روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني أَتَى أَمْرُ اللَّهِ
فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا
يُشْرِكُونَ (1) يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ
أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا
أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ (2) خَلَقَ
السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ تَعَالَى عَمَّا
يُشْرِكُونَ (3) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا
هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (4) وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ
فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (5) وَلَكُمْ
فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ (6)
وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا
بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ
لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (7) وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ
لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (8)
وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْهَا جَائِرٌ وَلَوْ
شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ (9) هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ
السَّمَاءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ
تُسِيمُونَ (10) يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ
وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنَابَ وَمِنْ كُلِّ
الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ
يَتَفَكَّرُونَ (11) وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ
وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ
إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (12) وَمَا
ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ إِنَّ
فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ (13) وَهُوَ
الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا
طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا
وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ
فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (14) وَأَلْقَى فِي
الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَارًا
وَسُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (15) وَعَلَامَاتٍ
وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ (16) أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ
لَا يَخْلُقُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (17) وَإِنْ تَعُدُّوا
نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ
رَحِيمٌ (18) وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا
تُعْلِنُونَ (19) وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ
لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ (20) أَمْوَاتٌ
غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (21)
إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ
بِالْآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ
(22) لَا جَرَمَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا
يُعْلِنُونَ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ (23)
وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا
أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (24) لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ
كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ
يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ
(25) قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللَّهُ
بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ
مِنْ فَوْقِهِمْ وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا
يَشْعُرُونَ (26) ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُخْزِيهِمْ
وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ
فِيهِمْ قَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ إِنَّ الْخِزْيَ
الْيَوْمَ وَالسُّوءَ عَلَى الْكَافِرِينَ (27) الَّذِينَ
تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ
فَأَلْقَوُا السَّلَمَ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ بَلَى
إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (28)
فَادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَلَبِئْسَ
مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (29) وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا
مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا خَيْرًا لِلَّذِينَ
أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَلَدَارُ
الْآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ (30)
جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا
الْأَنْهَارُ لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ كَذَلِكَ يَجْزِي
اللَّهُ الْمُتَّقِينَ (31) الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ
الْمَلَائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلَامٌ عَلَيْكُمُ
ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (32) هَلْ
يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ
يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ
قَبْلِهِمْ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ كَانُوا
أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (33) فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا
عَمِلُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ
(34) وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا
عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلَا آبَاؤُنَا
وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ فَعَلَ
الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا
الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (35) وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ
أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا
الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ
حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ
فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (36) إِنْ
تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ
يُضِلُّ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (37) وَأَقْسَمُوا
بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ
يَمُوتُ بَلَى وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ
النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (38) لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي
يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا
أَنَّهُمْ كَانُوا كَاذِبِينَ (39) إِنَّمَا قَوْلُنَا
لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ
(40) وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا
ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً
وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (41)
الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (42)
وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي
إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا
تَعْلَمُونَ (43) بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَأَنْزَلْنَا
إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ
إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (44) أَفَأَمِنَ
الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ
بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ
لَا يَشْعُرُونَ (45) أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ
فَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ (46) أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى
تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (47) أَوَلَمْ
يَرَوْا إِلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّأُ
ظِلَالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ سُجَّدًا لِلَّهِ
وَهُمْ دَاخِرُونَ (48) وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي
السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ
وَالْمَلَائِكَةُ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (49) يَخَافُونَ
رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ (50)
سورة النّحل
وتسمى كما أخرج ابن أبي حاتم سورة النعم قال ابن الفرس: لما
عدد الله تعالى فيها من النعم على عباده، وأطلق جمع القول
بأنها مكية وأخرج ذلك ابن مردويه عن ابن عباس وابن الزبير رضي
الله تعالى عنهم وأخرج النحاس من طريق مجاهد عن الحبر أنها
نزلت بمكة سوى ثلاث آيات من آخرها فإنهن نزلن بين مكة والمدينة
في منصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم من أحد، وفي رواية عنه
أنها كلها مكية إلا قوله تعالى: وَلا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ
اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلًا [النحل:
95] إلى قوله سبحانه: بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ
[النحل: 96، 97] وروى أمية الأزدي عن جابر بن زيد أن أربعين
آية منها نزلت بمكة وبقيتها نزلت بالمدينة، وهي مائة وثمان
وعشرون آية، قال الطبرسي وغيره: بلا خلاف، والذي ذكره الداني
في كتاب العدد أنها تسعون وثلاث وقيل أربع وقيل خمس في سائر
المصاحف، وتحتوي من المنسوخ قيل على أربع آيات بإجماع وعلى آية
واحدة على مختلف فيها، وسيظهر لك حقيقة الأمر في ذلك إن شاء
الله تعالى، ولما ذكر في آخر السورة السابقة المستهزءون
المكذبون له صلى الله عليه وسلم ابتدئ هنا بعد قوله تعالى:
(7/332)
بقوله عزّ وجلّ أَتى أَمْرُ اللَّهِ فَلا
تَسْتَعْجِلُوهُ المناسب لذلك على ما ذكر غير واحد في معناه
وسبب نزوله.
وفي البحر في بيان وجه الارتباط أنه تعالى لما قال فَوَ
رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ [الحجر: 92] كان ذلك
تنبيها على حشرهم يوم القيامة وسؤالهم عما فعلوه في الدنيا
فقيل: أَتى أَمْرُ اللَّهِ فإن المراد به على قول الجمهور يوم
القيامة، وذكر الجلال السيوطي أن آخر الحجر شديدة الالتئام
بأول هذه فإن قوله سبحانه وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ
الْيَقِينُ [الحجر: 99] الذي هو مفسر بالموت ظاهر المناسبة
بقوله سبحانه هنا: أَتى أَمْرُ اللَّهِ وانظر كيف جاء في
المتقدمة يَأْتِيَكَ بلفظ المضارع وفي المتأخرة أتى بلفظ
الماضي لأن المستقبل سابق على الماضي كما تقرر في محله، والأمر
واحد الأمور وتفسيره بيوم القيامة كما قال في البحر، وفسر بما
يعمه وغيره من نزول العذاب الموعود للكفرة، وعن ابن جريج
تفسيره بنزول العذاب فقط فقال: المراد بالأمر هنا ما وعد الله
تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم من النصر والظفر على الأعداء
والانتقام منهم بالقتل والسبي ونهب الأموال والاستيلاء على
المنازل والديار، وأخرج ابن جرير وغيره عن الضحاك أن المراد به
الأحكام والحدود والفرائض، وكأنه حمله على ما هو أحد الأوامر
وفيما ذكره بعد إذ لم ينقل عن أحد أنه استعجل فرائض الله تعالى
وحدوده سبحانه، والتعبير عن ذلك بأمر الله للتهويل والتفخيم،
وفيه إيذان بأن تحققه في نفسه وإتيانه منوط بحكمه تعالى النافذ
وقضائه الغالب، وإتيانه عبارة عن دنوه واقترابه على طريقة نظم
المتوقع في سلك الواقع، وجوز أن يكون المراد إتيان مباديه
فالماضي باق على حقيقته، ولعل ما أخرجه ابن مردويه من طريق
الضحاك عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه فسر الأمر بخروج
النبي صلى الله عليه وسلم مؤيد لما ذكر وبعضهم أبقى الفعل على
معناه الحقيقي وزعم أن المعنى أتى أمر الله وعدا فلا تستعجلوه
وقوعا وهو كما ترى، وظاهر صنيع الكثير يشعر باختيار أن الماضي
بمعنى المضارع على طريق الاستعارة بتشبيه المستقبل المتحقق
بالماضي في تحقق الوقوع والقرينة عليه
(7/334)
قوله سبحانه (1) فإنه لو وقع ما استعجل.
وهو الذي يميل إليه القلب، والضمير المنصوب في تَسْتَعْجِلُوهُ
على ما هو الظاهر عائد على الأمر لأنه هو المحدث عنه، وقيل:
يعود على الله سبحانه أي فلا تستعجلوا الله تعالى بالعذاب أو
بإتيان يوم القيامة كقوله تعالى: وَيَسْتَعْجِلُونَكَ
بِالْعَذابِ [الحج: 47، العنكبوت: 53، 54] وهو خلاف الظاهر،
لكن قيل: إن ذلك أوفق بما بعد، والخطاب للكفرة خاصة ويدل عليه
قراءة ابن جبير «فلا يستعجلوه» على صيغة نهي الغائب،
واستعجالهم وإن كان بطريق الاستهزاء لكنه حمل على الحقيقة
ونهوا بضرب من التهكم لا مع المؤمنين سواء أريد بأمر الله
تعالى ما قدمنا أو العذاب الموعود للكفرة خاصة، أما الأول
فلأنه لا يتصور من المؤمنين استعجال الساعة (2) أو ما يعمها من
العذاب حتى يعمهم النهي عنه، وأما الثاني فلأن الاستعجال من
المؤمنين حقيقة ومن الكفرة استهزاء فلا ينظمهما صيغة واحدة،
والالتجاء إلى إرادة معنى مجازي يعمهما معا من غير أن يكون
هناك نكتة سرية تعسف لا يليق بشأن التنزيل.
وادعى بعضهم عموم الخطاب واستدل بما
روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه لما نزل قوله تعالى:
اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ [القمر: 1] قال الكفار فيما بينهم: إن
هذا يزعم أن القيامة قد قربت فأمسكوا عن بعض ما تعملون حتى
تنظروا ما هو كائن، فلما تأخرت قالوا: ما نرى شيئا فنزلت
اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ [الأنبياء: 1] فأشفقوا
وانتظروا قربها فلما امتدت الأيام قالوا: يا محمد ما نرى شيئا
مما تخوفنا به فنزلت أَتى أَمْرُ اللَّهِ فوثب رسول الله صلى
الله عليه وسلم فرفع الناس رؤوسهم فلما نزل فَلا
تَسْتَعْجِلُوهُ اطمأنوا ثم قال صلى الله عليه وسلم: «بعثت أنا
والساعة كهاتين وأشار بإصبعيه إن كادت لتسبقني»
ولا دلالة فيه على ذلك لأن مناط اطمئنانهم إنما هو وقوفهم على
أن المراد بالإتيان هو الإتيان الادعائي لا الحقيقي الموجب
لاستحالة الاستعجال المستلزمة لامتناع النهي عنه لما أن النهي
عن الشيء يقتضي إمكانه في الجملة، ومدار ذلك الوقوف إنما هو
النهي عن الاستعجال المستلزم لإمكانه المقتضي عدم وقوع
المستحيل بعد، ولا يختلف ذلك باختلاف المستعجل كائنا من كان بل
فيه دلالة واضحة على عدم العموم لأن المراد بأمر الله إنما هو
الساعة وصدور استعجالها عن المؤمنين مستحيل. نعم يجوز تخصيص
الخطاب بهم على تقدير كون أمر الله تعالى العذاب الموعود
للكفرة خاصة، لكن الذي يقضي به الإعجاز التنزيلي أنه خاص
بالكفرة كذا قاله أبو السعود.
وبحث فيه من وجوه، أما أولا فلأن الذي لا يتصور من المؤمنين
الاستعجال بمعنى طلب الوقوع عاجلا لا عده عاجلا وسياق ما روي
يدل على الأخير، فإنه لما سمعوا صدر الكلام حملوه على الظاهر
فاضطربوا فقيل لهم: فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ أي لا تعدوه عاجلا،
على أن عدم تصور المعنى الأول أيضا منهم في حيز المنع لجواز أن
يستعجلوه لتشفي صدورهم وإذهاب غيظ قلوبهم والاستهزاء بهم
والضحك منهم، وأما ثانيا فلأن الجمع بين الحقيقة والمجاز لعله
مذهب ذلك القائل، وأما ثالثا فلأن القول بكون القراءة على صيغة
نهي الغائب دالة على أن الخطاب مخصوص بالكفرة ممنوع والسند
ظاهر، وأما رابعا فلأن نفي دلالة ما روي على عموم الخطاب غير
موجه لعموم لفظ الناس، وأما خامسا فلأن قوله: بل فيه دلالة
واضحة على عدم العموم لأن المراد بأمر الله تعالى إنما هو
الساعة إلى آخره، يرد عليه أنه لا دلالة فيه أصلا على عدم
العموم فضلا أن تكون واضحة، وقد عرفت ما في قوله: وقد عرفت،
وأما سادسا فلأن حصره المراد بالأمر في الساعة مخالف لما ذكره
في تفسير قوله: أَتى أَمْرُ اللَّهِ حيث قال: أي الساعة أو ما
يعمها
__________
(1) قوله والقرينة عليه قوله سبحانه إلخ كذا بخطه ولعله سقط
منه فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ مقول القول بدليل ما ذكره من التعليل
اه.
(2) قال تعالى: يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ
بِها اه منه.
(7/335)
وغيرها من العذاب فبعد هذا التصريح كيف
يدعي ذلك الحصر؟، وفي بعض الأبحاث نظر. وقال بعض الفضلاء: قد
يقال: إن المراد بالناس في الخبر المؤمنون لما في خبر آخر
أخرجه ابن مردويه عن الحبر قال: «لما نزلت أَتى أَمْرُ اللَّهِ
ذعر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى نزلت فَلا
تَسْتَعْجِلُوهُ فسكنوا» . وهذا أيضا على ما قيل لا يقتضي كون
الخطاب للمؤمنين لجواز أن يقال: إنهم لما سمعوا أول الآية
ذعروا واضطربوا لظن أنه وقع فلما سمعوا خطاب الكفرة بقوله
سبحانه: فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ اطمأنت قلوبهم وسكنوا، وقد يورد
على دعوى أن صدور استعجال الساعة من المؤمنين مستحيل أن ذلك حق
لو كان استعجالهم على طرز استعجال الكفرة لها وليس ذلك بمسلم
فإنه يجوز أن يراد باستعجالهم اضطرابهم وتهيؤهم لها المنزل
منزلة الاستعجال الحقيقي، واستدل على كون الخطاب للكفرة بقوله
سبحانه وتعالى: سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ فإنه
على ذلك التقدير يظهر ارتباطه بما قبله وذلك بأن يقال حينئذ:
لما كان استعجالهم ذلك من نتائج إشراكهم المستتبع لنسبة الله
تعالى إلى ما لا يليق به سبحانه من العجز والاحتياج إلى الغير
واعتقادهم أن أحدا يحجزه عن إمضاء وعيده أو إنجاز وعده قيل
بطريق الاستئناف ذلك على معنى تنزه وتقدس بذاته وجل عن إشراكهم
المؤدي إلى صدور أمثال هذه الأباطيل عنهم أو عن أن يكون له
شريك فيدفع ما أراد بهم بوجه من الوجوه وقد كانوا يقولون على
ما في بعض الروايات: إن صح مجيء ذلك فالأصنام تخلصنا عنه
بشفاعتها لنا، والتعبير بالمضارع للدلالة على تجدد إشراكهم
واستمراره والالتفات إلى الغيبة للإيذان باقتضاء ذكر قبائحهم
للإعراض عنهم وطرحهم عن رتبة الخطاب وحكاية شنائعهم للغير وهذا
لا يتأتى على تقدير تخصيص الخطاب بالمؤمنين، وقيل في وجه
الارتباط على ذلك التقدير: إنه تعالى لما نهاهم عن الاستعجال
ذكر ما يتضمن أن إنذاره سبحانه واخباره تعالى للتخويف والإرشاد
وأن قوله جل وعلا: أَتى أَمْرُ اللَّهِ إنما هو لذلك فيستعد كل
أحد لمعاده ويشتغل قبل السفر بتهيئة زاده فلذلك عقب بذلك دون
عطف، وقد أشار بعضهم إلى ارتباط ذلك باعتبار ما بعده فيكون ما
ذكر مقدمة واستفتاحا له، وأيضا فإن قوله تعالى: أَتى أَمْرُ
اللَّهِ تنبيه وإيقاظ لما يرد بعده من أدلة التوحيد اه، وأنت
تعلم أن الارتباط على ما قرر أولا أظهر منه على هذا التقرير
فافهم، ثم إن ما تحتمل الموصولية والمصدرية والاحتمال الثاني
أظهر، ولا بد على الاحتمال الأول من اعتبار ما أشرنا إليه وإلا
فلا يظهر التنزيه عن الشريك. وقرأ حمزة والكسائي «تشركون» بتاء
الخطاب على وفق فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ وقرأ باقي السبعة والأعرج
وأبو جعفر وأبو رجاء والحسن بياء الغيبة، وقد تقدم أن في
الكلام حينئذ التفاتا وهو مبني على أن الخطاب السابق للكفرة
أما إذا كان للمؤمنين أو لهم وللكفرة فلا يتحد معنى الضميرين
حتى يكون التفات ولا التفات أيضا على قراءة «تشركون» بالتاء
سواء كان الخطاب الأول للكفرة أو لهم وللمؤمنين. نعم في ذلك
على تقدير عموم الخطاب تغليبان على ما قيل الأول تغليب
المؤمنين على غيرهم في الخطاب والثاني تغليب غيرهم عليهم في
نسبة الشرك، وعلى قراءة «يستعجلوه» ويُشْرِكُونَ بالتحتية
فيهما لا التفات ولا تغليب يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ قيل هو
إشارة إلى طريق علم الرسول صلى الله عليه وسلم بإتيان ما أوعد
به وباقترابه إزاحة لاستبعاد اختصاصه عليه الصلاة والسلام
بذلك، وقال في الكشف:
التحقيق أن قوله سبحانه: أَتى أَمْرُ اللَّهِ تنبيه وإيقاظ
ليكون ما يرد بعده ممكنا في نفس حاضرة ملقية إليه وهو تمهيد
لما يرد من دلائل التوحيد وقوله تعالى: يُنَزِّلُ
الْمَلائِكَةَ إلخ تفصيل لما أجمل في قوله سبحانه وتعالى أيقظ
أولا ثم نعى عليهم ما هم فيه من الشرك ثم أردفه بدلائل السمع
والعقل، وقدم السمعي لأن صاحبه هو القائم بتحرير العقلي
وتهذيبه أيضا فليس النظر إلى دليل السمع بل إلى من قام به من
الملائكة والرسل عليهم السلام وهم القائمون بالأمرين جميعا
فافهم. وأخذ سيبويه منه أن جعل يُنَزِّلُ حالا من ضمير
يُشْرِكُونَ لا يطابق المقام البتة انتهى.
(7/336)
وما ذكره من أمر الحالية إشارة إلى
الاعتراض على شيخه العلامة الطيبي حيث جعل ذلك أحد احتمالين في
الجملة، ثانيهما كونها مستأنفة وهو الظاهر، وما أشار إليه من
وجه الربط وادعى أنه التحقيق لا يخلو عما هو خلاف المتبادر،
والتعبير بصيغة الاستقبال للإشارة إلى أن التنزيل عادة مستمرة
له تعالى، والمراد بالملائكة عند الجمهور جبريل عليه السلام
ويسمى الواحد بالجمع- كما قال الواحدي- إذا كان رئيسا، وعند
بعض هو عليه السلام ومن معه من حفظة الوحي.
وقرأ ابن كثير وأبو عمرو «ينزل» مخففا من الإنزال، وزيد بن علي
رضي الله تعالى عنهما والأعمش وأبو بكر ينزل مشددا مبنيا
للمفعول والملائكة بالرفع على أنه نائب الفاعل والجحدري كذلك
إلا أنه خفف، وأبو العالية والأعرج والمفضل عن عاصم «تنزّل»
بتاء فوقية مفتوحة وتشديد الزاي مبنيا للفاعل وقد حذف منه أحد
التاءين وأصله تتنزل، وابن أبي عبلة «ننزل» بنون العظمة
والتشديد، وقتادة بالنون والتخفيف، وفي هاتين القراءتين كما في
البحر التفات بِالرُّوحِ أي الوحي كما أخرجه ابن جرير، وابن
أبي حاتم عن ابن عباس ويدخل في ذلك القرآن، وروي عن الضحاك
والربيع بن أنس الاقتصار عليه، وأيّا ما كان فإطلاق «الروح»
على ذلك بطريق الاستعارة المصرحة المحققة، ووجه الشبه أن الوحي
يحيي القلوب الميتة بداء الجهل والضلال أو أنه يكون به قوام
الدين كما أن بالروح يكون قوام البدن، ويلزم ذلك استعارة مكنية
وتخييلية وهي تشبيه الجهل والضلال بالموت وضد ذلك بالحياة أو
تشبيه الدين بإنسان ذي جسد وروح، وهذا كما إذا قلت: رأيت بحرا
يغترف الناس منه وشمسا يستغيثون بها فإنه يتضمن تشبيه علم
الممدوح بالماء العظيم والنور الساطع لكنه جاء من عرض فليس-
كأظفار المنية- وليس غير كونه استعارة مصرحة، وجعل ذلك في
الكشف من قبيل الاستعارة بالكناية وليس بذاك، والباء متعلقة
بالفعل السابق أو بما هو خال من مفعوله أي ينزل الملائكة
ملتبسين بالروح، وقوله سبحانه: مِنْ أَمْرِهِ بيان للروح
المراد به الوحي، والأمر بمعنى الشأن واحد الأمور، ولا يخرج
ذلك الروح من الاستعارة إلى التشبيه كما قيل في قوله تعالى:
حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ
الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ [البقرة: 187] لما
قالوا: من أن بينهما بونا بعيدا لأن نفس الفجر عين المشبه شبه
بخيط، وليس مطلق الأمر بالمعنى السابق مشبها به ولذا بينت به
الروح الحقيقية في قوله تعالى: قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ
رَبِّي [الإسراء: 85] كما تبين به المجازية، ولو قيل: يلقى
أمره الذي هو الروح لم يخرج عن الاستعارة فليس وزان مِنْ
أَمْرِهِ وزان مِنَ الْفَجْرِ وليس كل بيان مانعا من الاستعارة
كما يتوهم من كلام المحقق في شرح التلخيص.
وجوز أن يكون الجار والمجرور متعلقا بمحذوف وقع حالا من الروح
على معنى حال كونه ناشئا ومبتدأ منه أو صفة له على رأي من جوز
حذف الموصول مع بعض صلته أي بالروح الكائن من أمره أو متعلقا-
بينزل- ومِنْ سببية أو تعليلية أو ينزل الملائكة بسبب أمره أو
لأجله، والأمر على هذا واحد الأوامر، وعلى ما قبله قيل: فيه
احتمالان. وذهب بعضهم إلى أن «الروح» هو جبريل عليه السلام
وأيده بقوله تعالى: نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ [الشعراء:
193] وجعل الباء بمعنى مع، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما
أن «الروح» خلق من خلق الله تعالى كصور بني آدم لا ينزل من
السماء ملك إلا ومعه واحد منهم، وروي ذلك عن ابن جريج وعليه
حمل بعضهم ما في الآية هنا.
وتعقب ذلك ابن عطية بأن هذا قول ضعيف لم يأت له سند يعول عليه،
وأضعف منه بل لا يكاد يقدم عليه في الآية أحد ما روي عن مجاهد
أن المراد بالروح أرواح الخلق لا ينزل ملك إلا ومعه روح من تلك
الأرواح عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ أي أن ينزل عليهم لا
لاختصاصهم بصفات تؤهلهم لذلك.
والآية دليل على أن النبوة عطائية كما هو المذهب الحق، ويرد
بها أيضا على بعض المتصوفة القائلين بأنه لا
(7/337)
حاجة للخلق إلى إرسال الرسل عليهم السلام
قالوا: الرسل سوى الله تعالى وكل ما سواه سبحانه حجاب عنه جل
شأنه فالرسل حجاب عنه تعالى وكل ما هو حجاب لا حاجة للخلق
فالرسل لا حاجة إليهم، وهذا جهل ظاهر، ولعمري إنه زندقة
وإلحاد، وفساده مثل كونه زندقة في الظهور، ويكفي في ذلك منع
الكبرى القائلة بأن كل ما سواه سبحانه إلخ فإن الرسل وسيلة إلى
الله تعالى والوصول إليه عز وجل لا حجاب، وهل يقبل ذو عقل أن
نائب السلطان في بلاده حجاب عنه؟ وهب هذا القائل أمكنه الوصول
إليه سبحانه بلا واسطة بقوة الرياضة والاستعداد والقابلية
فالسواد الأعظم الذين لا يمكنهم ما أمكنه كيف يصنعون. وممن
ينتظم في سلك هؤلاء الملحدين البراهمة فإنهم أيضا نفوا النبوة
لكنهم استدلوا بأن العقل كاف فيما ينبغي أن يستعمله المكلف
فيأتي بالحسن ويجتنب القبيح ويحتاط في المشتبه بفعل أو ترك،
فالأنبياء عليهم السلام إما أن يأتوا بما يوافق العقل فلا حاجة
معه إليهم أو بما يخالفه فلا التفات إليهم، وجوابه أن هذا مبني
على القول بالحسن والقبح العقليين، وقد رفعت الأقلام وجفت
الصحف وتم الأمر في إبطاله، وعلى تقدير تسليمه لا نسلم أن
العقل يستقل بجميع ما ينبغي، ولا نسلم أيضا أنهم إن جاؤوا بما
يوافق العقل لا حاجة إليهم لجواز أن يعرفوا المكلف بعض ما يخفى
عليه مما ينبغي له أو يؤكدوا حكمه بحكمهم، ودليلان أقوى من
دليل، ولا نسلم أيضا أنهم إن جاؤوا بما يخالف العقل لا يلتفت
إليهم لجواز أن يخالفوه فيما يخفى عليه، على أن ذلك فرض محال
لإجماع الناس على أن الشرع لا يأتي بخلاف العقل في نفس الأمر
وإنما يأتي بما يقصر عن إدراكه بنفسه كوجوب صوم آخر يوم من
رمضان وحرمة صوم أول يوم من شوال، وتمام الكلام في ذلك يطلب من
محله أَنْ أَنْذِرُوا بدل من الروح على أن أَنْ هي التي من
شأنها أن تنصب المضارع وصلت بالأمر كما وصلت به في قولهم: كتبت
إليه بأن قم، ولا ضير في ذلك كما حقق في موضعه أي ينزلهم
ملتبسين بطلب الإنذار منهم. وجوز ابن عطية وأبو البقاء وصاحب
الغنيان كون أَنْ مفسرة فلا موضع لها من الإعراب، وذلك لما في
تنزيل الملائكة بالوحي من معنى القول كأنه قيل: يقول بواسطة
الملائكة لمن يشاء من عباده أن أنذروا، وجوز الزمخشري ذلك وكون
أَنْ المخففة من المثقلة وأمر البدلية على حاله قال: والتقدير
بأنه أنذروا أي بأن الشأن أقول لكم أنذروا.
وتعقبه أبو حيان بأن جعلها مخففة وإضمار اسمها وهو ضمير الشأن
وتقدير القول حتى يكون الخبر جملة خبرية تكلف لا حاجة إليه مع
سهولة جعلها الثنائية التي من شأنها نصب المضارع، وفيه بحث،
ففي الكشف أن تحقيق وصل الأمر بهذا الحرف ناصبة كانت أو مخففة
وإضمار القول قد سلف إنما الكلام في إيثار المخففة هاهنا وفي
يونس والناصبة في نوح وهي الأصل لقلة التقدير، وذلك لأن مقام
المبالغة يقتضي إيثار المخففة، ولهذا جعل بدلا والمبدل منه ما
عرف شأنه، وكذاك في يونس معناه أعجبوا من هذا الأمر المحقق وهو
أن الشأن كذا، وأما في نوح فكلام ابتدائي، وجعلهم فائدة القول
أن لا يقع الطلبي خبرا من ضيق العطن فذلك في ضمير الشأن غير
مسلم لأنه متحد بما بعده وهو كما تقول: كلامي اضرب زيدا انتهى.
وقرئ لينذروا والإنذار الإعلام كما قيل خلا أنه مختص بإعلام
المحذور أي اعلموا أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فالضمير
للشأن وهو من خلاف مقتضى الظاهر، وفائدة تصدير الجملة به
الإيذان من أول الأمر بفخامة مضمونها مع ما في ذلك من زيادة
تقرير في الذهن، وأَنْ وما بعدها في موضع المفعول الثاني-
لأنذروا- دون تقدير جار فيه والمفعول الأول محذوف. والمراد
العموم أي أعلموا الناس أن الشأن الخطير هذا، ووجه انباء
مضمونه عن المحذور بأنه ليس لذاته بل من حيث اتصاف المنذرين
بما يضاده من الإشراك، ولا يشترط تحقق المحذور كالاتصاف
المذكور بالفعل في تحقق ماهية الإنذار، وإن أبيت إلا الاشتراط
فتحقق الاتصاف في بعض أفراد المنذرين لا سيما الأكثر بالفعل
كاف.
(7/338)
وقال الراغب: الإنذار إخبار فيه تخويف كما
أن التبشير إخبار فيه سرور وهو قريب مما تقدم، ومحصله على
العبارتين التخويف، ومن هنا جوز بعضهم تفسيره بذلك وقدر
المفعول الأول خاصا وأَنْ وما بعدها في موضع المفعول الثاني
بتقدير الجار أي خوفوا أهل الكفر والمعاصي بأن الشأن الخطير
هذا، وذلك كما جوز تفسيره بالإعلام، وجعل المفعول الأول عاما
ولم يقدر جارا في الثاني، وذكر أن ذلك أصل معناه وأن تخصيصه
بإعلام المحذور طارئ فإن أريد ذلك الأصل كان تعلقه بما بعده
ظاهرا غاية الظهور، وإن أريد غيره احتاج إلى التوجيه، وقد
علمته فيما إذا كان المفعول الأول عاما، والأمر فيما إذا كان
خاصا بعد ذلك أظهر من أن يذكر.
وذكر بعض الفضلاء أن الثابت في اللغة أن نذر بالشيء كفرح به
فحذره وأنذره إذا أعلمه بما يحذره وليس فيها مجيئه بمعنى
التخويف فأصله الإعلام مع التخويف فاستعملوه بكل من جزئي
معنييه الإعلام والتخويف انتهى وفيه غفلة عما أشرنا إليه،
وكأنه لهذا قيل: إنه لم يأت بشيء يعتد به فَاتَّقُونِ جعله أبو
السعود خطابا للمستعجلين على طريقة الالتفات والفاء فصيحة أي
إذا كان الأمر كما ذكر من جريان عادته تعالى بتنزيل الملائكة
على من يشاء تنزيلهم عليه من عباده وأمر المنزل عليهم بأن
ينذروا الناس بأنه تعالى لا شريك له في الألوهية فاتقون في
الإخلال بمضمونه ومباشرة ما ينافيه وفروعه التي من جملتها
الاستعجال والاستهزاء انتهى.
وهو على ما يقتضيه الظاهر مبني على ما مال إليه من اختصاص
الخطاب السابق بكفرة، وجعل بعضهم هذا الخطاب رجوعا أيضا إلى
خطاب قريش لكنه متفرع على التوحيد، ووجه تفرعه عليه أنه سبحانه
وتعالى إذا كان واحدا لم يتصور تخليص أحد لأحد من عذابه إذا
أراد ذلك ولم يجوز جعله من جملة الموحى به على معنى أعلموهم
قولي أن الشأن لا إله إلا أنا فاتقون أو خوفوهم بذلك معللا
بأنه لو كان ذلك لقيل- إن- بالكسر لا بالفتح.
وتعقب بمنع اللزوم فإن أن ليست بعد قول صريح أو مقدر وإنما
ذكروا ذلك في بيان المعنى لتصويره، واختير أنه إذا كان الإنذار
بمعنى التخويف فالظاهر دخول هذا الأمر في المنذر به لأنه هو
المنذر به في الحقيقة وهو المقصود بالذكر، وإذا كان بمعنى
الإعلام فالمقصود بالإعلام هو الجملة الأولى وهو متفرع عليها
على طريق الالتفات، ولا يخلو عن مناقشة فتأمل، والذي يميل إليه
القلب أن المجموع داخل في حيز الإنذار وهو مشتمل على التوحيد
الذي هو منتهى كمال القوة العلمية والأمر بالتقوى التي هي أقصى
كمال القوة العملية فإن النفوس البشرية لها نسبة إلى عالم
الغيب تستعد بها لقبول الصور والتحلي بالمعارف والإدراكات من
ذلك العالم، ونسبة إلى عالم الشهادة تستعد بها لأن تتصرف في
أجسام هذا العالم ويسمى استعدادها الحاصل لها باعتبار النسبة
الأولى قوة نظرية واستعدادها باعتبار النسبة الثانية قوة
عملية، وأشرف كمالات القوة النظرية معرفة أن لا إله إلا الله
تعالى، وأشرف كمالات القوة العملية الإتيان بالأعمال الصالحة
الواقية عن خزي يوم القيامة.
وقدم قوله تعالى: لا إِلهَ إِلَّا أَنَا على قوله سبحانه:
فَاتَّقُونِ للإشارة إلى أن ما يستند إلى القوة النظرية أعلى
كمالا مما يستند إلى القوة العملية، والكمال الإنساني باعتبار
هاتين القوتين يسمى كمالا نفسانيا، وله كمالات أخر هي كمالاته
البدنية وقواه الحيوانية، وقد فصل ذلك في موضعه. ثم إنه تعالى
شرع في تحرير الدلائل العقلية الدالة على توحيده الذي هو
المقصد الأعظم من بعثة الرسل عليهم السلام فقال عز قائلا:
خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ.
وذكر بعض المحققين أنه تعالى شأنه وعظم برهانه قد استوفى أدلة
التوحيد واتصاف ذاته الكريمة بصفات الجلال والإكرام على أسلوب
بديع جمع فيه بين دلالة المصنوع على الصانع والنعمة على المنعم
ونبه على أن كل
(7/339)
واحد يكفي صارفا للمشركين عما هم فيه من
الشرك وعليه مدار السورة الكريمة كلما بصرهم طائفة من البصائر
ضمنها تبكيتهم وكفرانهم نعمتي الرعاية والهداية، وانظر إلى
فاتحته ثم إلى خاتمته في قوله سبحانه: وَاصْبِرْ [النحل: 127]
إلى آخر السورة بين لك بعض ما ضمن الكتاب الكريم من أسرار
البلاغة وأنوار الإعجاز والمراد بالسماوات والأرض إما هذه
الأجرام والأجسام المعلومة، وإما جهة العلو والسفل أي أوجد ذلك
ملتبسا بما يحق له بمقتضى الحكمة فيدل على صانع حي عالم قادر
مريد منفرد بالألوهية والربوبية والإلزام إمكان التمانع
المستلزم لإمكان المحال حسبما بين في علم الكلام ولذا عقب هذا
بقوله تعالى: تَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ.
وقرأ الأعمش «فتعالى» بالفاء، وما يحتمل أن تكون مصدرية أي
تعالى وتقدس بذاته وأفعاله عن إشراكهم، وأن تكون موصولة على
معنى تعالى عن شركة ما يشركونه من الباطل الذي لا يبدئ ولا
يعيد، واستدل بالآية على أنه تعالى ليس من قبيل الأجرام
والأجسام كما يقوله المجسمة، ووجه ذلك أنها تدل على احتياج
الأجرام والأجسام إلى خالق سبحانه وتعالى لا يجانسها وإلا
لاحتاج إليه فلا يكون خالقا، وبإرادة الجهتين يكون وجه الدلالة
من الآية أظهر، وقرأ الكسائي «تشركون» بالتاء.
خَلَقَ الْإِنْسانَ أي هذا النوع غير الفرد الأول منه مِنْ
نُطْفَةٍ أصلها الماء الصافي ويعبر بها عن ماء الرجل أي أوجده
من جماد لا حس له ولا حراك سيال لا يحفظ شكلا ولا وضعا فَإِذا
هُوَ بعد الخلق من ذلك خَصِيمٌ منطيق مجادل عن نفسه مكافح
للخصوم، وهو صيغة مبالغة، وقال الواحدي: بمعنى مخاصم، وفعيل
بمعنى مفاعل معروف عندهم كالنسيب بمعنى المناسب والخليط بمعنى
المخالط والعشير بمعنى المعاشر.
مُبِينٌ مظهر للحجة لقن بها وقيل: المعنى أوجده من ذلك فإذا هو
خصيم لخالقه سبحانه منكر لعظيم قدرته قائل: مَنْ يُحْيِ
الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ [يس: 78] والأول أنسب بمقام الامتنان
بإعطاء القدرة على الاستدلال بذلك على قدرته جل جلاله ووحدته،
وبين الإمام وجه الاستدلال فقال بعد أن زعم أن الإنسان في
الشرف بعد الأفلاك والكواكب وأشار إلى أنه لذلك عقب الاستدلال
بخلق تلك بالاستدلال بخلقه: اعلم أن الإنسان مركب من نفس وبدن،
وصدر الآية إشارة إلى الاستدلال ببدنه على وجود الصانع الحكيم
وعجزها إشارة إلى الاستدلال بأحواله، وتقرير الأول أن يقال: إن
النطفة إما أن تكون متشابهة الأجزاء أو مختلفتها فإن كان الأول
لم يجز أن يكون المقتضي لتولد هذا البدن منها هو الطبيعة
الحاصلة في جوهرها لأن تأثير الطبيعة بالذات والإيجاب فمتى
عملت في مادة متشابهة الأجزاء وجب أن يكون عملها الكرية وحيث
لم يكن الأمر فيما نحن فيه كذلك لظهور أن الأبدان ليست كرية
علمنا أن المقتضي لها هو الفاعل الحكيم المختار، وإن كان
الثاني قلنا: إنه يجب أن ينتهي تحليل تركيبها إلى أجزاء يكون
كل واحد منها في نفسه جسما بسيطا وحينئذ لو كان المدبر لها قوة
طبيعية لوجب أن يكون كل من تلك البسائط كرىّ الشكل فكان يلزم
أن يكون الإنسان على شكل كرات مضمومة بعضها إلى بعض وحيث لم
يكن لذلك علمنا أن المقتضي هو الفاعل المختار أيضا جل شأنه
وأيضا أن النطفة رطبة سريعة الاستحالة فلا تحفظ الوضع فالجزء
الذي هو مادة الدماغ يمكن حصوله في السفل والجزء الذي هو مادة
القلب يمكن حصوله في الفوق فحيث كان الإنسان على هذا الترتيب
المعين دائما مع إمكان غيره علمنا أن حدوثه على ذلك الترتيب
ليس إلا بتدبير الفاعل المختار الحكيم.
ولا يصح أن يقال: إن ذلك من تأثير النجوم والأوضاع الفلكية لأن
تأثيراتها متشابهة على أنه قد بين بطلان كونها مؤثرة بغير ذلك
في موضعه. وتقرير الثاني أن النفوس الإنسانية في أول الفطرة
أقل فهما وذكاء وفطنة من نفوس سائر الحيوانات فإن فرخ الدجاجة
حين خروجه من قشر البيضة يميز بين العدو والصديق فيهرب من
الهرة ويلتجئ إلى
(7/340)
الأم ويميز بين الغذاء الذي يوافقه والذي
لا يوافقه وأما ولد الإنسان فإنه حين انفصاله من بطن أمه لا
يميز بين العدو والصديق ولا بين الضار والنافع ثم إنه بعد كبره
يقوى عقله ويعظم فهمه ويصير بحيث يقوى على معرفة الله تعالى
وعلى معرفة أصناف المخلوقات العلوية والسفلية والاطلاع على
كثير من أحوالها الدقيقة وعلى الخصومات والمباحثات فانتقال
نفسه من تلك البلادة المفرطة إلى هذه الكياسة المفرطة لا بد
وأن يكون بتدبير إله مختار حكيم ينقلها من نقصانها إلى كمالها
ومن جهالتها إلى معرفتها بحسب الحكمة والاختيار، والثاني قيل:
أنسب بمقام تعداد هنات الكفرة فإنه قد اشتمل من بيان جراءة من
كفر على الله تعالى وعدم استحيائه منه سبحانه ووقاحته بتماديه
في الكفر.
وذكر بعضهم أنه يؤيد هذا الوجه قوله تعالى في سورة يس بعد ما
ذكر مثله: قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ فإنه نص
فيما ذكر فيكون صدر الآية للاستدلال وعجزها لتقرير الوقاحة،
وتعقب بأنه ليس بشيء لأن مدار ما قبلها في تلك السورة على ذكر
الحشر والنشر ومكابرتهم فيه بخلاف هذه ولكل مقام مقال، وأما
كون الآية مسوقة لتقرير وقاحة الإنسان لانتفاء التنافي بين
الاستدلال على الوحدانية والقدرة وتقرير وقاحة المنكرين ولذا
جعل التتميم لما قبله تَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ فعدم المنافي
لا يقتضي وجود المناسب، وعندي لكل وجهة.
وفي الكشف المعنيان ملائمان للمقام إلا أن في الثاني زيادة
ملائمة مع قوله: تَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ ثم إنه أدمج فيه
المعنى الأول،
وروى الواحدي أن أبي بن خلف أتى النبي صلى الله عليه وسلم بعظم
رميم وقال: يا محمد أترى أن الله تعالى يحيي هذا بعد ما قد رم
فنزلت نظير ما في آخر يس،
والمشهور أن تلك هي النازلة في تلك القصة، ثم وجه التعقيب وإذا
الفجائية في قوله سبحانه: فَإِذا هُوَ إلى آخره مع أن كونه
خصيما مبينا بأي معنى أريد لم يعقب خلقه من نطفة إذ بينهما
وسائط أنه بيان لأطواره إلى كمال عقله فالتعقيب باعتبار آخرها
فلا وجه لتقدير الوسائط ولا للقول بأنه من باب التعبير عن حال
الشيء بما يؤول إليه فافهم. وَالْأَنْعامَ وهي الأزواج
الثمانية من الإبل، والبقر، والضأن، والمعز، قال الراغب: ولا
يقال أنعام إلا إذا كان فيها إبل، وخصها بعضهم هنا بذلك وليس
بشيء، والنصب على المفعولية لفعل مضمر يفسره قوله تعالى:
خَلَقَها وهو أرجح من الرفع في مثل هذا الموضع لتقدم الفعلية
وقرئ به في الشواذ أو على العطف على الإنسان وما بعد بيان ما
خلق لأجله والذي بعده تفصيل لذلك، وقوله سبحانه:
لَكُمْ إما متعلق- بخلقها- وقوله تعالى: فِيها خبر مقدم وقوله
جل وعلا: دِفْءٌ مبتدأ مؤخر والجملة حال من المفعول أو الجار
والمجرور الأول خبر للمبتدأ المذكور والثاني متعلق بما فيه من
معنى الاستقرار، وقيل: حال من الضمير المستكن فيه العائد على
المبتدأ، وقيل: حال من «دفء» إذ لو تأخر لكان صفة، وجوز أبو
البقاء أن يكون الثاني هو الخبر والأول في موضع الحال من
مبتدئه، وتعقبه أبو حيان بأن هذا لا يجوز لأن الحال إذا كان
العامل فيها معنى لا يجوز تقديمها على الجملة بأسرها فلا يجوز
قائما في الدار زيد فإن تأخرت الحال عن الجملة جازت بلا خلاف
وإن توسطت فالأخفش على الجواز والجمهور على المنع، وجوز أبو
البقاء أيضا أن يرتفع دِفْءٌ- بلكم- أو- بفيها- والجملة كلها
حال من الضمير المنصوب، وتعقبه أبو حيان أيضا بأن ذلك لا يعد
من قبيل الجملة بل هو من قبيل المفرد، ونقل أنهم جوزوا أن يكون
لَكُمْ متعلقا- بخلقها- وجملة فيها دِفْءٌ استئناف لذكر منافع
الانعام، واستظهر كون جملة لَكُمْ فِيها دِفْءٌ مستأنفة، ثم
قال: ويؤيد الاستئناف فيها الاستئناف في مقابلتها أعني قوله
تعالى: وَلَكُمْ فِيها جَمالٌ فقابل سبحانه المنفعة الضرورية
بالمنفعة الغير الضرورية، وإلى نحو ذلك ذهب القطب فاختار أن
الكلام قد تم عند خَلَقَها لهذا العطف وخالفه في ذلك صاحب
الكشف فقال: إن قوله تعالى:
(7/341)
خَلَقَها لَكُمْ بناء على تفسير الزمخشري
له بقوله: ما خلقها إلا لكم ولمصالحكم يا جنس الإنسان طرف من
ترشيح المعنى الثاني في قوله سبحانه: فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ
مُبِينٌ لما في الالتفات المشار إليه من الدلالة عليه، وأما
الحصر المشار إليه بقوله: ما خلقها إلا لكم فمن اللام المفيدة
للاختصاص سيما وقد نوع الخطاب بما يفيد زيادة التمييز
والاختصاص، وهذا أولى من جعل لَكُمْ فِيها دِفْءٌ مقابل لَكُمْ
فِيها جَمالٌ لإفادته المعنى الثاني وأبلغ على أنه يكون فِيها
دِفْءٌ تفصيلا للأول وكرر لَكُمْ في الثاني لبعد العهد وزيادة
التقريع اه، والحق في دعوى أولوية تعلق لَكُمْ بما قبله معه
كما لا يخفى، والدفء اسم لما يدفأ به أي يسخن، وتقول العرب:
دفئ يومنا فهو دفيء إذا حصلت فيه سخونة ودفئ الرجل دفاء ودفاء
بالفتح والكسر ورجل دفآن وامرأة دفأى ويجمع الدفء على ادفاء،
والمراد به ما يعم اللباس والبيت الذي يتخذ من أوبارها
وأصوافها، وفسره ابن عباس فيما أخرجه عنه ابن جرير وغيره
بالثياب.
وأخرج عبد الرزاق وغيره عنه رضي الله تعالى عنه أيضا أنه نسل
كل دابة، ونقله الأموي عن لغة بعض العرب والظاهر هو الأول.
وقرأ الزهري وأبو جعفر «دفّ» بضم الفاء وشدها وتنوينها، ووجه
ذلك في البحر بأنه نقل الحركة من الهمزة إلى الفاء وحذفت ثم
شدد الفاء إجراء للوصول مجرى الوقف إذ يجوز تشديدها في الوقف.
وقرأ زيد بن علي رضي الله تعالى عنهما «دف» بنقل الحركة والحذف
دون تشديد، وفي اللوامح قرأ الزهري «دف» بضم الفاء من غير همزة
وهي محركة بحركتها، ومنهم من يعوض عن هذه الهمزة فيشدد الفاء
وهو أحد وجهي حمزة بن حبيب وقفا. واعترض بأن التشديد وقفا لغة
مستقلة وإن لم يكن ثمة حذف من الكلمة الموقوف عليها ودفع بأنه
إنما يكون ذلك إذا وقف على آخر حرف منها أما إذا وقف على ما
قبل الآخر منها كقاض فلا.
وَمَنافِعُ هي درها وركوبها والحراثة بها والنضح عليها وغير
ذلك، وإنما عبر عنها بها ليشمل الكل مع أنه الأنسب بمقام
الامتنان بالنعم، وقدم الدفء رعاية لأسلوب الترقي إلى الأعلى
وَمِنْها تَأْكُلُونَ أي تأكلون ما يؤكل منها من اللحوم
والشحوم ونحو ذلك- فمن- تبعيضية، والأكل إما على معناه
المتبادر وإما بمعنى التناول الشامل للشرب فيدخل في العد
الألبان، وجوز أن تكون من ابتدائية وأن تكون للتبعيض مجازا أو
سببية أي تأكلون ما يحصل بسببها فإن الحبوب والثمار المأكولة
تكتسب باكتراء الإبل مثلا وأثمان نتاجها وألبانها وجلودها
والأول أظهر وأدخل ما يحصل من اكترائها من الإجارة التي يتوصل
بها إلى مصالح كثيرة في المنافع، وتغيير النظم الجليل قيل
للإيماء إلى أنها لا تبقى عند الأكل كما في السابق واللاحق فإن
الدفء والمنافع التي أشرنا إليها والجمال يحصل منها وهي باقية
على حالها ولذلك جعلت محال لها بخلاف الأكل، وتقديم الظرف
للحصر على معنى أن الأكل منها هو المعتاد المعتمد في المعاش من
بين سائر الحيوانات فلا يرد الأكل من الدجاج والبط وصيد البر
والبحر فإنه من قبيل التفكه، وكذا لا يرد أكل لحم الخيل عند من
أباحه لأنه ليس من المعتاد المعتمد أيضا، والحاصل أن الحصر
إضافي وبذلك لا يرد أيضا أكل الخبز والبقول ونحوها، ويضم إلى
هذا الوجه في التقديم رعاية الفواصل، وجعله لمجرد ذلك كما في
الكشف قصور، وأبو حيان ينكر كون التقديم مطلقا للحصر فينحصر
وجهه هنا حينئذ في الرعاية المذكورة.
وَلَكُمْ فِيها مع ما ذكر من المنافع الضرورية جَمالٌ زينة في
أعين الناس وعظمة ووجاهة عندهم، والمشهور إطلاقه على الحسن
الكثير، ويكون في الصورة بحسن التركيب وتناسق الأعضاء
وتناسبها، وفي الأخلاق باشتمالها على الصفات المحمودة وفي
الأفعال بكونها ملائمة للمصلحة من درء المضرة وجلب المنفعة وهو
في
(7/342)
الأصل مصدر- جمل- بضم الميم ويقال للرجل
جميل وجمال وجمال على التكثير وللمرأة جميلة وجملاء عند
الكسائي وأنشد:
فهي جملاء كبدر طالع ... بذت الخلق جميعا بالجمال
ورأى بعضهم إطلاقه على التجمل فظن أنه مصدر بإسقاط الزوائد
حِينَ تُرِيحُونَ أي تردونها بالعشي من المرعى إلى مراحها
يقال: أراح الماشية إذا ردها إلى المراح وقتئذ وَحِينَ
تَسْرَحُونَ تخرجونها غدوة من حظائرها ومبيتها إلى مسارحها
ومراعيها يقال: سرحها يسرحها سرحا وسروحا وسرحت هي يتعدى ولا
يتعدى، والفعل الأول وكذا الثاني متعد والمفعول محذوف لرعاية
الفواصل، وتعيين الوقتين لأن ما يدور عليه أمر الجمال من تزين
الأفنية وتجاوب ثغائها ورغائها إنما هو عند الذهاب والمجيء في
ذينك الوقتين، وأما عند كونها في المسارح فتنقطع إضافتها
الحسية إلى أربابها، وعند كونها في الحظائر لا يراها راء ولا
ينظر إليها ناظر.
وتقديم الإراحة على السرح مع أنها متأخرة في الوجود عنه لكونها
أظهر منه في استتباع ما ذكر من الجمال وأتم في استجلاب الانس
والبهجة إذ فيها حضور بعد غيبة وإقبال بعد ادبار على أحسن ما
يكون ملأى البطون حافلة الضروع. وقرأ عكرمة والضحاك والجحدري
«حينا» فيهما بالتنوين وفك الإضافة على أن كلتا الجملتين صفة
لحينا قبلها والعائد محذوف كما في قوله تعالى: وَاتَّقُوا
يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ [البقرة: 48، 123] أي
حينا تريحون فيه وحينا تسرحون فيه، والعامل في حِينَ إما
المبتدأ لأنه بمعنى التجمل كما قيل وإما خبره لما فيه من معنى
الاستقرار.
وجوز أن يكون متعلقا بمحذوف وقع صفة لجمال وَتَحْمِلُ
أَثْقالَكُمْ أي أحمالكم الثقيلة جمع ثقل، وقيل أجسامكم كما
قيل في قوله تعالى: وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقالَها
[الزلزلة: 2] حيث فسرت الأثقال فيه بأجسام بني آدم.
إِلى بَلَدٍ روي عن ابن عباس أنه اليمن والشام ومصر وكأنه نظر
إلى أنها متاجر أهل مكة كما يؤذن به ما في تفسير الخازن عنه
رضي الله تعالى عنه من أنه قال: يريد من مكة إلى اليمن وإلى
الشام، وفي رواية أخرى عنه وعن الربيع بن أنس وعكرمة أنه مكة
وكأنهم نظروا إلى أن أثقالهم وأحمالهم عند القفول من متاجرهم
أكثر وحاجتهم إلى الحمولة أمس، والظاهر أنه عام لكل بلد سحيق
وإلى ذلك ذهب أبو حيان، وجعل ما ورد من التعيين كالمذكور
وكالذي نقله عن بعضهم من أنها مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم
محمولا على التمثيل لا على أن المراد ذلك المعين دون غيره لَمْ
تَكُونُوا بالِغِيهِ واصلين إليه بأنفسكم مجردين عن الأقفال
فضلا عن أن تحملوا على ظهوركم أثقالكم لو لم تكن الأنعام ولم
تخلق إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ أي مشقتها وتعبها، وقيل:
المعنى لم تكونوا بالغيه بها إلا بما ذكر وحذف بها لأن المسافر
لا بدله من الأثقال، والمراد التنبيه على بعد البلد وأنه مع
الاستعانة بها بحمل الأثقال لا تصلون إليه إلا بالمشقة، ولا
يخفى أن الأول أبلغ. وقرأ مجاهد والأعرج وأبو جعفر وعمرو بن
معين وابن أرقم «بشق» بفتح الشين وروي ذلك عن نافع وأبي عمرو
وكلا ذلك لغة، والمعنى ما تقدم، وقيل: الشق بالفتح المصدر
وبالكسر الاسم يعني المشقة وعلى الكسر بهذا المعنى جاء قوله:
وذي إبل يسعى ويحسبها له ... أخي نصب من شقها ودؤوب
فإنه أراد من مشقتها، وعن الفراء أن المفتوح مصدر من شق الأمر
عليه شقا وحقيقته راجعة إلى الشق الذي هو الصدع والمكسور النصف
يقال: أخذت شق الشاة أي نصفها،
وجاء «اتقوا النار ولو بشق تمرة»
والمعنى إلا بذهاب
(7/343)
نصف الأنفس كأن الأنفس تذوب تعبا ونصبا لما
ينالها من المشقة كما يقال لا تقدر على كذا إلا بذهاب جل نفسك
أو قطعة من كبدك وهو من المجاز، وجوز بعضهم أن يكون على تقدير
مضاف أي إلا بشق قوى الأنفس، والاستثناء مفرغ أي لم تكونوا
بالِغِيهِ بشيء من الأشياء إلا بشق الأنفس، وجعل أبو البقاء
الجار والمجرور في موضع الحال من الضمير المرفوع في بالغيه أي
مشقوقا عليكم وضمير تَحْمِلُ للأنعام إلا أن الحمل المذكور
باعتبار بعض أنواعها وهي الإبل ومثله كثير، ومن هنا يظهر ضعف
استدلال بعضهم بهذا الاسناد على أن المراد بالأنعام فيما مر
الإبل فقط، وتغيير النظم الكريم السابق الدال على كون الانعام
مدارا للنعم إلى الفعلية المفيدة للحدوث قيل لعله للإشعار بأن
هذه النعمة ليست في العموم بحسب المنشأ وبحسب المتعلق وفي
الشمول للأوقات والاطراد في الأحيان المعهودة بمثابة النعم
السالفة فإنها بحسب المنشأ خاصة كما سمعت بالإبل وبحسب المتعلق
بالمتقلبين في الأرض للتجارة وغيرها في أحايين غير مطردة، وأما
سائر النعم المعدودة فموجودة في جميع الأصناف وعامة لكافة
المخاطبين دائما وفي عامة الأوقات اه. واحتج كما قال الإمام
منكر وكرامات الأولياء بهذه الآية لأنها تدل على أن الإنسان لا
يمكنه الانتقال من بلد إلى آخر إلا بشق الأنفس وحمل الأثقال
على الجمال. ومثبتو الكرامات يقولون: إن الأولياء قد ينتقلون
من بلد إلى آخر بعيد في زمان قليل من غير تعب وتحمل مشقة فكان
ذلك على خلاف الآية فيكون باطلا وإذا بطلت في هذه الصورة بطلت
في الجميع إذ لا قائل بالفرق.
وأجاب بأنا نخصص عموم الآية بالأدلة الدالة على وقوع الكرامات
اه. ولعل القائلين بعدم ثبوت طي المسافة للأولياء يستندون إلى
هذه الآية لكن هؤلاء لا ينفون الكرامات مطلقا فلا يصح قوله إذ
لا قائل بالفرق، ومن أنصف علم أن الاستدلال بها على هذا المطلب
مما لا يكاد يلتفت إليه بناء على أنها مسوقة للامتنان ويكفي
فيه وجود هذا في أكثر الأحايين لأكثر الناس فافهم إِنَّ
رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ ولذلك أسبغ عليكم النعم الجليلة
ويسر لكم الأمور الشاقة العسيرة وَالْخَيْلَ هو كما قال غير
واحد اسم جنس للفرس لا واحد له من لفظه كالإبل، وذكر الراغب
أنه في الأصل يطل على الأفراس والفرسان، وهو عطف على الأنعام
أي وخلق الخيل وَالْبِغالَ جمع بغل معروف وَالْحَمِيرَ جمع
حمار كذلك ويجمع في القلة على أحمرة وفي الكثرة على حمر وهو
القياس، وقرأ ابن أبي عبلة برفع «الخيل» وما عطف عليه
لِتَرْكَبُوها تعليل لخلق المذكورات، والكلام في تعليل أفعال
الله تعالى مبسوط في الكلام وَزِينَةً عطف على محل
لِتَرْكَبُوها فهو مثله مفعول لأجله وتجريده عن اللام دونه لأن
الزينة فعل الزائن وهو الخالق تعالى ففاعل الفعلين المعلل
والمعلل به واحد بخلاف فاعل الركوب وفاعل المعلل به فشرط النصب
الذي اشترطه من اشتراطه موجود في المعطوف دون المعطوف عليه
قاله غير واحد، وذكر بعض المدققين أن في عدم مجيئها على سنن
واحد دلالة على أن المقصود الأصلي الأول فجيء بالحروف الموضوعة
لذلك وسيق لخطاب وأعيد الضمير للثلاثة في لِتَرْكَبُوها وجيء
بالثاني تتميما ودلالة على أنه لما كان من مقاصدهم عد في معرض
الامتنان وإلا فليس التزين بالعرض الزائل مما يقصده أهل الله
تعالى وهم أهل الخطاب بالقصد الأول واعترض ما تقدم بأنه وإن
ثبت اتحاد الفاعل لكن لم تتم به شروط صحة النصب لفقد شرط آخر
منها وهو المقارنة في الوجود فإن الخلق متقدم على الزينة.
وأجيب بأن ذلك على إرادة إرادة الزينة كما قيل في ضربت زيدا
تأديبا أن التأديب بتأويل إرادته، وجوز أبو البقاء كون زِينَةً
مصدرا لفعل محذوف أي ولتتزينوا بها زينة، وقال ابن عطية إنه
مفعول به لفعل محذوف أي وجعلها زينة، وروى قتادة عن ابن عباس
أنه قرأ «لتركبوها زينة» بغير واو، قال صاحب اللوامح إن
زِينَةً حينئذ نصب على الحال من الضمير في خَلَقَها أو من
الضمير في لِتَرْكَبُوها ولم يعين الضمير وعينه ابن عطية فقال
هو
(7/344)
المنصوب، وقال غير واحد تجوز الحالية من كل
من الضميرين أي لتركبوها متزينين أو متزينا بها، وقال الزمخشري
بعد حكاية القراءة: أي خلقها زينة لتركبوها، ومراده على ما قيل
أن الزينة إما ثاني مفعولي- خلق- على إجرائه مجرى جعل أو هو
حال عن المفعولات الثلاثة على الجمع، وجوز كونه مفعولا له
لِتَرْكَبُوها وهو بمعنى التزين فلا يرد عليه اختلاف فاعل
الفعلين قيل: وأما لزوم تخصيص الركوب المطلوب بكونه لأجل
الزينة وكون الحكمة في خلقها ذلك وكون ذلك هو المقصود الأصلي
لنا فلا ضير فيه لأن التجمل بالملابس والمراكب لا مانع منه
شرعا وهو لا ينافي أن يكون لخلقها حكم أهم كالجهاد عليها وسفر
الطاعات، وإنما خص لمناسبته لمقام الامتنان مع أن الزينة على
ما قال الراغب ما لا يشين في الدنيا ولا في الآخرة، وأما ما
يزين في حالة دون أخرى فهو من وجه شين اه فتأمل ولا تغفل.
واستدل بالآية على حرمة أكل لحوم المذكورات لأن السوق في معرض
الاستدلال بخلق هذه النعم منة على هذا النوع دلالة على التوحيد
وسوء صنيع من يقابلها بالإشراك والحكيم لا يمن بأدنى النعمتين
تاركا أعلاهما، كيف وقد ذكر أماما.
وروى ابن جرير وغيره القول بكراهة أكل لحوم الخيل لهذه الآية
عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، وروي عن أبي حنيفة عليه
الرحمة أنه قال: رخص بعض العلماء في لحم الخيل فأما أنا فلا
يعجبني أكله، وفي رواية أخرى أنه قال أكرهه والأولى تلوح إلى
قوله بكراهة التنزيه والثانية تدل على التحريم بناء على ما روي
عن أبي يوسف أنه سأله إذا قلت: في شيء أكرهه فما رأيك فيه؟
فقال: التحريم، وكأنه لهذا قال صاحب الهداية الأصح أن كراهة
أكل لحمها تحريمية عند الإمام، وفي العمادية أنه رضي الله
تعالى عنه رجع عن القول بالكراهة قبل موته بثلاثة أيام وعليه
الفتوى، وقال صاحباه والإمام الشافعي رضي الله تعالى عنهم: لا
بأس بأكل لحوم الخيل. وأجاب بعض الشافعية عن الاستدلال بالآية
بمنع كون المذكور أدنى النعمتين بالنسبة إلى الخيل قال: ذلك
لأن الآية وردت للامتنان عليهم على نحو ما ألفوه، ولا ينكر ذو
أرب أن معظم الغرض من الخيل الركوب والزينة لا الأكل بخلاف
النعم، وذكر أغلب المنفعتين وترك أدناهما ليس بدعا بل هو دأب
اختصارات القرآن وذكره في الأول إن لم يصر حجة لنا في الاكتفاء
مع التنبيه على أنه نزر في المقابل فلا يصير حجة علينا، فظهر
أنه لا استدلال لا من عبارة الآية ولا من إشارتها.
واستدلوا على الحل بما
صح من حديث جابر أنه صلى الله عليه وسلم نهى عن لحوم الحمر
الأهلية والبغال وأذن عليه الصلاة والسلام في لحم الخيل يوم
خيبر،
وفيه دليل عندهم على أن الآية لا تدل على التحريم لإفادته أن
تحريم لحوم الحمر الأهلية إنما وقع عام خيبر كما هو الثابت عند
أكثر المحدثين وهذه السورة مكية فلو علم التحريم مما فيها كان
ثابتا قبله، وبحث فيه بأن السورة وإن كانت مكية يجوز كون هذه
الآية مدنية، وفيه أن مثل ذلك يحتاج إلى الرواية ومجرد الجواز
لا يكفي، وعورض
حديث جابر بما أخرجه أبو عبيد وأبو داود والنسائي وابن المنذر
عن خالد بن الوليد قال: «نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن
أكل كل ذي ناب من السباع وعن لحوم الخيل والبغال والحمير»
والترجيح كما قال في الهداية للمحرم، لكن أنت تعلم أن هذا
الخبر يوهي أمر الاستدلال لما أن خالدا قد أسلم بالمدينة
والآية مكية فلو كان التحريم معلوما منها لما كان للنهي الذي
سمعه كثير فائدة، والجملة الاستدلال بالآية على حرمة لحوم
الخيل لا يسلم من العثار فلا بد من الرجوع في ذلك إلى الأخبار.
والحكم عند تعارضها لا يخفى على ذوي الاستبصار، والذي أميل
إليه الحل والله تعالى أعلم وَيَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ أي
ويخلق غير ذلك الذي فصله سبحانه لكم، والتعبير عنه بما ذكر لأن
مجموعه غير معلوم ولا يكاد يكون معلوما فالكلام إجمالا لما عدا
الحيوانات المحتاج غالبا احتياجا ضروريا أو غير ضروري، والعدول
إلى صيغة الاستقبال للدلالة على الاستمرار والتجدد أو لاستحضار
الصورة، ويجوز أن يكون
(7/345)
إخبارا منه تعالى بأن له سبحانه ما لا علم
لنا به من الخلائق ف ما لا تَعْلَمُونَ على ظاهره
فقد أخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال: «قال رسول الله صلى الله
عليه وسلم إن مما خلق الله تعالى لأرضا لؤلؤة بيضاء مسيرة ألف
عام عليها جبل من ياقوتة حمراء محدق بها في تلك الأرض ملك قد
ملأ شرقها وغربها له ستمائة رأس في كل رأس ستمائة وجه في كل
وجه ستمائة ألف وستون ألف فم في كل فم ستون ألف لسان يثني على
الله تعالى ويقدسه ويهلله ويكبره بكل لسان ستمائة ألف وستين
ألف مرة فإذا كان يوم القيامة نظر إلى عظمة الله تعالى فيقول:
وعزتك ما عبدتك حق عبادتك فذلك قوله تعالى: وَيَخْلُقُ ما لا
تَعْلَمُونَ وفي رواية أخرى عنه أن عن يمين العرش نهرا من نور
مثل السموات السبع والأرضين السبع والبحار السبع يدخل فيه
جبريل عليه السلام كل سحر فيغتسل فيزداد جمالا إلى جماله وعظما
إلى عظمه ثم ينتفض فيخلق الله تعالى من كل قطرة تقع من ريشه
كذا وكذا ألف ملك فدخل منهم كل يوم سبعون ألف ملك البيت
المعمور وسبعون ألف ملك الكعبة لا يعودون إلى يوم القيامة.
وروي هذا أيضا عن الضحاك ومقاتل وعطاء،
ومما لا نعلمه أرض السمسمة التي ذكر عنها الشيخ الأكبر قدس سره
ما ذكر، وجابرصا وجابلقا حسبما ذكر غير واحد، وإن زعمت ذلك من
الخرافات كالذي ذكره عصرينا رئيس الطائفة الذين سموا أنفسهم
بالكشفية ودعاهم أعداؤهم من الإمامية بالكشفية في غالب كتبه
مما تضحك منه لعمر أبيك الثكلى ويتمنى العالم عند سماعه لمزيد
حيائه من الجهلة نزوله إلى الأرض السفلى فاقنع بما جاء في
الآثار، ولا يثنينك عنه شبه الفلاسفة إذا صح سنده فإنها كسراب
بقيعة، والذي أظنه أنه ليس أحد من الكفار فضلا عن المؤمنين يشك
في أن لله تعالى خلقا لا نعلمهم ليحتاج إلى إيراد الشواهد على
ذلك، ويجوز أن يكون المراد بهذا الخلق الخلق في الجنة أي ويخلق
في الجنة غير ما ذكر من النعم الدنيوية ما لا تعلمون أي ما ليس
من شأنكم أن تعلموه، وهو ما أشير إليه
بقوله صلى الله عليه وسلم حكاية عن الله تعالى: «أعددت لعبادي
الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر» .
وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ القصد مصدر بمعنى الفاعل،
يقال: سبيل قصد وقاصد أي مستقيم كأنه يقصد الوجه الذي يؤمه
السالك ولا يعدل عنه، فهو نحو نهر جار وطريق سائر وعَلَى
للوجوب مجازا والكلام على حذف مضاف أي متحتم عليه تعالى متعين
كالأمر الواجب لسبق الوعد بيان، وقيل: هداية الطريق المستقيم
الموصل لمن سلكه إلى الحق هو التوحيد بنصب الأدلة وإرسال الرسل
عليهم السلام وإنزال الكتب لدعوة الناس إليه، أو هو مصدر بمعنى
الإقامة والتعديل وعَلَى على حالها المار إلا أنه لا حاجة إلى
تقدير المضاف أي عليه سبحانه تقويم السبيل وتعديلها أي جعلها
بحيث يصل سالكها إلى الحق على حد صغر البعوضة وكبر الفيل
وحقيقته راجعة إلى ما ذكر من نصب الأدلة وإرسال الرسل عليهم
السلام وإنزال الكتب.
وجوز أن يكون القصد بمعنى القاصد أي المستقيم كما في التفسير
الأول وعَلَى ليست للوجوب واللزوم والمعنى أن قصد للسبيل
ومستقيمه موصل إليه تعالى ومار عليه سبحانه، وفيه تشبيه ما يدل
على الله عز وجل بطريق مستقيم شأنه ذلك، وقد ذكر نحو هذا ابن
عطية وهو كما ترى، وأل في السبيل للجنس عند كثير فهو شامل
للمستقيم وغير، وإضافة القصد بمعنى المستقيم إليه من إضافة
العام إلى الخاص، وإضافة الصفة إلى الموصوف خلاف الظاهر على ما
قيل وقيل: أل للعهد. والمراد سبيل الشرع وقوله تعالى: وَمِنْها
جائِرٌ أي عادل عن المحجة منحرف عن الحق لا يوصل سالكه إليه
ظاهر في إرادة الجنس إذ البعضية إنما تتأتى على ذلك، فإن
الجائر على إرادة العهد ليس من
(7/346)
ذلك بل قسيمه، ومن أراده أعاد الضمير على
المطلق الذي في ضمن ذلك المقيد أو على المذكور بتقدير مضاف أي
ومن جنسها جائر، وقال ابن عطية: يحتمل أن يعود على سبيل الشرع،
والمراد بهذا البعض فرق الضلالة من أمة محمد صلى الله عليه
وسلم وهو جائر عن قصد السبيل وزعم بعضهم أن الضمير يعود على
الخلائق أي ومن الخلائق جائر عن الحق، وأيد بقراءة عيسى، ورويت
عن ابن مسعود «ومنكم» وأخرجها ابن الأنباري في المصاحف عن علي
كرم الله تعالى وجهه لكن بالفاء بدل الواو وليس بذاك، والتأنيث
لأن السبيل تؤنث وتذكر، والجار والمجرور قيل خبر مقدم وجائِرٌ
مبتدأ مؤخر، وقيل: هو في محل رفع بالابتداء إما باعتبار مضمونه
وإما بتقدير الموصوف أي بعض السبيل أو بعض من السبيل جائر،
والجملة على ما اختاره بعض المحققين اعتراضية جيء بها لبيان
الحاجة إلى البيان أو التعديل بنصب الأدلة والإرسال والانزال
الأمور المذكورة سابقا وإظهار جلالة قدر النعمة في ذلك، وذلك
هو الهداية المفسرة بالدلالة على ما يوصل إلى المطلوب لا
الهداية المستلزمة للاهتداء إليه فإن ذلك ليس على الله سبحانه
أصلا بل هو مخل بحكمته كما يشير إليه قوله تعالى: وَلَوْ شاءَ
لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ فإن معناه ولو شاء هدايتكم إلى ما ذكر
من التوحيد هداية مستلزمة للاهتداء إليه لفعل ولكن لم يشأ لأن
مشيئته تابعة للحكمة ولا حكمة في تلك المشيئة لما أن الذي يدور
عليه فلك التكليف إنما هو الاختيار الذي عليه ترتب الأعمال
التي بها يرتبط الجزاء، وقيد أَجْمَعِينَ للمنفي لا للنفي
فيكون المراد سلب العموم لا عموم السلب، وذكر بعضهم أنه كان
الظاهر أن يقال: وعلى الله قصد السبيل وجائرها أو وعليه جائرها
إلا أنه عدل عنه إلى ما في النظم الكريم لأن الضلال لا يضاف
إليه تعالى تأدبا فهو كقوله تعالى: الَّذِينَ أَنْعَمْتَ
عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ [الفاتحة: 7] .
