرها في كتابنا هذا، وجه.
وللعرب الشّعر الذي أقامه الله تعالى لها مقام الكتاب لغيرها، وجعله لعلومها مستودعا، ولآدابها حافظا، ولأنسابها مقيّدا، ولأخبارها ديوانا لا يرثّ على الدّهر، ولا يبيد على مرّ الزّمان.
وحرسه بالوزن، والقوافي، وحسن النّظم، وجودة التخيير- من التدليس والتّغيير، فمن أراد أن يحدث فيه شيئا عسر ذلك عليه، ولم يخف له كما يخفى في الكلام المنثور.
وقد تجد الشاعر منهم ربما زال عن سننهم شيئا، فيقولون له: ساندت، وأقويت، وأكفأت، وأوطأت.
وإنما خالف في السّناد بين ردفين، أو حرفين قبل ردفين، كقول عمرو بن كلثوم «1» :
ألا هبّي بصحنك فاصبحينا ... ولا تبقي خمور الأندرينا
وقال في بيت آخر «2» :
كأن متونهنّ متون غدر ... تصفّقها الرياح إذا جرينا
فالحاء من فأصبحينا (ردف) وهي مكسورة، والراء من جرينا (ردف) وهي مفتوحة.
__________
(1) البيت من الوافر، وهو في ديوان عمرو بن كلثوم ص 64، وخزانة الأدب 3/ 178، وشرح شواهد الشافية ص 251، وشرح شواهد المغني 1/ 119، ولسان العرب (مدر) ، (ندر) ، (صحن) .
(2) البيت من الوافر، وهو في ديوان عمرو بن كلثوم ص 85، وجمهرة أشعار العرب 1/ 409، وشرح ديوان امرئ القيس ص 331، وشرح القصائد السبع ص 416، وشرح القصائد العشر ص 357، وشرح المعلقات السبع ص 184، وشرح المعلقات العشر ص 95، ولسان العرب (غرا) ، وفيه:
«غرينا» بدل «جرينا» . والبيت بلا نسبة في تاج العروس (سند) ، (غرا) ، وكتاب العين 7/ 229.

(1/20)


وخالف في (الإقواء) بحرف نقصه من شطر البيت الأول، كقول الآخر «1» :
جنّت نوار ولات هنّا حنّت ... وبدا الذي كانت نوار أجنّت
لمّا رأت ماء السّلا مشروبا ... والفرث يعصر في الإناء أرنّت
وكقول حميد بن ثور «2» :
إني كبرت وإنّ كلّ كبير ... ممّا يظنّ به يملّ ويفتر
وخالف في الإكفاء بأن رفع قافية وخفض أخرى.
وخالف في الإبطاء بأن أعاد قافية مرتين.
وقال ابن الرّقاع يذكر تنقيحه شعره «3» :
وقصيدة قد بتّ أجمع بينها ... حتى أقوّم ميلها وسنادها
نظر المثقّف في كعوب قناته ... حتى يقيم ثقافه منآدها
وقال ذو الرّمّة «4» :
وشعر قد أرقت له غريب ... أجانبه المساند والمحالا
هذا قول أبي عبيدة.
__________
(1) البيتان من الكامل، والبيت الأول لشبيب بن جعيل في الدرر 1/ 244، 2/ 119، وشرح شواهد المغني ص 919، والمؤتلف والمختلف ص 84، والمقاصد النحوية 1/ 418، ولحجل بن نضلة في الشعر والشعراء ص 102، ولهما معا في خزانة الأدب 4/ 195، وبلا نسبة في تخليص الشواهد ص 130، وتذكرة النحاة ص 734، والجنى الداني ص 489، وجواهر الأدب ص 249، وخزانة الأدب 5/ 463، وشرح الأشموني 1/ 66، 126، ومغني اللبيب ص 592، وهمع الهوامع 1/ 78، 126.
والبيت الثاني لحجل بن نضلة في لسان العرب (سلا) . ويروى صدر البيت في اللسان:
لما رأت ماء السّلى مشروبها
(2) البيت من الكامل، وهو في ديوان حميد بن ثور ص 85، والشعر والشعراء 1/ 43.
(3) البيتان من الكامل، وهما لعدي بن الرقاع في ديوانه ص 38، والشعر والشعراء 1/ 24، والموشح ص 13، والطرائف الأدبية ص 89، وخزانة الأدب 4/ 470، ومعجم الشعراء ص 253، والأغاني 8/ 177، وكتاب الحيوان 3/ 64، والبيان والتبيين 3/ 244، وبلا نسبة في مقاييس اللغة 1/ 383.
(4) البيت من الوافر، وهو في ديوان ذي الرمة ص 1532، ولسان العرب (سند) ، وجمهرة اللغة ص 1124.

