روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني وَإِنْ كَادُوا
لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ
لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذًا لَاتَّخَذُوكَ
خَلِيلًا (73) وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ
تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا (74) إِذًا
لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ
لَا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا (75) وَإِنْ كَادُوا
لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا
وَإِذًا لَا يَلْبَثُونَ خِلَافَكَ إِلَّا قَلِيلًا (76)
سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنَا وَلَا
تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلًا (77) أَقِمِ الصَّلَاةَ
لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ
الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا (78)
وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ
يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا (79) وَقُلْ رَبِّ
أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ
وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَانًا نَصِيرًا (80) وَقُلْ
جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ
زَهُوقًا (81) وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ
وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ
إِلَّا خَسَارًا (82) وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنْسَانِ
أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ كَانَ
يَئُوسًا (83) قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ
فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَى سَبِيلًا (84)
وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ
رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا (85)
وَلَئِنْ شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا
إِلَيْكَ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنَا وَكِيلًا (86)
إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّ فَضْلَهُ كَانَ عَلَيْكَ
كَبِيرًا (87) قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ
عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ
بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا (88)
وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ
كُلِّ مَثَلٍ فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا (89)
وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ
الْأَرْضِ يَنْبُوعًا (90) أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ
نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهَارَ خِلَالَهَا
تَفْجِيرًا (91) أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ
عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ
قَبِيلًا (92) أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ
تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى
تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ
رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا (93) وَمَا مَنَعَ
النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى إِلَّا أَنْ
قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولًا (94) قُلْ لَوْ
كَانَ فِي الْأَرْضِ مَلَائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ
لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ مَلَكًا رَسُولًا
(95) قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ
إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا (96) وَمَنْ
يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ
تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِهِ وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ
الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا
مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا
(97) ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا
وَقَالُوا أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَإِنَّا
لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا (98) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ
اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ قَادِرٌ
عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلًا لَا
رَيْبَ فِيهِ فَأَبَى الظَّالِمُونَ إِلَّا كُفُورًا (99) قُلْ
لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذًا
لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفَاقِ وَكَانَ الْإِنْسَانُ
قَتُورًا (100) وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ
بَيِّنَاتٍ فَاسْأَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِذْ جَاءَهُمْ
فَقَالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا مُوسَى
مَسْحُورًا (101) قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ
هَؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ
وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا (102)
فَأَرَادَ أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ مِنَ الْأَرْضِ
فَأَغْرَقْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ جَمِيعًا (103) وَقُلْنَا مِنْ
بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ اسْكُنُوا الْأَرْضَ فَإِذَا
جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفًا (104)
وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ وَمَا
أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (105) وَقُرْآنًا
فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ
وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا (106) قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لَا
تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ
إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا
(107) وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ
رَبِّنَا لَمَفْعُولًا (108) وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ
يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا (109) قُلِ ادْعُوا اللَّهَ
أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ
الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا
تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا (110)
وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا
وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ
وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا (111)
أي من جهة العقل الذي هو أقوى جانبيه
فَأُولئِكَ يَقْرَؤُنَ كِتابَهُمْ ويأخذون أجور أعمالهم
المكتوبة فيه وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا أدنى شيء حقير من ذلك
وَمَنْ كانَ فِي هذِهِ أَعْمى عن الاهتداء إلى الحق فهو في
الآخرة أعمى أيضا وَأَضَلُّ سَبِيلًا لبطلان الكسب هناك وهذا
الذي يؤتى كتابه بشماله أي من جهة النفس التي هي أضعف جانبيه
إلا أنه عبر عنه بما ذكر لما قدمنا، والله تعالى هو الهادي إلى
سواء السبيل، ثم إنه عز وجل لما عدد نعمه على بني آدم ثم ذكر
حالهم في الآخرة وانقسامهم إلى قسمين سعداء وأشقياء أتبع ذلك
بذكر بعض مساوئ بعض الأشقياء في الدنيا من المكر والخداع
والتلبيس على سيد أهل السعادة المقطوع له بالعصمة صلّى الله
عليه وسلّم وفي ذلك إشارة إلى أنهم داخلون فيمن عمي عن
الاهتداء في الدنيا دخولا أوليا فقال سبحانه وتعالى:
(8/121)
وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ قيل نزلت في
ثقيف قالوا للنبي صلّى الله عليه وسلّم: لا ندخل في أمرك حتى
تعطينا خصالا نفتخر بها على العرب لا نعشر ولا نحشر ولا ننحني
في الصلاة وكل ربا لنا فهو لنا وكل ربا علينا فهو موضوع عنا
وأن تمتعنا باللات سنة وأن تحرم وادينا كما حرمت مكة فإن قالت
العرب: لم فعلت ذلك؟ فقل: إن الله تعالى أمرني، وروى ذلك
الثعلبي عن ابن عباس
ولم يذكر له سندا.
وقال العراقي فيه: إنا لم نجده في كتب الحديث ونقله الزمخشري
بزيادة، ونقل غيره أنهم طلبوا ثلاث خصال عدم التجبية في الصلاة
وكسر أصنامهم بأيديهم وتمتيعهم باللات سنة من غير أن يعبدوها
بل ليأخذوا ما يهدى لها
فقال صلّى الله عليه وسلّم: «لا خير في دين لا ركوع فيه ولا
سجود» وأما كسر أصنامكم بأيديكم فذلك لكم وأما الطاغية اللات
فإني غير
(8/122)
ممتعكم بها» وقام رسول الله صلّى الله عليه
وسلّم فقال عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه: ما بالكم آذيتم
رسول الله عليه الصلاة والسلام أنه لا يدع الأصنام في أرض
العرب فما زالوا به حتى أنزل الله تعالى الآية.
وأخرج ابن أبي إسحق وابن مردويه وغيرهما عنه رضي الله تعالى
عنه أن أمية بن خلف. وأبا جهل. ورجالا من قريش أتوا رسول الله
صلّى الله عليه وسلّم فقالوا: تعال فتمسح بآلهتنا وندخل معك في
دينك وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يشتد عليه فراق قومه
ويحب إسلامهم فرق لهم فأنزل الله تعالى هذه الآية إلى قوله
سبحانه: نَصِيراً، وأخرج ابن مردويه من طريق الكلبي عن باذان
عن جابر بن عبد الله مثله.
وأخرج ابن أبي حاتم عن جبير بن نفير أن قريشا أتوا النبي صلّى
الله عليه وسلّم فقالوا له: إن كنت أرسلت إلينا فاطرد الذين
اتبعوك من سقّاط الناس ومواليهم لنكون نحن أصحابك فنزلت
،
وقيل: إنهم قالوا له عليه الصلاة والسلام: اجعل لنا آية رحمة
آية عذاب. وآية عذاب آية رحمة حتى نؤمن بك فنزلت.
وفي ذلك روايات أخر مختلفة أيضا وفي بعضها ما لا يصح نسبته إلى
الرسول صلّى الله عليه وسلّم ولا يكاد يؤول وذلك يدل على الوضع
والتفسير لا يتوقف على شيء من ذلك، وأيّا ما كان فضمير الجمع
للكفار وهم إما ثقيف أو قريش، وإِنْ مخففة من المثقلة واسمها
ضمير شان مقدر واللام هي الفارقة بين المخففة وغيرها أي إن
الشان قاربوا في ظنهم أن يوقعوك في الفتنة صار فيك عَنِ
الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ من الأوامر والنواهي والوعد
والوعيد لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنا غَيْرَهُ لتتقول علينا غير الذي
أوحيناه إليك مما اقترح عليك ثقيف من تحريم وج مثلا أو قريش من
جعل آية الرحمة آية عذاب وبالعكس، وقيل: المعنى لتحل محل
المفتري علينا لأنك إن اتبعت أهواءهم أو همت أنك تفعل ذلك عن
وحينا لأنك رسولنا فكنت كالمفتري.
وَإِذاً لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا أي لو فعلت ليتخذنك صديقا لهم،
وكان المراد ليكونن بينك وبينهم مخالة وصداقة وهم أعداء الله
تعالى فمخالتهم تقتضي الانقطاع عن ولايته عز وجل كما قيل:
إذا صافى صديقك من تعادي ... فقد عاداك وانقطع الكلام
وقيل: الخليل هذا من الخلة بمعنى الحاجة أي لاتخذوك فقيرا
محتاجا إليهم وهو كما ترى وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْناكَ أي لولا
تثبيتنا إياك على ما أنت عليه من الحق بعصمتنا لك لَقَدْ
كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلًا من الركون الذي
هو أدنى ميل، وأصله الميل إلى ركن، وذكروا. نه إذا أطلق يقع
على أدنى الميل، ونصب شَيْئاً على المصدرية أي لولا ذلك لقاربت
أن تميل إليهم شيئا يسيرا من الميل اليسير لقوة خدعهم وشدة
احتيالهم لكن أدركتك العصمة فمنعتك من أن تقرب أدنى الأدنى من
الميل إليهم فضلا عن نفس الميل إليهم، وهذا صريح في أنه صلّى
الله عليه وسلّم لم يهم بإجابتهم ولم يكد، وبه يرد على من زعم
أنه عليه الصلاة والسلام هم فمنعه نزول الآية وكأنه غره ظواهر
بعض الروايات في بيان سبب النزول كرق في رواية ابن إسحاق ومن
معه عن الحبر ولا يخفى أن في قوله سبحانه إِلَيْهِمْ دون إلى
إجابتهم ما يقوي الدلالة على أنه عليه الصلاة والسلام بمعزل عن
الإجابة في أقصى الغايات، وهذا الذي ذكر في معنى الآية هو
الظاهر المتبادر للأفهام وذهب ابن الأنباري إلى أن المعنى لقد
كادوا أن يخبروا عنك أنك ركنت إليهم ونسب فعلهم إليه عليه
الصلاة والسلام مجازا واتساعا كما تقول للرجل كدت تقتل نفسك أي
كاد الناس يقتلونك بسبب ما فعلت وهو من الألغاز المستغنى عنه.
واستدل بالآية على أن العصمة بتوفيق الله تعالى وعنايته.
وقرأ قتادة وابن أبي إسحق وابن مصرف «تركن» بضم الكاف مضارع
ركن بفتحها وهو على قراءة الجمهور
(8/123)
مضارع ركن بكسر الكاف، وقيل: بفتحها أيضا
وجعل ذلك من تداخل اللغتين إِذاً أي لو قاربت أن تركن إليهم
أدنى ركنة لَأَذَقْناكَ ضِعْفَ الْحَياةِ أي مضاعف الحياة وهو
صفة محذوف والإضافة على معنى في أو للملابسة أي عذابا مضاعفا
في الحياة، والمراد بها الحياة الدنيا لأنه المتبادر عند إطلاق
لفظها وكذا يقال في قوله تعالى: وَضِعْفَ الْمَماتِ أي وعذابا
ضعفا في الممات، والمراد به ما يشمل العذاب في القبر وبعد
البعث، واستسهل بعض المحققين أن يكون التقدير من أول الأمر
لأذقناك ضعف عذاب الحياة وضعف عذاب الممات وتكون الإضافة لامية
والقرينة على تقدير العذاب لَأَذَقْناكَ والمعنى لو قاربت ما
ذكرنا لنضاعفن لك العذاب المعجل للعصاة في الحياة الدنيا
والعذاب المؤجل لهم بعد الموت.
وقيل المراد بالحياة حياة الآخرة وبعذاب الممات ما يكون في
القبر وأمر الإضافة والتقدير على حاله، والمعنى لو قاربت
لنضاعفن لك عذاب القبر وعذاب يوم القيامة المدخرين للعصاة، وفي
هذه الشرطية إجلال عظيم بمكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم
وتنبيه على أن الأقرب أشد خطرا وذلك أنه أوعد بضعف العذاب على
مقاربة أدنى ركون وقد وضع عنا الركون ما لم يصدقه العمل، ونظير
ذلك من وجه ما جاء في نسائه عليه الصلاة والسلام من قوله
تعالى: يا نِساءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفاحِشَةٍ
مُبَيِّنَةٍ يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ ضِعْفَيْنِ [الأحزاب:
30] وذكر في وجه مضاعفة جزاء خطأ الخطير أنه يكون سببا لارتكاب
غيره مثله والاحتجاج به فكأنه سن ذلك
وقد جاء «من سن سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم
القيامة»
وعلى هذا يضاعف عذاب الخطير في خطئه أضعافا مضاعفة، ولا يلزم
من إثبات الضعف الواحد نفي الضعف المتعدد، وقيل الضعف من أسماء
العذاب وأنشدوا على ذلك قوله:
لمقتل مالك إذ بان مني ... أبيت الليل في ضعف أليم
وذكر بعضهم أن الضعف ليس من أسماء العذاب وضعا لكنه يعبر به
عنه لكثرة وصف العذاب به كما في قوله تعالى: عَذاباً ضِعْفاً
[الأعراف: 38، ص: 61] وزعم أن ذلك مراد القائل والله تعالى
أعلم، واللام في لَأَذَقْناكَ ولَاتَّخَذُوكَ لام القسم على ما
نص عليه الحوفي، والماضي في الموضعين واقع موقع المضارع الدال
عليه اللام، والنون على ما نص عليه أبو حيان وأشرنا إليه فيما
سبق ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنا نَصِيراً يدفع العذاب أو
يرفعه عنك،
روي عن قتادة أنه لما نزل قوله تعالى: وَإِنْ كادُوا إلى هنا
قال صلّى الله عليه وسلّم: اللهم لا تكلني إلى نفسي طرفة عين
، وينبغي للمؤمن إذا تلا هذه الآية أن يجثو عندها ويتدبرها وأن
يستشعر الخشية وازدياد التصلب في دين الله تعالى ويقول كما قال
النبي صلّى الله عليه وسلّم وَإِنْ كادُوا أي أهل مكة كما روي
عن ابن عباس وقتادة وغيرهما لَيَسْتَفِزُّونَكَ ليزعجونك
ويستخفونك بعداوتهم ومكرهم مِنَ الْأَرْضِ أي الأرض التي أنت
فيها وهي أرض مكة لِيُخْرِجُوكَ أي ليتسببوا إلى خروجك مِنْها
وكان هذا الاستفزاز بما فعلوا من حصره صلّى الله عليه وسلّم في
الشعب والتضييق عليه عليه الصلاة والسلام ووقع ذلك بعد نزول
الآية كما في البحر وصار سببا لخروجه صلّى الله عليه وسلّم
مهاجرا.
وَإِذاً لا يَلْبَثُونَ أي إن استفزوك فخرجت لا يبقون خِلافَكَ
أي بعدك وبه قرأ عطاء بن رباح واستحسن أنها تفسير لا قراءة
لمخالفتها سواد المصحف وأنشدوا:
عفت الديار خلافهم فكأنما ... بسط الشواطب بينهن حصيرا
وقرأ أهل الحجاز وأبو بكر وأبو عمرو «خلفك» بغير ألف والمعنى
واحد واللفظان في الأصل من الظروف المكانية فتجوز فيهما
واستعملا للزمان وقد اطرد إضافتهما كقبل وبعد إلى أسماء
الأعيان على حذف مضاف يدل عليه ما قبله أي لا يلبثون خلف
استفزازك وخروجك إِلَّا قَلِيلًا أي إلا زمانا قليلا، وجوز أن
يكون التقدير إلا لبثا
(8/124)
قليلا والمعنيان متقاربان، واختير التقدير
الأول لأن التوسع أعني إقامة الوصف مقام الموصوف بالظروف أشبه،
وهذا وعيد لهم بإهلاك مجموعهم من حيث هو مجموع بعد خروجه صلّى
الله عليه وسلّم بقليل وتحقق بإفناء البعض في بدر لا سيما وقد
كانوا صناديدهم والرؤوس، وأنت تعرف أن معظم الشيء يقام مقام
كله، وكان الزمان القليل على ما روى ابن أبي حاتم عن السدي
ثمانية عشر شهرا، ويجوز أن يفسر الإخراج بالإكراه على الخروج
والوعيد بإهلاك كل واحد منهم أي لو أخرجوك لاستؤصلوا على بكرة
أبيهم لكن لم يقع المقدم لأن الإكراه على الخروج مباشرة وقد
خرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مهاجرا بأمر ربه عز وجل
فلم يقع التالي وهذا هو التفسير المروي عن مجاهد قال: أرادت
قريش ذلك ولم تفعل لأنه سبحانه أراد استبقاءها وعدم استئصالها
ليسلم منها ومن أعقابها من يسلم فأذن لرسوله عليه الصلاة
والسلام بالهجرة فخرج بإذنه لا بإخراج قريش وقهرهم، والإخراج
في قوله تعالى وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً
مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ [محمد: 13] محمول على
المعنى الأول، وكذا في قول ورقة: يا ليتني كنت جذعا إذ يخرجك
قومك
وقوله عليه الصلاة والسلام «أو مخرجيّ هم»
فلم تتضمن الآية وكذا الخبر إثبات إخراج قلنا بنفيه هنا،
والقول بأنه يلزم على هذا التناقض بين هذه الآية والآية
السابقة بناء على تفسير الإخراج فيها بالتسبب إلى الخروج لأن
كاد تدل على مقاربته لا حصوله وهذه الآية دلت على حصوله مجاب
عنه بأن قصارى ما دلت عليه الآية السابقة على التفسير الأول
قرب حصول الاستفزاز منهم ليتسببوا به إلى خروجه صلّى الله عليه
وسلّم وأنه لم يكن حاصلا وقت نزول الآية لا أنه لا يكون حاصلا
أبدا ليناقض حصوله بعد. وحكى الزجاج أن استفزازهم ما أجمعوا
عليه في دار الندوة من قتله صلّى الله عليه وسلّم والمراد من
الأرض وجه البسيطة مطلقا، وقال أبو حيان: المراد ما على هذا
الدنيا، وقيل ضمير كادُوا وما بعده لليهود،
فقد أخرج ابن أبي حاتم والبيهقي في الدلائل. وابن عساكر عن عبد
الرحمن بن غنم قال: إن اليهود أتوا النبي صلّى الله عليه وسلّم
فقالوا إن كنت نبيا فالحق بالشام فإنها أرض المحشر وأرض
الأنبياء فصدق رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ما قالوا فغزا
غزوة تبوك لا يريد إلا الشام فلما بلغ تبوك أنزل الله تعالى
وَإِنْ كادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ- إلى- تَحْوِيلًا
وأمره بالرجوع إلى المدينة وقال فيها محياك وفيها مماتك ومنها
تبعث،
وفي رواية أنهم قالوا: يا أبا القاسم إن الشام أرض مقدسة وهي
أرض الأنبياء فلو خرجت إليها لآمنا بك وقد علمنا أنك تخاف
الروم فإن كنت نبيا فاخرج إليها فان الله تعالى سيحميك كما حمى
غيرك من الأنبياء فخرج عليه الصلاة والسلام بسبب قولهم وعسكر
بذي الحليفة وأقام ينتظر أصحابه فنزلت هذه الآية
فرجع صلّى الله عليه وسلّم ثم إنه عليه الصلاة والسلام قتل
منهم بني قريظة وأجلى بني النضير بقليل. وتعقب بأنه ضعيف لم
يقع في سيرة ولا كتاب يعتمد عليه، وذو الحليفة ليس في طريق
الشام من المدينة وكيفما كان يكون المراد من الأرض عليه
المدينة، وقيل أرض العرب، وكأن من ذهب إلى أن هذه الآية مدنية
يستند إلى ما ذكر من الروايات، وقد صرح الخفاجي بأن هذا المذهب
غير مرضي والله تعالى أعلم.