وزعم الزمخشري أن المخالفة بين أسلوبي الجملتين للإيذان بما
يجوز إضافته من السبيلين إليه تعالى وما لا يجوز وعنى الإشارة
إلى ما ذهب إليه إخوانه المعتزلة من عدم جواز إضافة الضلال
إليه سبحانه لأنه غير خالقه وجعلوا الآية للمخالفة حجة لهم في
هذه المخالفة. وأجاب بعض الجماعة بأن المراد على الله تعالى
بحسب الفضل والكرم بيان الدين الحق والمذهب الصحيح فأما بيان
كيفية الإغواء والإضلال فليس عليه سبحانه، وبحث فيه بأنه كما
أن بيان الهداية وطريقها متحتم فكذا ضده وليس إرسال الرسل
عليهم السلام وإنزال الكتب إلا لذلك.
وقال ابن المنير: إن المخالفة بين الأسلوبين لأن سياق الكلام
لإقامة الحجة على الخلق بأنه تعالى بين السبيل القاصد والجائر
وهدى قوما اختاروا الهدى وأضل آخرين اختاروا الضلالة، وقد حقق
أن كل فعل صدر على يد العبد فله اعتباران هو من حيث كونه
موجودا مخلوق لله تعالى ومضاف إليه سبحانه بهذا الاعتبار، وهو
من حيث كونه مقترنا باختيار العبد له وتيسره عليه يضاف إلى
العبد وأن تعدد هذين الاعتبارين ثابت في كل فعل فناسب إقامة
الحجة على العباد إضافة الهداية إلى الله تعالى باعتبار خلقه
لها وإضافة الضلال إلى العبد باعتبار اختياره له. والحاصل أنه
ذكر في كل واحد من الفعلين نسبة غير النسبة المذكورة في الآخر
ليناسب ذلك إقامة الحجة ألا لله الحجة البالغة، وأنكر بعض
المحققين أن يكون هناك تغيير الأسلوب لأمر مطلوب بناء على أن
ذلك إنما يكون فيما اقتضى الظاهر سبكا معينا ولكن يعدل عن ذلك
لنكتة أهم منه، وليس المراد من بيان قصد السبيل مجرد إعلام أنه
مستقيم حتى يصح إسناد أنه جائر إليه تعالى فيحتاج إلى الاعتذار
عن عدم ذلك على أنه لو أريد ذلك لم يوجد لتغيير الأسلوب نكتة،
وقد بين ذلك في مواضع غير معدودة بل المراد نصب الأدلة للهداية
إليه ولا إمكان لإسناد مثله إليه تعالى بالنسبة إلى الطريق
الجائر بأن يقال: وجائرها حتى يصرف ذلك الإسناد منه تعالى إلى
غيره سبحانه لنكتة ولا يتوهمه متوهم حتى يقتضي الحال دفع ذلك
بأن يقال لا جائرها ثم يغير سبك النظم عنه لداعية أقوى منه،
وذكر أن الجملة اعتراضية حسبما نقلناه سابقا، وهو
(7/347)
كلام يلوح عليه مخايل التحقيق، بيد أن
لقائل أن يقول: لم لا يجوز أن يراد ببيان السبيل المستقيم
وببيان السبيل الجائر نصب الأدلة الدالة على حقية الأول ليهتدي
إليه وبطلان الثاني ليحذر ولا يعول عليه وهذا غير مجرد الإعلام
الذي ذكره ونسبته إليه تعالى ممكنة بل قال بعضهم: إن الحق أن
المعنى على الله تعالى بيان طريق الهداية ليهتدوا إليه وبيان
غيرها ليحذروه لكن اكتفى بأحدهما للزوم الآخر له.
وفي الكشف أن تغاير الأسلوبين على أصل أهل السنة واضح أيضا إذ
لا منكر أن الأول هو المقصود لذاته فبيان طريق الضلالة إجمالا
قدر ما يمتاز قصد السبيل منه في ضمن بيان قصد السبيل ضرورة
وبيانه التفصيلي ليس مما لا بد من وقوعه ولا أن الوعد جرى به
على مذهب اه فليتأمل، ثم إن الآية منادية على خلاف ما زعمه
المعتزلة ومنهم الزجاج (1) من عدم استلزام تعلق مشيئته تعالى
بشيء وجوده وقد التجئوا إلى التزام تفسيرها بالقسرية، وقال أبو
علي منهم: المعنى لو شاء لهداكم إلى الثواب أو إلى الجنة بغير
استحقاق وكل ذلك خلاف الظاهر كما لا يخفى.
هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً شروع في نوع آخر من
النعم الدالة على توحيده سبحانه، والمراد من الماء نوع منه وهو
المطر، ومن السماء إما السحاب على سبيل الاستعارة أو المجاز
المرسل، وإما الجرم المعروف والكلام على حذف مضاف أي من جانب
السماء أو جهتها وحملها على ذلك بدون هذا يقتضيه ظاهر بعض
الأخبار ولا أقول به، ومِنَ على كل تقدير ابتدائية وهو متعلق
بما عنده، وتأخير المفعول الصريح عنه ليظمأ الذهن إليه فيتمكن
أتم تمكن عند وروده عليه، وقوله تعالى: لَكُمْ يحتمل أن يكون
خبرا مقدما، وقوله سبحانه: مِنْهُ في موضع الحال من قوله عز
وجل: شَرابٌ أي ما تشربون وهو مبتدأ مؤخر أو هو فاعل بالظرف
الأول والجملة صفة لماء ومِنَ تبعيضية وليس في تقديمها إيهام
حصر، ومن توهمه قال: لا بأس به لأن جميع المياه العذبة
المشروبة بحسب الأصل منه كما ينبئ عنه قوله تعالى: فَسَلَكَهُ
يَنابِيعَ فِي الْأَرْضِ [الزمر: 21] وقوله سبحانه:
فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ [المؤمنون: 18] ويحتمل أن يكون
متعلقا بما عنده ومِنْهُ شَرابٌ مبتدأ وخبر أو شراب فاعل
بالظرف والجملة ومن كما تقدم.
وتعقب بأن توسيط المنصوب بين المجرورين وتوسيط الثاني منهما
بين الماء وصفته مما لا يليق بجزالة النظم الجليل وهو كذلك
وَمِنْهُ شَجَرٌ أي نبات مطلقا سواء كان له ساق أم لا كما نقل
عن الزجاج وهو حقيقة في الأول، ومن استعماله في الثاني قول
الراجز:
نعلفها اللحم إذا عز الشجر ... والخيل في إطعامها اللحم ضرر
فإنه قيل: الشجر فيه بمعنى الكلأ لأنه الذي يعلف، وكذا فسره في
النهاية بذلك في
قوله صلى الله عليه وسلم: «لا تأكلوا ثمن الشجر فإنه سحت»
ولعل ذلك لأنه جاء في الحديث النهي عن منع فضل الماء كمنع فضل
الكلأ وتشارك الناس في الماء والكلأ والنار، وأبقاه بعضهم على
حقيقته ولم يجعله مجازا شاملا، ومِنَ إما للتبعيض مجازا لأن
الشجر لما كان حاصلا بسقيه جعل كأنه منه كقوله: أسنمة الإبال
في ربابه. يعني به المطر الذي ينبت به ما تأكله الإبل فتسمن
أسنمتها، وإما للابتداء أي وكائن منه شجر، والأول أولى بالنسبة
إلى ما قبله.
وقال أبو البقاء هي سببية أي وبسببه إنبات شجر، ودل على ذلك
يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وجوز ابن الأنباري
__________
(1) فائدة هذا أن ابن عطية لم يعرف ذلك فقال إذ رأى تفسيره
المشيئة بمشيئة القسر إن هذا تفسير أهل البدعة وقد وقع فيه من
غير قصد اه منه.
(7/348)
الوجهين الأولين على ما يقتضيه ظاهر قوله:
الكلام على تقدير مضاف إما قبل الضمير أي من جهته أو من سقيه
شجر وإما قبل شجر أي ومنه شراب شجر كقوله تعالى: وَأُشْرِبُوا
فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ [البقرة: 93] أي حبه اه وهو بعيد
وإن قيل: الإضمار أولى من المجاز لا العكس الذي ذهب إليه البعض
وصحح المساواة لاحتياج كل منهما إلى قرينة.
فِيهِ تُسِيمُونَ أي ترعون يقال: أسام الماشية وسومها جعلها
ترعى وسامت بنفسها فهي سائمة وسوام رعت حيث شاءت، وأصل ذلك على
ما قال الزجاج السومة وهي كالسمة العلامة لأن المواشي تؤثر
علامات في الأرض والأماكن التي ترعاها. وقرأ زيد بن علي رضي
الله تعالى عنهما تُسِيمُونَ بفتح التاء فإن سمع سام متعديا
كان هو وأسام بمعنى وإلا فتأويل ذلك أن الكلام على حذف مضاف أي
تسيم مواشيكم يُنْبِتُ أي الله عز وجل يقال نبت الشيء وأنبته
الله تعالى فهو منبوت وقياس هذا منبت، وقيل: يقال أنبت الشجر
لازما وأنشد الفراء:
رأيت ذوي الحاجات حول بيوتهم ... قطينا بها حتى إذا أنبت البقل
أي نبت، وكان الأصمعي ينكر مجيء أنبت بمعنى نبت. وقرأ أبو بكر
«ننبت» بنون العظمة، والزهري «ينبّت» بالتشديد وهو للتكثير في
قول، واستظهر أبو حيان أنه تضعيف التعدية. وقرأ أبي «ينبت»
بفتح الياء ورفع المتعاطفات بعد على الفاعلية، وجملة ينبت
لَكُمْ بِهِ أي بما أنزل من السماء الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ
وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنابَ يحتمل أن تكون صفة أخرى- لماء- وأن
تكون مستأنفة استئنافا بيانيا كأنه قيل: وهل له منافع أخر؟
فقيل: ينبت لكم به إلخ، وإيثار صيغة الاستقبال للدلالة على
التجدد والاستمرار وأن الإنبات سنته سبحانه الجارية على ممر
الدهور أو لاستحضار الصورة لما فيها من الغرابة، وتقديم
الظرفين على المفعول الصريح لما أشرنا إليه آنفا مع ما في
تقديم أولهما من الاهتمام به لإدخال المسرة ابتداء، وتقديم
الزرع على ما عداه قيل: لأنه أصل الأغذية وعمود المعاش وقوت
أكثر العالم وفيه مناسبة للكلأ المرعى، ثم الزيتون لما فيه من
الشرف من حيث إنه ادام من وجه وفاكهة من وجه، وقد ذكر الأطباء
له منافع جمة، وذكر غير يسير منها في التذكرة، والظاهر من كلام
اللغويين أنه اسم جنس جمعي واحده زيتونة وأنه يطلق على الشجر
المخصوص وعلى ثمرته.
واستظهر أن المراد به هنا الأول وسيأتي قريبا إن شاء الله
تعالى تمام الكلام في ذلك، وأكثر ما ينبت في المواضع التي زاد
عرضها على الميل واشتد بردها وكانت جبلية ذات تربة بيضاء أو
حمراء، ثم النخيل على الأعناب لظهور دوامها بالنسبة إليها فإن
الواحدة منها كثيرا ما تتجاوز مائة سنة وشجرة العنب ليست كذلك،
نعم الزيتونة أكثر دواما منهما فإن الشجرة منه قد تدوم ألف سنة
مع أن ثمرتها كثيرا ما يقتات بها حتى جاء
في الخبر «ما جاع بيت وفيه تمر»
وأكثر ما تنبت في البلاد الحارة اليابسة التي يغلب عليها الرمل
كالمدينة المشرفة والعراق وأطراف مصر، وهي على ما قال الراغب
جمع نخل وهو يطلق على الواحد والجمع ويقال للواحدة نخلة، وأما
الأعناب فجمع عنبة بكسر العين وفتح النون والباء وقد جاءت
ألفاظ مفردة على هذا الوزن غير قليلة.
وقد ذكر في القاموس عدة منها، ونسب الجوهري إلى قلة الاطلاع في
قوله: إن هذا البناء في الواحد نادر وجاء منه العنبة والتولة
والحبرة والطيبة والخيرة ولا أعرف غير ذلك وذكر الجوهري أنه إن
أردت جمعه في أدنى العدد جمعته بالتاء وقلت عنبات وفي الكثير
عنب وأعناب اه، ولينظر هذا مع عدهم أفعالا من جموع القلة،
ويطلق العنب كما قال الراغب على ثمرة الكرم وعلى الكرم نفسه،
والظاهر أن المراد هو الثاني.
وذكر أبو حيان في وجه تأخير الأعناب أن ثمرتها فاكهة محضة،
وفيه أنه إن أراد بثمرتها العنب ما دام طريا قبل أن يقترب
فيمكن أن يسلم وإن أراد به المتزبب فغير مسلم، وفي كلام كثير
من الفقهاء في بحث زكاة الفطر أن في
(7/349)
الزبيب اقتياتا بل ظاهر كلامهم أنه في ذلك
بعد التمر وقبل الأرز، والباحث في هذا لا ينفي الاقتيات كما لا
يخفى على الواقف على البحث، وفي جمع النَّخِيلَ وَالْأَعْنابَ
إشارة إلى أن ثمارها مختلفة الأصناف ففي التذكرة عند ذكر التمر
أنه مختلف كثير الأنواع كالعنب حتى سمعت أنه يزيد على خمسين
صنفا، وعند ذكر العنب أنه يختلف بحسب الكبر والاستطالة وغلظ
القشر وعدم العجم وكثرة الشحم واللون والطعم وغير ذلك إلى
أنواع كثيرة كالتمر اه، وأنا قد سمعت من والدي عليه الرحمة أنه
سمع في مصر حين جاءها بعد عوده من الحج لزيارة أخيه المهاجر
إليها لطلب العلم أن في نواحيها من أصناف التمر ما يقرب من
ثلاثمائة صنف والعهدة على من سمع منه هذا، وللعلامة أبي السعود
هنا ما يشعر ظاهره بالغفلة وسبحان من لا يغفل وكان الظاهر
تقديم غذاء الإنسان لشرفه على غذاء ما يسام لكن قدم ذاك- على
ما قال الإمام- للتنبيه على مكارم الأخلاق وأن يكون اهتمام
الإنسان بمن تحت يده أقوى من اهتمامه بنفسه، والعكس في قوله
تعالى: كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعامَكُمْ [طه: 54] للإيذان بأن
ذلك ليس بلازم وإن كان من الأخلاق الحميدة، وهو على طبق ما ورد
في الخبر «ابدأ بنفسك ثم بمن تعول» وقيل: لأن ذلك مما لا دخل
للخلائق فيه ببذر وغرس فالامتنان به أقوى، وقيل: لأن أكثر
المخاطبين من أصحاب المواشي وليس لهم زرع ولا شيء مما ذكر،
وقال شهاب الدين في وجه ذلك. ولك أن تقول لما سبق ذكر
الحيوانات المأكولة والمركوبة ناسب تعقيبها بذكر مشربها
ومأكلها لأنه أقوى في الامتنان بها إذ خلقها ومعاشها لأجلهم
فإن من وهب دابة مع علفها كان أحسن، كما قيل: من الظرف هبة
الهدية مع الظرف اه ولا يخلو عن حسن.
والأولى عليه أن يراد من قوله تعالى: لَكُمْ مِنْهُ شَرابٌ ما
يشرب، وأما ما قيل: إن ما قدم من الغذاء للإنسان أيضا لكن
بواسطة فإنه غذاء لغذائه الحيواني فلا يدفع السؤال لأنه يقال
بعد: كان ينبغي تقديم ما كان غذاء له بغير واسطة، لا يقال: هذا
السؤال إنما يحسن إذا كان المراد من المتعاطفات المذكورات
ثمراتها لا ما يحصل منها الثمرات لأن ذلك ليس غذاء الإنسان
لأنا نقول: ليس المقصود من ذكرها إلا الامتنان بثمراتها إلا
أنها ذكرت على نمط سابقها المذكور في غذاء الماشية ويرشد إلى
أن الامتنان بثمراتها قوله سبحانه: وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ
وإرادة الثمرات منها من أول الأمر بارتكاب نوع من المجاز في
بعضها لهذا إهمال لرعاية غير أمر يحسن له حملها على ما قلنا
دون ذلك، منه يُنْبِتُ إذ ظاهره يقتضي التعلق بنفس الشجرة لا
بثمرتها فليعمل بما يقتضيه في صدر الكلام وإن اقتضى آخره
اعتبار نحو ما قيل في: غلفتها تبنا وماء باردا. كذا قيل وفيه
تأمل، ومعنى بعضهم كون الإنبات مما يقتضي التعلق المذكور فقد
قال سبحانه: فَأَنْبَتْنا فِيها حَبًّا وَعِنَباً وَقَضْباً
وَزَيْتُوناً وَنَخْلًا وَحَدائِقَ غُلْباً وَفاكِهَةً
وَأَبًّا [عبس: 27- 31] وجوز أن لا يكون الملحوظ فيما عد مجرد
الغذائية بل ما يعمها وغيرها على معنى ينبت به لنفعكم ما ذكر
والنفع يكون بما فيه غذاء وغيره، ومِنْ للتبعيض والمعنى وينبت
لكم بعض كل الثمرات، وإنما قيل ذلك لما في الكشاف وغيره من أن
كل الثمرات لا تكون إلا في الجنة وإنما أنبت في الأرض بعض من
كل للتذكرة، وقال بعض الأجلة: المراد بعض مما في بقاع الإمكان
من ثمر القدرة الذي لم تجنه راحة الوجود، وهو أظهر وأشمل وأنسب
بما تقدم لأنه سبحانه كما عقب ذكر الحيوانات المنتفع بها على
التفصيل بقوله تعالى: وَيَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ عقب ذكر
الثمرات المنتفع بها بمثله إِنَّ فِي ذلِكَ المذكور من إنزال
الماء وإنزال ما فصل لَآيَةً عظيمة دالة على تفرده تعالى
بالإلهية لاشتماله على كمال العلم والقدرة والحكمة لِقَوْمٍ
يَتَفَكَّرُونَ فإن من تفكر في أن الحبة والنواة تقع في الأرض
وتصل إليها نداوة تنفذ فيها فينشق أسفلها فيخرج منه عروق تنبسط
في الأرض وربما انبسطت فيها وإن كانت صلبة وينشق أعلاها وإن
كانت منتسكسة في الوقوع فيخرج منها ساق فينمو فيخرج منه
الأوراق والأزهار والحبوب والثمار المشتملة على
(7/350)
أجسام مختلفة الأشكال والألوان والخواص
والطبائع وعلى نواة قابلة لتوليد الأمثال على النمط المحرر لا
إلى نهاية مع اتحاد الماء والأرض والهواء وغيرها بالنسبة إلى
الكل علم أن من هذه آثاره لا يمكن أن يشبهه شيء في شيء من صفات
الكمال فضلا عن أن يشاركه في أخص صفاته التي هي الألوهية
واستحقاق العبادة أخس الأشياء كالجماد تعالى الله عن ذلك علوا
كبيرا، ولله تعالى در من قال:
تأمل في رياض الورد وانظر ... إلى آثار ما صنع المليك
عيون من لجين شاخصات ... على أهدابها ذهب سبيك
على قضب الزبرجد شاهدات ... بأن الله ليس له شريك
وحيث كان استدلاله بما ذكر لاشتماله على أمر خفي محتاج إلى
التفكر والتدبر لمن له نظر سديد ختم الآية بالتفكر وَسَخَّرَ
لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ يتعاقبان خلفة لمنامكم
واستراحتكم وسعيكم في مصالحكم من الإسامة وتعهد حال الزرع ونحو
ذلك وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ يدأبان في سيرهما وإنارتهما أصالة
وخلافة وأدائهما ما نيط بهما من تربية الأشجار والزروع وإنضاج
الثمرات وتلوينها وغير ذلك من التأثيرات المترتبة عليهما بإذن
الله تعالى حسبما يقوله السلف في الأسباب والمسببات، وليس
المراد بتسخير ذلك للمخاطبين تمكينهم من التصرف به كيف شاؤوا
كما في قوله تعالى: سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنا هذا
[الزخرف: 13] ونحوه بل تصريفه سبحانه لذلك حسبما يترتب عليه
منافعهم ومصالحهم كأن ذلك تسخير لهم وتصرف من قبلهم حسب
إرادتهم قاله بعض المحققين.
وقال آخرون: إن أصل التسخير السوق قهرا ولا يصح إرادة ذلك لأن
القهر والغلبة مما لا يعقل فيما لا شعور له من الجمادات كالشمس
والقمر وعدم تعقله في نحو الليل والنهار أظهر من ذلك فهو هنا
مجاز عن الإعداد والتهيئة لما يراد من الانتفاع، وفي ذلك إيماء
إلى ما في المسخر من صعوبة المأخذ بالنسبة إلى المخاطبين.
وذكر الإمام في المراد من التسخير نحو ما ذكر أولا ثم ذكر وجها
آخر قال فيه: إنه لا يستقيم إلا على مذهب أصحاب الهيئة وهو
أنهم يقولون: الحركة الطبيعية للشمس والقمر هي الحركة من
المغرب إلى المشرق فالله تعالى سخر هذه الكواكب بواسطة حركة
الفلك الأعظم من المشرق إلى المغرب فكانت هذه الحركة قسرية
فلذا ورد فيها لفظ التسخير، وذكر أيضا أن حدوث الليل والنهار
ليس إلا بسبب حركة الفلك الأعظم دون حركة الشمس وأما حركتها
فهي سبب لحدوث السنة ولذا لم يكن ذكر الليل والنهار مغنيا عن
ذكر الشمس اه ولا يعترض عليه بأن ما ذكره من قوله: إن حدوث
الليل والنهار إلى آخره لا يتأتى في عرض تسعين لأن الليل
والنهار لا يحصلان إلا بغروب الشمس وطلوعها وهي هناك لا تغرب
ولا تطلع بحركة الفلك الأعظم بل بحركتها الخاصة ولذا كانت
السنة يوما وليلة لما أن ذلك العرض غير مسكون وكذا ما يقرب منه
فلا يدخل في حيز الامتنان. نعم في كلامه عند المتمسكين بأذيال
الشريعة غير ذلك فلينظر وفي كون الشمس والقمر مما لا شعور لهما
خلاف بين العلماء فذهب البعض إلى أنهما عالمان وهو الذي تقتضيه
الظواهر وإليه ذهب الصوفية والفلاسفة، ولم أشعر بوقوع خلاف في
أن الليل والنهار مما لا شعور لهما، نعم رأيت في البهجة
القادرية عن القطب الرباني الشيخ عبد القادر الكيلاني قدس سره
العزيز أن الشهر أو الأسبوع يأتيه في صورة شخص فيخبره بما يحدث
فيه من الحوادث، ولعل هذا على نحو ظهور القرآن يوم القيامة في
صورة الرجل الشاحب وقوله لمن كان يحفظه:
«أنا الذي أسهرتك في الدياجي وأظمأتك في الهواجر»
وظهور الموت في صورة كبش أملح وذبحه بين الجنة والنار يوم
القيامة كما جاء في الخبر، وعليك بالإيمان بما جاء عن الصادق
المصدوق صلى الله عليه وسلم وأنت في الإيمان بغيره بالخيار،
وإيثار صيغة الماضي قيل للدلالة على أن ذلك التسخير أمر واحد
(7/351)
مستمر وإن تجددت آثاره وَالنُّجُومُ
مُسَخَّراتٌ بِأَمْرِهِ مبتدأ وخبر أي وسائر النجوم البيانية
وغيرها في حركاتها وأوضاعها المتبدلة وغير المتبدلة وسائر
أحوالها مسخرات لما خلقت له بخلقه تعالى وتدبيره الجاري على
وفق مشيئته فالأمر واحد الأمور، وجوز أن يكون واحد الأوامر
ويراد منه الأمر التكويني عند من لا يقول بإدراك النجوم،
والمعنى أنها مسخرة لما خلقت له بقدرته تعالى وإيجاده، قيل:
وحيث لم يكن عود منافع النجوم إليهم في الظهور بمثابة ما قبلها
من الجديدين والنيرين لم ينسب تسخيرها إليهم بأداة الاختصاص بل
ذكر على وجه يفيد أنها تحت ملكوته عز وجل من غير دلالة على شيء
آخر، ولذلك عدل عن الجملة الفعلية الدالة على الحدوث إلا
الاسمية المفيدة للدوام والاستمرار، وقرأ ابن عامر برفع
الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ أيضا فيكون المبتدأ الشمس والبواقي
معطوفة عليه ومُسَخَّراتٌ خبر عن الجميع، ولا يتأتى على هذه
القراءة ما قيل في وجه عدم نسبة تسخير ذلك إليهم بأداة
الاختصاص كما لا يخفى، واعتبار عدم كون ظهور المنافع بمثابة
السابق بالنظر إلى المجموع كما ترى. ومن الناس من قال في ذلك:
إن المراد بتسخير الليل والنهار لهم نفعهم بهما من حيث إنهما
وقتا سعى في المصالح واستراحة ومن حيث ظهور ما يترتب عليه
منافعهم مما نيط به صلاح المكونات التي من جملتها ما فصل وأجمل
مثلا كالشمس والقمر فيهما، ويؤول ذلك بالآخرة إلى النفع بذلك
وهو معنى تسخيره لهم، فيكون تسخير الليل والنهار لهم متضمنا
لتسخير ذلك لهم فحيث أفاده الكلام أولا استغنى عن التصريح به
ثانيا وصرح بما هو أعظم شأنا منه وهو أن تلك الأمور لم تزل ولا
تزال مقهورة تحت قدرته منقادة لإرادته ومشيئته سواء كنتم أو لم
تكونوا فليتدبر، وقرأ الجمهور والنجوم- ومسخرات بالنصب فيهما
وكذا فيما تقدم، وخرج ذلك على أن النُّجُومُ مفعول أول لفعل
محذوف ينبئ عنه الفعل المذكور ومُسَخَّراتٌ مفعول ثان له، أي
وجعل النجوم مسخرات، وجوز جعل- جعل- بمعنى خلق المتعدي لمفعول
واحد- فمسخرات- حال، واستظهر أبو حيان كون النُّجُومُ معطوفا
على ما قبله بلا إضمار ومُسَخَّراتٌ حينئذ قيل حال من الجميع
على أن التسخير مجاز عن النفع أي نفعكم بها حال كونها مسخرات
لما خلقت له مما هو طريق لنفعكم وإلا فالحمل على الظاهر دال
على أن التسخير في حال التسخير بأمره ولا كذلك لتأخر الأول،
وقيل: لذلك أيضا: إن المراد مستمرة على السخير بأمره الإيجادي
لأن الأحداث لا يدل على الاستمرار، وجوز بعض أجلة المعاصرين أن
يكون حالا موكدة بتقدير بِأَمْرِهِ متعلقا ب يَسْخَرْ والكلام
من باب التنازع، وقبوله مفوض إليك، وقيل: هو مصدر ميمي كمسرح
منصوب على أنه مفعول مطلق- لسخر- المذكور أولا وسخرها مسخرات
على منوال ضربته ضربات، وجمع إشارة إلى اختلاف الأنواع، وفي
إفادة تسخير ما ذكر إيذان بالجواب عما عسى يقال: إن المؤثر في
تكوين النبات حركات الكواكب وأوضاعها فإن ذلك إن سلم فلا ريب
في أنها ممكنة الذات والصفات واقعة على بعض الوجوه المحتملة
فلا بد من موجد ضرورة احتياج الممكن في وجوده إلى مخصص لئلا
يلزم من الوقوع على بعض الوجوه مع احتمال غيره ترجيح بلا مرجح
مختار لما أن الإيجاب ينافي الترجيح واجب الوجود دفعا للدور أو
التسلسل كذا قاله بعض الأجلة، واعترضه المولى العمادي بأنه
مبني على حسبان ما ذكر أدلة الصانع تعالى وقدرته واختياره،
وليس الأمر كذلك فإنه مما لا ينازع فيه الخصم ولا يتلعثم في
قبوله قال تعالى: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ
السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ
لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ [العنكبوت: 61]
وقال سبحانه: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ
السَّماءِ ماءً فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِها
لَيَقُولُنَّ اللَّهُ [العنكبوت: 63] الآية وإنما ذلك أدلة
التوحيد من حيث إن من هذا شأنه لا يتوهم أن يشاركه شيء في شيء
فضلا أن يشاركه الجماد في الألوهية اه، وتعقب بأن كون ما ذكر
أدلة التوحيد لا يأبى
أن يكون فيه إيذان بالجواب عما عسى يقال وأي ضرر في أن يساق
شيء لأمر ويؤذن بأمر آخر، ولعمري لا أرى لهذا الاعتراض وجها
بعد قول القائل في ذلك إيذان بالجواب عما عسى يقال إلخ حيث لم
يبت
(7/352)
القول وأقحم عسى في البين لكن للقائل كلام
يدل دلالة ظاهرة على أنه اعتبر الأدلة المذكورة أدلة على وجود
الصانع عز شأنه أيضا وقد سبقه في ذلك الإمام.
إِنَّ فِي ذلِكَ أي التسخير المتعلق بما ذكر لَآياتٍ باهرة
متكاثرة على ما يقتضيه المقام لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ وحيث كانت
هذه الآثار العلوية متعددة ودلالة ما فيها من عظيم القدرة
والعلم والحكمة على الوحدانية أظهر جمع الآيات وعلقت بمجرد
العقل من غير تأمل وتفكر كأنه لمزيد ظهورها مدركة ببداهة العقل
بخلاف الآثار السفلية في ذلك كذا قالوا، وهو ظاهر على تقدير
كون الاستدلال على الوحدانية لا على الوجود أيضا، وأما إذا كان
الاستدلال على ذلك ففي دعوى الظهور المذكور بحث لانجرار الكلام
على ذلك إلى إبطال التسلسل فكيف تكون الدلالة ظاهرة غير محوجة
إلى فكر. وأجيب عنه بأن الاستدلال بالدور أو التسلسل إنما هو
بعد التفكر في بدء أمرها وما نشأ منه من اختلاف أحوالها فافهم.
وجوز أن يكون المراد لقوم يعقلون ذلك والمشار إليه نهاية
تعاجيب الدقائق المودعة في العلويات المدلول عليها بالتسخير
التي لا يتصدى لمعرفتها إلا المهرة الذين لهم نهاية الإدراك من
أساطين علماء الحكمة وحينئذ قطع الآية بقوله سبحانه هنا:
يَعْقِلُونَ للإشارة إلى احتياج ذلك إلى التفكر أكثر من غيره
والأول أولى كما لا يخفى وَما ذَرَأَ أي خلق ومنه الذرية على
قول والعطف عند بعض على النُّجُومُ رفعا ونصبا على أنه مفعول-
لجعل- وما موصولة أي والذي ذرأه لَكُمْ فِي الْأَرْضِ من حيوان
ونبات، وقيل: من المعادن ولا بأس في التعميم فيما أرى حال كونه
مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ أي أصنافه كما قال جمع من المفسرين وهو
مجاز معروف في ذلك، قال الراغب:
الألوان يعبر بها عن الأجناس والأنواع يقال: فلان أتى بألوان
من الحديث والطعام وكان ذلك لما أن اختلافها غالبا يكون
باختلاف اللون، وقيل: المراد المعنى الحقيقي أي مختلفا ألوانه
من البياض والسواد وغيرهما والأول أبلغ أي ذلك مسخر لله تعالى
أو لما خلق له من الخواص والأحوال والكيفيات أو جعل ذلك مختلف
الألوان والأصنام لتتمتعوا بأي صنف شئتم منه، وذهب بعضهم إلى
أن الموصول معطوف على الليل وقيل عليه: إن في ذلك شبه التكرار
بناء على أن اللام في لَكُمْ للنفع وقد فسر سَخَّرَ لَكُمُ
لنفعكم فمآل المعنى نفعكم بما خلق لنفعكم فالأولى جعله في محل
نصب بفعل محذوف أي خلق أو أنبت كما قاله أبو البقاء ويجعل
مُخْتَلِفاً حالا من مفعوله واعتذر بأن الخلق للإنسان لا
يستلزم التسخير لزوما عقليا، فإن الغرض قد يتخلف مع أن الإعادة
لطول العهد لا تنكر. ورد بأنه غفلة عن كون المعنى نفعكم وما
ذكر علاوة مبني على كون لَكُمْ متعلقة- بسخر- أيضا وهي عند ذلك
الذاهب متعلقة كما هو الظاهر بذرأ وفي الحواشي الشهابية أن هذا
ليس بشيء لأن التكرار لما ذكر وللتأكيد أمر سهل، وكون المعنى
نفعكم لا يأباه مع أن هذه الآية سيقت كالفذلكة لما قبلها ولذا
ختمت بالتذكر، وليس لمن يميز بين الشمال واليمين أن يقول: ما
مبتدأ ومُخْتَلِفاً حال من ضميره المحذوف، وجملة قوله تعالى:
إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ خبره والرابط
اسم الإشارة على حد ما قيل في قوله تعالى: وَلِباسُ التَّقْوى
ذلِكَ خَيْرٌ [الأعراف: 26] كأنه قيل، وما ذرأه لكم في الأرض
إن فيه لآية، وحاصله تعالى أن فيما ذرأ لآية لظهور مخالفة
الآية عليه السباق والسياق بل عدم لياقته لأن يكون محملا لكلام
الله تعالى الجليل أظهر من أن ينبه عليه، «و» ألوانه، على
ألوان الاحتمالات مرفوع بمختلفا وقدر بعضهم ليصح رفعه به
موصوفا وقال: أي صنفا مختلفا ألوانه وهو مما لا حاجة إليه كما
يخفى على من له أدنى تدرب في علم النحو، ثم إن المشار إليه ما
ذكر من التسخير ونحوه، وقيل: اختلاف الألوان وتنوين آية
للتفخيم آية فخيمة بينة الدلالة على أن من هذا شأنه واحد لا
ينبغي أن يشبهه شيء في شيء وختم الآية بالتذكر إما لما في
(7/353)
الحواشي الشهابية من أنها كالفذلكة لما
قبلها وإما للإشارة إلى أن الأمر ظاهر جدا غير محتاج إلا إلى
تذكر ما عسى يغفل عنه من العلوم الضرورية، وقال بعضهم: يذكرون
أن اختلاف طبائع ما ذكر وهيئاته وأشكاله مع اتحاد مادته يدل
على الفاعل الحكيم المختار، وهو ظاهر في أن ما ذكر دليل على
إثبات وجود الصانع كما أنه دليل على وحدانيته وهو الذي ذهب
إليه الإمام واقتدى به غيره، ولم يرتضه شيخ الإسلام بناء على
أن الخصم لا ينازع في الوجود وإنما ينازع في الوحدانية فجيء
بما هو مسلم عنده من صفات الكمال للاستدلال به على ما يقتضيه
ضرورة من وحدانيته تعالى واستحالة أن يشاركه شيء في الألوهية،
وقال لبعضهم: لا مانع من أن يكون المراد الاستدلال بما ذكر من
الآيات على مجموع الوجود والوحدانية والخصم ينكر ذلك وإن لم
ينكر الوجود وكان في أخذ الوجود في المطلوب إشارة إلى أن القول
به مع زعم الشركة في الألوهية مما لا يعتد به وليس بينه وبين
عدم القول به كثير نفع فتدبر ذاك والله تعالى يتولى هداك
وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ شروع في نوع آخر من النعم
متعلق بالبحر إثر تفصيل النوع المتعلق بالبر، وجعله بعضهم
عديلا لقوله تعالى: هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً
لَكُمْ فلذا جاء على أسلوبه جملة اسمية معرفة الجزأين، وما وقع
في البين إما مترتب على ذلك الماء المنزل وإما متضمن لمصلحة ما
يترتب عليه، والبحر على ما في البحر يشمل الملح والعذب،
والمعنى جعل لكم ذلك بحيث تتمكنون من الانتفاع به بالركوب
والغوص والاصطياد لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْماً طَرِيًّا وهو
السمك، والتعبير عنه باللحم مع كونه حيوانا للإشارة إلى قلة
عظامه وضعفها في أغلب ما يصطاد للأكل بالنسبة إلى الأنعام
الممتن بالأكل منها فيما سبق، وقيل: للتلويح بانحصار الانتفاع
به في الأكل.
ومن متعلق- بتأكلوا- أو حال مما بعده وهي ابتدائية، وجوز أن
تكون تبعيضية والكلام على حذف مضاف أي من حيوانه، وحينئذ يجوز
أن (1) من اللحم الطري لحم السمك كما يجوز أن يراد منه السمك
والطري فعيل من طرو يطرو طراوة مثل سرو يسرو سراوة، وقال
الفراء: من طرى يطري طراء وطراوة كشقي يشقى شقاء وشقاوة،
والطراوة ضد اليبوسة، ووصفه بذلك للإشعار بلطافته والتنبيه إلى
أنه ينبغي المسارعة إلى أكله فإنه لكونه رطبا مستعد للتغير
فيسرع إليه الفساد والاستحالة، وقد قال الأطباء: إن تناوله بعد
ذهاب طراوته من أضر الأشياء ففيه إدماج لحكم طبي، وهذا على ما
قيل لا ينافي تقديده وأكله محللا كما توهم، وفي جعل البحر
مبتدأ أكله على أحد الاحتمالين إيذان بالمسارعة أيضا.
وزعم بعضهم أن في الوصف إيذانا أيضا بكمال قدرته تعالى في خلقه
عذبا طريا في ماء مر لا يشرب، وفيه شيء لا يخفى، ولا يؤكل
عندنا من حيوان البحر إلا السمك، ويؤيده تفسير اللحم به المروي
عن قتادة وغيره وعن مالك وجماعة من أهل العلم اطلاق جميع ما في
البحر، واستثنى بعضهم الخنزير والكلب والإنسان، وعن الشافعي
أنه أطلق ذلك كله، ويوافقه ما أخرجه ابن أبي حاتم عن السدي أنه
قال: هو (2) السمك وما في البحر من الدواب. نعم يكره عندنا أكل
الطافي منه وهو الذي يموت حتف أنفه في الماء فيطفو على وجه
الماء
لحديث جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم ما نضب الماء عنه
فكلوا وما لفظه الماء فكلوا وما طفا فلا تأكلوا
وهو مذهب جماعة من الصحابة رضي الله تعالى عنهم، وميتة البحر
في خبر «هو الطهور ماؤه الحل ميتته»
ما لفظه ليكون موته مضافا إليه لا ما مات فيه من غير آفة، وما
قطع
__________
(1) قوله: يجوز أن من اللحم إلخ كذا بخطه ولعله يجوز أن يراد
من اللحم إلخ.
(2) قوله. هو أي اللحم الطري اه منه.
(7/354)
بعضه فمات يحل أكل ما أبين وما بقي لأن
موته بآفة وما أبين من الحي فهو ميت وإن كان ميتا فميتته حلال،
ولو وجد في بطن السمكة سمكة أخرى تؤكل لأن ضيق المكان سبب
موتها، وكذا إذا قتلها طير الماء وغيره أو ماتت في حب ماء،
وكذا إن جمع السمك في حظيرة لا يستطيع الخروج منه وهو يقدر على
أخذه بغير صيد فمات فيها، وإن كان لا يؤخذ بغير صيد فلا خير في
أكله لأنه لم يظهر لموته سبب، وإذا ماتت السمكة في الشبكة وهي
لا تقدر على التخلص منها أو أكلت شيئا ألقاه في الماء لتأكل
منه فماتت منه وذلك معلوم فلا بأس بأكلها لأن ذلك في معنى ما
انحسر عنه الماء، وفي موت الحر والبرد روايتان إحداهما وهي
مروية عن محمد يؤكل لأنه مات بسبب حادث وكان كما لو ألقاه
الماء على اليبس والأخرى ورويت عن الإمام أنه لا يؤكل لأن الحر
والبرد صفتان من صفة الزمان وليسا من أسباب الموت في الغالب،
ولا بأس بأكل الجريث والمار ماهي، واشتهر عن الشيعة حرمة أكل
الأول فليراجع، واستدل قتادة كما أخرج ابن أبي شيبة عنه بالآية
على حنث من حلف لا يأكل لحما فأكل سمكا لما فيها من إطلاق
اللحم عليه، وروي ذلك عن مالك أيضا. وأجيب بأن مبنى الإيمان
على ما يتفاهمه الناس في عرفهم لا على الحقيقة اللغوية ولا على
استعمال القرآن، ولذا لما أفتى الثوري بالحنث في المسألة
المذكورة للآية وبلغ أبا حنيفة عليه الرحمة قال للسائل:
ارجع واسأله عمن حلف لا يجلس على بساط فجلس على الأرض هل يحنث
لقوله تعالى: جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِساطاً [نوح: 19] فقال
له: كأنك السائل أمس؟ فقال: نعم، فقال: لا يحنث في هذا ولا في
ذاك ورجع عما أفتى به أولا، والظاهر أن متمسك الإمام قد كان
العرف وهو الذي ذهب إليه ابن الهمام لا ما في الهداية كما قال
من أن القياس الحنث، ووجه الاستحسان أن التسمية القرآنية
مجازية لأن منشأ اللحم الدم ولا دم في السمك لسكونه الماء مع
انتقاضه بالألية فانها تنعقد من الدم ولا يحنث بأكلها.
واعترض بأنه يجوز أن يكون في المسألة دليلان ليس بينهما تناف،
وما ذكر من النقض مدفوع بأن المذكور كل لحم ينشأ من الدم ولا
يلزم عكسه الكلي. وتعقب بأن إطلاق اللحم على السمك لغة لا شبهة
فيه فينتقض الطرد والعكس فمراد المعترض الرد عليه بزيادة في
الإلزام. نعم قد يقال: مراده بالمجاز المذكور أنه مجاز عرفي
كالدابة إذا أطلقت على الإنسان فيرجع كلامه إلى ما قاله الإمام
وحينئذ لا غبار عليه، وما ذكره بيان لوجه الاستعمال العرفي فلا
يرد عليه شيء وهو كما ترى، وعلى طرز ما قاله الإمام يقال فيمن
حلف لا يركب دابة فركب كافرا أنه لا يحنث مع أن الله سبحانه
سمى الكافر دابة في قوله تعالى: إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ
عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا [الأنفال: 55] وفي الكشاف
بيانا لعدم إطلاق اللحم على السمك عرفا أنه إذا قال واحد
لغلامه اشتر بهذه الدراهم لحما فجاء بالسمك كان حقيقا بالإنكار
عليه أي وهو دليل على عدم إطلاق اللحم عليه في العرف فحيث كانت
الايمان مبنية على العرف لم يحنث بأكله. واعترض بأنه لو قال
لغلامه: اشتر لحما فاشترى لحم عصفور كان حقيقا بالإنكار مع
الحنث بأكله. وتعقب بأن الإنكار إنما جاء من ندرة اشتراء مثله
لأنه غير متعارف وفيما نحن فيه اشتراء السمك ولحمه متعارف فليس
محل الإنكار إلا عدم إطلاق اللحم عليه وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ
حِلْيَةً كاللؤلؤ والمرجان تَلْبَسُونَها أي تلبسها نساءكم
وجهه ذلك بأنه أسند إلى الرجال لاختلاطهم بالنساء وكونهم
متبوعين أو لأنهم سبب لتزينهن فإنهن يتزين ليحسن في أعين
الرجال فكان ذلك زينتهم ولباسهم.
وقال ابن المنير: ولله تعالى در مالك رضي الله تعالى عنه حيث
جعل للزوج الحجر على زوجته فيما له بال من مالها، وذلك مقدر
بالزائد على الثلث لحقه فيه بالتجمل، فانظر إلى مكنة حظ الرجال
من مال النساء ومن زينتهن حتى جعل كحظ المرأة من مالها وزينتها
فعبر عن حظه في لبسها بلبسه كما يعبر عن حظها سواء مؤيدا
بالحديث المروي
(7/355)
في الباب اه. ويفهم منه جواز اعتبار المجاز
في الطرف، وصرح بذلك بعضهم وفسر «تلبسون» بتتمتعون وتتلذذون،
ويجوز أن يكون المجاز في النقص وما أظهر في التفسير مراد في
النظم، وقيل: الكلام على التغليب أو من باب بنو فلان قتلوا
زيدا ففيه إسناد للبعض إلى الكل. وتعقب بأنه وجه لكلا الوجهين
أما الأول فلعدم التلبس بالمسند وهو اللبس، وأما الثاني فلأنه
لا يتم بدون المجاز في الطرف فلا وجه للعدول عن اعتباره على
النحو السابق إلى هذا، وقال بعضهم: لا حاجة إلى كل ذلك فإنه لا
مانع من تزين الرجال باللؤلؤ. وتعقب بأنه بعد تسليم أنه لا
مانع منه شرعا مخالف للعادة المستمرة فيأباه لفظ المضارع الدال
على خلافه، ولا يصح ما يقال: إن في البحر زمردا بحريا وبفرض
الصحة يجيء هذا أيضا، ولعله لما أن النساء مأمورات بالحجاب
وإخفاء الزينة عن غير المحارم أخفى التصريح بنسبة اللبس إليهن
ليكون اللفظ كالمعنى واستدل أبو يوسف ومحمد عليهما الرحمة
بالآية على أن اللؤلؤ يسمى حليا حتى لو حلف لا يلبس حليا فلبسه
حنث. وأبو حنيفة رضي الله تعالى عنه يقول: لا يحنث لأن اللؤلؤ
وحده لا يسمى حليا في العرف وبائعه لا يقال له بائع الحلي كذا
في أحكام الجصاص. واستدل بعضهم بالآية على أنه لا زكاة في حلي
النساء،
فأخرج ابن جرير عن أبي جعفر أنه سئل هل في حلي النساء صدقة؟
قال: لا هي كما قال الله تعالى: حِلْيَةً تَلْبَسُونَها
وهو كما ترى، ثم إن اللحم الطري يخرج من البحر العذب والبحر
الملح والحلية إنما تخرج من الملح، وقيل: إن العذب يخرج منه
لؤلؤ أيضا إلا أنه لا يلبس إلا قليلا والكثير التداوي به، ولم
نر من ذكر ذلك في أكثر الكتب المصنفة لذكر مثل ذلك.
وأخرج البزار عن أبي هريرة قال: كلم الله تعالى البحر الغربي
وكلم البحر الشرقي فقال للبحر الغربي: إني حامل فيك عبادا من
عبادي فما أنت صانع بهم؟ قال: أغرقهم. قال: بأسك في نواحيك
وحرمه الحلية والصيد وكلم هذا البحر الشرقي فقال: إني حامل فيك
عبادا من عبادي فما أنت صانع بهم؟ قال: أحملهم على يدي وأكون
لهم كالوالدة لولدها فأثابه سبحانه الحلية والصيد، وأخرج نحو
ذلك ابن أبي حاتم من طريق عبد الله بن عمرو بن العاص عن كعب
الأحبار، والله تعالى أعلم بصحة ذلك، وظاهر كلام الأكثرين حمل
الْبَحْرَ في الآية على البحر الملح وهو مملوء من السمك بل قيل
إن السمك يطلق على كل ما فيه من الحيوانات ولا يكون اللؤلؤ إلا
في مواضع مخصوصة منه.
وَتَرَى الْفُلْكَ السفن مَواخِرَ فِيهِ جواري فيه جمع ما خرة
بمعنى جارية، وأصل المخر الشق يقال: مخر الماء الأرض إذا شقها
وسميت السفن بذلك لأنها تشق الماء بمقدمها، وقال الفراء: هو
صوت جري الفلك بالرياح وَلِتَبْتَغُوا عطف على تستخرجوا وما
عطف عليه وما بينهما اعتراض لتمهيد مبادئ الابتغاء ودفع كونه
باستخراج الحلية، وعدل عن نمط الخطاب السابق واللاحق- أعني
خطاب الجمع إلى خطاب المفرد- المراد به كل من يصلح للخطاب
إيذانا بأن ذاك غير مسوق مساقهما، وأجاز ابن الأنباري أن يكون
معطوفا على علة محذوفة أي لتنتفعوا بذلك ولتبتغوا، وأن يكون
متعلقا بفعل محذوف أي فعل ذلك لتبتغوا، وهو تكلف يغني الله
تعالى عنه.
مِنْ فَضْلِهِ من سعة رزقه بركوبها للتجارة وَلَعَلَّكُمْ
تَشْكُرُونَ تقومون بحق نعم الله تعالى بالطاعة والتوحيد، ولعل
تخصيص هذه النعمة بالتعقيب بالشكر لأنها أقوى في باب الأنعام
من حيث إنه جعل ركوب البحر مع كونه مظنة الهلاك لأن راكبيه كما
قال عمر رضي الله تعالى عنه دود على عود سببا للانتفاع وحصول
المعاش وهو من كمال النعمة لقطع المسافة الطويلة في زمن قصير
مع عدم الاحتياج إلى الحل والترحال والحركة مع الاستراحة
والسكون، وما أحسن ما قيل في ذلك:
(7/356)
وإنا لفي الدنيا كركب سفينة ... نظن وقوفا
والزمان بنا يسري
وعدم توسيط الفوز بالمطلوب بين الابتغاء والشكر قيل للإيذان
باستغنائه عن التصريح به وبحصولهما معا.
واستدل بالآية على جواز ركوب البحر للتجارة بلا كراهة وإليه
ذهب جماعة، وأخرج عبد الرزاق عن ابن عمر أنه كان يكره ركوب
البحر إلا لثلاث غاز أو حاج أو معتمر وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ
رَواسِيَ أي جبالا ثوابت، وقد مر تمام الكلام في ذلك أَنْ
تَمِيدَ بِكُمْ أي كراهة أن تميد أو لئلا تميد، والميد اضطراب
الشيء العظيم، ووجه كون الإلقاء مانعا عن اضطراب الأرض بأنها
كسفينة على وجه الماء والسفينة إذا لم يكن فيها أجرام ثقيلة
تضطرب وتميل من جانب إلى جانب بأدنى شيء وإذا وضعت فيها أجرام
ثقيلة تستقر فكذا الأرض لو لم يكن عليها هذه الجبال لاضطربت
فالجبال بالنسبة إليها كالأجرام الثقيلة الموضوعة في السفينة
بالنسبة إليها.
وتعقبه الإمام لوجوه: الأول على مذهب الحكماء القائلين بأن
حركة الأجسام أو سكونها لطبائعها أن الأرض أثقل من الماء فيلزم
أن تغوص فيه لا أن تطفو أو ترسي بالجبال وهذا بخلاف السفينة
فإنها متخذة من الخشب وبين أجزائه هواء يمنعه من السكون ويفضي
به إلى الميد لولا الثقيل. والثاني على مذهب أهل الحق القائلين
بأنه ليس للأجسام طبائع تقتضي السكون أو الحركة فما سكن ساكن
وما تحرك متحرك في بر وبحر إلا بمحض قدرة الله تعالى وحده.
والثاني أن إرساء الأرض بالجبال لئلا تميد وتبقى واقفة على وجه
الماء إنما يعقل إذا كان الماء الذي استقرت على وجهه ساكنا
وحينئذ يقال: إن سبب سكونه في حيزه المخصوص طبيعته المخصوصة
فلم لا يقال في سكون الأرض في هذا الحيز إنه بسبب طبيعتها
المخصوصة أيضا، وإن قلنا: إنه بمحض قدرته سبحانه فلم لم يقل:
إن سكون الأرض أيضا كذلك فلا يعقل الإرساء بالجبال على
التقديرين. والثالث أنه يجوز أن تميد الأرض بكليتها ولا تظهر
حركتها ولا يشعر بها أهلها ويكون ذلك نظير حركة السفينة من غير
شعور راكبها بها ولا يأبى الشعور بحركتها عند احتقان البخار
فيها لأن ذلك يكون في قطعة صغيرة منها وهو يجري مجرى الاختلاج
الذي يحصل في عضو معين من البدن، ثم قال: والذي عندي في هذا
الموضع المشكل أن يقال: ثبت بالدلائل اليقينية أن الأرض كرة
وثبت أن هذه الجبال على سطح الكرة جارية مجرى خشونات تحصل على
وجه هذه الكرة وحينئذ نقول لو فرضنا أن هذه الخشونات ما كانت
حاصلة بل كانت ملساء خالية عنها لصارت بحيث تتحرك على
الاستدارة كالأفلاك لبساطتها أو تتحرك بأدنى سبب للتحريك فلما
خلقت هذه الجبال وكانت كالخشونات على وجهها تفاوتت جوانبها
وتوجهت الجبال بثقلها نحو المركز فصارت كالأوتاد لمنعها إياها
عن الحركة المستديرة اه وقد تابع الإمام في هذا الحل العلامة
البيضاوي، واعترض عليه بأنه لا وجه لما ذكره على مذهب أهل الحق
ولا على مذهب الفلاسفة، أما الأول فلأن ذات شيء لا تقتضي تحركه
وإنما ذلك بإرادة الله تعالى، وأما الثاني فلأن الفلاسفة لم
يقولوا: إن حق الأرض أن تتحرك بالاستدارة لأن في الأرض ميلا
مستقيما وما هو كذلك لا يكون فيه مبدأ ميل مستدير على ما ذكروا
في الطبيعي. وأورد أيضا على منع الجبال لها من الحركة أنه قد
ثبت في الهندسة أن أعظم جبل في الأرض وهو ما ارتفاعه فرسخان
وثلث فرسخ إلى قطر الأرض نسبة خمس سبع عرض شعيرة إلى كرة قطرها
ذراع ولا ريب في أن ذلك القدر من الشعيرة لا يخرج تلك الكرة عن
الاستدارة بحيث يمنعها عن الحركة، وكذا حال الجبال بالنسبة إلى
كرة الأرض، ثم قيل: الصحيح أن يقال خلق الله تعالى الأرض
مضطربة لحكمة لا يعلمها إلا هو ثم أرساها بالجبال على جريان
عادته في جعل الأشياء منوطة بالأسباب، وقال بعض المحققين في
الجواب: إن المقصود أن الأرض من حيث كونها كرة حقيقية بسيطة مع
قطع النظر عن كونها عنصرا كان حقها أحد الأمرين لأنها من تلك
الحيثية إما ذو ميل مستدير
(7/357)
كالأفلاك فكان حقها حينئذ أن تتحرك مثلها
على الاستدارة وإما ذو ميل مستقيم فحقها السكون لكنها تتحرك
بأدنى قاسر، أما السكون فلأن الجسم الحاصل في الحيز الطبيعي
لما يتحرك حركة طبيعية آنية لاستلزامها الخروج عن الحيز
الطبيعي ولا يتصور من الأرض الحركة الإرادية لكونها عديمة
الشعور، وأما التحرك بأدنى قاسر فيحكم به بالضرورة من له تخيل
صحيح، واستوضح ذلك من كرة حقيقية على سطح حقيقي فإنها لا تماسه
إلا بنقطة فبأدنى شيء ولو نفخة تتدحرج عن مكانها. نعم الواقع
في نفس الأمر أحد الأمرين معينا وذكرهما توسيع للدائرة وهو أمر
شائع فيما بينهم فيندفع قوله: وأما الثاني فلأن الفلاسفة إلخ،
وأما قوله: إنه قد ثبت في الهندسة إلخ فجوابه أنهم قد صرحوا في
كتب الهيئة بأن في كل إقليم ثلاثين جبلا بل أكثر فنسبة كل جبل
وإن كانت كالنسبة المذكورة لكن يجوز أن يكون مجموعها مانعا عن
حركتها كالحبل المؤلف من الشعرات المخالف حكمه حكم كل شعرة،
على أن تلك النسبة باعتبار الحجم ومنعها عن حركتها باعتبار
الثقل وثقل هذه الجبال يكاد أن يقاوم ثقل الأرض لأن الجبال
أجسام صلبة حجرية والأرض رخوة متخلخلة كالكرة الخشبية التي
ألزقت عليها حبات من حديد، وما يقال: من أن فيه غير ذلك ابتناء
على
قواعد الفلسفة فلا يطعن فيه لأن ذلك الابتناء غير مضر إن لم
يخالف القواعد الشرعية كما فيما نحن فيه، واعترض على ما ادعى
المعترض صحته بأنه يرد عليه ما أورده، وظني أنه بعد الوقوف على
مراده لا يرد عليه شيء مما ذكر، ونحن قد أسلفنا نحوه وأطنبنا
الكلام في هذا المقام ومنه يظهر ما هو الأوفق بقواعد الإسلام،
ثم ما ذكره المجيب من أن المصرح به في كتب الهيئة أن في كل
إقليم ثلاثين جبلا بل أكثر خلاف المشهور وهو أن في الإقليم
الأول عشرين وفي الثاني سبعة وعشرين وفي الثالث ثلاثة وثلاثين
وفي الرابع خمسة وخمسين وفي الخامس ثلاثين وفي كل من السادس
والسابع أحد عشر والمجموع مائة وسبعة وثمانون جبلا على أن
كلامه لا يخلو عن مناقشة فتدبر، ومعنى أَلْقى على ما نقل ابن
عطية عن المتأولين خلق وجعل، واختار هو أنه أخص من ذلك وذلك
أنه يقتضي أن الله سبحانه أوجد الجبال من محض قدرته واختراعه
لا من الأرض ووضعها عليها وأيد بأخبار رووها في هذا المقام وقد
تقدم بعضها، ولم يعد بعلى كما في قوله تعالى: وَأَلْقَيْتُ
عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي [طه: 39] للإشارة إلى كمال الجبال
ورسوخها وثباتها في الأرض حتى كأنها مسامير في ساحة وانظر هل
تعد من الأرض فيحنث من حلف لا يجلس على الأرض إذا جلس عليها أم
لا فلا يحنث لم يحضرني من تعرض لذلك، والظاهر الأول لعد العرف
إياها منها وإن كان ظاهر هذه الآية كغيرها عدم العد، وقوله
تعالى: وَأَنْهاراً عطف على رواسي والعامل فيه أَلْقى إلا أن
تسلطه عليه باعتبار ما فيه من معنى الجعل والخلق أو تضمينه
إياه، وعلى التقديرين لا إضمار وهو الذي اختاره غير واحد، وجوز
أن يكون مفعولا به لفعل مضمر وليس إجماعا خلافا لابن عطية. أي
وجعل أو خلق أنهارا نظير ما قيل في قوله: علفتها تبنا وماء
باردا. وقدر أبو البقاء شق والعطف حينئذ من عطف الجمل وكأنه
لما كان أغلب منابع الأنهار من الجبال ذكر الأنهار بعد ما ذكر
الجبال، وقوله تعالى: وَسُبُلًا عطف على أَنْهاراً أي وجعل
طرقا لمقاصدكم لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ لها فالتعليل بالنظر
إلى قوله تعالى: وَسُبُلًا كما هو الظاهر، ويجوز أن يكون
تعليلا بالنظر إلى جميع ما تقدم لأن تلك الآثار العظام تدل على
بطلان الترك، وقيل: تدل على وجود فاعل حكيم ففي قوله تعالى:
تَهْتَدُونَ تورية حينئذ وَعَلاماتٍ معالم يستدل بها السابلة
من نحو جبل ومنهل ورائحة تراب، فقد حكي أن من الناس من يشم
التراب فيعرف بشمه الطريق وإنها مسلوكة أو غير مسلوكة ولذا
سميت المسافة مسافة أخذا لها من السوف بمعنى الشم، وأخرج ابن
جرير، وغيره عن ابن عباس أنها معالم الطرق بالنهار. وعن الكلبي
أنها الجبال وعن قتادة أنها النجوم، وقال ابن عيسى: المراد
منها الأمور التي يعلم بها ما يراد من خط أو لفظ أو إشارة أو
هيئة، والظاهر ما ذكر أولا وأغرب ما فسرت به وأبعده أن المراد
منها حيتان طوال رقاق كالحيات في ألوانها وحركاتها تكون في بحر
(7/358)
الهند الذي يسار إليه من اليمن، سميت بذلك
لأنها إذا ظهرت كانت علامة للوصول إلى بلاد الهند وأمارة
للنجاة وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ بالليل في البر والبحر،
والمراد بالنجم الجنس فبينما الخنس وغيرها مما يهتدى به، وعن
السدي تخصيص ذلك بالثريا والفرقدين وبنات نعش والجدي وعن
الفراء تخصيصه بالجدي والفرقدين، وعن بعضهم أنه الثريا فإنه
علم بالغلبة لها، ففي الحديث إذا طلح النجم ارتفعت العاهة،
وقال الشاعر:
حتى إذا ما استقر النجم في غلس ... وغودر البقل ملويّ ومحصود
وعن ابن عباس أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال:
هو الجدي
ولو صح هذا لا يعدل عنه، والجدي هو جدي الفرقد، وهو على ما في
المغرب بفتح الجيم وسكون الدال والمنجمون يصغرونه فرقا بينه
وبين البرج، وقيل: إنه كذلك لغة، واستدل على إرادة ما يعم ذلك
بما في اللوامح أنه قرأ «وبالنجم» بضمتين وعن ابن وثاب أنه قرأ
بضم فسكون فإن ذلك في القراءتين جمع كسقف وسقف ورهن ورهن
والتسكين قيل للتخفيف، وقيل: لغة، والقول بأن ذلك جمع على فعل
أولى مما قيل: إن أصله النجوم فحذفت الواو وزعم ابن عصفور أن
قولهم: النجم من ضرورة الشعر وأنشد:
إن الذي قضى بذا قاض حكم ... أن يرد الماء إذ غاب النجم
وهو نظير قوله: حتى إذا ابتلت حلاقيم الحلق. والضمير يحتمل أن
يكون عاما لكل سالك في البر والبحر من المخاطبين فيما تقدم،
وتغيير التعبير للالتفات، وتقديم الجار والمجرور للفاصلة
والضمير المنفصل للتقوى، ويحتمل أن يكون الضمير لقريش لأنهم
كانوا كثيري الأسفار للتجارة مشهورين للاهتداء في مسايرهم
بالنجم، وإخراج الكلام عن سنن الخطاب، وتقديم الجار والضمير
للتخصيص كأنه قيل: وبالنجم خصوصا هؤلاء خصوصا يهتدون،
فالاعتبار بذلك والشكر عليه بالتوحيد ألزم لهم وأوجب عليهم،
وجعل بعضهم الآية أصلا لمراعاة النجوم لمعرفة الأوقات والقبلة
والطرق فلا بأس بتعلم ما يفيد تلك المعرفة، لكن معرفة عين
القبلة على التحقيق بالنجوم متعسر بل متعذر كما أفاده العلامة
الرباني أبو العباس أحمد بن البناء لأنه إن اعتبر ذلك بما
يسامت رؤوس أهل مكة من النجوم فليس مسقط العمود منه على بسيط
مكة هو العمود الواقع منه على بسيط غيرها من المدن، وإن اعتبر
بالجدي فلا يلزم من أن يكون في مكة على الكتف أو على المنكب أن
يكون في غيرها كذلك إلا لمن يكون في دائرة السمت المارة برؤوس
أهل مكة والبلد الآخر، وذلك مجهول لا يتوصل إليه إلا بمعرفة ما
بين الطولين والعرضين وهو شيء اختلف في مقداره ولم يتعين
الصحيح فيه، وقول من قال: إن ذلك يعرف بجعل المصلي مثلا الشمس
بين عينيه إذا استوت في كبد السماء أطول يوم في السنة فمتى فعل
ذلك فقد استقبل البيت إن أراد بكبد السماء فيه كبد سماء بلده
فليس بصحيح لأن الشمس لا تستوي في كبد السماء في وقت واحد في
بلدين متنائيين كثيرا، وإن أراد به كبد سماء مكة فلا يعلم ذلك
في بلد آخر إلا بمعرفة ما بين البلدين في الطول، وقد سمعت ما
في ذلك من الاختلاف، ويقال نحو هذا فيما يشبه ما ذكر بل قال
قدس سره: إن معرفة ذلك على التحقيق بما يذكرونه من الدائرة
الهندية ونحوها متعذر أيضا لأن مبنى جميع ذلك على معرفة
الأطوال والعروض ودون تحقيق ذلك خرط القتاد، فلا ينبغي أن يكون
الواجب على المصلي إلا تحري الجهة ومعرفة الجهة تحصل بالنجوم
وكذا بغيرها مما هو مذكور في محله أَفَمَنْ يَخْلُقُ ما ذكر من
المخلوقات البديعة أو يخلق كل شيء يريده كَمَنْ لا يَخْلُقُ
شيئا ما جليلا أو حقيرا، وهو تبكيت للكفرة وإبطال لإشراكهم
وعبادتهم غيره تعالى شأنه من الأصنام بإنكار ما يستلزمه ذلك من
المشابهة بينه سبحانه وبينه بعد تعداد ما يقتضي ذلك اقتضاء
ظاهرا، وتعقيب الهمزة بالفاء لتوجيه الإنكار إلى ترتب توهم
المشابهة المذكورة على ما فعل سبحانه من الأمور
(7/359)
العظيمة الظاهرة الاختصاص به تعالى شأنه
المعلومة كذلك فيما بينهم حسبما يؤذن به غير آية والاقتصار على
ذكر الخلق من بين ما تقدم لكونه أعظمه وأظهره واستتباعه إياه
أو لكون كل من ذلك خلقا مخصوصا أي أبعد ظهور اختصاصه سبحانه
بمبدئية هذه الشؤون الواضحة الدالة على وحدانيته تعالى وتفرده
بالألوهية واستحقاق العبادة يتصور المشابهة بينه وبين ما هو
بمعزل عن ذلك بالمرة كما هو قضية إشراككم، وكان حق الكلام بحسب
الظاهر في بادئ النظر أفمن لا يخلق كمن يخلق، لكن قيل: حيث كان
التشبيه نسبة تقوم بالمنتسبين اختير ما عليه النظم الكريم
مراعاة لحق سبق الملكة على العدم وتفاديا عن توسيط عدمها بينها
وبين جزئياتها المفصلة قبلها وتنبيها على كمال قبح ما فعلوه من
حيث إن ذلك ليس مجرد رفع أصنامهم عن محلها بل حط لمنزلة
الربوبية إلى مرتبة الجماد ولا ريب أنه أقبح من الأول، والمراد
بمن لا يخلق كل ما هذا شأنه من ذوي العلم كالملائكة وعيسى
عليهم السلام وغيرهم كالأصنام، وأتى بمن تغليبا لذوي العلم على
غيرهم مع ما فيه من المشاكلة أو ذوو العلم خاصة ويعرف منه حال
غيرهم بدلالة النص، فإن من يخلق حيث لم يكن كمن لا يخلق وهو من
جملة ذوي العلم فما ظنك بالجماد، وقيل: المراد به الأصنام
خاصة، والتعبير بمن إما للمشاكلة أو بناء على ما عند عبدتهما،
والأولى ما تقدم، ودخول الأصنام في حكم عدم المشابهة إما بطريق
الاندراج أو بطريق الانفهام بدلالة النص على الطريق البرهاني
قاله بعض المحققين.
واستدل بالآية على بطلان مذهب المعتزلة في زعمهم أن العباد
خالقون لأفعالهم.
وقال الشهاب بعد أن قرر تقدير المفعول عاما على طرز ما ذكرنا:
وجوز أن يكون العموم فيه مأخوذا من تنزيل الفعل منزلة اللازم
أنه علم من هذا عدم توجه الاحتجاج بها على المعتزلة في إبطال
قولهم بخلق العباد أفعالهم كما وقع في كتب الكلام لأن السلب
الكلي لا ينافي الإيجاب الجزئي اه حسبما وجدناه في النسخ التي
بأيدينا ولعلها سقيمة وإلا فلا أظن إلا كبوة جواد وهو ظاهر
أَفَلا تَذَكَّرُونَ أي ألا تلاحظون فلا تتذكرون ذلك فإنه
لجلائه لا يحتاج إلى شيء سوى التذكر وهو مراجعة ما سبق تصوره
وذهل عنه، وقدر بعضهم المفعول عدم المساواة، وذكر أنه لعدم
سبقه حتى يتصور فيه حقيقة التذكر بأن يتصور ويذهل عنه جعل
التذكر استعارة تصريحية للعلم به، وقيل: الاستعارة مكنية في
المفعول المقدر وإثبات التذكر تخييل فتذكر.
وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوها تذكير اجمالي
لنعمه تعالى بعد تعداد طائفة منها، وفصل ما بينهما بقوله
تعالى: أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ كما قيل للمبادرة
إلى الزام الحجة والقام الحجر إثر تفصيل ما فصل من الأفاعيل
التي هي أدلة التوحيد، ودلالتها عليه وإن لم تكن مقصورة على
حيثية الخلق ضرورة ظهور دلالتها عليه من حيثية الإنعام أيضا
لكنها حيث كانت من مستتبعات الحيثية الأولى استغني عن التصريح
بها ثم بين حالها بطريق الإجمالي أي إن تعدوا نعمه تعالى
الفائضة عليكم مما ذكر ومما يذكر لا تطيقوا حصرها وضبط عددها
فضلا عن القيام بشكرها، وقد تقدم الكلام في تحقيق ذلك حسبما من
الله تعالى به إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ حيث يستر ما فرط منكم
من كفرانها والإخلال بالقيام بحقوقها ولا يعاجلكم بالعقوبة على
ذلك رَحِيمٌ حيث يفيضها عليكم مع استحقاقكم للقطع والحرمان بما
تأتون وما تذرون من أصناف الكفر والعصيان التي من جملتها
المساواة بين الخالق وغيره، وكل من ذينك الستر والإفاضة وأيما
نعمة، فالجملة تعليل للحكم بعدم الإحصاء، وتقديم المغفرة على
الرحمة لتقدم التخلية على التحلية وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما
تُسِرُّونَ أي تضمرونه من العقائد والأعمال وَما تُعْلِنُونَ
أي تظهرونه منهما، وحذف العائد لمراعاة الفواصل أي يستوي
بالنسبة إلى علمه سبحانه المحيط الأمران، وفي تقديم الأول على
الثاني تحقيق للمساواة على أبلغ وجه، وفي ذلك من الوعيد
والدلالة على اختصاصه تعالى بصفات الإلهية ما لا يخفى، أما
الأول فلأن علم
(7/360)
الملك القادر بمخالفة عبده يقتضي مجازاته،
وكثيرا ما ذكر علم الله تعالى وقدرته وأريد ذلك، وأما الثاني
فبناء على ما قيل: إن تقديم المسند إليه في مثل ذلك يفيد
الحصر، ومن هنا قيل: إنه سبحانه أبطل شركهم للأصنام أولا بقوله
تعالى: أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ وأبطله ثانيا
بقوله تبارك اسمه: وَاللَّهُ يَعْلَمُ إلخ كأنه قيل: إنه تعالى
عالم بذلك دون ما تشركون به فإنه لا يعلم ذلك بل لا يعلم شيئا
أصلا فكيف يعد شريكا لعالم السر والخفيات.
وفي الكشف أن في الجملة الأولى إشعارا بأنه تعالى وما كلفهم حق
الشكر لعدم الإمكان وتجاوز سبحانه عن الممكن إلى السهل
الميسور، وفي الثانية ما يشعر بأنهم قصروا في هذا الميسور أيضا
فاستحقوا العتاب.