(1/21)


وبعضهم يجعل الإقواء رفع قافية وجرّ أخرى.
وقول أبي عبيدة أجود عندي لأن الإقواء من القوّة، والقوّة: طاقة من الحبل، يقال: ذهبت قوّة من الحبل، إذا ذهبت منه طاقة، وكذلك إذا ذهب جزء من البيت، وهو الذي يسمى المزاحف. فقد ذهبت منه قوة، كما ذهب قوة من الحبل، كما قال ذلك «1» :
لما رأت ماء السلا مشروبا فقد ذهب منه شيء، فلو قال: (مشروبة) لكان مستويا.
وللعرب المجازات في الكلام، ومعناها: طرق القول ومآخذه. ففيها الاستعارة:
والتمثيل، والقلب، والتقديم، والتأخير، والحذف، والتكرار، والإخفاء، والإظهار، والتعريض، والإفصاح، والكناية، والإيضاح، ومخاطبة الواحد مخاطبة الجميع، والجميع خطاب الواحد، والواحد والجميع خطاب الاثنين، والقصد بلفظ الخصوص لمعنى العموم، وبلفظ العموم لمعنى الخصوص مع أشياء كثيرة ستراها في أبواب المجاز إن شاء الله تعالى.
وبكل هذه المذاهب نزل القرآن ولذلك لا يقدر أحد من التراجم على أن ينقله إلى شيء من الألسنة، كما نقل الإنجيل عن السّريانية إلى الحبشيّة والرّومية، وترجمت التوراة والزبور، وسائر كتب الله تعالى بالعربية لأن العجم لم تتّسع في المجاز اتّساع العرب.
ألا ترى أنك لو أردت أن تنقل قوله تعالى: وَإِمَّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلى سَواءٍ [الأنفال: 58]- لم تستطع أن تأتي بهذه الألفاظ مؤدية عن المعنى الذي أودعته حتى تبسط مجموعها، وتصل مقطوعها وتظهر مستورها، فتقول: إن كان بينك وبين قوم هدنة وعهد، فخفت منهم خيانة ونقضا، فأعلمهم أنك قد نقضت ما شرطت لهم، وآذنهم بالحرب لتكون أنت وهم في العلم بالنّقض على استواء.
وكذلك قوله تعالى: فَضَرَبْنا عَلَى آذانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَداً (11) [الكهف:
11] إن أردت أن تنقله بلفظه، لم يفهمه المنقول إليه، فإن قلت: أنمناهم سنين عددا،
__________
(1) يروى البيت بتمامه:
لمّا رأت ماء السّلى مشروبها ... والفرث يعصر في الإناء أرنّت
والبيت من الكامل، وهو لحجل بن نضلة في لسان العرب (سلا) .

(1/22)