وقرأ عطاء «لا يلبّثون» بضم الياء وفتح اللام والباء مشددة.
وقرأ يعقوب كذلك إلا أنه كسر الباء وقرأ أبي «وإذا لا يلبثوا»
بحذف النون وكذا في مصحف عبد الله، وتوجيه الإثبات والحذف أن
النحويين عدوا من جملة شروط عمل إذن كونها في أول الجملة فعلى
قراءة الحذف تكون الجملة معطوفة على جملة لَيَسْتَفِزُّونَكَ
وهي خبر كاد فيكون الشرط منخرما لتوسطها حينئذ في الكلام لكون
ما بعدها خبر كاد كالمعطوف هو عليه، وعلى قراءة الإثبات تكون
الجملة معطوفة على جملة وَإِنْ كادُوا فيتحقق الشرط والعطف لا
يضر في ذلك، ووجه أبو حيان الإهمال بأن لا يَلْبَثُونَ جواب
قسم محذوف أي والله إن استفزوك فخرجت لا يلبثون وقد توسطت إذا
بين القسم المقدر والفعل فأهملت ثم قال ويحتمل أن يكون لا
يلبثون خبرا لمبتدأ محذوف يدل عليه المعنى تقديره وهم إذا لا
يلبثون
(8/125)
فتكون إذا واقعة بين المبتدأ وخبره ولذلك
ألغيت وكلا التوجيهين ليس بوجيه كما لا يخفى.
سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنا نصب على
المصدرية أي سننّا سنة من إلخ وهي أن لا ندع أمة تستفز رسولها
لتخرجه من بين ظهرانيها تلبث بعده إلا قليلا فالسنة لله عز وجل
وأضيفت للرسل عليهم السلام لأنها سنت لأجلهم، ويدل على ذلك
قوله سبحانه وَلا تَجِدُ لِسُنَّتِنا تَحْوِيلًا حيث أضاف
السنة إليه تعالى، وقال الفراء:
انتصب سُنَّةَ على إسقاط الخافض أي كسنة فلا يوقف على قوله
تعالى: قَلِيلًا فالمراد تشبيه حاله صلّى الله عليه وسلّم بحال
من قبله لا تشبيه الفرد بفرد من ذلك النوع وجوز أبو البقاء أن
يكون مفعولا به لفعل محذوف أي اتبع سنة إلخ كما قال سبحانه
فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ [الأنعام: 90] والأنسب بما قبل ما قبل،
وكأنه اعتبر الأوامر بعد وهو خلاف ما عليه عامة المفسرين،
والتحويل التغيير أي لا تجد لما أجرينا به العادة تغييرا أي لا
يغيره أحد.
والمراد من نفي الوجدان هنا وفيما أشبهه نفي الوجود ودليل نفي
وجود من يغير عادة الله تعالى أظهر من الشمس في رابعة النهار،
وللإمام كلام في هذا المقام لا يخلو عن بحث، ثم أنه تعالى بعد
أن ذكر كيد الكفار وسلى نبيه عليه الصلاة والسلام بما سلى أمره
أن يقبل على شأنه من عبادة ربه تعالى شأنه ووعده بما يغبطه
عليه كل الخلق ويتضمن ذلك إرشاده إلى أن لا يشغل قلبه بهم أو
أنه سبحانه بعد أن قدم القول في الإلهيات والمعاد والنبوات أمر
بأشرف العبادات بعد الإيمان وهي الصلاة فقال جل وعلا أَقِمِ
الصَّلاةَ أي المفروضة
لِدُلُوكِ الشَّمْسِ أي لزوالها عن دائرة نصف النهار وهو
المروي عن عمر بن الخطاب وابنه وابن عباس في رواية، وأنس وأبي
برزة الأسلمي والحسن والشعبي وعطاء ومجاهد، ورواه الإمامية عن
أبي جعفر. وأبي عبد الله رضي الله تعالى عنهما
وخلق آخرين،
وأخرج ابن جرير. وإسحاق بن راهويه في مسنده وابن مردويه في
تفسيره. والبيهقي في المعرفة عن أبي مسعود عقبة بن عامر قال:
«قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أتاني جبريل عليه السلام
لدلوك الشمس حين زالت فصلى بي الظهر
،
وقيل لغروبها (1) وهو المروي عندنا عن علي كرم الله تعالى وجهه
، وأخرجه ابن مردويه والطبراني والحاكم وصححه، وغيرهم عن ابن
مسعود، وابن المنذر وغيره عن ابن مسعود، وروى عن زيد بن أسلم
والنخعي والضحاك والسدي، وإليه ذهب الفراء وابن قتيبة، وأنشد
لذي الرمة:
مصابيح ليست باللواتي يقودها ... نجوم ولا بالأفلاك الدوالك
وأصل مادة د ل ك تدل على الانتقال ففي الزوال انتقال من دائرة
نصف النهار إلى ما يليها وفي الغروب انتقال من دائرة الأفق إلى
ما تحتها وكذا في الدلك المعروف انتقال اليد من محل إلى آخر بل
كل ما أوله دال ولام مع قطع النظر عن آخره يدل على ذلك كدلج
بالجيم من الدلجة وهي سير الليل وكذا دلج بالدلو إذا مشى بها
من رأس البئر للمصب ودلح بالحاء المهملة إذا مشى مشيا متثاقلا
ودلع بالعين المهملة إذا أخرج لسانه ودلف بالفاء إذا مشى مشية
المقيد وبالقاف إذا أخرج المائع من مقره ووله إذا ذهب عقله
وفيه انتقال معنوي إلى غير ذلك، وهذا المعنى يشمل كلا المعنيين
السابقين وإن قيل إن الانتقال في الغروب أتم لأنه انتقال من
مكان إلى مكان ومن ظهور إلى خفاء وليس في الزوال إلا الأول،
وقيل إن الدلوك مصدر مزيد مأخوذ من المصدر المجرد أعني الدلك
المعروف وهو أظهر في الزوال لأن من نظر إلى الشمس حينئذ يدلك
عينه ويكون على هذا في دلوك الشمس تجوز عن دلوك ناظرها، وقد
يستأنس في ترجيح القول الأول مع ما سبق بأن أول صلاة صلاها
النبي صلّى الله عليه وسلّم نهار ليلة الإسراء الظهر، وقد صح
أن
__________
(1) أخرجه ابن أبي شيبة، وابن المنذر وابن أبي حاتم اه منه.
(8/126)
جبريل عليه السلام ابتدأ بها حين علم النبي
عليه الصلاة والسلام كيفية الصلاة في يومين، وقال المبرد: دلوك
الشمس من لدن زوالها إلى غروبها فالأمر بإقامة الصلاة لدلوكها
أمر بصلاتين الظهر والعصر، وعلى القولين الآخرين أمر بصلاة
واحدة الظهر أو العصر، واللام للتاقيت متعلقة بأقم وهي بمعنى
بعد كما في قول متمم بن نويرة يرثي أخاه:
فلما تفرقنا كأني ومالكا ... لطول اجتماع لم نبت ليلة معا
ومنه كتبته لثلاث خلون من شهر كذا وتكون بمعنى عند أيضا، وقال
الواحدي: هي للتعليل لأن دخول الوقت سبب لوجوب الصلاة إِلى
غَسَقِ اللَّيْلِ أي إلى شدة ظلمته كما قال الراغب وغيره وهو
وقت العشاء.
وأخرج ابن الأنباري في الوقف عن ابن عباس أن نافع بن الأرزق
قال له: أخبرني ما الغسق؟ فقال: دخول الليل بظلمته وأنشد قول
زهير بن أبي سلمى:
ظلت تجود يداها وهي لاهية ... حتى إذا جنح الإظلام والغسق
وقال النضر بن شميل: غسق الليل دخول أوله، قال الشاعر:
إن هذا الليل قد غسقا ... واشتكيت الهم والأرقا
وهو عنده وقت المغرب، وروي ذلك عن مجاهد، وأصله من السيلان
يقال غسقت العين تغسق إذا هملت بالماء كأن الظلمة تنصب على
العالم، وقيل: المراد من غسق الليل ما يعم وقتي المغرب والعشاء
وهو ممتد إلى الفجر كما أن المراد بدلوك الشمس ما يعم وقتي
الظهر والعصر ففي الآية بدخول الغاية تحت المعيا وبضم ما بعد
إشارة إلى أوقات الصلوات الخمس، واختاره جماعة من الشيعة
واستدلوا بها على أن وقت الظهر موسع إلى غروب الشمس ووقت
المغرب موسع إلى انتصاف الليل وهي أحد أدلة الجمع في الحضر بلا
عذر الذي ذهبوا إليه وأبدوا ذلك مما
رواه العياشي بإسناده عن عبيدة، وزرارة عن أبي عبد الله أنه
قال في هذه الآية: إن الله تعالى افترض أربع صلوات أول وقتها
من زوال الشمس إلى انتصاف الليل منها صلاتان أول وقتهما من عند
زوال الشمس إلى غروبها إلا أن هذه قبل هذه ومنها صلاتان أول
وقتهما غروب الشمس إلى انتصاف الليل إلا أن هذه قبل هذه وهو
مرتضى المرتضى في أوقات الصلاة
، والمعتمد عليه عند جمهور المفسرين أن دلوك الشمس وقت الظهر
وغسق الليل وقت العشاء كما ينبىء عنه إقحام الغسق وعدم
الاكتفاء بإلى الليل، والجار والمجرور متعلق بأقم، وأجاز أبو
البقاء تعلقه بمحذوف وقع حالا من الصلاة أي ممدودة إلى الليل
والأول أولى وليس المراد بإقامة الصلاة فيما بين هذين الوقتين
على وجه الاستمرار بل إقامة كل صلاة في وقتها الذي عين لها
ببيان جبريل عليه السلام الثابت في الروايات الصحيحة التي لم
يروها- من شهد- أحد من الأئمة الطاهرين بزندقتهم ونجاسة
بواطنهم كما أن أعداد ركعات كل صلاة موكولة إلى بيانه عليه
الصلاة والسلام، ولعل الاكتفاء ببيان المبدأ والمنتهى في أوقات
الصلاة من غير فصل بينها لما أن الإنسان فيما بين هذه الأوقات
على اليقظة فبعضها متصل ببعض بخلاف وقت العشاء والفجر فإنه
باشتغاله فيما بينهما بالنوم عادة ينقطع أحدهما عن الآخر ولذلك
فصل وقت الفجر عن سائر الأوقات، ثم إن المستدل من الشيعة
بالآية لا يتم له الاستدلال بها على جواز الجمع بين صلاتي
الظهر والعصر، وبين صلاتي المغرب والعشاء ما لم يضم إلى ذلك
شيئا من الأخبار فإنها إذا لم يضم إليها ذلك أولى بأن يستدل
بها على جواز الجمع بين الأربعة جميعها لا بين الاثنتين
والاثنتين ولا يخفى ما في الاستدلال بها على هذا المطلب ولذا
لم يرتضه أبو جعفر منهم، نعم ما ذهبوا إليه مما يؤيده ظواهر
بعض الأحاديث الصحيحة
كحديث ابن عباس وهو في صحيح مسلم صلى رسول الله صلّى الله عليه
وسلّم الظهر والعصر جمعا بالمدينة
،
(8/127)
وفي رواية أنه صلّى الله عليه وسلّم صلى
ثمانيا جميعا وسبعا جميعا من غير خوف ولا سفر.
واختلف في تأويله فمنهم من أوله بأنه جمع بعذر المطر والجمع
بسبب ذلك تقديما وتأخيرا مذهب الشافعي في القديم وتقديما فقط
في الجديد بالشرط المذكور في كتبهم، وخص مالك جواز الجمع
بالمطر في المغرب والعشاء، وهذا التأويل مشهور عن جماعة من
الكبار المتقدمين وهو ضعيف لما في صحيح مسلم عنه أيضا جمع رسول
الله صلّى الله عليه وسلّم بين الظهر والعصر والمغرب والعشاء
بالمدينة في غير خوف ولا مطر، وكون المراد ولا مطر كثير لا
يرتضيه ذو إنصاف قليل والشذوذ غير مسلم، ومنهم من أوله بأنه
كان في غيم فصلى صلّى الله عليه وسلّم الظهر ثم انكشف الغيم
وبان أن أول وقت العصر دخل فصلاها، وفيه أنه وإن كان فيه أدنى
احتمال في الظهر والعصر إلا أنه لا احتمال في المغرب والعشاء،
ومنهم من أوله بأنه عليه الصلاة والسلام أخر الأولى إلى آخر
وقتها فصلاها فيه فلما فرغ منها دخل وقت الثانية فصلاها فصارت
الصورة صورة جمع، وفيه أنه مخالف للظاهر مخالفة لا تحتمل،
ويرده أيضا ما صح عن عبد الله بن شقيق قال: خطبنا ابن عباس
يوما بعد العصر حتى غربت الشمس وبدت النجوم وجعل الناس يقولون:
الصلاة الصلاة فجاء رجل من بني تميم فجعل لا يفتر ولا ينثني
الصلاة الصلاة فقال ابن عباس: أتعلمني بالسنة لا أم لك رأيت
رسول الله صلّى الله عليه وسلّم جمع بين الظهر والعصر والمغرب
والعشاء قال عبد الله بن شقيق: فحاك في صدري من ذلك شيء فأتيت
أبا هريرة فسألته فصدق مقالته، ومنهم من قال: هو محمول على
الجمع بعذر المرض أو نحوه مما هو في معناه من الأعذار وهذا قول
الإمام أحمد والقاضي حسين من الشافعية واختاره منهم الخطابي
والمتولي والروياني.
وقال النووي: هو المختار في التأويل ومذهب جماعة من الأئمة
جواز الجمع في الحضر للحاجة لمن لا يتخذه عادة وهو قول ابن
سيرين وأشهب من أصحاب مالك وحكاه الخطابي عن القفال الشاشي
الكبير من أصحاب الإمام الشافعي، وعن أبي إسحق المروزي، وعن
جماعة من أصحاب الحديث واختاره ابن المنذر ويؤيده ظاهر ما
صح عن ابن عباس ورواه مسلم أيضا أنه لما قال: جمع رسول الله
صلّى الله عليه وسلّم بين الظهر والعصر والمغرب والعشاء
بالمدينة في غير خوف ولا مطر قيل له: لم فعل ذلك؟ فقال: أراد
أن لا يخرج أحدا من أمته وهو من الحرج
بمعنى المشقة فلم يعلله بمرض ولا غيره، ويعلم مما ذكرنا أن قول
الترمذي في آخر كتابه ليس في كتابي حديث أجمعت الأمة على ترك
العمل به إلا حديث ابن عباس في الجمع بالمدينة من غير خوف ولا
مطر وحديث قتل شارب الخمر في المرة الرابعة ناشىء من عدم
التتبع. نعم ما قاله في الحديث الثاني صحيح فقد صرحوا بأنه
حديث منسوخ دل الإجماع على نسخه.
وقال ابن الهمام: إن حديث ابن عباس معارض بما
في مسلم من حديث ليلة التعريس أنه صلّى الله عليه وسلّم قال:
«ليس في النوم تفريط إنما التفريط في اليقظة أن يؤخر الصلاة
حتى يدخل وقت صلاة أخرى»
وللبحث في ذلك مجال.
ومذهب الإمام أبي حنيفة عدم جواز جمع صلاتي الظهر والعصر في
وقت إحداهما والمغرب والعشاء كذلك مطلقا إلا بعرفات فيجمع فيها
بين الظهر والعصر بسبب النسك وإلا بمزدلفة فيجمع فيها بين
المغرب والعشاء بسبب ذلك أيضا واستدل بما استدل. وفي الصحيحين
وسنن أبي داود وغيره ما لا يساعده على التخصيص، وأنت تعلم أن
الاحتياط فيما ذهب إليه الإمام رضي الله تعالى عنه فالمحتاط لا
يخرج صلاة الظهر مثلا عن وقتها المتيقن الذي لا خلاف فيه إلى
وقت فيه خلاف، وقد صرح غير واحد بأنه إذا وقع التعارض يقدم
الأحوط وتعارض الأخبار في هذا الفصل مما لا يخفى على المتتبع،
هذا وزعم بعضهم أن المراد بالصلاة المأمور بإقامتها صلاة
المغرب والتحديد المذكور بيان لمبدأ وقتها ومنتهاه على أن
الغاية خارجة واستدل به على امتداده إلى غروب الشفق وهو خلاف
ما
(8/128)
ذهب إليه الإمام الشافعي رضي الله تعالى
عنه في الجديد من أنه ينقضي بمضي قدر زمن وضوء وغسل وتيمم،
وطلب خفيف وإزالة خبث مغلظ يعم البدن والثوب والمحل وستر عورة
واجتهاد في القبلة وأذان وإقامة وألحق بهما سائر سنن الصلاة
المتقدمة كتعمم وتقمص ومشي لمحل الجماعة وأكل جائع حتى يشبع
وسبع ركعات ولعل الزمان الذي يسع كل هذا يزيد على زمن ما بين
غروب الشمس وغروب الشفق أي شفق كان في أكثر الإعراض، ثم لا
يخفى أنه إذا كان المراد من غسق الليل وقت العشاء وفسر الغسق
باجتماع الظلمة وشدتها كان ذلك مؤيدا لما في ظاهر الرواية عن
الإمام أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه من أن أول وقت العشاء حين
يغيب الشفق بمعنى البياض الذي يعقب الخمرة في الأفق الغربي لأن
الظلمة لا تجتمع ولا تشتد ما لم يغب، ولا يأبى ذلك أن الأحاديث
الصحيحة صريحة في أن أول وقتها حين يغيب الشفق وهو اللغة
الحمرة المعلومة لأن تفسيره بالبياض قد جاء أيضا، وروي ذلك عن
أبي بكر الصديق وعمر ومعاذ بن جبل وعائشة رضي الله تعالى عنهم
أجمعين، ورواه عبد الرازق عن أبي هريرة وعن عمر بن عبد العزيز،
وبه قال الأوزاعي والمزني وابن المنذر والخطابي، واختاره
المبرد وثعلب، وما
رواه الترمذي عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه عن النبي صلّى
الله عليه وسلّم أنه قال: «أول وقت العشاء حين يغيب الأفق»
ظاهر في كون الشفق البياض إذ لا غيبوبة للأفق إلا بسقوطه نعم
ذهب صاحباه إلى أنه الحمرة وهو (1) قول ابن عباس وابن عمر رضي
الله تعالى عنهم، ورواه أسد بن عمرو عن الإمام أيضا لكنه خلاف
ظاهر الرواية عنه، والصحيح المفتي به عندنا ما جاء في ظاهر
الرواية، وقد نص على ذلك المحقق ابن الهمام والعلامة قاسم وابن
نجيم وغيرهما، وما قاله الإمام أبو المفاخر من أن الإمام رجع
إلى قولهما وقال إنه الحمرة لما ثبت عنده من حمل عامة الصحابة
إياه على ذلك وعليه الفتوى وتبعه المحبوبي وصدر الشريعة ليس
بشيء لأن الرجوع لم يثبت ودون إثباته مع نقل الكافة عن الكافة
خلافه خرط القتاد، وكذا دعوى حمل عامة الصحابة خلاف المنقول
كما سمعت حتى أن البيهقي لم يرو أن الشفق الحمرة إلا عن ابن
عمر رضي الله تعالى عنهما.