وَالَّذِينَ يَدْعُونَ شروع في تحقيق أن آلهتهم بمعزل عن
استحقاق العبادة وتوضيحه بحيث لا يبقى فيه شائبة ريب بتعداد
أحوالها المنافية لذلك منافاة ظاهرة، وكأنها إنما شرحت مع
ظهورها للتنبيه على كمال حماقة المشركين وأنهم لا يعرفون ذلك
إلا بالتصريح أي والآلهة الذين تعبدونهم أيها الكفار مِنْ
دُونِ اللَّهِ سبحانه لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً من الأشياء أصلا
أي ليس من شأنهم ذلك، وذكر بعض الأجلة أن ذكر هذا بعد نفي
التشابه والمشاركة للاستدلال على ذلك فكأنه قيل: هم لا يخلقون
شيئا ولا يشارك من يخلق من لا يخلق فينتج من الثالث هم لا
يشاركون من يخلق ويلزمه أن من يخلق لا يشاركهم فلا تكرار، وقيل
عليه: إنه مبني على أن من يخلق ومن لا مجرى على غير معين،
ويفهم من سابق كلام هذا البعض أنه بنى الكلام على أن الأول هو
الله تعالى والثاني الأصنام، ويقتضي تقريره هناك عدم الحاجة
إلى هذه المقدمة للعلم بها وكونها مفروغا عنها، فالوجه أن
التكرار لمزاوجة قوله تعالى وَهُمْ يُخْلَقُونَ وتعقب بأن
المصرح به العموم في الموضعين وأما التخصيص فيهما بما ذكر فلأن
من يخلق عندنا مخصوص به تعالى في الخارج اختصاص الكوكب النهاري
بالشمس وإن عم باعتبار مفهومه، ومن لا يخلق وإن عم ذهنا وخارجا
فتفسيره بمن عبد لاقتضاء المقام له، ومقتضى التقرير ليس عدم
الحاجة إلى المقدمة بل هو كونها في غاية الظهور بحيث لا يحتاج
إلى إثباتها وهذا مصحح لكونها جزءا من الدليل، وإذا ظهر المراد
بطل الإيراد اه، ولعل الأوجه في توجيه الذكر ما أشرنا إليه
أولا، وحيث إنه لا تلازم أصلا بين نفي الخالقية وبين المخلوقية
أثبت ذلك لهم صريحا على معنى شأنهم أنهم يخلقون إذ المخلوقية
مقتضى ذواتهم لأنها ممكنة مفتقرة في وجودها وبقائها إلى
الفاعل، وبناء الفعل للمفعول- كما قال بعض الأجلة- لتحقيق
التضاد والمقابلة بين ما أثبت لهم وما نفي عنهم من وصف
الخالقية والمخلوقية وللإيذان بعدم الحاجة إلى بيان الفاعل
لظهور اختصاص بفاعله جل جلاله. ولعل تقديم الضمير هنا لمجرد
التقوى، والمراد بالخلق منفيا ومثبتا المعنى المتبادر منه.
وجوز أن يراد من الثاني النحت والتصوير بناء على أن المراد من
الذين يدعونهم الأصنام، والتعبير عنهم بما يعبر عنه عن العقلاء
لمعاملتهم إياهم معاملتهم، والتعبير عن ذلك بالخلق لرعاية
المشاكلة، وفي ذلك من الإيماء بمزيد ركاكة عقول المشركين ما
فيه حيث أشركوا بخالقهم مخلوقيهم، وإرادة هذا المعنى من الأول
أيضا ليست بشيء إذ القدرة على مثل ذلك الخلق ليست مما يدور
عليه استحقاق العبادة أصلا. وقرأ الجمهور بالتاء المثناة من
فوق في «تسرون» و «تعلنون» و «تدعون» وهي قراءة مجاهد والأعرج
وشيبة وأبي جعفر وهبيرة عن عاصم، وفي المشهور عنه أنه قرأ
بالياء آخر الحروف في الأخير وبالتاء في الأولين، وقرئت
الثلاثة بالياء في رواية عن أبي عمرو وحمزة، وقرأ الأعمش
«والله يعلم الذي تبدون وما تكتمون والذين تدعون» إلخ بالتاء
من فوق في الأفعال الثلاثة، وقرأ طلحة «ما تخفون» و «ما
تعلنون» . و «تدعون» بالتاء كذلك، وحملت القراءتان على التفسير
لمخالفتهما لسواد المصحف، وقرأ محمد اليماني
(7/361)
«يدعون» بضم الياء وفتح العين مبنيا
للمفعول أي يدعونهم الكفار ويعبدونهم أَمْواتٌ خبر ثان للموصول
أو خبر مبتدأ محذوف أي هم أموات، وصرح بذلك لما أن إثبات
المخلوقية لهم غير مستدع لنفي الحياة عنهم لما أن بعض
المخلوقين أحياء، والمراد بالموت على أن يكون المراد من المخبر
عنه الأصنام عدم الحياة بلا زيادة عما من شأنه أن يكون حيا.
وقوله سبحانه: غَيْرُ أَحْياءٍ خبر بعد خبر أيضا أو صفة
أَمْواتٌ وفائدة ذكره التأكيد عند بعض، واختير التأسيس وذلك أن
بعض ما لا حياة فيه قد تعتريه الحياة كالنطفة فجيء به للاحتراز
عن مثل هذا البعض فكأنه قيل: هم أموات حالا وغير قابلين للحياة
مآلا، وجوز أن يكون المراد من المخبر عنه بما ذكر ما يتناول
جميع معبوداتهم من ذوي العقول وغيرهم فيرتكب في أَمْواتٌ عموم
المجاز ليشمل ما كان له حياة ثم مات كعزيز أو سيموت كعيسى
والملائكة عليهم الصلاة والسلام وما ليس من شأنه الحياة أصلا
كالأصنام.
وغَيْرُ أَحْياءٍ على هذا إذا فسر بغير قابلين للحياة يكون من
وصف الكل بصفة البعض ليكون تأسيسا في الجملة وإذا اعتبر
التأكيد فالأمر ظاهر، وجوز أن من أولئك المعبودين الملائكة
عليهم الصلاة والسلام وكان أناس من المخاطبين يعبدونهم، ومعنى
كونهم أمواتا أنهم لا بد لهم من الموت وكونهم غير أحياء غير
تامة حياتهم والحياة التامة هي الحياة الذاتية التي لا يرد
عليها الموت، وجوز في قراءة وَالَّذِينَ يَدْعُونَ بالياء آخر
الحروف أن يكون الأموات هم الداعين، وأخبر عنهم بذلك تشبيها
لهم بالأموات لكونهم ضلالا غير مهتدين، ولا يخفى ما فيه من
البعد وَما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ الضمير الأول
للآلهة والثاني لعبدتها، والشعور العلم أو مباديه، وقال
الراغب: يقال شعرت أي أصبت الشعر، ومنه استعير شعرت كذا أي
علمت علما في الدقة كإصابة الشعر، قيل: وسمي الشاعر شاعرا
لفطنته ودقة معرفته، ثم ذكر أن المشاعر الحواس وأن معنى لا
تشعرون لا تدركون بالحواس وأن لو قيل في كثير مما جاء فيه لا
تشعرون لا تعقلون لم يجز إذ كثير مما لا يكون محسوسا يكون
معقولا، وأَيَّانَ عبارة عن وقت الشيء ويقارب معنى متى، وأصله
عند بعضهم أي أو أن أي أي وقت فحذف الألف ثم جعل الواو ياء
وأدغم وهو كما ترى.
وقرأ أبو عبد الرحمن «إيان» بكسر الهمزة وهي لغة قومه سليم،
والظاهر أنّه معمول ليبعثون والجملة في موضع نصب- بيشعرون-
لأنه معلق عن العمل أي ما يشعر أولئك الآلهة متى يبعث عبدتهم،
وهذا من باب التهكم بهم بناء على إرادة الأصنام لأن شعور
الجماد بالأمور الظاهرة بديهي الاستحالة عند كل أحد فكيف بما
لا يعلمه إلا العليم الخبير. وفي البحر أن فيه تهكما بالمشركين
وأن آلهتهم لا يعلمون وقت بعثهم ليجازوهم على عبادتهم إياهم،
ولعل هذا جار على سائر الاحتمالات في الآلهة، وفيه تنبيه على
أن البعث من لوازم التكليف لأنه للجزاء والجزاء للتكليف فيكون
هو له وأن معرفة وقته لا بد منه في الألوهية، وقيل: ضميرا
يَشْعُرُونَ ويُبْعَثُونَ للآلهة ويلزم من نفي شعورهم بوقت
بعثهم نفي شعورهم بوقت بعث عبدتهم وهو الذي يقتضيه الظاهر، ومن
جوز أن يكون المراد من الأموات الكفرة الضلال جعل ضميري الجمع
هنا لهم، والكلام خارج مخرج الوعيد أي وما يشعر أولئك المشركون
متى يبعثون إلى التعذيب، وقيل: الكلام تم عند قوله تعالى: وَما
يَشْعُرُونَ وأَيَّانَ يُبْعَثُونَ ظرف لقوله سبحانه إِلهُكُمْ
إِلهٌ واحِدٌ على معنى أن الإله واحد يوم القيامة نظير مالِكِ
يَوْمِ الدِّينِ [الفاتحة: 4] قال أبو حيان: ولا يصح هذا القول
لأن أيان إذ ذاك تخرج عما استقر فيها من كونها ظرفا إما
استفهاما أو شرطا وتتمحض للظرفية بمعنى وقت مضافا للجملة بعده
نحو وقت يقوم زيد أقوم، على أن هذا التعلق في نفسه خلاف
الظاهر، والظاهر أن قوله سبحانه: إِلهُكُمْ تصريح بالمدعى
وتلخيص للنتيجة غب إقامة الحجة فَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ
بِالْآخِرَةِ وأحوالها التي
(7/362)
من جملتها البعث وما يعقبه من الجزاء
قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ للوحدانية جاحدة لها أو للآيات الدالة
عليها وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ عن الاعتراف بها أو عن الآيات
الدالة عليها، والفاء للإيذان بأن إصرارهم على الإنكار
واستمرارهم على الاستكبار وقع موقع النتيجة للدلائل الظاهرة
والبراهين القطعية فهي للسببية كما في قولك: أحسنت إلى زيد
فإنه أحسن إلي، والمعنى أنه قد ثبت بما قرر من الدلائل والحجج
اختصاص الإلهية به سبحانه فكان من نتيجة ذلك إصرارهم على
الإنكار واستمرارهم على الاستكبار، وبناء الحكم على الموصول
للإشعار بعلية ما في حيز الصلة له، فإن الكفر بالآخرة وبما
فيها من البعث والجزاء على الطاعة بالثواب وعلى المعصية
بالعقاب يؤدي إلى قصر النظر على العاجل وعدم الالتفات إلى
الدلائل الموجب لإنكارها وإنكار موادها والاستكبار عن اتباع
الرسول عليه الصلاة والسلام والإيمان به، وأما الإيمان بها
وبما فيها فيدعو لا محالة إلى الالتفات إلى الدلائل والتأمل
فيها رغبة ورهبة فيورث ذلك يقينا بالوحدانية وخضوعا لأمر الله
تعالى قاله بعض المحققين.
ومن الناس من قال: المراد وهم مستكبرون عن الإيمان برسول الله
صلى الله عليه وسلم واتباعه، فيكون الإنكار إشارة إلى كفرهم
بالله تعالى والاستكبار إشارة إلى كفرهم برسوله صلى الله عليه
وسلم والأول أظهر، وإسناد الإنكار إلى القلوب لأنها محله وهو
أبلغ من إسناده إليهم، ولعله إنما لم يسلك في إسناد الاستكبار
مثل ذلك لأنه أثر ظاهر كما تشير إليه الآية بعد وقد قال بعض
العلماء: كل ذنب يمكن التستر به وإخفاؤه إلا التكبر فإنه فسق
يلزمه الإعلان لا جَرَمَ أي حق أو حقا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ
ما يُسِرُّونَ من الإنكار وَما يُعْلِنُونَ من الاستكبار، وقال
يحيى بن سلام والنقاش: المراد هنا بما يسرون تشاورهم في دار
الندوة في قتل النبي عليه الصلاة والسلام، وهو كما ترى، وأيا
ما كان فالمراد من العلم بذلك الوعيد بالجزاء عليه، وأن وما
بعدها في تأويل مصدر مرفوع- بلا جرم- بناء على ما ذهب إليه
الخليل وسيبويه والجمهور من أنها اسم مركب مع لا تركيب خمسة
عشر وبعد التركيب صار معناها معنى فعل وهو حق فهي مؤولة بفعل.
وأبو البقاء يؤولها بمصدر قائم مقامه وهو حقا، وقيل: مرفوع-
بجرم- نفسها على أنها فعل ماض بمعنى ثبت ووجب ولا نافية لكلام
مقدر تكلم به الكفرة كقوله سبحانه: فَلا أُقْسِمُ [القيامة: 1،
البلد: 1] على وجه. وذهب الزجاج إلى أنه منصوب على المفعولية-
لجرم- على أنها فعل أيضا لكن بمعنى كسب وفاعلها مستتر يعود إلى
ما فهم من السياق ولا كما في القول السابق، وقيل: إنه خبر لا
حذف منه حرف الجر وجَرَمَ اسمها، والمعنى لا صدأ ولا منع في أن
الله يعلم إلخ، وقد مر تمام الكلام في ذلك.
وقرأ عيسى الثقفي «إن» بكسر الهمزة على الاستئناف والقطع مما
قبله على ما قال أبو حيان، ونقل عن بعضهم أنه قد يغني لا
جَرَمَ عن القسم تقول: لا جرم لآتينك وحينئذ فتكون الحملة جواب
القسم إِنَّهُ جل جلاله لا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ أي
مطلقا ويدخل فيه من استكبر عن التوحيد أو عن الآيات الدالة
عليه دخولا أوليا، وجوز أن يراد به أولئك المستكبرون والأول
أولى، وأيا ما كان فالاستفعال ليس للطلب مثله فيما تقدم، وجوز
كونه عاما مع حمل الاستفعال على ظاهره من الطلب أي لا يحب من
طلب الكبر فضلا عمن اتصف به، وقد فرق الراغب بين الكبر والتكبر
والاستكبار بعد القول بأنها متقاربة، والحق أنه قد يستعمل
بعضها موضع بعض، وسيأتي إن شاء الله تعالى ذكر ذلك آنفا وأظنه
قد تقدم أيضا والجملة تعليل لما تضمنه الكلام السابق من
الوعيد، والمراد من نفي الحب البغض وهو عند البعض مؤول بنحو
الانتقام والتعذيب، والأخبار الناطقة بسوء حال المتكبر يوم
القيامة كثيرة جدا.
وَإِذا قِيلَ لَهُمْ أي لأولئك المستكبرين، وهو بيان لإضلالهم
غب بيان ضلالهم، وقيل: الضمير لكفار قريش الذين كانوا- كما روي
عن قتادة- يقعدون بطريق من يغدو على النبي صلى الله عليه وسلم
ليطلع على جلية أمره فإذا مر بهم قال
(7/363)
لهم: ماذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ على محمد
عليه الصلاة والسلام قالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ أي ما
كتبه الأولون كما قالوا:
اكْتَتَبَها فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ [الفرقان: 5] فالأساطير
جمع اسطار جمع سطر فهو جمع الجمع وقال المبرد: جمع أسطورة
كأرجوحة وأراجيح ومقصودهم من ذلك أنه لا تحقيق فيه، وقيل:
القائل لهم بعض المسلمين ليعلموا ما عندهم وقيل: القائل بعضهم
على سبيل التهكم وإلا فهو لا يعتقد إنزال شيء، ومثل هذا يقال
في الجواب عن تسميته بالمنزل في الجواب بناء على تقدير المبتدأ
فيه ذلك، ويجوز أن يسموه بما ذكر على الفرض والتسليم ليردوه
كقوله هذا رَبِّي [الأنعام: 77، 78] وقيل: قدروه منزلا مجاراة
ومشاكلة.
وفي الكشاف أن ماذا منصوب- بأنزل- أي أي شيء أنزل ربكم أو
مرفوع بالابتداء بمعنى أي شيء أنزله ربكم، فإذا نصبت فمعنى
أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ ما تدعون نزوله ذلك، وإذا رفعت
فالمعنى المنزل ذلك كقوله تعالى:
ماذا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ [البقرة: 219] فيمن رفع اه،
وقد خفي تحقيق مرامه على بعض المحققين، فقد قال صاحب الفرائد:
الوجه أن يكون مرفوعا بالابتداء بدليل رفع أَساطِيرُ فإن جواب
المرفوع مرفوع وجواب المنصوب منصوب ولم يقرأ أحد هنا بالنصب.
وقال صاحب التقريب: إن في كلام الزمخشري نظرا وبينه بما بينه
وأجاب بما أجاب، وأطال الطيبي الكلام في ذلك، وقد أجاد صاحب
الكشف في هذا المقام فقال: إن قوله أو مرفوع بالابتداء بمعنى
أي شيء أنزله إيضاح وإلا فالمعنى ما الذي أنزله على المصرح به
في المفصل إذ لا وجه لحذف الضمير من غير استطالة (1) مع أن
اللفظ يحتمل النصب والرفع احتمالا سواء، وعلى ذلك يلوح الفرق
بين التقديرين ظهورا بينا، فإن المنصوب وإن دل على ثبوت أصل
الفعل وأن السؤال عن المفعول متقاعد عن دلالة المرفوع فقد علم
أن الجملة التي تقع صلة للموصول حقها أن تكون معلومة للمخاطب
وأين الحكم المسلم المعلوم من غيره، وإذا ثبت ذلك فليعلم أنه
على تقديرين لم يطابق به الجواب لقوله في قالُوا خَيْراً
[النحل: 30] طوبق به الجواب بخلاف أَساطِيرُ وقوله هنا كقوله
تعالى ماذا يُنْفِقُونَ إلى آخره فيمن رفع تشبيه في العدول إلى
الرفع لا وجهه فإن الجواب هنالك طبق السؤال بخلاف ما نحن فيه،
وإنما قدر ما تدعون نزوله على تقدير النصب لأن السائل لم يكن
معتقدا لإنزال محقق بل سئل عن تعيين ما سمع نزوله في الجملة
فيكفي في رده إلى الصواب ما تدعون نزوله أساطير، وأما على
تقدير الرفع فلما دل على أن الإنزال عنده محقق مسلم لا نزاع
فيه وإنما السؤال عن التعيين للمنزل أجيب بأن ذلك المحقق عندك
أساطير تهكما إذ من المعلوم أن المنزل لا يكون أساطير فبولغ في
رده إلى الصواب بالتهكم به وأنه بت الحكم بالتحقيق في غير
موضعه فأرى السائل أنه طوبق ولم يطابق في الحقيقة بل بولغ في
الرد، ويشبه أن يكون الأول جوابا للسؤال فيما بينهم أو
الوافدين، والثاني جوابا عن سؤال المسلمين على ما ذكر من
الاحتمالين لا العكس على ما ظن، هذا هو الأشبه في تقرير قوله
الموافق لما ذكره من بعد على ما مر.
وجعل ما ذكره هنالك وجها ثالثا وأنه طوبق به الجواب هاهنا
وتوجيه اختلاف التقديرين ادعاء ونزولا بما مهدناه وإن ذهب إليه
الجمهور تكلف عنه غنى اه. وقرئ «أساطير» بالنصب كما نص عليه
أبو حيان. وغيره فإنكار صاحب الفرائد من قلة الاطلاع
لِيَحْمِلُوا متعلق- بقالوا- كما هو الظاهر أي قالوا ذلك لأن
يحملوا أَوْزارَهُمْ أي آثامهم الخاصة بهم وهي آثام ضلالهم،
وهو جمع وزر ويقال للثقل تشبيها بوزر الجبل، ويعبر بكل منهما
عن الإثم كما في
__________
(1) فيه تأمل فتأمل اه منه.
(7/364)
هذه الآية، وقوله تعالى ليحملوا أثقالهم:
كامِلَةً لم ينقص منها شيء ولم يكفر بنحو نكبة تصيبهم في
الدنيا أو طاعة مقبولة فيها كما تكفر بذلك أوزار المؤمنين،
وقال الإمام معنى ذلك أنه لا يخفف من عذابهم شيء بل يوصل إليهم
بكليته، وفيه دليل على أنه تعالى قد يسقط بعض العقاب عن
المؤمنين إذ لو كان هذا المعنى حاصلا للكل لم يكن لتخصيص هؤلاء
الكفار به فائدة، وحمل الأوزار مجاز عن العقاب عليها. وأخرج
ابن جرير عن زيد بن أسلم أنه بلغه أن الكافر يتمثل عمله في
صورة أقبح ما خلق الله تعالى وجها وأنتنه ريحا فيجلس إلى جنبه
كلما أفزعه شيء زاده وكلما يخاف شيئا زاده خوفا فيقول: بئس
الصاحب أنت ومن أنت؟ فيقول: وما تعرفني؟ فيقول: لا. فيقول: أنا
عملك كان قبيحا فلذلك تراني قبيحا وكان منتنا فلذلك تراني
منتنا طاطئ إليّ أركبك فطالما ركبتني في الدنيا فيركبه وهو
قوله تعالى: لِيَحْمِلُوا أَوْزارَهُمْ كامِلَةً يَوْمَ
الْقِيامَةِ ظرف ليحملوا وَمِنْ أَوْزارِ الَّذِينَ
يُضِلُّونَهُمْ أي وبعض أوزار من ضل بإضلالهم على معنى ومثل
بعض أوزارهم- فمن- تبعيضية لأن مقابلته لقوله تعالى: كامِلَةً
يعين ذلك.
والمراد بهذا البعض حصة التسبب فالمضل والضال شريكان هذا يضله
وهذا يطاوعه فيتحاملان الوزر وللضال أوزار غير ذلك وليست تلك
محمولة، وقال الأخفش: إن مِنْ زائدة أي وأوزار الذين يضلونهم
على معنى أنهم يعاقبون عقابا يكون مساويا لعقاب كل من اقتدى
بهم، وإلى الزيادة ذهب أبو البقاء واعترض على التبعيض بأنه
يقتضي أن المضل غير حامل كل أوزار الضال وهو مخالف
للمأثور «من سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها من غير
أن ينقص ذلك من أوزارهم شيئا»
وفيه أن المأثور يدل على التبعيض لا أن بينهما مخالفة كما لا
يخفى، ولتوهم هذه المخالفة قال الواحدي: إن من للجنس أي
ليحملوا من جنس أوزار الاتباع، وتعقبه أبو حيان بأن من التي
لبيان الجنس لا تقدر بما ذكروا وإنما تقدر بقولنا الأوزار التي
هي أوزار الذين يضلونهم فيؤول من حيث المعنى إلى قول الأخفش
وإن اختلفا في التقدير، ولام لِيَحْمِلُوا للعاقبة لأن الحمل
مترتب على فعلهم وليس باعثا ولا غرضا لهم، وعن ابن عطية أنها
تحتمل أن تكون لام التعليل ومتعلقة بفعل مقدر لا بقالوا أي قدر
صدور ذلك ليحملوا، ويجيء حديث تعليل أفعال الله تعالى بالأغراض
وأنت تدري أن فيه خلافا.
وجوز في البحر كونها لام الأمر الجازمة على معنى أن ذلك الحمل
متحتم عليهم فيتم الكلام عند قوله سبحانه: أَساطِيرُ
الْأَوَّلِينَ والظاهر العاقبة، وصيغة الاستقبال في
يُضِلُّونَهُمْ للدلالة على استمرار الإضلال أو باعتبار حال
قولهم لا حال الحمل.
بِغَيْرِ عِلْمٍ حال من المفعول كأنه قيل: يضلون من لا يعلم
أنهم ضلال على الباطل، وفيه تنبيه على أن كيدهم لا يروج على ذي
لب وإنما يقلدهم الجهلة الأغبياء وفيه زيادة تعيير لهم وذم إذ
كان عليهم إرشاد الجاهلين لا إضلالهم، وقيل: إنه حال من الفاعل
أي يضلون غير عالمين بأن ما يدعون إليه طريق الضلال، وقيل:
المعنى حينئذ يضلون جهلا منهم بما يستحقونه من العذاب الشديد
على ذلك الإضلال، ونقل القول بالحالية عن الفاعل بنحو هذا
المعنى عن الواحدي، وزعم بعضهم أنه الوجه لا الحالية من
المفعول، وأيد بأن التذييل بقوله تعالى: أَلا ساءَ ما
يَزِرُونَ وقوله سبحانه: مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ يقويه،
وليس بذاك، وما ذكر ظن من هذا المؤيد أنه إذا جعل حالا من
المفعول لم يكن له تعلق بما سيق له الكلام من حال المضلين وقد
هديت إلى وجهه.
ورجحه أبو حيان بأن المحدث عنه هو المسند إليه الإضلال على جهة
الفاعلية فاعتباره ذا الحال أولى، ويرد عليه مع ما يعلم مما
ذكر أن القرب يعارضه فلا يصلح مرجحا، وقيل: هو حال من ضمير
الفاعل في قالُوا على معنى قالوا ذلك غير عالمين بأنهم يحملون
يوم القيامة أوزار الضلال والإضلال وأيد بقوله تعالى:
وَأَتاهُمُ الْعَذابُ مِنْ
(7/365)
حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ
من حيث إن حمل ما ذكر من أوزار الضلال والإضلال من قبيل إتيان
العذاب من حيث لا يشعرون، ويرده أن الحمل المذكور كما هو صريح
الآية إنما هو يوم القيامة والعذاب المذكور إنما هو العذاب
الدنيوي كما ستسمعه إن شاء الله تعالى وجوز أن يكون حالا من
الفاعل والمفعول كما قال ذلك ابن جني في قوله: فَأَتَتْ بِهِ
قَوْمَها تَحْمِلُهُ [مريم: 27] وهو خلاف الظاهر، واستدل
بالآية على أن المقلد يجب عليه أن يبحث ويميز بين المحق
والمبطل ولا يعذر بالجهل، وهو ظاهر على ما قدمناه من الوجه
الأوجه أَلا ساءَ ما يَزِرُونَ أي بئس شيئا يزرونه ويرتكبونه
من الإثم فعلهم المذكور.
قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وعيد لهم برجوع غائلة
مكرهم عليهم كدأب من قبلهم من الأمم الخالية الذين أصابهم ما
أصابهم من العذاب العاجل، والمكر صرف الغير عما يقصده بحيلة
وهو هاهنا على ما قيل مجاز عن مباشرة أسبابه وترتيب مقدماته
لأن ما بعد يدل على أنه لم يحصل الصرف، وجوز أن يرتكب فيه
التجريد أي سووا منصوبات وحيلا ليخدعوا بها رسل الله عليهم
الصلاة والسلام فَأَتَى اللَّهُ بُنْيانَهُمْ مِنَ الْقَواعِدِ
أي من جهة الدعائم والعمد التي بنوا عليها بأن ضعضعت فمن
ابتدائية والبنيان اسم مفرد مذكر، ونقل الراغب عن بعض اللغويين
أنه جمع بنيانة مثل شعير وشعيرة وتمر وتمرة ونخل ونخلة وإن هذا
النحو من الجمع يصح تذكيره وتأنيثه، وأصل الإتيان كما قال
المجيء بسهولة وهو مستحيل بظاهره في حقه سبحانه ولذلك احتاج
بعضهم إلى تقدير مضاف أي أمر الله تعالى وروي ذلك عن قتادة،
وجعل ذلك في الكشاف من قبيل أتى عليه الدهر بمعنى أهلكه
وأفناه، وحينئذ لا حاجة إلى تقدير المضاف.
وقرئ «بنيتهم» وهو بمعنى بنائهم يقال بنيت أبني أبناء وبنية
وبنى نعم كثيرا ما يعبر بالبنية عن الكعبة وقرأ جعفر بيتهم
والضحاك «بيوتهم» فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ
فَوْقِهِمْ أي سقط عليهم سقف بنيانهم إذ لا يتصور له القيام
بعد تهدم قواعده ومِنْ متعلق بخر وهي لابتداء الغاية أو متعلق
بمحذوف على أنه حال من السقف مؤكدة، وقال ابن عطية وابن
الأعرابي إن مِنْ فَوْقِهِمْ ليس بتأكيد لأن العرب تقول خر
علينا سقف ووقع علينا حائط إذا انهدم في ملك القائل وإن لم يقع
عليه حقيقة فهو لبيان أنهم كانوا تحته حين هدم. ومن الناس من
زعم أن على بمعنى عن وهي للتعليل والكلام على تقدير مضاف أي خر
من أجل كفرهم السقف وجيء بقوله تعالى: مِنْ فَوْقِهِمْ مع خر
لدفع توهم أن يكون قد خروهم ليسوا تحته، ولا يخفى أنه تطويل من
غير طائل بل كلام لا ينبغي أن يتفوه به فاضل والكلام تمثيل
يعني أن حالهم في تسويتهم المنصوبات والحيل ليمكروا بها رسل
الله تعالى عليهم الصلاة والسلام وإبطال الله إياها وجعلها
سببا لهلاكهم كحال قوم بنوا بنيانا وعمدوه بالأساطين فأتى ذلك
من قبل أساطينه بأن ضعضعت فسقط عليهم السقف وهلكوا تحته، ووجه
الشبه أن ما نصبوه وخيلوه سبب التحصن والاستيلاء صار سبب
البوار والفناء فالأساطين بمنزلة المنصوبات وانقلابها عليهم
مهلكة كانقلاب تلك الحيل على أصحابها والبنيان ما كان زوروه
وروجوا فيه تلك المنصوبات وتواطؤوا عليه من الرأي المدعم
بالمكائد، ويشبه ذلك قولهم، من حفر لأخيه جبا وقع فيه منكبا.
ويقرب من هذا ما قيل إن المراد أحبط الله تعالى أعمالهم، وقيل
الأمر مبني على الحقيقة، وذلك أن نمرود بن كنعان بنى صرحا
ببابل ليصعد بزعمه إلى السماء ويعرف أمرها ويقاتل أهلها وأفرط
في علوه فكان طوله في السماء على ما حكى النقاش وروي عن كعب
فرسخين. وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ووهب: كان ارتفاعه
خمسة آلاف ذراع وعرشه ثلاثة آلاف ذراع فبعث الله تعالى عليه
ريحا فهدمته وخر سقفه عليه وعلى أتباعه فهلكوا، وقيل:
هدمه جبريل عليه السلام بجناحه ولما سقط تبلبلت الناس من الفزع
فتكلّموا يومئذ بثلاث وسبعين لسانا فلذلك سميت
(7/366)
بابل وكان لسان الناس قبل ذلك السريانية،
ولا يخفى ما في هذا الخبر من المخالفة للمشهور لأن موجبه أن
هلاك نمرود كان بما ذكر والمشهور أنه عاش بعد قصة الصرح وأهلكه
الله تعالى ببعوضة وصلت لدماغه إظهارا لكمال خسته وعجزه وجازاه
سبحانه من جنس عمله لأنه صعد إلى جهة السماء بالنسور فأهلكه
الله تعالى بأخس الطيور، وما ذكر في وجه تسمية المكان المعروف
ببابل هو المشهور، وفي معجم البلدان أن مدينة بابل يوراسف
الجبار واشتق اسمها من المشتري لأن بابل باللسان البابلي الأول
اسم للمشتري وأخربها الإسكندر، وما ذكر من أن اللسان كان قبل
ذلك السريانية ذكره البغوي ونظر فيه الخازن بأن صالحا عليه
السلام وقومه كانوا قبل وكانوا يتكلمون بالعربية وكان قبائل
قبل إبراهيم عليه السلام مثل طسم وجديس يتكلمون بالعربية أيضا
وقد يدفع بالعناية.
وقال الضحاك: الآية إشارة إلى قوم لوط عليه السلام وما فعل بهم
وبقراهم، والكلام أيضا مبني على الحقيقة واختار جماعة بناءه
على التمثيل حسبما سمعت وعليه فالمراد على المختار من الذين
كفروا من قبل ما يشمل جميع الماكرين الذين هدم عليهم بنيانهم
وسقط في أيديهم وقرأ الأعرج السقف وزيد بن علي رضي الله تعالى
عنهما ومجاهد السَّقْفُ بضم السين فقط وكلاهما جمع سقف وفعل
وفعل على ما قال أبو حيان محفوظان في جمع فعل وليسا مقيسين فيه
ويجمع على سقوف وهو القياس. وقرأت فرقة السَّقْفُ بفتح السين
وضم القاف وهي لغة في السقف، وذكر أن الأصل مضموم القاف وساكنه
مخففة وكثر استعماله على عكس قولهم رجل بفتح فضم ورجل بفتح
فسكون وهي لغة تميمية وَأَتاهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا
يَشْعُرُونَ بإتيانه منه بل يتوقعون إتيان مقابله مما يريدون
ويشتهون، والمراد به العذاب العاجل، وفي عطف هذه الجملة على ما
تقدم تهويل لأمر هلاكهم، ويدل على أن المراد به العاجل قوله
سبحانه: ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يُخْزِيهِمْ أي يذلهم،
والظاهر أن ضمائر الجمع- للذين مكروا- من قبل كأنه قيل: قد مكر
الذين من قبلهم فعذبهم الله تعالى في الدنيا ثم يعذبهم في
العقبى، وثُمَّ للإيماء إلى ما بين الجزاءين من التفاوت مع ما
تدل عليه من التراخي الزماني، وتقديم الظرف على الفعل قيل لقصر
الاخزاء على يوم القيامة، والمراد به ما بين بقوله سبحانه:
وَيَقُولُ أي لهم تفضيحا وتوبيخا أَيْنَ شُرَكائِيَ إلى آخره،
ولا شك أن ذلك لا يكون إلا في ذلك اليوم، وقال بعض المحققين:
ليس التقديم لذلك بل لأن الأخبار بجزائهم في الدنيا مؤذن بأن
لهم جزاء أخرويا فتبقى النفس مترقبة إلى وروده سائلة عنه بأنه
ماذا مع تيقنها بأنه في الآخرة فسيق الكلام على وجه يؤذن بأن
المقصود بالذكر جزاؤهم لا كونه في الآخرة، وذكر أيضا أن الجملة
المذكورة عطف على مقدر ينسحب عليه الكلام أي هذا الذي فهم من
التمثيل من عذاب هؤلاء الماكرين القائلين في القرآن العظيم
أساطير الأولين أو ما هو أعم منه، ومما ذكر من عذاب أولئك
الماكرين من قبل جزاؤهم في الدنيا ويوم القيامة يخزيهم إلى
آخره، ثم قال:
والضمير إما للمغترين في حق القرآن الكريم أو لهم ولمن مثلوا
بهم من الماكرين، وتخصيصه بهم يأباه السباق والسياق اه.
وفيه من ارتكاب خلاف الظاهر ما فيه فليتأمل، وفسر بعضهم
الاخزاء بما هو من روادف التعذيب بالنار لأنه الفرد الكامل وقد
قال تعالى: إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ
أَخْزَيْتَهُ [آل عمران: 192] وقيل عليه: إن قوله سبحانه:
أَيْنَ شُرَكائِيَ إلى آخره يأباه لأنه قبل دخولهم النار.
وأجيب بأن الواو لا تقتضي الترتيب، وأنت تعلم أن الأولى مع هذا
حمله على مطلق الإذلال، وإضافة الشركاء إلى نفسه عز وجل لأدنى
ملابسة بناء على زعمهم أنهم شركاء لله سبحانه عما يشركون فتكون
الآية كقوله تعالى: أَيْنَ شُرَكاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ
تَزْعُمُونَ [الأنعام: 22] .
وجوز أن يكون ما ذكر حكاية منه تعالى لإضافتهم فإنهم كانوا
يضيفون ويقولون: شركاء الله تعالى، وفي ذلك
(7/367)
زيادة في توبيخهم ليست في أين أصنامكم مثلا
لو قيل، ولا يخفى أن هذا خزي وإهانة بالقول فإذا فسر الإخزاء
فيما تقدم بالتعذيب بالنار كانت الآية مشيرة إلى خزيين فعلي
وقولي، وأشير إلى الأول أولا لأنه أنسب بسابقه. وقرأ الجمهور
«شركائي» ممدودا مهموزا مفتوح الياء، وفرقة كذلك إلا أنهم
سكنوا الياء فتسقط في الدرج لالتقاء الساكنين، والبزي عن ابن
كثير بخلاف عنه بالقصر وفتح الياء، وأنكر ذلك جماعة وزعموا أن
هذه القراءة غير مأخوذ لأن قصر الممدود لا يجوز إلا ضرورة،
وليس كما قالوا فإنه يجوز في السعة، وقد وجه أيضا بأن الهمزة
المكسورة قبل الياء حذفت للتخفيف وليس كقصر الممدود مطلقا، مع
أنه قد روي عن ابن كثير قصر التي في [القصص: 62، 74] ووَرائِي
في [مريم: 5] ، وعن قنبل قصر أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى في [العلق:
7] فكيف يعد ذلك ضرورة.
نعم قال أبو حيان: إن وقوعه في الكلام قليل فاعرف ذلك فقد غفل
عنه كثير من الناس.
الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ أي تخاصمون وتنازعون
الأنبياء عليهم السلام وأتباعهم في شأنهم وتزعمون أنهم شركاء
حقا حين بينوا لكم ضد ذلك، وفسر بعضهم المشاقة بالمعاداة،
وتفسيرها بالمخاصمة ليظهر تعلق فِيهِمْ به ولا يحتاج إلى جعل
في للسببية أولى، وقيل: للمخاصمة مشاقة أخذا من شق العصا أو
لكون كل من المتخاصمين في شق والمراد بالاستفهام استحضارها
للشفاعة على طريق الاستهزاء والتبكيت، فإنهم كانوا يقولون: إن
صح ما تقولون فالأصنام تشفع لنا، والاستفسار عن مكانتهم لا
يوجب غيبتهم حقيقة بل يكفي في ذلك عدم حضورهم بالعنوان الذي
كانوا يزعمون أنهم متصفون به فليس هناك شركاء ولا أماكنها.
وقيل: إن ذلك يوجب الغيبة، ويقال: إنه يحال بينهم وبين شركائهم
حينئذ ليتفقدوهم في ساعة علقوا الرجاء بها فيهم أو أنهم لما لم
ينفعوهم فكأنهم غيب. ولا يحتاج إلى هذا بعد ما علمت على أنه
أورد على قوله ليتفقدوهم إلى آخره أنه ليس بسديد، فإنه قد تبين
للمشركين حقيقة الأمر فرجعوا عن ذلك الزعم الباطل فكيف يتصور
منهم التفقد.
وأجيب بأنه يجوز أن يغفلوا لعظم الهول عن ذلك فيتفقدوهم، ثم إن
ما ذكر يقتضي حشر الأصنام وهو الذي يدل عليه كثير من الآيات
كقوله تعالى: إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ
حَصَبُ جَهَنَّمَ
[الأنبياء: 98] وقوله سبحانه: وَقُودُهَا النَّاسُ
وَالْحِجارَةُ [البقرة: 24، التحريم: 6] على قول، ولا أرى
مانعا من حمل الشركاء على معبوداتهم الباطلة بحيث تشمل ذوي
العقول أيضا. وقرأ الجمهور «تشاقون» بفتح النون، ونافع بكسرها
ورويت عن الحسن، ولا يلتفت إلى تضعيف أبي حاتم. وقرأت فرقة
بتشديدها على أنه أدغم نون الرفع في نون الوقاية. والكسر على
حذف ياء المتكلم والاكتفاء به أي تشاقونني. على أن مشاقة
الأنبياء عليهم السلام وأتباعهم كمشاقة الله تعالى شأنه ولولا
ذلك لم يصح تعليق المشاقة به سبحانه. أما إذا كانت بمعنى
المخاصمة فظاهر أنهم لم يخاصموا الله تعالى، وأما إذا كانت
بمعنى العداوة فلأنهم لا يعتقدون أنهم أعداء لله تعالى: وأما
قوله تعالى لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ
[الممتحنة: 1] يعني المشركين فمؤول أيضا بغير شبهة قالَ
الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ من أهل الموقف وهم الأنبياء عليهم
السلام والمؤمنون الذين أوتوا علما بدلائل التوحيد وكانوا
يدعونهم في الدنيا إلى التوحيد فيجادلونهم ويتكبرون عليهم،
واقتصر يحيى بن سلام على المؤمنين والأمر فيه سهل، وعن ابن
عباس رضي الله تعالى عنهم أنهم الملائكة عليهم السلام. ولم نقف
على تقييده إياهم. وعن مقاتل أنهم الحفظة منهم. ويشعر كلام
بعضهم بأنهم ملائكة الموت حيث أورد على القول بأنهم الملائكة
أن الواجب حينئذ يتوفونهم مكان تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ
وأنه يلزم منه الإبهام في موضع التعيين والتعيين في موضع
الإبهام. وهو كما قال الشهاب في غاية السقوط، وقيل: المراد كل
من اتصف بهذا العنوان من ملك وانسي وغير ذلك. والذي يميل إليه
القلب السليم القول الأول أي يقول أولئك توبيخا للمشركين
وإظهارا
(7/368)
للشماتة بهم وتقريرا لما كانوا يعظونهم
وتحقيقا لما أوعدوهم به. وإيثار صيغة الماضي للدلالة على تحقق
وقوعه وتحتمه حسبما هو المعهود في إخباره تعالى كقوله سبحانه:
وَنادى أَصْحابُ الْجَنَّةِ [الأعراف: 44] .
إِنَّ الْخِزْيَ الذلّ والهوان. وفسره الراغب بالذلّ الذي
يستحى منه الْيَوْمَ منصوب بالخزي على رأي من يرى إعمال المصدر
باللام كقوله: ضعيف النكاية أعداءه. أو بالاستقرار في الظرف
الواقع خبرا لإن، وفيه فصل بين العامل والمعمول بالمعطوف إلا
أنه مغتفر في الظرف. وأل للحضور أي اليوم الحاضر، وإيراده
للإشعار بأنهم كانوا قبل ذلك في عزة وشقاق وَالسُّوءَ العذاب
ومن الخزي به جعل ذكر هذا للتأكيد عَلَى الْكافِرِينَ بالله
تعالى وآياته ورسله عليهم السلام الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ
الْمَلائِكَةُ بتأنيث الفعل، وقرأ حمزة والأعمش «يتوفاهم»
بالتذكير هنا وفيما سيأتي إن شاء الله تعالى، والوجهان شائعان
في أمثال ذلك.
وقرئ بإدغام تاء المضارعة في التاء بعدها ويجتلب في مثله حينئذ
همزة وصل في الابتداء وتسقط في الدرج وإن لم يعهد همزة وصل في
أول فعل مضارع. وفي مصحف عبد الله بتاء واحدة في الموضعين، وفي
الوصول أوجه الإعراب الثلاثة: الجر على أنه صفة الْكافِرِينَ
أو بدل منه أو بيان له، والنصب والرفع على القطع للذم وجوز ابن
عطية كونه مرتفعا بالابتداء وجملة فَأَلْقَوُا خبره. وتعقبه
أبو حيان بأن زيادة الفاء في البر لا تجوز هنا إلا على مذهب
الأخفش في إجازته وزيادتها في الخبر مطلقا نحو زيد فقام أي
قام، ثم قال: ولا يتوهم أن هذه الفاء هي الداخلة في خبر
المبتدأ إذا كان موصولا وضمن معنى الشرط لأنها لا يجوز دخولها
في مثل هذا الفعل مع صريح أداة الشرط فلا يجوز مع ما ضمن معناه
اه بلفظه. ونقل شهاب عنه أنه قال: إن المنع مع ما ضمن معناه
أولى. وتعقبه بأن كونه أولى غير مسلم لأن امتناع الفاء معه
لأنه لقوته لا يحتاج إلى رابط إذ صح مباشرته للفعل وما تضمن
معناه ليس كذلك، وكلامه الذي نقلناه لا يشعر بالأولوية فلعله
وجد له كلاما آخر يشعر بها.
واستظهر هو الجر على الوصفية ثم قال: فيكون ذلك داخلا في
المقول، فإن كان القول يوم القيامة يكون تَتَوَفَّاهُمُ بصيغة
المضارع حكاية للحال الماضية، وإن كان في الدنيا أي لما أخبر
سبحانه أنه يخزيهم يوم القيامة ويقول جل وعلا لهم ما يقول قال
أهل العلم: إن الخزي اليوم الذي أخبر الله تعالى أنه يخزيهم
فيه والسوء على الكافرين يكون تَتَوَفَّاهُمُ على بابه، ويشمل
من حيث المعنى من توفته ومن تتوفاه، وعلى ما ذكره ابن عطية
يحتمل أن يكون الَّذِينَ إلى آخره من كلام الذين أوتوا العلم
وأن يكون إخبارا منه تعالى، والظاهر أن القول يوم القيامة
فصيغة المضارع لاستحضار صورة توفي الملائكة إياهم كما قيل آنفا
لما فيها من الهول، وفي تخصيص الخزي والسوء بمن استمر كفره إلى
حين الموت دون من آمن منهم ولو في آخر عمره، وفيه النديم لهم
لا يخفى أي الكافرين المستمرين على الكفر إلى أن تتوفاهم
الملائكة ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ أي حال كونهم مستمرين على الشرك
الذي هو ظلم منهم لأنفسهم وأي ظلم حيث عرضوها للعذاب المقيم
فَأَلْقَوُا السَّلَمَ أي الاستسلام كما قاله الأخفش وقال
قتادة: الخضوع، ولا بعد بين القولين. والمراد عليهما أنهم
أظهروا الانقياد والخضوع، وأصل الإلقاء في الأجسام فاستعمل في
إظهارهم الانقياد وإشعارا بغاية خضوعهم وانقيادهم وجعل ذلك
كالشيء الملقى بين يدي القاهر الغالب.
والجملة قيل عطف على قوله تعالى: وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ
وما بينهما جملة اعتراضية جيء بها تحقيقا لما حاق بهم من الخزي
على رؤوس الأشهاد. وكان الظاهر فيلقون إلى آخره إلا أنه عبر
بصيغة الماضي للدلالة على تحقق الوقوع أي يقول لهم سبحانه ذلك
فيستسلمون وينقادون ويتركون المشاقة وينزلون عما كانوا عليه في
الدنيا من الكبر وشدة الشكيمة، ولعله مراد من قال: إن الكلام
قد تم عند قوله تعالى: أَنْفُسِهِمْ ثم عاد إلى حكاية حالهم
يوم القيامة،
(7/369)
وقيل: عطف على قالَ الَّذِينَ وجوز أبو
البقاء وغيره العطف على تَتَوَفَّاهُمُ واستظهره أبو حيان، لكن
قال الشهاب: إنه إنما يتمشى على كون تَتَوَفَّاهُمُ بمعنى
الماضي، وقد تقدم لك القول بأن الجملة خبر الَّذِينَ مع ما
فيه. واعترض الأول بأن قوله تعالى: ما كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ
سُوءٍ إما أن يكون منصوبا بقول مضمر وذلك القول حال من ضمير
ألقوا أي ألقوا السلم قائلين ما كنا إلى آخره أو تفسيرا للسلم
الذي ألقوه بناء على أن المراد به القول الدال عليه بدليل
الآية الأخرى فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ [النحل: 86]
وأيّا ما كان فذلك العطف يقتضي وقوع هذا القول منهم يوم
القيامة وهو كذب صريح ولا يجوز وقوعه يومئذ.
وأجيب بأن المراد ما كنا عاملين السوء في اعتقادنا أي كان
اعتقادنا أن عملنا غير سيىء، وهذا نظير ما قيل في تأويل قولهم
وَاللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ [الأنعام: 23] وقد
تعقب بأنه لا يلائمه الرد عليهم ب بَلى إِنَّ اللَّهَ إلى آخره
لظهور أنه لإبطال النفي ولا يقال: الرد على من جحد واستيقنت
نفسه لأنه يكون كذبا أيضا فلا يفيد التأويل.
ومن الناس من قال بجواز وقوع الكذب يوم القيامة، وعليه فلا
إشكال، ولا يخفى أن هذا البحث جار على تقدير كون العطف على
قالَ الَّذِينَ أيضا إذ يقتضي كالأول وقوع القول يوم القيامة
وهو مدار البحث.
واختار شيخ الإسلام عليه الرحمة العطف السابق وقال: إنه جواب
عن قوله سبحانه أَيْنَ شُرَكائِيَ وأرادوا بالسوء الشرك منكرين
صدوره عنهم، وإنما عبروا عنه بما ذكر اعترافا بكونه سيئا لا
إنكارا لكونه كذلك مع الاعتراف بصدوره عنهم، ونفى أن يكون
جوابا عن قول أولي العلم ادعاء لعدم استحقاقهم لما دهمهم من
الخزي والسوء، ولعله متعين على تقدير العطف على قالَ الَّذِينَ
إلى آخره، وإذا كان العطف على تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ
كان الغرض من قولهم هذا الصادر منهم عند معاينتهم الموت
استعطاف الملائكة عليهم السلام بنفي صدور ما يوجب استحقاق ما
يعانونه عند ذلك، وقيل: المراد بالسوء الفعل السيئ أعم من
الشرك وغيره ويدخل فيه الشرك دخولا أوليا أي ما كنا نعمل سوءا
ما فضلا عن الشرك، ومِنْ على كل حال زائدة وسُوءٍ مفعول لنعمل
بَلى رد عليهم من قبل الله تعالى أو من قبل أولي العلم أو من
قبل الملائكة عليهم السلام، ويتعين الأخير على كون القول عند
معاينة الموت ومعاناته أي بلى كنتم تعملون ما تعملون.
إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ فهو يجازيكم
عليه وهذا أوانه فَادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خطاب لكل صنف
منهم أن يدخل بابا من أبواب جهنم، والمراد بها إما المنفذ أو
الطبقة، ولا يجوز أن يكون خطابا لكل فرد لئلا يلزم دخول الفرد
من الكفار من أبواب متعددة أو يكون لجهنم بعدد الافراد، وجوز
أن يراد بالأبواب أصناف العذاب، فقد جاء إطلاق الباب على الصنف
كما يقال: فلان ينظر في باب من العلم أي صنف منه وحينئذ لا
مانع في كون الخطاب لكل فرد، وأبعد من قال: المراد بتلك
الأبواب قبور الكفرة المملوءة عذابا مستدلا بما
جاء «القبر روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النار»
خالِدِينَ فِيها حال مقدرة إن أريد بالدخول حدوثه، ومقارنة إن
أريد به مطلق الكون، وضمير فِيها قيل: للأبواب بمعنى الطبقات،
وقيل: لجهنم، والتزم هذا وكون الحال مقدرة من أبعد، وحمل
الخلود على المكث الطويل للاستغناء عن هذا الالتزام وإن كان
واقعا في كلامهم خلاف المعهود في القرآن الكريم فَلَبِئْسَ
مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ أي عن التوحيد، وذكرهم بعنوان
التكبر للإشعار بعليته لثوائهم فيها، وقد وصف سبحانه الكفار
فيما تقدم بالاستكبار وهنا بالتكبر، وذكر الراغب أنهما والكبر
تتقارب فالكبر الحالة التي يتخصص بها الإنسان من أعجابه بنفسه،
والاستكبار على وجهين: أحدهما أن يتحرى الإنسان ويطلب أن يصير
كبيرا، وذلك متى كان على ما يحب وفي المكان الذي يحب وفي الوقت
الذي يحب وهو محمود. والثاني أن يتشبع فيظهر من نفسه ما ليس له
(7/370)
وهو مذموم، والتكبر على وجهين أيضا: الأول
أن تكون الأفعال الحسنة كثيرة في الحقيقة وزائدة على محاسن
غيره، وعلى هذا وصف الله تعالى بالمتكبر. والثاني أن يكون
متكلفا لذلك متشبعا وذلك في وصف عامة الناس، والتكبر على الوجه
الأول محمود وعلى الثاني مذموم، والمخصوص بالذم محذوف أي جهنم
أو أبوابها إن فسرت بالطبقات، والفاء عاطفة، واللام جيء بها
للتأكيد اعتناء بالذم لما أن القوم ضالون مضلون كما ينبئ عنه
قوله تعالى: لِيَحْمِلُوا أَوْزارَهُمْ كامِلَةً يَوْمَ
الْقِيامَةِ وَمِنْ أَوْزارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ
بِغَيْرِ عِلْمٍ وللتأكيد اعتناء بالمدح جيء باللام أيضا فيما
بعد من قوله سبحانه: وَلَدارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ
دارُ الْمُتَّقِينَ لأن أولئك القوم على ضد هؤلاء هادون
مهديون، وكأنه لعدم هذا المقتضي في آيتي الزمر والمؤمن لم يؤت
باللام، وقيل: فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ وقيل:
التأكيد متوجه لما يفهم من الجملة من أن جهنم مثواهم، وحيث إنه
لم يفهم من الآيات قبل هنا فهمه منها قبل آيتي تينك السورتين
جيء بالتأكيد هناك ولم يجئ به هنا اكتفاء بما هو كالصريح في
إفادة أنها مثواهم مما ستسمعه إن شاء الله تعالى هناك.
وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أي المؤمنين، وصفوا بذلك إشعارا
بأن ما صدر عنهم من لجواب ناشئ من التقوى.
ماذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا خَيْراً أي أنزل خيرا ف ماذا
اسم واحد مركب للاستفهام بمعنى أي شيء محله النصب ب أَنْزَلَ
وخَيْراً مفعول لفعل محذوف، وفي اختيار ذلك دليل على أنهم لم
يتلعثموا في الجواب وأطبقوه على السؤال معترفين بالإنزال على
خلاف الكفرة حيث عدلوا بالجواب عن السؤال فقالوا: هو أَساطِيرُ
الْأَوَّلِينَ وليس من الإنزال في شيء. نعم قرأ زيد بن علي رضي
الله تعالى عنهما «خير» بالرفع- فما- اسم استفهام و «ذا» اسم
موصول بمعنى الذي أي أي شيء الذي أنزله ربكم، وخَيْرٌ خبر
مبتدأ محذوف فيتوافق جملتا الجواب والسؤال في كون كل منهما
جملة اسمية، وجعل ماذا منصوبا على المفعولية كما مر ورفع
خَيْرٌ على الخبرية لمبتدأ جائز إلا أنه خلاف الأولى، وفي
الكشف أنه يظهر من الوقوف على مراد صاحب الكشاف في هذا المقام
أن فائدة النصف مع أن الرفع أقوى دفع الالتباس ليكون نصا في
المطلوب كما أوثر النصب في قوله تعالى: إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ
خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ [القمر: 49] لذلك وينحل مراده من ذلك
بالرجوع إلى ما نقلناه عنه سابقا والتأمل فيه فتأمل فإنه دقيق.
هذا ولم نجد في السائل هنا خلافا كما في السائل فيما تقدم،
والذي رأيناه في كثير مما وقفنا عليه من التفاسير أن السائل
الوفد الذي كان سائلا أولا في بعض الأقوال المحكية هناك، وذكر
أنه السائل في الموضعين كثير منهم ابن أبي حاتم، فقد أخرج عن
السدي قال اجتمعت قريش فقالوا: إن محمدا صلى الله عليه وسلم
رجل حلو اللسان إذا كلمه الرجل ذهب بعقله فانظروا أناسا من
أشرافكم المعدودين المعروفة أنسابهم فابعثوهم في كل طريق من
طرق مكة على رأس ليلة أو ليلتين فمن جاء يريده فردوه عنه فخرج
ناس منهم في كل طريق فكان إذا أقبل الرجل وافدا لقومه ينظر ما
يقول محمد صلى الله عليه وسلم فينزل بهم قالوا له: يا فلان ابن
فلان فيعرفه بنسبه ويقول: أنا أخبرك عن محمد صلى الله عليه
وسلم هو رجل كذاب لم يتبعه على أمره إلا السفهاء والعبيد ومن
لا خير فيه وأما شيوخ قومه وخيارهم فمفارقون له فيرجع أحدهم
فذلك قوله تعالى: وَإِذا قِيلَ لَهُمْ ماذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ
قالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ فإذا كان الوافد ممن عزم الله
تعالى له على الرشاد فقالوا له مثل ذلك قال: بئس الوافد أنا
لقومي إن كنت جئت حتى إذا بلغت مسيرة يوم رجعت قبل أن ألقى هذا
الرجل وأنظر ما يقول وآتي قومي ببيان أمره فيدخل مكة فيلقى
المؤمنين فيسألهم ماذا يقول محمد صلى الله عليه وسلم فيقولون:
خيرا إلخ، نعم يجوز عقلا أن يكون السائل بعضهم لبعض ليقوى ما
عنده بجوابه أو لنحو ذلك كالاستلذاذ بسماع الجواب وكثيرا ما
يسأل المحب عما يعلمه من أحوال محبوبه استلذاذا بمدامة ذكره
وتشنيفا لسمعه بسني دره
ألا فاسقني خمرا وقل لي هي الخمر ... ولا تسقني سرا إذا أمكن
الجهر
(7/371)
بل يجوز أيضا أن يكون السائل من الكفرة
المعاندين وغرضه بذلك التلاعب والتهكم لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا
أتوا بالأعمال الحسنة الصالحة فِي هذِهِ الدار الدُّنْيا
حَسَنَةٌ مثوبة حسنة جزاء إحسانهم، والجار والمجرور متعلق بما
بعده على معنى أن تلك الحسنة لهم في الدنيا، والمراد بها على
ما روي عن الضحاك النصر والفتح، وقيل: المدح والثناء منه
تعالى، وقال الإمام: يحتمل أن يكون فتح باب المكاشفات
والمشاهدات والألطاف كقوله تعالى: «والذين اهتدوا زادهم هدى»
وقيل: متعلق بما قبله، وحينئذ يحتمل أن يكون الكلام على تقدير
مثله متعلقا بما بعد أولا بل تكون هذه الحسنة الواقعة مثوبة
لإحسانهم في الدنيا في الآخرة، واقتصر بعضهم على هذا الاحتمال،
والمراد بالحسنة حينئذ إما الثواب العظيم الذي أعده الله تعالى
يوم القيامة للمحسنين وإما التضعيف بعشر أمثالها إلى سبعمائة
ضعف إلى ما لا يعلمه غيره جل وعلا، واختير كونه متعلقا بما بعد
لأنه الأوفق بقوله سبحانه: وَلَدارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ والكلام
كما يشعر به كلام غير واحد على حذف مضاف أي ولثواب دار الآخرة
أي ثوابهم فيها خير مما أوتوا في الدنيا من الثواب.
وجوز أن يكون المعنى خير على الإطلاق فيجوز إسناد الخيرية إلى
نفس دار الآخرة وَلَنِعْمَ دارُ الْمُتَّقِينَ أي دار الآخرة
حذف لدلالة ما سبق عليه كما قاله ابن عطية والزجاج وابن
الأنباري وغيرهم، وهذا كلام مبتدأ عدة منه تعالى للذين اتقوا
على قولهم وهو في الوعد هاهنا نظير لِيَحْمِلُوا أَوْزارَهُمْ
في الوعيد فيما مر، وجوز أن يكون خَيْراً مفعول قالُوا وعمل
فيه لأنه في معنى الجملة كقال قصيدة أو صفة مصدر أي قولا خيرا،
وهذه الجملة بدل. فمحلها النصب أو مفسرة له فلا محل لها من
الإعراب، وعلى التقديرين مقولهم في الحقيقة لِلَّذِينَ
أَحْسَنُوا إلا أن الله سبحانه سماه خيرا ثم حكاه كما تقول:
قال فلان جميلا من قصدنا وجب حقه علينا، وعلى ما ذكر لا يكون
دلالة النصب على ما مر لما أشير إليه هناك وإنما تكون من حيث
شهادة الله تعالى بخيرية قولهم ويحتمل جعل ذلك كما الكشف مفعول
أَنْزَلَ (1) ويكون تسميته خيرا من الله تعالى كما في قوله
سبحانه: لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ
[الزخرف: 9] ليشعر أول ما يقرع السمع بالمطابقة من غير نظر إلى
فهم معناه، وأما قولهم لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا أي قالوا أنزل
هذه المقالة فإن ما يفهم من المطابقة بعد تدبر المعنى، وزعم
بعضهم أنه لا يجوز جعله منصوبا- بأنزل- لأن هذا القول ليس
منزلا من الله تعالى، وفيه تفوت المطابقة حينئذ وهو كلام ناشئ
من قلة التدبر. وفي البحر الظاهر أن لِلَّذِينَ إلخ مندرج تحت
القول وهو تفسير للخير الذي أنزل الله تعالى في الوحي، وظاهره
أنه وجه آخر غير ما ذكر وفيه رد على الزاعم أيضا، ولعل
اقتصارهم على هذا من بين المنزل لأنه كلام جامع وفيه ترغيب
للسائل، والمختار من هذه الأوجه عند جمع هو الأول بل قيل إنه
الوجه.
جَنَّاتُ عَدْنٍ خبر مبتدأ محذوف كما اختاره الزجاج وابن
الأنباري أي هي جنات، وجوز أن يكون مبتدأ خبره محذوف أي لهم
جنات أو هو المخصوص بالمدح يَدْخُلُونَها نعت لجنات عند الحوفي
بناء على أن عَدْنٍ نكرة وكذلك تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا
الْأَنْهارُ وكلاهما حال عند غير واحد بناء على أنها علم.
وجوزوا أن يكون جَنَّاتُ مبتدأ وجملة يَدْخُلُونَها خبره وجملة
تجري إلخ حال، وقرأ زيد بن ثابت وأبو عبد الرحمن جنات بالنصب
على الاشتغال أي يدخلون جنات عدن يدخلونها، قال أبو حيان. وهذه
القراءة تقوي كون «جنات» مرفوعا مبتدأ والجملة بعده خبره، وقرأ
زيد بن علي رضي الله تعالى عنهما «ولنعمة دار المتقين» بتاء
مضمومة ودار مخفوضة فيكون «نعمة» مبتدأ مضافا إلى دار وجنات
خبره. وقرأ إسماعيل بن جعفر عن نافع «يدخلونها» بالياء على
الغيبة والفعل
__________
(1) وقد نص سعد بن جلي على عدم المانع من جعله مفعول أنزل
مقدرا اه منه.
(7/372)
مبني للمفعول، ورويت عن أبي جعفر، وشيبة
لَهُمْ فِيها أي في تلك الجنات ما يَشاؤُنَ الظرف الأول خبر-
لما- والثاني حال منه، والعامل ما في الأول من معنى الحصول
والاستقرار أو متعلق به لذلك أي حاصل لهم فيها ما يشاؤون من
أنواع المشتهيات وتقديمه للاحتراز عن توهم تعلقه بالمشيئة أو
لما مرّ غير مرة من أن تأخير ما حقه التقديم يوجب ترقب النفس
إليه فيتمكن عند وروده فضل تمكن. وذكر بعضهم أن تقديم فيها
للحصر وما للعموم بقرينة المقام فيفيد أن الإنسان لا يجد جميع
ما يريده إلا في الجنة فتأمله. والجملة في موضع الحال نظير ما
تقدم، وزعم أن لهم متعلق بتجري أي تجري من تحتها الأنهار
لنفعهم وفِيها ما يَشاؤُنَ مبتدأ وخبر في موضع الحال لا يخفى
حاله عند ذوي التمييز كَذلِكَ مثل ذلك الجزاء الأوفى يَجْزِي
اللَّهُ الْمُتَّقِينَ أي جنسهم فيشمل كل من يتقي من الشرك
والمعاصي وقيل من الشرك ويدخل فيه المتقون المذكورون دخولا
أوليا ويكون فيه بعث لغيرهم على التقوى أو المذكورين فيكون فيه
تحسير للكفرة، قيل: وهذه الجملة تؤيد كون قوله سبحانه
لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا
عدة فإن جعل ذلك جزاء لهم ينظر إلى الوعد به من الله تعالى
وإذا كان مقول القول لا يكون من كلامه تعالى حتى يكون وعدا منه
سبحانه، وقيل: إنها تؤيد كون جَنَّاتُ خبر مبتدأ محذوف لا
مخصوصا بالمدح لأنه إذا كان مخصوصا بالمدح يكون كالصريح في أن
جَنَّاتُ عَدْنٍ جزاء للمتقين فيكون كَذلِكَ إلخ تأكيدا بخلاف
ما إذا كان خبر مبتدأ محذوف فإنه لم يعلم صريحا أن جنات عدن
جزاء للمتقين وفيه نظر وكذا في سابقه إلا أن في التعبير
بالتأبيد ما يهون الأمر الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ
الْمَلائِكَةُ نعت للمتقين وجوز قطعه، وقوله سبحانه:
طَيِّبِينَ حال من ضميرهم، ومعناه على ما روي عن أبي معاذ
طاهرين من دنس الشرك وهو المناسب لجعله في مقابلة ظالِمِي
أَنْفُسِهِمْ في وصف الكفرة بناء على أن المراد بالظلم أعظم
أنواعه وهو الشرك لكن قيل عليه: إن ذكر الطهارة عن الشرك وحده
لا فائدة فيه بعد وصفهم بالتقوى.
وأجيب بأن فائدة ذلك الإشارة إلى أن الطهارة عن الشرك هي الأصل
الأصيل. وفي إرشاد العقل السليم بعد تفسير الظلم بالكفر وتفسير
طيبين بطاهرين عن دنس الظلم وجعله حالا قال: وفائدته الإيذان
بأن ملاك الأمر في التقوى هو الطهارة عما ذكر إلى وقت توفيهم،
ففيه حث للمؤمنين على الاستمرار على ذلك ولغيرهم على تحصيله.
وقال مجاهد: المراد- بطيبين- زاكية أقوالهم وأفعالهم، وهو مراد
من قال: طاهرين من ظلم أنفسهم بالكفر والمعاصي وإلى هذا ذهب
الراغب حيث قال الطيب من الإنسان من تعرى من نجاسة الجهل
والفسق وقبائح الأعمال وتحلى بالعلم والإيمان ومحاسن الأعمال
وإياهم قصد بقوله سبحانه: الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ
الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ.
وانتصر لذلك بأن وصفهم بأنهم متقون موعودون بالجنة في مقابلة
الأعمال يقتضي ما ذكر، وحملوا الظلم فيما مر على ما يعم الكفر
والمعاصي لأن ذلك مجاب بقولهم: ما كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ
فلا تفوت المناسبة في جعل هذا مقابلا لذاك لكن في الاستدلال
بما ذكر في الجواب على إرادة العام ما لا يخفى، والكثير على
تفسير الطيب بالطاهر عن قاذورات الذنوب مطابق الذي لا خبث فيه،
وقيل: المعنى فرحين ببشارة الملائكة عليهم السلام إياهم أو
بقبض أرواحهم لتوجه نفوسهم بالكلية إلى حضرة القدس، فالمراد
بالطيب طيب النفس وطيبها عبارة عن القبول مع انشراح الصدر
يَقُولُونَ حال من الملائكة، وجوز أن يكون «الذين» مبتدأ خبره
هذه الجملة أي قائلين أو قائلون لهم:
سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا يحيقكم بعد مكروه.
قال القرطبي: وروى نحوه البيهقي عن محمد بن كعب القرظي إذا
استدعيت نفس المؤمن جاءه ملك الموت عليه السلام فقال: السلام
عليك يا ولي الله إن الله تعالى يقرأ عليك السلام وبشره بالجنة
ادْخُلُوا الْجَنَّةَ التي
(7/373)
أعدها الله تعالى لكم ووعدكم إياها وكأنها
إنما لم توصف لشهرة أمرها.
وفي إرشاد العقل السليم اللام للعهد أي جَنَّاتُ عَدْنٍ إلخ
ولذلك جردت عن النعت وهو كما ترى، والمراد دخولهم فيها بعد
البعث بناء على أن المتبادر الدخول بالأرواح والأبدان والمقصود
من الأمر بذلك قبل مجيء وقته البشارة بالجنة على أتم وجه ويجوز
أن يراد الدخول حين التوفي بناء على حمل الدخول على الدخول
بالأرواح كما يشير إليه
خبر «القبر روضة من رياض الجنة»
وكون البشارة بذلك دون البشارة بدخول الجنة على المعنى الأول
لا يمنع عن ذلك على أن لقائل أن يقول: إن البشارة بدخول الجنة
بالأرواح متضمنة للبشارة بدخولها بالأرواح والأبدان عند وقته،
وكون هذا القول كسابقه عند قبض الأرواح هو المروي عن ابن
مسعود، وجماعة من المفسرين، وقال مقاتل والحسن: إن ذلك يوم
القيامة، والمراد من التوفي وفاة الحشر أعني تسليم أجسادهم
وإيصالها إلى موقف الحشر من توفي الشيء إذا أخذه وافيا، وجوز
حمل التوفي على المعنى المتعارف مع كون القول يوم القيامة إما
بجعل الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ يقولون مبتدأ
وخبرا أو بجعل يقولون حالا مقدرة من الملائكة والَّذِينَ على
حاله أولا وحال ذلك لا يخفى بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ أي بسبب
ثباتكم على التقوى والطاعة بالذي كنتم تعملونه من ذلك، والباء
للسببية العادية، وهي فيما
في الصحيحين من قوله صلى الله عليه وسلم: «لن يدخل الجنة أحدكم
بعمله» الحديث
للسببية الحقيقية فلا تعارض بين الآية والحديث وبعضهم جعل
الباء للمقابلة دفعا للتعارض لْ يَنْظُرُونَ
أي ما ينتظر كفار مكة المار ذكرهم لَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ
الْمَلائِكَةُ
لقبض أرواحهم كما روي عن قتادة ومجاهد، وقرأ حمزة والكسائي
وابن وثاب وطلحة والأعمش «يأتيهم» بالياء آخر الحروف وْ
يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ
أي القيامة كما روي عمن تقدم أيضا، وقال بعضهم: المراد به
العذاب الدنيوي دونها لا لأن انتظارها يجامع انتظار إتيان
الملائكة فلا يلائمه العطف بأو لا لأنها ليست نصا في العناد إذ
يجوز أن يعتبر منع الخلو ويراد بإيرادها كفاية كل واحد من
الأمرين في عذابهم بل لأن قوله تعالى فيما سيأتي إن شاء الله
تعالى: لكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ
فأصابهم الآية صريح في أن المراد به ما أصابهم من العذاب
الدنيوي وفيه منع ظاهر، ويؤيد إرادة الأول التعبير- بيأتي- دون
يأتيهم، وقيل: المراد بإتيان الملائكة إتيانهم للشهادة بصدق
النبي صلى الله عليه وسلم أي ما ينتظرون في تصديقك إلا أن تنزل
الملائكة تشهد بنبوتك فهو كقوله تعالى: لَوْلا أُنْزِلَ
عَلَيْهِ مَلَكٌ [الأنعام: 8] والجمهور على الأول، وجعلوا
منتظرين لذلك مجازا لأنه يلحقهم لحوق الأمر المنتظر كما قيل.
واختير أن ذلك لمباشرتهم أسباب العذاب الموجبة له المؤدية إليه
فكأنهم يقصدون إيتاءه ويتصدون لوروده، ولا يخفى ما في التعبير
بالرب وإضافته إلى ضميره صلى الله عليه وسلم من اللطف به عليه
الصلاة والسلام، وسيأتي قريبا إن شاء الله تعالى وجه ربط
الآيات ذلِكَ
أي مثل ذلك الفعل من الشرك والتكذيب عَلَ الَّذِينَ
خلوانْ قَبْلِهِمْ
من الأمم ما ظَلَمَهُمُ اللَّهُ
إذ أصابهم جزاء فعلهم لكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ
بالاستمرار على فعل القبائح المؤدي لذلك، قيل: وكان الظاهر أن
يقال: ولكن كانوا هم الظالمين في سورة الزخرف لكنه أوثر ما
عليه النظم الكريم لإفادة أن غائلة ظلمهم آئلة إليهم وعاقبته
مقصورة عليهم مع استلزام اقتصار ظلم كل أحد على نفسه من حيث
الوقوع اقتصاره عليه من حيث الصدور فَأَصابَهُمْ سَيِّئاتُ ما
عَمِلُوا أي أجزية أعمالهم السيئة على طريقة إطلاق اسم السبب
على المسبب إيذانا بفظاعته، وقيل: الكلام على حذف المضاف.