لكنت مترجما للمعنى دون اللفظ.
وكذلك قوله تعالى: وَالَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْها صُمًّا وَعُمْياناً (73) [الفرقان: 73] إن ترجمته بمثل لفظه استغلق، وإن قلت: لم يتغافلوا أدّيت المعنى بلفظ آخر.
وقد اعترض كتاب الله بالطعن ملحدون ولغوا فيه وهجروا، واتبعوا ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ [آل عمران: 7] بأفهام كليلة، وأبصار عليلة، ونظر مدخول، فحرّفوا الكلام عن مواضعه، وعدلوه عن سبله.
ثم قضوا عليه بالتّناقض، والاستحالة، واللّحن، وفساد النّظم، والاختلاف.
وأدلوا في ذلك بعلل ربما أمالت الضّعيف الغمر، والحدث الغرّ، واعترضت بالشبه في القلوب، وقدحت بالشكوك في الصدور.
ولو كان ما نحلوا إليه على تقريرهم وتأوّلهم- لسبق إلى الطعن به من لم يزل رسول الله، صلّى الله عليه وآله وسلّم، يحتجّ عليه بالقرآن، ويجعله العلم لنبوّته، والدليل على صدقه، ويتحداه في موطن بعد موطن، على أن يأتي بسورة من مثله. وهم الفصحاء والبلغاء، والخطباء والشعراء، والمخصوصون من بين جميع الأنام بالألسنة الحداد، واللّدد، في الخصام، مع اللّب والنّهى، وأصالة الرّأي. وقد وصفهم الله بذلك في غير موضع من الكتاب، وكانوا مرّة يقولون: هو سحر، ومرة يقولون: هو قول الكهنة، ومرة: أساطير الأولين.
ولم يحك الله تعالى عنهم، ولا بلغنا في شيء من الروايات- أنهم جدبوه من الجهة التي جدبه منها الطاعنون.
فأحببت أن أنضح عن كتاب الله، وأرمي من ورائه بالحجج النيّرة، والبراهين البيّنة، وأكشف للناس ما يلبسون.
فألفت هذا الكتاب، جامعا لتأويل مشكل القرآن، مستنبطا ذلك من التفسير بزيادة في الشرح والإيضاح، وحاملا ما لم أعلم فيه مقالا لإمام مطّلع- على لغات العرب لأري به المعاند موضع المجاز، وطريق الإمكان، من غير أن أحكم فيه برأي، أو أقضي عليه بتأويل.
ولم يجز لي أن أنص بالإسناد إلى من له أصل التفسير إذ كنت لم أقتصر على وحي القوم حتى كشفته، وعلى إيمائهم حتى أوضحته، وردت في الألفاظ ونقصت،

(1/23)


وقدّمت وأخرت، وضربت لبعض ذلك الأمثال والأشكال، حتى يستوي في فهمه السامعون.
وأسأل الله التجاوز عن الزّلة بحسن النية، فيما دللت عليه، وأجريت إليه، والتوفيق للصواب، وحسن الثواب.

الحكاية عن الطاعنين
وكان مما بلغنا عنهم: أن يحتجّون بقوله عز وجل: وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً [النساء: 82] وبقوله: لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ [فصلت: 42] .
وقالوا: وجدنا الصحابة، رضي الله عنهم، ومن بعدهم، يختلفون في الحرف:
فابن عباس يقرأ: وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ [يوسف: 45] وغيره يقرأ: بَعْدَ أُمَّةٍ. و «عائشة» تقرأ: «إذ تلقونه» [النور: 15] وغيرها يقرأ: تَلَقَّوْنَهُ. وأبو بكر الصديق يقرأ وجاءت سكرة الحقّ بالموت والناس يقرؤون: وَجاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ [ق: 19] .
وقرأ بعض القراء:
وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وقرأ الناس: وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً [يوسف: 31] . وكان ابن مسعود يقرأ: إن كانت إلا زقية واحدة [يس: 29] ويقرأ كالصوف المنفوش [القارعة: 5] .
مع أشباه لهذه كثيرة، يخالف فيها مصحفه المصاحف القديمة والحديثة. وكان يحذف من مصحفه أمّ الكتاب ويمحو المعوّذتين ويقول: لم تزيدون في كتاب الله ما ليس فيه؟.
و (أبيّ) يقرأ: إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكادُ أُخْفِيها [طه: 15] من نفسي فكيف أظهركم عليها.
ويزيد في مصحفه افتتاح (دعاء القنوت) إلى قول الداعي: (إن عذابك بالكافرين ملحق) ويعدّه سورتين من القرآن.
و (القرّاء) يختلفون: فهذا يرفع ما ينصبه ذاك، وذاك يخفض ما يرفعه هذا.
وأنتم تزعمون أن هذا كله كلام رب العالمين، فأيّ شيء بعد هذا الاختلاف تريدون؟ وأي باطل بعد الخطإ واللحن تبتغون؟.
وقد رويتم من الطريق الذي ترتضون: روى أبو معاوية، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن (عائشة) أنها قالت:

(1/24)