وما
رواه الدارقطني عنه قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم
«الشفق الحمرة فإذا غاب وجبت الصلاة»
قال البيهقي والنووي فيه الصحيح أنه موقوف على ابن عمر رضي
الله تعالى عنهما ومثل هذا الاختلاف الاختلاف في أول وقت العصر
فقال الإمام: هو إذا صار ظل كل شيء مثليه بعد ظل الزوال وقالا:
إذا صار ظل كل شيء مثله بعد ظل الزوال، وفتوى المحققين على
قوله رحمة الله تعالى عليه بل قال ابن نجيم: إن الإفتاء بغيره
لا يجوز وقد أطال الكلام في ذلك في رسالته رفع الغشاء عن وقتي
العصر والعشاء وَقُرْآنَ الْفَجْرِ عطف على مفعول «أقم» أو نصب
على الإغراء كما قال الزجاج وأبو البقاء والجمهور على الأول،
والمراد بقرآن الفجر صلاته كما روي عن ابن عباس ومجاهد، وسميت
قرآنا أي قراءة لأنها ركنها كما سميت ركوعا وسجودا وهذه حجة
على ابن علية. والأصم في زعمهما أن القراءة ليست بركن في
الصلاة قاله في الكشاف ورد بأن ذلك لا يدل على الركنية لجواز
كون مدار التجوز كون القراءة مندوبة فيها وفي الكشف أنه مدفوع
بأن العلاقة المعتبرة في إطلاق غير الصلاة وإرادة الصلاة هي
علاقة الكل والجزء بدليل النظائر وهاهنا إذ ورد تجوزا فحمله
على معلوم النظير من الاستقراء واجب على أن الندبية لا تصلح
علاقة معتبرة إلا بالتكلف، وجعل، سبح بمعنى صلى لأن التسبيح
بمعنى التنزيه البالغ والمصلى مسبح قولا بقراءة الفاتحة بل
بالتكبير الواجب بالاتفاق وفعلا أيضا بالركوع والسجود مثلا
الدالين على كمال التعظيم والتبجيل فهو الركن كله لا لأن
التسبيح بمعنى
__________
(1) أي في رواية اه منه.
(8/129)
قول سبحان الله ليقال تجوز عن الصلاة بما
هو مندوب فيها. وتعقب بأن الاكتفاء بعلاقة الندبية التي يقول
بها الأصم وابن علية لا تكلف فيه فإن القرآن جزء من الصلاة
الكاملة فيكون ذلك كالنظائر بلا ضرر ولا ضير، وبأن مذهبهما في
التكبير غير معلوم فدعوى الاتفاق غير مسلمة منه ولو كان كما
ذكره لكان الوجوب كافيا في علاقة أخرى وهي اللزوم وفيه بحث،
وأبقى الجصاص القرآن على حقيقته وقال في الآية دلالة على وجوب
القراءة في صلاة الفجر لأن التقدير فيها وأقم قرآن الفجر
والأمر للوجوب ولا قراءة في ذلك الوقت واجبة إلا في الصلاة
وزعم أن كون المعنى صلوا الفجر غلط من وجهين الأول أنه صرف عن
الحقيقة بغير دليل، والثاني أن فَتَهَجَّدْ بِهِ فيما بعد
يأباه إذ لا معنى للتهجد بصلاة الفجر، وفيه أن الدليل قائم وهو
أَقِمِ لاشتهار أَقِمِ الصَّلاةَ دون أقم القراءة وضمير بِهِ
فيما بعد يجوز أن يرجع إلى القرآن بمعناه الحقيقي استخداما وهو
أكثر من أن يحصى ثم متى دلت الآية على وجوب القراءة في صلاة
الفجر نصا كان ثبوت وجوبها في غيرها من الصلاة قياسا، وذكر
بعضهم أن في التعبير عن صلاة الفجر بخصوصها بما ذكر إشارة إلى
أنه يطلب فيها من تطويل القراءة ما لم يطلب في غيرها وهو حسن،
وقال الإمام: إن في الآية دلالة على أنه يسن التغليس في صلاة
الفجر لأنه أضيف فيها القرآن إلى الفجر على معنى أقم قرآن
الفجر والأمر للوجوب والفجر أول طلوع الصبح لانفجار ظلمة الليل
عن نور الصباح حينئذ ولذلك سمي الفجر فجرا فيقتضي ذلك وجوب
إقامة صلاة الفجر أول الطلوع وحيث أجمع على عدم وجوب ذلك بقي
الندب لأن الوجوب عبارة عن رجحان مانع الترك فإذا منع مانع من
تحقق الوجوب كالإجماع هنا وجب أن يرتفع المنع من الترك وأن
يبقى أصل الرجحان حتى تقل مخالفة الدليل.
وأنت تعلم ما للعلماء من الخلاف في الباقي بعد رفع الوجوب، وما
ذكر قول في المسألة لكنه لا يفيد المطلوب لأن صلاة الفجر اسم
للصلاة المخصوصة سواء وقعت بغلس أم اسفار، والأخبار الصحيحة
تدل على سنية الأسفار بها
كخبر الترمذي وهو كما قال: حسن صحيح «أسفروا بالفجر فإنه أعظم
للأجر»
وحمله على تبين الفجر حتى لا يكون شك في طلوعه ليس بشيء إذ ما
لم يتبين لا يحكم بجواز الصلاة فضلا عن إصابة الأجر المفاد
بآخر الخبر ولو حمل أعظم فيه على عظيم ورد أن المناسب في
التعليل فإنه لا تصح الصلاة بدونه على أنه على ما فيه ينفيه
رواية الطحاوي أسفروا بالفجر فكلما أسفرتم فهو أعظم الأجر أو
لأجوركم أو كما قال، وروي بسنده الصحيح عن إبراهيم قال: ما
اجتمع أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على شيء ما
اجتمعوا على التنوير، ومحال نظرا إلى علو شأنهم أن يجتمعوا على
خلاف ما فارقهم عليه حبيبهم رسول الله عليه الصلاة والسلام.
وفي الصحيحين عن ابن مسعود وما رأيت رسول الله صلّى الله عليه
وسلّم صلى صلاة لميقاتها إلا صلاتين صلاة المغرب والعشاء بجمع
وصلى الفجر يومئذ قبل ميقاتها مع أنه كان بعد الفجر كما يفيده
لفظ البخاري
فيكون المراد قبل ميقاتها الذي اعتاد الأداء فيه، والظاهر أنه
عليه الصلاة والسلام لم يكن يعتاد التغليس إلا أنه فعله يومئذ
ليمتد الوقوف، ونحن نقول بسنيته بفجر جمع لهذا الحديث.
وخبر عائشة رضي الله تعالى عنها «كان صلّى الله عليه وسلّم
يصلي الصبح بغلس فتشهد معه نساء ملتفعات بمروطهن ثم يرجعن إلى
بيوتهن ما يعرفهن أحد من الغلس»
حمل الغلس فيه بعض أصحابنا على غلس داخل المسجد، ويأباه قولها:
ثم يرجعن إلى بيوتهن ما يعرفهن أحد من الغلس إذ لا يمكن حمل
هذا الغلس المانع من معرفتهن في طريق رجوعهن إلى بيوتهن على
غلس داخل المسجد، وكون المراد ما يعرفهن أحد في داخل المسجد من
الغلس خلاف الظاهر على تقدير جعل الجملة حالا من ضمير يرجعن.
(8/130)
والظاهر ما أشرنا إليه، وكذا جعل الجملة
حالا من نساء أو صفة لها كأنه قيل فتشهد معه نساء ملتفعات
بمروطهن ما يعرفهن أحد من الغلس ثم يرجعن إلى بيوتهن، وقيل كان
ذلك في يوم غيم، ويبعده كان فإنها شائعة الاستعمال فيما كان
يداوم عليه عليه الصلاة والسلام، وقيل هو منسوخ كما يدل عليه
اجتماع الصحابة على التنوير، ويبعد ذلك أن النسخ يقتضي سابقية
وجود المنسوخ، وقول ابن مسعود: ما رأيت إلخ يفيد أن لا سابقية
له. وقال بعضهم: ترجح في الأخبار المتعارضة هنا رواية الرجال
خصوصا مثل ابن مسعود فإن الحال أكشف لهم في صلاة الجماعة
فتأمل.
وذكر الطحاوي أن الذي ينبغي الدخول في الفجر وقت التغليس
والخروج وقت الأسفار، وهو قول الإمام أبي حنيفة وصاحبيه وهو
خلاف ما يذكره الأصحاب عنهم من البدء والختم في الأسفار وهو
الذي يفيده حديث الترمذي وغيره والله تعالى أعلم، ثم إن صلاة
الفجر وإن كانت إحدى الصلوات الخمس التي فرضت ليلة الإسراء
عليه صلّى الله عليه وسلّم وعلى أمته ودلت هذه الآية على وجوب
إقامتها كذلك إلا أنه عليه الصلاة والسلام لم يصلها صبح تلك
الليلة لعدم العلم بكيفيتها حينئذ وإنما علم الكيفية بعد.
وقد قدمنا قريبا أن البداءة وقعت في صلاة الظهر إشارة إلى أن
دينه عليه الصلاة والسلام سيظهر على الأديان ظهورها على بقية
الصلوات، ونوه سبحانه هنا بشأن صلاة الفجر بقوله عز وجل:
إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ حيث لم يقل سبحانه إنه كانَ
مَشْهُوداً
أخرج أحمد والنسائي وابن ماجه والترمذي والحاكم وصححاه وجماعة
عن أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال في تفسير
ذلك: تشهده ملائكة الليل وملائكة النهار،
وفي الصحيحين عنه رضي الله تعالى عنه أنه قال: «قال النبي صلّى
الله عليه وسلّم تجتمع ملائكة الليل وملائكة النهار في صلاة
الفجر
ثم قال أبو هريرة: «اقرؤوا إن شئتم وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ
قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً» .
والمراد بهؤلاء الملائكة الكتبة والحفظة فتنزل ملائكة النهار
وتصعد ملائكة الليل وتلتقي الطائفتان في ذلك الوقت، وكذا تلتقي
الطائفتان وأمر النزول والصعود على العكس وقت العصر كما جاء في
الآثار، وهذا مما يعكر على الإمام في زعمه أن هذا أيضا دليل
قوي على أن التغليس أفضل من التنوير لأن الإنسان إذا شرع في
الصلاة من أول الصبح يكون ملائكة الليل حاضرين لبقاء الظلمة
فإذا امتدت الصلاة بسبب ترتيل القراءة وتكثيرها زالت الظلمة
وظهر الضوء وحضر ملائكة النهار فإنه يلزمه على هذا البيان الذي
لا يروج إلا على الصبيان القول بأن تأخير صلاة العصر إلى أن
يزول الضوء وتظهر الظلمة وهو لا يقول به بل لا يقول به أحد.
وهل الطائفة التي تشهد اليوم مثلا تشهد غدا أو كل يوم تشهد
طائفة أخرى لم تشهد قبل ولا تشهد بعد فيه خلاف، وسيأتي الكلام
إن شاء الله تعالى فيما يتعلق بذلك.
وقيل يشهد الكثير من المصلين في العادة، وقيل من حقه أن تشهده
الجماعة الكثيرة، وقيل تشهده وتحضر فيه شواهد القدرة من تبدل
الضياء بالظلمة والانتباه بالنوم الذي هو أخو الموت، وهو
احتمال أبداه الإمام وبسط الكلام فيه، ثم قال: وهذا المراد من
قوله تعالى إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً ثم ذكر
احتمال كون المراد مشهودا بالجماعة الكثيرة وبسط الكلام أيضا
في تحقيقه، وأنت تعلم أنه لا وجه للحصر المدلول عليه بقوله:
وهذا هو المراد، ثم إبداء ذلك الاحتمال على أنه بعد ما صح
تفسير النبي صلّى الله عليه وسلّم له بما سمعت لا ينبغي أن
يقال في غيره هذا هو المراد، ولا يخفى ما في هذه الجملة من
الترغيب والحث على الاعتناء بأمر صلاة الفجر لأن العبد في ذلك
الوقت مشيع كراما ومتلقى كراما فينبغي أن يكون على أحسن حال
يتحدث به الراحل ويرتاح له النازل.
(8/131)
وَمِنَ اللَّيْلِ قيل أي وعليك بعض الليل،
وظاهره أنه من باب الإغراء كما نقل عن الزجاج وأبي البقاء في
قوله تعالى: وَقُرْآنَ الْفَجْرِ وتعقبه أبو حيان بأن المغرى
به لا يكون حرفا، ولا يجدي نفعا كون من للتبعيض لأن ذلك لا
يجعلها اسما ألا ترى إجماع النحاة على أن واو مع حرف وإن قدرت
بمع، وأجيب بأنه يحتمل أن يكون القائل بذلك قائلا باسمية مِنَ
في مثل ذلك كما قالوا باسمية الكاف في نحو فَجَعَلَهُمْ
كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ [الفيل: 5] وعن في نحو من عن يمين تارة
وشمالي وعلى نحو من عليه، وكذا القائل بأن ذلك نصب على الظرفية
بمقدر أي وقم بعض الليل، واختار الحوفي أن من متعلقة بفعل دل
عليه معنى الكلام أي وأسهر من الليل فالفاء في قوله تعالى:
فَتَهَجَّدْ بِهِ إما عاطفة على ذلك المقدر أو مفسرة بناء على
أنه من أسلوب وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ [البقرة: 40] وفي الكشف
أن الإغراء هو الظاهر هاهنا بخلافه فيما تقدم لأن النصب على
التفسير والصلات مختلفة لا يتضح كل الاتضاح، ومعنى الإغراء من
السابق واللاحق تتعاضد الأدلة عليه، وفيه منع ظاهر، والتهجد
على ما نقل عن الليث الاستيقاظ من النوم للصلاة ويطلق على نفس
الصلاة بعد القيام من النوم ليلا يقال: تهجد أي صلى في الليل
بعد الاستيقاظ وكذا هجد وهذا يقتضي سابقية النوم في تحقق
التهجد فلو لم ينم وصلى ما شاء لا يقال له تهجد، وهو المروي عن
مجاهد والأسود وعلقمة وغيرهم، وقال المبرد: هو السهر للصلاة أو
لذكر الله تعالى، وقيل: السهر للطاعة وظاهره عدم اشتراط سابقية
النوم في تحققه، والمشهور أن ذلك يسمى قياما وما بعد النوم
يسمى تهجدا، وأغرب الحجاج بن عمرو المازني فإنه روي عنه أنه
قال: أيحسب أحدكم إذا قام من الليل فصلى حتى يصبح أنه قد تهجد
إنما التهجد الصلاة بعد الرقاد ثم صلاة أخرى بعد رقدة ثم صلاة
أخرى بعد رقدة هكذا كانت صلاة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم
وأنا أقول: إن تخلل النوم بين الصلوات جاء في صحيح مسلم من
رواية حصين عن حبيب بن أبي ثابت، وهي مما استدركها الدارقطني
على مسلم لاضطرابها فقد قال وروي عنه على سبعة أوجه وخالف فيه
الجمهور يعني الخبر الذي فيه تخلل النوم، والكثير من الروايات
ليس فيه ذلك فليحفظ. واشترط أن لا تكون الصلاة إحدى الخمس فلو
نام عن العشاء ثم قام فصلاها لا يسمى متهجدا ولا ضرر في كونها
واجبة كأن نام عن الوتر ثم قام إليها، وفي القاموس الهجود
النوم كالتهجد وتهجد استيقظ كهجد ضد، وقال ابن الأعرابي: هجد
الرجل صلى من الليل وهجد نام بالليل، وقال أبو عبيدة: الهاجد
النائم والمصلي، وفي مجمع البيان أنه يقال هجدته إذا أنمته،
وعليه قول لبيد:
قلت هجدنا فقال طال السرى ونقل عن ابن برزخ أنه يقال: هجدته
إذا أيقظته ومصدر هذا التهجيد، وصرح في القاموس بأنه من
الأضداد أيضا.
وذكر بعضهم أن المعروف في كلام العرب كون الهجود بمعنى النوم
وفسر التهجد بترك الهجود أي النوم على أن التفعل للسلب كالتأثم
والتحنث وهو مأخذ من فسره بالاستيقاظ، ويجوز أن يقال: إن
التفعل للتكلف أي تكلف الهجود بمعنى اليقظة، ورجح هذا بأن مجيء
التفعل للتكلف أكثر من مجيئه للسلب.