وتعقب بأنه يوهم أن لهم أعمالا غير سيئة والتزم ومثل ذلك بنحو
صلة الأرحام، ولا يخفى أن المعنى ليس على التخصيص، والداعي إلى
ارتكاب أحد الأمرين أن الكلام بظاهره يدل على أن ما أصابهم
سيئة، وليس بها.
(7/374)
وقد يستغنى عن ارتكاب ذلك لما ذكر بأن ما
يدل عليه الظاهر من باب المشاكلة كما في قوله تعالى: وَجَزاءُ
سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها [الشورى: 4] كما في الكشاف
وَحاقَ بِهِمْ أي أحاط بهم، وأصل معنى الحيق الإحاطة مطلقا ثم
خص في الاستعمال بإحاطة الشر، فلا يقال: أحاطت به النعمة بل
النقمة. وهذا أبلغ وأفظع من أصابهم ما كانُوا بِهِ
يَسْتَهْزِؤُنَ أي من العذاب كما قيل على أن ما موصولة عبارة
عن العذاب، وليس في الكلام حذف ولا ارتكاب مجاز على نحو ما مر
آنفا، وقيل: ما مصدرية وضمير بِهِ للرسول عليه الصلاة والسلام
وإن لم يذكر، والمراد أحاط بهم جزاء استهزائهم بالرسول صلى
الله عليه وسلم أو موصولة عامة للرسول عليه الصلاة والسلام
وغيره وضمير بِهِ عائد عليها والمعنى على الجزاء أيضا، ولا
يخفى ما فيه، وايا ما كان ف بِهِ متعلق- بيستهزئون- قدم
للقاصلة، هذا ثم إن قوله تعالى: لْ يَنْظُرُونَ
إلخ على ما في الكشف رجوع إلى عد ما هم فيه من العناد
والاستشراء في الفساد وأنهم لا يقلعون عن ذلك كأسلافهم
الغابرين إلى يوم التناد، وما وقع من أحوال أضدادهم في البين
كان لزيادة التحسير والتبكيت والتخسير، وفيه دلالة على أن
الحجة قد تمت وأنه صلى الله عليه وسلم أدى ما عليه من البلاغ
المبين، وقوله تعالى: فَأَصابَهُمْ عطف على عَلَ الَّذِينَ
مِنْ قَبْلِهِمْ
مترتب إذ المعنى كذلك التكذيب والشرك فعل أسلافهم وأصابهم ما
أصابهم، وفيه تحذير مما فعله هؤلاء وتذكير لقوله سبحانه: قَدْ
مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ [النحل: 26] ولا يخفى حسن
الترتب على ذلك لأن التكذيب والشرك تسببا لإصابة السيئات لمن
قبلهم، وقوله سبحانه: ما ظَلَمَهُمُ اللَّهُ
اعتراض واقع حاق موقعه، وجعل ذلك راجعا إلى المفهوم من قوله
تعالى: لْ يَنْظُرُونَ
أي كذلك كان من قبلهم مكذبين لزمتهم الحجة منتظرين فأصابهم ما
كانوا منتظرين سديد حسن إلا أن معتمد الكلام الأول وهو أقرب
مأخذا، ودلالةعَلَ
عليه أظهر، فهذه فذلكة ضمنت محصل ما قابلوا به تلك النعم
والبصائر وأدمج فيها تسليته صلى الله عليه وسلم والبشرى بقلب
الدائرة على من تربص به وبأصحابه عليه الصلاة والسلام الدوائر
وختمت بما يدل على أنهم انقطعوا فاحتجوا بآخر ما يحتج به
المحجوج يتقلب عليه فلا يبصر إلا وهو مثلوج مشجوج وهو ما تضمنه
قوله تعالى: وَقالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللَّهُ ما
عَبَدْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ فهو من تتمة قوله سبحانه:
لْ يَنْظُرُونَ
ألا ترى كيف ختم بنحوه آخر مجادلاتهم في سورة [الأنعام: 148]
في قوله سبحانه: سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا وكذلك في سورة
الزخرف ولا تراهم يتشبثون بالمشيئة إلا عند انخزال الحجة
وقالُوا لَوْ شاءَ رَبُّنا لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً [فصلت: 14]
ويكفي في الانقلاب ما يشير إليه قوله سبحانه: قُلْ فَلِلَّهِ
الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ [الأنعام: 149] وفي إرشاد العقل السليم
أن هذه الآية بيان لفن آخر من كفر أهل مكة فهم المراد
بالموصول، والعدول عن الضمير إليه لتقريعهم بما في حيز الصلة
وذمهم بذلك من أول الأمر، والمعنى لو شاء الله تعالى عدم
عبادتنا لشيء غيره سبحانه كما تقول ما عبدنا ذلك نَحْنُ وَلا
آباؤُنا الذين نهتدي بهم في ديننا وَلا حَرَّمْنا مِنْ دُونِهِ
مِنْ شَيْءٍ من السوائب والبحائر وغيرها- فمن- الأولى بيانية
والثانية زائدة لتأكيد الاستغراق وكذا الثالثة ونَحْنُ لتأكيد
ضمير عَبَدْنا لا لتصحيح العطف لوجود الفاصل وإن كان محسنا له،
وتقدير مفعول شاءَ عدم العبادة مما صرح به بعضهم، وكان الظاهر
أن يضم إليه عدم التحريم. واعترض تقدير ذلك بأن العدم لا يحتاج
إلى المشيئة كما ينبئ عنه
قوله صلى الله عليه وسلم: «ما شاء الله تعالى كان وما لم يشأ
لم يكن»
حيث لم يقل عليه الصلاة والسلام ما شاء الله تعالى كان وما شاء
عدم كونه لم يكن بل يكفي فيه عدم مشيئة الوجود، وهو معنى
قولهم: علة العدم عدم علة الوجود، فالأولى أن يقدر المفعول
وجوديا كالتوحيد والتحليل وكامتثال ما جئت به والأمر في ذلك
سهل.
وفي تخصيص الإشراك والتحريم بالنفي لأنهما أعظم وأشهر ما هم
عليه، وغرضهم من ذلك كما قال بعض
(7/375)
المحققين تكذيب الرسول عليه الصلاة والسلام
والطعن في الرسالة رأسا، فإن حاصله أن ما شاء الله تعالى يجب
وما لم يشأ يمتنع فلو أنه سبحانه شاء أن نوحده ولا نشرك به
شيئا ونحلل ما أحله ولا نحرم شيئا مما حرمنا كما تقول الرسل
وينقلونه من جهته تعالى لكان الأمر كما شاء من التوحيد ونفي
الإشراك وتحليل ما أحله وعدم تحريم شيء من ذلك وحيث لم يكن
كذلك ثبت أنه لم يشأ شيئا من ذلك بل شاء ما نحن عليه وتحقق أن
ما تقوله الرسل عليهم السلام من تلقاء أنفسهم ورد الله تعالى
عليهم بقوله سبحانه عز وجل: كَذلِكَ أي مثل ذلك الفعل الشنيع
فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ من الأمم أي أشركوا بالله
تعالى وحرموا من دونه ما حرموا وجادلوا رسلهم بالباطل ليدحضوا
به الحق فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ الذين أمروا بتبليغ رسالات
الله تعالى وعزائم أمره ونهيه. إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ أي
ليست وظيفتهم إلا الإبلاغ للرسالة الموضح طريق الحق والمظهر
أحكام الوحي التي منها تحتم تعلق مشيئته تعالى باهتداء من صرف
قدرته واختياره إلى تحصيل الحق لقوله تعالى: وَالَّذِينَ
جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا
[العنكبوت: 69] .
وأما إلجاؤهم إلى ذلك وتنفيذ قولهم عليهم شاؤوا أو أبوا كما هو
مقتضى استدلالهم فليس ذلك من وظيفتهم ولا من الحكمة التي يدور
عليها فلك التكليف حتى يستدل بعدم ظهور آثاره على عدم حقيقة
الرسل عليهم السلام أو على عدم تعلق مشيئة الله تعالى بذلك،
فإن ما يترتب عليه الثواب والعقاب من الأفعال لا بد في تعلق
مشيئته تعالى بوقوعه من مباشرتهم الاختيارية وصرف اختيارهم
الجزئي إلى تحصيله وإلا لكان الثواب والعقاب اضطراريين والفاء
على هذا للتعليل كأنه قيل كذلك فعل أسلافهم وذلك باطل فإن
الرسل عليهم السلام ليس شأنهم إلا تبليغ الأوامر والنواهي لا
تحقيق مضمونها قسرا والجاء اه، وكأني بك لا تبريه من تكلف.
وهو متضمن للرد على الزمخشري فقد سلك في هذا المقام الغلو في
المقال وعدل عن سنن الهدى إلى مهواة الضلال فذكر أن هؤلاء
المشركين فعلوا ما فعلوا من القبائح ثم نسبوا فعلهم إلى الله
تعالى وقالوا: لَوْ شاءَ اللَّهُ إلى آخره وهذا مذهب المجبرة
بعينه كذلك فعل أسلافهم فلما نبهوا على قبح فعلهم وركوه على
ربهم فهل على الرسل إلا أن يبلغوا الحق وأن الله سبحانه لا
يشاء الشرك والمعاصي بالبيان والبرهان ويطلعوا على بطلان الشرك
وقبحه وبراءة الله تعالى من أفعال العباد وأنهم فاعلوها بقصدهم
وإرادتهم واختيارهم، والله تعالى باعثهم على جميلها وموفقهم له
وزاجرهم عن قبيحها وموعدهم عليه إلى آخر ما قال مما هو على هذا
المنوال، ولعمري أنه فسر الآيات على وفق هواه وهي عليه لا له
لو تدبر ما فيها وحواه، وقد رد عليه غير واحد من المحققين
وأجلة المدققين وبينوا أن الآية بمعزل عن أن تكون دليلا لأهل
الاعتزال كما أن الشرطية لا تنتج مطلوب أولئك الضلال، وقد تقدم
نبذة من الكلام في ذلك، ثم إن كون غرض المشركين من الشرطية
تكذيب الرسل عليهم السلام هو أحد احتمالين في ذلك، قال المدقق
في الكشف في نظير الآية: إن قولهم هذا إما لدعوى مشروعية ما هم
عليه ردا للرسل عليهم السلام أو لتسليم أنهم على الباطل
اعتذارا بأنهم مجبورون، والأول باطل لأن المشيئة تتعلق بفعلهم
المشروع وغيره فما شاء الله تعالى أن يقع منهم مشروعا وقع كذلك
وما شاء الله تعالى أن يقع لا كذلك وقع لا كذلك، ولا شك أن من
توهم أن كون الفعل بمشيئته تعالى ينافي مجيء الرسل عليهم
السلام بخلاف ما عليه المباشر من الكفر والضلال فقد كذب
التكذيب كله وهو كاذب في استنتاج المقصود من هذه اللزومية،
وظاهر الآية مسوق لهذا المعنى، والثاني على ما فيه حصول
المقصود وهو الاعتراف بالبطلان باطل أيضا إذ لا جبر لأن
المشيئة تعلقت بأن يشركوا اختيارا منهم والعلم تعلق كذلك ومثله
في التحريم فهو يؤكد دفع العذر لا أنه يحققه، وذكر أن معنى
فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ أن الذي على الرسل أن يبلغوا ويبينوا
معالم الهدى بالإرشاد إلى تمهيد قواعد النظر والإمداد بأدلة
السمع والبصر ولا عليهم من مجادلة من يريد أن
(7/376)
يدحض بباطله الحق الأبلج إذ بعد ذلك
التبيين يتضح الحق للناظرين ولا تجدي نفعا مجادلة المعاندين،
وجوز أن يكون قولهم هذا منعا للبعثة والتكليف متمسكين بأن ما
شاء الله تعالى يجب وما لم يشأ يمتنع فما الفائدة فيهما أو
إنكارا لقبح ما أنكر عليهم من الشرك والتحريم محتجين بأن ذلك
لو كان مستقبحا لما شاء الله تعالى صدوره عنا أو لشاء خلافه
ملجأ إليه، وأشير إلى جواب الشبهة الأولى بقوله سبحانه: فَهَلْ
عَلَى الرُّسُلِ إلى آخره كأنه قيل: إن فائدة البعثة البلاغ
الموضح للحق فإن ما شاء الله تعالى وجوده أو عدمه لا يجب ولا
يمتنع مطلقا كما زعمتم بل قد يجب أو يمتنع بتوسط أسباب أخر
قدرها سبحانه ومن ذلك البعثة فإنها تؤدي إلى هدى من شاء الله
تعالى على سبيل التوسط، وأما الشبهة الثانية فقد أشير إلى
جوابها في قوله تعالى: وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ من
الأمم الخالية رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وحده
وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ هو كل ما يدعو إلى الضلالة، وقال
الحسن: هو الشيطان، والمراد من اجتنابه اجتناب ما يدعو إليه.
فَمِنْهُمْ أي من أولئك الأمم مَنْ هَدَى اللَّهُ إلى الحق من
عبادته أو اجتناب الطاغوت بأن وفقهم لذلك وَمِنْهُمْ مَنْ
حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ ثبتت ووجبت إذ لم يوفقهم ولم يرد
هدايتهم، ووجه الإشارة أن تحقق الضلال وثباته من حيث إنه وقع
قسيما للهداية التي هي بإرادته تعالى ومشيئته كان هو أيضا
كذلك.
وأما أن إرادة القبيح قبيحة فلا يجوز اتصاف الله سبحانه بها
فظاهر الفساد لأن القبيح كسب القبيح والاتصاف به لا إرادته
وخلقه على ما تقرر في الكلام. وأنت تعلم أن كلتا الإشارتين في
غاية الخفاء، ولينظر أي حاجة إلى الحصر وما المراد به على جعل
فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إلى آخره مشيرا إلى جواب الشبهة
الأولى.
وقال الإمام: إن المشركين أرادوا من قولهم ذلك أنه لما كان
الكل من الله تعالى كان بعثه الأنبياء عليهم السلام عبثا
فنقول: هذا اعتراض على الله تعالى وجار مجرى طلب العلة في
أحكامه تعالى وأفعاله وذلك باطل إذ لله سبحانه أن يفعل في ملكه
ما يشاء ويحكم ما يريد، ولا يجوز أن يقال له لم فعلت هذا ولم
لم تفعل ذاك. والدليل على أن الإنكار إنما توجه إلى هذا المعنى
أنه تعالى صرح بهذا المعنى في قوله سبحانه: وَلَقَدْ بَعَثْنا
إلى آخره حيث بين فيه أن سنته سبحانه في عباده إرسال الرسل
إليهم وأمرهم بعبادته ونهيهم عن عبادة غيره، وأفاد أنه تعالى
وإن أمر الكل ونهاهم إلا أنه جل جلاله هدى البعض وأضل البعض،
ولا شك أنه إنما يحسن منه تعالى ذلك بحكم كونه إلها منزها عن
اعتراضات المعترضين ومطالبات المنازعين، فكان إيراد هذا السؤال
من هؤلاء الكفار موجبا للجهل والضلال والبعد عن الله المتعال،
فثبت أن الله تعالى إنما ذم هؤلاء القائلين لأنهم اعتقدوا أن
كون الأمر كذلك يمنع من جواز بعثة الرسل لا لأنهم كذبوا في
قولهم ذلك، وهذا هو الجواب الصحيح الذي يعول عليه في هذا
الباب، ومعنى فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إلى آخره أنه تعالى أمر
الرسل عليهم السلام بالتبليغ فهو الواجب عليهم، وأما أن
الإيمان هل يحصل أو لا يحصل فذاك لا تعلق للرسل به ولكن الله
تعالى يهدي من يشاء بإحسانه ويضل من يشاء بخذلانه اه وهو كما
ترى.
ونقل الواحدي في الوسيط عن الزجاج أنهم قالوا ذلك على الهزو
ولم يرتضه كثير من المحققين، وذكر بعضهم أن حمله على ذاك لا
يلائم الجواب. نعم قال في الكشف عند قوله تعالى: وَقالُوا لَوْ
شاءَ الرَّحْمنُ ما عَبَدْناهُمْ [الزخرف: 20] إنهم دفعوا قول
الرسل عليهم السلام بدعوتهم إلى عبادته تعالى ونهيهم عن عبادة
غيره سبحانه بهذه المقالة وهم ملزمون على مساق هذا القول لأنه
إذا استند الكل إلى مشيئته تعالى فقد شاء إرسال الرسل وشاء
دعوتهم إلى العباد وشاء جحودهم وشاء دخولهم النار، فالإنكار
والدفع بعد هذا القول دليل على أنهم قالوه لا عن اعتقاد بل
مجازفة، وقال في موضع آخر عند نظير الآية أيضا: إنهم كاذبون في
هذا القول لجزمهم حيث لا ظن مطلقا فضلا عن
(7/377)
العلم، وذلك لأن من المعلوم أن العلم بصفات
الله تعالى فرع العلم بذاته والإيمان بها كذلك والمحتجون به
كفرة مشركون مجسمون، وأطال الكلام في هذا المقام في سورة
الزخرف.
وذكر أن في كلامهم تعجيز الخالق بإثبات التمانع بين المشيئة
وضد المأمور به فيلزم أن لا يريد إلا أمر به ولا ينهى إلا وهو
لا يريده، وهذا تعجيز من وجهين إخراج بعض المقدورات عن أن يصير
محلها وتضييق محل أمره ونهيه وهذا بعينه مذهب إخوانهم القدرية
اه ويجوز أن يقال: إن المشركين إنما قالوا ذلك إلزاما بزعمهم
حيث سمعوا من المرسلين وأتباعهم أن ما شاء الله تعالى كان وما
لم يشأ لم يكن وإلا فهم أجهل الخلق بربهم جل شأنه وصفاته إِنْ
هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ [الفرقان: 24]
ومرادهم إسكات المرسلين وقطعهم عن دعوتهم إلى ما يخالف ما هم
عليه والاستراحة عن معارضتهم فكأنهم قالوا: إنكم تقولون ما شاء
الله تعالى كان وما لم يشأ لم يكن فما نحن عليه مما شاءه الله
تعالى وما تدعونا إليه مما لم يشأه وإلا لكان، واللائق بكم عدم
التعرض لخلاف مشيئة الله تعالى، فإن وظيفة الرسول الجري على
إرادة المرسل لأن الإرسال إنما هو لتنفيذ تلك الإرادة وتحصيل
المراد بها، وهذا جهل منهم بحقيقة الأمر وكيفية تعلق المشيئة
وفائدة البعثة، وذلك لأن مشيئته تعالى إنما تتعلق وفق علمه
وعلمه إنما يتعلق وفق ما عليه الشيء في نفسه، فالله تعالى ما
شاء شركهم مثلا إلا بعد أن علم ذلك وما علمه إلا وفق ما هو
عليه في نفس الأمر فهم مشركون في الأزل ونفس الأمر إلا أنه
سبحانه حين أبرزهم على وفق ما علم فيهم لو تركهم وحالهم كان
لهم الحجة عليه سبحانه إذا عذبهم يوم القيامة إذ يقولون حينئذ:
ما جاءنا من نذير فأرسل جل شأنه الرسل مبشرين ومنذرين لئلا
يكون للناس على الله حجة بعد الرسل فليس على الرسل إلا تبليغ
الأوامر والنواهي لتقوم الحجة البالغة لله تعالى، فالتبليغ
مراد الله تعالى من الرسل عليهم السلام لإقامة حجته تعالى على
خلقه به، وليس مراده من خلقه إلا ما هم عليه في نفس الأمر خيرا
كان أو شرا.
وفي الخبر يقول الله تعالى: «يا عبادي إنما أعمالكم أحصيها لكم
فمن وجد خيرا فليحمد الله ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه»
ولا منافاة بين الأمر بشيء وإرادة غيره منه تعالى لأن الأمر
بذلك حسبما يليق بجلاله وجماله، والإرادة حسبما يستدعيه في
الآخرة الشيء في نفسه، وقد قرر الجماعة انفكاك الأمر عن
الإرادة في الشاهد أيضا وذكر بعض الحنابلة الانفكاك أيضا لكن
عن الإرادة التكوينية لا مطلقا، والبحث مفصل في موضعه، وإذا
علم ذلك فاعلم أن قوله سبحانه: فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا
الْبَلاغُ يتضمن الإشارة إلى ردهم كأنه قيل: ما أشرتم إليه من
أن اللائق بالرسل ترك الدعوة إلى خلاف ما شاء الله تعالى منا
والجري على وفق المشيئة والسكوت عنا باطل لأن وظيفتهم والواجب
عليهم هو التبليغ وهو مراد الله تعالى منهم لتقوم به حجة الله
تعالى عليكم لا السكوت وترك الدعوة، وفي قوله سبحانه: وَلَقَدْ
بَعَثْنا إلخ إشارة يتفطن لها من له قلب إلى أن المشيئة حسب
الاستعداد الذي عليه الشخص في نفس الأمر فتأمل فإن هذا الوجه
لا يخلو عن بعد ودغدغة. والذي ذكره القاضي في قوله تعالى:
وَلَقَدْ بَعَثْنا إلخ أنه بين فيه أن البعثة أمر جرت به السنة
الإلهية في الأمم كلها سببا لهدي من أراد سبحانه اهتداءه
وزيادة لضلال من أراد ضلاله كالغذاء الصالح ينفع المزاج السوي
ويقويه ويضر المنحرف ويفنيه.
وفي إرشاد العقل السليم أنه تحقيق لكيفية تعلق مشيئته تعالى
بأفعال العباد بعد بيان أن الإلجاء ليس من وظائف الرسالة ولا
من باب المشيئة المتعلقة بما يدور عليه فلك الثواب والعقاب من
الأفعال الاختيارية، والمعنى أنا بعثنا في كل أمة رسولا يأمرهم
بعبادة الله تعالى واجتناب الطاغوت فأمروهم فتفرقوا فمنهم من
هداه الله تعالى بعد صرف قدرته واختياره الجزئي إلى تحصيل ما
هدى إليه ومنهم من ثبت على الضلالة لعناده وعدم صرف قدرته إلى
تحصيل الحق، والفاء في فَمِنْهُمْ نصيحة كما أشير إليه، وكان
الظاهر في القسم الثاني- ومنهم من أضل الله- إلا أنه غير
الأسلوب
(7/378)
إلى ما في النظم الكريم للإشعار بأن ذلك
لسوء اختيارهم كقوله تعالى: وَإِذا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ
[الشعراء: 80] وأَنِ يحتمل أن تكون مفسرة لما في البعث من معنى
القول وأن تكون مصدرية بتقدير حرف الجر أي بأن اعبدوا الله
فَسِيرُوا أيها المشركون المكذبون القائلون: لو شاء الله ما
عبدنا من دونه فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ
الْمُكَذِّبِينَ من عاد وثمود ومن سار سيرهم ممن حقت عليه
الضلالة وقال كما قلتم لعلكم تعتبرون، وترتب الأمر بالسير على
مجرد الإخبار بثبوت الضلالة عليهم من غير إخبار بحلول العذاب
للإيذان بأن ذلك غني عن البيان، وفي عطف الأمر الثاني بالفاء
إشعار بوجوب المبادرة إلى النظر والاستدلال المنقذين من الضلال
إِنْ تَحْرِصْ عَلى هُداهُمْ خطاب لرسول الله صلى الله عليه
وسلم. والحرص فرط الإرادة. وقرأ النخعي «وإن» بزيادة واو وهو
والحسن وأبو حيوة «تحرص» بفتح الراء مضارع حرص بكسرها وهي لغة،
والجمهور تَحْرِصْ بكسر الراء مضارع حرص بفتحها وهي لغة الحجاز
فَإِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ جواب للشرط على معنى
فاعلم ذلك أو علة للجواب المحذوف أي أن تحرص على هداهم لم ينفع
حرصك شيئا فإن الله تعالى لا يهدي من يضل، والمراد بالموصول
قريش المعبر عنهم فيما مر بالذين أشركوا، ووضع الموصول موضع
ضميرهم للتنصيص على أنهم ممن حقت عليهم الضلالة وللإشعار بعلة
الحكم، ويجوز أن يراد به ما يشملهم ويدخلون فيه دخولا أوليا،
ومعنى الآية على ما قيل: إنه سبحانه لا يخلق الهداية جبرا
وقسرا فيمن يخلق فيه الضلالة بسوء اختياره ولا بد من نحو هذا
التأويل لأن الحكم بدون ذلك مما لا يكاد يجهل، ومَنْ على هذا
مفعول يَهْدِي كما هو الظاهر، وقيل: إن يهدي مضارع هدى بمعنى
اهتدى فهو لازم ومَنْ فاعله وضمير الفاعل في يُضِلُّ لله تعالى
والعائد محذوف أي من يضله، وقد حكي مجيء هدى بمعنى اهتدى
الفراء. وقرأ غير واحد من السبعة والحسن والأعرج ومجاهد وابن
سيرين والعطاردي ومزاحم الخراساني وغيرهم «لا يهدى» بالبناء
للمفعول- فمن- نائب الفاعل والعائد وضمير الفاعل كما مر، وهذه
القراءة أبلغ من الأولى لأنها تدل على أن من أضله الله تعالى
لا يهديه كل أحد بخلاف الأولى فإنها تدل على أن الله تعالى لا
يهديه فقط وإن كان من لم يهد الله فلا هادي له، وهذا- على ما
قيل- إن لم نقل بلزوم هدى وأما إذا قلنا به فهما بمعنى إلا أن
هذه صريحة في عموم الفاعل بخلاف تلك مع أن المتعدي هو الأكثر.
وقرأت فرقة منهم عبد الله «لا يهدّي» بفتح الياء وكسر الهاء
والدال وتشديدها، وأصله يهتدي فأدغم كقولك في يختصم يخصم.
وقرأت فرقة أخرى «لا يهدي» بضم الياء وكسر الدال، قال ابن
عطية: وهي ضعيفة، وتعقبه في البحر بأنه إذا ثبت هدى لازما
بمعنى اهتدى لم تكن ضعيفة لأنه أدخل على اللازم همزة التعدية،
فالمعنى لا يجعل مهتديا من أضله.
وأجيب بأنه يحتمل أن وجه الضعف عنده عدم اشتهار أهدى المزيد.
وقرئ «يضلّ» بفتح الياء، وفي مصحف أبي «فإن الله لا هادي لمن
أضل» وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ ينصرونهم في الهداية أو
يدفعون العذاب عنهم وهو تتميم بإبطال ظن أن آلهتهم تنفعهم شيئا
وضمير لهم عائد على معنى من وصيغة الجمع في الناصرين باعتبار
الجمعية في الضمير فإن مقابلة الجمع بالجمع تفيد انقسام الآحاد
على الآحاد لا لأن المراد نفي طائفة من الناصرين من كل منهم.
ثم إن أول هذه الآيات ربما يوهم نصرة مذهب الاعتزال لكن آخرها
مشتمل على الوجوه الكثيرة كما قال الإمام الدالة على نصرة مذهب
أهل الحق، ولعل الأمر غني عن البيان ولله تعالى الحمد على ذلك
وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ شروع في بيان فن آخر من أباطيلهم وهو
إنكارهم البعث، وهو على ما في الكشاف وغيره عطف على قوله
تعالى: وَقالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا قيل: ولتضمن الأول إنكار
التوحيد وهذا إنكار البعث وهما أمران عظيمان من الكفر والجهل
حسن العطف بينهما، والضمير لأهل مكة أيضا أي حلفوا بالله
جَهْدَ أَيْمانِهِمْ مصدر منصوب على الحال أي جاهدين في
(7/379)
أيمانهم لا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ
وهو مبني على أن الميت يعدم ويفنى وأن البعث إعادة له وأنه
يستحيل إعادة المعدوم، وقد ذهب إلى هذه الاستحالة الفلاسفة ولم
يوافقهم في دعوى ذلك أحد من المتكلمين إلا الكرامية وأبو
الحسين البصري من المعتزلة، واحتجوا عليها بما رده المحققون،
وبعضهم ادعى الضرورة في ذلك وأن ما يذكر في بيانه تنبيهات
عليه، فقد نقل الإمام عن الشيخ أبي علي بن سينا أنه قال: كل من
رجع إلى فطرته السليمة ورفض عن نفسه الميل والتعصب شهد عقله
الصريح بأن إعادة المعدوم بعينه ممتنعة وفي قسم هؤلاء الكفار
على عدم البعث إشارة كما قال في التفسير إلى أنهم يدعون العلم
الضروري بذلك.
وأنت تعلم أنه إذا جوز إعادة المعدوم بعينه كما هو رأي جمهور
المتكلمين فلا إشكال في لبعث أصلا. وأما إن قلنا بعدم جواز
الإعادة لقيام القاطع على ذلك فقد قيل: نلتزم القول بعدم
انعدام شيء من الأبدان حتى يلزم في البعث إعادة المعدوم وإنما
عرض لها التفرق ويعرض لها في البعث الاجتماع فلا إعادة لمعدوم،
وفيه بحث وإن أيد بقصة إبراهيم عليه السلام ومن هنا قال المولى
ميرزاجان: لا مخلص إلا بأن يقال ببقاء النفس المجردة (1) وإن
البدن المبعوث مثل البدن الذي كان في الدنيا وليس عينه بالشخص
ولا ينافي هذا قانون العدالة إذ الفاعل هو النفس ليس إلا
والبدن بمنزلة السكين بالنسبة إلى القطع فكما أن الأثر المترتب
على القطع من المدح والذم والثواب والعقاب إنما هو للقاطع لا
للسكين كذلك الأثر المترتب على أفعال الإنسان إنما هو للنفس
وهي المتلذذة والمتألمة تلذذا أو تألما عقليا أو حسيا فليس
يلزم خلاف العدالة، وأما الظواهر الدالة على عود ذلك الشخص
بعينه فمؤولة لفرض القاطع الدال على الامتناع، وذلك بأن يقال:
المراد إعادة مادته مع صورة كانت أشبه الصور إلى الصورة الأولى
فتدبر وسيأتي إن شاء الله تعالى في سورة يس تحقيق هذا المطلب
على أتم وجه.
ونقل عن ابن الجوزي وأبي العالية أن هذه الآية نزلت لأن رجلا
من المسلمين تقاضى دينا على رجل من المشركين فكان فيما تكلم به
المسلم والذي أرجوه بعد الموت فقال المشرك: وإنك لتبعث بعد
الموت وأقسم بالله لا يبعث الله من يموت فقص الله تعالى ذلك
ورده أبلغ رد بقوله سبحانه: بَلى لإيجاب النفي أي بلى يبعثهم
وَعْداً مصدر مؤكد لما دل عليه بَلى إذ لا معنى له سوى الوعد
بالبعث والإخبار عنه، ويسمى نحو هذا مؤكدا لنفسه وجوز أن يكون
مصدرا لمحذوف أي وعد ذلك وعدا عَلَيْهِ صفة وَعْداً والمراد
وعدا ثابتا عليه إنجازه وإلا فنفس الوعد ليس ثابتا عليه، وثبوت
الإنجاز لامتناع الخلف في وعده أو لأن البعث من مقتضيات
الحكمة.
حَقًّا صفة أخرى- لوعدا- وهي مؤكدة إن كان بمعنى ثابتا متحققا
ومؤسسة إن كان بمعنى غير باطل أو نصب على المصدرية بمحذوف أي
حق حقا وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لجهلهم بشؤون الله تعالى من
العلم والقدرة والحكمة وغيرها من صفات الكمال وبما يجوز عليه
وما لا يجوز وعدم وقوفهم على سر التكوين والغاية القصوى منه
وعلى أن البعث مما تقتضيه الحكمة لا يَعْلَمُونَ أنه تعالى
يبعثهم، ونعى عليهم عدم العلم بالبعث دون العلم بعدمه الذي
يزعمونه على ما يقتضيه ظاهر قسمهم ليعلم منه نعي ذاك بالطريق
(2) .
وجوز أن يكون للإيذان بأن ما عندهم بمعزل عن أن يسمى علما بل
هو توهم صرف وجهل محض، وتقدير مفعول يَعْلَمُونَ ما علمت هو
الأنسب بالسياق، وجوز أن يكون التقدير لا يعلمون أنه وعد عليه
حق فيكذبونه
__________
(1) بناء على تسليم وجود النفس المجردة وإلا فيكفي بقاء مادة
البدن تدبر اه منه. [.....]
(2) قوله بالطريق هكذا بخطه ولعله بالطريق الأولى.
(7/380)
قائلين: لَقَدْ وُعِدْنا نَحْنُ وَآباؤُنا
هذا مِنْ قَبْلُ إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ
[المؤمنون: 83، النمل: 68] لِيُبَيِّنَ لَهُمُ متعلق بما دل
عليه بَلى وهو يبعثهم، والضمير لمن يموت الشامل للمؤمنين
والكافرين إذ التبيين يكون للمؤمنين أيضا فإنهم وإن كانوا
عالمين بذلك لكنه عند معاينة حقيقة الحال يتضح الأمر فيصل
علمهم إلى مرتبة عين اليقين أي يبعثهم ليبين لهم بذلك وبما
يحصل لهم بمشاهدة الأحوال كما هي ومعاينتها بصورها الحقيقية
الشأن الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ (1) من الحق الشامل لجميع
ما خالفوه مما جاء به الرسل المبعوثون فيهم ويدخل فيه البعث
دخولا أوليا، والتعبير عن ذلك بالموصول للدلالة على فخامته
وللإشعار بعلية ما ذكر في حيز الصلة للتبيين، وتقديم الجار
والمجرور لرعاية رؤوس الآي وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا
بالله تعالى بالإشراك وإنكار البعث الجسماني وتكذيب الرسل
عليهم السلام أَنَّهُمْ كانُوا كاذِبِينَ في كل ما يقولونه
ويدخل فيه قولهم: لا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ دخولا
أوليا.
ونقل في البحر القول بتعلق لِيُبَيِّنَ إلخ بقوله تعالى:
وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أي بعثناه ليبين
لهم ما اختلفوا فيه وأنهم كانوا على الضلالة قبل بعثه مفترين
على الله سبحانه الكذب ولا يخفى بعد ذلك وتبادر ما تقدم، وجعل
التبيين والعلم المذكورين غاية للبعث كما في إرشاد العقل
السليم باعتبار وروده في معرض الرد على المخالفين وابطال مقالة
المعاندين المستدعي للتعرض لما يردعهم عن المخالفة ويأخذ بهم
إلى الإذعان للحق فإن الكفرة إذا علموا أن تحقق البعث إذا كان
لتبيين أنه حق وليعلموا أنهم كاذبون في إنكاره كان أزجر عن
إنكاره وأدعى إلى الاعتراف به ضرورة أنه يدل على صدق العزيمة
على تحقيقه كما تقول لمن ينكر أنك تصلي لأصلين رغما لأنفك
وإظهارا لكذبك، ولأن تكرر الغايات أدل على وقوع المغيا بها
وإلا فالغاية الأصلية للبعث باعتبار ذاته إنما هو الجزاء الذي
هو الغاية القصوى للخلق المغيا بمعرفته عز وجل وعبادته، وإنما
لم يذكر ذلك لتكرر ذكره في مواضع وشهرته، وفيه أنه إنما لم
يدرج على الكفار بكذبهم تحت التبيين بأن يقال مثلا: وإن الذين
كفروا كانوا كاذبين بل جيء بصيغة العلم لأن ذلك ليس مما يتعلق
به التبيين الذي هو عبارة عن إظهار ما كان مبهما قبل ذلك بأن
يخبر به فيختلف فيه كالبعث الذي نطق به القرآن فاختلف فيه
المختلفون، وأما كذب الكافرين فليس من هذا القبيل، ويستفاد من
تحقيقه في نظير ما هنا أنه لما كان مدلول الخبر هو الصدق
والكذب احتمال عقلي وكان معنى تبيين الصدق إظهار ذلك المدلول
وقطع احتمال نقيضه بعد ما كان محتملا له عقليا ناسب أن يعلق
التبيين بالذي فيه يختلفون من الحق، وليس بين الصدق والحق كثير
فرق، ولما كان الكذب أمرا حادثا لا دلالة الخبر عليه حتى يتعلق
به التبيين والإظهار بل هو نقيض مدلوله فما يتعلق به يكون علما
مستأنفا ناسب أن يعلق العلم بأنهم كانوا كاذبين فليتدبر.
قيل: ولكون العلم بما ذكر من روادف ذلك التبيين قيل
وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا دون وليجعل الذين كفروا
عالمين، وخص الإسناد بهم حيث لم يقل وليعلموا أن الذين كفروا
كانوا كاذبين تنبيها على أن الأهم علمهم وقيل:
لم يقل ذلك لأن علم المؤمنين بما ذكر حاصل قبل ذلك أيضا. وتعقب
بأن حصول مرتبة من مراتب العلم لا يأبى حصول مرتبة أعلا منها
فلم لم يقل ذلك إيذانا بحصول هذه المرتبة من العلم لهم حينئذ،
ولعل فيه غفلة عن مراد القائل، وجوز أن يراد من علم الكفرة
بأنهم كانوا كاذبين تعذيبهم على كذبهم فكأنه قيل: ليظهر
للمؤمنين والكافرين الحق وليعذب الكافرون على كذبهم فيما كانوا
يقولونه من أنه تعالى لا يبعث من يموت ونحوه، وهذا كما يقال
للجاني: غدا تعلم جنايتك، وحينئذ وجه تخصيص الاسناد بهم ظاهر،
وهو كما ترى. وزعم بعض الشيعة أن الآية في
__________
(1) في الأصل «فيه يختلفون» وبني عليه قوله الآتي وتقديم الجار
والمجرور لرعاية رؤوس الآي ولكن التلاوة (يختلفون فيه) اه.
(7/381)
علي كرم الله تعالى وجهه والأئمة من بنيه
رضي الله تعالى عنهم وأنها من أدلة الرجعة التي قال بها
أكثرهم، وهو زعم باطل، والقول بالرجعة محض سخافة لا يكاد يقول
بها من يؤمن بالبعث، وقد بين ذلك على أتم وجه في التحفة الاثني
عشرية، ولعل النوبة تفضي إن شاء الله تعالى إلى بيانه، وما
أخرجه ابن مردويه عن علي كرم الله تعالى وجهه إنه قال: إن قوله
تعالى وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ الآية نزلت في غير مسلم الصحة،
وعلى فرض التسليم لا دليل فيه على ما يزعمونه من الرجعة بأن
يقال إنه رضي الله تعالى عنه أراد أنها نزلت بسببي، ويكون رضي
الله تعالى عنه هو الرجل الذي تقاضى دينا له على رجل من
المشركين فقال ما قال كما مر عن ابن الجوزي وأبي العالية،
وأخرجه عن أبي العالية عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن
أبي حاتم واستنبط الشيخ بهاء الدين من الآية دليلا على أن
الكذب مخالفة الواقع ولا عبرة بالاعتقاد وهو ظاهر فافهم.
إِنَّما قَوْلُنا استئناف لبيان التكوين على الإطلاق ابتداء أو
إعادة بعد التنبيه على إنية البعث ومنه يعلم كيفيته- فما- كافة
وقَوْلُنا مبتدأ، وقوله تعالى: لِشَيْءٍ متعلق به واللام
للتبليغ كما في قولك: قلت لزيد قم فقام، وقال الزجاج: هي لام
السبب أي لأجل إيجاد شيء، وتعقب بأنه ليس بواضح والمتبادر من
الشيء هنا المعدوم وهو أحد إطلاقاته، وقد برهن الشيخ إبراهيم
الكوراني عليه الرحمة على أن إطلاق الشيء على المعدوم حقيقة
كإطلاقه على الموجود وألف في ذلك رسالة جليلة سماها جلاء
الفهوم، ويعلم منها أن القول بذلك الإطلاق ليس خاصا بالمعتزلة
كما هو المشهور، ولهذا أول هنا من لم يقف على التحقيق من
الجماعة فقال: إن التعبير عنه بذلك باعتبار وجوده عند تعلق
مشيئته تعالى به لا أنه كان شيئا قبل ذلك.
وفي البحر نقلا عن ابن عطية أن في قوله تعالى: لِشَيْءٍ وجهين:
أحدهما أنه لما كان وجوده حتما جاز أن يسمى شيئا وهو في حال
العدم، والثاني أن ذلك تنبيه على الأمثلة التي ينظر فيها وأن
ما كان منها موجودا كان مرادا وقيل له كن فكان فصار مثالا لما
يتأخر من الأمور بما تقدم، وفي هذا مخلص من تسمية المعدوم شيئا
اه، وفيه من الخفاء ما فيه، وأيّا ما كان فالتنوين للتنكير أي
لشيء أي شيء كان مما عز وهان إِذا أَرَدْناهُ ظرف- لقولنا- أي
وقت تعلق إرادتنا بإيجاده أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ في تأويل
مصدر خبر للمبتدأ، واللام في لَهُ كاللام في لِشَيْءٍ
فَيَكُونُ إما عطف على مقدر يفصح عنه الفاء وينسحب عليه الكلام
أي فنقول ذلك فيكون، وإما جواب لشرط محذوف أي فإذا قلنا ذلك
فهو يكون، وقيل: إنه بعد تقدير هو تكون الجملة خبرا لمبتدأ
محذوف أي ما أردناه فهو يكون، وكان في الموضعين تامة، والذي
ذهب إليه أكثر المحققين وذكره مقتصرا عليه شيخ الإسلام أنه ليس
هناك قول ولا مقول له ولا أمر ولا مأمور حتى يقال: إنه يلزم
أحد المحالين إما خطاب المعدوم أو تحصيل الحاصل أو يقال:
إِنَّما مستدعية انحصار قوله تعالى في قوله تعالى: كُنْ وليس
يلزم منه انحصار أسباب التكوين فيه كما يفيده قوله سبحانه:
إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ
فَيَكُونُ [يس: 82] فإن المراد بالأمر الشأن الشامل للقول
والفعل ومن ضرورة انحصاره في كلمة كن انحصار أسبابه على
الإطلاق في ذلك بل إنما هو تمثيل لسهولة تأتي المقدورات حسب
تعلق مشيئته تعالى وتصوير لسرعة حدوثها بما هو علم في ذلك من
طاعة المأمور المطيع لأمر الآمر المطاع، فالمعنى إنما إيجادنا
لشيء عند تعلق مشيئتنا به أن نوجده في أسرع ما يكون، ولما عبر
عنه بالأمر الذي هو قول مخصوص وجب أن يعبر عن مطلق الإيجاد
بالقول المطلق.
وقيل: إن الكلام على حقيقته وبذلك جرت العادة الإلهية ونسب إلى
السلف، وأجيب لهم عن حديث لزوم أحد المحذورين تارة بأن الخطاب
تكويني ولا ضير في توجهه إلى المعدوم، وتعقب بأنه قول بالتمثيل
وتارة بأن
(7/382)
المعدوم ثابت في العلم ويكفي في صحة خطابه
ذلك حتى أن بعضهم قال بأنه مرئي له تعالى في حال عدمه، وتعقب
بما يطول، وأما حديث الانحصار فقالوا إن الأمر فيه هين، وقد مر
بعض الكلام في هذا المقام.
واحتج بعض أهل السنة بالآية بناء على الحقيقة على قدم القرآن
قال: إنها تدل على أنه تعالى إذا أراد إحداث شيء قال له كن فلو
كان كن حادثا لزم التسلسل وهو محال فيكون قديما ومتى قيل بقدم
البعض فليقل بقدم الكل، وتعقب بأن كلمة إذا لا تفيد التكرار
ولذا إذا قال لامرأته: إذا دخلت الدار فأنت طالق فدخلت مرات لا
تطلق إلا طلقة واحدة فلا يلزم أن يكون كل محدث محدثا بكلمة كن
فلا يلزم التسلسل على أن القول بقدم كُنْ ضروري البطلان لما
فيه من ترتب الحروف، وكذا يقال في سائر الكلام اللفظي.
وقال الإمام: إن الآية مشعرة بحدوث الكلام من وجوه: الأول أن
قوله تعالى: إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ يقتضي
كون القول واقعا بالإرادة وما كان كذلك فهو محدث، والثاني أنه
علق القول بكلمة إِذا ولا شك أنها تدخل للاستقبال، والثالث أن
قوله تعالى: أَنْ نَقُولَ لا خلاف في أنه ينبئ عن الاستقبال،
والرابع أن قوله سبحانه كُنْ فَيَكُونُ كن فيه مقدمة على حدوث
المكون ولو بزمان واحد والمقدم على المحدث كذلك محدث فلا بد من
القول بحدوث الكلام. نعم إنها تشعر بحدوث الكلام اللفظي الذي
يقول به الحنابلة ومن وافقهم ولا تشعر بحدوث الكلام النفسي.
والأشاعرة في المشهور عنهم لا يدعون إلا قدم النفسي وينكرون
قدم اللفظي، وهو بحث أطالوا الكلام فيه فليراجع. وما ذكر من
دلالة إِذا ونَقُولَ على الاستقبال هو ما ذكره غير واحد، لكن
نقل أبو حيان عن ابن عطية أنه قال: ما في ألفاظ هذه الآية من
معنى الاستقبال والاستئناف إنما هو راجع إلى المراد لا إلى
الإرادة، وذلك أن الأشياء المرادة المكونة في وجودها استئناف
واستقبال لا في إرادة ذلك ولا في الأمر به لأن ذينك قديمان فمن
أجل المراد عبر بإذا ونقول. وأنت تعلم أنه لا كلام في قدم
الإرادة لكنهم اختلفوا في أنها هل لها تعلق حادث أم لا فقال
بعضهم بالأول، وقال آخرون: ليس لها إلا تعلق أزلي لكن بوجود
الممكنات فيما لا يزال كل في وقته المقدر له. فالله تعالى
تعلقت إرادته في الأزل بوجود زيد مثلا في يوم كذا وبوجود عمرو
في يوم كذا وهكذا، ولا حاجة إلى تعلق حادث في ذلك اليوم، وأما
الأمر فالنفسي منه قديم واللفظي حادث عن القائلين بحدوث الكلام
اللفظي. وأما الزمان فكثيرا ما لا يلاحظ في الأفعال المستندة
إليه تعالى، واعتبر كان الله تعالى ولا شيء معه وخلق الله
تعالى العالم ونحو ذلك ولا أرى هذا الحكم مخصوصا فيما إذا فسر
الزمان بما ذهب إليه الفلاسفة بل يطرد في ذلك وفيما إذا فسر
بما ذهب إليه المتكلمون فتأمل والله تعالى الهادي. وجعل غير
واحد الآية لبيان إمكان البعث، وتقريره أن تكوين الله تعالى
بمحض قدرته ومشيئته لا توقف له على سبق المواد والمدد وإلا لزم
التسلسل، وكما أمكن له تكوين الأشياء ابتداء بلا سبق مادة
ومثال أمكن له تكوينها إعادة بعده وظاهره أنه قول بإعادة
المعدوم، وظواهر كثير من النصوص أن البعث بجمع الأجزاء
المتفرقة، وسيأتي تحقيق ذلك كما وعدناك آنفا إن شاء الله
تعالى.
وقرأ ابن عامر والكسائي هاهنا وفي [يس: 82] فَيَكُونُ بالنصب،
وخرجه الزجاج على العطف على نَقُولَ أي فإن يكون أو على أن
يكون جواب كُنْ، وقد رد هذا الرضي وغيره بأن النصب في جواب
الأمر مشروط بسببية مصدر الأول للثاني وهو لا يمكن هنا
لاتحادهما فلا يستقيم ذاك، ووجه بأن مراده أنه نصب لأنه مشابه
لجواب الأمر لمجيئه بعده وليس بجواب له من حيث المعنى لأنه لا
معنى لقولك: قلت لزيد اضرب تضرب.
وتعقب بأنه لا يخفى ضعفه وأنه يقتضي إلغاء الشرط المذكور، ثم
قيل: والظاهر أن يوجه بأنه إذا صدر مثله عن البليغ على قصد
التمثيل لسرعة التأثير بسرعة مبادرة المأمور إلى الامتثال يكون
المعنى أن أقل لك اضرب تسرع إلى
(7/383)
الامتثال فيكون المصدر المسبب عنه مسبوكا
من الهيئة لا من المادة، ومصدر الثاني من المادة أو محصل
المعنى وبه يحصل التغاير بين المصدرين ويتضح السببية
والمسببية، وقال بعضهم: إن مراد من قال إن النصب للمشابهة
لجواب الأمر أن فَيَكُونُ كما في قراءة الرفع معطوف على ما
ينسحب عليه الكلام أو هو بتقدير فهو يكون خبر لمبتدأ محذوف إلا
أنه نصب لهذه المشابهة، وفيه ما فيه وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي
اللَّهِ أي في حقه- ففي- على ظاهرها ففيه إشارة إلى أنها هجرة
متمكنة تمكن الظرف في مظروفه فهي ظرفية مجازية أو لأجل رضاه-
ففي- للتعليل كما في
قوله صلى الله عليه وسلم: «إن امرأة دخلت النار في هرة»
والمهاجرة في الأصل مصارمة الغير ومتاركته واستعملت في الخروج
من دار الكفر إلى دار الإيمان أي والذين هجروا أوطانهم وتركوها
في الله تعالى وخرجوا مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا أي من بعد ظلم
الكفار إياهم. أخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن
أبي حاتم عن قتادة قال: هم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم
ظلمهم أهل مكة فخرجوا من ديارهم حتى لحق طوائف منهم بأرض
الحبشة ثم بوأهم الله تعالى المدينة بعد ذلك حسبما وعد سبحانه
بقوله جل وعلا: لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً أي
مباءة حسنة، وحاصله لننزلهم في الدنيا منزلا حسنا، وعن الحسن
دارا حسنة، والتقدير الأول أظهر لدلالة الفعل عليه، والثاني
أوفق بقوله تعالى: تَبَوَّؤُا الدَّارَ [الحشر: 9] ، وأيّا ما
كان- فحسنة- صفة محذوف منصوب نصب الظروف، وجوز أن يكون مفعولا
ثانيا لنبوئنهم على معنى لنعطينهم منزلة حسنة، وفسر ذلك
بالغلبة على أهل مكة الذين ظلموهم وعلى العرب قاطبة، وقيل: هي
ما بقي لهم في الدنيا من الثناء وما صار لأولادهم من الشرف،
وعن مجاهد أن التقدير معيشة حسنة أي رزقا حسنا وقيل:
التقدير عطية حسنة، والمراد بالعطية المعطى، ويفسر ذلك بكل شيء
حسن ناله المهاجرون في الدنيا، وقدر بعضهم تبوئة حسنة فهو صفة
مصدر محذوف، وقد تعتبر هذه التبوئة بحيث تشمل إعطاء كل شيء حسن
صار للمهاجرين على نحو السابق. وفي البحر أن الظاهر أن انتصاب
حَسَنَةً على المصدر على غير الصدر لأن معنى لنبوئنهم لنحسنن
إليهم فحسنة بمعنى إحسانا، وعلى جميع التقادير الَّذِينَ
هاجَرُوا مبتدأ وجملة لَنُبَوِّئَنَّهُمْ خبره.
وجوز أبو البقاء أن يكون الَّذِينَ منصوب بفعل محذوف يفسره
المذكور، والأول متعين عند أبي حيان قال:
وفيه دليل على صحة وقوع الجملة القسمية خبرا للمبتدأ خلافا
لثعلب، والذي ذهب إليه بعض المحققين أن الخبر في مثل ذلك «إنما
هو جملة الجواب المؤكدة بالقسم وهي إخبارية لا إنشائية، واعترض
على أبي البقاء في الوجه الثاني بأنه لا يجوز النصب بالفعل
المحذوف إلا حيث يجوز للمذكور أن يعمل في ذلك المنصوب حتى يصح
أن يكون مفسرا وما هنا ليس كذلك فإنه لا يجوز زيدا لأضربن فلا
يجوز زيدا لأضربنه، والجار والمجرور متعلق بما عنده، وقيل:
بمحذوف وقع حالا من حَسَنَةً هذا.
ونقل عن ابن عباس أن الآية نزلت في صهيب وبلال وعمار وخباب
وعابس وجبير وأبي جندل بن سهيل أخذهم المشركون فجعلوا يعذبونهم
ليردوهم عن الإسلام، فأما صهيب فقال لهم: أنا رجل كبير إن كنت
معكم لم أنفعكم وإن كنت عليكم لم أضركم فافتدى منهم بماله
وهاجر فلما رآه أبو بكر رضي الله تعالى عنه قال: ربح البيع يا
صهيب وقال عمر رضي الله تعالى عنه: نعم العبد صهيب لو لم يخف
الله لم يعصه، والجمهور على ما روي عن قتادة بل قال ابن عطية:
إنه الصحيح، ولم نجد لهذا الخبر عن ابن عباس رضي الله تعالى
عنهما سندا يعول عليه. وذكر العلامة الشيخ بها الدين السبكي في
شرح التلخيص كغيره من المحدثين مثل الحافظ العلامة زين الدين
عبد الرحيم العراقي وولده الفقيه الحافظ أبي زرعة وغيرهما فيما
نسب لعمر رضي الله تعالى عنه فيه من قوله: نعم العبد صهيب إلى
آخره أنا لم نجده في شيء من كتب الحديث بعد الفحص الشديد، وهذا
يوقع شبهة قوية في صحة ذلك. نعم في الدر المنثور، أخرج ابن
جرير، وابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس رضي الله تعالى
عنهما أنه قال في هؤلاء الذين
(7/384)
هاجروا: هم قوم من أهل مكة هاجروا إلى رسول
الله صلى الله عليه وسلم بعد ظلمهم ثم قال: وظلمهم الشرك، لكن
يقتضي هذا بظاهره أنه رضي الله تعالى عنه كان يقرأ «ظلموا»
بالبناء للفاعل.
وأورد على الخبرين أنه قيل: إن السورة مكية إلا ثلاث آيات في
آخرها فإنها مدنية، ويلتزم إذا صح الخبر الذهاب إلى أن فيها
مدنيا غير ذلك، أو القول بأن المراد من المكي ما نزل في حق أهل
مكة، أو أن هذه الآية لم تنزل بالمدينة وأن المكي ما نزل
بغيرها، أو القول بأن ذلك من الإخبار بالشيء قبل وقوعه، والكل
كما ترى، ولا يرد على القول الأول الذي عليه الجمهور أنه مخالف
للقول المشهور في السورة لأن هجرة الحبشة كانت قبل هجرة
المدينة فلا مانع من كون الآية مكية بالمعنى المشهور عليه، لكن
قيل: إن قتادة القائل بما تقدم قائل بأن هذه الآية إلى آخر
السورة مدنية وهو آب عما ذكر، ومن هنا حمل بعضهم ما نقل عنه
سابقا على أن نزولها كان بين الهجرتين بالمدينة، ولا يمكن
الجمع بين هذه الأقوال أصلا، والذي ينبغي أن يعول عليه أن
السورة مكية إلا الآيات ليست هذه منها بل هي مكية نزلت بين
الهجرتين فيمن ذكره الجمهور، والله تعالى أعلم بحقيقة الحال،
وقال بعضهم: إن الذين هاجروا عام في المهاجرين كائنا من كان
فيشمل أولهم وآخرهم وكان هذا من قائله اعتبار لعموم اللفظ لا
لخصوص السبب كما هو المقرر عندهم. وقرأ علي كرم الله تعالى
وجهه، وعبد الله رضي الله تعالى عنه. ونعيم بن ميسرة. والربيع
بن خيثم- لنثوينهم- بالثاء المثلثة من أثوى المنقول بهمزة
التعدية من ثوى بالمكان أقام فيه، قال في البحر: وانتصاب
(حسنة) على تقدير إثواءة حسنة أو على نزع الخافض أي في حسنة أي
دار حسنة أو منزلة حسنة ولا مانع على ما قيل من اعتبار تضمين
الفعل معنى نعطيهم كما أشير إليه أولا. واستدل بالآية على أحد
الأقوال على شرف المدينة وشرف إخلاص العمل لله تعالى
وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أي أجر أعمالهم المذكورة في الدار
الآخرة أَكْبَرُ مما يعجل لهم في الدنيا. أخرج ابن جرير وابن
المنذر عن عمر بن الخطاب أنه كان إذا أعطى الرجل من المهاجرين
عطاء يقول له: خذ بارك الله تعالى لك هذا ما وعدك الله تعالى
في الدنيا وما أخر لك في الآخرة أفضل ثم يقرأ هذه الآية، وقيل:
المراد أكبر من أن يعلمه أحد قبل مشاهدته، ولا يخفى ما في
مخالفة أسلوب هذا الوعد لما قبله من المبالغة لَوْ كانُوا
يَعْلَمُونَ الضمير للكفرة الظالمين أي لو علموا أن الله تعالى
يجمع لهؤلاء المهاجرين خير الدارين لوافقوهم في الدين، وقيل:
هو للمهاجرين أي لو علموا ذلك لزادوا في الاجتهاد ولما تألموا
لما أصابهم من المهاجرة وشدائدها ولازدادوا سرورا. وفي المعالم
لا يجوز ذلك لأن المهاجرين يعلمونه ودفع بأن المراد علم
المشاهدة وليس الخبر كالمعاينة أو المراد العلم التفصيلي. وجوز
أن يكون الضمير للمتخلفين عن الهجرة يعني لو علم المتخلفون عن
الهجرة ما للمهاجرين من الكرامة لوافقوهم.
الَّذِينَ صَبَرُوا على ما نالهم من الظلم ولم يرجعوا القهقرى
وعلى مفارقة الوطن وهو حرم الله سبحانه المحبوب لكل مؤمن فضلا
عمن كان مسقط رأسه وعلى احتمال الغربة بين أناس أجانب في النسب
لم يألفهم وعلى غير ذلك، ومحل الموصول النصب بتقدير أعني أو
الرفع بتقدير- هم- ويجوز أن يكون تابعا للذين هاجروا بدلا أو
بيانا أو نعتا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ منقطعين إليه
معرضين عمن سواه مفوضين إليه الأمر كله كما يفيده حذف متعلق
التوكل، وقيل: تقديم الجار والمجرور المؤذن بالحصر وكونه
لرعاية الفواصل غير متعين، وصيغة الاستقبال إما للاستمرار أو
لاستحضار تلك الصورة البديعة، والجملة إما معطوفة على الصلة أو
حال من ضمير صبروا.
وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجالًا نُوحِي
إِلَيْهِمْ رد لقريش حيث أنكروا رسالة النبي صلى الله عليه
وسلم وقالوا: الله تعالى أعظم أن يكون رسوله بشرا هلا بعث
إلينا ملكا أي جرت السنة الإلهية حسبما اقتضته الحكمة بأن لا
نبعث للدعوة
(7/385)
العامة إلا بشرا نوحي إليهم بواسطة الملك
في الأغلب الأوامر والنواهي ليبلغوها، ويحترز بالدعوة العامة
عن بعث الملك للأنبياء عليهم السلام للتبليغ أو لغيرهم كبعثه
لمريم للبشارة، وبالأغلب بعض أقسام الوحي مما لم يكن بواسطة
الملك كما يشير إليه قوله تعالى: وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ
يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ
أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ ما يَشاءُ
[الشورى: 51] وقرأ الجمهور «يوحى» بالياء وفتح الحاء. وفرقة
بالياء وكسرها وعبد الله والسلمي وطلحة. وحفص بالنون وكسرها.
وفي ذلك من تعظيم أمر الوحي ما لا يخفى. ولما كان المقصود من
الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم تنبيه الكفار على مضمونه
صرف الخطاب إليهم فقيل فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ أي أهل
الكتاب من اليهود والنصارى قاله ابن عباس والحسن والسدي
وغيرهم، وتسمية الكتاب تعلم مما سيأتي إن شاء الله تعالى، وعن
مجاهد تخصيصه بالتوراة لقوله تعالى: وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي
الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ [الأنبياء: 105] فأهله
اليهود.
قال في البحر والمراد من لم يسلم من أهل الكتاب لأنهم الذين لا
يتهمون عند أهل مكة في إخبارهم بأن الرسل عليهم السلام كانوا
رجالا فاخبارهم بذلك حجة عليهم، والمراد كسر حجتهم وإلزامهم
وإلا فالحق واضح في نفسه لا يحتاج فيه إلى أخبار هؤلاء، وقد
أرسل المشركون بعد نزولها إلى أهل يثرب يسألونهم عن ذلك، وقال
الأعمش وابن عيينة وابن جبير: المراد من أسلم منهم كعبد الله
بن سلام وسلمان الفارسي رضي الله تعالى عنهما وغيرهما.
ويضعفه أن قول من أسلم لا حجة فيه على الكفار ومنه يعلم ضعف ما
قاله أبو جعفر. وابن زيد من أن المراد الذكر القرآن لأن الله
تعالى سماه ذكرا في مواضع منها ما سيأتي إن شاء الله تعالى
قريبا، وأهل الذكر على هذا المسلمون مطلقا، وخصهم بعض الإمامية
بالأئمة أهل البيت احتجاجا بما رواه جابر. ومحمد بن مسلم منهم
عن أبي جعفر رضي الله تعالى عنه قال: نحن أهل الذكر، وبعضهم
فسر الذكر بالنبي صلى الله عليه وسلم لقوله تعالى: ذِكْراً
رَسُولًا [الطلاق: 10، 11] على قول، ويقال على مقتضى ما في
البحر: كيف يقنع كفار أهل مكة بخبر أهل البيت في ذلك وليسوا
بأصدق من رسول الله عندهم وهو عليه الصلاة والسلام المشهور
فيما بينهم بالأمين، ولعل ما رواه ابن مردويه منا موافقا
بظاهره لمن زعمه ذلك البعض من الإمامية
عن أنس قال: «سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن
الرجل ليصلي ويصوم ويحج ويعتمر وإنه لمنافق قيل: يا رسول الله
بماذا دخل عليه النفاق؟ قال: يطعن على إمامه وإمامه من قال
الله تعالى في كتابه: فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إلى آخره»
مما لا يصح، وأنا أقول يجوز أن يراد من أهل الذكر أهل القرآن
وإن قال أبو حيان ما قال وستعلم وجهه قريبا إن شاء الله تعالى
المنان، وقال الرماني والزجاج، والأزهري: المراد بأهل الذكر
علماء أخبار الأمم السالفة كائنا من كان فالذكر بمعنى الحفظ
كأنه قيل: اسألوا المطلعين على أخبار الأمم يعلموكم بذلك إِنْ
كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ وجواب إن إما محذوف لدلالة ما قبله
عليه أي فاسألوا، وإما نفس ما قبله بناء على جواز تقدم الجواب
على الشرط. واستدل بالآية على أنه تعالى لم يرسل امرأة ولا
صبيا ولا ينافيه نبوة عيسى عليه السلام في المهد فإن النبوة
أعم من الرسالة ولا يقتضي صحة القول بنبوة مريم أيضا لأن غايته
نفي رسالة المرأة، ولا يلزم من ذلك إثبات نبوتها، وذهب إلى صحة
نبوة النساء جماعة وصحح ذلك ابن السيد، ولا ينافي ما دلت عليه
الآية من نفي إرسال الملائكة عليهم السلام قوله تعالى: جاعل
الملائكة رسلا لأن المراد جاعلهم رسلا إلى الملائكة أو إلى
الأنبياء عليهم السلام لا للدعوة العامة وهو المدعى كما علمت
فالرسول إما بالمعنى المصطلح أو بالمعنى اللغوي، وقال الجبائي:
إن الملائكة عليهم السلام لم يبعثوا إلى الأنبياء عليهم السلام
إلا ممثلين بصور الرجال ورد بما
روي أن نبينا صلى الله عليه وسلم رأى جبريل عليه السلام على
صورته التي هو عليها مرتين
وهو وارد على الحصر المقتضي للعموم فلا يرد عليه أنه لا دلالة
فيما روى على رؤية من قبل نبينا عليه الصلاة والسلام لجبريل
عليه السلام على صورته مع أنه إذا ثبت ذلك للنبي صلى الله عليه
وسلم
(7/386)
ولم يثبت أنه من خصوصياته عليه الصلاة
والسلام فلا مانع من ثبوته لغيره قاله الشهاب، وذكر أنه نقل
الإمام عن القاضي أن مراد الجبائي أنهم لم يبعثوا إلى الأنبياء
عليهم الصلاة والسلام بحضرة أممهم إلا وهم على صور الرجال كما
روي أن جبريل عليه السلام حضر عند رسول الله صلى الله عليه
وسلم بمحضر من أصحابه في صورة دحية الكلبي وفي صورة سراقة وفي
صورة أعرابي لم يعرفوه.
واستدل بها أيضا على وجوب المراجعة للعلماء فيما لا يعلم.
وفي الإكليل للجلال السيوطي أنه استدل بها على جواز تقليد
العام في الفروع وانظر التقييد بالفروع فإن الظاهر العموم لا
سيما إذا قلنا إن المسألة المأمورين بالمراجعة فيه والسؤال
عنها من الأصول، ويؤيد ذلك ما نقل عن الجلال المحلي أنه يلزم
غير المجتهد عاميا كان أو غيره التقليد للمجتهد لقوله تعالى:
فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ
والصحيح أنه لا فرق بين المسائل الاعتقادية وغيرها وبين أن
يكون المجتهد حيا أو ميتا اه.
وصحيح هو وغيره امتناع التقليد على المجتهد مطلقا سواء كان له
قاطع أو لا وسواء كان مجتهدا بالفعل أو له أهلية الاجتهاد،
ومقتضى كلامهم أنه لا فرق بين تقليد أحد أئمة المذاهب الأربع
وتقليد غيره من المجتهدين نعم ذكر العلامة ابن حجر، وغيره أنه
يشترط في تقليد الغير أن يكون مذهبه مدونا محفوظ الشروط
والمعتبرات فقول السبكي:
إن مخالف الأربعة كمخالف الإجماع محمول على ما لم يحفظ ولم
تعرف شروطه وسائر معتبراته من المذاهب التي انقطع حملتها وفقدت
كتبها كمذهب الثوري والأوزاعي وابن أبي ليلى وغيرهم، ثم إن
تقليد الغير بشرطه إنما يجوز في العمل وأما للإفتاء والقضاء
فيتعين أحد المذاهب الأربع، واستشكل الفرق العلامة ابن قاسم
العبادي، وأجيب بأنه يحتمل أن يكون الفرق أنه يحتاط فيهما
لتعديهما ما لا يحتاط في العمل فيتركان لأدنى محذور ولو
محتملا، ونظير ذلك ما ذكره بعض الشافعية في القولين المتكافئين
أنه لا يفتى ولا يقضى بكل مهما لاحتمال كونه مرجوحا ويجوز
العلم به وذكر الإمام أن من الناس من جوز التقليد للمجتهد لهذه
الآية فقال: لما لم يكن أحد المجتهدين عالما وجب عليه الرجوع
إلى المجتهد العالم لقوله تعالى: فَسْئَلُوا الآية فإن لم يجب
فلا أقل من الجواز، وأيد ذلك بأن بعض المجتهدين نقلوا مذاهب
بعض الصحابة وأقروا الحكم عليه، والصحيح ما سمعت أولا، وما ذكر
ليس بتقليد بل هو من باب موافقة الاجتهاد الاجتهاد. واحتج بها
أيضا نفاة القياس فقالوا: المكلف إذا نزلت به واقعة فإن كان
عالما بحكمها لم يجز له القياس وإلا وجب عليه سؤال من كان
عالما بها بظاهر الآية ولو كان القياس حجة لما وجب عليه السؤال
لأجل أنه يمكنه استنباط ذلك الحكم بالقياس، فثبت أن تجويز
العمل بالقياس يوجب ترك العمل بظاهر الآية فوجب أن لا يجوز.
وأجيب بأنه ثبت جواز العمل بالقياس بإجماع الصحابة والإجماع
أقوى من هذا الدليل.
وقال بعضهم: إذا كان المكلف ممن يقدر على القياس كان ممن يعلم
فلا يجب عليه السؤال فتأمل.
بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ أي بالمعجزات والكتب، والأولى
للدلالة على الصدق، والثانية لبيان الشرائع والتكاليف.
وانحرف عن الحق من فسرهما بما هو مصطلح أهل الحرف. والجار
المجرور متعلق بمقدر يدل عليه ما قبله وقع جوابا عن سؤال من
قال: بم أرسلوا؟ فقيل: أرسلوا بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ.
وجوز الزمخشري والحوفي تعلقه- بأرسلنا- السابق داخلا تحت حكم
الاستثناء مع رِجالًا أي وما أرسلنا إلا رجالا بالبينات وهو في
معنى قولك: ما أرسلنا جماعة من الجماعات بشيء من الأشياء إلا
رجالا بالبينات، ومثل ما ضربت إلا زيدا بسوط، وهو مبني على ما
جوزه بعض النحاة من جواز أن يستثنى بأداة واحدة سيئان دون عطف
وأنه يجري في الاستثناء المفرغ، وأكثر النحاة على منعه كما صرح
به صاحب التسهيل وغيره.
وقال في الكشف: والحق أنه لا يجوز لأن إلا من تتمة ما دخلت
عليه كالجزء منه وللزوم الإلباس. أو وجوب
(7/387)
أن يكون جميع ما يقع بعد إلا محصورا وأن
يجب نحو ما ضرب إلا زيدا عمرا إذا أريد الحصر فيهما ولا يكون
فرق بين هذا وذاك، وكل ذلك ظاهر الانتفاء. والزمخشري جوز ذلك
وصرح به في مواضع من كشافه، واستدل عليه بأن أصل ما ضربت إلا
زيدا بسوط ضربت زيدا بسوط وأراد أن زيادة ما وإلا ليست إلا
تأكيدا فلتؤكد لما كان أصل الكلام عليه، وهو حسن لولا أن
الاستعمال والقياس آبيان، وقال بعضهم: إنه متعلق به فمن غير
دخوله مع رجالا تحت حكم الاستثناء على أن أصله وما أرسلنا
بالبينات والزبر إلا رجالا.
وتعقب بأنه لا يجوز على مذهب البصريين حيث لا يجيزون أن يقع
بعد إلا مستثنى أو مستثنى منه أو تابعا وما ظن من غير الثلاثة
معمولا لما قبل إلا قدر له عامل، وأجاز الكسائي أن يقع معمولا
لما قبلها منصوب كما ضرب إلا زيد عمرا، ومخفوض كما مر إلا زيد
بعمرو ولا يعذب إلا الله بالنار، ومرفوع كما ضرب إلا زيدا
عمرو، ووافقه ابن الأنباري في المرفوع، والأخفش في الظرف
والجار والحال، فما ذكر مبني على مذهب الكسائي والأخفش، لكن
قال الشهاب: إنه خلاف ظاهر الكلام وإخراج له عن سنن الانتظام
وأكثر النحاة على أنه ممنوع، وجوز أن يكون متعلقا بما رفع صفة-
لرجالا- أي رجالا ملتبسين بالبينات ولم يقع حالا منه، قيل:
لأنه نكرة متقدمة، نعم قيل: بجواز وقوعه حالا من ضمير الرجال
في إِلَيْهِمْ وقيل: يجوز كونه حالا من رِجالًا لأنه نكرة
موصوفة، واختار أبو حيان مجيء الحال من النكرة بلا مسوغ كثيرا
قياسا ونقله عن سيبويه وإن كان دون الاتباع في القوة.
وجوز أيضا تعلقه- بنوحي- وقوله سبحانه: فَسْئَلُوا أَهْلَ
الذِّكْرِ اعتراض على الوجوه المتقدمة أو غير الأول، وتصدير
الجملة المعترضة بالفاء صرح به في التسهيل وغيره، وما نقل من
منعه ليس بثبت، ثم إذا كان اعتراضا متخللا بين مقصوري حرف
الاستثناء معناه فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون أنا
أرسلنا رجالا بالبينات وعلى الوصفية إن كنتم لا تعلمون أنهم
رجالا متلبسون بالبينات، وعلى هذا يقدر الاعتراض مناسبا لما
تخلل بينهما، وأشبه إلا وجه أن يكون على كلامين ليقع الاعتراض
موقعه اللائق به لفظا ومعنى قاله في الكشف.