ثلاثة أحرف في كتاب الله هنّ خطأ من الكاتب: قوله: إِنْ هذانِ لَساحِرانِ [طه: 63] .
وفي سورة المائدة: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالصَّابِئُونَ [المائدة: 69] .
وفي سورة النساء: لكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكاةَ [النساء: 162] حدثناه إسحاق بن راهويه.
قالوا: ورويتم عن عثمان أنه نظر في المصحف فقال: أرى فيه لحنا وستقيمه العرب بألسنتها.
وقالوا: وهل التناقض إلا مثل قوله: فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌّ (39) [الرحمن: 39] وهو يقول في موضع آخر: فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (92) عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ (93) [الحجر: 92، 93] .
ومثل قوله: هذا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ (35) وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ (36) [المرسلات: 35، 36] .
ويقول في موضع آخر: ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ (31) [الزمر:
31] . ويقول: هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ [البقرة: 111] .
ومثل قوله: وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ (25) [الطور: 25، والصافات: 27] .
وهو يقول في موضع آخر: فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَساءَلُونَ [المؤمنون: 101] .
ومثل قوله: قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْداداً ذلِكَ رَبُّ الْعالَمِينَ (9) [فصلت: 9] .
وقال بعد ذلك: ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ (11) فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فِي يَوْمَيْنِ [فصلت: 11، 12] فدلت هذه الآية على أنه خلق الأرض قبل السماء.
وقال في موضع آخر: أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّماءُ بَناها (27) رَفَعَ سَمْكَها فَسَوَّاها (28) [النازعات: 27، 28] ثم قال: وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها (30) [النازعات: 30] .
فدلت هذه الآية على أنه خلق السماء قبل الأرض.
ومثل قوله: لَيْسَ لَهُمْ طَعامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ (6) [الغاشية: 6] .
وهو يقول في موضع آخر: فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هاهُنا حَمِيمٌ (35) وَلا طَعامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ (36)

(1/25)


والضريع: نبت، فهل يجوز أن يكون في النار نبات وشجر، والنار تأكلهما؟.
ومثل قوله تعالى: وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَما كانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (33) [الأنفال: 33] ، ثم قال على أثر ذلك: وَما لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ [الأنفال: 34] .
وقالوا: فأين قوله: وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى، من قوله: فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ [النساء: 3] .
وأين قوله: جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرامَ قِياماً لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلائِدَ، من قوله: ذلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [المائدة: 97] .
وأين قوله: أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللَّهِ لِيُرِيَكُمْ مِنْ آياتِهِ، من قوله: إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ [لقمان: 31] ، أو ليس هذا مما يستوي فيه الصبّار والشّكور وغير الصبّار والشّكور؟.
وما معنى قوله: كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَباتُهُ [الحديد: 20] ؟ ولم خص الكفار دون المؤمنين؟ أو ليس هذا مما يستوي فيه المؤمنون والكافرون، ولا ينقص إيمان المؤمنين إن أعجبهم؟.
وقالوا في قوله عز وجل: خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ [هود: 107] : استثناؤه المشيئة من الخلود، يدل على الزوال، وإلا فلا معنى للاستثناء. ثم قال: عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ [هود: 108] ، أي غير مقطوع.
وقالوا في قوله: لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولى [الدخان: 56] :
كيف يستثنى موتا كان في الدنيا من مكثهم في الجنة؟ وهل يجوز أن يقال في الكلام:
لا أعطيك اليوم درهما إلا ما أعطيتك أمس؟.
وقالوا في قوله: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمنُ وُدًّا (96) [مريم: 96] : هل يجوز أن يقال: فلان يجعل لك حبّا، أي يحبك؟.
وفي قوله: وَجَعَلْنا نَوْمَكُمْ سُباتاً (9) [النبأ: 9] والسّبات هو: النوم، فكيف يجوز أن يجعل نومنا نوما؟.
وفي قوله: وَيُطافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوابٍ كانَتْ قَوارِيرَا (15) قَوارِيرَا مِنْ فِضَّةٍ [الإنسان:
15، 16] وقوله: لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ طِينٍ (33) [الذاريات: 33] : كيف يكون زجاج من

(1/26)