وعورض بأن استعمال الهجود في اليقظة مختلف في ثبوته وإن ثبت
فهو أقل من استعماله في النوم، والضمير المجرور في بِهِ للقرآن
من حيث هو لا بقيد إضافته إلى الفجر، واستدل بذلك على تطويل
القراءة في صلاة التهجد، وقد صرح العلماء بندب ذلك،
وفي صحيح مسلم من حديث حذيفة «صليت وراء النبي صلّى الله عليه
وسلّم ذات ليلة فافتتح البقرة فقلت يركع عند المائة ثم مضى
فقلت يصلي بها في ركعة فمضى فقلت يركع بها ثم افتتح النساء
فقرأها ثم افتتح آل عمران فقرأها يقرأ مترسلا إذا مر بآية
تسبيح سبح» الخبر
ويجوز أن يكون للبعض المفهوم من قوله تعالى:
وَمِنَ اللَّيْلِ والباء للظرفية أي فتهجد في ذلك البعض.
(8/132)
وقال ابن عطية: هو عائد على الوقت المقدر
في النظم الكريم أي قم وقتا من الليل فتهجد فيه نافِلَةً لَكَ
فريضة زائدة على الصلوات الخمس المفروضة خاصة بك دون الأمة،
ولعله الوجه في تأخير ذكرها عن ذكر صلاة الفجر مع تقدم وقتها
على وقتها، واستدل به على أن ما أمر به صلّى الله عليه وسلّم
فأمته مأمورون به أيضا إلا أن يدل دليل على الاختصاص كما هنا
ويدل على أن المراد ما ذكر ما أخرجه ابن جرير وابن أبي حاتم
وابن مردويه عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال في ذلك
يعني خاصة للنبي صلّى الله عليه وسلّم أمر بقيام الليل وكتب
عليه لكن صحح النون أنه نسخ عنه عليه الصلاة والسلام فرضية
التهجد ونقله أبو حامد من الشافعية وقالوا إنه الصحيح.
وقيل الخطاب في لَكَ له صلّى الله عليه وسلّم والمراد هو وأمته
على حد الخطاب في أَقِمِ الصَّلاةَ فيما سبق أي فريضة زائدة
على الصلوات الخمس لنفعكم ففيه دليل على فرضية التهجد عليه
عليه الصلاة والسلام وعلى أمته لكن نسخ ذلك في حق الأمة وبقي
في حقه عليه الصلاة والسلام بناء على ما أخرجه ابن أبي حاتم عن
الضحاك قال: نسخ قيام الليل إلا عن النبي صلّى الله عليه وسلّم
أو ونسخ في حقه صلّى الله عليه وسلّم أيضا بناء على الصحيح،
وهو خلاف الظاهر جدا، ويجوز أن يراد بالنافلة الفضيلة إما لأنه
عليه الصلاة والسلام فضل على أمته بوجوبها وأن نسخ بعد أو
لأنها فضيلة له صلّى الله عليه وسلّم وزيادة في درجاته وليست
بالنسبة إليه مكفرة للذنوب وسادّة للخلل الواقع في الفرائض كما
أنها وسائر النوافل بالنسبة إلى الأمة كذلك لكونه عليه الصلاة
والسلام قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر وفرائضه وسائر
تعبداته واقعة على الوجه الأكمل.
وقد أخرج هذا الأخير البيهقي في الدلائل وابن جرير وغيرهما عن
مجاهد، وابن أبي حاتم عن قتادة، وابن المنذر عن الحسن،
واستحسنه الإمام، وضعفه الطبري، وجوز ابن عطية عموم الخطاب كما
سمعت آنفا إلا أنه حمل نافلة على تطوعا وليس بشيء أيضا، وربما
يختلج في بعض الأذهان بناء على ما تقدم عن أبي البقاء في قوله
تعالى:
سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنا من أنه
بتقدير اتبع سنة كما قال سبحانه: فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ
[الأنعام: 90] احتمال أن يكون قوله تعالى: أَقِمِ الصَّلاةَ
إلخ بيانا للاتباع المأمور به، وهو متضمن للأمر بالصلوات
الخمس، وقد كان الأنبياء عليهم الصلاة والسلام يصلونها على ما
يدل قول جبريل عليه السلام في خبر تعليمه عليه الصلاة والسلام
كيفية الصلاة بعد صلاته الخمس: هذا وقت الأنبياء من قبلك فإنه
ظاهر في أنهم عليهم السلام كانوا يصلونها، غاية ما في الباب
أنه على القول بأنها لم تجتمع لغير نبينا صلّى الله عليه وسلّم
وهو الصحيح يحتمل أن المراد أنه وقتهم على الإجمال وإن اختص من
اختص منهم بوقت، حيث ورد أن الصبح لآدم، والظهر لداود، وفي
رواية لإبراهيم، والعصر لسليمان، وفي رواية ليونس، والمغرب
ليعقوب، وفي رواية لعيسى، والعشاء ليونس، وفي رواية لموسى
عليهم السلام إلا أن ذلك لا يضر بل هو أنسب بالأمر باتباع سنة
جميعهم، وقد استدل الإمام على أنه صلّى الله عليه وسلّم أفضل
من سائر الأنبياء عليهم السلام بقوله تعالى: «فبهداهم اقتده»
من جهة أنه عليه الصلاة والسلام أمر بالاقتداء بهدي جميعهم
وامتثل ذلك فكان عنده من الهدى ما عند الجميع فيكون أفضل من كل
واحد منهم، وحينئذ يقال معنى كون ذلك نافلة له عليه الصلاة
والسلام أنه زائد على الصلوات الخمس خاص به صلّى الله عليه
وسلّم دون سائر الأنبياء عليهم السلام المأمور باتباع سنتهم،
وهو مما لا ينبغي أن يلتفت إليه ويعول عليه بل اللائق به أن
يجعل من قبيل حديث النفس وتخيلها بحرا من مسك موجه الذهب فإن
فساده تأصيلا وتفريعا مما لا يخفى على من له أدنى مسكة وأقل
اطلاع، والله تعالى العاصم من الزلل والحافظ من الخطأ والخطل،
وانتصاب نافِلَةً إما على المصدرية بتقدير تنفل وقدر الحوفي
نفلناك أو بجعل تهجد بمعنى تنفل أو بجعل نافلة بمعنى تهجدا،
فإن ذلك عبادة زائدة، وإما على الحال من الضمير الراجع إلى
القرآن أي حال كونه صلاة نافلة كما
(8/133)
قال أبو البقاء، وإما على المفعول لتهجد
كما جوزه الحوفي إذا كان بمعنى صل، وجعل الضمير المجرور للبعض
المفهوم، أو للوقت المقدر أي فصل فيه نافلة لك عَسى أَنْ
يَبْعَثَكَ رَبُّكَ الذي يبلغك إلى كمالك اللائق بك من بعد
الموت الأكبر لما انبعثت من الموت الأصغر بالصلاة والعبادة،
فالمعنى على التعليل والتهوين لمشقة قيام الليل حتى زعم بعضهم
أن عسى بمعنى كي، وهو وهم بل هي كما قال أهل المعاني للأطماع،
ولما كان إطماع الكريم إنسانا بشيء ثم حرمانه منه غرورا والله
عز وجل أجل وأكرم من أن يغر أحدا فيطمعه في شيء ثم لا يعطيه
قالوا هي للوجوب منه تعالى مجده على معنى أن المطمع به يكون
ولا بد للوعد، وقيل هي على بابها للترجي لكن يصرف إلى المخاطب
أي لتكن على رجاء من أن يبعثك ربك مَقاماً مَحْمُوداً وهي تامة
وأَنْ يَبْعَثَكَ فاعلها ورَبُّكَ فاعله ومَقاماً كما قال جمع
منصوب على الظرفية إما على إضمار فعل الإقامة أو على تضمين
الفعل المذكور ذلك أي عسى أن يبعثك فيقيمك مقاما أي في مقام،
أو يقيمك في مقام محمود باعثا إذ لا يصح أن يعمل في مثل هذا
الظرف إلا فعل فيه معنى الاستقرار خلافا للكسائي، واستظهر في
البحر كونه معمولا ليبعثك، وهو مصدر من غير لفظ الفعل لأن نبعث
بمعنى نقيم تقول أقيم من قبره، وبعث من قبره.
وجوز أبو البقاء وغيره كونه حالا بتقدير مضاف أي نبعثك ذا
مقام، وقيل يجوز أن يكون مفعولا به ليبعثك على تضمينه معنى
نعطيك، وجوز أبو حيان أن تكون عسى ناقصة ورَبُّكَ الفاعل على
تقدير أن ينتصب مَقاماً بمحذوف لا يبعث لئلا يلزم الفصل بين
العامل والمعمول بأجنبي، وتنكير مَقاماً للتعظيم، والمراد بذلك
المقام مقام الشفاعة العظمى في فصل القضاء حيث لا أحد إلا وهو
تحت لوائه صلّى الله عليه وسلّم
فقد أخرج البخاري وغيره عن ابن عمر قال:
«سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: إن الشمس لتدنو
حتى يبلغ العرق نصف الأذن فبينما هم كذلك استغاثوا بآدم فيقول
لست بصاحب ذلك ثم موسى فيقول كذلك ثم محمد فيشفع فيقضي الله
تعالى بين الخلق فيمشي حتى يأخذ بحلقة باب الجنة فيومئذ يبعثه
الله تعالى مقاما محمودا يحمده أهل الجمع كلهم» .
وأخرج الترمذي وحسنه عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله
صلّى الله عليه وسلّم: «أنا سيد ولد آدم يوم القيامة ولا فخر
ويبدي لواء الحمد ولا فخر وما من نبي يومئذ آدم فمن سواه إلا
تحت لوائي وأنا أول من تنشق عنه الأرض ولا فخر فيفزع الناس
ثلاث فزعات فيأتون آدم فيقولون أنت أبونا فاشفع لنا إلى ربك
فيقول إني أذنبت ذنبا أهبطت منه إلى الأرض ولكن ائتوا نوحا
فيأتون نوحا فيقول إني دعوت على أهل الأرض دعوة فأهلكوا ولكن
اذهبوا إلى إبراهيم فيأتون إبراهيم فيقول ائتوا موسى (1) فيقول
إني قتلت نفسا ولكن ائتوا عيسى فيقول إني عبدت من دون الله
تعالى ولكن ائتوا محمدا فيأتوني فأنطلق معهم فآخذ بحلقة باب
الجنة فأقعقعها فيقال من هذا فأقول محمد فيفتحون لي ويقولون
مرحبا فأخر ساجدا فيلهمني الله تعالى من الثناء والحمد والمجد
فيقال ارفع رأسك سل تعط واشفع تشفع وقل يسمع لقولك فهو المقام
المحمود الذي قال الله تعالى: عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ
مَقاماً مَحْمُوداً.
وجاء في بعض الروايات أنه عليه الصلاة والسلام يسجد أربع سجدات
أي كسجود الصلاة كما هو الظاهر تحت العرش فيجاب لما فزعوا
إليه، وذكر الغزالي في الدرة الفاخرة أن بين إتيانهم نبيا
وإتيانهم ما بعده ألف سنة ولا أصل له كما قال الحافظ ابن حجر،
وقيل هو مقام الشفاعة لأمته صلّى الله عليه وسلّم لما
أخرجه أحمد والترمذي والبيهقي في الدلائل
__________
(1) قوله فيقول ائتوا موسى إلخ كذا في نسخة المؤلف
وعبارة صحيح الترمذي فيقول إني كذبت ثلاث كذبات ثم قال رسول
الله صلّى الله عليه وسلّم ما منها كذبة إلا ما حل بها عن دين
الله ولكن ائتوا موسى فيأتون موسى فيقول إلخ
.
(8/134)
عن أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه
وسلّم أنه سئل عن المقام المحمود في الآية فقال: «هو المقام
الذي شفع فيه لأمتي»
وأجاب من ذهب إلى الأول بأنه يحتمل أن يكون المراد المقام الذي
أشفع فيه أولا لأمتي
فقد أخرج الشيخان وغيرهما عن أبي هريرة أيضا من حديث طويل في
الشفاعة فيه فزع الناس إلى آدم ونوح وإبراهيم وموسى وعيسى
عليهم السلام واعتذار كل منهم ما عدا عيسى عليه السلام بذنب
أنه صلّى الله عليه وسلّم قال: «فيأتوني- يعني الناس- بعد من
علمت من الأنبياء عليهم السلام فيقولون يا محمد أنت رسول الله
وخاتم الأنبياء وقد غفر الله تعالى لك ما تقدم من ذنبك وما
تأخر اشفع لنا إلى ربك ألا ترى إلى ما نحن فيه فأنطلق فآتي تحت
العرش فأقع ساجدا لربي ثم يفتح الله تعالى علي من محامده وحسن
الثناء عليه شيئا لم يفتحه على أحد قبلي ثم يقال يا محمد ارفع
رأسك سل تعطه واشفع تشفع فأرفع رأسي فأقول أمتي يا رب فيقال يا
محمد أدخل من أمتك من لا حساب عليهم من الباب الأيمن من أبواب
الجنة وهم شركاء الناس فيما سوى ذلك من الأبواب»
ومن الناس من فسره بمقام الشفاعة في موقف الحشر حيث يعترف
الجميع بالعجز أعم من أن تكون عامة كالشفاعة لفصل القضاء أو
خاصة كالشفاعة لبعض عصاة أمته صلّى الله عليه وسلّم في العفو
عنهم، والاقتصار على أحد الأمرين في بعض الأخبار لنكتة اقتضاها
الحال ولكل مقام مقال، وحمل هذا الشفاعة للأمة في خبر أبي
هريرة المتقدم على الشفاعة لبعض عصاتهم في الموقف قبل دخولهم
النار وإلا فلو أريد الشفاعة لهم بعد الحساب ودخول أهل الجنة
الجنة وأهل النار النار كما روي عن أبي سعيد لم يتيسر الجمع
بين الروايات إلا بأن يقال: المقام المحمود هو مقام الشفاعة
أعم من أن تكون في الموقف عامة وخاصة وأن تكون بعد ذلك ويكون
الاقتصار لنكتة، وقد جاء تفسيره بمقام الشفاعة مطلقا،
فقد أخرج ابن مردويه عن سعد بن أبي وقاص قال: سئل النبي صلّى
الله عليه وسلّم عن المقام المحمود فقال: هو الشفاعة
،
وأخرج ابن جرير عن وهب عن أبي هريرة «أن رسول الله صلّى الله
عليه وسلّم قال: المقام المحمود الشفاعة» .
وأخرج ابن جرير والطبراني وابن مردويه من طرق عن ابن عباس أنه
فسره بذلك، ثم الشفاعة من حيث هي وإن شاركه فيها صلّى الله
عليه وسلّم غيره من الملائكة والأنبياء عليهم السلام وبعض
المؤمنين إلا أن الشفاعة الكاملة والأنواع الفاضلة لا تثبت
لغيره عليه الصلاة والسلام، وقد أوصل بعضهم الشفاعة المختصة به
صلّى الله عليه وسلّم إلى عشر وذكره بعض شراح البخاري فليراجع،
ووصف المقام بأنه محمود على ما ذكر باعتبار أن النبي صلّى الله
عليه وسلّم يحمد فيه على أنعامه الواصل إلى الخاص والعام من
أصناف الأنام.
وأخرج النسائي والحاكم وصححه وجماعة عن حذيفة رضي الله تعالى
عنه قال: «يجمع الناس في صعيد واحد يسمعهم الداعي وينفذهم
البصر حفاة عراة كما خلقوا قياما لا تكلم نفس إلا بإذنه فينادي
يا محمد فيقول: لبيك وسعديك والخير في يديك والشر ليس إليك
والمهدي من هديت وعبدك بين يديك وبك وإليك لا ملجأ ولا منجى
منك إلا إليك تباركت وتعاليت سبحانك رب البيت»
فهذا المقام المحمود
وأخرج الطبراني عن ابن عباس أنه قال في الآية: يجلسه فيما بينه
وبين جبريل عليه السلام ويشفع لأمته فذلك المقام المحمود.
وأخرج ابن جرير عن مجاهد أنه قال: المقام المحمود أن يجلسه معه
على عرشه، وأنت تعلم أن الحمد على أكثر ما في هذه الروايات
مجاز عند من يقول: إنه مختص بالثناء على الأنعام، وأما عند من
يقول بعدم الاختصاص فلا مجاز، وتعقب الواحدي القول بأن المقام
المحمود إجلاسه صلّى الله عليه وسلّم عز وجل على العرش بعد ذكر
روايته عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما بأنه قول رذل موحش
فظيع لا يصح مثله عن ابن عباس، ونص الكتاب ينادي بفساده من
وجوه، الأول أن البعث ضد الإجلاس يقال بعث الله تعالى الميت
إذا أقامه من قبره وبعثت البارك والقاعد فانبعث فتفسيره به
تفسير الضد بالضد، الثاني لو كان جالسا سبحانه وتعالى على
العرش لكان محدودا متناهيا فيكون محدثا تعالى عن
(8/135)
ذلك علوا كبيرا، الثالث أنه سبحانه قال
مَقاماً ولم يقل مقعدا والمقام موضع القيام لا القعود، الرابع
أن الحمقى والجهال يقولون: إن أهل الجنة كلهم يجلسون معه تعالى
ويسألهم عن أحوالهم الدنياوية فلا مزية له صلّى الله عليه
وسلّم بإجلاسه معه عز وجل الخامس أنه إذا قيل: بعث السلطان
فلانا يفهم منه أنه أرسله إلى قوم لإصلاح مهماتهم ولا يفهم منه
أنه أجلسه مع نفسه انتهى. وأبو عمر لم يطلع إلا على رواية ذلك
عن مجاهد فقال: إن مجاهدا وإن كان أحد الأئمة بتأويل القرآن
حتى قيل: إذا جاءك التأويل عن مجاهد فحسبك إلا أن له قولين
مهجورين عند أهل العلم، أحدهما تأويل المقام المحمود بهذا
الإجلاس، والثاني تأويل إلى ربها ناظرة بانتظار الثواب.
وذكر النقاش عن أبي داود السجستاني أنه قال: من أنكر هذا
الحديث فهو عندنا متهم فما زال أهل العلم يحدثون به، قال ابن
عطية: أراد من أنكره على تأويله فهو متهم وقد يؤول قوله صلّى
الله عليه وسلّم يجلسني معه على رفع محله وتشريفه على خلقه
كقوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ [الأعراف: 206]
وقوله سبحانه: حكاية ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً [التحريم: 11]
وقوله تعالى: وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ
[العنكبوت: 69] إلى غير ذلك مما هو كناية عن المكانة لا عن
المكان.