وجوز أن يتعلق- بتعلمون- فلا اعتراض، وفي الشرط معنى التبكيت
والإلزام كما في قول الأجير: إن كنت عملت لك فأعطني حقي، فإن
الأجير لا يشك في أنه عمل وإنما أخرج الكلام مخرج الشك لأن ما
يعامل به من التسويف معاملة من يظن بأجيره أنه لم يعمل، فهو في
ذلك يلزمه مقتضى ما اعترف به من العمل ويبكته بالتقصير مجهلا
إياه، فكذا ما هنا لا يشك أن قريشا لم يكونوا من علم البينات
والزبر في شيء فيقول: إن كون الرسل عليهم السلام رجالا أمر
مكشوف لا شبهة فيه فاسألوا أهل الذكر إن لم تكونوا من أهله
يبين لكم يريد أن إنكاركم وأنتم لا تعلمون ليس بسديد وإنما
السبيل أن تسألوا من أهل الذكر لا أن تنكروا قولهم، فإنكاركم
مناف لما تقتضيه حالكم من السؤال فهو تبكيت (1) من حيث
الاعتراف بعدم العلم وسبيل الجاهل سؤال من يعلم لا إنكاره،
قاله في الكشف أيضا، ثم قال: ولا أخص أهل الذكر بأهل الكتابين
ليشمل النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، ولو خص لجاز لأنهم
موافقون في ذلك فانكارهم انكارهم، ثم التبكيت متوجه إلى العدول
عن السؤال إلى الإنكار سألوا أولا انتهى. ومنه يعلم جواز أن
يراد بأهل الذكر أهل القرآن، وما ذكر أبو حيان في تضعيفه من
أنه لا حجة في إخبارهم ولا إلزامهم ناشئ من عدم الوقوف على هذا
التحقيق الأنيق، وهذا ظاهر على تقدير تعلق بِالْبَيِّناتِ-
بيعلمون- والباء على هذا التقدير سببية والمفعول محذوف عند
بعض، وزعم آخر أنها زائدة والبينات هي المفعول، فافهم ذاك،
والله تعالى يتولى هداك
__________
(1) وزعم بعضهم أن التبكيت إنما جاء من (إن) فتدبر اه منه.
(7/388)
وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ أي القرآن
وهو من التذكير إما بمعنى الوعظ أو بمعنى الإيقاظ من سنة
الغفلة وإطلاقه على القرآن إما لاشتماله على ما ذكر ولأنه سبب
له، ومنه يعلم وجه تسمية التوراة ونحوها ذكرا، وقيل: المراد
بالذكر العلم وليس بذاك لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ كافة ويدخل فيهم
أهل مكة دخولا أوليا ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ في ذلك الذكر من
الأحكام والشرائع وغير ذلك من أحوال القرون المهلكة بافانين
العذاب حسب أعمالهم مع أنبيائهم عليهم السلام الموجبة لذلك على
وجه التفصيل بيانا شافيا كما ينبئ عنه صيغة التفعيل في الفعلين
لا سيما بعد ورود الثاني أولا على صيغة الأفعال، وعن مجاهد أن
المراد بهذا التبيين تفسير المحمل وشرح ما أشكل إذا هما
المحتاجان للتبيين، وأما النص والظاهر فلا يحتاجان إليه.
وقيل: المراد به إيقافهم على حسب استعداداتهم المتفاوتة على ما
خفي عليهم من أسرار القرآن وعلومه التي لا تكاد تحصى، ولا يختص
ذلك بتبيين الحرام والحلال وأحوال القرون الخالية والأمم
الماضية، واستأنس له بما
أخرجه الحاكم وصححه عن حذيفة قال: «قام فينا رسول الله صلى
الله عليه وسلم مقاما أخبرنا فيه بما يكون إلى يوم القيامة
عقله منا من عقله ونسيه من نسيه»
وهذا في معنى ما ذكر غير واحد أن التبيين أعم من التصريح
بالمقصود ومن الإرشاد إلى ما يدل عليه، ويدخل فيه القياس
وإشارة النص ودلالته وما يستنبط منه من العقائد والحقائق
والأسرار، ولعل قوله عز وجل: وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ
إشارة إلى ذلك أي وطلب إن يتأملوها فينتبهوا للحقائق وما فيه
من العبر ويحترز عما يؤدي إلى ما أصاب الأولين من العذاب، وقال
بعض المعتزلة: أي وإرادة أن يتفكروا في ذلك فيعلموا الحق ثم
قال: وفيه دلالة على أن الله تعالى إرادة من جميع الناس التفكر
والنظر المؤدي إلى المعرفة بخلاف ما يقول أهل الجبر، ونحن في
غنى عن تقدير الإرادة بتقدير الطلب، ومن قدرها منا أراده منها،
وإلا ورد عليه عدم تأمل البعض ولعله الأكثر، وهي لا ينفك
المراد عنها على المذهب الحق فلا بد من العدول عنه إلى مقابله،
وقيل: أراد تعلقها بالبعض وهو المتأمل لا بالكل، وأيد بعضهم
إرادة الصحابة أو ما يشملهم والنبي صلى الله عليه وسلم من أهل
الذكر فيما تقدم بذكر هذه الآية بعده وليس بذي أيد أَفَأَمِنَ
الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئاتِ هم عند أكثر المفسرين أهل مكة
الذين مكروا برسول الله صلى الله عليه وسلم وراموا ضد أصحابه
رضي الله تعالى عنهم عن الإيمان، وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير
وغيرهما عن مجاهد أنهم نمروذ بن كنعان وقومه، وعمم بعضهم فقال:
هم الذين احتالوا لهلاك الأنبياء عليهم السلام، وتعقب بأن
المراد تحذير أهل مكة عن إصابة ما أصاب الأولين من فنون العذاب
المعدودة فالمعول عليه ما عند الأكثر، و «السيئات» نعت لمصدر
محذوف أي مكروا المكرات السيئات التي قصت عنهم أو مفعول به
للفعل المذكور على تضمينه معنى فعل متعد كعمل أي عملوا السيئات
ماكرين فقوله تعالى أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ
مفعول لأمن أو السَّيِّئاتِ مفعول لأمن بتقدير مضاف أو تجوز أي
عقاب السيئات أو على أن السَّيِّئاتِ بمعنى العقوبات التي
تسوءهم، وأَنْ يَخْسِفَ بدل من ذلك وعلى كل حال فالفاء للعطف
على مقدر ينسحب عليه النظم الكريم أي أنزلنا إليك الذكر لتبين
لهم مضمونه الذي من جملته انباء الأمم المهلكة بفنون العذاب
ويتفكروا في ذلك ألم يتفكروا فأمن الذين مكروا السيئات إلخ على
توجيه الإنكار إلى المعطوفين أو أتفكروا فأمنوا على توجيهه إلى
المعطوف، وقيل: هو للعطف على مقدر ينبئ عنه الصلة أي أمكروا
فأمن الذين مكروا السيئات إلخ، وخسف يستعمل لازما ومتعديا
يقال:- كما قال الراغب- خسفه الله تعالى وخسف هو وكلا
الاستعمالين محتمل هنا، فالباء إما للتعدية أو للملابسة
والْأَرْضَ إما مفعول به أو نصب بنزع الخافض أي فأمن الذي
مكروا السيئات أن يغيبهم الله تعالى في الأرض أو يغيبها بهم
كما فعل بقارون أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا
يَشْعُرُونَ أي من الجهة التي لا شعور لهم بمجيء العذاب منها
كجهة مأمنهم أو الجهة التي
(7/389)
يرجون إتيان ما يشتهون منها، وقال البيضاوي
أي بغتة من جانب السماء كما فعل بقوم لوط، وكأن التخصيص بجانب
السماء لأن ما يجيء منه لا يشعر به غالبا بخلاف ما يجيء من
الأرض فإنه محسوس في الأكثر، ولعل اعتباره أوفق بالمقابلة،
ويحتمل أن يكون مراده بما من جانب السماء ما لا يكون على يد
مخلوق سواء نشأ من الأرض أو السماء كما قيل. دعها سماوية تجري
على قدر. فيكون مجازا، لكن قيل عليه: إنه لا يلائم المثال وإن
كان لا يخصص أَوْ يَأْخُذَهُمْ أي العذاب أو الله تعالى رجح
الأول بالقرب والثاني بكثرة إسناد الأخذ إليه تعالى في القرآن
العظيم مع أنه جل شأنه هو الفاعل الحقيقي له.
فِي تَقَلُّبِهِمْ أي حركتهم إقبالا وإدبارا، والمراد على ما
أخرجه ابن جرير. وغيره عن قتادة، وروي عن ابن عباس في أسفارهم،
وحمله على ذلك- قال الإمام- مأخوذ من قوله تعالى: لا
يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ [آل
عمران: 196] أو المراد في حال ما يتقلبون في قضاء مكرهم والسعي
في تنفيذه، وقيل: المراد في حال تقلبهم على الفرش يمينا
وشمالا، وهو في معنى ما جاء في رواية عن ابن عباس أيضا في
منامهم، ولا أراه يصح.
وقال الزجاج: المراد ما يعم سائر حركاتهم في أمورهم ليلا أو
نهارا والجمهور على الأول والأخذ في الأصل جوز الشيء وتحصيله،
والمراد به القهر والإهلاك، والجار والمجرور إما في موضع الحال
أو متعلق بالفعل قبله والأول أولى نظرا إلى أنه الظاهر في
نظيره الآتي إن شاء الله تعالى لكن الظاهر فيما قبله الثاني
فَما هُمْ بِمُعْجِزِينَ بفائتين الله تعالى بالهرب والفرار
على ما يوهمه حال التقلب والسير أو ما هم بممتنعين كما يوهمه
مكرهم وتقلبهم فيه، والفاء قيل:
لتعليل الأخذ أو لترتيب عدم الإعجاز عليه دلالة على شدته
وفظاعته حسبما
قال صلى الله عليه وسلم: «إن الله تعالى ليملي للظالم حتى إذا
أخذه لم يفلته»
والجملة الاسمية للدلالة على دوام النفي والتأكيد يعود إليه
أيضا.
أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلى تَخَوُّفٍ أي مخافة وحذر من الهلاك
والعذاب بأن يهلك قوما قبلهم أو يحدث حالات يخاف منها غير ذلك
كالرياح الشديدة والصواعق والزلازل فيتخوفوا فيأخذهم بالعذاب
وهم متخوفون ويروى نحوه عن الضحاك، وهو على ما قال الزمخشري
ويقتضيه كلام ابن بحر خلاف قوله تعالى: مِنْ حَيْثُ لا
يَشْعُرُونَ.
وقال غير واحد من الأجلة: على أن ينقصهم شيئا فشيئا في أنفسهم
وأموالهم حتى يهلكوا من تخوفته إذا تنقصته، وروي تفسيره بذلك
عن ابن عباس ومجاهد والضحاك أيضا.
وذكر الهيثم بن عدي أن التنقص بهذا المعنى لغة أزدشنوءة، ويروى
أن عمر رضي الله تعالى عنه قال على المنبر ما تقولون فيها أي
الآية والتخوف منها؟ فسكتوا فقام شيخ من هذيل فقال: هذه لغتنا
التخوف التنقص فقال: هل تعرف العرب ذلك في أشعارها؟ فقال: نعم
قال شاعرنا أبو كبير يصف ناقته:
تخوف الرحل منها تامكا قردا (1) ... كما تخوف عود النبعة السفن
فقال عمر رضي الله تعالى عنه: عليكم بديوانكم لا تضلوا قالوا:
وما ديواننا؟ قال: شعر الجاهلية فإن فيه تفسير كتابكم ومعاني
كلامكم، والجار والمجرور قال أبو البقاء: في موضع الحال من
الفاعل أو المفعول في يأخذهم.
وقال الخفاجي: الظاهر أنه حال من المفعول وكأنه أراد على
تفسيري التخوف ويتخوف من الجزع به على التفسير الثاني، والمراد
من ذكر هذه المتعاطفات بيان قدرة الله تعالى على إهلاكهم بأي
وجه كان لا الحصر، ثم إن
__________
(1) قوله: تامكا أي سناما، وقوله: قردا أي متراكما والنبعة شجر
يتخذ منه القسيّ، والسفن بفتح السين والفاء المبرد اه منه.
(7/390)
بعضهم اعتبر في التقابل بينهما أن المراد
بخسف الأرض بهم إهلاكهم من تحتهم وبإتيان العذاب من حيث لا
يشعرون إهلاكهم من فوقهم وحيث قوبلا بإهلاكهم في تقلبهم
وأسفارهم كان المعتبر فيهما سكونهم في مساكنهم وأوطانهم
والمقابلة بين أخذهم على تخوف على المعنى الأول والأخذ بغتة
المشعر به من حيث لا يشعرون ظاهرة، واعتبر عدم الشعور في الأخذ
في التقلب والخسف لقرينة الأخذ على تخوف على ذلك المعنى وحمل
سائرها على عذاب الاستئصال دون الأخذ على تخوف على المعنى
الثاني ومجمل القول في ذلك أنه اعتبر في كل اثنين من الأربعة
منع الجمع لكن بعد أن يراد بالعام منهما للمقابلة ما عدا الخاص
سواء كان بين الإثنين عموم من وجه أو مطلقا.
وذكر الإمام، وابن الخازن في حاصل الآية أنه تعالى خوفهم بخوف
يحصل في الأرض بعذاب ينزل من السماء أو بآفات تحدث دفعة أو
بآفات تأتي قليلا إلى أن يأتي الهلاك على آخرهم، وكان الظاهر
في الآية أن يقال: أو يعذبهم من حيث لا يشعرون ليناسب ما قبله
وما بعده بناء على أن إسناد الفعل فيهما إليه تعالى وما قبله
فقط بناء على أن إسناد الفعل فيما بعد إلى العذاب مع كونه أخصر
مما في النظم الجليل لكنه عدل عنه إلى ذلك لكونه أبلغ في
التخويف وأدل على استحقاق العذاب من حيث إن فيه إشعارا بأن
هناك عذابا موجودا مهيئا لا يحتاج إلا إلى الإتيان دون الإحداث
وليس في- يعذبهم- إشعار كذلك على أن ما في النظم الجليل أبعد
من أن يتوهم فيه معنى غير صحيح كما يتوهم في البدل المفروض حيث
يتوهم فيه أنه سبحانه يعذبهم من حيث لا يشعرون بالعذاب وهو كما
ترى. وحيث كانت حالتا التقلب والتخوف مظنة للهرب عبر عن إصابة
العذاب فيهما بالأخذ وعن إصابته حالة الغفلة المنبئة عن السكون
بالإتيان وجيء بفي مع التقلب وبعلى مع التخوف قيل: لأن في
التقلب حركتين فكان الشخص المتقلب بينهما ولا كذلك التخوف،
وقيل لما كان التقلب شاغلا الإنسان بسائر جوارحه حتى كأنه محيط
به وهو مظروف فيه جيء بنفي معه، والتخوف أي المخافة إنما يقوم
بعضو من أعضائه فقط وهو القلب المحيط به بدن الإنسان فلذا جيء
بعلى معه، وقيل: إن على بمعنى مع كما في قوله تعالى: وَآتَى
الْمالَ عَلى حُبِّهِ [البقرة: 177] أي يأخذهم مصاحبين لذلك
ولما كان التخوف نفسه نوعا من العذاب لما فيه من تألم القلب
ومشغولية الذهن وكان الأخذ مشيرا إلى نوع آخر من العذاب أيضا
جيء بعلى التي بمعنى مع ليكون المعنى يعذبهم مع عذابهم ولم
يعتبر ذلك مع التقلب مرادا به الإقبال والإدبار في الأسفار
والمتاجر مع أنه
جاء «السفر قطعة من العذاب»
لأنهم لا يعدون ذلك عذابا وفي القلب من هذا شيء فتدبر وتأمل
فأسرار كتاب الله تعالى لا تحصى فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ
رَحِيمٌ جعله ابن بحر تعليلا للأخذ على تخوف بناء على أن
المراد به أخذهم على حدوث حالات يخاف منها كالرياح الشديدة
والصواعق والزلازل لا بغتة فإن في ذلك امتداد وقت ومهلة يمكن
فيها التلافي فكأنه قيل: أو يأخذهم على تخوف ولا يفاجئهم لأنه
سبحانه رؤوف رحيم وذلك أنسب برأفته ورحمته جلّ وعلا، وجوز أن
يكون تعليلا لذلك على المعنى الأخير فإن في تنقصهم شيئا بعد
شيء دون أخذهم دفعة إمهالا في الجملة وهو مطلقا من آثار
الرحمة، وقيل: هو تعليل لما يفهم من الآية من أنه سبحانه قادر
على إهلاكهم بأي وجه كان لكنه تعالى لم يفعل، وقيل: هو
كالتعليل للأمن المستفهم عنه، والتعبير بعنوان الربوبية مع
الإضافة إلى ضمير الخطاب من آثار رحمته جلّ شأنه.
أَوَلَمْ يَرَوْا الهمزة للإنكار والواو للعطف على مقدر يقتضيه
المقام. والرؤية بصرية مؤدية إلى التفكر والضمير للذين مكروا
السيئات أي ألم ينظر هؤلاء الماكرون ولم يروا متوجهين إِلى ما
خَلَقَ اللَّهُ.
وقيل: الضمير للناس الشامل لأولئك وغيرهم والإنكار بالنسبة
إليهم وقرأ السلمي والأعرج والإخوان «أو لم تروا» بتاء الخطاب
جريا على أسلوب قوله تعالى: «فإن ربكم» كما أن الجمهور قرؤوا
بالياء جريا على أسلوب قوله تعالى:
(7/391)
«أفأمن الذين مكروا» وذكر الخفاجي وغيره أن
قراءة التاء على الالتفات أو تقدير قل أو الخطاب فيها عام
للخلق و «ما» موصولة مبهمة، وقوله تعالى: مِنْ شَيْءٍ بيان لها
لكن باعتبار صفته وهي قوله تعالى: يَتَفَيَّؤُا ظِلالُهُ فهي
المبينة في الحقيقة والموصوف توطئة لها وإلا فأي بيان يحصل به
نفسه، والتفيؤ تفعل من فاء يفيء فيئا إذا رجع وفاء لازم وإذا
عدي فبالهمزة أو التضعيف كأفاءه الله تعالى وفيأه فتفيأ وتفيا
مطاوع له لازم، وقد استعمله أبو تمام متعديا في قوله من قصيدة
يمدح بها خالد بن يزيد الشيباني:
طلبت ربيع ربيعه الممهى لها ... وتفيأت ظلّا له ممدودا
ويحتاج ذلك إلى نقل من كلام العرب، والظلال جمع ظل وهو في قول
ما يكون بالغداة وهو ما لم تنله الشمس والفيء ما يكون بالعشي
وهو ما انصرفت عنه الشمس وأنشدوا له قول حميد بن ثور يصف سرحة
وكنّى (1) بها عن امرأة:
فلا الظل من برد الضحى تستطيعه ... ولا الفيء من برد العشيّ
تذوق
ونقل ثعلب عن رؤبة ما كانت عليه الشمس فزالت عنه فهو فيء وظل
وما لم تكن عليه فهو ظل فالظل أعم من الفيء، وقيل: هما
مترادفان يطلق كل منهما على ما كان قبل الزوال وعلى خلافه،
وأنشد أبو زيد للنابغة الجعدي:
فسلام الإله يغدو عليهم ... وفيوء الفردوس ذات الضلال
والمشهور أن الفيء لا يكون إلا بعد الزوال، ومن هنا قال
الأزهري: إن تفيؤ الظلال رجوعها بعد انتصاف النهار، وقال أبو
حيان: إن الاعتبار من أول النهار إلى آخره، وإضافة الضلال إلى
ضمير المفرد لأن مرجعه وإن كان مفردا في اللفظ لكنه كثير في
المعنى، ونظير ذلك أكثر من أن يحصى، والمعنى أو لم يروا
الأشياء التي ترجع وتتنقل ظلالها عَنِ الْيَمِينِ
وَالشَّمائِلِ والمراد بها الأشياء الكثيفة من الجبال والأشجار
وغيرها سواء كان جمادا أو انسابا على ما عليه بعض المفسرين،
وخصها بعضهم بالجمادات التي لا يظهر لظلالها أثر سوى التفيؤ
بواسطة الشمس على ما ستعلمه إن شاء الله تعالى دون ما يشمل
الحيوان الذي يتحرك ظله بتحركه، وكلا القولين على تقدير كون
مِنْ بيانية كما سمعت وذهب بعض المحققين إلى العموم لكنه جعل
من ابتدائية متعلقة- بخلق- المراد بما خلقه من شيء عالم
الأجسام المقابل لعالم الروح والأمر الذي لم يخلق من شيء بل
وجد بأمر كُنْ كما قال سبحانه: أَلا لَهُ الْخَلْقُ
وَالْأَمْرُ [الأعراف: 54] ، ولا يخفى بعده، واعترض أيضا بأن
السموات والجن من عالم الأجسام والخلق ولا ظل لها ومقتضى عموم
ما أنه لا يخلو شيء منها عنه بخلاف ما إذا جعلت من بيانية و
«يتفيؤ» صفة شيء مخصصة له. ورد بأن جملة يَتَفَيَّؤُا حينئذ
ليست صفة- لشيء- إذ المراد إثبات ذلك لما خلق من شيء لإله وليس
صفة- لما- لتخالفهما تعريفا وتنكيرا بل هي مستأنفة لإثبات أن
له ظلالا متفيئة وعموم «ما» لا يجوب أن يكون المعنى لكل منه
هذه الصفة.
وتعقب بأنه إن أريد أنه لا يقتضي العموم ظاهرا فممنوع وإن أريد
أنه يحتمل فلا يرد ردا لأنه مبني على الظاهر المتبادر، والمراد
باليمين والشمائل على ما قيل جانبا الشيء استعارة من يمين
الإنسان وشماله أو مجازا من إطلاق
__________
(1) حيث يقول:
أبى الله إلا أن سرحة مالك ... على كل أفنان العضاه تروق
اه منه.
(7/392)
المقيد على المطلق أي ألم يروا الأشياء
التي لها ظلال متفيئة عن جانبي كل واحد منها ترجع من جانب إلى
جانب بارتفاع الشمس وانحدارها أو باختلاف مشارقها ومغاربها فإن
لها مشارق ومغارب بحسب مداراتها اليومية حال كون الظلال
سُجَّداً لِلَّهِ أي منقادة له تعالى جارية على ما أراد من
الامتداد والتقلص وغيرهما غير ممتنعة عليه سبحانه فيما سخرها
له وهو المراد بسجودها، وقد يفسر باللصوق في الأرض أي حال
كونها لاصقة بالأرض على هيئة الساجد، وقوله تعالى: وَهُمْ
داخِرُونَ حال من ضمير «ظلاله» الراجع إلى شيء، والجمع باعتبار
المعنى وصح مجيء الحال من المضاف إليه لأنه كالجزء، وإيراد
الصيغة الخاصة بالعقلاء لما أن الدخور من خصائصهم فإنه التصاغر
والذل، قال ذو الرمة:
فلم يبق إلا داخر في مخيس (1) ... ومنحجر في غير أرضك في حجر
فالكلام على الاستعارة أو لأن في جملة ذلك من يعقل فغلب، ووجه
التعبير بهم يعلم مما ذكر، ويجوز أن يعتبر وجهه أولا ويجعل ما
بعده جاريا على المشاكلة له أي والحال أن أصحاب تلك الضلال
ذليلة منقادة لحكمه تعالى، ووصفها بالدخور مغن عن وصف ظلالها
به، وجوز كون سُجَّداً والجملة حالين من الضمير أي ترجع ظلال
تلك الأجرام حال كون تلك الأجرام منقادة له تعالى داخرة فوصفها
بهما مغن عن وصف ظلالها بهما.
والمراد بالسجود أيضا الانقياد سواء كان بالطبع أو بالقسر أو
بالإرادة، فلا يرد على احتمال أن يكون المراد ب ما خَلَقَ
شاملا للعقلاء وغيرهم كيف يكون سُجَّداً حالا من ضميره وسجود
العقلاء غير سجود غيرهم.
وحاصل ما أشرنا إليه أن ذلك من عموم المجاز، والأمر على احتمال
أن يراد من ذاك الجمادات ظاهر، وزعم بعضهم أن السجود حقيقة
مطلقا وهو الوقوع على الأرض على قصد العبادة ويستدعي ذلك
الحياة والعلم لتقصد العبادة، وليس بشيء كما لا يخفى، ثم إن
قلنا على هذا الوجه: إن الواو حالية كما أشير إليه فالحالان
مترادفتان، وتعدد الحال جائز عند الجمهور، ومن لم يجوز جعل
الثانية بدل اشتمال أو بدل كل من كل كما فصله السمين، وإن
قلنا:
إنها عاطفة فلا تكون الحال مترادفة بل متعاطفة، وقال أبو
البقاء: سُجَّداً حال من الظلال وَهُمْ داخِرُونَ حال من
الضمير في سُجَّداً ويجوز أن يكون حالا ثانية معطوفة اه، وفيه
القول بالتداخل وهو محتمل على تقدير كون سُجَّداً حالا من ضمير
ظِلالُهُ والوجه الأول هو المختار عند الزمخشري، ورجحه في
الكشف فقال: إن انقياد الظل وذي الظل مطلوب، ألا ترى إلى قوله
تعالى: وَظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ [الرعد: 15]
فجاعلهما حالا من الضمير في ظِلالُهُ مقصر، وفيه تكميل حسن لما
وصف الظلال بالسجود وصف أصحابها بالدخور الذي هو أبلغ لأنه
انقياد قهري مع صفة المنقاد، ولم يجعل حالا من الراجع إلى
الموصول في خَلَقَ اللَّهُ إذ المعنى على تصوير سجود الظل وذيه
وتقارنهما في الوجود لا على مقارنة الخلق والدخور، والعامل في
الحال الثاني يَتَفَيَّؤُا على ما قال ابن مالك في قوله تعالى:
بَلْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً [البقرة: 135] اه، ومنه
يعلم ما في إعراب أبي البقاء. نعم إن في هذا الوجه بعدا لفظيا
والأمر فيه هين، وأما جعل وَهُمْ داخِرُونَ حالا من ضمير
يَرَوْا فمما لا يصح بحال كما لا يخفى.
هذا وذكر الإمام في اليمين والشمال قولين غير ما تقدم. الأول
أن المراد بهما المشرق والمغرب تشبيها لهما بيمين الإنسان
وشماله فإن الحركة اليومية آخذة من المشرق وهوى أقوى الجانبين
فهو اليمين والجانب الآخر الشمال
__________
(1) أي سجن اه منه.
(7/393)
فالظلال في أول النهار تبتدئ من الشرق
واقعة على الربع الغربي من الأرض وعند الزوال تبتدئ من الغرب
واقعة على الربع الشرقي منها. والثاني يمين البلد وشماله، وذلك
أن البلدة التي يكون عرضها أقل من مقدار الميل الكلي وهو «كجل
يز أو كحله» (1) على اختلاف الأرصاد فإن في الصيف تحصل الشمس
على يمين تلك البلدة وحينئذ تقع الأظلال على يسارها وفي الشتاء
بالعكس، ولا يخفى ما في الثاني فإنه مختص بقطر مخصوص والكلام
ظاهر في العموم، وقيل: المراد باليمين والشمال يمين مستقبل
الجنوب وشماله، وعَنِ كما قال الحوفي متعلقة ب يَتَفَيَّؤُا
وقال أبو البقاء: متعلقة بمحذوف وقع حالا، وقيل: هي اسم بمعنى
جانب فتكون في موضع نصب على الظرفية. ولهم في توحيد الْيَمِينِ
وجمع الشَّمائِلِ- وهو جمع غير قياسي- كلام طويل.
فقيل: إن العرب إذا ذكرت صيغتي جمع عبرت عن إحداهما بلفظ
المفرد كقوله تعالى: جَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ [الأنعام:
1] وخَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ
[البقرة: 7] وقيل: إذا فسرنا اليمين بالمشرق كان النقطة التي
هي مشرق الشمس واحدة بعينها فكانت اليمين واحدة، وأما الشمائل
فهي عبارة عن الانحرافات الواقعة في تلك الأضلال بعد وقوعها
على الأرض وهي كثيرة فلذلك عبر عنها بصيغة الجمع، وقيل: اليمين
مفرد لفظا لكنه جمع معنى فيطابق الشمائل من حيث المعنى، وقال
الفراء: إنه يحتمل أن يكون مفردا وجمعا فإن كان مفردا ذهب إلى
واحد من ذوات الظلال وإن كان جمعا ذهب إلى كلها لأن ما خلق
الله لفظه واحد ومعناه الجمع، وقال الكرماني: يحتمل أن يراد
بالشمائل الشمال والقدام والخلف لأن الظل يفيء من الجهات كلها
فبدأ باليمين لأن ابتداء التفيؤ منها أو تيمنا بذكرها، ثم جمع
الباقي على لفظ الشمال لما بين الشمال واليمين من التضاد، ونزل
الخلف والقدام منزلة الشمال لما بينهما وبين اليمين من الخلاف،
وهو قريب من الأول، وتعقب بأن فيه جمع اللفظ باعتبار حقيقته
ومجازه وفي صحته مقال، وقيل: المراد باليمين يمين الواقف
مستقبل المشرق ويسمى الجنوب وبالشمال شماله فكأنه قيل: يتفيؤ
ظلاله عن الجنوب إلى الشمال إلى الجنوب ولما كان غالب المعمورة
شمالي وظلالها كذلك جمع الشمال ولم يجمع اليمين، وهو كما ترى،
ونقل أبو حيان عن استاذه أبي الحسن علي بن الصائغ أنه أفرد
وجمع بالنظر إلى الغايتين لأن ظل الغداة يضمحل حتى لا يبقى منه
إلا اليسير فكأنه في جهة واحدة، وهو في العشي على العكس
لاستيلائه على جميع الجهات فلحظت الغايتان. هذا من جهة المعنى
وأما من جهة اللفظ فجمع الثاني ليطابق سُجَّداً المجاور له
شمالا كما أفرد الأول ليطابق ضمير ظِلالُهُ المجاور له يمينا،
ولا يخفى ما في التقديم والتأخير من حسن رعاية الأصل والفرع
أيضا. فحصل في الآية مطلقة اللفظ للمعنى جهة المشرق وبالشمال
جهة المغرب، وهو أنه لما كانت الجهة الأولى مطلع النور والجهة
الثانية مغربة ومظهر الظلمة أفرد ما يدل على الجهة الأولى كما
أفرد النُّورِ في كل القرآن، وجمع ما يدل على الجهة الثانية
كما جمع الظلمة كذلك وإفراده النور وجمع الظلمة تقدم الكلام
فيهما، وقد يقال: إن جمع الظلال مع إفراد ما قبله وما بعده لأن
الظل ظلمة حاصلة من حجب الكثيف الشمس مثلا عن أن يقع ضوؤها على
ما يقابله فجمعت الظلال كما جمعت الظلمات، ولا يعكر على هذا
أنه جمعت المشارق في القرآن كالمغارب إذ كثيرا ما يرتكب أمر
لنكتة في مقام ولا يرتكب لها في مقام آخر، وآخر أيضا وهو أنه
لما كان اليمين عبارة عن جهة المشرق وهو مبدأ الظل وحده مناسبة
لتوحيد المبدأ الحقيقي وهو الله تعالى ولا كذلك جهة المغرب،
ولا يناسب رعاية نحو هذا في الشمال كما يرشدك إلى ذلك و «كلتا
يديه يمين» ويعين على ملاحظة المبدئية نسبة
__________
(1) يساوي في حساب الجمل: 167.
(7/394)
الخلق إليه تعالى، وآخر أيضا وهو أن الظل
الجائي من جهة المشرق لا يتعلق به أمر شرعي والجائي من جهة
المغرب يتعلق به ذلك، فإن صلاة الظهر يدخل وقتها بأول حدوثه من
تلك الجهة بزوال الشمس عن وسط السماء، ووقت العصر بصيرورته مثل
الشاخص أو مثليه بعد ظل الزوال إن كان كما في الآفاق المائلة،
ووقت المغرب بشموله البسيطة بغروب الشمس، وما ألطف وقوع
سُجَّداً بعد الشَّمائِلِ على هذا وآخر أيضا وهو أوفق بباب
الإشارة وسيأتي فيه إن شاء الله تعالى الفتاح، وبعد لمسلك
الذهن اتساع فتأمل فلعل ما ذكرته لا يرضيك.
وقد بين الإمام أن اختلاف الظلال دليل على كونها منقادة لله
تعالى خاضعة لتقديره وتدبيره سبحانه، ثم قال:
فإن قيل لم لا يجوز أن يقال اختلافها معلل باختلاف الشمس؟
قلنا: قد دللنا على أن الجسم لا يكون متحركا لذاته فلا بد أن
يكون تحركه من غيره ولا بد من الاستناد بالآخرة إلى واجب
الوجود جل شأنه فيرجع أمر اختلاف الظلال إليه تعالى على هذا
التقدير.
وأنت تعلم أنه لا ينبغي أن يتردد في أن السبب الظاهري للظلال
هو الشمس ونحوها وكثافة الشاخص، نعم في كون ذلك مستندا إليه
تعالى في الحقيقة ابتداء أو بالواسطة خلاف، ومذهب السلف غير
خفي عليك فقد أشرنا إليه غير مرة فتذكره إن لم يكن على ذكر
منك، ثم الظاهر أن المراد بالظلال الظلال المبسوطة وتسمى
المستوية، ويجوز أن يراد بها ما يشمل الظلال المعكوسة فإنها
أيضا تتفيؤ عن اليمين والشمائل فاعرف ذلك ولا تغفل، وقرأ أبو
عمرو، وعيسى. ويعقوب «تتفيؤ» بالتاء على التأنيث، وأمر التأنيث
والتذكير في الفعل المسند لمثل الجمع المذكور ظاهر.
وقرأ عيسى «ظلله» وهو جمع ظلة كحلة وحلل قال صاحب اللوامح:
الظلة بالضم الغيم وأما بالكسر فهو الفيء والأول جسم والثاني
عرض، فرأى عيسى أن التفيؤ الذي هو الرجوع بالأجسام أولى، وأما
في العامة فعلى الاستعارة اه، ويلوح منه القول بالقراءة
بالرأي، ومن الناس من فسر الظلال في قراءة العامة بالأشخاص
لتكون على نحو قراءة عيسى، وأنشدوا لاستعمال الظلال في ذلك قول
عبدة:
إذا نزلنا نصبنا ظل أخبية ... وفار للقوم باللحم المراجيل
فإنه إنما تنصب الأخبية لا الظل الذي هو الفيء، وقول الآخر:
يتبع أفياء الظلال عشية فإنه أراد أفياء الأشخاص. وتعقب ذلك
الراغب بأنه لا حجة فيما ذكر فإن قوله: رفعنا ظل أخبية معناه
رفعنا الأخبية فرفعنا به ظلها فكأنه رفع الظل، وقوله: أفياء
الظلال فالظلال فيه عام والفيء خاص والإضافة من إضافة الشيء
إلى جنسه، وقال بعضهم: المراد من الظلة في قراءة عيسى الظل
الذي يشبه الظلة، والمراد بها شيء كهيئة الصفة في الانتفاع به
وقيل: الكلام في تلك القراءة على حذف مضاف أي ظلال ظلله، وتفسر
الظلة بما هو كهيئة الصفة، والمتبادر من الظل حينئذ الظل
المعكوس. ثم إنه تعالى بعد أن ذكر ما ذكر أردفه بما يفيده
تأكيدا مع زيادة سجود ما لا ظل له فقال سبحانه وَلِلَّهِ
يَسْجُدُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ أو أنه سبحانه
بعد ما بين سجود الظلال وذويها من الأجرام السفلية الثابتة في
أحيازها ودخورها له سبحانه شرع في شأن سجود المخلوقات المتحركة
بالإرادة سواء كانت لها ظلال أم لا؟ فقال عز من قائل ما قال،
والمراد بالسجود على ما ذكره غير واحد الانقياد سواء كان
انقيادا لإرادته وتأثيرها طبعا أو انقيادا لتكليفه وأمره طوعا
ليصح إسناده إلى عامة أهل السموات والأرض من غير جمع بين
الحقيقة والمجاز ولكون الآية آية سجدة لا بد من دلالتها على
السجود المتعارف ولو ضمنا، والاسم الجليل متعلق- بيسجد-
والتقدير لإفادة القصر وهو ينتظم القلب والإفراد إلا أن الأنسب
بحال المخاطبين قصر الأفراد كما يؤذن به
(7/395)
قوله تعالى: وَقالَ اللَّهُ لا تَتَّخِذُوا
إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ أي له تعالى وحده ينقاد ويخضع جميع ما في
السموات وما في الأرض مِنْ دابَّةٍ بيان لما فيهما بناء على أن
الدبيب هو الحركة الجسمانية سواء كان في أرض أو سماء،
والملائكة أجسام لطيفة غير مجردة وتقييد الدبيب بكونه على وجه
الأرض لظهوره أو لأنه أصل معناه وهو عام هنا بقرينة المبين،
وقوله سبحانه: وَالْمَلائِكَةُ عطف على محل الدابة المبين به
وهو الرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف لأن مِنْ البيانية لا تكون
ظرفا لغوا وهو من عطف الخاص على العام إفادة لعظم شأن الملائكة
عليهم السلام، وجوز أن يكون من عطف المباين بناء على أن يراد
بما في السموات الجسمانيات ويلتزم القول بتجرد الملائكة عليهم
السلام فلا يدخلون فيما في السموات لأن المجردات ليست في حيز
وجهة وبعضهم استدل بالآية على تجرد الملائكة بناء على أن ما في
السموات وما في الأرض بين أحدهما بالدابة والآخر بالملائكة
والأصل في التقابل التغاير، والدابة المتحركة حركة جسمانية فلا
يكون مقابلها من الأجسام وأن الجسم لا بد فيه من حركة جسمانية،
ولا يخفى أنه دليل اقناعي إذ يحتمل كونه تخصيصا بعد تعميم كما
سمعت آنفا أو هو بيان لما في الأرض، والدابة اسم لما يدب على
الأرض والْمَلائِكَةُ عطف على ما في السموات وهو تكرير له
وتعيين إجلالا وتعظيما، وذكر غير واحد أنه من عطف الخاص على
العام لذلك أيضا، وجوز أن يراد مما في السموات الخلق الذين
يقال لهم الروح ويلتزم القول بأنهم غير الملائكة عليهم السلام
فيكون من عطف المباين أو هما بيان لما في الأرض، والمراد
بالملائكة عليهم السلام ملائكة يكونون فيها كالحفظة والكرام
الكاتبين ولا يراد بالدابة ما يشملهم، و «ما» إذا قلنا: إنها
مختصة بغير العقلاء كما يشهد له خبر ابن الزبعري فاستعمالها
هنا في العقلاء وغيرهم للتغليب، وأما إن قلنا: إن وضعها لأن
تستعمل في غير العقلاء وفيما يعم العقلاء وغيرهم كالشبح المرئي
الذي لا يعرف أنه عاقل أولا فإنه يطلق عليه ما حقيقة فالأمر
على ما قيل غير محتاج إلى تغليب، وفي أنوار التنزيل إن ما لما
استعمل للعقلاء كما استعمل لغيرهم كان استعماله حيث اجتمع
القبيلان أولى من إطلاق من تغليبا، وفي الكشاف إنه لو جيء بمن
لم يكن فيه دليل على التغليب فكان متناولا للعقلاء خاصة فجيء
بما هو صالح للعقلاء وغيرهم إرادة العموم وهو جواب عن سبب
اختيار ما على من، وحاصله على ما في الكشف إن من للعقلاء
والتغليب مجاز فلو جيء بغير قرينة تعين الحقيقة والمقام يقتضي
التعميم فجيء بما يعم وهو ما، وأراد أن لا دليل في اللفظ،
وقرينة العموم في السابق لا تكفي لجواز تخصيصهم من البين بعد
التعميم على أن اقتضاء المقام
العموم وما في التغليب من الخصوص كاف في العدول انتهى. وقيل
بناء على أن ما مختصة بغير العقلاء ومن مختصة بالعقلاء: إن
الإتيان بما وارتكاب التغليب أوفق بتعظيم الله تعالى من
الإتيان بمن وارتكاب ذلك فليفهم وَهُمْ أي الملائكة مع علو
شأنهم لا يَسْتَكْبِرُونَ عن عبادته تعالى شأنه والسجود له،
وتقديم الضمير ليس للقصر، والسين ليست للطلب وقيل: له على معنى
لا يطلبون ذلك فضلا عن فعله والاتصاف به.
وإذا قلنا إن صيغة المضارع للاستمرار التجددي فالمراد استمرار
النفي. والجملة إما حال من فاعل يَسْجُدُ مسندا إلى الملائكة
أو استئناف للإخبار عنهم، بذلك، وإنما لم يجعل الضمير- لما-
لاختصاصه بأولى العلم وليس المقام مقام التغليب، وخالف في ذلك
بعضهم فجعله لها وكذا الضمير في قوله سبحانه: يَخافُونَ
رَبَّهُمْ وممن صرح بعود الضمير فيه على ما أبو سليمان
الدمشقي، وقال أبو حيان: إنه الظاهر، وذهب ابن السائب ومقاتل
إلى ما قلنا أي يخافون مالك أمرهم مِنْ فَوْقِهِمْ إما متعلق-
بيخافون- وخوف ربهم كناية عن خوف عذابه أو الكلام على تقدير
مضاف هو العذاب على ما هو الظاهر أو متعلق بمحذوف وقع حالا من
رَبَّهُمْ أي كائنا من فوقهم، ومعنى كونه سبحانه فوقهم قهره
وغلبته لأن الفوقية المكانية مستحيلة بالنسبة إليه تعالى،
ومذهب السلف قد أسلفناه لك وأظنه على ذكر منك.
(7/396)
والجملة حال من الضمير في لا
يَسْتَكْبِرُونَ وجوز أن تكون بيانا لنفي الاستكبار وتقريرا له
لأن من خاف الله تعالى لم يستكبر عن عبادته، واختاره ابن
المنير وقال: إنه الوجه ليس إلا لئلا يتقيد الاستكبار وليدل
على ثبوت هذه الصفة أيضا على الإطلاق، ولا بد أن يقال على
تقدير الحالية: إنها حال غير منتقلة وقد جاءت في الفصيح بل في
أفصحه على الصحيح، وفي اختيار عنوان الربوبية تربية للمهابة
وإشعار بعلة الحكم.
وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ أي ما يؤمرون به من الطاعات
والتدبيرات وإيراد الفعل مبنيا للمفعول جرى على سنن الجلالة
وإيذان بعدم الحاجة إلى التصريح بالفاعل لاستحالة استناده إلى
غيره سبحانه، واستدل بالآية على أن الملائكة مكلفون مدارون بين
الخوف والرجاء، أما دلالتها على التكليف فلمكان الأمر، وأما
على الخوف فهو أظهر من أن يخفى، وأما على الرجاء فلاستلزام
الخوف على ما قيل، وقيل: إن اتصافهم بالرجاء لأن من خدم أكرم
الأكرمين كان من الرجاء بمكان مكين، وزعم بعضهم أن خوفهم ليس
إلا خوف إجلال ومهابة لا خوف وعيد وعذاب، ويرده، قوله تعالى:
وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ
إِنِّي إِلهٌ مِنْ دُونِهِ فَذلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ
[الأنبياء: 28، 29] ولا ينافي ذلك عصمتهم، وقال الإمام: الأصح
أن ذلك الخوف خوف الإجلال، وذكر أنه نقل عن ابن عباس واستدل له
بقوله تعالى: إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ
الْعُلَماءُ [فاطر: 28] وفي القلب منه شيء، والحق أن الآية لا
تصلح دليلا لكون الملائكة أفضل من البشر. واستدل بها فرقة على
ذلك من أربعة أوجه ذكرها الإمام ولم يتعقبها بشيء لأنه ممن
يقول بهذه الأفضلية، وموضع تحقيق ذلك كتب الكلام.
هذا ومن باب الإشارة في الآيات: أَتى أَمْرُ اللَّهِ وهو
القيامة الكبرى التي يرتفع فيها حجب التعينات ويضمحل السوي،
ولما كان صلى الله عليه وسلم مشاهدا لذلك في عين الجمع قال
أَتى ولما كان ظهورها على التفصيل بحيث تظهر للكل لا يكون إلا
بعد حين قال: فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ لأن هذا ليس وقت ظهوره، ثم
أكد شهوده لوجه الله تعالى وفناء الخلق في القيامة: سُبْحانَهُ
وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ بإثبات وجود الغير، ثم فصل ما
شاهد في عين الجمع لكونه في مقام الفرق بعد الجمع لا يحتجب
بالوحدة عن الكثرة ولا بالعكس فقال: يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ
بِالرُّوحِ وهو العلم الذي تحيا به القلوب عَلى مَنْ يَشاءُ
مِنْ عِبادِهِ وهم المخلصون له أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لا
إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ وقال بعضهم: أي خوفوا الخلق من
الخواطر الرديئة الممزوجة بالنظر إلى غيري وخوفهم من عظيم
جلالي، وهذا وحي تبليغ وهو مخصوص بالمرسلين عليهم السلام،
وذكروا أن الوحي إذا لم يكن كذلك غير مخصوص بهم بل يكون
للأولياء أيضا الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ
اسْتَقامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا
تَخافُوا وَلا تَحْزَنُوا [فصلت: 30] وقد روي عن بعض أئمة أهل
البيت أن الملائكة تزاحمهم في مجالسهم، ثم إنه تعالى عدد
الصفات وفصل النعم فقال:
خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إلخ، وفي قوله
سبحانه: وَتَحْمِلُ أَثْقالَكُمْ إلخ إشارة كما نقل عن الجنيد
قدس سره إلى أنه ينبغي لمن أراد البلوغ إلى مقصده أن يكون أول
أمره وقصده الجهد والاجتهاد ليوصله بركة ذلك إلى مقصوده،
وذكروا أن المحمولين من العباد إلى المقاصد أصناف وكذا المحول
عليه، فمحمول بنور الفعل، ومحمول بنور الصفة، ومحمول بنور
الذات، فالمحمول بنور الفعل يكون بلده مقام الخوف والرجاء
ومحلته صدق اليقين وداره مربع الشهود، والمحمول بنور الصفة
يكون بلده مقام المعرفة ومحلته صفو الخلة وداره دار المودة،
والمحول بنور الذات يكون بلده التوحيد ومحلته الفناء وداره
البقاء، وهذه الأصناف للسالك، وأما المجذوب فمحول على مطية
الفضل إلى بلد المشاهدة، وفي قوله سبحانه: وَيَخْلُقُ ما لا
تَعْلَمُونَ تحيير للإفهام وتعجيز أي تعجيز عن أن تدرك الملك
العلام وقال بعضهم: إن فيها تعليما للوقوف عند ما لا يدركه
العقل من آثار الصنع
(7/397)
وفنون العلم وعدم مقابلة ذلك الإنكار حيث
أخبر سبحانه أنه يخلق ما لا يعلم بمقتضى القوى البشرية
المعتادة وإنما يعلم بقوة إلهية وعناية صمدية، ألا ترى الصوفية
الذين منّ الله تعالى عليهم بما من كيف علموا عوالم عظيمة نسبة
عالم الشهادة إليها كنسبة الذرة إلى الجبل العظيم، وممن زعم
الانتظام في سلكهم كالكفشية الملقبين أنفسهم بالكشفية من ذكر
من ذلك أشياء لا يشك العاقل في أنها لا أصل لها بل لو عرض
كلامهم في ذلك على الأطفال أو المجانين لم يشكوا في أنه حديث
خرافة صادر عن محض التخيل، وأنا أسأل الله تعالى أن لا يبتلي
مسلما بمثل ما ابتلاهم، وقد عزمت حين رأيت بعض كتبهم التي
ألفها بعض معاصرينا منهم مما اشتمل على ذلك على أن أصنع نحو ما
صنعوا مقابلة للباطل بمثله لكن منعني الحياء من الله والاشتغال
بخدمة كلامه سبحانه والعلم بأن تلك الخرافات لا تروج إلا عند
من سلب منه الإدراك والتحقق بالجمادات، وقال الواسطي في الآية:
المعنى يخلق فيكم من الأفعال ما لا تعلمون أنها لكم أم عليكم
وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ أي السبيل القصد وهو
التوحيد وَمِنْها جائِرٌ
وهو ما عدا ذلك وَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ لكنه لم
يشأ لعدم استعدادكم ولتظهر صفات جماله وجلاله سبحانه: وَأَلْقى
فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ وهم الأوتاد أرباب التمكين أَنْ
تَمِيدَ بِكُمْ أي تضطرب، ومن الكلام المشهور على الألسنة لو
خلت قلبت وَأَنْهاراً وهم العلماء الذين تحيا بفرات علومهم
أشجار القلوب وَسُبُلًا وهم المرشدون الداعون إليه تعالى
وَعَلاماتٍ وهي الآيات الآفاقية والأنفسية وَبِالنَّجْمِ هُمْ
يَهْتَدُونَ وهي الأنوار التي تلوح للسالك من عالم الغيب.
وقال بعضهم: ألقى في أرض القلوب رواسي العلوم الغيبية والمعارف
السرمدية وأجرى فيها أنهار أنوار المعرفة والمكاشفة والمحبة
والشوق والعشق والحكمة والفطنة وأوضح سبلا للأرواح والعقول
والأسرار، فسبيل الأرواح إلى أنوار الصفات، وسبيل العقول إلى
أنوار الآيات، وسبيل الأسرار إلى أنوار الذات، والسبل في
الحقيقة غير متناهية، ومن كلامهم الطرق إلى الله تعالى بعدد
أنفاس الخلائق. والعلامات في الظاهر أنوار الأفعال للعموم،
وأخص العلامات في العالم الأولياء، والنجوم أهل المعارف الذين
يسبحون في أفلاك الديمومية بأرواحهم وقلوبهم وأسرارهم من اقتدى
بهم يهتدي إلى مقصوده الأبدي،
وفي الحديث «أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم»
والمراد بهم خواصهم ليتأتى الخطاب، ويجوز أن يراد كلهم والخطاب
لنا ولا مانع من ذلك على مشرب القوم وَالَّذِينَ يَدْعُونَ
مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ
أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْياءٍ وَما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ
يُبْعَثُونَ ما أعظمها آية في النهي على من يستغيث بغير الله
تعالى من الجمادات والأموات ويطلب منه ما لا يستطيع جلبه لنفسه
أو دفعه عنها.
وقال بعض أكابر السادة الصوفية قدس الله تعالى أسرارهم: إن
الاستغاثة بالأولياء محظورة إلا من عارف يميز بين الحدوث
والقدم فيستغيث بالولي لا من حيث نفسه بل من حيث ظهور الحق فيه
فإن ذلك غير محظور لأنه استغاثة بالحق حينئذ، وأنا أقول إذا
كان الأمر كذلك فما الداعي للعدول عن الاستغاثة بالحق من أول
الأمر؟ وأيضا إذا ساغت الاستغاثة بالولي من هذه الحيثية فلتسغ
الصلاة والصوم وسائر أنواع العبادة له من تلك الحيثية أيضا،
ولعل القائل بذلك قائل بهذا. بل قد رأيت لبعضهم ما يكون هذا
القول بالنسبة إليه تسبيح ولا يكاد يجري قلمي أو يفتح فمي
بذكره، فالطريق المأمون عند كل رشيد الاستغاثة والاستعانة على
الله عز وجل فهو سبحانه الحي القادر العالم بمصالح عباده،
فإياك والانتظام في سلك الذين يرجون النفع من غيره تعالى
الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ
ذكروا أن السابقين الموحدين يتوفاهم الله تعالى بذاته، وأما
الأبرار والسعداء فقسمان، فمن ترقى عن مقام النفس بالتجرد وصل
إلى مقام القلب بالعلوم والفضائل يتوفاهم ملك الموت، ومن كان
في مقام النفس من العباد والصلحاء والزهاد
(7/398)
المتشرعين الذين لم يتجردوا عن علائق البدن
بالتحلية والتخلية تتوفاهم ملائكة الرحمة، وأما الأشرار
الأشقياء فتتوفاهم ملائكة الرحمة، وأما الأشرار الأشقياء
فتتوفاهم الملائكة أيضا ولكن ملائكة العذاب ويتشكلون لهم على
صورة أخلاقهم الذميمة كما يتشكل ملائكة الرحمة لمن تقدم على
صورة أخلاقهم الحسنة الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ
طَيِّبِينَ طابت نفوسهم في خدمة مولاها وطابت قلوبهم في محبة
سيدها وطابت أرواحهم بطيب مشاهدة ربها وطابت أسرارهم بطيب
الأنوار، وقيل: طيبة أبدانهم وأرواحهم بملازمة الخدمة وترك
الشهوات.
وقيل: طيبة أرواحهم بالموت لكونه باب الوصال وسبب الحياة
الأبدية وَقالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللَّهُ ما
عَبَدْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ قالوه إلزاما بزعمهم
للموحدين وما دروا أنه حجة عليهم لأنه تعالى لا يشاء إلا ما
يعلم ولا يعلم إلا ما عليه الشيء في نفسه فلولا أنهم في نفس
الأمر مشركون ما شاء الله تعالى ذلك فَسْئَلُوا أَهْلَ
الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ هم أهل القرآن
المتخلقون بأخلاقه القائمون بأمره ونهيه الواقفون على ما أودع
فيه من الأسرار والغيوب وقليل ما هم فالمراد بالذكر القرآن كما
في قوله تعالى: وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ
لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ
يَتَفَكَّرُونَ.
وفيه إشارة إلى أن الله تعالى لم يظهر مكنونات أسرار كتابه إلا
لنبيه صلى الله عليه وسلم فهو عليه الصلاة والسلام الأمين
المؤتمن على الأسرار. وقد أشار سبحانه له عليه الصلاة والسلام
بتبيين ذلك وقد فعل ولكن على حسب القابليات- لا تمنعوا الحكمة
عن أهلها فتظلموهم ولا تمنحوها غير أهلها فتظلموها- ولا تودع
الأسرار إلا عند الأحرار. وذلك لأنها أمانة وإذا أودعت عند
غيرهم لم يؤمن عليها من الخيانة. وخيانتها افشاؤها وإفشاؤها
خطر عظيم. ولذا قيل:
من شاوروه فأبدى السر مشتهرا ... لم يأمنوه على الأسرار ما
عاشا
وجانبوه فلم يسعد بقربهم ... وأبدلوه مكان الأنس إيحاشا
لا يصطفون مذيعا بعض سرهم ... حاشا ودادهم من ذاكم حاشا
أَوَلَمْ يَرَوْا إِلى ما خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ أي ذات
وحقيقة مخلوقة أية ذات كانت يَتَفَيَّؤُا ظِلالُهُ قيل: أي
يتمثل صوره ومظاهره عَنِ الْيَمِينِ جهة الخير وَالشَّمائِلِ
جهات الشرور، ولما كانت جهة اليمين إشارة إلى جهة الخير الذي
لا ينسب إلا إليه تعالى وحد اليمين ولما كانت جهة الشمال إشارة
إلى جهة الشر الذي لا ينبغي أن ينسب إليه تعالى كما يرشد إليه
قوله: والشر ليس إليك ولكن ينسب إلى غيره سبحانه وكان في الغير
تعدد ظاهر جمع الشمال. وقيل في وجه الأفراد والجمع: إن جميع
الموجودات تشترك في نوع من الخير لا تكاد تفيء عنه وهو العشق
فقد برهن ابن سينا على سريان قوة العشق في كل واحد من الهويات
ولا تكاد تشترك في شر كذلك فما تفيء عنه من الشر لا يكون إلا
متعددا فلذا جمع الشمال ولا كذلك ما تفيء عنه من الخير فلذا
أفرد اليمين فليتأمل وَلِلَّهِ يَسْجُدُ ينقاد ما فِي
السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ مِنْ دابَّةٍ أي موجود يدب
ويتحرك من العدم إلى الوجود وَالْمَلائِكَةُ وَهُمْ لا
يَسْتَكْبِرُونَ لا يمتنعون عن الانقياد والتذلل لأمره
يَخافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ لأنه القاهر المؤثر فيهم
وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ طوعا وانقيادا، والله تعالى
الهادي سواء السبيل.
ثم إنه تعالى بعد ما بين أن جميع الموجودات، خاضعة منقادة له
تعالى أردف ذلك بحكاية نهيه سبحانه وتعالى للمكلفين عن الإشراك
فقال عز قائلا:
(7/399)
وَقالَ اللَّهُ عطفا على قوله سبحانه:
وَلِلَّهِ يَسْجُدُ وجوز أن يكون معطوفا على وَأَنْزَلْنا
إِلَيْكَ الذِّكْرَ وقيل: إنه معطوف على ما خَلَقَ اللَّهُ على
أسلوب:
علفتها تبنا وماء باردا
أي أو لم يروا إلى ما خلق الله ولم يسمعوا إلى ما قال الله ولا
يخفى تكلفه، وإظهار الفاعل وتخصيص لفظة الجلالة بالذكر للإيذان
بأنه تعالى متعين الألوهية وإنما المنهي عنه هو الإشراك به لا
أن المنهي عنه هو مطلق اتخاذ الهين بحيث يتحقق الانتهاء عنه
برفض أيهما كان، ولم يذكر المقول لهم للعموم أي قال تعالى
لجميع المكلفين بواسطة الرسل عليهم السلام: لا تَتَّخِذُوا
إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ المشهور أن اثْنَيْنِ وصف لإلهين وكذا
«واحد» في قوله سبحانه:
إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ صفة لإله، وجيء بهما للإيضاح
والتفسير لا للتأكيد وإن حصل. وتقرير ذلك أن لفظ «إلهين» حامل
لمعنى الجنسية أعني الإلهية ومعنى العدد أعني الاثنينية وكذا
لفظ «إله» حامل لمعنى الجنسية والوحدة، والغرض المسوق له
الكلام في الأول النهي عن اتخاذ الإثنين من الإله لا عن اتخاذ
جنس الإله، وفي الثاني اثبات الواحد من الإله لا إثبات جنسه
فوصف «إلهين» باثنين «وإله» بواحد إيضاحا لهذا الغرض وتفسيرا
له، فإنه قد يراد بالمفرد الجنس نحو نعم الرجل زيد. وكذا
المثنى كقوله:
فإن النار بالعودين تذكى ... وإن الحرب أولها الكلام
(7/401)
وإلى هذا ذهب صاحب الكشاف، وما يفهم منه
أنه تأكيد فمعناه أنه محقق ومقرر من المتبوع فهو تأكيد لغوي لا
أنه مؤكد أمر المتبوع في النسبة أو الشمول ليكون تأكيدا صناعيا
كيف وهو إنما يكون بتقرير المتبوع بنفسه أو بما يوافقه معنى أو
بألفاظ محفوظة، فما قيل: إن مذهبه إن ذلك من التأكيد الصناعي
ليس بشيء إذ لا دلالة في كلامه عليه. وقد أورد السكاكي الآية
في باب عطف البيان مصرحا بأنه من هذا القبيل فتوهم منه بعضهم
أنه قائل بأن ذلك عطف بيان صناعي، وهو الذي اختاره العلامة
القطب في شرح المفتاح نافيا كونه وصفا، واستدل على ذلك بأن
معنى قولهم: الصفة تابع يدل على معنى في متبوعه أنه تابع ذكر
ليدل على معنى في متبوعه على ما نقل عن ابن الحاجب، ولم يذكر
اثْنَيْنِ وواحِدٌ للدلالة على الاثنينية والوحدة اللتين في
متبوعهما فيكونا وصفين بل ذكرا للدلالة على أن القصد من
متبوعهما إلى أحد جزئيه أعني الاثنينية والوحدة دون الجزء
الآخر أعني الجنسية، فكل منهما تابع غير صفة يوضح متبوعه فيكون
عطف بيان لا صفة.
وقال العلامة الثاني: ليس في كلام السكاكي ما يدل على أنه عطف
بيان صناعي لجواز أن يريد أنه من قبيل الإيضاح والتفسير وإن
كان وصفا صناعيا، ويكون إيراده في ذلك المبحث مثل إيراد كل رجل
عارف وكل إنسان حيوان في بحث التأكيد ومثل ذلك عادة له. وتعقب
العلامة الأول بأنه إن أريد أنه لم يذكر إلا ليدل على معنى في
متبوعه فلا يصدق التعريف على شيء من الصفة لأنها البتة تكون
لتخصيص أو تأكيد أو مدح أو نحو ذلك وإن أريد أنه ذكر ليدل على
هذا المعنى ويكون الغرض من دلالته عليه شيئا آخر كالتخصيص
والتأكيد وغيرهما فيجوز أن يكون ذكر اثنين اثْنَيْنِ وواحِدٌ
للدلالة على الاثنينية والوحدة ويكون الغرض من هذا بيان
المقصود وتفسيره، كما أن الدابر في أمس الدابر ذكر ليدل على
معنى الدبور والغرض منه التأكيد بل الأمر كذلك عند التحقيق،
ألا ترى أن السكاكي جعل من الوصف ما هو كاشف وموضح ولم يخرج
بهذا عن الوصفية. وأجيب بأنا نختار الشق الثاني ونقول: مراد
العلامة من قوله: ذكر ليدل على معنى في متبوعه أن يكون المقصود
من ذكر الدلالة على حصول المعنى في المتبوع ليتوسل بذلك إلى
التخصيص أو التوضيح أو المدح أو الذم إلى غير ذلك وذكر
اثْنَيْنِ وواحِدٌ ليس للدلالة على حصول الاثنينية والوحدة في
موصوفيهما بل تعيين المقصود من جزئيهما فلا يكونان صفة، وذكر
الدابر ليدل على حصول الدبور في الأمس ثم يتوسل بذلك إلى
التأكيد وكذا في الوصف الكاشف بخلاف ما نحن فيه فتدبره فإنه
غامض، ولم يجوز العلامة الأول البدلية فقال: وإما أنه ليس ببدل
فظاهر لأنه لا يقوم مقام المبدل منه.
ونظر فيه العلامة الثاني بأنا لا نسلم أن البدل يجب صحة قيامه
مقام المبدل منه فقد جعل الزمخشري «الجن» في قوله تعالى:
وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ الْجِنَّ [الأنعام: 100] بدلا من
شُرَكاءَ ومعلوم أنه لا معنى لقولنا وجعلوا لله الجن. ثم قال:
بل لا يبعد أن يقال: الأولى أنه بدل لأنه المقصود بالنسبة إذ
النهي عن اتخاذ الاثنين من الإله على ما مر تقريره. وتعقب بأن
الرضي قد ذكر أنه لما لم يكن البدل معنى في المتبوع حتى يحتاج
إلى المتبوع كما احتاج الوصف ولم يفهم معناه من المتبوع كما
فهم ذلك في التأكيد جاز اعتباره مستقلا لفظا أي صالحا لأن يقوم
مقام المتبوع اه.
ولا يخفى أن صحة إقامته بهذا المعنى لا تقتضي أن يتم معنى
الكلام بدونه حتى يرد ما أورد وقيل: إن ذكر «اثنين» للدلالة
على منافاة الاثنينية للألوهية وذكر الوحدة للتنبيه على أنها
من لوازم الألوهية.
وجعل ذلك بعضهم من روادف الدلالة على كون ما ذكر مساق النهي
والإثبات وهو الظاهر وإن قيل فيه ما قيل.
(7/402)
وزعم بعضهم أن تَتَّخِذُوا متعد إلى
مفعولين وأن اثْنَيْنِ مفعوله الأول وإِلهَيْنِ مفعوله الثاني
والتقدير لا تتخذوا اثنين إلهين، وقيل: الأول مفعول أول
والثاني ثان، وقيل إِلهَيْنِ مفعوله الأول. واثْنَيْنِ باق على
الوصفية والتوكيد والمفعول الثاني محذوف أي معبودين، ولا يخفى
ما في ذلك، وإثبات الوحدة له تعالى مع أن المسمى المعين لا
يتعدد بمعنى أنه لا مشارك له في صفاته وألوهيته فليس الحمل
لغوا، ولا حاجة لجعل الضمير للمعبود بحق المفهوم من الجلالة
على طريق الاستخدام كما قيل، وسيأتي إن شاء الله تعالى تحقيقه
في سورة الإخلاص. وفي التعبير بالضمير الموضوع للغائب التفات
من التكلم إلى الغيبة على رأي السكاكي المكتفي بكون الأسلوب
الملتفت عنه حق الكلام وإن لم يسبق الذكر على ذلك الوجه، وإما
قوله تعالى: فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ ففيه التفات من الغيبة
إلى التكلم على مذهب الجمهور أيضا، والنكتة فيه بعد النكتة
العامة أعني الإيقاظ وتطرية الإصغاء المبالغة في التخويف
والترهيب فإن تخويف الحاضر مواجهة أبلغ من تخويف الغائب سيما
بعد وصفه بالوحدة والألوهية المقتضية للعظمة والقدرة التامة
على الانتقام.
والفاء في فَإِيَّايَ واقعة في جواب شرط مقدور و «إياي» مفعول
لفعل محذوف يقدر مؤخرا يدل عليه فَارْهَبُونِ أي إن رهبتم شيئا
فإياي ارهبوا، وقول ابن عطية: إن «إياي» منصوب بفعل مضمر
تقديره فارهبوا إياي فارهبون ذهول عن القاعدة النحوية، وهي أنه
إذا كان المعمول ضميرا منفصلا والفعل متعد إلى واحد هو الضمير
وجب تأخر الفعل نحو إِيَّاكَ نَعْبُدُ [الفاتحة: 5] ولا يجوز
أن يتقدم إلا في ضرورة نحو قوله:
إليك حتى بلغت إياكا وعطف المفسر المذكور على المفسر المحذوف
بالفاء لأن المراد رهبة بعد رهبة، وقيل: لأن المفسر حقه أن
يذكر بعد المفسر، ولا يخفى فصل الضمير وتقديمه من الحصر أي
ارهبوني لا غير فإنا ذلك الإله الواحد القادر على الانتقام
وَلَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ عطف على قوله سبحانه:
إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ أو على الخبر أو مستأنف جيء به
تقريرا لعلة انقياد ما فيهما له سبحانه خاصة وتحقيقا لتخصيص
الرهبة به تعالى، وتقدم الظرف لتقوية ما في اللام من معنى
التخصيص، وكذا يقال فيما بعد أي له تعالى وحده ما في السموات
والأرض وملكا وَلَهُ وحده الدِّينُ أي الطاعة والانقياد كما هو
أحد معانيه. ونقل عن ابن عطية وغيره واصِباً أي واجبا لازما لا
زوال له لما تقرر أنه سبحانه الإله وحده الحقيق بأن يرهب،
وتفسير واصِباً بما ذكر مروى عن ابن عباس. والحسن. وعكرمة.
ومجاهد والضحاك. وجماعة وأنشدوا لأبي الأسود الدؤلي:
لا أبتغي الحمد القليل بقاؤه ... يوما بذم الدهر أجمع واصبا
وقال ابن الأنباري: هو من الوصب بمعنى التعب أو شدته، وفاعل
للنسب كما في قوله:
وأضحى فؤادي به فاتنا أي ذا وصب وكلفة، ومن هنا سمي الدين
تكليفا، وقال الربيع بن أنس: واصِباً خالصا، ونقل ذلك أيضا عن
الفراء، وقيل: الدين الملك والواصب الدائم، ويبعد ذلك قول أمية
بن الصلت:
وله الدين واصبا له الم ... لك وحمد له على كل حال
وقيل: الدين الجزاء والواصب كما في سابقه أي له تعالى الجزاء
دائما لا ينقطع ثوابه للمطيع وعقابه للعاصي، وأيا ما كان فنصب
واصِباً على أنه حال من ضمير الدِّينُ المستكن في الظرف والظرف
عامل فيه أو حال من الدِّينُ والظرف هو العامل على رأي من يرى
جواز اختلاف العامل في الحال والعامل في صاحبها. واستدل بالآية
(7/403)
على أن أفعال العباد مخلوقة له تعالى
أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ الهمزة للإنكار والفاء للتعقيب
أي أبعد ما تقرر من تخصيص جميع الموجودات للسجود به تعالى وكون
ذلك كله له سبحانه ونهيه عن اتخاذ الإلهين وكون الدين له واصبا
المستدعي ذلك لتخصيص التقوى به تعالى تتقون غيره، والمنكر تقوى
غير الله تعالى لا مطلق التقوى ولذا قدم الغير، وأولى الهمزة
لا للاختصاص حتى يرد أن إنكار تخصيص التقوى بغيره سبحانه لا
ينافي جوازها، وقيل: يصح أن يعتبر الاختصاص بالإنكار فيكون
التقديم لاختصاص الإنكار لا لإنكار الاختصاص. وفي البحر أن هذا
الاستفهام يتضمن التوبيخ والتعجب أي بعد ما عرفتم من وحدانيته
سبحانه وأن ما سواه له ومحتاج إليه كيف تتقون وتخافون غيره
وَما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ أي أي شيء يلابسكم
ويصاحبكم من نعمة أي نعمة كانت فهي منه تعالى- فما- موصولة
مبتدأ متضمنة معنى الشرط ومن الله خبرها والفاء زائدة في الخبر
لذلك التضمن ومِنْ نِعْمَةٍ بيان للموصول وبِكُمْ صلته، وأجاز
الفراء وتبعه الحوفي أن تكون ما شرطية وفعل الشرط محذوف أي وما
يكن بكم من نعمة إلخ. واعترضه أبو حيان بأنه لا يحذف فعل الشرط
إلا بعد إن خاصة في موضعين باب الاشتغال نحو وَإِنْ أَحَدٌ
مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ فَأَجِرْهُ [التوبة: 6] وأن
تكون إن الشرطية متلوة بلا النافية وقد دل على الشرط ما قبله
كقوله:
فطلقها فلست لها بكفء ... وإلا يعل مفرقك الحسام
وحذفه في غير ما ذكر ضرورة كقوله:
قالت بنات العم يا سلمى وإن ... كان فقيرا معدما قالت وإن
وقوله:
أينما الريح تميّلها تمل وأجيب بأن الفراء لا يسلم هذا فما
أجازه مبني على مذهبه. واستشكل أمر الشرطية على الوجهين من حيث
إن الشرط لا بد أن يكون سببا للجزاء كما تقول: إن تسلم تدخل
الجنة فإن الإسلام سبب لدخول الجنة وهنا على العكس، فإن الأول
وهو استقرار النعمة بالمخاطبين لا يستقيم أن يكون سببا للثاني
وهو كونها من الله من جهة كونه فرعا عنه. وأجاب في إيضاح
المفصل بأن الآية جيء بها لإخبار قوم استقرت بهم نعم جهلوا
معطيها أو شكوا فيه أو فعلوا ما يؤدي إلى أن يكونوا شاكين
فاستقرارها مجهولة أو مشكوكة سبب للإخبار بكونها من الله تعالى
فيتحقق أن الشرط والمشروط فيها على حسب المعروف من كون الأول
سببا والثاني مسببا، وقد وهم من قال: إن الشرط قد يكون مسببا.