فضة؟ وحجارة من طين؟.
وقالوا في قوله: فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ فَسْئَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُنَ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكَ لَقَدْ جاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ المُمْتَرِينَ (94) وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ فَتَكُونَ مِنَ الْخاسِرِينَ (95) [يونس: 94، 95] : هل كان النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، يشك فيما يأتيه به جبريل؟ وكيف يدعو الشاكين من هو على مثل سبيلهم؟ وكيف يرتاب فيما يأتيه به الروح الأمين، ويأتيه الثّلج واليقين بخبر أهل الكتاب عنه أنه حق، وهم يكذبون ويحرّفون ويقولون على الله ما لا يعلمون؟.
وقالوا في قوله: وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيها بُكْرَةً وَعَشِيًّا [مريم: 62] : أنتم تزعمون أنه لا شمس هناك ولا ليل، وهذا يدل على أوقات مختلفة، وشمس وفيء، ونهار وليل، لأن البكرة تدل على أول النهار، والعشيّ يدل على آخره، وما كان له أول وآخر فله انصرام، وإذا انصرم عاقبه الليل والنهار.
وقالوا في سورة الأنفال، حين ذكرها، ثم وصف المؤمنين فقال: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (2) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (3) أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (4) [الأنفال: 2- 4] ، ثم قال: كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ [الأنفال: 5] : و (كما) تأتي لتشبيه الشيء، ولم يتقدم من الكلام ما يشبّه به إخراج الله إياه.
وقالوا في قوله: وَإِنْ ما نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسابُ (40) [الرعد: 40] كيف يكون عليه البلاغ بعد الوفاة؟.
وقالوا: في قوله في الرعد: مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ [الرعد: 35] ، أين الشيء الذي جعلت له الجنة مثلا؟ وهل يجوز أن يقال: «مثل الدار التي وعدتك سكناها، يطّرد فيها نهر، وتظلك فيها، شجرة» . ويمسك القائل؟.
قالوا: وقال في موضع آخر: يا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ [الحج: 73] ولم يأت به.
وقالوا في قوله تعالى: وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ [الأحزاب: 10] : كيف تبلغ القلب الحلوق، والقلوب إن زال عن موضعه شيئا، مات صاحبه؟.
وقالوا في قوله تعالى: فَأَذاقَهَا اللَّهُ لِباسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ [النحل: 112] : كيف

(1/27)


يذاق اللباس؟ وإنما كان وجه الكلام: فألبسها الله لباس الجوع والخوف. أو غشّاها الله لباس الجوع والخوف. أو فأذاقها الله الجوع والخوف. ويحذف اللباس.
وقالوا في قوله: سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ (16) [القلم: 16] : ما هذا من العقوبة؟ وفي أي الدّارين يسمه: أفي الدنيا أم في الآخرة؟.
فإن كان في الدنيا، فإنه لم يبلغنا أن أحدا من المشركين، وسم على أنفه.
وإن كان في النار، فما أعدّ للكافرين فيها من صنوف العذاب، أكثر من الوسم على الأنف.
وقالوا: ماذا أراد بإنزال المتشابه في القرآن، من أراد لعباده الهدى والبيان؟.
وتعلقوا بكثير منه لطف معناه: لما فيه من المجازات بمضمر لغير مذكور، أو محذوف من الكلام متروك، أو مزيد فيه يوضح معناه حذف الزيادة، أو مقدّم يوضح معناه التأخير، أو مؤخر يوضح معناه التقديم، أو مستعار، أو مقلوب.
وتكلموا في الكناية، مثل قوله: تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ (1) [المسد: 1] ، ومثل قوله: لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلًا [الفرقان: 28] .
وفي تكرار الكلام في: قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ (1) [الكافرون: 1] ، وفي سورة الرحمن.
وفي تكرار الأنباء والقصص، من غير زيادة ولا إفادة.
وفي مخالفة معنى الكلام مخرجه.
وقد ذكرت الحجّة عليهم في جميع ما ذكروا، وغيره مما تركوا، وهو يشبه ما أنكروا، ليكون الكتاب جامعا للفن الذي قصدت له.
وأفردت للغريب كتابا، كي لا يطول هذا الكتاب، وليكون مقصورا على معناه، خفيفا على من قرأه إن شاء الله تعالى.

(1/28)