وأنت تعلم أنه لا ينبغي لمجاهد ولا لغيره أن يفسر المقام
المحمود بالإجلاس على العرش حسبما سمعت من غير أن يثبت عنده
ذلك الإجلاس
في خبر كخبر الديلمي عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال:
«قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في قوله سبحانه: عَسى
أَنْ يَبْعَثَكَ إلخ يجلسني معه على السرير»
فإن تمسك المفسر بهذا أو نحوه لم يناظر إلا بالطعن في صحته
وبعد إثبات الصحة لا مجال للمؤن إلا التسليم، وما ذكره الواحدي
لا يستلزم عدم الصحة فكم وكم من حديث نصوا على صحته ويلزم من
ظاهره المحال كحديث أبي سعيد الخدري المشتمل على رؤية المؤمنين
الله عز وجل ثم إتيانه إياهم في أدنى صورة من التي رأوه فيها،
وقوله تعالى لهم: أَنَا رَبُّكُمْ [الأنبياء: 92] وقولهم نعوذ
بالله تعالى منك حتى يكشف لهم عن ساق فيسجدون ثم يرفعون رؤوسهم
وقد تحول في صورته التي رأوه فيها أول مرة وهو في الصحيحين،
وحديث لقيط بن عامر المشتمل على قوله صلّى الله عليه وسلّم:
«تلبثون ما لبثتم ثم يتوفى نبيكم ثم تلبثون ما لبثتم ثم تبعث
الصائحة- لعمر إلهك- لا تدع على ظهرها شيئا إلا مات والملائكة
الذين مع ربك عز وجل فأصبح ربك يطوف في الأرض وخلت عليه
البلاد» الحديث
، وقد رواه أئمة السنة في كتبهم وتلقوه بالقبول وقابلوه
بالتسليم والانقياد إلى ما لا يحصى من هذا القبيل، ومذاهب
المحدثين وأهل الفكر من العلماء في الكلام على ذلك مما لا
تخفى، ومتى أجريت هناك فلتجر هنا فالكل قريب من قريب. والصوفية
يقولون: إن لله عز وجل الظهور فيما يشاء على ما يشاء وهو
سبحانه في حال ظهوره باق على إطلاقه حتى عن قيد الإطلاق فإنه
العزيز الحكيم ومتى ظهر جل وعلا في صورة أجريت عليه سبحانه
أحكامها من حيث الظهور فيوصف عز مجده عندهم بالجلوس ونحوه من
تلك الحيثية وينحل بذلك أمور كثيرة إلا أنه مبني على ما دون
إثباته خرط القتاد ويرد على ما ذكره الواحدي في الوجه الثالث
أن المقام وإن كان في الأصل بمعنى محل القيام إلا أنه شاع في
مطلق المحل ويطلق على الرتبة والشرف، وعلى ما ذكره في الوجه
الأول أنه ليس هناك إلا تفسير المقام المحمود بالإجلاس لا
تفسير البعث بالإجلاس نعم فيه مسامحة، والمراد أن إحلاله في
المحل المحمود هو إجلاسه على العرش، وهذا المعنى يتأتى بإبقاء
البعث على معناه وتقدير فيقيمك بمعنى فيحلك وبتفسيره بالإقامة
بمعنى الإحلال، وقد يقال: لا مسامحة والمراد من المقام الرتبة،
والبعث متضمن معنى الإعطاء أي عسى يعطيك ربك رتبة محمودة وهي
إجلاسه إياك على عرشه باعثا، وما ذكره في الوجه الثاني حق لو
أريد من الجلوس على العرش ظاهره أن أريد معنى آخر فلا نسلم
اللازم وباب التأويل واسع، وقد أول
(8/136)
الإجلاس معه على رفع المحل والتشريف وهو
مقول بالتشكيك فمتى صح أن أهل الجنة كلهم يجلسون معه آمنا به
مع إثبات المزية للرسول صلّى الله عليه وسلّم فاندفع ما ذكره
في الوجه الرابع، ويرد على ما في الوجه الخامس أن الإجلاس معه
لم يفهم من مجرد البعث وما ادعى أحد ذلك فكون بعث السلطان
فلانا يفهم منه أنه أرسله إلى قوم لإصلاح مهماتهم ولا يفهم منه
أنه أجلسه مع نفسه لا يضرنا كما لا يخفى على منصف.
وبالجملة كل ما قيل أو يقال لا يصغى إليه إن صح التفسير عن
رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لكن يبقى حينئذ أنه يلزم
التعارض بين ظواهر الروايات، ومن هنا قال بعضهم: المراد
بالمقام المحمود ما ينتظم كل مقام يتضمن كرامة له صلّى الله
عليه وسلّم، والاقتصار في بعض الروايات على بعض لنكتة نحو ما
مر، ووصفه بكونه محمودا إما باعتبار أنه صلّى الله عليه وسلّم
يحمد لله تعالى عليه أبلغ الحمد أو باعتبار أن كل من يشاهده
يحمده ولم يشترط أن يكون الحمد في مقابلة النعمة ويدخل في هذا
كل مقام له صلّى الله عليه وسلّم محمود في الجنة.
وكذا يدخل فيه ما جوز مفتي الصوفية سيدي شهاب الدين السهروردي
أن يكون المقام المحمود وهو إعطاؤه عليه الصلاة والسلام مرتبة
من العلم لم تعط لغيره من الخلق أصلا فإنه ذكر في رسالة له في
العقائد أن علم عوام المؤمنين يكون يوم القيامة كعلم علمائهم
في الدنيا ويكون علم العلماء إذ ذاك كعلم الأنبياء عليهم
السلام ويكون علم الأنبياء كعلم نبينا صلّى الله عليه وسلّم
ويعطى نبينا عليه الصلاة والسلام من العلم ما لم يعط أحد من
العالمين ولعله المقام المحمود ولم أر ذلك لغيره عليه الرحمة
والله تعالى أعلم.
ثم هذا الاختلاف في المقام المحمود هنا لم يقع فيه في دعاء
الأذان بل ادعى العلامة ابن حجر الهيتمي أنه فيه مقام الشفاعة
العظمى لفصل القضاء اتفاقا فتأمل في هذا المقام والله تعالى
ولي الإنعام والإفهام.
وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ أي إدخالا مرضيا
جيدا لا يرى فيه ما يكره، والإضافة للمبالغة.
وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ نظير الأول واختلف في تعيين
المراد من ذلك فأخرج الزبير بن بكار عن زيد بن أسلم أن المراد
إدخال المدينة والإخراج من مكة ويدل عليه ما قيل قوله تعالى:
وَإِنْ كادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ إلخ.
وأيد بما أخرجه أحمد والطبراني والترمذي وحسنه والحاكم وصححه
وجماعة عن ابن عباس قال: كان النبي صلّى الله عليه وسلّم بمكة
ثم أمر بالهجرة فأنزل الله تعالى عليه وَقُلْ رَبِّ الآية،
وبدأ بالإدخال لأنه الأهم. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن
ابن عباس أنه الإدخال في القبر والإخراج منه وأيد بذكره بعد
البعث، وقيل إدخال مكة ظاهرا عليها بالفتح وإخراجه صلّى الله
عليه وسلّم منها آمنا من المشركين، وقيل إخراجه من المدينة
وإدخال مكة بالفتح، وقال محمد بن المنكدر: إدخاله الغار
وإخراجه منه، وقيل الإدخال في الجنة والإخراج من مكة، وقيل
الإدخال في الصلاة والإخراج منها، وقيل الإدخال في المأمورات
والإخراج عن المنهيات وقيل الإدخال فيما حمله صلّى الله عليه
وسلّم من أعباء النبوة وأداء الشرع وإخراجه منه مؤديا لما كلفه
من غير تفريط، وقيل الإدخال في بحار التوحيد والتنزيه والإخراج
من الاشتغال بالدليل إلى معرفة المدلول والتأمل في الآثار إلى
الاستغراق في معرفة الواحد القهار. وقيل وقيل والأظهر أن
المراد إدخاله عليه الصلاة والسلام في كل ما يدخل فيه ويلابسه
من مكان أو أمر وإخراجه منه فيكون عاما في جميع الموارد
والمصادر واستظهر ذلك أبو حيان وفي الكشف أنه الوجه الموافق
لظاهر اللفظ والمطابق لمقتضى النظم فسابقه ولا حقه لا يختصان
بمكان دون آخر، وكفاك قوله تعالى وَاجْعَلْ لِي إلخ شاهد صدق
على إيثاره.
وقرأ قتادة وأبو حيوة وحميد وإبراهيم بن أبي عبلة «مدخل» و
«مخرج» بفتح الميم فيهما، قال صاحب اللوامح:
(8/137)
وهما مصدران من دخل وخرج لكنهما جاءا من
معنى أدخلني وأخرجني السابقين دون لفظهما ومثل ذلك
أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً [نوح: 17] ويجوز أن يكونا
اسمي مكان وانتصابهما على الظرفية، وقال غيره من المحققين: هما
مصدران منصوبان على تقدير فعلين ثلاثيين إذ مصدر المزيدين
مضموم الميم كما في القراءة المتواترة أي أدخلني فادخل مدخل
صدق وأخرجني فاخرج مخرج صدق.
وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطاناً نَصِيراً أي حجة تنصرني
على من خالفني وهو مراد مجاهد بقوله حجة بينة، وفي رواية أخرى
عنه أنه كتاب يحوي الحدود والأحكام وعن الحسن أنه أريد التسلط
على الكافرين بالسيف وعلى المنافقين بإقامة الحدود، وقريب ما
قيل إن المراد قهرا وعزا تنصر به الإسلام على غيره.
وزعم بعضهم أنه فتح مكة، وقيل السلطان أحد السلاطين الملوك
فكأن المراد الدعاء بأن يكون في كل عصر ملك ينصر دين الله
تعالى، قيل وهو ظاهر ما أخرجه البيهقي في الدلائل والحاكم
وصححه عن قتادة قال: أخرجه الله تعالى من مكة مخرج صدق وأدخله
المدينة مدخل صدق وعلم نبي الله أنه لا طاقة له بهذا الأمر إلا
بسلطان فسأل سلطانا نصيرا لكتاب الله تعالى وحدوده وفرائضه فإن
السلطان عزة من الله عز وجل جعلها بين أظهر عباده لولا ذلك
لأغار بعضهم على بعض وأكل شديدهم ضعيفهم وفيه نظر، وفعيل على
سائر الأوجه مبالغ في فاعل.
وجوز أن يكون في بعضها بمعنى مفعول، والحق أن المراد من
السلطان كل ما يفيده الغلبة على أعداء الله تعالى وظهور دينه
جل شأنه ووصفه بنصيرا للمبالغة وَقُلْ جاءَ الْحَقُّ الإسلام
والدين الثابت الراسخ.
والجملة عطف على جملة قُلْ أولا واحتمال أنها من مقول القول
الأول لما فيها من الدلالة على الاستجابة في غاية البعد.
وَزَهَقَ الْباطِلُ أي زال واضمحل ولم يثبت الشرك والكفر
وتسويلات الشيطان من زهقت نفسه إذا خرجت من الأسف، وعن قتادة
أن الحق القرآن والباطل الشيطان، وعن ابن جريج أن الأول الجهاد
والثاني الشرك وعن مقاتل الحق عبادة الله تعالى والباطل عبادة
الشيطان وهذا قريب مما ذكرنا.
إِنَّ الْباطِلَ كائنا ما كان كانَ زَهُوقاً مضمحلا غير ثابت
الآن أو فيما بعد أو مطلقا لكونه كان لم يكن، وصيغة فعول
للمبالغة.
أخرج الشيخان وجماعة عن ابن مسعود قال: دخل النبي صلى الله
عليه وسلّم مكة وحول البيت ستون وثلاثمائة نصب فجعل يطعنها
بعود في يده وقول جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ إِنَّ
الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً جاء الحق وما يبدىء الباطل وما يعيد،
وفي رواية الطبراني في الصغير والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس
أنه صلى الله عليه وسلّم جاء ومعه قضيب فجعل يهوي به إلى كل
صنم منها فيخر لوجهه فيقول جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ
إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً حتى مر عليها كلها.
وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ
لِلْمُؤْمِنِينَ أي ما هو في تقديم دينهم واستصلاح نفوسهم
كالدواء الشافي للمرضى، ومِنَ للبيان وقدم اهتماما بشأنه،
وأنكر أبو حيان جواز التقديم واختار هنا كون من لابتداء الغاية
وهو إنكار غير مسموع فيفيد أن كل القرآن كذلك.
وفي الخبر من لم يستشف بالقرآن فلا شفاه الله تعالى
أو للتبعيض ومعناه على ما في الكشف وننزل ما هو شفاء أي تدرج
في نزوله شفاء فشفاء وليس معناه أنه منقسم إلى ما هو شفاء وليس
بشفاء والمنزل الأول كما وهم الحوفي فأنكر جواز إرادة التبعيض
وإنما المعنى أن ما لم ينزل بعد ليس بشفاء للمؤمنين لعدم
الاطلاع وأن كل ما ينزل فهو شفاء لداء خاص يتجدد نزول الشفاء
كفاء تجدد الداء.
(8/138)
وفيه أيضا أن هذا الوجه أوفق لمقتضى المقام
ولا يخفى عليك بعده ولذا اختير في توجيه التبعيض أنه باعتبار
الشفاء الجسماني وهو من خواص بعض دون بعض ومن البعض الأول
الفاتحة وفيها آثار مشهورة، وآيات الشفاء وهي ست وَيَشْفِ
صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ [التوبة: 14] شِفاءٌ لِما فِي
الصُّدُورِ [يونس: 57] ، فِيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ [النحل: 69]
وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ
لِلْمُؤْمِنِينَ وَإِذا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ [الشعراء:
80] قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفاءٌ [فصلت: 44] .
قال السبكي: وقد جربت كثيرا، وعن القشيري أنه مرض له ولد أيس
من حياته فرأى الله تعالى في منامه فشكى له سبحانه ذلك فقال
له: اجمع آيات الشفاء واقرأها عليه أو اكتبها في إناء واسقه
فيه ما محيت به ففعل فشفاه الله تعالى، والأطباء معترفون بأن
من الأمور والرقى ما يشفي بخاصية روحانية كما فصله الأندلسي في
مفرداته، وكذا داود في الجلد الثاني من تذكرته، ومن ينكر لا
يعبأ به، نعم اختلف العلماء في جواز نحو ما صنعه القشيري عن
الرؤيا وهو نوع من النشرة وعرفوها بأنها أن يكتب شيء من أسماء
الله تعالى أو من القرآن ثم يغسل بالماء ثم يمسح به المريض أو
يسقاه فمنع ذلك الحسن والنخعي ومجاهد،
وروى أبو داود من حديث جابر أن النبي صلى الله عليه وسلّم سئل
عن النشرة فقال: هي من عمل الشيطان
، وأجاز ذلك ابن المسيب، والنشرة التي قال فيها صلى الله عليه
وسلّم ما قال هي النشرة التي كانت تفعل في الجاهلية وهي أنواع،
منها ما يفعله أهل التعزيم في غالب الإعصار من قراءة أشياء غير
معلومة المعنى ولم تثبت في السنة أو كتابتها وتعليقها أو
سقيها، وقال مالك: لا بأس بتعليق الكتب التي فيها أسماء الله
تعالى على أعناق المرضى على وجه التبرك بها إذا لم يرد معلقها
بذلك مدافعة العين، وعنى بذلك أنه لا بأس بالتعليق بعد نزول
البلاء رجاء الفرج والبر.
كالرقي التي وردت السنة بها من العين، وأما قبل النزول ففيه
بأس وهو غريب، وعند ابن المسيب يجوز تعليق العوذة من كتاب الله
تعالى في قصبة ونحوها وتوضع عند الجماع، وعند الغائط ولم يقيد
بقبل أو بعد، ورخص الباقر في العوذة تعلق على الصبيان مطلقا،
وكان ابن سيرين لا يرى بأسا بالشيء من القرآن يعلقه الإنسان
كبيرا أو صغيرا مطلقا، وهو الذي عليه الناس قديما وحديثا في
سائر الأمصار لكن توجيه التبعيض بما ذكر لا يساعده قوله
سبحانه:
وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَساراً أي لا يزيد القرآن
كله أو كل بعض منه الكافرين المكذبين به الواضعين للأشياء في
غير موضعها مع كونه في نفسه شفاء لما في الصدور من أدواء الريب
وأسقام الأوهام إلا خسارا أي هلاكا بكفرهم وتكذيبهم وزيادتهم
من حيث إنهم كلما جددوا الكفر والتكذيب بالآية النازلة تدريجا
ازدادوا بذلك هلاكا، وفسر بعضهم الخسار بالنقصان، ورجح أبو
السعود الأول بأن ما بهم من داء الكفر والضلال حقيق بأن يعبر
عنه بالهلاك لا بالنقصان المنبئ عن حصول بعض مبادئ الإسلام
فيهم، وفيه كما قال إيماء إلا أن ما بالمؤمنين من الشبه
والشكوك المعترية لهم في أثناء الاهتداء والاسترشاد بمنزلة
الأمراض، وما بالكفرة من الجهل والعناد بمنزلة الموت والهلاك،
وإسناد الزيادة المذكورة إلى القرآن مع أنهم المزدادون في ذلك
لسوء صنيعهم باعتبار كونه سببا لذلك، وفيه تعجيب من أمره من
حيث كونه مدارا للشفاء والهلاك:
كماء صار في الأصداف درا ... وفي ثغر الأفاعي صار سما
هذا وربما يقال: إن انقسام القرآن إلى ما هو شفاء من أدواء
الريب وإسقام الوهم وإلى ما ليس كذلك مما لا ينبغي أن يكون فيه
ريب لأن الشافي من أدواء الريب إنما هو الأدلة كالآيات الدالة
على بطلان الشرك وثبوت الوحدانية له تعالى وكالآيات الدالة على
إمكان الحشر الجسماني وليس كل آيات القرآن كذلك فإن منه ما هو
أمر بصلاة وصوم وزكاة ومنه ما هو نهي عن قتل وزنى وسرقة ونحو
ذلك وهو لا يشفي به أدواء الريب وإسقام الوهم وكذا آيات
(8/139)
القصص، نعم فيما ذكر نفع غير الشفاء من تلك
الأدواء فهو رحمة وحينئذ يقال في الآية حذف أي ننزل من القرآن
ما هو شفاء وما هو رحمة على معنى ننزل من القرآن آيات هي شفاء
وآيات هي رحمة.
وفيه أن الريب غير مختص فيما يتعلق بالله عز وجل وبإمكان الحشر
بل يكون أيضا في الرسالة وصدقه صلى الله عليه وسلّم في دعواها،
وما من آية في القرآن إلا وهي مستقلة أو لها دخل في الشفاء من
ذلك الداء لما فيها من الإعجاز وكذا ما من آية إلا وفيها نفع
من جهة أخرى فكل آية رحمة كما أن كلها شفاء لكن كونه رحمة
بالنسبة إلى كل واحد واحد من المؤمنين إذ كل مؤمن ينتفع به
نوعا من الانتفاع وكونه شفاء بالفعل بالنسبة إلى من عرض له شيء
من أدواء الريب وأسقام الوهم وليس كل المؤمنين كذلك، والقول
بأن كلا كذلك في أول الإيمان غير مسلم ولا يحتاج إليه كما لا
يخفى.