وفي الكشف أن الشرط والجزاء ليسا على الظاهر فإن الأول ليس
سببا للثاني بل الأمر بالعكس لكن المقصود نه تذكيرهم وتعريفهم
فالاتصال سبب العلم بكونها من الله تعالى، وهذا أولى مما قدره
ابن الحاجب من أنه سبب الإعلام بكونها منه لأنه في قوم استقرت
بهم النعم وجهلوا معطيها أو شكوا فيه، ألا ترى إلى ما بني عليه
بعد كيف دل على أنهم عالمون بأنه سبحانه المنعم ولكن يضطرون
إليه عند الإلجاء ويكفرون بعد الإنجاء انتهى. وفيه أنه يدفع ما
ذكره بأن علمهم نزل لعدم الاعتداد به وفعلهم ما ينافيه منزلة
الجهل فأخبروا بذلك كما تقول لمن توبخه: أما أعطيتك كذا أما
وأما ثُمَّ إِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ مساسا يسيرا فَإِلَيْهِ
تَجْئَرُونَ تتضرعون في كشفه لا إلى غيره كما يفيد تقديم الجار
والمجرور، والجؤار في الأصل صياح الوحش واستعمل في رفع الصوت
بالدعاء والاستغاثة، قال الأعشى يصف راهبا:
يداوم من صلوات المليك ... طورا سجودا وطورا جؤارا
وقرأ الزهري «تجرون» بحذف الهمزة وإلقاء حركتها على الجيم، وفي
ذكر المساس المنبئ عن أدنى إصابة
(7/404)
وإيراده بالجملة الفعلية المؤذنة بالحدوث
مع ثم الدالة على وقوعه بعد برهة من الدهر وتحلية الضُّرُّ
بلام الجنس المفيدة لمساس أدنى ما ينطلق عليه اسم الجنس مع
إيراده النعمة بالجملة الاسمية المؤذنة بالدوام والتعبير عن
ملابستها للمخاطبين بباء المصاحبة وإيراد ما المعربة عن العموم
على احتماليها ما لا يخفى من الجزالة والفخامة.
ولعل إيراد «إذا» دون- أن- للتوسل به إلى تحقق وقوع الجواب
قاله المولى أبو السعود، وفيه ما يعرف مع الجواب عنه بأدنى
تأمل، وكان الظاهر على ما قيل أن يقال بعد أَفَغَيْرَ اللَّهِ
تَتَّقُونَ: وما يصيبكم ضر إلا منه ليقوى انكار اتقاء غيره
سبحانه لكن ذكر النفع الذي يفهم بواسطته الضر واقتصر عليه
إشارة إلى سبق رحمته وعمومها وبملاحظة هذا المعنى قيل: يظهر
ارتباط «وما بكم من نعمة فمن الله» بما قيله، وسيأتي قريبا إن
شاء الله تعالى ما يتعلق بذلك، واستدل بالآية على أن لله تعالى
نعمة على الكافر وعلى أن الإيمان مخلوق له تعالى.
ثُمَّ إِذا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ أي رفع ما مسكم من الضر
إِذا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ أي يتجدد
إشراكهم به تعالى بعبادة غيره سبحانه، والخطاب في الآية إن كان
عاما- فمن- للتبعيض والفريق الكفرة، وإن كان خاصا بالمشركين
كما استظهره في الكشف- فمن- للبيان على سبيل التجريد ليحسن
وإلا فليس من مواقعه كما قيل، والمعنى إذا فريق هم أنتم يشركون
وجوز على هذا الاحتمال في الخطاب كون- من- تبعيضية أيضا لأن من
المشركين من يرجع عن شركه إذا شاهد ضرا شديدا كما يدل عليه
قوله تعالى: فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ
مُقْتَصِدٌ [لقمان: 32] على تقدير أن يفسر الاقتصاد بالتوحيد
لا بعدم الغلو في الكفر، وإِذا الأولى شرطية والثانية فجائية
والجملة وبعدها جواب الشرط، واستدل أبو حيان باقترانها بإذا
الفجائية على أن إذا الشرطية ليس العامل فيها الجواب لأنه لا
يعمل ما بعد إذا الفجائية فيما قبلها، وبِرَبِّهِمْ متعلق-
بيشركون- والتقديم لمراعاة رؤوس الآي، والتعرض لوصف الربوبية
للإيذان بكمال قبح ما ارتكبوه من الإشراك الذي هو غاية في
الكفران.
وثُمَّ قال في إرشاد العقل السليم: ليست لتمادي زمان مساس الضر
ووقوع الكشف بعد برهة مديدة بل للدلالة على تراخي رتبة عليه من
مفاجآت الإشراك فإن ترتبها على ذلك في أبعد غاية من الضلال.
وفي الكشف متعقبا صاحب الكشاف بأنه لم يذكر وجه الكلام في قوله
تعالى: ثُمَّ إِذا مَسَّكُمُ ثُمَّ إِذا كَشَفَ وهو على وجهين
والله تعالى أعلم. أحدهما أن يكون قوله سبحانه وَما بِكُمْ
مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ من تتمة السابق على معنى إنكار
اتقاء غير الله تعالى وقد علموا أن كل ما يتقلبون فيه من نعمته
فهو سبحانه القادر على سلبها، ثم أنكر عليهم تخصيصهم بالجؤار
عند الضر في مقابلة تخصيص غيره بالاتقاء ثم إشراكهم به تعالى
كفرانا لتلك النعمة وجيء بثم لتفاوت الإنكارين فإن اتقاء غير
المنعم أقرب من الأعراض عنه وهو متقلب في نعمه ثم اللجأ إلى
هذا المكفور به وحده عند الحاجة، وأبعد منه الإعراض ولم يجف
قدمه من ندى النجاة.
والثاني أن يكون جملة مستقلة واردة للتقريع وثُمَّ في الأول
لتراخي الزمان إشعارا بأنهم غمطوا تلك النعم ولم يزالوا عليه
إلى وقت الإلجاء، وفيه الإشعار بتراخي الرتبة أيضا على سبيل
الإشارة وفي الثاني لتراخي الرتبة وحده، اه وهو كلام نفيس،
وللطيبي كلام طويل في هذا المقام إن أردته فارجع إليه.
وقرأ الزهري «ثم إذا كاشف» وفاعل هنا بمعنى فعل، وفي الآية ما
يدل على أن صنيع أكثر العوام اليوم من الجؤار إلى غيره تعالى
ممن لا يملك لهم بل ولا لنفسه نفعا ولا ضرا عند إصابة الضر لهم
وإعراضهم عن دعائه تعالى عند ذلك بالكلية سفه عظيم وضلال جديد
لكنه أشد من الضلال القديم، ومما تقشعر منه الجلود وتصعر له
الخدود الكفرة أصحاب الأخدود فضلا عن المؤمنين باليوم الموعود
إن بعض المتشيخين قال لي وأنا صغير: إياك ثم إياك أن تستغيث
(7/405)
بالله تعالى إذا خطب دهاك فإن الله تعالى
لا يعجل في إغاثتك ولا يهمه سوء حالتك وعليك بالاستغاثة
بالأولياء السالفين فإنهم يعجلون في تفريج كربك ويهمهم سوء ما
حل بك فمج ذلك سمعي وهمي دمعي وسألت الله أن يعصمني والمسلمين
من أمثال هذا الضلّال المبين، ولكثير من المتشيخين اليوم كلمات
مثل ذلك لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ من نعمة الكشف عنهم،
فالكفر بمعنى كفران النعمة واللام لام العاقبة والصيرورة، وهي
استعارة تبعية فإنه لما لم ينتج كفرهم وإشراكهم غير كفران ما
أنعم الله تعالى به عليهم جعل كأنه علة غائية له مقصودة منه،
وجوز أن يكون الكفر بمعنى الجحود أي إنكار كون تلك النعمة من
الله تعالى واللام هي اللام، والمعنيان متقاربان فَتَمَتَّعُوا
أمر تهديد كما هو أحد معاني الأمر المجازية عند الجمهور كما
يقول السيد لعبده افعل ما تريد، والالتفات إلى الخطاب للإيذان
بتناهي السخط.
وقرأ أبو العالية «فيمتّعوا» بضم الياء التحتية ساكن الميم
مفتوح التاء مضارع متع مخففا مبنيا للمفعول وروى ذلك مكحول
الشامي عن أبي رافع مولى النبي صلى الله عليه وسلم، وهو معطوف
يكفروا على أن يكون الأمران عرضا لهم من الإشراك، ويجوز أن
يكون لام لِيَكْفُرُوا لام الأمر والمقصود منه التهديد
بتخليتهم وما هم فيه لخذلانهم، فالفاء واقعة في جواب الأمر وما
بعدها منصوب بإسقاط النون، ويجوز جزمه بالعطف أيضا كما ينصب
بالعطف إذا كانت اللام جارة فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ عاقبة أمركم
وما ينزل بكم من العذاب، وفيه وعيد شديد حيث لم يذكر المفعول
إشعارا بأنه لا يوصف. وقرأ أبو العالية أيضا «يعلمون» بالياء
التحتية وروى ذلك مكحول عن أبي رافع أيضا وَيَجْعَلُونَ قيل
معطوف على يُشْرِكُونَ وليس بشيء، وقيل: لعله عطف على ما سبق
بحسب المعنى تعدادا لجناياتهم أي يفعلون ما يفعلون، مما قص
عليك ويجعلون لِما لا يَعْلَمُونَ أي لآلهتهم التي لا يعلمون
أحوالها وإنها لا تضر ولا تنفع على أن ما موصولة والعائد محذوف
وضمير الجمع للكفار أو لآلهتهم التي لا علم لها بشيء إنها جماد
على أن ما موصولة أيضا عبارة عن الآلهة، وضمير يَعْلَمُونَ
عائد عليه، ومفعول يَعْلَمُونَ مترك لقصد العموم، وجوز أن ينزل
منزلة اللازم أي ليس من شأنهم العلم، وصيغة جمع العقلاء لوصفهم
الآلهة بصفاتهم، ويجوز أن تكون ما مصدرية وضمير الجمع للمشركين
واللام تعليلية لا صلة الجعل كما في الوجهين الأولين، وصلته
للعلم بها أي يجعلون لآلهتهم لأجل جهلهم نَصِيباً مِمَّا
رَزَقْناهُمْ من الحرث والأنعام وغيرهما مما ذرأ تقربا إليها
تَاللَّهِ لَتُسْئَلُنَّ سؤال توبيخ وتقريع في الآخرة، وقيل:
عند عذاب القبر، وقيل: عند القرب من الموت عَمَّا كُنْتُمْ
تَفْتَرُونَ من قبل بأنها آلهة حقيقة بأن يتقرب إليها، وفي
تصدير الجملة بالقسم وصرف الكلام من الغيبة إلى الخطاب المنبئ
عن كمال الغضب من شدة الوعيد ما لا يخفى.
وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَناتِ هم خزاعة وكنانة كانوا
يقولون: الملائكة بنات الله تعالى وكأنهم لجهلهم زعموا تأنيثها
وبنوتها، وقال الإمام: أظن أنهم أطلقوا عليها البنات لاستتارها
عن العيون كالنساء ولهذا لما كان قرص الشمس يجري مجرى المستتر
عن العيون بسبب ضوئه الباهر ونوره القاهر أطلقوا عليه لفظ
التأنيث.
ولا يرد على ذلك أن الجن كذلك لأنه لا يلزم في مثله الاطراد،
وقيل: أطلقوا عليها ذلك للاستتار مع كونها في محل لا تصل إليه
الأغياء فهي كبنات الرجل اللاتي يغار عليهن فيسكنهن في محل
أمين ومكان مكين، والجن وإن كانوا مستترين لكن لا على هذه
الصورة، وهذا أولى مما ذكره الإمام، وأما عدم التوالد فلا
يناسب ذلك.
سُبْحانَهُ تنزيه وتقديس له تعالى شأنه عن مضمون قوله ذلك أو
تعجيب من جراءتهم على التفوه بمثل تلك العظيمة، وهو في المعنى
الأول حقيقة وفي الثاني مجاز.
(7/406)
وَلَهُمْ ما يَشْتَهُونَ يعني البنين وما
مفروع المحل على أنه مبتدأ والظرف المقدم خبره والجملة حالية
وسبحانه اعتراض في حاق موقعه، وجوز الفراء. والحوفي أنه في محل
نصب معطوف على الْبَناتِ كأنه قيل:
ويجعلون لهم ما يشتهون. واعترض عليه الزجاج وغيره بأنه مخالف
للقاعدة النحوية وهي أنه لا يجوز تعدي فعل المضمر المتصل
المرفوع بالفاعلية وكذا الظاهر إلى ضميره المتصل سواء كان
تعديه بنفسه أو بحرف الجر إلا في باب ظن وما ألحق به من فقد
وعدم فلا يجوز زيد ضربه بمعنى ضرب نفسه ولا زيد مر به أي مر هو
بنفسه ويجوز زيد ظنه قائما وزيد فقده وعدمه فلو كان مكان
الضمير اسما ظاهرا (1) كالنفس نحو زيد ضرب نفسه أو ضميرا
منفصلا نحو زيد ما ضرب إلا إياه وما ضرب زيد إلا إياه جاز،
فإذا عطف «ما» على الْبَناتِ أدى إلى تعدية فعل المضمر المتصل
وهو واو يَجْعَلُونَ إلى ضميره المتصل وهو هم المجرور باللام
في غير ما استثني وهو ممنوع عند البصريين ضعيف عند غيرهم فكان
حقه أن يقال- لأنفسهم- وأجيب بأن الممتنع إنما هو تعدي الفعل
بمعنى وقوعه عليه أو على ما جر بالحرف نحو زيد مر به فإن
المرور واقع بزيد وما نحن فيه ليس من هذا القبيل فإن الجعل ليس
واقعا بالجاعلين بل بما يشتهون، ومحصله- كما قال الخفاجي-
المنع في المتعدي بنفسه مطلقا والتفصيل في المتعدي بالحرف بين
ما قصد الإيقاع عليه وغيره فيمتنع في الأول دون الثاني لعدم
ألف إيقاع المرء بنفسه. وأبو حيان اعترض القاعدة بقوله تعالى:
وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ [مريم: 25] .
وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَناحَكَ [القصص: 32] والعلامة البيضاوي
أجاب بوجه آخر وهو أن الامتناع إنما هو إذا تعدى الفعل أولا لا
ثانيا وتبعا فإنه يغتفر في التابع ما لا يغتفر في المتبوع،
ومنهم من خص ذلك بالمتعدي بنفسه وجوز في المتعدي بالحرف كما
هنا وارتضاه الشاطبي في شرح الألفية، وقال الخفاجي: هو قوي
عندي لكن لا يخفى أن العطف هنا بعد هذا القيل والقال يؤدي إلى
جعل الجعل بمعنى يعم الزعم والاختيار وَإِذا بُشِّرَ
أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثى أي أخبر بولادتها، وأصل البشارة
الإخبار بما يسر لكن لما كانت ولادة الأنثى تسوءهم حملت على
مطلق الأخبار، وجوز أن يكون ذلك بشارة باعتبار الولادة بقطع
النظر عن كونها وقيل: إنه بشارة حقيقة بالنظر إلى حال المبشر
به في نفس الأمر، وأيّا ما كان فالكلام على تقدير مضاف كما
أشرنا إليه ظَلَّ وَجْهُهُ أي صار مُسْوَدًّا من الكآبة
والحياة من الناس، وأصل معنى ظل أقام نهارا على الصفة التي
تسند إلى الاسم، ولما كان التبشير قد يكون في الليل وقد يكون
في النهار فسر بما ذكر وقد تلحظ الحالة الغالبة بناء على أن
أكثر الولادات يكون بالليل ويتأخر اخبار المولود له إلى النهار
خصوصا بالأنثى فيكون ظلوله على ذلك الوصل طول النهار واسوداد
الوجه كناية عن العبوس والغم والفكرة والنفرة التي لحقته
بولادة الأنثى، قيل: إذا قوي الفرح انبسط روح القلب من داخله
ووصل إلى الأطراف لا سيما إلى الوجه لما بين القلب والدماغ من
التعلق الشديد فيرى مشرقا متلألئا، وإذا قوي الغم انحصر الروح
إلى باطن القلب ولم يبق له أثر قوي في ظاهر الوجه فيربد ويتغير
ويصفر ويسود ويظهر فيه أثر الأرضية، فمن لوازم الفرح استنارة
الوجه وإشراقه ومن لوازم الغم والحزن إرداءه واسوداده فلذلك
كني عن الفرح بالاستنارة وعن الغم بالاسوداد، ولو قيل بالمجاز
لم يبعد بل قال بعضهم «إنه الظاهر» والظاهر أن وَجْهُهُ اسم ظل
ومُسْوَدًّا خبره، وجوز كون الاسم ضميرا لأحد ووجهه بدلا منه
ولو رفع مُسْوَدًّا على أن وَجْهُهُ مبتدأ وهو خبر له والجملة
خبر ظَلَّ صح لكنه لم يقرأ بذلك هنا وَهُوَ كَظِيمٌ أي مملوء
غيظا وأصل الكظم مخرج النفس يقال: أخذ بكظمه إذا أخذ بمخرج
نفسه، ومنه كظم الغيظ لاخفائه وحبسه عن الوصول إلى مخرجه.
__________
(1) قوله اسما ظاهرا وقوله بعده أو ضميرا منفصلا كذا بخطه
فليتأمل.
(7/407)
وفعيل إما بمعنى مفعول كما أشير إليه أو
صيغة مبالغة، والظاهر أن ذلك الغيظ على المرأة حيث ولدت اثنى
ولم تلد ذكرا، ويؤيده ما روى الأصمعي أن امرأة ولدت بنتا سمتها
الذلفاء فهجرها زوجها فانشدت:
ما لأبي الذلفاء لا يأتينا ... يظل في البيت الذي يلينا
يحرد أن لا نلد البنينا ... وإنما نأخذ ما يعطينا
والفقير قد رأيت من طلق زوجته لأن ولدت أنثى، والجملة في موضع
الحال من الضمير في ظَلَّ وجوز أبو البقاء أن يكون حالا من
وجه، وجوز غيره أيضا حاليته من ضمير مُسْوَدًّا يَتَوارى مِنَ
الْقَوْمِ يستخفي من قومه مِنْ سُوءِ ما بُشِّرَ بِهِ عرفا وهو
الأنثى، والتعبير عنهما- بما- لاسقاطها بزعمهم عن درجة
العقلاء، والجملة مستأنفة أو حال على الأوجه السابقة في وهو
كظيم إلا كونه من وجهه، والجاران متعلقان- بيتوارى- ومِنَ
الأولى ابتدائية، والثانية تعليلية أي يتوارى من أجل ذلك،
ويروى أن بعض الجاهلية يتوارى في حال الطلق فإن أخبر بذكر
ابنته أو بأنثى حزن وبقي متواريا أياما يدبر فيها ما يصنع
أَيُمْسِكُهُ أيتركه ويربيه عَلى هُونٍ أي ذل، والجار والمجرور
في موضع الحال من الفاعل ولذا قال ابن عباس رضي الله تعالى
عنهما: معناه أيمسكه مع رضاه بهوان نفسه وعلى رغم أنفه، وقيل:
حال من المفعول به أي أيمسك المبشر به وهو الأنثى مهانا ذليلا،
وجملة أَيُمْسِكُهُ معمولة لمحذوف معلق بالاستفهام عنها وقع
حالا من فاعل يَتَوارى أي محدثا نفسه متفكرا في أن يتركه أَمْ
يَدُسُّهُ يخفيه فِي التُّرابِ والمراد يئده ويدفنه حيا حتى
يموت وإلى هذا ذهب السدي. وقتادة. وابن جريج وغيرهم، وقيل:
المراد إهلاكه سواء كان بالدفن حيا أم بأمر آخر فقد كان بعضهم
يلقي الأنثى من شاهق.
روي أن رجلا قال: يا رسول الله والذي بعثك بالحق ما أجد حلاوة
الإسلام منذ أسلمت، وقد كانت لي في الجاهلية بنت وأمرت امرأتي
أن تزينها وأخرجتها فلما انتهيت إلى واد بعيد القعر ألقيتها
فقالت يا أبت قتلتني فكلما ذكرت قولها لم ينفعني شيء فقال صلى
الله عليه وسلم:
«ما في الجاهلية فقد هدمه الإسلام وما في الإسلام يهدمه
الاستغفار»
وكان بعضهم يغرقها، وبعضهم يذبحها إلى غير ذلك، ولما كان الكل
إماتة تفضي إلى الدفن في التراب قيل: أَمْ يَدُسُّهُ فِي
التُّرابِ وقيل: المراد اخفاؤه عن الناس حتى لا يعرف كالمدسوس
في التراب، وتذكير الضميرين للفظ ما. وقرأ الجحدري بالتأنيث
فيهما عودا على قول سبحانه: بِالْأُنْثى أو على معنى ما. وقرئ
بتذكير الأول وتأنيث الثاني، وقرأ الجحدري أيضا، وعيسى «هوان»
بفتح الهاء وألف بعد الواو، وقرئ «على هون» بفتح الهاء وإسكان
الواو وهو بمعنى الذل أيضا، ويكون بمعنى الرفق واللين وليس
بمراد، وقرأ الأعمش «على سوء» وهي عند أبي حيان تفسير لا قراءة
لمخالفتها السواد أَلا ساءَ ما يَحْكُمُونَ حيث يجعلون لمن
تنزه عن الصحابة والولد ما هذا شأنه عندهم والحال أنهم يتحاشون
عنه ويختارون لأنفسهم البنين، فمدار الخطأ جعلهم ذلك لله تعالى
شأنه مع إبائهم إياه لا جعلهم البنين لأنفسهم ولا عدم جعلهم له
سبحانه، وجوز أن يكون مداره التعكيس كقوله تعالى: تِلْكَ إِذاً
قِسْمَةٌ ضِيزى [النجم: 22] ، وقال ابن عطية: هذا استقباح منه
تعالى شأنه لسوء فعلهم وحكمهم في بناتهم بالإمساك على هون أو
الوأد مع أن رزق الجميع على الله سبحانه فكأنه قيل: ألا ساء ما
يحكمون في بناتهم وهو خلاف الظاهر جدا، وروى الأول عن السدي
وعليه الجمهور، والآية ظاهرة في ذم من يحزن إذا بشر بالأنثى
حيث أخبرت أن ذلك فعل الفكرة، وقد أخرج ابن جرير. وغيره عن
قتادة أنه قال في قوله سبحانه: وَإِذا بُشِّرَ إلخ هذا صنيع
مشركي العرب أخبركم الله تعالى بخبثه فأما المؤمن فهو حقيق أن
يرضى بما قسم الله تعالى له وقضاء الله تعالى خير من قضاء
المرء لنفسه، ولعمري ما ندري أي خبر لرب جارية خير لأهلها من
غلام، وإنما أخبركم الله عز وجل بصنيعهم لتجتنبوه ولتنتهوا
عنه. واستدل القاضي بالآية على بطلان مذهب
(7/408)
القائلين بنسبة أفعال العباد إليه تعالى
لأن في ذلك إضافة فواحش لو أضيفت إلى أحدهم أجهد نفسه في
البراءة منها والتباعد عنها قال: فحكم هؤلاء القائلين مشابه
لحكم هؤلاء المشركين بل أعظم لأن إضافة البنات إليه سبحانه
إضافة لقبيح واحد وهو أسهل من إضافة كل القبائح والفواحش إليه
عز وجل. وأجيب عن ذلك بأنه لما ثبت بالدليل استحالة الصحابة
والولد عليه سبحانه أردفه عز وجل بذكر هذا الوجه الإقناعي وإلا
فليس كل ما قبح منا في العرف قبح منه تعالى، ألا ترى أن رجلا
لو زين إماءه وعبيده وبالغ في تحسين صورهم وصورهن ثم بالغ في
تقوية الشهوة فيهم وفيهن ثم جمع بين الكل وأزال الحائل والمانع
وبقي ينظر ما يحدث بينهم من الوقاع وغيره عد من أسفه السفهاء
وعد صنيعه أقبح كل صنيع مع أن ذلك لا يقبح منه تعالى بل قد
صنعه جل جلاله فعلم أن التعويل على مثل هذه الوجوه المبنية على
العرف إنما يحسن إذا كانت مسبوقة بالدلائل القطعية، وقد ثبت
بها امتناع الولد عليه سبحانه فلا جرم حسنت تقويتها لهذه
الوجوه الإقناعية، وأما أفعال العباد فقد ثبت بالدلائل القاطعة
أن خالقها هو الله تعالى فكيف يمكن إلحاق أحد البابين بالآخر
لولا سوء التعصب لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ ممن
ذكرت قبائحهم مَثَلُ السَّوْءِ صفة السوء التي هي كالمثل في
القبح وهي الحاجة إلى الولد ليقوم مقامهم بعد موتهم ويبقى به
ذكرهم، وإيثار الذكور للاستظهار، ووأد البنات لدفع العار أو
خشية الإملاق على حسب اختلاف أغراض الوائدين المنادي كل واحد
من ذلك بالعجز والقصور والشح البالغ. وعن ابن عباس مَثَلُ
السَّوْءِ النار، وأظنه لا يصح عنه رضي الله تعالى عنه، ومنه
ابن عطية حمل المثل على الصفة وقال: إنه لا يضطر إليه لأنه
خروج عن اللفظ بل هو على بابه، وذلك أنهم قالوا: إن البنات لله
سبحانه فقد جعلوا لله عز وجل مثلا فإن البنات من البشر وكثرة
البنات أمر مكروه عندهم ذميم فهو المثل السوء الذي أخبر الله
تعالى بأنه لهم، وليس في البنات فقط بل لما جعلوا له تعالى
البنات جعله هو سبحانه لهم على الإطلاق في كل سوء ولا غاية
أبعد من عذاب النار اه، وهو أشبه عندي بالرطانة كما لا يخفى
ووضع الموصول موضع الضمير للإشعار بأن مدار اتصافهم بتلك
القبائح هو الكفر بالآخرة
وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلى أي الصفة العجيبة الشأن التي هي
مثل في العلو مطلقا وهو الوجوب الذاتي والغنى المطلق والجود
الواسع والنزاهة عن صفات المخلوقين ويدخل فيه علوه تعالى عما
يقول (1) علوا كبيرا. وأخرج ابن جرير. وغيره عن قتادة أن المثل
الأعلى شهادة على لا إله إلا الله وهو رواية عن ابن عباس.
والذي أخرجه عنه البيهقي في الأسماء والصفات وغيره هو لَيْسَ
كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى:
11] . وَهُوَ الْعَزِيزُ المنفرد بكمال القدرة على كل شيء ومن
ذلك مؤاخذتهم بقبائحهم، وقيل: هو الذي لا يوجد له نظير
الْحَكِيمُ الذي يفعل كل ما يفعل بمقتضى الحكمة البالغة.
وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ الظالمين مطلقا، وقيل:
بالكفر والمؤاخذة مفاعلة من فاعل بمعنى فعل وهو الظاهر، وقال
ابن عطية: هي مجاز كأن العبد يأخذ حق الله تعالى بمعصيته والله
تعالى يأخذ منه بعاقبته وكذا الحال في مؤاخذة الخلق بعضهم بعضا
بِظُلْمِهِمْ أي بسبب كفرهم ومعاصيهم بناء على الظلم فعل ما لا
ينبغي ووضعه في غير موضعه وقد يخص بالكفر والتعدي على الغير
ويدخل فيه ما عد من القبائح، وهذا تصريح بما أفاده قوله تعالى:
وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ وإيذان بأن ما أتاه هؤلاء الكفرة
من القبائح قد تناهى إلى أمد لا غاية وراءه ما تَرَكَ عَلَيْها
أي على الأرض المدلول عليها بالناس وبقوله تعالى: مِنْ
دَابَّةٍ بناء على شهرة كون الدبيب في الأرض أي ما ترك عليها
شيئا من الدواب أصلا بل أهلكها بالمرة، أما الظالم فبظلمه وأما
غيره فبشؤم ذلك فقد قال سبحانه: وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا
تُصِيبَنَ
__________
(1) قوله عما يقول كذا بخطه والظاهر «عما يقولون» إلخ.
(7/409)
الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً
[الأنفال: 25] وأخرج البيهقي في الشعب وغيره عن أبي هريرة أنه
سمع رجلا يقول: إن الظالم لا يضر إلا نفسه فقال: بلى والله إن
الحبارى لتموت هزلا في وكرها من ظلم الظالم، وأخرج أيضا هو فيه
وغيره عن ابن مسعود قال: كاد الجعل أن يعذب في جحره بذنب ابن
آدم ثم قرأ الآية، وأخرج أحمد في الزهد عنه أنه قال:
ذنوب ابن آدم قتلت الجعل في جحره ثم قال: أي والله زمن غرق قوم
نوح عليه السلام، وقيل: المراد من دابة ظالمة على أن التنوين
للنوع وهو مخصوص بالكفار والعصاة من الأنس، وقيل: منهم ومن
الجن، وقيل: المراد الدابة الظالمة الفاعلة لما ينبغي شرعا أو
عرفا فيدخل بعض الدواب إذا ضر غيره، وقالت فرقة منهم ابن عباس:
المراد بالدابة المشرك فقد قال تعالى: إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ
عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا [الأنفال: 55] وقال
الجبائي: الدابة على عمومها فتشمل سائر الحيوانات، والمراد
بالناس الظالمون مطلقا ووجه الملازمة أنه تعالى لو آخذهم بما
كسبوا من كفر أو معصية لعجل هلاكهم وحينئذ لا يبقى لهم نسل،
ومن المعلوم أن لا أحد إلا وفي آبائه من يستحق العقاب وإذا
هلكوا جميعا وبطل نسلهم لا يبقى أحد من الناس وحينئذ يهلك
الدواب لأنها مخلوقة لمنافع العباد ومصالحهم كما يشعر به قوله
تعالى:
خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً [البقرة: 29] وبتخصيص
الناس يسقط الاستدلال بالآية على عدم عصمة الأنبياء عليهم
السلام، وقال بعض المحققين: لا حاجة إلى التخصيص في ذلك والآية
من باب بنو تميم قتلوا قتيلا لتظافر الأدلة والنصوص على عصمة
الأنبياء عليهم السلام. فلا يقال: الأصل الحمل على الحقيقة.
واستدل بعضهم للتخصيص بقوله تعالى: ثُمَّ أَوْرَثْنَا
الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا فَمِنْهُمْ
ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سابِقٌ
بِالْخَيْراتِ [فاطر: 32] وألا يفسد التقسيم، وقد يقال: إنه ما
أحد إلا وهو متصف بظلم إلا أن مراتبه مختلفة فحسنات الأبرار
سيئات المقربين، والعصمة التي تدعى للأنبياء عليهم السلام إنما
هي العصمة مما يعد ذنبا بالنسبة إلى غيرهم وأما العصمة مما يعد
ذنبا بالنسبة إلى مقامهم ومرتبتهم فلا تدعى لهم إذ قد وقع ذلك
منهم كما يشهد به كثير من الآيات،
وأخرج ابن مردويه عن أبي هريرة قال: «قال رسول الله صلى الله
عليه وسلم لو أن الله تعالى يؤاخذني وعيسى ابن مريم بذنوبنا-
وفي لفظ- بما جنت هاتان الإبهام والتي تليها لعذبنا ما يظلمنا
شيئا»
نعم إنه لا يقال لنبي هو ظالم ولا للأنبياء عليهم السلام هم
ظالمون ويقال الناس ظالمون وهذا نظير قولهم: لا يقال لله
سبحانه خالق القردة والخنازير ويقال هو خالق كل شيء، ورب شيء
يجوز تبعا ولا يجوز استقلالا، وأمر التقسيم هين عند المتأمل
فليتأمل، ومن الناس من احتج بالآية على أن أصل المضمار الحرمة
إذ لو كان الضرر مشروعا فإما أن يكون مشروعا على وجه يكون جزاء
على جرم أولا وكلا القسمين باطل، أما الأول فللآية وذلك من
وجهين.
الأول أنها لمكان لو تقتضي أن تعالى ما آخذ الناس بظلمهم وأنه
ترك على ظهرها دابة. الثاني أن مقتضى المؤاخذة عدم ترك دابة
على ظهرها ونحن نشاهد أنه سبحانه قد ترك كثيرا من الدواب فيجب
القطع بأنه تعالى لم يؤاخذ بالظلم، وأما الثاني فباطل بالإجماع
فثبت بمقتضى آية تحريم المضار، ويؤكد ذلك آيات أخر وأخبار
وحينئذ يقال: إذا وقعت حادثة مشتملة على الضرر من جميع الوجوه
فإن وجدنا نصا يدل على كونه مشروعا قضينا به تقديما للخاص على
العام وإلا قضينا بالحرمة بناء على الأصل الذي قرر. واستدل بها
المعتزلة على أن العباد خالقون لأفعالهم ووجه مع رده غنى عن
البنيان وَلكِنْ لا يؤاخذهم بذلك بل يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ
مُسَمًّى سماه سبحانه وعينه لأعمالهم أو لعذابهم كي يتوالدوا
أو يكثر عذابهم فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ المسمى لا
يَسْتَأْخِرُونَ عنه ساعَةً أقل مدة وَلا يَسْتَقْدِمُونَ
عليه، وقد مر الكلام في نظيرها وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ أي
يثبتون له سبحانه وينسبون إليه بزعمهم ما يَكْرَهُونَ الذي
يكرهونه لأنفسهم من البنات، والتعبير- بما- عند أبي حيان على
إرادة النوع، وهذا على ما
(7/410)
سمعت تكرير لما سبق تثنية للتقريع وتوطئة
لقوله تعالى: وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أي يجعلون لله
تعالى ما يجعلون ومع ذلك تصف ألسنتهم الكذب وهو أَنَّ لَهُمُ
الْحُسْنى أي العاقبة الحسنى عند الله عز وجل ولا يتعين إرادة
الجنة.
وعن بعضهم أن المراد بها ذلك بناء على أن منهم من يقر بالبعث
وهذا بالنسبة لهم أو أنه على الفرض والتقدير كما روي أنهم
قالوا: إن كان محمد صلى الله عليه وسلم صادقا في البعث فلنا
الجنة بما نحن عليه، قيل: وهو المناسب لقوله تعالى الآتي: لا
جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ لظهور دلالته على أنهم حكموا
لأنفسهم بالجنة، فلا يرد أنهم كيف قالوا ذلك وهم منكرون للبعث،
وعن مجاهد أنهم يرادوا بالحسنى البنين وليس بذاك وقال بعض
المحققين: المراد- بما يكرهون- أعم مما تقدم فيشمل البنات وقد
علم كراهتهم لها وإثباتها لله تعالى بزعمهم والشركاء في
الرياسة فإن أحدهم لا يرضى أن يشرك في ذلك ويزعم الشريك له
سبحانه والاستخفاف برسل الله تعالى عليهم السلام فإنهم يغضبون
لو استخف برسول لهم أرسلوه في أمر لغيرهم ويستخفون برسل الله
تعالى عليهم السلام وأراذل الأموال فإنهم كانوا إذا رأوا ما
عينوه لله تعالى من أنعامهم أزكى بدلوه بما لآلهتهم وإذا رأوا
ما لآلهتهم أزكى تركوه لها ولو فعل نحو ذلك معهم غضبوا، وعلى
هذا يفسر الجعل بما يعم الزعم والاختيار وما تعم القلاء وغيرهم
ولا يخلو الكلام عن نوع تكرير، والمراد من تَصِفُ
أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ يكذبون وهو من بليغ الكلام وبديعه،
ومثله قولهم: عينها تصف السحر أي ساحرة وقدها يصف الهيف أي
هيفاء، وقول أبي العلاء المعري:
سرى برق المعرة بعد وهن ... فبات برامة يصف الكلالا
وسيأتي إن شاء الله تعالى قريبا تمام الكلام في ذلك، والظاهر
أن الْكَذِبَ مفعول تَصِفُ وأَنَّ لَهُمُ بدل منه أو بتقدير
بأن لهم ولما حذفت الباء صار في موضع نصب عند سيبويه، وعند
الخليل هو في موضع جر، وجوز أن يكون خبرا لمبتدأ محذوف كما
أشرنا إليه في بيان المعنى، وجوز أبو البقاء كون الْكَذِبَ
بدلا- مما يكرهون- وهو كما ترى. وقرأ الحسن. ومجاهد باختلاف
أَلْسِنَتُهُمُ بإسقاط التاء وهي لغة تميم، واللسان يذكر ويؤنث
قيل:
ويجمع المذكر على ألسنة نحو حمار وأحمرة والمؤنث على ألسن
كذراع واذرع. وقرأ معاذ بن جبل. وبعض أهل الشام «الكذب» بثلاث
ضمات وهو جمع كذوب كصبر وصبور وهو مقيس. وقيل: جمع كاذب نحو
شارف وشرف وهو غير مقيس، ورفعه على أنه صفة الألسنة أَنَّ
لَهُمُ الْحُسْنى حينئذ مفعول تَصِفُ لا جَرَمَ أي حقا أَنَّ
لَهُمُ
مكان ما زعموه من الحسنى النَّارَ التي ليس وراء عذابها عذاب
وهو علم في السوأى، وكلمة لا رد لكلام وجَرَمَ بمعنى كسب
وأَنَّ لَهُمُ في موضع نصب على المفعولية أي كسب ما صدر منهم
إن لهم ذلك.
وإلى هذا ذهب الزجاج، وقال قطرب: جَرَمَ بمعنى ثبت ووجب وإن
لهم في موضع رفع على الفاعلية له، وقيل: لا جَرَمَ بمعنى حقا
وأَنَّ لَهُمُ فاعل حق المحذوف، وقد مر تمام الكلام في ذلك
وحلا. وقرأ الحسن.
وعيسى بن عمر «إن لهم» بكسر الهمزة وجعل الجملة جواب قسم أغنت
عنه لا جَرَمَ وكذا قرآ بالكسر في قوله تعالى: وَأَنَّهُمْ
مُفْرَطُونَ أي مقدمون معجل بهم إليها على ما روي عن الحسن.
وقتادة من افرطته إلى كذا قدمته وهو معدى بالهمزة من فرط إلى
كذا تقدم إليه ومنه أنا «فرطكم على الحوض» أي متقدمكم وكثيرا
ما يقال للمتقدم إلى الماء لإصلاح نحو دلو فارط وفرط، وأنشدوا
للقطامي:
واستعجلونا وكانوا من صحابتنا ... كما تعجل فرّاط لوراد
وقال مجاهد، وابن جبير، وابن أبي هند: أي متركون في النار
منسيون فيها أبدا من أفرطت فلانا خلفي إذا تركته ونسيته، وقرأ
ابن عباس. وابن مسعود وأبو رجاء، وشيبة ونافع. وأكثر أهل
المدينة مُفْرَطُونَ بكسر الراء اسم
(7/411)
فاعل من أفرط اللازم إذا تجاوز أي مجاوز
والحد في معاصي الله تعالى. وقرأ أبو جعفر «مفرّطون» بتشديد
الراء وكسرها من فرط في كذا إذا قصر أي مقصرون في طاعة الله
تعالى، وعنه أنه قرأ «مفرّطون» بتشديد الراء وفتحها من فرطته
المعدى بالتضعيف من فرط بمعنى تقدم أي مقدمون إلى النار.
تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ تسلية
للرسول صلى الله عليه وسلم عما كان يناله من جهالات قومه
الكفرة ووعيد لهم على ذلك، ولا يخفى ما في ذلك من عظيم التأكيد
أي أرسلنا رسلا إلى أمم من قبل أمتك أو من قبل إرسالك إلى
هؤلاء فدعوهم إلى الحق فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ
أَعْمالَهُمْ القبيحة فلم يتركوها ولم يمتثلوا دعوة الرسل
عليهم السلام، وقد تقدم الكلام في نسبة التزيين إلى الشيطان
فَهُوَ وَلِيُّهُمُ أي قرين الأمم وبئس القرين أو متولي
اغوائهم وصرفهم عن الحق الْيَوْمَ أي يوم زين الشيطان أعمالهم
فيه، وهو وإن كان ماضيا واليوم المعرف معروف في زمان الحال
كالآن لكان صور بصورة الحال ليستحضر السامع تلك الصورة العجيبة
ويتعجب منها، وسمى مثل ذلك حكاية الحال الماضية وهو استعارة من
الحضور الخارجي للحضور الذهني أو المراد باليوم مدة الدنيا
لأنها كالوقت الحاضر بالنسبة للآخرة وهي شاملة للماضي والآتي
وما بينهما أي فهو وليهم في الدنيا وَلَهُمْ في الأخرى عَذابٌ
أَلِيمٌ وهو عذاب النار، وقد ورد إطلاق اليوم على مدتها كثيرا
فهو مجاز متعارف وليس فيه حكاية لما مضى أو يوم القيامة الذي
فيه عذابهم لكن صور بصورة الحال استحضارا له كما في الوجه
الأول إلا أنه حكاية آتية وفي الأول حكاية حال ماضية وليس من
مجاز الأول، والولي على هذا بمعنى الناصر أي لا ناصر لهم في
ذلك اليوم غيره وهو نفي للناصر على أبلغ وجه على حد قوله:
وبلدة ليس بها أنيس ... إلا اليعافير وإلا العيس
ولا يجوز أن يكون بمعنى المتولي للإغواء إذا لا إغواء ثمة ولا
بمعنى القرين لأنه في الدرك الأسفل من النار، وجوز بعضهم
باعتبار أنه معهم في النار في الجملة ولا يضر اختلافهم في
الدركات، والظاهر أن ضمائر الجمع كلها للأمم كما أشرنا إليه في
بعضها، وجوز الزمخشري أن يكون ضمير وَلِيُّهُمُ المضاف إليه
لقريش لا للأمم والْيَوْمَ بمعنى الزمان الذي وقع فيه الخطاب
أي زين الشيطان للكفرة المتقدمين أعمالهم فهو ولي هؤلاء لأنهم
منهم.
وأن يكون الضمير للمتقدمين، والكلام على حذف مضاف أي ولي
أمثالهم، والمراد من الأمثال قريش.
وتعقب ذلك أبو حيان بأن فيه بعدا لاختلاف الضمائر من غير داع
إليه ولا إلى تقدير المضاف. ورد بأن لفظ اليوم داع إليه، وقال
الطيبي: إن الوجه وعليه النظم الفائق لأن في تصدير القسمية
بقوله تعالى: تَاللَّهِ بعد إنكارهم الرسالة وتعداد قبائحهم
الإشعار بأن ما ذكر كالتسلية فكأنه قيل: إن الأمم الخالية مع
الرسالة السالفة لم تزل على هذه الوتيرة فلك أسوة بالرسل عليهم
السلام وقومك خلف لتلك الأمم فلا تهتم لذلك فإن ربك ينتقم لك
منهم في الدنيا والآخرة فاشتغل أنت بتبليغ ما أنزل إليك وتقرير
أنواع الدلائل المنصوبة على الوحدانية وبالتنبيه على إقامة على
نعم الله تعالى المتظاهرة اه.
وقال في الكشف: لا ترجيح لهذا الوجه من حيث التسلي إذ الكل
مفيد لذلك على وجه بين وإنما الترجيح للوجه الصائر إلى استحضار
الحال لما فيه من مزيد التشفي اه، والحق أن ما ذكره الزمخشري
غير ظاهر وما قيل: إن لفظ الْيَوْمَ داع إليه في حيز المنع،
وقصارى ما يقال: وجود القرينة المصححة لا المرجحة هذا. وذكر في
الكشف في بيان ربط الآيات أن قوله سبحانه: وَيَجْعَلُونَ لِما
لا يَعْلَمُونَ إلى هذا الموضع فن آخر من كفرانهم
(7/412)
وتعداد قبائحهم، وجاز أن يكون من تتمة
سابقه على منوال وَما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ
[النحل: 53] إلا أنه بنى على الغيبة دلالة على أنه فن آخر،
وهذا قريب المتناول، وجاز أن يجعل عطفا على قوله تعالى:
وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ فإن ما وقع من الكلام بعده من تتمته
اعتراضا واستطرادا كأنه قيل: ذاك معتقدهم في المعاد وهذا في
المبتدأ وهم فيما بين ذلك متدينون بهذا الدين القويم ومع
اختلاف العقيدة في المبدأ والمعاد يدعون أن لهم الحسنى فيحق
لهم ضد ذلك حقا ثم قال: وقوله تعالى وَما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ
الْكِتابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا
فِيهِ شديد الملائمة على هذا الوجه قوله سبحانه هنالك:
لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ [النحل: 39] ،
ولقوله تعالى: وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ
لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ [النحل: 44] وفيه أن من
استبان له الهدى بهذا البيان استغنى عن ذلك البيان حيث لا
ينفعه إلا العلم بكذبه وهذا أنسب لتأليف النظم اه.
وأنت تعلم أن احتمال العطف بعيد، والمراد بالكتاب القرآن فإنه
الحقيق بهذا الاسم، والاستثناء مفرغ من أعم العلل أي ما
أنزلناه عليك لعلة من العلل إلا لتبين لهم اختلفوا فيه من
البعث وقد كان فيهم من يؤمن به وأشياء من التحليل والتحريم
والإقرار والإنكار ومقتضى رجوع الضمائر السابقة إلى الأمم
السالفة أن يرجع ضمير إليهم واخْتَلَفُوا إليهم أيضا لكن منع
عنه عدم تأتي تبيين الذي اختلفوا فيه لهم فمنهم من جعله راجعا
إلى قريش لأن البحث فيهم ومنهم من جعله راجعا إلى الناس مطلقا
لعدم اختصاص ذلك بقريش ويدخلون فيه دخولا أوليا.
وَهُدىً وَرَحْمَةً عظيمين لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ خصهم بالذكر
لكونهم المغتنمين آثاره. والاسمان- قال أبو حيان:
- في موضع نصب على أنهما مفعول من أجله والناصب أَنْزَلْنا
ولما اتحد الفاعل في العلة والمعلول وصل الفعل لهما بنفسه،
ولما لم يتحد في لِتُبَيِّنَ لأن فاعل الإنزال هو الله تعالى
لا الرسول عليه الصلاة والسلام وصلت العلة بالحرف.
وقال الزمخشري: هما معطوفان على محل لِتُبَيِّنَ وهو ليس بصحيح
لأن محله ليس نصبا فيعطف منصوب عليه، ألا ترى أنه لو نصب لم
يجز لاختلاف الفاعل اه. وتعقب بأن معنى كونه في محل نصب أنه في
محل لو خلا من الموانع ظهر نصبه وهو هنا كذلك لمن تأمل فقوله
ليس بصحيح لأن محله ليس نصبا ليس على ما ينبغي.
وقال الحلبي: إن ذلك ممنوع إذ لا خلاف في أن محل الجار
والمجرور والنصب ولذا أجازوا مررت بزيد وعمرا بالعطف على
المحال وللخفاجي هاهنا كلام إن أردته فارجع إليه وراجع، ولعله
إنما قدمت علة التبيين على علتي الهدى والرحمة لتقدمه في الوجه
في الوجود عليهما وَاللَّهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً تقدم
الكلام في مثله، وهذا على ما قيل تكرير لما سبق تأكيدا لمضمونه
وتوحيدا لما يعقبه من أدلة التوحيد فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ
بما أنبت به فيها من أنواع النباتات بَعْدَ مَوْتِها بعد يبسها
فالإحياء والموت استعارة للإنبات واليابس، وليس المراد إعادة
اليابس بل إنبات مثله، والفاء للتعقيب العادي فلا ينافيه ما
بين المتعاطفين من المهلة، ونظير ذلك تزوج فولد له ولد، والآية
دليل لمن قال: إن المسببات بالأسباب لا عندها ومن قال به أول
إِنَّ فِي ذلِكَ أي في إنزال الماء من السماء وإحياء الأرض
ميتة لَآيَةً وأية آية دالة على وحدته سبحانه وعلمه وقدرته
وحكمته جل شأنه، والإشارة بما يدل على البعد إما لتعظيم المشار
إليه أو لعدم ذكره صريحا لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ قال المولى ابن
الكمال: أريد بالسمع القبول كما في سمع الله لمن حمده أي لقوم
يتأملون فيها ويعقلون وجه دلالتها ويقبلون مدلولها، وإنما خص
كونها آية لهم لأن غيرهم لا ينتفع بها وهذا كالتخصيص في قوله
تعالى: هُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ [الأعراف: 52]
وربما قررناه تبين وجه
(7/413)
العدول عن- يبصرون- إلى يَسْمَعُونَ انتهى،
وقال الخفاجي: اللائق بالمقام ما ذكره الشيخان وبيانه أنه
تعالى لما ذكر أنه أرسل إلى الأمم السالفة رسلا وكتبا فكفروا
بها فكان لهم خزي في الدنيا والآخرة عقبه بأنه أرسله صلى الله
عليه وسلم بسيد الكتب فكان عين الهدى والرحمة لمن أرسل إليه
إشارة إلى أن مخالفة أمته لمن قبلهم تقربهم من سعادة الدارين
وتبشيرا له عليه الصلاة والسلام بكثرة متابعيه وقلة مناويه
وأنهم سيدخلون في دينه أفواجا أفواجا ثم أتبع ذلك على سبيل
التمثيل لإنزاله تلك الرحمة التي أحيت من موتة الضلال إنزال
الأمطار التي أحيت موات الأرض وهو الذي ينزل الغيث من بعد ما
قنطوا ولولا هذا لكان قوله تعالى: وَاللَّهُ أَنْزَلَ مِنَ
السَّماءِ ماءً كالأجنبي عما قبله وبعده، وقوله سبحانه: إِنَّ
فِي ذلِكَ لَآيَةً إلخ تتميم لقوله تعالى: وَما أَنْزَلْنا إلخ
وللمقصود بالذات منه فالمناسب يَسْمَعُونَ لا يبصرون ولو كان
تتميما لملاصقة من الإنبات لم يكن- ليسمعون- بمعنى يقبلون
مناسبة أيضا، ثم قال: ومن لم يقف على محط نظرهم قال في جوابه:
يمكن أن يحمل على يسمعون قولي والله أنزل إلخ فإنه مذكر وحامل
على تأمل مدلوله انتهى، وفي قوله عقبه: بأنه أرسله صلى الله
عليه وسلم بسيد الكتب فكان عين الهدى والرحمة إشارة إلخ خفاء
كما لا يخفى، ومتى كان تتميما لقوله تعالى: وَما أَنْزَلْنا
إلخ لم يظهر جعل المشار إليه ما سمعت وهو الظاهر، وفي البحر
أنه تعالى لما ذكر إنزال الكتاب للتبيين كان القرآن حياة
للأرواح وشفاء لما في الصدور من علل العقائد ولذلك ختم بقوله
سبحانه لقوم يؤمنون أي يصدقون والتصديق محله القلب ذكر سبحانه
إنزال المطر الذي هو حياة الأجسام وسبب بقائها ثم أشار سبحانه
بإحياء الأرض بعد موتها إلى إحياء القلوب بالقرآن كما قال
تعالى: أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ [الأنعام:
122] فكما تصير الأرض خضرة بالنبات نضرة بعد همودها كذلك القلب
يحيا بالقرآن بعد أن كان ميتا بالجهل ولذلك ختم تعالى بقوله
سبحانه: يَسْمَعُونَ أي يسمعون هذا التشبيه المشار إليه
والمعنى سماع انصاف وتدبر، ولملاحظة هذا المعنى والله تعالى
أعلم لم يختم سبحانه- بلقوم يبصرون- وإن كان إنزال المطر مما
يبصر ويشاهد انتهى.
وفيه أيضا من التكلف ما فيه، وأقول: لعل الأظهر أن المشار إليه
ما ذكر من الإنزال والإحياء والسماع على ظاهره والكلام تتميم
لملاصقه والعدول عن يبصرون إلى يَسْمَعُونَ للإشارة إلى ظهور
هذا المعتبر فيه وأنه لا يحتاج إلى نظر ولا تفكر وإنما يحتاج
المنبه إلى أن يسمع القول فقط، ويكفي في ربط الآية بما قبلها
تشارك الكتاب والمطر في الإحياء لكن في ذاك إحياء القلوب وفي
هذا إحياء الأرض الجدوب فتأمل وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ
لَعِبْرَةً أي معبرا يعبر به من الجهل إلى العلم، وأصل معنى
العبر والعبور والتجاوز من محل إلى آخر، وقال الراغب: العبور
مختص بتجاوز الماء بسباحة ونحوها، والمشهور عمومه فاطلاق
العبرة على ما يعتبر به لما ذكر لكنه صار حقيقة في عرف اللغة؟
والتنكير للتفخيم أي لعبرة عظيمة نُسْقِيكُمْ استئناف بياني
كأنه قيل كيف العبرة فيها؟ فقيل: نسقيكم مِمَّا فِي بُطُونِهِ
ومنهم من قدر هنا مبتدأ وهو هي نسقيكم ولا حاجة إليه، وضمير
بُطُونِهِ للأنعام وهو اسم جمع واسم الجمع يجوز تذكيره وإفراده
باعتبار لفظه وتأنيثه وجمعه باعتبار معناه، ولذا جاء الوجهين
في القرآن وكلام العرب كذا قيل.
ونقل عن سيبويه أنه عد الأنعام مفردا وكلامه رحمه الله تعالى
متناقض ظاهرا فإنه قال في باب ما كان على مثال مفاعل ومفاعيل
ما نصه: وأما أجمال وفلوس فإنها تنصرف وما أشبهها لأنها ضارعت
الواحد، ألا ترى أنك تقول: أقوال وأقاويل وأعراب وأعاريب وأيد
وإياد فهذه الأحرف تخرج إلى مفاعل ومفاعيل كما يخرج الواحد
إليه إذا فسر للجمع، وأما مفاعل ومفاعيل فلا يكسر فيخرج الجمع
إلى بناء غير هذا لأن هذا هو الغاية فلما ضارعت الواحد صرفت،
ثم
(7/414)
قال: وكذلك الفعول لو كسرت مثل الفلوس فإنك
تخرجه إلى فعائل كما تقول جدود وجدائد وركوب وركائب. ولو فعلت
ذلك بما فعل ومفاعيل لم يجاوز هذا البناء، ويقوي ذلك أن بعض
العرب تقول: أتى للواحد فيضم الألف، وأما أفعال فقد يقع للواحد
ومن العرب من يقول هو الأنعام قال جل ثناؤه نُسْقِيكُمْ مِمَّا
فِي بُطُونِهِ وقال أبو الخطاب سمعت العرب تقول: هذا ثوب أكياس
انتهى.
وقال رحمه الله تعالى في باب ما لحقته الزوائد من بنات الثلاثة
وليس في الكلام أفعيل ولا أفعول ولا أفعال ولا أفعل ولا أفعال
إلا أن تكسر عليه أسماء للجمع انتهى، وقد اضطرب الناس في
التوفيق بين كلاميه فذهب أبو حيان إلى تأويل الأول وإبقاء
الثاني على ظاهره من أن أفعالا لا يكون من أبنيته المفرد فحمل
قوله أولا وأما أفعال فقد يقع للواحد إلخ: على أن بعض العرب قد
يستعمله فيه مجازا كالأنعام بمعنى النعم كما قال الشاعر:
تركنا الخيل والنعم المفدى ... وقلنا للنساء بها أقيمي
وليس مراده أنه مفرد صيغة ووضعا بدليل ما صرح به في الموضع
الآخر من أنه لا يكون إلا جمعا. واعترض عليه بأن مقصود سيبويه
بما ذكره أولا الفرق بين صيغتي منتهى الجموع وأفعال وفعول حيث
منع الصرف للأول دون الثاني بوجوه: منها أن الأولين لا يقعان
على الواحد بخلاف الآخيرين كما أوضحه فلو لم يكن وقوع أفعال
على الواحد بالوضع لم يحصل الفرق فلا يتم المقصود. نعم لا كلام
في تدافع كلاميه، وأيضا لو كان كذلك لم يختص ببعضهم، وأيضا إن
التجوز بالجمع عن الواحد يصح في كل جمع حتى صيغتي منتهى
الجموع. وتعقبه الخفاجي بقوله: والحق أنه لا تدافع بين كلاميه
فإنه فرق بين صيغتي منتهى الجموع والصيغتين الأخيرتين بأن
الأولتين لا تجمعان والأخيرتان تجمعان فأشبهتا الآحاد ثم قوى
ذلك بأن قوما من العرب استعملت أتى وهو على وزن فعول مفردا
حقيقة، ومنهم من استعمل الأنعام وهو على وزن أفعال كذلك، وقد
أشار إلى أن ذلك لغة نادرة ببعض، ومن ما ذكره بعد بناء على
اللغة المتداولة، وقوله: إن مقصوده أولا الفرق بوجوه لا وجه له
كما يعرفه حملة الكتاب انتهى، ويعلم منه أن رجوع الضمير المفرد
المذكر إلى الأنعام عند سيبويه باعتبار أنه مفرد على لغة بعض
العرب ومن قال: إنه جمع نعم جعل الضمير للبعض أما المقدر أي
بعض الأنعام أو المفهوم منها أو للأنعام باعتبار بعضها وهو
الإناث التي يكون اللبن منها أو لواحده كما في قول ابن الحاجب:
المرفوعات هو ما اشتمل على علم الفاعلية أو له على المعنى لأن
أل الجنسية تسوي بين المفرد والجمع في المعنى فيجوز عود ضمير
كل منهما على الآخر. وفي البحر أعاد الضمير مذكرا مراعاة الجنس
لأنه إذا صح وقوع المفرد الدال على الجنس مقام جمعه حجاز عوده
عليه مذكرا كقولهم هو أحسن الفتيان وأبتله لأنه يصح هو أحسن
فتى وإن كان هذا لا ينقاس عند سيبويه وقيل جمع التكثير فيما لا
يعقل يعامل معاملة الجماعة ومعاملة الجمع فيعود الضمير عليه
مفردا كقوله:
فيها خطوط من سواد وبلق ... كأنه في الجلد توليع البهق
وهو في القرآن سائغ ومنه قوله تعالى: كَلَّا إِنَّهُ
تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ [المدثر: 54، 55] فَلَمَّا
رَأَى الشَّمْسَ بازِغَةً قالَ هذا رَبِّي [الأنعام: 78] ولا
يكون هذا إلا في التأنيث المجازي فلا يجوز جاريتك ذهب.
واعترض بأنه كيف جمع- نعم- وهي تخصيص بالإبل والإنعام تقال
للبقر والإبل والغنم مع أنه لو اختص كان مساويا.
وأجيب بأن من يراه جمعا له يخص الأنعام أو يعمم النعم ويجعل
التفرقة ناشئة من الاستعمال ويجعل الجمع للدلالة على تعدد
الأنواع.
وقرأ ابن مسعود بخلاف عنه. والحسن، وزيد بن علي رضي الله تعالى
عنهما. وابن عامر. ونافع. أبو بكر. وأهل
(7/415)
المدينة نُسْقِيكُمْ بفتح النون هنا وفي
المؤمنين على أن مضارع سقى وهو لغة في أسقى عند جمع وأنشدوا
قول لبيد:
سقى قومي بني مجد وأسقي ... نميرا والقبائل من هلال
وقال بعض: يقال سقيته لشفته وأسقيته لماشيته وأرضه، وقيل: سقاه
بمعنى رواه بالماء وأسقاه بمعنى جعله شرابا معدا له، وفيه كلام
بعد فتذكر. وقرأ أبو رجا «يسقيكم» بالياء مضمومة والضمير عائد
على الله تعالى.
وقال صاحب اللوامح: ويجوز أن يكون عائدا على النعم وذكر لأن
النعم مما يذكر ويؤنث، والمعنى وإن لكم في الأنعام نعما يسقيكم
أي يجعل لكم سقيا. وهو كما ترى. وقرأت فرقة منهم أبو جعفر
«تسقيكم» بالتاء الفوقية مفتوحة قال ابن عطية: وهي قراءة ضعيفة
انتهى، ولم يبين وجه ضعفها، وكأنه والله تعالى أعلم عنى به
اجتماع التأنيث في «تسقيكم» والتذكير في بُطُونِهِ وغفل أن مثل
ذلك لا يعد ضعفا لأن التأنيث والتذكير باعتبار وجهين.
مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَناً الفرث على ما في الصحاح
السرجين ما دام في الكرش والجمع فروث. وفي البحر كثيف ما يبقى
من المأكول في الكرش أو المعي، وبَيْنِ تقتضي متعددا وهو هنا
الفرث والدم فيكون مقتضى ظاهر النظم توسط اللبن بينهما، وروى
ذلك الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال:
إن البهيمة إذا اعتلفت وأنضج العلف في كرشها كان أسفله فرثا
وأوسطه لبنا وأعلاه دما.
وروي نحوه عن ابن جبير فالبينية على حقيقتها وظاهرها وتعقب ذلك
الإمام الرازي بقوله: ولقائل أن يقول:
اللبن والدم لا يتولدان في الكرش والدليل عليه الحس فإن
الحيوانات تذبه دائما ولا يرى في كرشها شيء من ذلك ولو كان
تولد ما ذكر فيه لوجب أن يشاهد في بعض الأحوال والشيء الذي دلت
المشاهدة على فساده لم يجز المصير إليه بل الحق أن الحيوان إذا
تناول الغذاء وصل إلى معدته وإلى كرشه إن كان من الأنعام
وغيرها فإذا طبخ وحصل الهضم الأول فيه فما كان منه صافيا انجذب
إلى الكبد وما كان كثيفا نزل إلى الأمعاء ثم ذلك الذي يحصل في
الكبد ينضج ويصير دما وذلك هو الهضم الثاني ويكون ذلك مخلوطا
بالصفراء والسوداء وزيادة المائية، أما الصفراء فتذهب إلى
المرارة والسوداء إلى الطحال والماء إلى الكلية ومنها إلى
المثانة، وأما ذلك الدم فإنه يدخل في الأوردة والعروق النابتة
من الكبد وهناك يحصل الهضم الثالث، وبين الكبد والضرع عروق
كثيرة فينصب الدم من تلك العروق إلى الضرع، والضرع لحم غددي
رخو أبيض فيقلب الله تعالى الدم فيه إلى صورة اللبن، لا يقال:
إن هذه المعنى حاصلة في الحيوان الذكر فلم لم يحصل منه اللبن
لأنا نقول: الحكمة الإلهية اقتضت تدبير كل شيء على الوجه
اللائق به الموافق لمصلحته فأوجبت أن يكون مزاج الذكر حارا
يابسا ومزاج الأنثى باردا رطبا فإن الولد إنما يتولد في داخل
بدن الأنثى فكان اللائق بها اختصاصها بالرطوبة لتصير مادة
للتولد وسببا لقبول التمدد فتتسع للولد، ثم إن تلك الرطوبة بعد
انفصال الجنين تنصب إلى الضرع فتصير مادة لغذائه كما كانت كذلك
قبل في الرحم، ومن تدبر في بدائع صنع الله تعالى فيما ذكر من
الاخلاط والألبان وإعداد مقارها ومجاريها والأسباب المولدة لها
وتسخير القوى المتصرفة فيها كل وقت على ما يليق به اضطر إلى
الاعتراف بكمال علمه سبحانه وقدرته وحكمته وتناهي رأفته
ورحمته:
حكم حارت البرية فيها ... وحقيق بأنها تحتار
وحاصل ما ذكروه أنه إذا ورد الغذاء الكرش انطبخ فيه وتميزت منه
أجزاء لطيفة تنجذب إلى الكبد فينطبخ فيها فيحصل الدم فتسري
أجزاء منه إلى الضرع ويستحيل لبنا بتدبير الحكيم العليم،
وحينئذ فالمراد أن اللبن إنما يحصل من
(7/416)
بين أجزاء الفرث ثم من بين أجزاء الدم
فالبينية على هذا مجازية وفي إرشاد العقل السليم وغيره لعل
المراد بما روي (1) عن ابن عباس أن أوسطه يكون مادة اللبن
وأعلاه مادة الدم الذي يغذو البدن فإن عدم تكونهما في الكرش
مما لا ريب فيه والداعي إلى ذلك مخالفة ما يقتضيه الظاهر للحس
ولما ذكره الحكماء أهل التشريح. ويؤيد ما ذكروه ما أخبرني به
من أثق به من أنه قد شاهد خروج الدم من الضرع بعد اللبن عند
المبالغة في الحلب والله تعالى أعلم، ومِنْ الأولى تبعيضية لما
أن اللبن بعض ما في بطون الأنعام لأنه مخلوف من بعض أجزاء الدم
المتولد من الأجزاء اللطيفة التي في الفرث حسبما سمعت، وهي
متعلقة- بنسقيكم- ومِنْ الثانية ابتدائية وهي أيضا متعلقة-
بنسقيكم- فإن بين الدم والفرث المحل الذي يبتدأ منه الاسقاء
وتعلقهما بعامل واحد لاختلاف مدلوليهما ولَبَناً مفعول ثان-
لنسقيكم- وتقديم ذلك عليه لما مر مرارا من أن تقديم ما حقه
التأخير يبعث للنفس شوقا إلى المؤخر موجبا لفضل تمكنه عند
وروده عليها لا سيما إذا كان المقدم متضمنا لوصف مناف لوصف
المؤخر كالذي نحن فيه، فإن بين وصفي المقدم والمؤخر تنافيا
وتنائيا بحيث لا يتراءى نارهما فإن لذلك مما يزيد الشوق
والاستشراف إلى المؤخر، وجوز أن يكون مِنْ بَيْنِ حالا من
لَبَناً قدم عليه لتنكيره وللتنبيه على أنه موضع العبرة.
وجوز أن تكون مِنْ الأولى ابتدائية كالثانية فيكون مِنْ بَيْنِ
بدل اشتمال مما تقدم خالِصاً مصفى عما يصحبه من الأجزاء
الكثيفة بتضييق مخرجه أو صافيا لا يستصحبه لون الدم ولا رائحة
الفرث سائِغاً لِلشَّارِبِينَ سهل المرور في حلقهم لدهنيته.
أخرج ابن مردويه عن يحيى بن عبد الرحمن بن أبي لبيبة عن أبيه
عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ما شرب أحد لبنا
فشرق إن الله تعالى يقول لبنا خالصا سائغا للشاربين» .
وقرأت فرقة «سيّغا» بتشديد الياء. وقرأ عيسى بن عمر «سيغا»
مخففا من سيغ كهين المخفف من هين واستدل بالآية على طهارة لبن
المأكول وإباحة شربه، وقد احتج بعض من يرى على أن المني طاهر
على من جعله نجسا لجريه في مسلك البول بها أيضا وأنه ليس
بمستنكر أن يسلك مسلك البول وهو طاهر كما خرج اللبن من بين فرث
ودم طاهرا.
وفي التفسير الكبير قال أهل التحقيق: اعتبار حدوث اللبن كما
يدل على وجود الصانع المختار يدل على إمكان الحشر والنشر، وذلك
لأن هذا العشب الذي يأكله الحيوان إنما يتولد من الماء والأرض
فخالق العالم دبر تدبيرا انقلب به لبنا ثم دبر تدبيرا آخر حدث
من ذلك اللبن الدهن والجبن، وهذا يدل على أنه تعالى قادر على
أن يقلب هذه الأجسام من صفة إلى صفة ومن حالة إلى حالة فإذا
كان كذلك لم يمتنع أيضا أن يكون قادرا على أن يقلب أجزاء أبدان
الأموات إلى صفة الحياة والعقل كما كانت قبل ذلك فهذا الاعتبار
يدل من هذا الوجه على أن البعث والقيامة أمر ممكن غير ممتنع.
وَمِنْ ثَمَراتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنابِ متعلق بمحذوف تقديره
ونسقيكم من ثمرات النخيل والأعناب أي من عصيرهما، وحذف لدلالة
نُسْقِيكُمْ قبله عليه، وقوله تعالى: تَتَّخِذُونَ مِنْهُ
سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً بيان وكشف عن كنه الاسقاء أو-
بتتخذون- ومِنْهُ من تكرير الظرف للتأكيد كما في قولك زيد في
الدار فيها أو خبر لمحذوف صفته تَتَّخِذُونَ أي ومن ثمرات
النخيل والأعناب ثمر تتخذون منه وضمير مِنْهُ عائد إلى على
المضاف المقدر أو على الثمرات المؤولة بالثمر لأنه جمع معرف
أريد به الجنس، وفائدة الصيغة الإشارة إلى تعداد الأنواع أو
على ثمر المقدر، و «السكر» الخمر قال الأخطل:
__________
(1) أي أن صح اه منه.
(7/417)
بئس الصحاة وبئس الشرب شربهم ... إذا جرى
فيهم المزاء (1) والسكر
وهو في الأصل مصدر سكر سكرا وسكرا نحو رشد رشدا ورشدا. واستشهد
له بقوله:
وجاؤونا بهم سكر علينا ... فأجلى اليوم والسكران صاحي
وفسروا الرزق الحسن بالخل والرب والتمر والزبيب وغير ذلك،
وإليه ذهب صاحب الكشاف وقد ذكر في توجيه إعرابها ما ذكرناه،
وقدم الوجه الأول من أوجهه الثلاثة وهو ظاهر في ترجيحه وصرح به
الطيبي وبينه بما بينه، وأخر الثالث وهو ظاهر في أنه دون
أخويه. وفي الكشف بعد نقل كلامه في الوجه الأول فيه إضمار
العصير وأنه لا يصلح عطفا في الظاهر على السابق لأنه لا يصلح
بيانا للعبرة في الأنعام، وفيه أن تَتَّخِذُونَ لا يصلح كشفا
عن كنه الإسقاء كيف وقد فسر الرزق الحسن بالتمر والزبيب أيضا
وأي مدخل للعصير وأين هذا البيان من البيان بقوله تعالى:
نُسْقِيكُمْ ليجعل مدركا لترجيحه فهذا وجه مرجوح مؤول بأنه عطف
على مجموع السابق، وأوثر الفعلية لمكان قربه من نُسْقِيكُمْ
وقوله تعالى تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً تم البيان عنده ثم
أتي بفائدة زائدة، وأظهر الأوجه ما ذكر آخرا أي ومن ثمرات
النخيل والأعناب ثمر تتخدون ليكون عطفا للاسمية على الاسمية
أعني قوله تعالى: وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً
ولما لم يكن العبرة فيه كالأول اكتفي بكونه عطفا على ما هو
عبرة ولم يصرح، وأفيد بالتبعيض أن من ثمراتها ما يؤكل قبل
الإدراك وما يتلف ويأكل الوحوش وغير ذلك اه، وما ذكره في
التأويل من بيان البيان عند سَكَراً محوج إلى جعل رِزْقاً
معمولا لعامل آخر ولا يخفى بعده، والظاهر أنه لا ينكره، وما
ذكره من الوجه الأظهر ذكره الحوفي كصاحبه، ولا يرد عليه أن فيه
حذف الموصوف بالجملة لأن ذلك إذا كان الموصوف بعضا من مجرور من
أو في المقدم عليه مطرد نحو منا أقام ومنا ظعن أراد فريق، وقد
يحذف موصوفا بالجملة في غير ذلك كقول الراجز:
ما لك عندي غير سهم وحجر ... وغير كبداء شديد الوتر
جادت بكفّي كان من أرمى البشر أراد رجل نعم قال الطبري:
التقدير ومن ثمرات النخيل والأعناب ما تتخذون منه، وتعقبه أبو
حيان بأن ذلك لا يجوز على مذهب البصريين وكأنه اعتبر ما موصولة
وحذف الموصول مع إبقاء الصلة لا يجوز عنهم، ولعلهم يفرقون بين
الموصول والموصوف فيما ذكر، وقال العلامة ابن كمال في بعض
رسائله: لا وجع لما اختاره صاحب الكشاف يغني به تعليق الجار-
بنسقيكم- محذوفا وتقدير العصير مضافا لأنه حينئذ لا يتناول
المأكول وهو أعظم صنفي ثمراتهما يعني النخيل والأعناب والمقام
مقام الامتنان ومقتضاه استيعاب الصنفين ثم قال: والعجب منه
وممن اتبعه كالبيضاوي كيف اتفقوا على تفسير الرزق الحسن بما
ينتظم التمر والزبيب ومع ذلك يقولون: إن المعنى ومن عصيرهما
تتخذون سكرا ورزقا حسنا فإنه لا انتظام بين هذين الكلامين
فالوجه أن يتعلق الجار- بتتخذون- ويكون منه تكرير الظرف
للتأكيد اه وهو الذي استظهره أبو حيان وقد سبقت الإشارة إلى
الاعتراض بما تعجب منه مع الجواب بما فيه بعد، ونقل عنه أنه
جعله متعلقا بما في الاسقاء من معنى الإطعام أي نطعمكم من
ثمرات النخيل والأعناب لينتظم المأكول منهما والمشروب المتخذ
من عصيرهما. وفيه من البعد ما فيه.
__________
(1) هو نوع من الأشربة اه عنه.
(7/418)
وأنت تعلم أن تقدير العصير على الوجه الأول
عند من يراه لازم، وتقديره على الوجه الثاني جائز عند ذاك أيضا
ولا يجوز عند المعترض. واختار أبو البقاء تعليقه بخلق لكم أو
جعل وليس بذاك، وقيل: إنه معطوف على الأنعام على معنى ومن
ثمرات النخيل والأعناب عبرة وَتَتَّخِذُونَ بيان لها وهو غير
الوجه الذي استظهره صاحب الكشف وكان الظاهر- في- بدل من وضمير
مِنْهُ لا يتعين فيه ما سمعت كما لا يخفى عليك بعد أن أحطت
خبرا بما قيل في ضمير بُطُونِهِ وتفسير «السكر» بالخمر هو
المروي عن ابن مسعود. وابن عمر. وأبي رزين. والحسن. ومجاهد.
والشعبي. والنخعي. وابن أبي ليلى. وأبي ثور. والكلبي. وابن
جبير مع خلق آخرين، والآية نزلت في مكة والخمر إذ ذاك كانت
حلالا يشربها البر والفاجر وتحريمها إنما كان بالمدينة اتفاقا
واختلفوا في أنه قبل أحد أو بعدها والآية المحرمة لها يا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ
وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ
فَاجْتَنِبُوهُ [المائدة:
90] على ما ذهب إليه جمع فما هنا منسوخ بها، وروى ذلك غير واحد
ممن تقدم كالنخعي وأبي ثور وابن جبير، وقيل: نزلت قبل ولا نسخ
بناء على ما روي عن ابن عباس أن «السكر» هو الخل بلغة الحبشة
أو على ما نقل عن أبي عبيدة أن «السكر» المطعوم المتفكه به
كالنقل وأنشده:
جعلت اعراض الكرام سكرا وتعقب بأن كون السكر في ذلك بمعنى
الخمر أشبه منه بالطعام، والمعنى أنه لشغفه بالغيبة وتمزيق
الأعراض جرى ذلك عنده مجرى الخمر المسكرة، وكأنه لهذا قال
الزجاج: إن قول أبي عبيدة لا يصح، وفيه أن المعروف في الغيبة
جعلها نقلا ولذا قيل: الغيبة فاكهة القراء، وإلى عدم النسخ ذهب
الحنفيون وقالوا: المراد بالسكر ما لا يسكر من الأنبذة،
واستدلوا عليه بأن الله تعالى امتنّ على عباده بما خلق لهم من
ذلك ولا يقع الامتنان إلا بمحلل فيكون ذلك دليلا على جواز شرب
ما دون المسكر من النبيذ فإذا انتهى إلى السكر لم يجز وعضدوا
هذا من السنة بما
روي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «حرم الله تعالى الخمر
بعينها القليل منها والكثير والسكر (1) من كل شراب» أخرجه
الدارقطني،
وإلى حل شرب النبيذ ما لم يصل إلى الإسكار ذهب إبراهيم النخعي:
وأبو جعفر الطحاوي وكان إمام أهل زمانه. وسفيان الثوري وهو من
تعلم وكان عليه الرحمة يشربه كما ذكر ذلك القرطبي في تفسيره.
والبيضاوي بعد أن فسر «السكر» بالخمر تردد في أمر نزولها فقال:
إلا أن الآية إن كانت سابقة على تحريم الخمر فدالة على
كراهيتها وإلا فجامعة بين العتاب والمنة، ووجه دلالتها على
الكراهية بأن الخمر وقعت في مقابلة الحسن وهو مقتضى لقبحها
والقبيح لا يخلو عن الكراهة وإن خلا عن الحرمة، واعترض عليه
بأن تردده هنا في سبقها على تحريم الخمر ينافي ما في سورة
البقرة حيث ساق الكلام على القطع أنه جزم في أول هذه السورة
بأنها مكية إلا ثلاث آيات من آخرها.
وفي الكشاف بعد أن فسر «السكر» أيضا بما ذكر قال: وفيه وجهان:
أحدهما أن تكون منسوخة، والثاني أن يجمع بين العتاب والمنة،
ونقل صاحب الكشف أن القول بكونها منسوخة الأقاويل، ثم قال: وفي
الآية دليل على قبح تناولها تعريضا من تقييد المقابل بالحسن،
وهذا وجه من ذهب إلى أنه جمع بين العتاب والمنة، وعلى الأول
يكون رمزا إلى أن السكر وإن كان مباحا فهو مما يحسن اجتنابه
اه. واستدل ابن كمال على نزولها قبل التحريم أن المقام لا
يحتمل العتاب فإن مساق الكلام على ما دل عليه سياقه ولحاقه في
تعداد النعم العظام، وذكر أن كلام الزمخشري ومن تبعه ناشئ عن
الغفلة عن هذا، ولعل عدم وصف «السكر» بما وصف به ما بعده لعلم
الله تعالى أنه سيكون رجسا يحكم
__________
(1) بضم السين اه منه.
(7/419)
الشرع بتحريمه. وجوز الزمخشري أن يجعل
السكر رزقا حسنا كأنه قيل: تتخذون منه ما هو مسكر ورزق حسن أي
على أن العطف من عطف الصفات. وأنت تعلم أن العطف ظاهره
المغايرة.
هذا ولما كان اللبن نعمة عظيمة لا دخل لفعل الخلق فيه إضافة
سبحانه لنفسه بقوله تعالى: نُسْقِيكُمْ بخلاف اتخاذ السكر وقد
صرح بذلك في البحر فتأمل إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً باهرة
لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ يستعملون عقولهم بالنظر والتأمل بالآيات
فالفعل منزل منزلة اللازم، قال أبو حيان: ولما كان مفتتح
الكلام وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً ناسب الختم
بقوله سبحانه:- يعقلون- لأنه لا يعتبر إلا ذوو العقول. وأنا
أقول: إذا كان في الآية إشارة إلى الحط من أمر السكر ففي الختم
المذكور تقوية لذلك وله في النفوس موقع وأي موقع حيث إن العقار
كما قيل للعقول عقال:
إذا دارها بالأكف السقاة ... لخطابها أمهروها العقولا
فافهم ذاك والله تعالى يتولى هداك وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى
النَّحْلِ ألهمها وألقى في روعها وعلمها بوجه لا يعلمه إلا
اللطيف الخبير وفسر بعضهم الإيحاء إليها بتسخيرها لما أريد
منها، ومنعوا أن يكون المراد حقيقة الإيحاء لأنه إنما يكون
للعقلاء وليس النحل منها. نعم يصدر منها أفعال ويوجد فيها
أحوال يتخيل بها أنها ذوات عقول وصاحبة فضل بمقصر عنه الفحول،
فتراها يكون بينها واحد كالرئيس هو أعظمها جثة يكون نافذ الحكم
على سائرها والكل يخدمونه ويحملون عنه وسمي اليعسوب والأمير،
وذكروا أنها إذا نفرت عن وكرها ذهبت بجمعيتها إلى موضع آخر
فإذا أرادوا عودها إلى وكرها ضربوا لها الطبول وآلات الموسيقى
ورودها بواسطة تلك الألحان إلى وكرها، وهي تبني البيوت المسدسة
من أضلاع متساوية والعقلاء لا يمكنهم ذلك إلا بآلات مثل
المسطرة والفرجار وتختارها على غيرها من البيوت المشكلة بأشكال
أخر كالمثلثات والمربعات والمخمسات وغيرها، وفي ذلك سر لطيف
فإنهم قالوا: ثبت في الهندسة أنها لو كانت مشكلة بأشكال أخر
يبقى فيما بينها بالضرورة فرج خالية ضائعة ولها أحوال كثيرة
عجيبة غير ذلك قد شاهدها كثير من الناس وسبحان من أعطى كل شيء
خلقه ثم هدى. والصوفية على ما ذكره الشعراني في غير موضع لا
يمنعون إرادة الحقيقة، وقد أثبتوا في سائر الحيوانات رسلا
وأنبياء والشرع يأبى ذلك. وذهب بعض حكماء الإشراق إلى ثبوت
النفس الناطقة لجميع الحيوانات وأكاد أسلم لهم ذلك ولم نسمع عن
أحد غير الصوفية القول بما سمعت عنهم، والنحل جنس واحده نحلة
ويؤنث في لغة الحجاز ولذلك قال سبحانه: أَنِ اتَّخِذِي وقرأ
ابن وثاب «النحل» بفتحتين وهو يحتمل أن يكون لغة وأن يكون
اتباعا لحركة النون، وأَنِ إما مصدرية بتقدير باء الملابسة أي
بأن اتخذي أو تفسيرية وما بعدها مفسر للإيحاء لأن فيه باعتبار
معناه المشهور معنى القول دون حروفه، وذلك كاف في جعلها
تفسيرية: وقد غفل عن ذلك أبو حيان أو لم يعتبره فقال: إن ذلك
نظرا لأن الوحي هنا بمعنى الإلهام إجماعا وليس في الإلهام معنى
القول مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً أو كارا، وأصل البيت مأوى
الإنسان واستعمل هنا في الوكر الذي تبنيه النحل لتعسل فيه
تشبيها له بما يبنيه الإنسان لما فيه من حسن الصنعة القسمة كما
سمعت:
وقرئ «بيوتا» بكسر الباء لمناسبة الياء وإلا فجمع فعل على فعول
بالضم.
وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ أي يعرشه الناس أي
يرفعه من الكروم كما روي عن ابن زيد وغيره أو السقوف كما نقل
عن الطبري أو أعم منهما كما قال البعض، ومِنَ في المواضع
الثلاثة للتبعيض بحسب الأفراد وبحسب الأجزاء فإن النحل لا يبني
في كل شجر وكل جبل وكل ما يعرش ولا في كل مكان من ذلك، وبعضهم
قال: إن مِنَ للتبعيض بحسب الأفراد فقط، والمعنى الآخر معلوم
من خارج لا من مدلول مِنَ إذ لا يجوز استعمالها فيهما ولمولانا
ابن كمال تأليف مفرد في المسألة فليراجع، وأيّا ما كان ففيه مع
ما يأتي قريبا إن شاء الله تعالى من
(7/420)
البديع صنعة الطباق، وتفسير البيوت بما
تبنيه هو الذي ذهب إليه غير واحد، وقال أبو حيان: الظاهر أنها
عبارة عن الكوى التي تكون في الجبال وفي متجوف الأشجار
والخلايا التي يصنعها ابن آدم للنحل والكوى التي تكون في
الحيطان، ولما كان النحل نوعين منه من مقره في الجبال والغياض
ولا يتعهده أحد ومنه ما يكون في بيوت الناس ويتعهد في الخلايا
ونحوها شمل الأمر بالاتخاذ البيوت النوعين.
ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ أي من جميعها، وهي جمع
ثمرة محركة حمل الشجرة، وأخذ بظاهر ذلك ابن عطية فقال: إنما
تأكل النوار من الأشجار، ويقال الثمرة للشجرة أيضا كما في
القاموس، قيل: وهو المناسب هنا إذ التخصيص بحمل الشجر خلاف
الواقع لعموم أكلها للأوراق والأزهار والثمار. وتعقب بأنه لا
يخفى أن إطلاق الثمرة على الشجرة مجاز (1) غير معروف وكونها
تأكل من غيرها غير معلوم وغير مناف للاقتصار على أكل ما ينبت
فيها والعموم في كل على ما يشير إليه كلام البعض عرفي، وجوز أن
يكون مخصوصا بالعادة أي كلي من كل ثمرة تشتهينها، وقيل:
للتكثير، قال الخفاجي: ولو أبقي على ظاهره أيضا جاز لأنه لا
يلزم من الأمر بالأكل من جميع الثمرات الأكل منها لأن الأمر
للتخلية والإباحة، وأيّا ما- فمن- للتبعيض.
وقال الإمام: رأيت في كتب الطب أنه تعالى دبر هذا العالم على
وجه يحدث في الهواء ظل لطيف في الليالي ويقع على أوراق الأشجار
فقد تكون تلك الأجزاء لطيفة صغيرة متفرقة على الأوراق والأزهار
وقد تكون كثيرة بحيث يجتمع منها أجزاء محسوسة وهذا مثل
الترنجبين فإنه ظل ينزل من الهواء ويجتمع على الأطراف في بعض
البلدان، وأما القسم الأول فهو الذي ألهم الله تعالى النحل حتى
تلتقطه من الأزهار وأوراق الأشجار بأفواهها وتغتذي به فإذا
شبعت التقطت بأفواهها مرة أخرى شيئا من تلك الأجزاء وذهبت به
إلى بيوتها ووضعته هناك كأنها تحاول أن تدخر لنفسها غذاءها
فالمجتمع من ذلك هو العسل، ومن الناس من يقول: إن النحل تأكل
من الأزهار الطيبة والأوراق العطرة أشياء ثم إنه تعالى يقلب
تلك الأجسام في داخل بدنها عسلا ثم تقيئه، والقول الأول أقرب
إلى العقل وأشد مناسبة للاستقراء، فإن طبيعة الترنجبين قريبة
من العسل في الطعم والشكل ولا شك أنه ظل يحدث في الهواء ويقع
على أطراف الأشجار والأزهار فكذا هاهنا، وأيضا فنحن نشاهد أن
النحل تتغذى بالعسل حتى إنا إذا أخرجنا العسل من بيوتها تركنا
لها بقية منه لغذائها، وحينئذ فكلمة من لابتداء الغاية اه.
وأنت تعلم أن ظاهر كُلِي يؤيد القول الثاني وهو أشد تأييدا له
من تأييد مشابهة الترنجبين للعسل في الطعم والشكل للقول الأول
لا سيما وطبيعة العسل والترنجبين مختلفة، فقد ذكر بعض أجلة
الأطباء أن العسل حار في الثالثة يابس في الثانية والترنجبين
حار في الأولى رطب في الثانية أو معتدل. نعم لتلك المشابهة
يطلق عليها اسم العسل فإن ترنجبين فارسي معناه عسل رطب لا طل
الندا كما زعم وإن قالوا: هو في الحقيقة طل يسقط على العاقول
بفارس ويجمع كالمن، ويجلب من التكرور شيء يسمى بلسانهم طنيط
أشبه الأشياء به في الصورة والفعل لكنه أغلظ، والأمر في مشاهدة
تغذيها بالعسل سهل فإنه ليس دائميا، وينقل عن بعض الطيور التي
تكمن شتاء التغذي بالرجيع. ويؤيد المشهور ما
روي عن الأمير علي كرم الله تعالى وجهه في تحقير الدنيا: أشرف
لباس ابن آدم فيه لعاب دودة وأشرف شرابه رجيع نحل،
وجاء عنه كرم الله تعالى وجهه أيضا أما العسل فونيم ذباب،
وحمله على التمثيل خلاف الظاهر وعلى ذلك نظمت الأشعار فقال
المعري:
والنحل يجني المر من زهر الربا ... فيعود شهدا في طريق رضابه
__________
(1) يبعد هذا ذكره في القاموس اه منه.
(7/421)
وقال الحريري:
تقول هذا مجاج النحل تمدحه ... وإن ترد ذمه قيء الزنابير (1)
وأخبرني من أثق به أنه شاهد كثيرا حملها لأوراق الأزهار بفمها
إلى بيوتها وهو مما يستأنس به للأكل، وسيأتي إن شاء الله تعالى
أيضا ما يؤيده، فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ أي طرقه سبحانه
راجعة إلى بيوتك بعد الأكل، فالمراد بالسبل مسالكها في العود،
ويحكى أنها ربما أجدب عليها ما حولها فانتجعت الأماكن البعيدة
للمرعى (2) ثم تعود إلى بيوتها لا تضل عنها، وفي إضافة السبل
إلى الرب المضاف إلى ضميرها إشارة إلى أنه سبحانه هو المهيء
لذلك والميسر له والقائم بمصالحها ومعايشها، وقيل: المراد من
السبل طرق الذهاب إلى مظان ما تأكل منه، وحينئذ فمعنى كُلِي
اقصدي الأكل، وقيل: السبل مجاز عن طرق العمل وأنواعها أي
فاسلكي الطرق التي ألهمك ربك في عمل العسل، وقيل: مجاز عن طرق
إحالة الغذاء عسلا، و «اسلكي» متعد من سلكت الخيط في الإبرة
سلكا لا لازم من سلك في الطريق سلوكا، ومعوله محذوف أي فاسلكي
ما أكلت في مسالكه التي يستحيل فيها بقدرته النور المر عسلا من
أجوافك.
وتعقب بأن السلك في تلك المسالك ليس فيه لها اختيار حتى تؤمر
به فلا بد أن يكون الأمر تكوينيا، ورد بأنه ليس بشيء لأن
الإدخال باختيارها فلا يضره كون الإحالة المترتبة عليه ليست
اختيارية وهو ظاهر فليس كما زعم ذُلُلًا أي مذللة ذللها الله
تعالى وسهلها لك فهو جمع ذلول حال من السبل وروي هذا عن مجاهد.
وجعل ابن عبد السلام وصف السبل بالذلل دليلا على أن المراد
بالسبل مسالك الغذاء لا طرق الذهاب أو الإياب قال: لأن النحل
تذهب وتؤوب في الهواء وهو ليس طرقا ذللا لأن الدلول هو الذي
يذلل بكثرة الوطء والهواء ليس كذلك وفيه نظر.
وقال قتادة: أي مطيعة منقادة فهو حال من الضمير في فَاسْلُكِي
يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِها استئناف عدل به عن خطاب النحل إلى
الكلام مع الناس لبيان ما يظهر منها من تعاجيب صنع الله تعالى
التي هي موضع عبرتهم بعد ما أمرت بما أمرت شَرابٌ يعني العسل،
وسمي بذلك لأنه مما يشرب حتى قيل: إنه لا يقال: أكلت عسلا
وإنما يقال: شربت عسلا، وكأنه سبحانه إنما لم يعبر بالإخراج
مسندا إليه تعالى اكتفاء بإسناد الإيحاء بالمبادي إليه جل شأنه
وفيه إيذان بعظيم قدرته عز وجل بحيث إن ما يشعر بإرادة الشيء
كاف في حصوله. ومِنْ لابتداء الغاية، وذكر سبحانه مبدأ الغاية
الأولى وهي البطون ولم يذكر سبحانه مبدأ الغاية الأخيرة
والجمهور على أنه يخرج من أفواهها، وزعم بعضهم أنه أبلغ في
القدرة، وبيت الحريري على ذلك وكذا قول الحسن: لباب البر بلعاب
النحل بخالص السمن ما عابه مسلم، وقيل: من أدبارها وهو ظاهر ما
روى عن يعسوب المؤمنين كرم الله تعالى وجهه.
وقال آخرون: لا ندري إلا ما ذكره الله تعالى. وحكي أن سليمان
عليه السلام. والإسكندر. وأرسطو صنعوا لها بيوتا من زجاج
لينظروا إلى كيفية صنيعها وهل يخرج العسل من فيها أم من غيره
فلم تضع من العسل شيئا حتى لطخت باطن الزجاج بالطين بحيث يمنع
المشاهدة، وقال بعضهم: المراد بالبطون الأفواه، وسمي الفم بطنا
لأنه في حكمه ولأنه مما يبطن ولا يظهر، وهذا تأويل من ذهب إلى
أنها تلتقط الذرات الصغيرة من الطل وتدخرها في بيوتها وهو
العسل. وأنت تعلم أن الظاهر من البطن الجارحة المعروفة فالآية
تؤيد القول المشهور في تكون العسل. وفي الكشف
__________
(1، 2) في نسخة وإن ذممت تقل قيء الزنابير اه منه. [.....]
(7/422)
أن في قوله تعالى: ثُمَّ كُلِي إشارة إلى
أن لمعدة النحل في ذلك تأثيرا وهو المختار عند المحققين من
الحكماء، ومن جعل العسل نباتيا محضا وفسر البطون بأفواه النحل
فليت شعري ماذا يصنع بقوله سبحانه: ثُمَّ كُلِي وأجيب بأنّه
يفسر الأكل بالالتقاط وهو كما ترى أن دفع الفساد لا يدفع
الاستبعاد، ومن الناس من زعم أنها تجتني زهرا وطلا فالمجتنى من
الزهر نفسه يكون عسلا والمجتنى من الطل يكون موما (1) والعقل
يجوز العكس ولعله أقرب من ذلك مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ بالبياض
والصفرة والحمرة والسواد إما لمحض إرادة الصانع الحكيم جل
جلاله وإما لاختلاف المرعى أو لاختلاف الفصل أو لاختلاف سن
النحل، فالأبيض لفتيها والأصفر لكهلها والأحمر لمسنها والأسود
للطاعن في ذلك جدا.
وتعقب بأنه مما لا دليل عليه، وقد سألت جمعا ممن أثق بهم قد
اختبروا أحوالها فذكروا أنهم قد استقرؤوا وسبروا فرأوا أقوى
الأسباب الظاهرة لاختلاف الألوان اختلاف السن بل قال بعضهم: ما
علمنا لذلك سببا إلا هذا بالاستقراء، وحينئذ يكون ما ذكر مؤيدا
للقول المشهور في تكون العسل كما لا يخفى على من له أدنى ذوق.
فِيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ ما بنفسه كما في الأمراض البلغمية أو
مع غيره كما في سائر الأمراض إذ قلما يكون معجون لا يكون فيه
عسل فله دخل في أكثر ما به الشفاء من المعاجين والتراكيب، وقيل
عليه: إن دخوله في ذلك لا يقتضي أن يكون له دخل في الشفاء بل
عدم الضرر إذ قيل: إن إدخاله في التراكيب لحفظها ولذا ناب عنه
في ذلك السكر، والذي رأيناه في كثير من كتب الطب أنه يحفظ قوى
الأدوية طويلا ويبلغها منافعها، ولا يخفى على المنصف أن ما
يحفظ القوى ويبلغ منافع الدواء يصدق عليه أن له دخلا في
الشفاء، ولم يشتهر أن السكر ينوب منابه في ذلك.
وفي البحر أن العسل موجود كثيرا في أكثر البلاد وأما السكر
فمختص به بعض البلاد وهو محدث مصنوع للبشر، ولم يكن فيما تقدم
من الأزمان يجعل في الأدوية والأشربة إلا العسل اه، وفي شرح
الشمائل أنه عليه الصلاة والسلام لم يأكل السكر، وذكر غير واحد
أنه ليس المراد بالناس هنا العموم لأن كثيرا من الأمراض لا
يدخل في دوائها العسل كأمراض الصفراء فإنه مضر للصفراوي، ولو
يسلم أن السكنجبين الذي الذي هو خل وعسل كما ينبئ عنه أصل
معناه نافع له، والنافع نوع آخر من السكنجبين فإنه ثقل إلى ما
ركب من حامض وحلو، وله أنواع كثيرة ألفت في جمعها الرسائل حتى
قالوا بحرمة تناوله عليه وإنما المراد بالناس الذين ينجع العسل
في أمراضهم، والتنوين في شِفاءٌ إما للتعظيم أي شفاء أي شفاء،
وإما للتبعيض أي فيه بعض الشفاء فلا يقتضي أن كل شفاء به ولا
أن كل أحد يستشفي به.
ولا يرد أن اللبن أيضا كذلك بل قلما يوجد شيء من العقاقير إلا
وفيه شفاء للناس بهذا المعنى لما قيل: إن التنصيص على هذا
الحكم فيه لإفادة ما يكاد يستبعد من اشتمال ما يخرج على اختلاف
ألوانه من هذه الدود التي هي أشبه شيء بذوات السموم ولعلها ذات
سم أيضا فإنها تلسع وتؤلم وقد يرم الجلد من لسعها وهو ظاهر في
أنها ذات سم على شِفاءٌ لِلنَّاسِ ويفهم من ظاهر بعض الآثار أن
الكلام على عمومه. فقد أخرج حميد ابن زنجويه عن نافع ان ابن
عمر رضي الله تعالى عنهما كان لا يشكو قرحة ولا شيئا إلا جعل
عليه عسلا حتى الدمل إذا كان به طلاه عسلا فقلنا له: تداوي
الدمل بالعسل فقال: أليس الله تعالى يقول فِيهِ شِفاءٌ
لِلنَّاسِ؟.
وأنت تعلم أنه لا بأس بمداواة الدمل بالعسل فقد ذكر الأطباء
أنه ينقي الجروح ويدمل ويأكل اللحم الزائد
__________
(1) قوله يكون موما هذه لفظة تركية ومعناها بالعربية الشمع اه.
(7/423)
والحق أنه لا مساغ للعموم إذ لا شك في وجود
مرض لا ينفع فيه العسل، والآثار المشعرة بالعموم الله تعالى
أعلم بصحتها. وأما ما
أخرجه أحمد. والبخاري. ومسلم. وابن مردويه «عن أبي سعيد الخدري
أن رجلا أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله
إن أخي استطلق بطنه فقال: اسقه عسلا فسقاه عسلا ثم جاء فقال:
سقيته عسلا فما زاده إلا استطلاقا قال: اذهب فاسقه عسلا فسقاه
عسلا ثم جاء فقال: ما زاده إلا استطلاقا فقال رسول الله صلى
الله عليه وسلم: صدق الله تعالى وكذب بطن أخيك اذهب فاسقه عسلا
فذهب فسقاه فبرأ»
فليس صريحا في العموم لجواز أن يكون عليه الصلاة والسلام قد
علمه الله سبحانه أن داء هذا المستطلق مما يشفى بالعسل فإن بعض
الاستطلاق قد يشفى بالعسل، ففي طبقات الأطباء أنه إنما قال صلى
الله عليه وسلم ذلك لأنه علم أن في معدة المريض رطوبات لزجة
غليظة قد أزلقت معدته فكلما مر به شيء من الأدوية القابضة لم
يؤثر فيه والرطوبات باقية على حالها والأطعمة تزلق عنها فيبقى
الإسهال فلما تناول العسل جلا تلك الرطوبات وأحدرها فكثر
الإسهال أولا بخروجها وتوالي ذلك حتى نفذت الرطوبة بأسرها
فانقطع إسهاله وبرئ،
فقوله صلى الله عليه وسلم: «صدق الله تعالى»
يعني بالعلم الذي عرف نبيه عليه الصلاة والسلام به،
وقوله «كذب بطن أخيك»
يعني ما كان يظهر من بطنه من الإسهال وكثرته بطريق العرض وليس
هو بإسهال ومرض حقيقي فكان بطنه كاذبا اه. وقال بعضهم: المراد-
بصدق الله تعالى- صدق سبحانه في أن العسل فيه الشفاء،
وقوله عليه الصلاة والسلام: «كذب بطن أخيك»
من المشاكلة الضدية كقولهم: من طالت لحيته تكوسج عقله، وهو على
الأول استعارة مبنية على تشبيه البطن بالكاذب في كون ما ظهر من
إسهالها ليس بأمر حقيقي وإنما هو لما عرض لها، وعلى ذلك قول
الأطباء: زحير كاذب وزحير صادق. وأنكر بعضهم هذا النوع من
المشاكلة وقال: إنها ليست معروفة وإنه إنما عبر به لأن بطنه
كأنه كذب قوله الله تعالى بلسان حاله وهو ناشئ من قلة الاطلاع.
وقد وقع نظير هذه القصة في زمن المأمون، وذلك أن ثمامة العبسي
وكان من خواصه مرض بالإسهال فكان يقوم في اليوم والليلة مائة
مرة وعجز الأطباء عن علاجه فعالجه يزيد بن يوحنا طبيب المأمون
بالمسهل أيضا فبرئ وكان قد ظن الأطباء أنه يموت بسبب ذلك ولا
يبقى لغده، وذكر الطبيب حين سأله المأمون عن وجه الحكمة فيما
فعل فذكر أنه كان في جوف الرجل كيموس فاسد فلا يدخله غذاء ولا
دواء إلا أفسده فعلمت أنه لا علاج له إلا قلع ذلك بالإسهال،
ومنه يعلم أن ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم كان من معجزاته
الدالة على علمه بدقائق الطب من غير تعليم، وكذا يعلم أن ما
طعن به بعض الملحدين ومن في قلبه مرض من أنه كيف يداوي الإسهال
بالعسل وهو مسهل باتفاق الأطباء ناشئ عن الجهل بالدقائق وعدم
الوقوف على الحقائق. ونقل عن مجاهد. والضحاك. والفراء، وابن
كيسان وهو رواية عن ابن عباس. والحسن أن ضمير فِيهِ للقرآن
والمراد أن في القرآن شفاء لأمراض الجهل والشرك وهدى ورحمة،
واستحسن ذلك ابن النحاس.
وقال القاضي أبو بكر العربي: أرى هذا القول لا يصح نقله عن
هؤلاء ولو صح نقلا لم يصح عقلا فإن سياق الكلام كله للعسل ليس
للقرآن فيه ذكر، ورجوع الضمير للكتاب في قوله سبحانه: وَما
أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ
الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ مما لا يكاد يقوله أمثال هؤلاء
الكرام والعلماء الأعلام. نعم كون القرآن شفاء مما لا كلام
فيه، وقد أخرج الطبراني. وغيره عن ابن مسعود «عليكم بالشفاءين
العسل والقرآن» هذا.
وقدم سبحانه الأخبار عن إنزال الماء لما أن الماء أتم نفعا
وأعظم شأنا وهو أصل أصيل لتكون اللبن وما بعده، ثم ذكر اللبن
لأنه يحتاج إليه أكثر من غيره مما ذكر بعده، وقد يستغنى بشربه
عن شرب الماء كما شاهدنا ذلك من بعض متزهدي زماننا فقد ترك شرب
الماء عدة من السنين مكتفيا بشرب اللبن، وسمعنا نحو ذلك عن بعض
رؤساء الأعراب، وهو الدليل على الفطرة ولذلك اختاره صلى الله
عليه وسلم حين أسري به وعرض عليه مع الخمر والعسل، ثم الخمر
لأنها أقرب إلى
(7/424)
الماء من العسل فإنها ماء العنب ولم يعهد
جعلها إداما كالعسل فإنه كثيرا ما يؤدم به الخبز ويؤكل، وبينها
وبين اللبن نوع مشابهة من حيث إن كلا منهما يخرج من بين أجزاء
كثيفة وما أشبه ثقله بالفرث، وإذا لوحظ السوغ في اللبن وعدمه
في الخمر بناء على ما يقولون: إنها ليست سهلة المرور في الحلق
ولذا يقطب شاربها عند الشرب وقد يغص بها كان بينهما نوع من
التضاد، ويحسن إيقاع الضد بعد الضد كما يحسن إيقاع المثل بعد
المثل، وإذا لوحظ مآل أمرهما شرعا رأيت أن الخمر لم يسغ شربها
بعد نزول الآية فيه وشرب اللبن لم يزل سائغا وبذلك يقوى
التضاد، ويقويه أيضا أن اللبن يخرج من بطن حيوان ولا دخل لعمل
البشر فيه والخمر ليست كذلك، وأما ذكر الرزق الحسن بعد الخمر
وتقديمه على العسل فالوجه فيه ظاهر جدا، ولعل ما اعتبرناه في
وجه تقديم الخمر على العسل وذكره بعد اللبن أقوى مما يصح
اعتباره في العسل وجها لتقديمه على الخمر وذكره بعد اللبن، فلا
يرد أن في كل جهة تقديما فاعتبارها في أحدهما دون الآخر ترجيح
بلا مرجح، وقد جاء ذكر الماء واللبن والخمر والعسل في وصف
الجنة على هذا الترتيب قال تعالى: فِيها أَنْهارٌ مِنْ ماءٍ
غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ
طَعْمُهُ وَأَنْهارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ
وَأَنْهارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى [محمد: 15] فتأمل فلمسلك
الذهن اتساع والله تعالى أعلم بأسرار كتابه.
إِنَّ فِي ذلِكَ المذكور من آثار قدرة الله تعالى لَآيَةً
عظيمة لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ فإن من تفكر في اختصاص النحل
بتلك العلوم الدقيقة والأفعال العجيبة التي مرت الإشارة إليها
وخروج هذا الشراب الحلو المختلف الألوان وتضمنه الشفاء جزم
قطعا أن لها ربا حكيما قادرا ألهمها ما ألهم وأودع فيها ما
أودع، ولما كان شأنها في ذلك عجيبا يحتاج إلى مزيد تأمل ختم
سبحانه الآية بالتفكر. ومن بدع تأويلات الرافضة على ما في
الكشاف أن المراد بالنحل علي كرم الله تعالى وجهه وقومه. وعن
بعضهم أنه قال عند المهدي: إنما النحل بنو هاشم يخرج من بطونهم
العلم فقال له رجل: جعل الله تعالى طعامك وشرابك مما يخرج من
بطونهم فضحك المهدي وحدث به المنصور فاتخذوه أضحوكة من
أضاحيكهما، وستسمع إن شاء الله تعالى ما يقوله الصوفية قدس
الله تعالى أسرارهم في باب الإشارة، ثم إنه سبحانه لما ذكر من
عجائب أحوال ما ذكر من الماء والنبات والأنعام والنحل أشار إلى
بعض عجائب أحوال البشر من أول عمره إلى آخره وتطوراته بين ذلك
فقال عز قائلا: وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ
حسبما تقتضيه مشيئته تعالى المبنية على الحكم البالغة بآجال
مختلفة، والقرينة على إرادة ذلك قوله سبحانه: وَمِنْكُمْ مَنْ
يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ ولذا قيل: إنه معطوف على مقدر
أي فمنكم من تعجل وفاته ومنكم إلخ، وأَرْذَلِ الْعُمُرِ أخسه
وأحقره وهو وقت الهرم الذي تنقص فيه القوى وتفسد الحواس ويكون
حال الشخص فيه كحالة وقت الطفولية من ضعف العقل والقوة. ومن
هنا تصور الرد فهذا كقوله تعالى: وَمَنْ نُعَمِّرْهُ
نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ [يس: 68] ففيه مجاز،
وأخرج ابن جرير عن علي كرم الله تعالى وجهه أن «أرذل العمر»
خمس وسبعون سنة
وعن قتادة أنه تسعون، وقيل:
خمس وتسعون واختار جمع تفسيره بما سبق وهو يختلف باختلاف
الأمزجة فرب معمر لم تنتقص قواه ومنتقص القوى لم يعمر، ولعل
التقييد بسن مخصوص مبني على الأغلب عند من قيد.
والخطاب إن كان للموجودين وقت النزول فالتعبير بالماضي
والمستقبل فيه ظاهر، وإن كان عاما فالمضي بالنسبة إلى وقت
وجودهم والاستقبال بالنسبة إلى الخلق، وعلى التقدير الظاهر أن
مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ يعم المؤمن مطلقا
والكافر، وقيل: إنه مخصوص بالكافر والمسلم لا يرد إلى أرذل
العمر لقوله تعالى: ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ
إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ [التين: 5،
6] وأخرج ابن المنذر. وغيره عن عكرمة أنه قال: من قرأ القرآن
لم يرد إلى أرذل العمر، والمشاهدة تكذب كلا القولين فكم رأينا
مسلما قارئ القرآن قد رد إلى ذلك، والاستدلال
(7/425)
بالآية على خلافه فيه نظر،
وكان من دعائه صلى الله عليه وسلم كما أخرجه البخاري. وابن
مردويه عن أنس «أعوذ بك من البخل والكسل وأرذل العمر وعذاب
القبر وفتنة الدجال وفتنة المحيا والممات» .
لِكَيْ لا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئاً اللام للصيرورة
والعاقبة وهي في الأصل للتعليل وكي مصدرية والفعل منصوب بها
والمنسبك مجرور باللام والجار والمجرور متعلق- بيرد.، وزعم
الحوفي أن اللام لام كي دخلت على كي للتوكيد وليس بشيء، والعلم
بمعنى المعرفة، والكلام كناية عن غاية النسيان أي ليصير نساء
بحيث إذا كسب علما في شيء لم ينشب أن ينساه ويزل عنه علمه من
ساعته يقول لك: من هذا؟ فتقول: فلان فما يلبث لحظة إلا سألك
عنه، وقيل: المراد لئلا يعلم زيادة علم على علمه، وقيل: لئلا
يعقل من بعد عقله الأول شيئا فالعلم بمعنى العقل لا بمعناه
الحقيقي كما في سابقه، وفيه دلالة على وقوفه وأنه لا يقدر على
علم زائد، والوجه المعتمد الأول، ونصب- شيئا- على المصدرية أو
المفعولية، وجوز فيه التنازع بين يعلم وعلم، وكون مفعول- علم-
محذوفا لقصد العموم أي لا يعلم شيئا ما بعد علم أشياء كثيرة
إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بكل شيء ومن ذلك وجه الحكمة في الخلق
والتوفي والرد إلى أرذل العمر قَدِيرٌ على كل شيء ومنه ما
يشاؤه سبحانه من ذلك، وقيل: عليم بمقادير أعماركم قدير على كل
شيء يميت الشاب النشيط ويبقي الهرم الفاني، وفيه تنبيه على أن
تفاوت الآجال ليس إلا بتقدير قادر حكيم رتب الأبنية وعدل
الأمزجة على قدر معلوم ولو كان ذلك مقتضى القطائع لما بلغ هذا
المبلغ، وقيل: إنه تعالى لما ذكر ما يعرض في الهرم من ضعف
القوى والقدرة وانتفاء العلم ذكر أنه جل شأنه مستمر على العلم
الكامل والقدرة الكاملة لا يتغيران بمرور الأزمان كما يتغير
علم البشر وقدرتهم، ويفيد الاستمرار الجملة الاسمية، والكمال
صيغة فعيل، وقدم صفة العلم لتجاوز انتفاء العلم عن المخاطبين
مع أن تعلق صفة العلم بالشيء أول لتعلقه صفة القدرة به، ولا
يخفى عليك ما هو الأولى من الثلاثة فدبر.
وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ أي
جعلكم متفاوتين فيه فأعطاكم منه أفضل مما أعطى مماليككم فَمَا
الَّذِينَ فُضِّلُوا فيه على غيرهم وهم الملاك بِرَادِّي أي
بمعطي رِزْقِهِمْ الذي رزقهم إياه عَلى ما مَلَكَتْ
أَيْمانُهُمْ على مماليكهم الذين هم شركاؤهم في المخلوقية
والمرزوقية فَهُمْ أي الملاك الذين فضلوا والمماليك فِيهِ أي
في الرزق سَواءٌ لا تفاضل بينهم، والجملة اسمية واقعة موقع فعل
منصوب في جواب النفي أي لا يردونه عليهم فيستووا فيه ويشتركوا،
وجوز أن تكون في تأويل فعل مرفوع معطوف على قوله تعالى:
بِرَادِّي أي لا يردونه عليهم فلا يستوون، والمراد بذلك توبيخ
الذين يشركون به سبحانه بعض مخلوقاته وتقريعهم والتنبيه على
كمال قبح فعلهم كأنه قيل: إنكم لا ترضون بشركة عبيدكم لكم بشيء
لا يختص بكم بل يعمكم وإياهم من الرزق الذي هم أسوة لكم في
استحقاقه وهم أمثالكم في البشرية والمخلوقية لله عز سلطانه فما
بالكم تشركون به سبحانه وتعالى فيما لا يليق إلا به جل وعلا من
الألوهية والمعبودية الخاصة بذاته تعالى لذاته بعض مخلوقاته
الذي هو بمعزل عن درجة الاعتبار، وهو على ما صرح به جماعة على
شاكلة قوله تعالى: ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ
هَلْ لَكُمْ مِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ شُرَكاءَ فِي
ما رَزَقْناكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَواءٌ [الروم: 28] يعنون
بذلك أنه مثل ضرب لكمال قباحة ما فعلوه، وفي قوله
أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ قرينة- كما قيل- على ذلك،
وكذا في قوله تعالى:
فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثالَ على مقدر وهي داخلة في
الحقيقة على الفعل أعني يَجْحَدُونَ ولتضمن الجحود معنى الكفر
جيء بالباء في معموله المقدم عليه للاهتمام أو لإبهام الاختصاص
مبالغة أو لرعاية رؤوس الآي، والمراد بالنعمة قيل الرزق وقيل
ولعله الأولى: ما يشمله وغيره من النعم الفائضة عليهم منه
سبحانه أي يشركون به تعالى فيجحدون
(7/426)
نعمته تعالى حيث يفعلون ما يفعلون من
الإشراك فإن ذلك يقتضي أن يضيفوا ما أفيض عليهم من الله تعالى
من النعم إلى شركائهم ويجحدوا كونهم من عنده جل وعلا، وجوز كون
المراد بنعمة الله تعالى ما أنعم سبحانه به من إقامة الحجج
وإيضاح السبل وإرسال الرسل عليهم السلام ولا نعمة أجل من ذلك،
فمعنى جحودهم ذلك إنكاره وعدم الالتفات إليه، وصيغة الغيبة
لرعاية فَمَا الَّذِينَ وقرأ أبو بكر عن عاصم. وأبو عبد الرحمن
والأعرج بخلاف عنه «تجحدون» بالتاء على الخطاب رعاية لبعضكم،
هذا وجوز أن يكون معنى الآية أن الله تعالى فضل بعضا على بعض
في الرزق وأن المفضلين لا يردون من رزقهم على من دونهم شيئا
وإنما أنا رازقهم فالمالك والمملوك في أصل الرزق سواء وإن
تفاوتا كما وكيفا، والمراد النهي عن الإعجاب والمن اللذين هما
مقدمتا الكفران.
والعطف على مقدر أيضا أي أيعجبون ويمنون فيجحدون نعمة الله
تعالى عليهم، وقيل: التقدير ألا يفهمون فيجحدون واختار في
الكشاف أن المعنى أنه سبحانه جعلكم متفاوتين في الرزق فرزقكم
أفضل مما رزق مماليككم وهم بشر مثلكم وإخوانكم وكان ينبغي أن
تردوا فضل ما رزقتموه عليهم حتى تساووا في الملبس والمطعم كما
يحكى عن أبي ذر رضي الله تعالى عنه أنه سمع رسول الله يقول:
«إنما هم إخوانكم فاكسوهم مما تلبسون وأطعموهم مما تطعمون»
فما رؤي عبده بعد ذلك إلا ورداؤه رداؤه وإزاره إزاره من غير
تفاوت، وحاصله إن الله تعالى فضلكم على أمثالكم فكان عليكم أن
تردوا من ذلك الفضل عليهم شكرا لنعمته تعالى لتكونوا سواء في
ذلك الفضل ويبقى لكم فضل الإفضال والتفضل. فالآية حث على حسن
الملكة وأدمج أنهم وعبيدهم مربوبون بنعمته تعالى ذلك مع تقلبهم
فيها ليكون تمهيدا لكفرانهم نعمه سبحانه السوابغ إلى أن جعلوا
له عز وجل أندادا لا تملك لنفسها ضرا ولا نفعا فعبدوها عبادته
تعالى أو أشد وأسد، وفي ذلك من البعد ما فيه، والعطف فيه على
مقدر أيضا كألا يعرفون ذلك فيجحدون.
وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أي من جنسكم ونوعكم
وهو مجاز في ذلك، والأشهر من معاني النفس الذات ولا يستقيم هنا
كغيره فلذا ارتكب المجاز وهو إما في المفرد أو الجمع، واستدل
بذلك بعضهم على أنه لا يجوز للإنسان أن ينكح من الجن أَزْواجاً
لتأنسوا بها وتقيموا بذلك مصالحكم ويكون أولادكم أمثالكم.
وأخرج غير واحد عن قتادة أن هذا خلق آدم وحواء عليهما السلام
فإن حواء خلقت من نفسه عليه السلام، وتعقب بأنه لا يلائمه جمع
الأنفس والأزواج، وحمله على التغليب تكلف غير مناسب للمقام
وكذا كون المراد منهما بعض الأنفس وبعض الأزواج وَجَعَلَ
لَكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ أي منها فوضع الظاهر موضع الضمير
للإيذان بأن المراد جعل لكم منكم من زوجه لا من زوج غيره
بَنِينَ وبأن نتيجة الزواج هو التوالد وَحَفَدَةً جمع حافد
ككاتب وكتبة، وهو من قولهم: حفد يحفد حفدا وحفودا وحفدانا إذا
أسرع في الخدمة والطاعة، وفي الحديث «إليك نسعى ونحفد» وقال
جميل:
حفد الولائد حولهن وأسلمت ... بأكفهن أزمة الأجمال
وقد ورد الفعل لازما ومتعديا كقوله:
يحفدون الضيف في أبياتهم ... كرما ذلك منهم غير ذل
وجاء في لغة- كما قال أبو عبيدة- أحفد أحفادا، وقيل: الحفد
سرعة القطع، وقيل: مقاربة الخطو، والمراد بالحفدة على ما روي
عن الحسن. والأزهري وجاء في رواية عن ابن عباس واختاره ابن
العربي أولاد الأولاد، وكونهم من الأزواج حينئذ بالواسطة،
وقيل: البنات عبر عنهن بذلك إيذانا بوجه المنة فانهن في الغالب
يخدمن في البيوت أتم خدمة، وقيل: البنون والعطف لاختلاف
الوصفين البنوة والخدمة، وهو منزل منزلة تغاير الذات، وقد مر
نظيره فيكون
(7/427)
ذلك امتنانا بإعطاء الجامع لهذه الوصفين
الجليلين فكأنه قيل: وجعل لكم منهن أولادا هم بنون وهم حافدون
أي جامعون بين هذين الأمرين، ويقرب منه ما روي عن ابن عباس من
أن البنين صغار الأولاد والحفدة كبارهم، وكذا ما نقل عن مقاتل
من العكس، وكأن ابن عباس نظر إلى أن الكبار أقوى على الخدمة
(1) ومقاتل نظر إلى أن الصغار أقرب للانقياد لها وامتثال الأمر
بها واعتبر الحفد بمعنى مقاربة الخط، وقيل: أولاد المرأة من
الزوج الأول، وأخرجه ابن جرير.
وابن أبي حاتم عن ابن عباس.
وأخرج الطبراني والبيهقي في سننه والبخاري في تاريخه والحاكم
وصححه عن ابن مسعود أنهم الأختان وأريد بهم- على ما قيل- أزواج
البنات ويقال لهم أصهار، وأنشدوا:
فلو أن نفسي طاوعتني لأصبحت ... لها حفد مما يعد كثير
ولكنها نفس عليّ أبية ... عيوني لأصهار اللئام تدور
والنصب على هذا بفعل مقدر أي وجعل لكم حفدة لا بالعطف على
بَنِينَ لأن القيد إذا تقدم يعلق بالمتعاطفين وأزواج البنات
ليسوا من الأزواج، وضعف بأنه لا قرينة على تقدير خلاف الظاهر
وفيه دغدغة لا تخفى.
وقيل: لا مانع من العطف بأن يراد بالأختان أقارب المرأة كأبيها
وأخيها لا أزواج البنات فإن إطلاق الأختان عليه إنما هو عند
العامة وأما عند العرب فلا كما في الصحاح، وتجعل مِنْ سببية
ولا شك أن الأزواج سبب لجعل الحفدة بهذا المعنى وهو كما ترى.
وتعقب تفسيره بالأختان والربائب بأن السياق للامتنان ولا يمتن
بذلك.
وأجيب أن الامتنان باعتبار الخدمة ولا يخفى أنه مصحح لا مرجح.
وقيل: الحفدة هم الخدم والأعوان وهو المعنى المشهور له لغة.
والنصب أيضا بمقدر أي وجعل لكم خدما يحفدون في مصالحكم
ويعينونكم في أموركم.
وقال ابن عطية بعد نقل عدة أقوال في المراد من ذلك: وهذه
الأقوال مبنية على أن كل أحد جعل له من زوجته بنون وحفدة ولا
يخفى أن باعتبار الغالب، ويحتمل أن يحمل قوله تعالى: مِنْ
أَزْواجِكُمْ على العموم والاشتراك أي جعل من أزواج البشر
البنين والحفدة ويستقيم على هذا الحفدة على مجراها في اللغة إذ
البشر بجملتهم لا يستغني أحدهم عن حفدة اه، وحينئذ لا يحتاج
إلى تقدير لكن لا يخفى أن فيه بعدا، وتأخير المنصوب في
الموضعين عن المجرور لما مكر غير مرة من التشويق، وتقديم
المجرور باللام على المجرور بمن لإيذان من أول الأمر بعود
منفعة الجعل إليهم إمدادا للتشويق وتقوية له.
وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ أي اللذائذ وهو معناها اللغوي،
وجوز مجوز أن يراد بالطيب ما هو متعارف في لسان الشرع وهو
الحلال. وتعقبه أبو حيان بأن المخاطبين بهذا الكفار وهم لا شرع
لهم فتفسيره بذلك غير ظاهر، وأجيب بأنهم مكلفون بالفروع
كالأصول فيوجد في حقهم الحلال والحرام، وأيضا هم مرزوقون بكثير
من الحلال الذي أكلوا بعضه ولا يلزم اعتقادهم للحل ونحوه، ومن
للتبعيض لأن ما رزقوه بعض من كل الطيبات فإن ما في الدنيا منها
بأسره أنموذج لما في الآخرة إذ فيها ما لا عين رأت ولا أذن
سمعت ولا خطر على قلب بشر، وما في الدنيا لم يصل كثير منه
إليهم، والظاهر على ما ذكرنا عموم الطيبات للنبات والثمار
والحبوب والأشربة والحيوان، وقيل: المراد بها ما أتي من غير
نصب، وقيل: الغنائم، وليس بشيء.
أَفَبِالْباطِلِ وهو منفعة الأصنام وبركتها وما ذاك إلا وهم
باطل لم يتوصلوا إليه بدليل ولا أمارة، والجار
__________
(1) هنا بياض بالأصل.
(7/428)
والمجرور متعلق بقوله تعالى: يُؤْمِنُونَ
وقدم للحصر فيفيد أن ليس لهم إيمان إلا بذلك كأنه شيء معلوم
مستيقن وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ المشاهدة المعاينة التي لا شبهة
فيها لذي عقل وتمييز مما ذكر ومما لا تحيط به دائرة البيان
هُمْ يَكْفُرُونَ أي يستمرون على الكفر بها والإنكار لها كما
ينكر المحال الذي لا يتصوره العقول وذلك بإضافتها إلى أصنامهم،
وقيل: الباطل ما يسول لهم الشيطان من تحريم البحيرة والسائبة
وغيرهما ونعمة الله تعالى ما أحل لهم. والآية على هذا ظاهرة
لتعلق بقوله سبحانه: وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ فقط دون
ما قبله أيضا والظاهر تعلقها بهما، ومن ذلك يظهر حال من أخرجه
ابن المنذر عن ابن جريج من أن الباطل الشيطان ونعمة الله تعالى
محمد صلى الله عليه وسلم، وما ذكرناه قد صرح بأكثره الزمخشري،
واستفادة الحصر من التقديم ظاهرة، وأما كأنه شيء معلوم مستيقن
فمستفاد من حصرهم الإيمان فيما ذكر لأن ذلك شأن المؤمن به لا
سيما وقد حصروا، وأيضا المقابلة بالمشاهد المحسوس أعني نعمة
الله تعالى دلت على تعكيسهم فيدل على أنهم جعلوا الموهوم
بمنزلة المتيقن وبالعكس، والفاء التي للتعكيس شديدة الدلالة
على هذا الأمر والحمل على أنها للعطف على محذوف ليس بالوجه كذا
في الكشف، وفيه رد على ما قيل إن في كلا التركيبين تأكيدا
وتخصيصا، أما التخصيص فيهما فمن تقديم المعمول، وأما التأكيد
في الأول فلأن الفاء تستدعي معطوفا عليه تقديره أيكفرون بالحق
ويؤمنون بالباطل والكفر بالحق مستلزم للإيمان بالباطل فقد تكرر
الإيمان بالباطل والتكرير يفيد التأكيد، وأما التأكيد في
الثاني فمن بناء يَكْفُرُونَ على هم المفيد لتقوى الحكم، وجعل
كلام الزمخشري مشيرا إلى ذلك كله فتدبر. وما ذكر من أن تقديم
الجار في التركيبين للتخصيص مما صرح به غير واحد، والعلامة
البيضاوي جوز ذلك لكنه أقحم الإيهام هنا نظير ما فعلناه فيما
سلف آنفا.
ووجه ذلك بأن المقام ليس بمقام تخصيص حقيقة إذ لا اختصاص
لإيمانهم بالباطل ولا لكفرانهم بنعم الله سبحانه ولم يقحمه في
تفسير نظير ذلك في العنكبوت فإن وجه بأنهم إذا آمنوا بالبال
كان إيمانهم بغيره بمنزلة العدم وإن النعم كلها من الله تعالى
إما بالذات أو بالواسطة فليس كفرانهم إلا لنعمه سبحانه كما قيل
لا يشكر الله من لا يشكر الناس بقي المخالفة. وأجيب بأنه إذا
نظر للواقع فلا حصر فيه وإن لوحظ ما ذكر يكون الحصر ادعائيا
وهو معنى الإيهام للمبالغة فلا تخالف، وجوز أن يكون التقديم
للاهتمام لأن المقصود بالإنكار الذي سيق له الكلام تعلق
كفرانهم بنعمة الله تعالى واعتقادهم للباطل لا مطلق الإيمان
والكفران، وأن يكون لرعاية الفواصل وهو دون النكتتين،
والالتفات إلى الغيبة للإيذان باستيجاب حالهم للإعراض عنهم
وصرف الخطاب إلى غيرهم من السامعين تعجيبا لهم مما فعلوه.
وفي البحر أن السلمي قرأ «تؤمنون» بالتاء على الخطاب وأنه روى
ذلك عن عاصم، والجملة فيما بعده على هذا كما استظهره في البحر
مجردا عن الكفرة غير مندرج في التقريع. هذا بقي أنه وقع في
[العنكبوت: 67] أَفَبِالْباطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ
اللَّهِ يَكْفُرُونَ بدون ضمير ووقع هنا ما سمعت بالضمير، وبين
الخفاجي سر ذلك بأنه لما سبق في هذه السورة قوله تعالى:
فَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ أي يكفرون كما مر فلو ذكر ما
نحن فيه بدون الضمير لكانت الآية تكرارا بحسب الظاهر فأتى
بالضمير الدال على المبالغة والتأكيد ليكون ترقيا في الذم
بعيدا عن اللغوية، ثم قال: وقيل إنه أجري على عادة العباد إذا
أخبروا عن أحد بمنكر يجدون موجدة فيخبروا عن حاله الأخرى بكلام
آكد من الأول، ولا يخفى أن هذا إنما ينفع إذا سئل لم قيل:
أَفَبِالْباطِلِ يُؤْمِنُونَ بدون ضمير وقيل: وَبِنِعْمَتِ
اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ به، وأما في الفرق بين ما هنا وما
هناك فلا، وقيل: آيات العنكبوت استمرت على الغيبة فلم يحتج إلى
زيادة ضمير الغائب وأما الآية التي نحن فيها فقد سبق قبلها
مخاطبات كثيرة فلم يكن بد من ضمير الغائب المؤكد لئلا يلتبس
بالخطاب، وتخصيص هذه بالزيادة دون أَفَبِالْباطِلِ يُؤْمِنُونَ
مع أنها الأولى بها بحسب الظاهر لتقدمها لئلا يلزم زيادة
الفاصلة
(7/429)
الأولى على الثانية. واعترض عليه بأنه لا
يخفى أنه لا مقتضى للزوم الغيبة ولا لبس لو ترك الضمير.
وقد يقال: إنما لم يؤت في آية العنكبوت بالضمير ويبنى الفعل
عليه إفادة للتقوى استغناء بتكرر ما يفيد كفر القوم بالنعم مع
قربه من تلك الآية عن ذلك، على أنه قد تقدم هناك ما تستمد منه
الجملتان أتم استمداد وإن كان فيه نوع بعد ومغايرة ما وذلك
قوله تعالى: وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْباطِلِ وَكَفَرُوا
بِاللَّهِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ [العنكبوت: 52] ولما لم
تكن آية النحل فيما ذكر بهذه المرتبة جيء فيها بما يفيد
التقوى، أو يقال: إنه لما كان سرد النعم هنا على وجه ظاهر في
وصولها إليهم والامتنان بها عليهم كان ذلك أوفق بأن يؤتى بما
يفيد كفرهم بها على وجه يشعر باستبعاد وقوعه منهم فجيء بالضمير
فيه ولما لم يكن ما هنالك كذلك لم يؤت فيه بما ذكر، ولعل
التعبير هنا- بيكفرن- وفيما قبل يَجْحَدُونَ لأن ما قبل كان
مسبوقا على ما قيل بضرب مثل لكمال قباحة ما فعلوه والجحود أوفق
بذلك لما أن كمال القبح فيه أتم ولا كذلك فيما البحث فيه كذا
قيل فافهم والله تعالى بأسرار كتابه أعلم وَيَعْبُدُونَ مِنْ
دُونِ اللَّهِ قال أبو حيان: هو استئناف إخبار عن حالهم في
عبادة الأصنام وفيه تبيين لقوله تعالى: أَفَبِالْباطِلِ
يُؤْمِنُونَ وقال بعض أجلة المحققين: لعله عطف على يَكْفُرُونَ
داخل تحت الإنكار التوبيخي أي أيكفرون بنعمة الله ويعبدون من
دونه سبحانه ما لا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقاً مِنَ السَّماواتِ
وَالْأَرْضِ شَيْئاً أي ما لا يقدر أن يرزقهم شيئا لا من
السموات مطرا ولا من الأرض نباتا- فرزقا- مصدر، وشَيْئاً نصب
على المفعولية له وإلى ذلك ذهب أبو علي. وغيره. وتعقبه ابن
الطراوة بأن الرزق هو المرزوق كالرعي والطحن والمصدر إنما هو
الرزق بفتح الراء كالرعي والطحن. ورد عليه بأن مكسور الراء
مصدر أيضا كالعلم وسمع ذلك فيه فصح أن يعمل في المفعول، وقيل:
هو اسم مصدر والكوفي يجوز عمله في المفعول- فشيئا- مفعوله على
رأيهم، وجوز أن يكون بمعنى مرزوق وشَيْئاً بدل منه أي لا يملك
لهم شيئا. وأورد عليه السمين. وأبو حيان أنه غير مفيد إذ من
المعلوم أن الرزق من الأشياء والبدل يأتي لأحد شيئين البيان
والتأكيد وليسا بموجودين هنا. وأجيب بأن تنوين شَيْئاً للتقليل
والتحقير فإن كان تنوين رِزْقاً كذلك هو مؤكد وإلا فمبين
وحينئذ فيصح فيه أن يكون بدل بعض أو كل ولا إشكال.
وجوز أن يكون شَيْئاً مفعولا مطلقا ليملك أي لا يملك شيئا من
الملك ومِنَ السَّماواتِ إما متعلق بقوله تعالى: لا يَمْلِكُ
أو بمحذوف وقع صفة- لرزقا- أي رزقا كائنا منهما، واطلاق الرزق
على المطر لأنه ينشأ عنه.
وَلا يَسْتَطِيعُونَ جوز أن يكون عطفا على صلة ما وأن يكون
مستأنفا للإخبار عن حال الآلهة، واستطاع متعد ومفعوله محذوف هو
ضمير الملك أي لا يستطيعون أن يملكوا ذلك ولا يمكنهم، فالكلام
تتميم لسابقه وفيه من الترقي ما فيه فلا يكون نفي استطاعة
الملك بعد نفي ملك الرزق غير محتاج إليه، وإن جعل المفعول ضمير
الرزق كما جوزه في الكشاف يكون هذا النفي تأكيدا لما قبله.
وأورد عليه أنه قد قرر في المعاني أن حرف العطف لا يدخل مبين
المؤكد والمؤكد لما بينها من كمال الاتصال. ودفع بأن ذلك غير
مسلم عند النحاة وليس مطلقا عند أهل المعاني ألا ترى قوله
تعالى: كَلَّا سَيَعْلَمُونَ ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ
[النبأ: 4، 5] نعم يرد عليه حديث أن التأسيس خير من التأكيد،
وجوز ولعله الأولى أن يكون الفعل منزلا منزلة اللازم فيكون
المراد نفي الاستطاعة عنهم مطلقا على حد يعطي ويمنع فالمعنى
أنهم أموات لا قدرة لهم أصلا فيكون تذييلا للكلام السابق، وفيه
ما فيه على الوجه الأول وزيادة.
وجمع الضمير فيه وتوحيده في لا يَمْلِكُ لرعاية جانب اللفظ
أولا والمعنى ثانيا فإن «ما» مفرد بمعنى الآلهة ومثل هذه
الرعاية وارد في الفصيح وإن أنكره بعضهم لما يلزمه من الإجمال
بعد البيان المخالف للبلاغة فإنه مردود كما بين في محله، وقد
روعي أيضا في التعبير حال معبوداتهم في نفس الأمر فإنها أحجار
وجمادات فعبر عنها- بما-
(7/430)
الموضوعة في المشهور لغير العالم وحالها
باعتبار اعتقادهم فيها أنها آلهة فعبر عنها بضمير الجمع
الموضوع لذوي العلم، هذا إذا كان المراد بما الأصنام، ولا يخفى
عليك الحال إذا كان المراد بها المعبودات الباطلة مطلقا ملكا
كانت أو بشرا أو حجرا أو غيرها.
وجوز أن يكون ضمير الجمع عائدا على الكفار كضمير يَعْبُدُونَ
وما على المعنى المشهور فيها على معنى أنهم مع كونهم أحياء
متصرفين في الأمور لا يستطيعون من ذلك شيئا فكيف بالجماد الذي
لا حس له، فجملة لا يَسْتَطِيعُونَ معترضة لتأكيد نفي الملك عن
الآلهة والمفعول محذوف كما أشير إليه، وهذا وإن كان خلاف
الظاهر لكنه سالم عن مخالفة المشهور في العود على المعنى بعد
مراعاة اللفظ فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثالَ التفات إلى
الخطاب للإيذان بالاهتمام بشأن النهي، والفاء للدلالة على
ترتيب النهي على ما عدد من النعم الفائضة عليهم منه تعالى وكون
آلهتهم بمعزل من أن يملكوا لهم رزقا فضلا عما فضل، والأمثال
جمع مثل كعلم، والمراد من الضرب الجعل فكأنه قيل: فلا تعجلوا
لله تعالى الأمثال والأكفاء فالآية كقوله تعالى: «فلا تجعلوا
لله أندادا» وهذا ما يقتضيه ظاهر كلام ابن عباس، وفقد أخرج ابن
جرير. وابن المنذر. وابن أبي حاتم عنه رضي الله تعالى عنه أنه
قال في الآية:
يقول سبحانه لا تجعلوا معي إلها غيري فإنه لا إله غيري.
وجعل كثير الأمثال جمع مثل بالتحريك، والمراد من ضرب المثل لله
سبحانه الإشراك والتشبيه به جل وعلا من باب الاستعارة
التمثيلية، ففي الكشف أن الله تعالى جعل المشرك به الذي يشبهه
تعالى بخلقه بمنزلة ضارب المثل فإن المشبه المخذول يشبه صفة
بصفة وذاتا بذات كما أن ضارب المثل كذلك فكأنه قيل: ولا تشركوا
بالله سبحانه، وعدل عنه إلى المنزل دلالة على التعميم في النهي
عن التشبيه وصفا وذاتا، وفي لفظ الْأَمْثالَ لمن لا مثال له
أصلا نعي عظيم عليهم بسوء فعلهم، وفيه إدماج أن الأسماء
توقيفية وهذا هو الظاهر لدلالة الفاء وعدم ذكر ضرب مثل منهم
سابقا، وهذا الوجه هو الذي اختاره الزمخشري وكلام الحبر رضي
الله تعالى عنه لا يأباه فقوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ
وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ تعليل للنهي أي إنه تعالى يعلم كنه
ما تفعلون وعظمه وهو سبحانه معاقبكم عليه أعظم العقاب وأنتم لا
تعلمون كنهه وكنه عقابه فلذا صدر منكم وتجاسرتم عليه.
وجوز أن يكون المراد النهي عن قياس الله تعالى على غيره بجعل
ضرب المثل استعارة للقياس، فإن القياس إلحاق شيء بشيء وهو عند
التحقيق تشبيه مركب بمركب، والفرق بينه وبين الوجه السابق
قليل، وأمر التعليل على حاله. وجوز الزمخشري وغيره أن يكون
المراد النهي عن ضرب الأمثال لله سبحانه حقيقة والمعنى فلا
تضربوا لله تعالى الأمثال التي يضربها بعضكم لبعض إن الله
تعالى يعلم كيف تضرب الأمثال وأنتم لا تعلمون، ووجه التعليل
ظاهر، واللام على سائر الأوجه متعلقة- بتضربوا- وزعم ابن
المنير تعلقها- بالأمثال- فيما إذا كان المراد التمثيل للإشراك
والتشبيه ثم قال: كأنه قيل فلا تمثلوا الله تعالى ولا تشبهوه،
وتعلقها- بتضربوا- على هذا الوجه ثم قال كأنه قيل فلا تمثلوا
لله تعالى الأمثال فإن ضرب المثل إنما يستعمل من العالم لغير
العالم ليبين له ما خفي عنه والله تعالى هو العالم وأنتم لا
تعلمون فتمثيل غير العالم للعالم عكس للحقيقة، وليس بشيء
والمعنى الذي ذكره على تقدير تعلقه بالفعل خلاف ما يقتضيه
السياق وإن كان التعليل عليه أظهر، ومن هنا قال العلامة المدقق
في الكشف في ذلك بعد أن قال إنه نهى عن ضرب الأمثال حقيقة:
كأنه أريد المبالغة في أن لا يلحدوا في أسمائه تعالى وصفاته
فإنه إذا لم يجز ضرب المثل والاستعارات يكفي فيها شبه ما
والإطلاق لتلك العلاقة كاف فعدم جواز إطلاق الأسماء من غير سبق
تعليم منه وإثبات الصفات أولى وأولى، ووجه ربط قوله تعالى:
(7/431)
ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا إلخ على هذا عند
المدقق أنه تعالى بعد أن نهاهم عن ضرب الأمثال له سبحانه ضرب
مثلا دل به على أنهم ليسوا أهلا لذلك وإنهم إذا كانوا على هذا
الحد من المعرفة والتقليد أو المكابرة فليس لهم إلى ضرب
الأمثال المطابقة المستدعي ذكاء وهداية سبيل، وقال غيره في ذلك
ولعله أظهر منه إنه تعالى لما ذكر أنه يعلم كيف تضرب الأمثال
وأنهم لا يعلمون علمهم كيف تضرب الأمثال في هذا الباب فقال
تعالى: ضَرَبَ إلخ.
ووجه الربط على ما تقدم من أن النهي عن الإشراك أنه سبحانه لما
نهاهم عن ضرب المثل الفعلي وهو الإشراك عقبه بالكشف لذي
البصيرة عن فساد ما ارتكبوه بقوله سبحانه: ضَرَبَ إلخ أي أورد
وذكر ما يستدل به على تباين الحال بين جنابه تعالى شأنه وبين
ما أشركوه به سبحانه وينادي بفساد ما هم عليه نداء جليا
عَبْداً مَمْلُوكاً لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ بدل من مثلا
وتفسير له والمثل في الحقيقة حالته العارضة له من المملوكية
والعجز التام ويحسبها ضرب نفسه مثلا ووصف العبد بالمملوكية
للتمييز عن الحر لاشتراكهما في كونهما عبدا الله تعالى، وقد
أدمج فيه على ما قيل إن الكل عبيد له تعالى وبعدم القدرة
لتمييزه عن المكاتب والمأذون اللذين لهما تصرف في الجملة، وفي
إبهام المثل أولا ثم بيانه بما ذكر ما لا يخفى من الجزالة
وَمَنْ رَزَقْناهُ مَنْ نكرة موصوفة على ما استظهره الزمخشري
ليطابق عَبْداً فإنه أيضا نكرة موصوفة وإلى ذلك ذهب أبو
البقاء، وقال الحوفي: هي موصولة واستظهره أبو حيان، وزعم بعضهم
أن ذلك لكون استعمالها موصولة أكثر من استعمالها موصوفة،
والأول مختار الأكثرين أي حرا رزقناه بطريق الملك والالتفات
إلى التكلم للاشعار باختلاف حال ضرب المثل والرزق، وفي اختيار
ضمير العظمة تعظيم لأمر ذلك الرزق ويزيد ذلك تعظيما قوله
سبحانه: مِنَّا أي من جنابنا الكبير المتعالي رِزْقاً حَسَناً
حلالا طيبا أو مستحسنا عند الناس مرضيا ويؤخذ منه على ما قيل
كونه كثيرا بنا على أن القلة التي هي أخت العدم لا حسن في
ذاتها فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ تفضلا وإحسانا، والفاء لترتب
الإنفاق على الرزق كأنه قيل: ومن رزقناه منا رزقا حسنا فأنفق
وإيثار المنزل من الجملة الاسمية الفعلية الخبر للدلالة على
ثبات الإنفاق واستمرار التجددي سِرًّا وَجَهْراً أي حال السر
وحال الجهر أو انفاق سر وانفاق جهر والمراد بيان عموم إنفاقه
للأوقات وشموله إنعامه لمن يجتنب عن قبوله جهرا.