والإمام عمم شفائيته وقد أحسن فقال: هو شفاء للأمراض الروحانية
وهي نوعان: اعتقادات باطلة وأخلاق مذمومة فلاشتماله على
الدلائل الحقة الكاشفة عن المذاهب الباطلة في الإلهيات
والنبوات والمعاد والقضاء والقدر المبينة لبطلانها يشفي عن
النوع الأول من الأمراض ولاشتماله على تفاصيل الأخلاق المذمومة
وتعريف ما فيها من المفاسد والإرشاد إلى الأخلاق الفاضلة
والأعمال المحمودة يشفي عن النوع الآخر، والشفاء إشارة إلى
التخلية والرحمة إشارة إلى التحلية ولأن الأولى أهم من الثانية
قدم الشفاء على الرحمة فتأمل والله تعالى الموفق.
وقرأ البصريان «ننزل» بالنون والتخفيف، وقرأ مجاهد بالياء
والتخفيف ورواها المروزي عن حفص.
وقرأ زيد بن علي رضي الله تعالى عنهما «شفاء ورحمة» بنصبهما،
قال أبو حيان: ويتخرج ذلك على أنهما حالان والخبر للمؤمنين
والعامل في الحال ما في الجار والمجرور من الفعل، ونظير ذلك
وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ [الزمر: 67] في قراءة
نصب «مطويات» وقول الشاعر:
رهط ابن كوز محقبى أدراعهم ... فيهم ورهط ربيعة بن حذار
ثم قال: وتقديم الحال على العامل فيه من الظرف لا يجوز إلا عند
الأخفش، ومن منع جعله منصوبا على إضمار أعني، وأنت تعلم أن من
يجوز مجيء الحال من المبتدأ لا يحتاج إلى ذلك وَإِذا
أَنْعَمْنا بالصحة والسعة ونحوهما عَلَى الْإِنْسانِ أي جنسه
فيكفي في صحة الحكم وجوده في بعض الأفراد ولا يضر وجود نقيضه
في البعض الآخر، وقيل المراد به الوليد بن المغيرة أَعْرَضَ عن
ذكرنا كأنه مستغن عنا فضلا عن القيام بمواجب شكرنا وَنَأى
بِجانِبِهِ لوى عطفه عن طاعتنا وولاها ظهره، وأصل معنى النأي
البعد وهو تأكيد للإعراض بتصوير صورته فهو أوفى بتأدية المراد
منه، ومثله يجوز عطفه لإيهام المغايرة بينهما وهو أبلغ من ترك
العطف على ما بين في محله، على أن ما ذكره أهل المعاني من أن
التأكيد يتعين فيه ترك العطف لكمال الاتصال غير مسلم، والجانب
على ظاهره والمراد ترك ذلك، ويجوز أن يكون كناية عن الاستكبار
فإن ثنى العطف من أفعال المستكبرين ولا يبعد أن يراد بالجانب
النفس كما يقال جاء من جانب فلان كذا أي منه وهو كناية أيضا
كما يعبر بالمقام والمجلس عن صاحبه، وقرأ ابن عامر برواية ابن
ذكوان «وناء» هنا وفي [فصلت: 51] فقيل ذلك من باب القلب ووضع
العين محل اللام كراء ووراء، وقيل لا قلب وناء بمعنى نهض كما
في قوله:
حتى إذا ما التأمت مفاصله ... وناء في شق الشمال كاهله
أي نهض متوكئا على شماله، وفسر نهض هنا بأسرع والكلام على
تقدير مضاف أي أسرع بصرف جانبه، وقيل: معناه تثاقل عن أداء
الشكر فعل المعرض وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ من مرض أو فقر أو
نازلة من النوازل كانَ
(8/140)
يَؤُساً
شديد اليأس من رحمتنا لأنه لم يحسن معاملتنا في الرخاء حتى
يرجو فضلنا في الشدة، وفي إسناد المساس إلى الشر بعد إسناد
الأنعام إلى ضميره تعالى إيذان بأن الخير مراد بالذات والشر
ليس كذلك لأن ذلك هو الذي يقتضيه الكرم المطلق والرحمة الواسعة
وإلى ذلك الإشارة
بقوله صلى الله عليه وسلّم «اللهم إن الخير بيديك والشر ليس
إليك»
وللفلاسفة ومن يحذو حذوهم في ذلك بحث طويل لا بأس بالاطلاع
عليه ليؤخذ منه ما صفا ويترك منه ما كدر قالوا: إن الأول تعالى
تام القدرة والحكمة والعلم كامل في جميع أفاعيله لا يتصور بخله
بإفاضة الخيرات وليس الداعي له لذلك إلا علمه بوجوه الخير
ومصالح الغير الذي هو عين ذاته كسائر صفاته وأما النقائص
والشرور الواقعة في ضرب من الممكنات وعدم وصولها إلى كمالها
المتصور في حقها فهي لقصور قابلياتها ونقص استعداداتها لا من
بخل الحق تعالى مجده عن ذلك.
وقصور القابلية ينتهي في الآخرة إلى لوازم الماهيات الإمكانية
ومنبعها الإمكان وتحقيق ذلك أن الشر يطلق عرفا على معنيين:
أحدهما ما هو عدم كالفقر والجهل البسيط وهذا على ضربين: الأول
عدم محض ليس بإزاء الوجود الذي يطلبه طباع الشيء ولا مما يمكن
حصوله له من الكمالات والخيرات كقصور الممكن عن الوجود الواجبي
والوجوب الذاتي وقصور بعض الممكنات عن بعض كقصور الأجسام عن
النفوس فالخير الذي يقابل هذا منحصر في الواجب تعالى إذ له
الكمال المطلق والوجود الحق بلا جهة إمكانية بوجه من الوجوه
وما عداه من المهيئات المعروضة للوجود لا يخلو من شوب شرية ما
وظلمة ما على تفاوت إمكاناتهم حسب تفاوت طبقاتهم في البعد عن
ينبوع الوجود ومطلع نور الخير والجود، وهذا الشر منبعه الإمكان
الذاتي، والثاني ما يكون عدم ما يطلبه الشيء أو ما يمكن حصوله
له من الكمالات ولا يتصور هذا في غير الماديات إذ الإبداعيات
يكون وجودها على أكمل ما يتصور في حقها فلا يكون لها شرية بهذا
المعنى وما عداها من المتعلقة بالمادة لا تخلو من شرية على
تفاوت إمكاناتها الاستعدادية بحسب تفاوت مراتبها في التعلق
بالهيولى وهذا الشر منبعه الهيولى ومنبعها الإمكان إذ لولاه ما
صدرت من مصدرها فآل الشر إلى الإمكان كما سمعت أولا.
وثانيهما ما يمنع الشيء عن الوصول إلى الخير الممكن في حقه من
الوجود أو كمال الوجود كالبرد والحر المفسدين للثمار والمطر
المانع للقصار عن تبييض الثياب والأخلاق الذميمة المانعة للنفس
عن وصولها إلى كمالها العقلي كالبخل والإسراف والجهل المركب
والسفاهة والأفعال الذميمة كالزنا والسرقة والنميمة وأشباه ذلك
من الآلام والغموم وغير ذلك من الأشياء الوجودية لكن يتبعها
إعدام، وإطلاق الشر عندهم على المعنى الأول حقيقة وعلى الثاني
مجاز لأن الشر الحقيقي لا ذات له بل هو إما عدم ذات أو عدم
كمال لذات، والبرهان عليه أنه لو كان أمرا وجوديا فلا يخلو إما
أن يكون شرا لنفسه أو لغيره والأول باطل وإلا لما وجد إذ الشيء
لا يقتضي لذاته عدمه أو عدم كماله كيف وجميع الأشياء طالبة
لكمالاتها لا مقتضية لعدمها مع أنه لو اقتضى كان الشر ذلك
العدم لا نفسه وكذا الثاني لأن كونه لغيره إما لأنه لعدم ذلك
الغير أو لأنه لعدم بعض كمالاته فإنه لو لم يكن معدما لشيء
أصلا لا لوجوده ولا لكمال وجوده لم يكن شرا لذلك الشيء ضرورة
أن كل ما لا يوجب عدم شيء ولا عدم كمال له لا يكون شرا له فإذا
ليس الشر إلا عدم ذلك الشيء أو عدم كماله لا نفس الأمر الوجودي
المعدم بل هو في ذاته من الكمالات النفسانية أو الجسمانية
كالظلم فإنه وإن كان شرا بالقياس إلى المظلوم وإلى النفس
الناطقة التي كمالها في تسخير قواها وكسرها لكنه خير بالقياس
إلى القوة الغضبية التي كمالها بالانتقام، وكذا الإحراق كمال
للنار وشر لمن يتضرر به فعلم أن الشر إما عدم ذات أو عدم كمال
لها فالوجود من حيث إنه وجود خير محض والعدم من حيث إنه عدم شر
محض، ثم إنك
(8/141)
قد علمت أن الشر الذي هو بمعنى العدم منه
ما هو من لوازم الماهيات التي لا علة لها ومنه ما لا يكون من
هذا القبيل بل قد يلحق الماهيات لا من ذاتها فلا بد له من علة
والكلام ليس في الأول الذي لا لمية له إذ قد تقرر أنه ليس
للماهيات في كونها ممكنة ولا في حاجتها إلى علة لوجودها علة
ولا لقصور الممكن عن الواجب بذاته ولا لتفاوت مراتب هذا
النقصان في الماهيات علة بل إنما ذلك لاختلاف الماهيات في حدود
ذاتها لا لأمر خارج عنها كيف ولو كان النقص في جميعها متشابها
لكانت الماهيات ماهية واحدة بل الكلام في الثاني وهو عدم ما هو
من الأمور الزائدة على مقتضى النوع كالجهل بالفلسفة للإنسان
مثلا فإن ذلك ليس شرا له لأجل كونه إنسانا بل لأجل أنه فقد لما
اقتضاه شخص مستعد له مشتاق إليه من حيث إنه وجد فيه هذا
الاستحقاق والاشتياق الذي لا صلاح في أن يعم.
وهذا الشر إنما يوجد في الأشياء على سبيل الندرة فكل ما وجد
فهو خير محض أو خيره أكثر من شره، وأما ما يكون شرا محضا أو
مستولي الشرية أو متساوي الطرفين فمما لا وجود له أصلا حتى
يحتاج فيه إلى منشأ سوى الواجب تعالى الذي هو خير محض لا يوجد
منه شر أصلا كما توهمه كفرة المجوس، ثم كل ما كان خيرا محضا أو
كان خيره أكثر يصدر من الواجب بمقتضى أن من شأنه إفاضة الخير
لأن ترك الأول شر محض وترك الثاني شر غالب، وعالم العناصر من
القسم الثاني فإن إيجابه للشرور على الوجه النادر ولا تسوغ
عناية المبدع ورحمة الجواد إهماله وإلا لزم خير كثير لشر قليل
وهو شر كثير على أنها إنما تكون للنفع في أشياء لو لم تخلق
لخلق سربال الوجود وقصر رداء الجود وبقي في كتم العدم عوالم
كثيرة ونفائس جمة غفيرة فمن هذه الحيثية يكون ذلك الشر القليل
مقتضيا بالذات وهي مع ذلك إنما توجد تحت كرة القمر في بعض
جوانب الأرض التي هي حقيرة بل لا شيء بالنسبة إلى ما عند ربك
سبحانه وتكون لبعض الأشخاص في بعض الأوقات وليست أيضا شرورا
بالنسبة إلى نظام الكل فإذا تصورت ذرة الشر في أبحر أشعة شمس
الخير لا يضرها بل يزيدها بهاء وجمالا وضياء وكمالا كالشامة
السوداء على الصورة المليحة البيضاء يزيدها حسنا وملاحة
وإشراقا وصباحة.
ولا يخفى أن هذا إنما يتم على القول بأنه تعالى لا يمكن أن
تكون إرادته متساوية النسبة إلى الشيء ومقابله بلا داع ومصلحة
كما هو مذهب الأشاعرة وإلا فقد يقال: إن الفاعل للكل إذا كان
مختارا فله أن يختار أيما شاء من الخيرات والشرور لكن الحكماء
وأساطين الإسلام قالوا: إن اختياره تعالى أرفع من هذا النمط
وأمور العالم منوطة بقوانين كلية وأفعاله تعالى مربوطة بحكم
ومصالح جلية وخفية.
وقول الإمام: إن الفلاسفة لما قالوا بالإيجاب والجبر في
الأفعال فخوضهم في هذا المبحث من جملة الفضول والضلال لأن
السؤال بلم عن صدورها غير وارد كصدور الإحراق من النار لأنه
يصدر عنها لذاتها ناشىء من التعصب لأن محققيهم يثبتون الاختيار
وليس صدور الأفعال من الله تعالى عندهم صدور الإحراق من النار،
وبعد فرض التسليم بحثهم عن كيفية وقوع الشر في هذا العالم لأجل
أن الباري تبارك اسمه خير محض بسيط عندهم ولا يجوزون صدور الشر
عما لا جهة شرية فيه أصلا فيلزم عليهم في بادىء النظر إثبات ما
افترته الثنوية من مبدأين خيري وشري فتخلصوا عن ذلك بذلك البحث
فهو فضل لا فضول، وبالجملة ما يصدر عنه تعالى إما ما هو بريء
بالكلية عن الشر وإما ما يلزمه شر قليل وفي تركه شر كثير ولا
يصدر عنه تعالى ذلك أيضا في حق شخص إلا بعد طلب ماهيته له في
نفسها كما يشير إليه قوله تعالى: أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ
ثُمَّ هَدى [طه: 50] إلى غير ذلك من الآيات.
وفي الإشارات وشروحها كلام طويل يتعلق بهذا المقام ولعل فيما
ذكرنا كفاية لذوي الأفهام.
(8/142)
هذا ثم إنه سبحانه بعد أن ذكر حال القرآن
بالنسبة إلى المؤمنين وإلى الكافرين وبين حال الكافر في حالي
الإنعام ومقابله ذكر ما يصلح جوابا لم يقول: لم كان الأمر
كذلك؟ فقال عز قائلا: قُلْ كُلٌّ أي واحد من المؤمن والكافر
والمعرض والمقبل والراجي والقانط يَعْمَلُ عمله عَلى
شاكِلَتِهِ أي على مذهبه وطريقته التي تشاكل حاله وما هو عليه
في نفس الأمر وتشابهه في الحسن والقبح من قولهم طريق ذو شواكل
أي طرق تتشعب منه وهو مأخوذ من الشكل بفتح الشين أي المثل
والنظير ويقال لست من شكلي ولا شاكلتي وأما الشكل بكسر الشين
فالهيئة يقال جارية حسنة الشكل أي الهيئة، وظاهر عبارة القاموس
أن كلا من الشكل والشكل يطلق على المثل والهيئة.
وهذا التفسير مروي عن الفراء والزجاج واختاره الزمخشري وغيره
لقوله تعالى: فَرَبُّكُمْ الذي برأكم متخالفين أَعْلَمُ بِمَنْ
هُوَ أَهْدى سَبِيلًا أسد طريقا وأبين منهاجا وفسر مجاهد
الشاكلة بالطبيعة على أنها من شكلت الدابة إذا قيدتها أي على
طبيعته التي قيدته لأن سلطان الطبيعة على الإنسان ظاهر وهو
ضابط له وقاهر. وروي ذلك عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما
ومثل ذلك في المأخذ تفسير بعضهم بالعادة ومن مشهور كلامهم
العادات قاهرات، وكذا تفسير ابن زيد لها بالدين وكلا التفسيرين
دون الأولين. ولعل الدين هنا بمعنى الحال وهو أحد معانيه.
وجوز الإمام وغيره أن يكون المراد أن كل أحد يفعل على وفق ما
شاكل جوهر نفسه ومقتضى روحه فإن كانت نفسا مشرقة حرة طاهرة
علوية صدرت عنه أفعال فاضلة كريمة وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ
يَخْرُجُ نَباتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ [الأعراف: 58] وإن كانت
نفسا كدرة نذلة خبيثة ظلمانية سفلية صدرت عنه أفعال خسيسة
فاسدة وَالَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِداً [الأعراف:
58] واختار أن النفوس الناطقة البشرية مختلفة الماهية ولذا
اختلفت آثارها، وسيأتي الكلام على ذلك إن شاء الله تعالى
قريبا، ولا يرد أن خسة الأفعال وشرافتها إذا كانتا تابعتين
لخسة النفس وشرافتها وهما أمران خلقيان لا مدخل لاختيار فيهما
فعلام المدح والذم والثواب والعقاب لأنهم قالوا: إن ذلك لأمر
ذاتي وهو حسن استعداد النفس في نفسها وسوء استعدادها أيضا في
نفسها ولا تثاب النفس ولا تعاقب إلا لاستعدادها في الأزل
وطلبها لذلك بلسان حالها والمشهور إطلاق القول بأن ذلك غير
مجعول وإنما المجعول وجوده وإبرازه على طبق ما هو عليه في نفسه
فاعملوا فكل ميسر لما خلق له ومن وجد خيرا فليحمد الله تعالى
ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه وقال بعض:
إنه مجعول بالجعل البسيط على معنى أنه أثر الفيض الأقدس الذي
هو مقتضى ذاته عز وجل بطريق الإيجاب ويجري نحو هذا في الوجهين
الأولين.
وقال بعض المتأخرين (1) من فلاسفة الإسلام المتصدين للجمع
برأيهم بين الشريعة والفلسفة إن ذات الإنسان بحسب الفطرة
الأصلية لا تقتضي إلا الطاعة واقتضاؤها للمعصية بحسب العوارض
الغريبة الجارية مجرى المرض والخروج عن الحالة الطبيعية فيكون
ميلها للمعصية مثل ميل منحرف المزاج الأصلي إلى أكل الطين، وقد
ثبت في الحكمة أن الطبيعة بسبب عارض غريب تحدث في جسم المريض
مزاجا خاصا يسمى مرضا فالمرض من الطبيعة بتوسط العارض الغريب
كما أن الصحة منها،
وفي الحديث القدسي «إني خلقت عبادي كلهم حنفاء وإنهم أتتهم
الشياطين فاجتالتهم عن دينهم»
،
وفي الأثر «كل مولود يولد على فطرة الإسلام ثم أبواه يهودانه
وينصرانه ويمجسانه»
أي بواسطة الشياطين أو المراد بهم ما يعم شياطين الإنس والجن
أو الشياطين كناية عن العوارض الغريبة فالخلق لو لم يحصل لهم
مس من الشيطان ما عصو أو لبقوا على فطرتهم لكن مسهم الشيطان
ففسدت عليهم فطرتهم الأصلية
__________
(1) هو الملا صدر الدين الشيرازي صاحب الأسفار لا صاحب حواشي
شرح التجريد المشهور حاله مع ملا جلال اه منه.
(8/143)
فاقتضوا أشياء منافية لهم مضادة لجوهرهم
البهي الإلهي من الهيئات الظلمانية ونسوا أنفسهم وما جبلوا
عليه:
ولولا المزعجات من الليالي ... ما ترك القطا طيب المنام
ولذا احتاجوا إلى رسل يبلغونهم آيات الله تعالى ويسنون لهم ما
يذكرهم عهد ذواتهم من نحو الصلاة والصيام والزكاة وصلة الأرحام
ليعودوا إلى فطرتهم الأصلية ومقتضى ذاتهم البهية ويعتدل مزاجهم
ويتقوم اعوجاجهم، ولذا قيل:
الأنبياء أطباء وهم أعرف بالداء والدواء، ثم إن ذلك المرض الذي
عرض لذواتهم والحالة المنافية التي قامت بهم لولا أن وجدوا من
ذواتهم قبولا لعروضهما لهم ورخصة في حلوقهما بهم لم يكونا
يعرضان ولا يلحقان فإذا كان مما تقتضيه ذواتهم أن تلحقهم أمور
منافية مضادة لجواهرهم فإذا لحقتهم تلك الأمور اجتمعت فيها
جهتان الملاءمة والمنافاة أما كونها ملائمة فلكون ذواتهم
اقتضتها، وأما كونها منافية فلأنها اقتضتها على أن تكون منافية
لهم فلو لم تكن منافية لم يكن ما فرض مقتضى لها بل أمرا آخر،
وانظر إلى طبيعة (2) التي تقتضي يبوسة حافظة لأي شكل كان حتى
صارت ممسكة للشكل القسري المنافي لكرويتها الطبيعية ومنعت عن
العود إليها فعروض ذلك الشكل للأرضية لكونها مقسورة من وجه
ومطبوعة من وجه فالإنسان عند عروض مثل هذا المنافي ملتذ متألم
سعيد شقي ملتذ ولكن لذته ألمه سعيد ولكن سعادته شقاوته وهذا
لعمرك أمر عجيب لكنه أوضح بنمط غريب، ومن تأمل وأنصف ظهر له أن
لا ملخص لكثير من الشبهات في هذا الفصل إلا بالذهاب إلى القول
بالاستعداد الأزلي وأن لكل شيء حالة في نفسه مع قطع النظر عن
سائر الاعتبارات لا يفاض عليه إلا هي لئلا يلزم انقلاب العلم
جهلا وهو من أعظم المستحيلات والإثابة والتعذيب تابعان لذلك
فسبحان الحكيم المالك فتثبت فكم قد زلت في هذا المقام أقدام
أعلام كالأعلام نسأل الله تعالى أن ينور أفهامنا ويثبت أقدامنا
ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
ثم اعلم أنه روي عن أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه أنه
قال: لم أر في القرآن أرجى من هذه الآية لا يشاكل بالعبد إلا
العصيان ولا يشاكل بالرب إلا الغفران قال ذلك حين تذاكروا
القرآن. فقال عمر: لم أر آية أرجى من التي فيها غافِرِ
الذَّنْبِ وَقابِلِ التَّوْبِ [غافر: 3] قدم الغفران قبل قبول
التوبة، وقال عثمان: لم أر آية أرجى من نَبِّئْ عِبادِي أَنِّي
أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ [الحجر: 49] .
وقال علي كرم الله تعالى وجهه: لم أر أرجى من يا عِبادِيَ
الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ [الزمر: 53] الآية،
وقيل في الأرجى غير ذلك وسيمر عليك إن شاء الله تعالى لكن ما
قاله الصديق لا يتأتى إلا على تقدير أن يراد كل أحد مطلقا يعمل
على شاكلته فافهم.
وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ الظاهر عند المنصف أن السؤال
كان عن حقيقة الروح الذي هو مدار البدن الإنساني ومبدأ حياته
لأن ذلك من أدق الأمور التي لا يسع أحدا إنكارها ويشرئب كل إلى
معرفتها وتتوفر دواعي العقلاء إليها وتكل الأذهان عنها ولا
تكاد تعلم إلا بوحي، وزعم ابن القيم أن المسئول عنه الروح الذي
أخبر الله تعالى عنه في كتابه أنه يقوم يوم القيامة مع
الملائكة عليهم السلام قال لأنهم إنما يسألونه عليه الصلاة
والسلام عن أمر لا يعرف إلا بالوحي وذلك هو الروح الذي عند
الله تعالى لا يعلمه الناس، وأما أرواح بني آدم فليست من الغيب
إلى آخر ما قال وقد أطال، وفي البحور الزاخرة أن هذا هو الذي
عليه أكثر السلف بل كلهم، والحق ما ذكرنا وهو الذي عليه
الجمهور كما نص
__________
(2) قوله: إلى طبيعة التي تقتضي إلخ كذا في نسخة المؤلف وفيه
حذف الموصوف والأصل إلى طبيعة الأرض التي تقتضي إلخ وانظر.
(8/144)
عليه في البحر. وغيره، نعم ما زعمه ابن
القيم مروي عن بعض السلف فقد أخرج عبد بن حميد وأبو الشيخ عن
ابن عباس أنه قال: الروح خلق من خلق الله تعالى وصورهم على
صورة بني آدم وما ينزل من السماء ملك إلا ومعه واحد من الروح
ثم تلا يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ [النبأ: 38] .
وأخرج أبو الشيخ وغيره من طريق عطاء عنه رضي الله تعالى عنه
أنه قال في الروح المسئول عنه: هو ملك واحد له عشرة آلاف جناح
جناحان منها ما بين المشرق والمغرب له ألف وجه لكل وجه لسان
وعينان وشفتان يسبح الله تعالى بذلك إلى يوم القيامة.
وأخرج هو وغيره أيضا عن علي كرم الله تعالى وجهه أنه قال فيه:
هو ملك من الملائكة له سبعون ألف وجه لكل وجه منها سبعون ألف
لسان لكل لسان منها سبعون ألف لغة يسبح الله تعالى بتلك اللغات
كلها يخلق الله تعالى من كل تسبيحة ملكا يطير مع الملائكة إلى
يوم القيامة
. وتعقب هذا بأنه لا يصح عن علي كرم الله تعالى وجهه وطعن
الإمام في ذلك بما طعن.
وأخرج ابن الأنباري في كتاب الأضداد عن مجاهد أنه قال: الروح
خلق من الملائكة عليهم السلام لا يراهم الملائكة كما لا ترون
أنتم الملائكة.
وأخرج أبو الشيخ عن سلمان أنه قال: الإنس والجن عشرة أجزاء
فالإنس جزء والجن تسعة أجزاء والملائكة والجن عشرة أجزاء فالجن
من ذلك جزء والملائكة تسعة والملائكة والروح عشرة أجزاء
فالملائكة من ذلك جزء والروح تسعة أجزاء والروح والكروبيون
عشرة أجزاء فالروح من ذلك جزء والكروبيون تسعة أجزاء، وقال
الحسن وقتادة:
الروح هو جبرائيل عليه السلام وقد سمي روحا في قوله تعالى:
نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلى قَلْبِكَ [الشعراء: 193،
194] والسؤال عن كيفية نزوله وإلقائه الوحي إليه عليه الصلاة
والسلام، وقال بعضهم هو القرآن وقد سمي روحا في قوله تعالى:
وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا [الشورى:
52] وقيل غير ذلك.
وزعم بعضهم أن السؤال عن حدوث الروح بالمعنى الأول وقدمه وليس
بشيء كما ستسمع إن شاء الله تعالى.
وضمير يسألون لليهود
فقد أخرج الشيخان. وغيرهما عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه
قال: كنت أمشي مع النبي صلّى الله عليه وسلّم في خرب المدينة
وهو متكىء على عسيب فمر بقوم من اليهود فقال بعضهم لبعض سلوه
عن الروح وقال بعضهم: لا تسألوه فسألوه فقالوا: يا محمد ما
الروح؟ فما زال متوكئا على العسيب فظننت أنه يوحى إليه فلما
نزل الوحي قال وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ الآية
، وقال بعضهم: لقريش لما أخرج أحمد. والنسائي والترمذي.
والحاكم وصححاه وابن حبان وجماعة عن ابن عباس قال قالت قريش
لليهود أعطونا شيئا نسأل هذا الرجل فقالوا سلوه عن الروح
فسألوه فنزلت وَيَسْئَلُونَكَ إلخ.
وفي السير عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن قريشا بعثت
النضر بن الحارث. وعقبة بن أبي معيط إلى أحبار يهود بالمدينة
وقالوا لهم سلوهم محمدا فإنهم أهل كتاب عندهم من العلم ما ليس
عندنا فخرجا حتى قدما المدينة فسألوهم فقالوا سلوه عن أصحاب
الكهف وعن ذي القرنين وعن الروح فإن أجاب عنها أو سكت فليس
بنبي وإن أجاب عن بعض وسكت عن بعض فهو نبي فجاؤوا وسألوه فبين
لهم صلّى الله عليه وسلّم قضيتين وأبهم أمر الروح وهو مبهم في
التوراة، والآية على هذا وما قبله مكية وعلى خبر الصحيحين
مدنية وجمع بعضهم بين ذلك بأن الآية نزلت مرتين فتدبر، وأيا ما
كان فوجه تعقيب ما تقدم بها إن فسر الروح بالقرآن ظاهر ملائم
لقوله تعالى: وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ
وَرَحْمَةٌ ولما بعده من الامتنان عليه وعلى متبعيه بحفظه في
الصدور والبقاء وكذلك إن فسر بجبرائيل عليه السلام، وأما على
قول الجمهور فقد ورد معترضا دلالة على خسار الظالمين وضلالهم
وأنهم مشتغلون عن تدبر الكتاب
(8/145)
والانتفاع به إلى التعنت بسؤال ما اقتضت
الحكمة سد طريق معرفته، ويقال نحو هذا على القول المروي عن بعض
السلف قُلِ الرُّوحُ أظهر في مقام الإضمار إظهارا لكمال
الاعتناء مِنْ أَمْرِ رَبِّي كلمة مِنْ تبعيضية، وقيل:
بيانية والأمر واحد الأمور بمعنى الشأن والإضافة للاختصاص
العلمي لا الإيجادي إذ ما من شيء إلا وهو مضاف إليه عز وجل
بهذا المعنى، فيها من تشريف المضاف ما لا يخفى كما في الإضافة
الثانية من تشريف المضاف إليه أي هي من جنس ما استأثر الله
تعالى بعلمه من الأسرار الخفية التي لا تكاد تدركها عيون عقول
البشر.
وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا لا يمكن تعلقه
بأمثال ذلك، وهذا على ما قيل ترك للبيان ونهي لهم عن السؤال.
أخرج ابن إسحاق وابن جرير عن عطاء بن يسار قال: نزلت هذه الآية
بمكة فلما هاجر صلى الله عليه وسلّم إلى المدينة أتاه أحبار
يهود فقالوا: يا محمد ألم يبلغنا عنك أنك تقول وَما أُوتِيتُمْ
مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا
أفعنيتنا أم قومك قال: كلا قد عنيت قالوا: فإنك تتلو أنا
أوتينا التوراة وفيها تبيان كل شيء فقال رسول الله صلّى الله
عليه وسلّم: هي في علم الله تعالى قليل وقد آتاكم الله تعالى
ما إن عملتم به انتفعتم فأنزل الله تعالى وَلَوْ أَنَّما فِي
الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ- إلى قوله سبحانه- إِنَّ
اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ
[لقمان: 27- 28] وكأنه صلّى الله عليه وسلّم أشار إلى أن
المراد في الآية- تبيانا لكل شيء- من الأمور الدينية ولا شك
أنها أقل قليل بالنسبة إلى معلومات الله تعالى التي لا نهاية
لها، وبهذا يرد على القائل بالعموم الحقيقي.
وفي رواية النسائي وابن حبان والترمذي والحاكم وصححاها أن
اليهود قالوا حين نزلت الآية: أوتينا علما كثيرا أوتينا
التوراة ومن أوتي التوراة فقد أوتي خيرا كثيرا فأنزل الله
تعالى: قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ [الكهف: 109] الآية
، ولا يخفى أن هذا أيضا لا يلزم منه التناقض لأن الكثرة والقلة
من الأمور الإضافية فالشيء يكون قليلا بالنسبة إلى ما فوقه
وكثيرا بالنسبة إلى ما تحته فما في التوراة قليل بالنسبة إلى
ما في علم الله تعالى شأنه كثير بالنسبة إلى أمر آخر،
وفي رواية أخرجها ابن مردويه عن عكرمة أنه صلّى الله عليه
وسلّم لما قال ذلك قال اليهود: نحن مختصون بهذا الخطاب فقال:
بل نحن وأنتم فقالوا: ما أعجب شأنك ساعة تقول: وَمَنْ يُؤْتَ
الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً [البقرة: 269]
وساعة تقول:
هذا فنزل وَلَوْ أَنَّما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ
إلخ، ولا يلزم منه التناقض أيضا على نحو ما تقدم بأن يقال:
الحكمة الإنسانية أن يعلم من الخير ما تسعه القوة البشرية بل
ما ينتظم به أمر المعاش والمعاد وهو قليل بالنسبة إلى معلوماته
تعالى كثير بالنسبة إلى غيرها، وإلى تعميم الخطاب بحيث يشمل
الناس أجمعين ذهب ابن جريج كما أخرجه عنه ابن جرير. وابن
المنذر لكن يعكر على القول بالعموم ظاهر قراءة ابن مسعود
والأعمش «وما أوتوا» فإنه يقتضي الاختصاص بالسائلين، والحديث
الأخير الذي هو نص فيه قال العراقي: إنه غير صحيح، والحديث
الأول الله تعالى أعلم بحاله، وقال غير واحد: معنى كون الروح
من أمره تعالى أنه من الإبداعيات الكائنة بالأمر التكويني من
غير تحصل من مادة وتولد من أصل كالجسد الإنساني فالمراد من
الأمر واحد الأوامر أعني كن والسؤال عن الحقيقة والجواب
إجمالي، ومآله أنا لروح من عالم الأرض مبدعة من غير مادة لا من
عالم الخلق وهو من الأسلوب الحكيم كجواب موسى عليه السلام سؤال
فرعون إياه ما رب العالمين إشارة إلى أن كنه حقيقته مما لا
يحيط به دائرة إدراك البشر وإنما الذي يعلم هذا المقدار
الإجمالي المندرج تحت ما استثني بقوله تعالى: وَما أُوتِيتُمْ
مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا أي إلا علما قليلا تستفيدونه
من طرق الحواس فإن تعقل المعارف النظرية إنما هو في الأكثر من
إحساس الجزئيات ولذلك قيل: من فقد حسا فقد فقد علما، ولعل أكثر
الأشياء لا يدركه الحس لكونه غير محسوس أو محسوسا منع من
إحساسه مانع كالغيبة مثلا وكذا لا يدرك شيئا من عرضياته ليرسمه
بها فضلا عن أن ينتقل منها الفكر إلى الذاتيات
(8/146)
ليقف على الحقيقة، وظاهر كلام بعضهم أن
الوقوف على كنه الروح غير ممكن فلا فرق عنده بين الجوابين.
وفرق الخفاجي بأن بيان كنه الروح ممكن بخلاف كنه الذات الأقدس،
وفي الكشف أن سبيل معرفة الروح إزالة الغشاء عن أبصار القلوب
باجتلاء كحل الجواهر من كلام علام الغيوب فهو عند المكتحلين
أجلى جلي وعند المشتغلين أخفى خفي، ويشكل على هذا ما أخرجه ابن
أبي حاتم عن عبد الله بن بريدة قال: لقد قبض النبي صلّى الله
عليه وسلّم وما يعلم الروح، ولعل عبد الله هذا يزعم أنها يمتنع
العلم بها وإلا فلم يقبض رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حتى
علم كل شيء يمكن العلم به كما يدل عليه ما
أخرجه الإمام أحمد والترمذي وقال: حديث صحيح وسبيل البخاري عنه
فقال: حديث حسن صحيح عن معاذ رضي الله تعالى عنه أنه عليه
الصلاة والسلام قال: «إني قمت من الليل فصليت ما قدر لي فنعست
في صلاتي حتى استثقلت فإذا أنا بربي عز وجل في أحسن صورة فقال:
يا محمد فيم يختصم الملأ الأعلى قال: يا محمد فيم يختصم الملأ
الأعلى؟ قلت: لا أدري رب قال: يا محمد فيم يختصم الملأ الأعلى
قلت لا أدري رب قلت لا أدري رب فرأيته وضع كفه بين كتفي حتى
وجدت برد أنامله بين صدري وتجلى لي كل شيء وعرفت» الحديث (1)
و «رأيت» يعلم في الخبر السابق في بعض الكتب مضبوطا بالبناء
للمفعول والروح مضبوطا بالرفع والإشكال على ذلك أوهن إلا أنه
خلاف الظاهر.