وجوز أن يكون وصفه بالكثرة مأخوذا من هذا بناء أن المراد منه
كيف يشاء وهو يدل على أنحاء التصرف وسعة المتصرف منه، وتقديم
السر على الجهر للإيذان بفضله عليه، وقد مر الكلام في ذلك
والعدول عن تطبيق القرينتين بأن يقال: وحرا مالكا للأموال مع
كونه أدل على تباين الحال بينه وبين قسيمه لما في إرشاد العقل
السليم من توخي تحقيق الحق بأن الأحرار أيضا تحت ربقة عبوديته
تعالى وأن مالكيتهم لما يملكونه ليست إلا بأن يرزقهم الله
تعالى إياه من غير أن يكون لهم مدخل في ذلك مع محاولة المبالغة
في الدلالة على ما قصد بالمثل من تباين الحال بين الممثلين فإن
العبد المملوك حيث لم يكن مثل العبد المالك فما ظنك بالجماد
ومالك الملك خلاق العالمين هَلْ يَسْتَوُونَ جمع الضمير وإن
تقدمه اثنان وكان الظاهر- يستويان- للإيذان بأن المراد بما ذكر
من اتصف بالأوصاف المذكورة من الجنسين المذكورين لا فردان
معينان منهما وإن أخرج ابن عساكر. وجماعة عن ابن عباس رضي الله
تعالى عنهما أن الآية نزلت في هشام بن عمرو وهو الذي ينفق ماله
سرا وجهرا وفي عبده أبي الجوزاء الذي كان ينهاه والله تعالى
أعلم بصحته. وقيل نزلت في عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه
وعبد له ولا يصح إسناده كما في البحر، وفيه أنه يحتمل أن يكون
الجمع باعتبار أن المراد- بمن- الجمع وأن يكون باعتبار عود
الضمير على العبيد والأحرار وإن لم يجر لهما ذكر لدلالة «عبد
مملوك» وَمَنْ رَزَقْناهُ عليهما، والمعول عليه ما ذكر أولا،
والمعنى هل يستوي العبيد والأحرار الموصوفون بما ذكر من الصفات
مع أن الفريقين سيان في البشرية والمخلوقية لله سبحانه وأن ما
ينفقه
(7/432)
الأحرار ليس مما لهم دخل في إيجاده ولا
تملكه بل هو مما أعطاه الله تعالى إياهم فحيث لم يستو الفريقان
فما ظنكم برب العالمين حيث تشركون به ما لا ذليل أذل منه وهو
الأصنام، وقيل: إن هذا تمثيل للكافر المخذول والمؤمن الموفق
شبه الأول بمملوك لا تصرف له لأنه لإحباط عمله وعدم الاعتداد
بأفعاله واتباعه لهواه كالعبد المنقاد الملحق بالبهائم بخلاف
المؤمن الموفق، وجعله تمثيلا لذلك مروي عن ابن عباس رضي الله
تعالى عنهما، وقتادة ولا تعيين أيضا وإن قيل: إن الآية نزلت في
أبي بكر رضي الله تعالى عنه. وأبي جهل، على أن أبا حيان قال
إنه لا يصح إسناد ذلك، هذا ثم اعلم أنهم اختلفوا في العبد هل
يصح له ملك أم لا قال في الكشاف: المذهب الظاهر أنه لا يصح وبه
قال الشافعي، وقال ابن المنير على ما لخصه في الكشف من كلام
طويل إنه يصح له الملك عند مالك: وظاهر الآية تشهد له لأنه
أثبت له العجز بقوله تعالى: مَمْلُوكاً ثم نفي القدرة العارضة
بتمليك السيد بقوله سبحانه: لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ وليس
المعنى القدرة على التصرف لأن مقابله وَمَنْ رَزَقْناهُ مِنَّا
رِزْقاً حَسَناً والحمل على إخراج المكاتب مع شذوذه إيجاز مع
إخلال كما قال إمام الحرمين رحمه الله تعالى في «أيما امرأة
نكحت بغير إذن وليها» الحمل على المكاتبة بعيد لا يجوز
والمأذون لم يخرج لما مر من أن المراد بالقدرة ما هو، وليس
لقائل أن يقول: إنه صفة لازمة موضحة فالأصل في الصفات التقيد
اه.
وتعقبه المدقق بقوله: والجواب أن المعنى على نفي القدرة عن
التصرف فالآية واردة في تمثيل حال الأصنام به تعالى عن ذلك
علوا كبيرا وكلما بولغ في حال عجز المشبه به وكمال المقابل دل
في المشبه به أيضا على ذلك فالذي يطابق المقام القدرة على
التصرف وهو في مقابلة قوله تعالى: يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا
وَجَهْراً وما ذكره لا حاصل له ولا إخلال في إخراج المكاتب
لشمول اللفظ مع أن المقام مقام مبالغة فما يتوهم دخوله بوجهه
ينبغي أن ينفى وأين هذا مما نقله عن إمام الحرمين اه. واستدل
بالآية أيضا على أن العبد لا يملك الطلاق أيضا وروي ذلك عن ابن
عباس رضي الله تعالى عنهما، فقد أخرج ابن أبي حاتم عنه أنه
قال: ليس للعبد طلاق إلا بإذن سيده وقرأ الآية وقد فصلت أحكام
العبيد في حكم الفقه على أتم وجه الْحَمْدُ لِلَّهِ أي كله له
سبحانه لا يستحقه أحد غيره تعالى لأنه جل شأنه المولى للنعم
وإن ظهرت على أيدي بعض الوسائط فضلا عن استحقاق العبادة.
وفيه إرشاد إلى ما هو الحق من أن ما يظهر على يد من ينفق فيما
ذكر راجع إليه تعالى كما لوح به رَزَقْناهُ وقال غير واحد هذا
حمد على ظهور المحجة وقوة هذه الحجة بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا
يَعْلَمُونَ
ما ذكر فيضيفون نعمه تعالى إلى غيره ويعبدونه لأجلها أو لا
يعلمون ظهور ذلك وقوة ما هنالك فيبقون على شركهم وضلالهم، ونفي
العلم عن أكثرهم للإشعار بأن بعضهم يعلمون ذلك وإنما لم يعملوا
بموجبه عنادا وقيل: المراد بالأكثر الكل فكأنه قيل: هم لا
يعلمون، وقيل: ضمير هم للخلق والأكثر هم المشركون، وكلا
القولين خلاف الظاهر.
وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا أي مثلا آخر يدل على ما يدل عليه
المثل السابق على وجه أظهر وأوضح، وأبهم ثم بين بقوله تعالى:
رَجُلَيْنِ أَحَدُهُما أَبْكَمُ لما تقدم والبكم الخرس المقارن
للخلقة ويلزمه الصمم فصاحبه لا يفهم لعدم السمع ولا يفهم غيره
لعدم النطق، والإشارة لا يعتد بها لعدم تفهيمها حق التفهيم لكل
أحد فكأنه قيل: أحدهما أخرس أصم لا يفهم ولا يفهم لا يَقْدِرُ
عَلى شَيْءٍ من الأشياء المتعلقة بنفسه أو غيره بحدس أو فراسة
لسوء فهمه وإدراكه وَهُوَ كَلٌّ ثقيل وعيال عَلى مَوْلاهُ على
من يعوله ويلي أمره، وهذا بيان لعدم قدرته على إقامة مصالح
نفسه بعد ذكر عدم قدرته مطلقا، وقوله سبحانه:
أَيْنَما يُوَجِّهْهُ لا يَأْتِ بِخَيْرٍ أي حيثما يرسله مولاه
في أمر لا يأت بنجح وكفاية مهم، بيان لعدم قدرته على
(7/433)
مصالح مولاه. وقرأ عبد الله في رواية
«توجهه» على الخطاب، وقرأ علقمة. وابن رئاب. ومجاهد. وطلحة وهي
رواية أخرى عن عبد الله «يوجه» بالبناء للفاعل والجزم، وخرج
على أن الفاعل يعود على المولى والمفعول محذوف وهو ضمير الأبكم
أي يوجهه، ويجوز أن يكون ضمير الفاعل عائدا على الأبكم ويكون
الفعل لازم وجه بمعنى توجه، وعلى ذلك جاء قول الأضبط بن قريع
السعدي:
أينما أوجه ألق سعدا وعن علقمة وعائشة وابن وثاب أيضا «يوجه»
بالجزم والبناء للمفعول، وفي رواية أخرى عن علقمة. وطلحة أنهما
قرءا «يوجه» بكسر الجيم وضم الهاء، قال صاحب اللوامح: فإن صح
ذلك فالهاء التي هي لام الفعل محذوفة فرارا من التضعيف أو لم
يرد- بأينما- الشرط، والمراد أينما هو يوجه وقد حذف منه ضمير
المفعول به فيكون حذف الياء من آخر «يأت» للتخفيف، وتعقبه أبو
حيان بأن أين لا تخرج عن الشرط أو الاستفهام. ونقل عن أبي حاتم
أن هذه القراءة ضعيفة لأن الجزم لازم، ثم قال: والذي توجه به
هذه القراءة أن أَيْنَما شرط حملت على إذا بجامع ما اشتركا فيه
من الشرط ثم حذفت ياء يَأْتِ تخفيفا أو جزم على توهم أنه جيء
بأينما جازمة كقراءة من قرأ- إنه من يتقي ويصبر- في أحد
الوجهين، ويكون معنى يوجه يتوجه كما مر آنفا هَلْ يَسْتَوِي
هُوَ أي ذلك الأبكم الموصوف بتلك الصفات المذكورة وَمَنْ
يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ ومن هو منطيق فهم ذو رأي ورشد يكفي الناس
في مهماتهم وينفعهم بحثهم على العدل الجامع لمجامع الفضائل
وَهُوَ في نفسه مع ما ذكر من نفعه الخاص والعام عَلى صِراطٍ
مُسْتَقِيمٍ لا يتوجه إلى مطلب إلا ويبلغه بأقرب سعي، فالجملة
حالية مبنية لكماله في نفسه ولما كان ذلك مقدما على تكميل
الغير أتى بها اسمية فإنها تشعر بذلك مع الثبوت إلى مقارنة ذي
الحال. فلا يقال: الأنسب تقديمها في النظم الكريم، ومقابلة تلك
الصفات الأربع بهذين الوصفين لأنهما كمال ما يقابلها ونهايته
فاختير آخر صفات الكامل المستدعية لما ذكر وأزيد حيث جعل هاديا
مهديا، وتغيير الأسلوب حيث لم يقل: والآخر يأمر بالعدل الآية
لمراعاة الملاءمة بينه وبين ما هو المقصود من بيان التباين بين
الفريقين، ويقال هنا كما قيل في المثل السابق: إنه حيث لم يستو
الفريقان في الفضل والشرف مع استوائهما في الماهية والصورة
فلأن يحكم بأن الصنم الذي لا ينطق ولا يسمع وهو عاجز لا يقدر
على شيء كل على عابده يحتاج إلى أن يحمله ويضعه ويمسح عنه
الأذى إذا وقع عليه ويخدمه وإن وجهه إلى أي مهم من مهماته لا
ينفعه ولا يأت له به لا يساوي رب العالمين وهو- هو- في استحقاق
المعبودية أحرى وأولى، وقيل: هذا تمثيل للمؤمن والكافر فالأبكم
هو الكافر ومن يأمر بالعدل هو المؤمن، وروي ذلك عن ابن عباس
رضي الله تعالى عنهما، وإيّا ما كان فليس المراد- برجلين-
رجلان معينان بل رجلان متصفان بما ذكر من الصفات مطلقا، وما
روي من أن الأبكم أبو جهل والآمر بالعدل عمار أو الأبكم أبي بن
خلف والآمر عثمان بن مظعون فقال أبو حيان: لا يصح إسناده، وما
أخرج ابن جرير. وابن عساكر. وغيرهما عن ابن عباس أنه قال: نزلت
هذه الآية وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ إلخ في عثمان
بن عفان ومولى له كافر وهو أسيد بن أبي العيص كان يكره الإسلام
وكان عثمان ينفي عليه ويكفله ويكفيه المئونة وكان الآخر ينهاه
عن الصدقة والمعروف فنزلت فيهما فبعد تحقق صحته لا يضرنا في
إرادة الموصوفين مطلقا بحيث يدخل فيهما من ذكر فقد صرحوا بأن
خصوص السبب لا ينافي العموم.
هذا وقد اقتصر شيخ الإسلام على كون الغرض من التمثيلين نفي
المساواة بينه جل جلاله وبين ما يشركون، وهو دليل على أنه
مختاره ثم قال: اعلم أن كلا الفعلين ليس المراد بهما حكاية
الضرب الماضي بل المراد إنشاؤه بما ذكر عقيبه، ولا يبعد أن
يقال: إن الله تعالى ضرب مثلا بخلق الفريقين على ما هما عليه
فكان خلقهما كذلك
(7/434)
للاستدلال بعدم تساويهما على امتنان
التساوي بينه سبحانه وتعالى وبين ما يشركون فيكون كل من
الفعلين حكاية للضرب الماضي اه، ولا يخفى أنه لا كلام في حسن
اختياره لكن في النفس من قوله لا يبعد شيء.
وَلِلَّهِ تعالى خاصة لا لأحد غيره استقلالا ولا اشتراكا
غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي جميع الأمور الغائبة عن
علوم المخلوقين بحيث لا سبيل لهم إلى إدراكها حسا ولا فهمها
عقلا، ومعنى الإضافة إليهما التعلق بهما إما باعتبار الوقوع
فيهما حالا أو مآلا وإما باعتبار الغيبة عن أهلهما، ولا حاجة
إلى تقدير هذا المضاف. والمراد بيان الاختصاص به تعالى من حيث
المعلومية وحسبما ينبئ عنه عنوان الغيبة لا من حيث المخلوقية
والمملوكية وإن كان الأمر كذلك في نفس الأمر، وفيه- كما في
إرشاد العقل السليم- إشعار بأن علمه تعالى حضوري وأن تحقق
الغيوب في نفسها بالنسبة إليه سبحانه وتعالى ولذلك لم يقل
تعالى: ولله علم غيب السموات والأرض، وقيل: المراد بغيب
السموات والأرض ما في قوله سبحانه: إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ
عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ [لقمان: 34] الآية،
وقيل: يوم القيامة، ولا يخفى أن القول بالعموم أولى.
وَما أَمْرُ السَّاعَةِ التي هي أعظم ما وقع فيه المماراة من
الغيوب المتعلقة بالسماوات والأرض من حيث الغيبة عن أهلهما أو
ظهور آثارها فيهما عند وقوعها أي وما شأنها في سرعة المجيء
إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أي كرجع الطرف من أعلى الحدقة إلى
أسفلها. وفي البحر اللمح النظر بسرعة يقال: لمحه لمحا ولمحانا
إذا نظره بسرعة أَوْ هُوَ أي أمرها أَقْرَبُ أي من ذلك وأسرع
بأن يقع في بعض أجزاء زمانه فإن رجع الطرف من أعلى الحدقة إلى
أسفلها وإن قصر حركة أينية لها هوية اتصالية منطبقة على زمان
له هو كذلك قابل للانقسام إلى أبعاض هي أزمنة أيضا بل بأن يقع
فيما يقال له آن وهو جزء غير منقسم من أجزاء الزمان كآن
ابتدائية الحركة، و «أو» قال الفراء: بمعنى بل.
ورده في البحر بأن بل للإضراب وهو لا يصح هنا بقسميه، أما
الإبطال فلأنه يؤول إلى أن الحكم السابق غير مطابق فيكون
الإخبار به كذبا والله سبحانه وتعالى منزه عن ذلك، وأما
الانتقال فلأنه يلزمه التنافي بين الإخبار بكونه مثل لمح البصر
وكونه أقرب فلا يمكن صدقهما معا ويلزم الكذب المحال أيضا.
وأجيب باختبار الثاني ولا تنافي بين تشبيهه في السرعة بما هو
غاية ما يتعارفه الناس في بابه وبين كونه في الواقع أقرب من
ذلك، وهذا بناه على أن الغرض من التشبيه بيان سرعته لا بيان
مقدار زمان وقوعه وتحديده. وأجيب أيضا بما يصححه بشقيه وهو أنه
ورد على عادة الناس يعني أن أمرها إذا سئلتم عنها أن يقال فيه:
وهو كلمح البصر ثم يضرب عنه إلى ما هو أقرب. وقيل: هي للتخيير.
ورده في البحر أيضا بأنه إنما يكون في المحظورات كخذ من مالي
دينارا أو درهما أو في التكليفات كآية الكفارات. وأجيب بأن هذا
مبني على مذهب ابن مالك من أن أَوْ تأتي للتخيير وأنه غير مختص
بالوقوع بعد الطلب بل يقع في الخبر ويكثر في التشبيه حتى خصه
بعضهم به. وفي شرح الهادي اعلم أن التخيير والإباحة مختصان
بالأمر إذ لا معنى لهما في الخبر كما أن الشك والإبهام مختصان
بالخبر. وقد جاءت الإباحة في غير الأمر كقوله تعالى: كَمَثَلِ
الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً إلى قوله سبحانه: أَوْ كَصَيِّبٍ
مِنَ السَّماءِ [البقرة: 17- 19] أي بأي هذين شبهت فأنت مصيب
وكذا إن شبهت بهما جميعا، ومثله في الشعر كثير، وقيل: إن
المراد تخيير المخاطب بعد فرض الطلب والسؤال فلا حاجة إلى
البناء على ما ذكر، وهو كما ترى، وزعم بعضهم أن التخيير مشكل
من جهة أخرى وهي أن أحد الأمرين من كونه كلمح البصر أو أقرب
غير مطابق للواقع فكيف يخبر الله تعالى بين ما لا يطابقه، وفيه
أن المراد التخيير في التشبيه وأي ضرر في عدم وقوع المشبه به
بل قد يستحسن فيه عدم الوقوع كما في قوله:
(7/435)
أعلام ياقوت نشر ... ن على رماح من زبرجد
وقال ابن عطية: هي للشك على بابها على معنى أنه لو اتفق أن يقف
على أمرها شخص من البشر لكانت من السرعة بحيث يشك هل هو كلمح
البصر أو أقرب. وتعقبه في البحر أيضا بأن الشك بعيد لأن هذا
إخبار من الله تعالى عن أمر الساعة والشك مستحيل عليه سبحانه
أي فلا بد أن يكون ذلك بالنسبة إلى غير المتكلم، وفي ارتكابه
بعد، ويدل على أن هذا مراده تعليله البعد بالاستحالة فليس
اعتراضه مما يقضي منه العجب كما توهم، وقال الزجاج: هي للإبهام
وتعقب بأنه لا فائدة في إبهام أمرها في السرعة وإنما الفائدة
في إبهام وقت مجيئها. وأجيب بأن المراد أنه يستبهم على من
يشاهد سرعتها هل هي كلمح البصر أو أقل فتدبر. والمأثور عن ابن
جريج أنها بمعنى بل وعليه كثيرون، والمراد تمثيل سرعة مجيئها
واستقرابه على وجه المبالغة، وقد كثر في النظم مثل هذه
المبالغة، ومنه قول الشاعر:
قالت له البرق وقالت له الري ... ح جميعا وهما ما هما
أأنت تجري معنا قال إن ... نشطت أضحكتكما منكما
إن ارتداد الطرف قد فته ... إلى المدى سبقا فمن أنتما
وقيل: المعنى وما أمر إقامة الساعة المختص علمها به سبحانه وهي
إماتة الأحياء وإحياء الأموات من الأولين والآخرين وتبديل صور
الأكوان أجمعين وقد أنكرها المنكرون وجعلوها من قبيل ما لا
يدخل تحت دائرة الإمكان في سرعة الوقوع وسهولة التأتي إلا كلمح
البصر أو هو أقرب على ما مر من الأقوال في أَوْ إِنَّ اللَّهَ
عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ومن جملة الأشياء أن يجيء بها في
أسرع ما يكون فهو قادر على ذلك، وتقول على الثاني: ومن جملة
ذلك أمر إقامتها فهو سبحانه قادر عليه فالجملة في موضع
التعليل. وفي الكشف على تقدير عموم الغيب وشموله لجميع ما غاب
في السموات والأرض إن قوله تعالى: وَما أَمْرُ السَّاعَةِ
كالمستفاد من الأول وهو كالتمهيد له أي يختص به علم كل غيب
الساعة وغيرها فهو الآتي بها للعلم والقدرة، ولهذا عقب بقوله
سبحانه: إِنَّ اللَّهَ إلخ، وأما إذا أريد بالغيب الساعة فهو
ظاهر اه. ولا يخفى الحال على القول بأن المراد بالغيب ما في
قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ
وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ [لقمان: 34] الآية، وعلى القول الأخير
في الغيب يكون ذكر الساعة من وضع الظاهر موضع الضمير لتقوية
مضمون الجملة.
وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ عطف على
قوله تعالى: وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ
أَزْواجاً [النحل:
72] منتظم معه في سلك أدلة التوحيد، ويفهم من قول العلامة
الطيبي أنه تعالى عقب قوله سبحانه: إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ
شَيْءٍ قَدِيرٌ بقوله جل وعلا: وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ إلخ
معطوفا بالواو إيذانا بأن مقدوراته تعالى لا نهاية لها
والمذكور بعض منها أن العطف على قوله سبحانه: إِنَّ اللَّهَ
إلخ، والذي تنبسط له النفس هو الأول.
والأمهات بضم الهمزة (1) وفتح الهمزة جمع أم والهاء فيه مزيدة
وكثر زيادتها فيه وورد بدونها، والمعنى في الحالين واحد، وقيل:
ذو الزيادة للأناسي والعاري عنها للبهائم، ووزن المفرد فعل
لقولهم الأمومة، وجاء بالهاء كقول قصي بن كلاب عليهما الرحمة:
__________
(1) قوله: وفتح الهمزة كذا بخط المؤلف ولعله سبق قلم وصوابه
وفتح الميم.
(7/436)
أمهتي خندف والياس أبي وهو قليل، وأقل من
ذلك زيادة الهاء في الفعل كما قيل في إهراق، وفيه بحث فارجع
إلى الصحاح وغيره.
وقرأ حمزة بكسر الهمزة والميم هنا، وفي الزمر، والنجم. والروم،
والكسائي بكسر الميم فيهن والأعمش بحذف الهمزة وكسر الميم،
وابن أبي ليلى بحذفها وفتح الميم، قال أبو حاتم: حذف الهمزة
رديء ولكن قراءة ابن أبي ليلى أصوب، وكانت كذلك على ما في
البحر لأن كسر الميم إنما هو لإتباعها حركة الهمزة فإذا كانت
الهمزة محذوفة زال الإتباع بخلاف قراءة ابن أبي ليلى فإنه أقر
الميم على حركتها لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً في موضع الحال
وشَيْئاً منصوب على المصدرية أو مفعول تَعْلَمُونَ، والنفي
منصب عليه، والعلم بمعنى المعرفة أي غير عارفين شيئا أصلا من
حق المنعم وغيره، وقيل: شيئا من منافعكم، وقيل: مما قضى عليكم
من السعادة أو الشقاوة، وقيل: مما أخذ عليكم من الميثاق في
أصلاب آبائكم، والظاهر العموم ولا داعي إلى التخصيص. وعن وهب
يولد المولود خدرا إلى سبعة أيام لا يدرك راحة ولا ألما.
وادعى بعضهم أن النفس لا تخلو في مبدأ الفطرة عن العلم الحضوري
وهو علمها بنفسها إذ المجرد لا يغيب عن ذاته أصلا، فقد قال
الشيخ في بعض تعليقاته عند إثبات تجرد النفس: إنك لا تغفل عن
ذاتك أصلا حال من الأحوال ولو في حال النوم والسكر، ولو جوز أن
يغفل عن ذاته في بعض الأحوال حتى لا يكون بينه وبين الجماد في
هذه الحالة فرق فلا يجدي هذا البرهان معه، وقال بهمنيار في
التحصيل في فصل العقل والمعقول: ثم إن النفس الإنسانية تشعر
بذاتها فيجب أن يكون وجودها عقليا فيكون نفس وجودها نفس
إدراكها ولهذا لا تعزب عن ذاتها البتة، ومثله في الشفاء، وأنت
تعلم أن عدم الخلو مبني على مقدمات خفية كتجرد النفس الذي
أنكره الطبيعيون عن آخرهم وإن كل مجرد عالم ولا يتم البرهان
عليه، وأيضا ما نقل من أن علم النفس بذاتها عين ذاتها لا ينافي
أن يكون لكون الذات علما بها شرط فما لم يتحقق ذلك لا شرط لم
تكن الذات علما بها كما أن لكون المبدأ الفياض خزانة لمعقولات
زيد مثلا شرطا إذا تحقق تحقق وإلا فلا، ويؤيد ذلك أن علم النفس
بصفاتها أيضا نفس صفاتها عندهم ومع ذلك يجوز الغفلة عن الصفة
في بعض الأحيان كما لا يخفى.
وأيضا إذا قلنا: إن حقيقة الذات غير غائبة عنها، وقلنا: إن ذلك
علم بها يلزم أن يكون حقيقة النفس المجردة معلومة لكل أحد ومن
البين أنه ليس كذلك، على أن المحقق الطوسي قد منع قولهم: إنك
لا تغفل عن ذاتك أبدا، وقال: إن المغمى عليه ربما غفل عن ذاته
في وقت الإغماء، ومثله كثير من الأمراض النفسانية، ومن العجائب
أن بعض الأجلة ذكر أن المراد بخلوها في مبدأ الفطرة خلوها حال
تعلقها بالبدن، وقال: إنه لا ينافي ذلك ما قاله الشيخ من أن
الطفل يتعلق بالثدي حال التولد بإلهام فطري لأن حال التعلق
سابق على ذلك وذلك بعد أن ذكر أن الخلو في مبدأ الفطرة إنما
يظهر لذوي الحدس بملاحظة حال الطفل وتجارب أحواله ووجه العجب
ظاهر فافهم ولا تغفل.
وتفسير العلم بالمعرفة مما ذهب إليه غير واحد، وفي أمالي العز
لا يجوز أن يجعل باقيا على بابه ويكون شَيْئاً مصدرا أي لا
تعلمون علما لوجهين. الأول أنه يلزم حذف المفعولين وهو خلاف
الأصل. الثاني أنه لو كان باقيا على بابه لكان الناس يعلمون
المبتدأ الذي هو أحد المفعولين قبل الخروج من البطون وهو محال
لاستحالة العلم على من لم يولد، بيان ذلك أنا إذا قلنا: علمت
زيدا مقيما يجب أن يكون العلم بزيد متقدما قبل هذا العلم وهذا
العلم إنما يتعلق بإقامته، وكذلك إذا قلت: ما علمت زيدا مقيما
فالذي لم يعلم هو إقامة زيد وأما هو فمعلوم وذلك مستفاد من جهة
الوضع فحيث أثبت العلم أو نفي فلا بد أن يكون الأول معلوما
فيتعين حمل العلم على المعرفة اه.
(7/437)
ويعلم منه عدم استقامة جعل العلم على بابه،
وشَيْئاً مفعوله الأول والمفعول الثاني محذوف. وقوله تعالى:
وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ
يحتمل أن يكون جملة ابتدائية ويحتمل أن يكون معطوفا على الجملة
الواقعة خبرا والواو لا تقتضي الترتيب، ونكتة تأخيره أن السمع
ونحوه من آلات الإدراك إنما يعتد به إذا أحس وأدرك وذلك بعد
الإخراج، وجعل إن تعدى لواحد بأن كان بمعنى خلق- لكم- متعلق به
وإن تعدى لاثنين بأن كان بمعنى صير فهو مفعوله الثاني، وتقديم
الجار والمجرور على المنصوبات لما مر غير مرة.
والمعنى جعل لكم هذه الأشياء آلات تحصلون بها العلم والمعرفة
بأن تحسوا بمشاعركم جزئيات الأشياء وتدركوها بأفئدتكم وتنتبهوا
لما بينها من المشاركات والمباينات بتكرير الإحساس فيحصل لكم
علوم بديهية تتمكنون بالنظر فيها من تحصيل العلوم الكسبية،
وهذا خلاصة ما ذكره الإمام في هذا المقام ومستمد ما ذهب إليه
الكثير من الحكماء من أن النفس في أول أمرها خالية عن العلوم
فإذا استعملت الحواس الظاهرة أدركت بالقوة الوهمية أمورا جزئية
بمشاركات ومباينات جزئية بينها فاستعدت لأن يفيد عليها المبدأ
الفياض المشاركات الكلية، ويثبتون للنفس أربع مراتب. مرتبة
العقل الهيولاني. ومرتبة العقل بالملكة. ومرتبة العقل بالفعل
ومرتبة العقل المستفاد، ويزعمون أن النفس لا تدرك الجزئي
المادي، ولهم في هذا المقام كلام طويل وبحث عريض.
وأهل السنة يقولون: إن النفس تدرك الكلي والجزئي مطلقا
باستعمال المشاعر وبدونه كما فصل في محله، وتحقيق هذا المطلب
بما له وما عليه يحتاج إلى بسط كثير، وقد عرض والمستعان بالحي
القيوم جل جلاله وعم نواله من الحوادث الموجبة لاختلال أمر
الخاصة والعامة ما شوش ذهني وحال بين تحقيق ذلك وبيني، أسأل
الله سبحانه أن يمن علينا بما يسر الفؤاد وييسر لنا ما يكون
عونا على تحصيل المراد وبالجملة المأثور عن ابن عباس رضي الله
تعالى عنهما في هذه الآية أنه قال: يريد سبحانه أنه جعل لكم
ذلك لتسمعوا مواعظ الله تعالى وتبصروا ما أنعم الله تعالى به
عليكم من إخراجكم من بطون أمهاتكم إلى أن صرتم رجالا وتعقلوا
عظمته سبحانه. وقيل المعنى جعل لكم السمع لتسمعوا به نصوص
الكتاب والسنة التي هي دلائل سمعية لتستدلوا بها على ما يصلحكم
في أمر دينكم والأبصار لتبصروا بها عجائب مصنوعاته تعالى
وغرائب مخلوقاته سبحانه فتستدلوا بها على وحدانيته جل وعلا.
والافئدة لتعقلوا بها معاني الأشياء التي جعلها سبحانه دلائل
لكم، والسمع والأبصار على هذين القولين على ظاهرهما ولم نر من
جوز إخراجهما عن ذلك.
وجوز أن يراد بهما الحواس الظاهرة على الأول، والأفئدة جمع
فؤاد وهو وسط القلب وهو من القلب كالقلب من الصدر، وهذا الجمع
على ما في الكشاف من جموع القلة الجارية مجرى جموع الكثرة
والقلة إذا لم يرد في السماع غيرهما كما جاء شسوع في جمع شسع
لا غير فجرى ذلك المجرى، وقال الزجاج: لم يجمع فؤاد على أكثر
العدد وربما قيل: أفئدة وفئدان كما قيل: أغربة وغربان في جمع
غراب، وفي التفسير الكبير لعل الفؤاد إنما جمع على بناء القلة
تنبيها على أن السمع والبصر كثير وأما الفؤاد فقليل لأنه إنما
خلق للمعارف الحقيقية والعلوم اليقينية وأكثر الخلق ليس لهم
ذلك بل يكونون مشتغلين بالأفعال البهيمية والصفات السبعية فكأن
فؤادهم ليس بفؤاد فلذا ذكر في جمعه جمع القلة اه، ويرد عليه
الأبصار فإنه جمع قلة أيضا. وفي البحر بعد نقله أنه قول هذياني
ولولا جلالة قائله لم نسطره في الكتب وإنما يقال في هذا ما
قاله الزمخشري مما ذكر سابقا إلا أن قوله: لم يجيء في جمع شسع
إلا شسوع ليس بصحيح بل جاء فيه اشساع جمع قلة على قلة اه فاحفظ
ولا تغفل.
وزعم بعضهم أن الفؤاد إنما يدرك ما ليس بمحدود بنحو أين وكيف
وكم وغير ذلك وإن لكل مدرك قوة مدركة
(7/438)
له تناسبه لا يمكن أن يدرك بغيرها على نحو
المحسوسات الظاهرة من الأصوات والألوان والطعوم ونحوها والحواس
الظاهرة من السمع والبصر والذوق إلى غير ذلك وهو كما ترى.
وإفراد السمع باعتبار أنه مصدر في الأصل، وقيل: إنما أفرد وجمع
الأبصار للإشارة إلى أن مدركاته نوع واحد ومدركات البصر أكثر
من ذلك وتقديمه لما أنه طريق تلقي الوحي أو لأن إدراكه أقدم من
إدراك البصر، وقيل: لأن مدركاته أقل من مدركاته، والخلاف في
الأفضل منهما شهير وقد مر، وتقديمها على الأفئدة المشار بها
إلى العقل لتقدم الظاهر على الباطن أو لأن لهما مدخلا في
إدراكه في الجملة بل هما من خدمه والخدم تتقدم بين يدي السادة،
وكثير من السنن أمر بتقديمه على فروض العبادة أو لأن مدركاتهما
أقل قليل بالنسبة إلى مدركاته كيف لا ومدركاته لا تكاد تحصى
وإن قيل: إن للعقل حدا ينتهي إليه كما أن للبصر حدا كذلك،
واستأنس بعضهم بذكر ما يشير إليه فقط دون ضم ما يشير إلى سائر
المشاعر الباطنة إليه لنفي الحواس الخمس الباطنة التي أثبتها
الحكماء بما لا يخلو عن كدر، وتفصيل الكلام في محله
لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ كي تعرفوا ما أنعم سبحانه به عليكم
طورا غب طور فتشكروه، وقيل: المعنى جعل ذلك كي تشكروه تعالى
باستعمال ما ذكر فيما خلق لأجله أَلَمْ يَرَوْا وقرأ حمزة.
وابن عامر.
وطلحة. والأعمش، وابن هرمز الم تروا بالتاء الفوقية على أنه
خطاب العامة، والمراد بهم جميع الخلق المخاطبون قبل في قوله
تعالى: وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ لا
على أن المخاطب من وقع في قوله تعالى:
وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ بتلوين الخطاب لأنه المناسب
للاستفهام الإنكاري ولذا جعل قراءة الجمهور بياء الغيبة
باعتبار غيبة يَعْبُدُونَ ولم يجعلوا ذلك التفاتا وحينئذ
فالإنكار باعتبار اندراجهم في العامة، والرؤية بصرية أي ألم
ينظروا إِلَى الطَّيْرِ جمع طائر كركب وراكب ويقع على الواحد
أيضا وليس بمراد ويقال في الجمع أيضا طيور وأطيار مُسَخَّراتٍ
مذللات للطيران، وفيه إشارة إلى أن طيرانها ليس بمقتضى طبعها
فِي جَوِّ السَّماءِ أي في الهواء المتباعد من الأرض واللوح
والسكاك أبعد منه، وقيل: الجو مسافة ما بين السماء والأرض
والجو لغة فيه، وإضافته إلى السماء لما أنه في جانبها من
الناظر ولإظهار كمال القدرة، وعن السدي تفسير الجو بالجوف
وفسرت السماء على هذا بجهة العلو والطير قد يطير في هذه الجهة
حتى يغيب عن النظر ولم يعلم منتهى ارتفاعه في الطيران إلا الله
تعالى، وعن كعب أن الطير لا ترتفع أكثر من اثني عشر ميلا. ما
يُمْسِكُهُنَّ في الجو عن الوقوع إِلَّا اللَّهُ عز وجل بقدرته
الواسعة فإنّ ثقل جسدها ورقة الهواء يقتضيان سقوطها ولا علاقة
من فوقها ولا دعامة من تحتها، والجملة إما حال من الضمير
المستتر في مُسَخَّراتٍ أو من الطَّيْرِ وإما مستأنفة إِنَّ
فِي ذلِكَ الذي ذكر من التسخير في الجو والإمساك فيه، وقيل:
المشار إليه ما اشتملت عليه هذه الآية والتي قبلها لَآياتٍ
دالة على كمال قدرته جل شأنه لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ أي من شأنهم
أن يؤمنوا، وخص ذلك بهم لأنهم المنتفعون به، واقتصر الإمام على
جعل المشار إليه ما في هذه الآية قال: وهذا دليل على كمال قدرة
الله تعالى وحكمته سبحانه فإنه جل شأنه خلق الطائر خلقة معها
يمكنه الطيران أعطاه جناحا يبسطه مرة ويكنه أخرى مثل ما يعمل
السابح في الماء وخلق الجو خلقة معها يمكن الطيران خلقه خلقة
لطيفة يسهل بسببها خرقه والنفاذ فيه ولولا ذلك لما كان الطيران
ممكنا اه.
وكذا المولى أبو السعود قال: إن في ذلك الذي ذكر من تسخير
الطير للطيران بأن خلقها خلقة تتمكن بها منه بأن جعل لها أجنحة
خفيفة وأذنابا كذلك وجعل أجسادها من الخفة بحيث إذا بسطت
أجنحتها وأذنابها لا يطيق ثقلها أن يخرق ما تحتها من الهواء
الرقيق القوام وتخرق ما بين يديها من الهواء لأنها لا تلاقيه
بحجم كبير لآيات ظاهرة، وذكر أن تسخيرها بما خلق لها من
الأجنحة والأسباب المساعدة. وتعقب ذلك أبو حيان بقوله: والذي
نقوله إنه كان يمكن الطائر أن يطير ولو لم يخلق له جناح وإنه
كان يمكنه خرق الشيء الكثيف وذلك بقدرة الله تعالى ولا نقول:
إنه
(7/439)
لولا الجناح ولطف الجو والآلات ما أمكن
الطيران اه وأنا لا أظن أن أحدا ينفي الإمكان الذاتي للطيران
بدون الجناح مثلا لكن لا يبعد نفيه بدون لطف المطار والكثير
متى خرق كان المطار لطيفا فافهم. واستدل بالآية على أن العبد
خالق لأفعاله، وأولها القاضي وهو ارتكاب لخلاف الظاهر لغير
دليل.
وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ معطوف على ما مر، وتقديم لَكُمْ على
ما بعده للتشويق والإيذان من أول الأمر بأن هذا الجعل
لمنفعتهم، وقوله تعالى: مِنْ بُيُوتِكُمْ تبيين لذلك المجعول
المبهم في الجملة وتأكيد لما سبق من التشويق والإضافة للعهد أي
من بيوتكم المعهود التي تبنونها من الحجر والمدر والأخشاب
سَكَناً فعل بمعنى مفعول كنقض وأنشد الفراء:
جاء الشتاء ولما أتخذ سكنا ... يا ويح نفسي من حفر القراميص
وليس بمصدر كما ذهب إليه ابن عطية أي موضعا تسكنون فيه وقت
إقامتكم، وجوز أن يكون المعنى تسكنون إليه من غير أن ينتقل من
مكانه أي جعل بعض بيوتكم بحيث تسكنون إليه وتطمئنون به.
وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعامِ بُيُوتاً أي بيوتا
أخر مغايرة لبيوتكم المعهودة وهي القباب المتخذة من الأدم
والظاهر أنه لا يندرج في هذه البيوت البيوت المتخذة من الشعر
والصوف والوبر، وقال ابن سلام وغيره: بالاندراج لأنها من حيث
إنها ثابتة على جلودها يصدق عليها أنها من جلودها. واعترض بأن
مِنْ على الأول تبعيضية وعلى إرادة البيوت التي من الشعر ونحوه
ابتدائية. فإذا عمم ذلك يلزم استعمال المشترك في معنييه وأجيب
بأن القائل بذلك لعله يرى جواز هذا الاستعمال، وممن قال بذلك
البيضاوي وهو شافعي. وقيل: الجلود مجاز عن المجموع
تَسْتَخِفُّونَها أي تجدونها خفيفة سهلة المأخذ فالسين ليست
للطلب بل للوجدان كأحمدته وجدته محمودا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وقت
ترحالكم في النقض والحمل وَيَوْمَ إِقامَتِكُمْ ووقت نزولكم
وإقامتكم في مسايركم حسبما يتفق في الضرب والبناء، وجوز أن
يكون المعنى تجدونها خفيفة في أوقات السفر وفي أوقات الحضر،
واختار ابن المنير الأول وقال: إنه التفسير لأن المنة في خفتها
في السفر أتم وأقوى إذ لا يهم المقيم أمرها، قال في الكشف: وهو
حق، وقال بعض الفضلاء: ينبغي أن يكون الثاني أولى للعموم فإن
حالتي السفر اندرجتا في يوم ظعنكم حيث أريد به مقابل الحضر
والخفة على المقيم نعمة في حقه أيضا فإنه يضربها وقد ينقلها من
مكان إلى مكان قريب لداع يدعو إليه فالأولى أن لا تخلو الآية
عن التعرض لذلك اه ولا يخفى أن الاندراج ظاهر إن أريد بالظعن
مقابل الحضر وأما إذا أريد به مقابل النزول كما سمعت فغير
ظاهر.
نعم يجوز إرادة ذلك، وقرأ الحرميان. وأبو عمرو «ظعنكم» بفتح
العين. وباقي السبعة بسكونها وهما لغتان والفتح على ما في
المعالم أجزلهما، وقيل: الأصل الفتح والسكون تخفيف لأجل حرف
الحلق كالشعر والشعر.
وَمِنْ أَصْوافِها وَأَوْبارِها وَأَشْعارِها عطف على قوله
تعالى: ومِنْ جُلُودِ والضمير للأنعام على وجه التنويع أي وجعل
لكم من أصواف الضأن وأوبار الإبل وأشعار المعز أَثاثاً أي متاع
البيت كالفرش وغيرها كما قال المفضل، قال الفراء: لا واحد له
من لفظه كما أن المتاع كذلك ولو جمعت قلت: أأثثة في القليل
وأثث في الكثير. وقال أبو زيد: واحدة أثاثة وأصله- كما قال
الخليل- من قولهم: أثث النبات والشعر وهو أثيث إذا كثر قال
امرؤ القيس:
وفرع يزين المتن أسود فاحم ... أثيث كقنو النخلة المتعثكل
ونصبه على أنه معطوف على بُيُوتاً مفعول جعل فيكون مما عطف فيه
جار ومجرور مقدم ومنصوب على مثلهما نحو ضربت في الدار زيدا وفي
الحجرة عمرا وهو جائز وليس بمستقبح كما زعم في الإيضاح.
(7/440)
وجوز أن يكون نصبا على الحال فيكون من عطف
الجار والمجرور فقط على مثله أي وجعل لكم من جلود الأنعام
بيوتا ومن أصوافها وأوبارها وأشعارها حال كونها أثاثا. وتعقبه
السمين بأن المعنى ليس على هذا وهو ظاهر.
وَمَتاعاً أي شيثا يتمتع به وينتفع في المتجر والمعاش قاله
المفضل، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما المتاع الزينة،
وقال الخليل: الأثاث والمتاع واحد، والعطف لتنزيل تغاير اللفظ
منزلة تغاير المعنى كما في قوله: وألفى قولها كذبا ومينا.
والأول أولى إِلى حِينٍ إلى انقضاء حاجاتكم منه، وعن مقاتل إلى
بلى ذلك وفنائه وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما إلى الموت،
والكلام في ترتيب المفاعيل مثله فيما مر غير مرة.
وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ من غير صنع منكم
ظِلالًا أشياء تستظلون بها من الغمام والشجر والجبال وغيرها
وهو الذي يقتضيه الظاهر وروي ذلك عن قتادة، وعن ابن عباس رضي
الله تعالى عنهما ومجاهد الاقتصار على الغمام، وعن الزجاج
وقتادة أيضا الاقتصار على الشجر، وعن ابن قتيبة الاقتصار على
الشجر والجبال ولعل كل ذلك من باب التمثيل، وعن ابن السائب أن
المراد ظلال البيوت وهو كما ترى، ومن سبحانه بما ذكر لأن تلك
الديار كانت غالبة الحرارة وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبالِ
أَكْناناً مواضع تستكنون فيها من الغيران ونحوها، والواحد كن
وأصله السترة من أكنه وكنه أي ستره ويجمع على أكنان وأكنة.
وَجَعَلَ لَكُمْ سَرابِيلَ جمع سربال وهو كل ما يلبس أي جعل
لكم لباسا من القطن والكتان والصوف وغيرها تَقِيكُمُ الْحَرَّ
خصه بالذكر كما قال المبرد اكتفاء بذكر أحد الضدين عن الآخر
أعني البرد، ولم يخص هو بالذكر اكتفاء لأن وقاية الحر أهم
عندهم لما مر آنفا.
وقال بعضهم: من الرأس خص الحر بالذكر لأن وقايته أهم. وتعقب
دعوى الأهمية بأنه يبعدها ذكر وقاية البرد سابقا في قوله
تعالى: لَكُمْ فِيها دِفْءٌ ثم قيل: وهذا وجه الاقتصار على
الحر هنا لتقدم ذكر خلافه ثمت.
واعترض بأنا لا نسلم أن إثبات الدفء هناك يبعد دعوى الأهمية بل
في تغاير الأسلوبين ما يشعر بهذه الأهمية، وقال الزجاج: خص
الحر بالذكر لأن ما يقي من الحر يقي من البرد، وذكر ذلك
الزمخشري بعد ذكر الأهمية، وقال في الكشف: هو الوجه، وتخصيص
الحر بالذكر لما قدمه في الوجه الأول يعني الأهمية، وما قيل:
من أولوية الأول لقوله تعالى: مِمَّا خَلَقَ ظِلالًا فليس بشيء
لأنه تعالى عقبه بقوله سبحانه مِنَ الْجِبالِ أَكْناناً كيف
وهو في مقام الاستيعاب اه، وصاحب القيل هو ابن المنير، وقد
اعترض أيضا على قوله: إن ما يقي من الحر يقي من البرد بأنه
خلاف المعروف فإن المعروف أن وقاية الحر رقيق القمصان ورفيعها
ووقاية البرد ضده ولو لبس الإنسان في كل واحد من الفصلين القيظ
والشتاء لباس الآخر لعد من الثقلاء اه فتدبر.
وَسَرابِيلَ من الجواشن والدروع تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ أي البأس
الذي يصل من بعضكم إلى بعض في الحروب من الضرب والطعن، وقال
بعضهم: أصل البأس الشدة وأريد به هنا الحرب، والكلام على حذف
مضاف أي أذى بأسكم، وعلى الأول لا حاجة إليه وقد رجح لذلك
كَذلِكَ أي مثل ذلك الإتمام للنعمة في الماضي يُتِمُّ
نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ في المستقبل، ومن هنا قيل:
كما أحسن الله فيما مضى ... كذلك يحسن فيما بقي
أو مثل هذا الإتمام البالغ يتم نعمته عليكم، وإفراد النعمة إما
لأن المراد بها المصدر أو لإظهار أن ذلك بالنسبة إلى جناب
الكبرياء شيء قليل. وقرأ ابن عباس «تتم» بتاء مفتوحة و «نعمته»
الرفع على الفاعلية وإسناد التمام إليها على الاتساع، وعنه
أيضا رضي الله تعالى عنه «نعمه» بصيغة الجمع لَعَلَّكُمْ
تُسْلِمُونَ أي إرادة أن تنظروا فيما أسبغ
(7/441)
عليكم من النعم فتعرفوا حق منعمها فتؤمنوا
به تعالى وحده وتذروا ما كنتم به تشركون على أن الإسلام بمعناه
المعروف أي رديف الإيمان، ويجوز أن يكون بمعناه اللغوي وهو
الاستسلام والانقياد أي لعلكم تستسلمون له سبحانه وتنقادون
لأمره عز وجل، وأيّا ما كان فهو موضوع موضع سببه كما أشير إليه
أو مكنى به عنه.
وقرأ ابن عباس رضي الله تعالى عنهما «تسلمون» بفتح التاء
واللام من السلامة أي تشكرون فتسلمون من العذاب أو تنظرون فيها
فتسلمون من الشرك، وقيل: تسلمون من الجراح بلبس تلك السرابيل،
ولا بأس أن يفسر ذلك بالسلامة من الآفات مطلقا ليشمل آفة الحر
والبرد، والأقرب إلى معنى قراءة الجمهور التفسير الثاني.
هذا وفي بعض الآثار أن أعرابيا سمع قوله تعالى: وَاللَّهُ
جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَناً إلى آخر الآيتين فقال
عند كل نعمة: اللهم نعم فلما سمع قوله سبحانه: لَعَلَّكُمْ
تُسْلِمُونَ اللهم هذا فلا فنزلت فَإِنْ تَوَلَّوْا فعل ماض
على طريقة الالتفات من الخطاب إلى الغيبة وتوجيه الكلام إلى
رسول الله صلى الله عليه وسلم تسلية له عليه الصلاة والسلام أي
فإن داموا على التولي والإعراض وعدم قبول ما ألقي إليهم من
البينات فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ الْمُبِينُ أي فلا يضرك
لأن وظيفتك هي البلاغ الموضح أو الواضح وقد فعلته بما لا مزيد
عليه فهو من باب وضع السبب موضع المسبب، وقال ابن عطية: تقدير
المعنى إن أعرضوا فلست بقادر على خلق الإيمان في قلوبهم فإنما
عليك البلاغ لا خلق الإيمان، وجوز أن يكون تَوَلَّوْا مضارعا
حذفت إحدى تاءيه وأصله تتولوا فلا التفات لكن قيل عليه: إنه لا
يظهر حينئذ ارتباط الجزاء بالشرط إلا بتكلف ولذا لم يلتفت إليه
بعض المحققين، وفي التعبير بصيغة التفعيل إشارة كما قيل إلى أن
الفطرة الأولى داعية إلى الإقبال على الله تعالى والإعراض لا
يكون إلا بنوع تكلف ومعالجة يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ
استئناف لبيان أن تولي المشركين وإعراضهم عن الإسلام ليس لعدم
معرفتهم نعمة الله سبحانه أصلا فإنهم يعرفونها أنها من الله
تعالى ثُمَّ يُنْكِرُونَها بأفعالهم حيث لم يفردوا منعمها
بالعبادة فكأنهم لم يعبدوه سبحانه أصلا وذلك كفران منزل منزلة
الإنكار.
وأخرج ابن جرير وغيره عن مجاهد أنه قال: إنكارهم إياها قولهم:
ورثناها من آبائنا، وأخرج هو وغيره أيضا عن عون بن عبد الله
أنه قال: إنكارهم إياها أن يقول الرجل: لولا فلان أصابني كذا
وكذا ولولا فلان لم أصب كذا وكذا وفي لفظ إنكارها إضافتها إلى
الأسباب. وقيل: قولهم هي بشفاعة آلهتهم عند الله تعالى، وحكى
صاحب الغنيان يعرفونها في الشدة ثم ينكرونها في الرخاء، وقيل:
يعرفونها بقلوبهم ثم ينكرونها بألسنتهم.
وأخرج ابن المنذر وغيره عن السدي أنه قال النعمة هنا محمد صلى
الله عليه وسلم ورجح ذلك الطبري أي يعرفون أنه عليه الصلاة
والسلام نبي بالمعجزات ثم ينكرون ذلك ويجحدونه عنادا، وفي لفظ
ابن أبي حاتم أنه قال هذا في حديث أبي جهل والأخنس حين سأل
الأخنس أبا جهل عن محمد صلى الله عليه وسلم فقال: هو نبي.
ومعنى ثُمَّ الاستبعاد الإنكار بعد المعرفة لأن حق من عرف
النعمة الاعتراف بها وأداء حقها لا إنكارها، وإسناد المعرفة
والإنكار المتفرع عليها إلى ضمير المشركين على الإطلاق من باب
إسناد حال البعض إلى الكل فإن بعضهم ليسوا كذلك كما هو ظاهر
قوله سبحانه: وَأَكْثَرُهُمُ الْكافِرُونَ أي المنكرون بقلوبهم
غير المعترفين بما ذكر، والحكم عليهم بمطلق الكفر المؤذن
بالكمال من حيث الكمية لا ينافي كمال الفرقة الأولى من حيث
الكيفية كذا قيل، وجوز أن يكون الإسناد السالف على ظاهره
والمراد أن أكثرهم المصرون الثابتون على كفرهم إلى يوم يلقونه
فالتعبير بالأكثر لعلمه تعالى أن منهم من يؤمن، وقيل: المعنى
وأكثرهم الجاحدون عنادا، والتعبير بالأكثر إما لأن بعضهم لم
يعرف الحق لنقصان عقله وعدم اهتدائه إليه أو لعدم نظره في
الأدلة نظرا يؤدي إلى المطلوب أو لأنه لم يقم عليه الحجة لكونه
لم يصل إلى حد المكلفين لصغر ونحوه وإما لأنه يقام مقام الكل
فتأمل.
(7/442)
وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ
جماعة من الناس شَهِيداً يشهد لهم بالإيمان والطاعة وعليهم
بالكفر والعصيان، والمراد به كما روى ابن المنذر. وغيره عن
قتادة نبي تلك الأمة ثُمَّ لا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا أي
في الاعتذار كما قال سبحانه: هذا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ وَلا
يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ [المرسلات: 34، 35] والظاهر
أنهم يستأذنون في ذلك فلا يؤذن لهم، ويحتمل أنهم لا استئذان
منهم ولا إذن إذ لا حجة لهم حتى تذكر ولا عذر حتى يعتذر. وقال
أبو مسلم:
المعنى لا يسمع كلامهم بعد شهادة الشهداء ولا يلتفت إليه كما
في قول عدي بن زيد:
في سماع يأذن الشيخ له ... وحديث مثل ما ذي مشار
وقيل: لا يؤذن لهم في الرجوع إلى دار الدنيا، والأول مروي عن
ابن عباس وأبي العالية وثم للدلالة على أن ابتلاءهم بعدم الأذن
المنبئ عن الاقناط الكلي وذلك عند ما يقال لهم. اخسئوا فيها
ولا تكلمون أشد من ابتلائهم بشهادة الأنبياء عليهم السلام فهي
للتراخي الرتبي وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ أي لا يطلب منهم أن
يزيلوا عتب ربهم أي غضبه بالتوبة والعمل الصالح إذ الآخرة دار
الجزاء لا دار العمل والرجوع إلى الدنيا مما لا يكون، وقول
الزمخشري: أي لا يقال لهم: ارضوا ربكم تفسير باللازم، وقيل:
المعنى ولا يطلب رضاهم في أنفسهم بالتلطف بهم من استعتبه
كأعتبه إذا أعطاه العتبى وهي الرضا وأيّا ما كان فالمراد
استمرار النفي لا نفي الاستمرار، وانتصاب الظرف على ما قال
الحوفي. وغيره بمحذوف تقديره اذكر وقدره بعضهم خوفهم وهو في
ذلك مفعول به، وقيل: وهو نصب على الظرفية بمحذوف أي يوم نبعث
يحيق بهم ما يحيق، وقال الطبري: هو معطوف على ظرف محذوف العامل
فيه ينكرونها أي ثم ينكرونها اليوم ويوم نبعث من كل أمة شهيدا
فيشهد عليهم ويكذبهم وليس بشيء وتجري هذه الاحتمالات في قوله
تعالى: وَإِذا رَأَى الَّذِينَ ظَلَمُوا الْعَذابَ أي الذي
يستوجبونه بظلمهم وهو عذاب جهنم، والمراد من الذين ظلموا الذين
كفروا وكان الظاهر الضمير إلا أنه أقيم المظهر مقامه للنعي
عليهم بما ذكر في حيز الصلة وتعليق الرؤية بالعذاب للمبالغة،
وقيل: المراد به جهنم نفسها مجازا، ويراد بضميره في قوله
تعالى: فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ معناه الحقيقي على سبيل
الاستخدام وليس بذاك وهذه الجملة قيل: مستأنفة، وقيل: جواب إذا
بتقدير فهو لا يخفف لأن المضارع مثبتا كان أو منفيا إذا وقع
جواب إذا لا يقترن بالفاء، واستظهره ذلك أبو حيان ونقل عن
الحوفي القول بأنه جواب وأنه العامل في إِذا ثم قال: وقد تقدم
لنا أن ما تقدم فاء الجواب في غير أما لا يعمل فيما قبله وبينا
أن العامل في إِذا الفعل الذي يليها كسائر أدوات الشرط وإن كان
ليس قول الجمهور وتعقب الخفاجي القول بالجوابية بأنه محتاج إلى
ما سمعت من التقدير وهو مع كونه خلاف الأصل مناف للغرض في
تغاير الجملتين في النظم يعني قوله تعالى: فَلا يُخَفَّفُ
عَنْهُمْ وقوله سبحانه: وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ أي يمهلون وهو
أن عدم التخفيف واقع بعد رؤية العذاب فلذا لم يؤت بجملة اسمية
بخلاف عدم الإمهال فإنه ثابت لهم في تلك الحالة اه.
وفي كلام الزمخشري كما في الكشف إشعار بأن الناصب المحذوف لإذا
بغتهم وإنه هو الجواب حيث قال بعد أن بين وجه انتصاب اليوم
وكذلك إذا رأوا العذاب بغتهم وثقل عليهم فلا يخفف عنهم ولا هم
ينظرون كقوله تعالى: بَلْ تَأْتِيهِمْ بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ
[الأنبياء: 40] الآية، وفيه إشعار أيضا بأن عدم التخفيف
والإنظار يدل على إثقاله ومباغته كما صرح به في الآية الأخرى
حيث أبت الإتيان بغتة والبهت الذي هو الإثقال وزيادة ورتب عليه
«فلا يستطيعون ردها ولا هم ينظرون» ومثل هذه الفاء فصيحة عنده
فافهم، وفي التفسير الكبير قال المتكلمون إن العذاب يجب أن
يكون خالصا عن شوائب النفع وهو المراد بقوله تعالى: فَلا
يُخَفَّفُ عَنْهُمْ ويجب أن يكون دائميا وهو المراد من قوله
سبحانه: وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ وفيه نظر.
(7/443)
وَإِذا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا
شُرَكاءَهُمْ الذين كانوا يزعمونهم شركاء لله سبحانه وتعالى
ويعبدونهم معه عز وجل والمراد بهم كل من اتخذوه شريكا له جبل
وعلا من صنم ووثن وشيطان وآدمي وملك وإضافتهم إلى ضمير
المشركين لهذا الاتخاذ، وقيل: أريد بهم معبوداتهم الباطلة كما
تقدم. والإضافة إليهم لأنهم جعلوا لهم نصيبا من أموالهم
وأنعامهم، واقتصر بعضهم على الأصنام ولعل التعميم أولى، وقال
الحسن: شركاؤهم الشياطين شركوهم في الأموال والأولاد، وقيل:
شركوهم في الكفر أي كفروا مثل كفرهم، وقيل: شركوهم في وبال ذلك
حيث حملوهم عليه قالُوا أي بألسنتهم وقيل: ختم الله تعالى على
أفواههم وأنطق جوارحهم فقالت عنهم رَبَّنا هؤُلاءِ شُرَكاؤُنَا
الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُوا مِنْ دُونِكَ أي نعبدهم ونطيعهم
ولعلهم قالوا ذلك طمعا في توزيع العذاب بينهم. واعترض بأنه لا
يناسب تفسير الشركاء بالأصنام وفيه أنها تجيء على حالة يعقل
معها عذابها فلا بأس في ذلك سواء فسرت الشركاء بالأصنام فقط أو
بما يعمها وغيرها، وقال أبو مسلم: مقصودهم من ذلك إحالة الذنب
على الشركاء ظنا منهم أن ذلك ينجيهم من عذاب الله تعالى أو
ينقص من عذابهم شيئا.
وتعقبه القاضي بأنه بعيد لأن الكفار يعلمون علما ضروريا في
الآخرة أن العذاب سينزل بهم ولا نصرة ولا فدية ولا شفاعة،
وأورد نحوه على ما ذكرنا بناء على أنهم يعلمون ضروريا أيضا أنه
لا يحمل أحد من عذابهم شيئا.
وأجيب بأنه على تقدير تسليم حصول العلم الضروري لهم بذلك إذ
ذاك يجوز أن يدهشوا فيغفلوا عن ذلك فيقولوا ما يقولون طامعين
فيما ذكر وهو نظير قولهم: «ربنا خفف عنا يوما من العذاب. يا
مالك ليقض علينا ربك. ربنا أخرجنا نعمل صالحا» إلى غير ذلك مما
لهم على ضروري عند بعضهم بأنه لا يكون. وقيل: القوم مع علمهم
بأن ما يرجونه ويطمعون فيه لا يحصل لهم أصلا وعدم غفلتهم عن
ذلك تغلبهم أنفسهم بمقتضى الطبيعة لشدة ما هم فيه والعياذ
بالله تعالى حتى تعلق آمالها بالمحال، وقيل: قالوا ذلك اعترافا
بأنهم كانوا مخطئين في عبادتهم. وتعقب بأنه لا يناسب قوله
تعالى: «من دونك» وفيه تأمل. نعم قوله تعالى: فَأَلْقَوْا أي
شركاؤهم إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكاذِبُونَ أظهر
ملاءمة للأول فإن تكذيبهم إياهم فيما قالوا ظاهر في كونه
للمدافعة والتخلص عن غائلة مضمونه والظاهر أن التكذيب راجع إلى
دعوى أنهم كانوا يعبدونهم أو يطيعونهم من دون الله تعالى
ومرادهم على ما قيل: إنكم ما عبدتمونا حقيقة وإنما عبدتم أشياء
تصورتموها بأذهانكم الفاسدة وزعمتم أنا هاتيك الأشياء وهيهات
هيهات ليس بيننا وبينها جهة جامعة ولا علاقة نافعة، وقيل: إنما
كذبوهم وقد كانوا يعبدونهم لأن الأوثان ما كانوا راضين
بعبادتهم لهم فكأن عبادتهم لم تكن عبادة لهم كما قالت الملائكة
عليهم السلام: «بل كانوا يعبدون الجن» يعنون أن الجن هم الذين
كانوا راضين بعبادتهم لا نحن، والشياطين وإن كانوا راضين
بعبادتهم لهم لكنهم لم يكونوا حاملين لهم على وجه القسر
والإلجاء كما قال إبليس: وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ
سُلْطانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي
[إبراهيم: 22] فكأنهم قالوا: ما عبدتمونا حقيقة وإنما عبدتم
أهواءكم، وقيل: يجوز أن يكون الشياطين كاذبين في إخبارهم بكذب
من عبدهم كما كذب إبليس عليه اللعنة في قوله: إِنِّي كَفَرْتُ
بِما أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ
[إبراهيم: 22] وجوز أن يكون التكذيب راجعا إلى أنهم شركاء لله
سبحانه لا إلى أنهم كانوا يعبدونهم ومرادهم تنزيه الله جل وعلا
عن الشريك في ذلك الموقف، وخص هذا بعضهم بتقدير إرادة الشياطين
من الشركاء فافهم، والظاهر أن قائل هذا جميع الشركاء ولا يمنع
من ذلك تفسيره بما يعم الأصنام إذ لا بعد في أن ينطقها الله
تعالى الذي أنطق كل شيء بذلك، وجوز على التعميم أن يكون القائل
بعضهم وهو من يعقل منهم وكان الظاهر- فقالوا لهم إنكم لكاذبون-
إلا أنه عدل إلى ما في النظم الكريم للإشارة إلى أنهم قالوا
ذلك لهم على وجه الإفصاح بحيث يدرك ويمتاز عن غيره، وفيه من
الإشعار بالحرص على
(7/444)
تكذيبهم ما فيه، ويؤيد ذلك تأكيدهم الملة
الدالة على تكذيبهم أتم تأكيد، وهي في موضع البدل من القول كما
قال الإمام أي ألقوا إليهم أنكم لكاذبون وَأَلْقَوْا أي الذين
أشركوا، وقيل: هم وشركاؤهم جميعا، والأكثرون على الأول إِلَى
اللَّهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ الاستسلام والانقياد لحكمه تعالى
العزيز الغالب بعد الإباء والاستكبار في الدنيا فلم يكن لهم إذ
ذاك حيلة ولا دفع. وروى يعقوب عن أبي عمرو وأنه قرأ «السّلم»
بإسكان اللام، وقرأ مجاهد السلم بضم السين واللام وَضَلَّ
عَنْهُمْ ضاع وبطل ما كانُوا يَفْتَرُونَ من الله سبحانه شركاء
وأنهم ينصرونهم ويشفعون لهم حين سمعوا ما سمعوا.
هذا ومن باب الإشارة في الآيات: ثُمَّ إِذا كَشَفَ الضُّرَّ
عَنْكُمْ إِذا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ بنسبة
ذلك إلى غيره سبحانه ورؤيته منه لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ
من النعمة بالغفلة عن منعمها فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ
تَعْلَمُونَ وبال ذلك أو فسوف تعلمون بظهور التوحيد أن لا
تأثير لغيره تعالى في شيء وَيَجْعَلُونَ لِما لا يَعْلَمُونَ
فيعتقدون فيه من الجهالات ما يعتقدون وهو السوي نَصِيباً
مِمَّا رَزَقْناهُمْ فيقولون هو أعطاني كذا ولو لم يعطني لكان
كذا وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ
مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَناً
خالِصاً سائِغاً لِلشَّارِبِينَ الإشارة فيه على ما في أسرار
القرآن إلى ما تشربه الأرواح مما يحصل في العقول الصافية بين
النفس والقلب من زلال بحر المشاهدة وهناك منازل اعتبار
المعتبرين، والإشارة في قوله تعالى: وَمِنْ ثَمَراتِ
النَّخِيلِ وَالْأَعْنابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً
وَرِزْقاً حَسَناً على ما في أيضا إلى ما تتخذه الأرواح
والأسرار من ثمرات نخيل القلوب وأعناب العقول من خمر المحبة
والأنس الآخذة بها إلى حضيرة القدس:
ولو نضحوا منها ثرى قبر ميت ... لعادت إليه الروح وانتعش الجسم
وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ قيل أي نحل الأرواح أَنِ
اتَّخِذِي مِنَ الْجِبالِ أي جبال أنوار الذات بُيُوتاً مقار
لتسكنين فيها وَمِنَ الشَّجَرِ أي ومن أشجار أنوار الصفات
وَمِمَّا يَعْرِشُونَ أنوار عروش الأفعال ثُمَّ كُلِي مِنْ
كُلِّ الثَّمَراتِ أي من ثمرات تلك الأشجار الصفاتية ونور بهاء
الأنوار الذاتية وأزهار الأنوار الإفعالية فَاسْلُكِي سُبُلَ
رَبِّكِ وهي صحارى قدسه تعالى وبراري جلاله جل شأنه ذُلُلًا
منقادة لما أمرت به يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِها شَرابٌ وهو شراب
معرفته تعالى بقدم جلاله وعز بقائه وتقدس ذاته سبحانه
مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ باختلاف الثمرات فِيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ
لكل مريض المحبة وسقيم الإلفة ولديغ الشوق، وقيل: الإشارة
بالنحل إلى الذين هم في مبادي السلوك من أرباب الاستعداد، ومن
هنا قال الشيخ الأكبر قدس سره في مولانا ابن الفارض قدس سره
حين سئل عنه: نحلة تدندن حول الحمى أمرهم الله تعالى أولا أن
يتخذوا مقار من العقائد الدينية التي هي كالجبال في الرسوخ،
الثبات ومن العبادات الشرعية التي هي كالشجر في التشعب ومن
المعاملات المرضية التي هي كالعروش في الارتفاع ثم يسلكوا سبله
سبحانه وطرقه الموصلة إليه جل شأنه من تهذيب الباطن والمراقبة
والفكر ونحو ذلك متذللين خاضعين غير معجبين، وفي ذلك إشارة إلى
أن السلوك إنما يصح بعد تصحيح العقائد ومعرفة الأحكام الشرعية
ليكون السالك على بصيرة في أمره وإلا فهو كمن ركب متن عمياء
وخبط خبط عشواء، ومتى سلك على ذلك الوجه حصل له الفوز بالمطلوب
وتفجرت ينابيع الحكمة من قلبه وصار ما يقذف به قلبه كالعسل
شفاء من علل الشهوات وأمراض النفس لا سيما مرض التثبط والتكاسل
عن العبادة وهو المرض البلغمي.
وقال أبو بكر الوراق: النحلة لما اتبعت الأمر وسلكت سبل ربها
على ما أمرت به جعل لعابها شفاء للناس كذلك المؤمن إذا اتبع
الأمر وحفظ السر وأقبل على ربه عز وجل جعل رؤيته وكلامه
ومجالسته شفاء للخلق فمن نظر إليه
(7/445)
اعتبر ومن سمع كلامه اتعظ ومن جالسه سعد
انتهى. وفي الآية إشارة أيضا إلى أنه تعالى قد يودع الشخص
الحقير الشيء العزيز فإنه سبحانه أودع النحل وهي من أحقر
الحيوانات وأضعفها العسل وهو من ألذ المذوقات وأحلاها فلا
ينبغي التقيد بالصور والاحتجاب بالهيئات،
وفي الحديث «رب أشعث أغبر ذي طمرين لو اقسم على الله تعالى
لأبره»
وعن يعسوب المؤمنين على كرم الله تعالى وجهه لا تنظر إلى من
قال وانظر إلى ما قال
وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ قيل
الإشارة فيه إلى تفاوت أرزاق السالكين فرزق بعضهم طاعات، وبعض
آخر مقامات وبعض حالات وبعض مكاشفات وبعض مشاهدات وبعض معرفة
وبعض محبة وبعض توحيد إلى غير ذلك، وذكروا أن رزق الأشباح
العبودية ورزق الأرواح رؤية أنوار الربوبية ورزق العقول
الأفكار ورزق القلوب الأذكار ورزق الأسرار حقائق العلوم
الغيبية المكشوفة لها في مجالس القرب ومشاهدة الغيب فَلا
تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثالَ لتقدسه تعالى عن الأوهام
والإشارات والعبارات وتنزهه سبحانه عن درك الخليقة فإن الخلق
لا يدرك إلا خلقا، ولذا
قال علي كرم الله تعالى وجهه: إنما تحد الأدوات أنفسها وتشير
الآلات إلى نظائرها فلا يعرف الله تعالى إلا الله عز وجل
وعلل النهي بقوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا
تَعْلَمُونَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْداً مَمْلُوكاً محبا
لغير الله تعالى ولا شك أن المحب أسير بيد المحبوب لا يقدر على
شيء لأنه مقيد بوثاق المحبة وَمَنْ رَزَقْناهُ مِنَّا رِزْقاً
حَسَناً فجعلناه محبا لنا مقبلا بقلبه علينا متجردا عما سوانا
وآتيناه من لدنا علما فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وذلك من
النعم الباطنة وَجَهْراً وذلك من النعم الظاهرة وَضَرَبَ
اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُما أَبْكَمُ لا استعداد
فيه للنطق وهو مثل المشرك لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ لعدم
استطاعته وقصور قوته للنقص اللازم لاستعداده وَهُوَ كَلٌّ عَلى
مَوْلاهُ لعجزه بالطبع عن تحصيل حاجة أَيْنَما يُوَجِّهْهُ لا
يَأْتِ بِخَيْرٍ لعدم استعداده وشرارته بالطبع فلا يناسب إلا
الشر الذي هو العدم هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ
بِالْعَدْلِ وهو الموحد القائم بالله تعالى الفاني عن غيره،
والعدل على ما قيل: ظل الوحدة في عالم الكثيرة وَهُوَ عَلى
صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ صراط العزيز الحميد الذي عليه خاصته تعالى
من أهل البقاء بعد الفناء الممدود على نار الطبيعة لأهل
الحقيقة يمرون عليه كالبرق اللامع وَلِلَّهِ غَيْبُ
السَّماواتِ وَالْأَرْضِ علم مراتب الغيوب أو ما غاب من
حقيقتهما أو ما خفي فيهما من أمر القيامة الكبرى وَما أَمْرُ
السَّاعَةِ أي القيامة الكبرى بالقياس إلى الأمور الزمانية
إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ وهو بناء على
التمثيل وإلا فقد قيل: إن أمر الساعة ليس بزماني وما كان كذلك
يدركه من يدركه لا في الزمان إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ
قَدِيرٌ ومن ذلك أمر الساعة وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ
بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً الآية، قال في
أسرار القرآن: أخبر سبحانه أنه أخرجهم من بطون الأقدار وأرحام
العدم وأصلاب المشيئة على نعت الجهل لا يعلمون شيئا من أحكام
الربوبية وأمور العبودية وأوصاف الأزل فالبسهم أسماعا من نور
سمعه وكساهم أبصارا من نور بصره وأودع في قلوبهم علوم غيبته
لعلهم يشكرونه انتهى. وهو ظاهر في أن المراد بالأفئدة القلوب.
وذكر بعض من أدركناه من المرتاضين في كتابه الفوائد وشرحه أن
مشاعر الإنسان الصدر، والمراد به الخيال والنفس الكلية التي هي
محل الصور العلمية كلية أو جزئية فهو محل العلم المقابل للجهل،
والقلب وهو محل المعاني واليقين بالنسب الحكمية ويقابله الشك
والريب، والفؤاد وهو محل المعارف الإلهية المجرد عن جميع الصور
والنسب والأوضاع والإشارات والجهات والأوقات ويقابلها الإنكار
وهو أعلى المشاعر، ونور الله تعالى المشار إليه
بقوله صلى الله عليه وسلم: «اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور
الله تعالى»
وهو الوجود لأنه الجهة العليا من الإنسان أعني وجهه من جهة ربه
وبه يعرف الله تعالى وهو في الإنسان بمنزلة الملك في المدينة
والقلب بمنزلة الوزير له انتهى، وله أيضا كلام
(7/446)
|