ويفهم من كلام بعض متأخري الصوفية أنه يمتنع الوقوف على حقيقة
الروح بل ذكر هذا البعض أن حقيقة جميع الأشياء لا يوقف عليها
وهو مبني على ما لا يخفى عليك ورده أو قبوله مفوض إليك. ثم إن
لي في هذا الوجه وقفة فإن الظاهر أن إطلاق عالم الأمر على
الكائن من غير تحصل من مادة وتولد من أصل وإطلاق عالم الخلق
على خلافه محض اصطلاح لا يعرف للعرب ولا يعرفونه، وفي
الاستدلال عليه بقوله تعالى: أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ
[الأعراف:
54] ما لا يخفى على منصف، هذا وذكر الإمام أن السؤال عن الروح
يقع على وجوه كثيرة وليس في قوله تعالى:
وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ ما يدل على وجه منها إلا أن
الجواب المذكور لا يليق إلا بوجهين منها الأول كونه سؤالا عن
الماهية: والثاني كونه سؤالا عن القدم والحدوث، وحاصل الجواب
على الأول أنها جوهر بسيط مجرد محدث بأمر الله تعالى وتكوينه
وتأثيره إفادة الحياة للجسد ولا يلزم (2) من عدم العلم بحقيقته
المخصوصة فإن أكثر حقائق الأشياء ماهياتها مجهولة ولم يلزم من
كونها مجهولة نفيها ويشير إليه وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ
إِلَّا قَلِيلًا ومبنى هذا أيضا الفرق بين عالم الأمر وعالم
الخلق وقد سمعت ما فيه، وحاصل الجواب على الثاني أنه حادث حصل
بفعل الله تعالى وتكوينه وإيجاده، وجعل قوله تعالى: وَما
أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا احتجاجا على الحدوث
بمعنى أن الأرواح في مبدأ الفطرة تكون خالية عن العلوم
والمعارف ثم يحصل فيها ذلك فلا تزال في تغير من حال إلى حال
وهو من أمارات الحدوث، وأنت تعلم أن حمل السؤال على ما ذكر
وجعل الجواب إخبارا بالحدوث مع عدم ملاءمته لحال السائلين لا
يساعده التعرض لبيان قلة علمهم فإن ما سألوا عنه مما يفي به
علمهم حينئذ وقد أخبر عنه وجعل ذلك احتجاجا على الحدوث من أعجب
الحوادث كما لا يخفى على ذي روح والله تعالى أعلم.
وهاهنا أبحاث لا بأس بإيرادها: البحث الأول في شرح مذاهب الناس
في حقيقة الإنسان، وظاهر كلام الإمام أن الاختلاف في حقيقته
عين الاختلاف في حقيقة الروح، وفي القلب من ذلك ما فيه فذهب
جمهور المتكلمين إلى أنه عبارة عن هذه البنية المحسوسة والهيكل
المجسم المحسوس وهو الذي يشير إليه الإنسان بقوله أنا وأبطل
ذلك
__________
(1) وشرح هذا الحديث الحافظ ابن رجب الحنبلي في رسالة وطبعناها
والحمد لله.
(2) قوله ولا يلزم إلخ كذا بخط مؤلفه وانظر.
(8/147)
الإمام يسبع عشرة حجة نقلية وعقلية لكن
للبحث في بعضها مجال، منها ما تقدم من أن أجزاء البنية متغيرة
زيادة ونقصانا وذبولا ونموا والعلم الضروري قاض بأن الإنسان من
حيث هو أمر باق من أول العمر إلى آخره وغير الباقي غير الباقي،
ومنها أن الإنسان قد يعتريه ما يشغله عن الالتفات إلى أجزاء
بنيته كلا وبعضا ولا يغفل عن نفسه المعينة بدليل أنه يقول مع
ذلك الشاغل فعلت وتركت مثلا وغير المعلوم غير المعلوم.
ومنها أنه قد توجد البنية المخصوصة وحقيقة الإنسان غير حاصلة
فإن جبريل عليه السلام كثيرا ما رؤي في صورة دحية الكلبي
وإبليس عليه اللعنة رؤي في صورة شيخ نجدي وقد تنتفي البنية مع
بقاء حقيقة الإنسان فإن الممسوخ مثلا قردا باقية حقيقته مع
انتفاء البنية المخصوصة وإلا لم يتحقق مسخ بل إماتة لذلك
الإنسان وخلق قرد، ومنها أنه جاء في الخبر أن الميت إذا حمل
على النعش رفرف روحه فوق النعش ويقول: يا أهلي. ويا ولدي لا
تلعبن بكم الدنيا كما لعبت بي جمعت المال من حله ومن غير حله
ثم تركته لغيري فالهناء له والتبعة علي فاحذروا مثل ما حل بي
فصرح صلّى الله عليه وسلّم بأن هناك شيئا ينادي غير المحمول
كان الأهل أهلا له وكان الجامع للمال من الحلال والحرام وليس
ذلك إلا الإنسان إلى غير ذلك مما ذكره في تفسيره، وقيل: إن
الإنسان هو الروح الذي في القلب، وقيل: إنه جزء لا يتجزأ في
الدماغ، وقيل: إنه أجزاء نارية مختلطة بالأرواح القلبية
والدماغية وهي المسماة بالحرارة الغريزية، وقيل: هو الدم الحال
في البدن، وقيل وقيل إلى نحو ألف قول والمعول عليه عند
المحققين قولان، الأول أن الإنسان عبارة عن جسم نوراني علوي حي
متحرك مخالف بالماهية لهذا الجسم المحسوس سار فيه سريان الماء
في الورد والدهن في الزيتون والنار في الفحم لا يقبل التحلل
والتبدل والتفرق والتمزق مفيد للجسم المحسوس الحياة وتوابعها
ما دام صالحا لقبول الفيض لعدم حدوث ما يمنع من السريان
كالأخلاط الغليظة ومتى حدث ذلك حصل الموت لانقطاع السريان
والروح عبارة عن ذلك الجسم واستحسن هذا الإمام فقال هو مذهب
قوي وقول شريف يجب التأمل فيه فإنه شديد المطابقة لما ورد في
الكتب الإلهية من أحوال الحياة والموت، وقال ابن القيم في
كتابه- الروح: إنه الصواب ولا يصح غيره وعليه دل الكتاب والسنة
وإجماع الصحابة وأدلة العقل والفطرة وذكر له مائة دليل وخمسة
أدلة فليراجع.
الثاني أنه ليس بجسم ولا جسماني وهو الروح وليس بداخل العالم
ولا خارجه ولا متصل به ولا منفصل عنه ولكنه متعلق بالبدن تعلق
التدبير والتصرف وهو قول أكثر الإلهيين من الفلاسفة. وذهب إليه
جماعة عظيمة من المسلمين منهم الشيخ أبو القاسم الراغب
الأصفهاني وحجة الإسلام أبو حامد الغزالي ومن المعتزلة معمر بن
عباد السلمي ومن الشيعة الشيخ المفيد ومن الكرامية جماعة ومن
أهل المكاشفة والرياضة أكثرهم وقد قدمنا لك الأدلة على ذلك،
ومن أراد الإحاطة بذلك فليرجع إلى كتب الشيخين أبي علي وشهاب
الدين المقتول وإلى كتب الإمام الرازي كالمباحث المشرقية
وغيره، وللشيخ الرئيس رسالة مفردة في ذلك سماها بالحجج الغر
أحكمها وأتقنها ما يبتني على تعقل النفس لذاتها وابن القيم زيف
حججه في كتابه وهو كتاب مفيد جدا يهب للروح روحا ويورث للصدر
شرحا، واستدل الإمام على ذلك في تفسيره بالآية المذكورة فقال:
إن الروح لو كان جسما منتقلا من حالة إلى حالة ومن صفة إلى صفة
لكان مساويا للبدن في كونه متولدا من أجسام اتصفت بصفات مخصوصة
بعد أن كانت موصوفة بصفات أخر فإذا سئل رسول الله صلّى الله
عليه وسلّم عنه وجب أن يبين أنه جسم كان كذا ثم صار كذا وكذا
حتى صار روحا مثل ما ذكر في كيفية تولد البدن أنه كان نطفة ثم
علقة ثم مضغة فلما لم يقل ذلك وقال. هو من أمر ربي بمعنى أنه
لا يحدث ولا يدخل في الوجود إلا لأجل أن الله تعالى قال له كن
فيكون دل ذلك على أنه جوهر ليس من جنس الأجسام بل هو جوهر قدسي
مجرد، ولا يخفى أن ذلك من الإقناعيات الخطابية وهي كثيرة في
هذا الباب، منها قوله تعالى:
(8/148)
وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي [الحجر: 29،
ص: 72] وقوله سبحانه: وَكَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ
[النساء: 171] فإن هذه الإضافة مما تنبه على شرف الجوهر الإنسي
وكونه عريا عن الملابس الحسية، ومنها
قوله عليه الصلاة والسلام: «أنا النذير العريان»
ففيه إلى تجرد الروح عن علائق الأجرام،
وقوله صلّى الله عليه وسلّم: «إن الله تعالى خلق آدم على صورة
الرحمن
وفي رواية «على صورته»
،
وقوله عليه الصلاة والسلام: «أبيت عند ربي يطعمني ويسقيني»
ففي ذلك إيذان بشرف الروح وقربه من ربه قربا بالذات والصفات
مجردا عن علائق الأجرام وعوائق الأجسام إلى غير ذلك مما لا
يحصى وهو على هذا المنوال وللبحث فيه مجال أي مجال، وكان ثابت
بن قرة يقول: إن الروح متعلق بأجسام سماوية نورانية لطيفة غير
قابلة للكون والفساد والتفرق والتمزق وتلك الأجسام سارية في
البدن وهي ما دامت سارية كان الروح مدبرا للبدن وإذا انفصلت
عنه انقطع التعلق، وهو قول ملفق وأنا لا أستبعده.
«البحث الثاني في اختلاف الناس في حدوث الروح وقدمه» أجمع
المسلمون على أنه حادث حدوثا زمانيا كسائر أجزاء العالم إلا
أنهم اختلفوا في أنه هل هو حادث قبل البدن أم بعده فذهب طائفة
إلى الحدوث قيل منهم محمد بن نصر المروزي. وأبو محمد بن حزم
الظاهري وحكاه إجماعا وقد افترى، واستدل لذلك بما
في الصحيحين من حديث عائشة رضي الله تعالى عنها أن النبي صلّى
الله عليه وسلّم قال: «الأرواح جنود مجندة فما تعارف منها
ائتلف وما تناكر منها اختلف»
قال ابن الجوزي في تبصرته: قال أبو سليمان الخطابي معنى هذا
الحديث الأخبار عن كون الأرواح مخلوقة قبل الأجساد، وزعم ابن
حزم أنها في برزخ وهو منقطع العناصر فإذا استعد جسد لشيء منها
هبط إليه وأنها تعود إلى ذلك البرزخ بعد الوفاة ولا دليل لهذا
من كتاب أو سنة.
وبعضهم استدل على ذلك بخبر خلق الله تعالى الأرواح قبل الأجساد
بألفي عام، وتعقبه ابن القيم بأنه لا يصح إسناده، وذهب آخرون
منهم حجة الإسلام الغزالي إلى الحدوث بعد، ومن أدلة ذلك كما
قال ابن القيم الحديث الصحيح «إن خلق ابن آدم يجمع في بطن أمه
أربعين يوما دما ثم يكون علقة مثل ذلك ثم يكون مضغة مثل ذلك ثم
يرسل إليه الملك فينفخ فيه الروح»
ووجه الاستدلال أن الروح لو كان مخلوقا قبل لقيل، ثم يرسل إليه
الملك بالروح فيدخله فيه، وصرح في روضة المحبين ونزهة
المشتاقين باختيار هذا القول فقال إن القول بأن الأرواح خلقت
قبل الأجساد قول فاسد وخطأ صريح، والقول الصحيح الذي دل عليه
الشرع والعقل أنها مخلوقة مع الأجساد وأن الملك ينفخ الروح أي
يحدثه بالنفخ في الجسد إذا مضى على النطفة أربعة أشهر ودخلت في
الخامس، ومن قال إنها مخلوقة قبل فقد غلط، وأقبح منه قول من
قال إنها قديمة انتهى، وفيه تأمل، ويوافق مذهب الحدوث قوله
تعالى: ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ [المؤمنون: 14]
فليفهم.
وذهب أفلاطون ومن تقدمه من الفلاسفة إلى قدم الروح وذهب المعلم
الأول إلى حدوثها مع حدوث البدن المستعد له كما ذهب إليه بعض
الإسلاميين، وقد تقدم الكلام في استدلال كل جرحا وتعديلا،
ويقال هنا: إن المعلم الأول قائل كغيره من الفلاسفة بتجرد
الروح المسماة بالنفس الناطقة عندهم عن المادة فكيف يسعه القول
بحدوثها مع قولهم كل حادث زماني يحتاج إلى مادة، وأجيب بأن
المادة هاهنا أعم من المحل والمتعلق به والبدن مادة للنفس بهذا
المعنى، وأنت تعلم أن استعداد الشيء للشيء لا يكون إلا فيما
إذا كان ذلك مقترنا به لا مباينا عنه فالأولى أن يقال: إن
البدن الإنساني لما استدعي لمزاجه الخاص صورة مدبرة له متصرفة
فيه أي أمرا موصوفا بهذه الصفة من حيث هو كذلك وجب على مقتضى
جود الواهب الفياض وجود أمر يكون مبدأ للتدابير الإنسية
والأفاعيل البشرية ومثل هذا الأمر لا يمكن إلا أن يكون ذاتا
مدركة للكليات مجردة في ذاتها فلا محالة قد فاض عليه حقيقة
النفس لا من
(8/149)
حيث إن البدن استدعاها بل من حيث عدم
انفكاكها عما استدعاه فالبدن استدعى باستعداده الخاص أمرا
ماديا وجود المبدأ الفياض أفاد جوهرا قدسيا وكما أن الشيء
الواحد قد يكون على ما قرروه جوهرا وعرضا باعتبارين كذلك يكون
أمر واحد مجردا وماديا باعتبارين فالنفس الإنسانية مجردة ذاتا
مادية فعلا فهي من حيث الفعل من التدبير والتحريك مسبوقة
باستعداد البدن مقترنة به وأما من حيث الذات والحقيقة فمنشأ
وجودها وجود المبدأ الواهب لا غير فلا يسبقها من تلك الحيثية
استعداد البدن ولا يلزمها الاقتران في وجودها به ولا يلحقها
شيء من مثالب الماديات إلا بالعرض.
ويمكن تأويل ما نقل عن أفلاطون في باب قدم النفس إلى هذا بوجه
لطيف كذا قاله بعض صدور المتأخرين فتأمله.
«البحث الثالث» اختلف الناس في الروح والنفس هل هما شيء واحد
أم شيئان فحكى ابن زيد عن أكثر العلماء أنهما شيء واحد فقد صح
في الأخبار إطلاق كل منهما على الآخر وما
أخرجه البزار بسند صحيح عن أبي هريرة رفعه «أن المؤمن ينزل به
الموت ويعاين ما يعاين يود لو خرجت نفسه والله تعالى يحب لقاءه
وأن المؤمن تصعد روحه إلى السماء فتأتيه أرواح المؤمنين
فيستخبرونه عن معارفه من أهل الدنيا» الحديث
ظاهر في ذلك.
وقال ابن حبيب: هما شيئان فالروح هو النفس المتردد في الإنسان
والنفس أمر غير ذلك لها يدان ورجلان ورأس وعينان وهي التي تلتذ
وتتألم وتفرح وتحزن وإنها هي التي تتوفى في المنام وتخرج وتسرح
وترى الرؤيا وييقى الجسد دونها بالروح فقط لا يلتذ ولا يفرح
حتى تعود، واحتج بقوله تعالى: اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ
[الزمر: 42] الآية، وحكى ابن منده عن بعضهم أن النفس طينية
نارية والروح نورية روحانية، وعن آخر أن النفس ناسوتية والروح
لاهوتية، وذكر أن أهل الأثر على المغايرة وأن قوام النفس
بالروح والنفس صورة العبد والهوى والشهوة والبلاء معجون فيها
ولا عدو أعدى لا بن آدم من نفسه لا تريد إلا الدنيا ولا تحب
إلا إياها، والروح تدعو إلى الآخرة وتؤثرها، وظاهر كلام بعض
محققي الصوفية القول بالمغايرة ففي منتهى المدارك للمحقق
الفرغاني أن النفس المضافة إلى الإنسان عبارة عن بخار ضبابي
منبعث من باطن القلب الصنوبري حامل لقوة الحياة متجنس بأثر
الروح الروحانية المرادة بقوله تعالى: وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ
رُوحِي [الحجر: 29، ص: 72] الثابت تعينها في عالم الأروح
وأثرها واصل إلى هذا البخار الحامل للحياة فالنفس إذن أمر
مجتمع من البخار ووصف الحياة وأثر الروح الروحانية وهذه النفس
يحكم تجنسها بأثر الروح الروحانية متعينة لتدبير البدن
الإنساني قابلة لمعالي الأمور وسفاسفها كما قال سبحانه وتعالى:
فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها [الشمس: 8] والروح
الروحانية أمر لا يكتنه والحق أنهما قد يتحدان إطلاقا وقد
يتغايران، وابن القيم اعتمد ما عليه الأكثرون من الاتحاد ذاتا،
وذكر غير واحد أنه هو الذي عليه الصوفية بيد أنهم قالوا: إن
النفس هي الأصل في الإنسان فإذا صقلت بالرياضة وأنواع الذكر
والفكر صارت روحا ثم قد تترقى إلى أن تصير سرا من أسرار الله
تعالى.
وتفصيل الكلام حينئذ في هذا المقام أن للنفس مراتب تترقى فيها،
الأولى تهذيب الظاهر باستعمال النواميس الإلهية من القيام
والصيام وغيرهما، الثانية تهذيب الباطن عن الملكات الردية
والأخلاق الدنية، الثالثة تحلي النفس بالصور القدسية، الرابعة
فناؤها عن ذاتها وملاحظتها جلال رب العالمين جل جلاله، ويقال
في كيفية الترقي في هذه المراتب أن الإنسان أول ما يولد فهو
كباقي الحيوانات لا يعرف إلا الأكل والشرب ثم بالتدريج يظهر له
باقي صفات النفس من الشهوة والغضب والحرص والحسد وغير ذلك من
الهيآت التي هي نتائج الاحتجاب والبعد من معدن الجود والصفات
الكمالية ثم إذا تيقظ من سنة الغفلة وقام من نوم الجهل وبان له
أن وراء هذه اللذات البهيمية لذات أخر وفوق هذه المراتب مراتب
أخر كمالية يتوب عن اشتغاله بالمنهيات الشرعية وينيب إلى الله
تعالى بالتوجه إليه فيشرع في ترك
(8/150)
الفضول الدنيوية طلبا للكمالات الأخروية
ويعزم عزما تاما ويتوجه إلى السلوك إلى ملك الملوك من مقام
نفسه فيهاجر منه ويقع في الغربة ويا طوبى للغرباء وإن قيل:
إنما الغربة للأحرار ذبح ثم إذا دخل في الطريق يزهد عن كل ما
يعوقه عن مقصوده ويصده عن معبوده فيتصف بالورع والتقوى والزهد
الحقيقي ثم يحاسب نفسه دائما في أقواله وأفعاله ويتهمها في كل
ما تأمر به وإن كان عبادة فإنها مجبولة على حب الشهوات ومطبوعة
على الدسائس الخفيات فلا ينبغي أن يأمنها ويكون على ثقة منها.
يحكى عن بعض الأكابر أن نفسه لم تزل تأمره بالجهاد وتحثه عليه
فاستغرب ذلك ثم فطن أنها تريد أن تستريح من نصب القيام والصيام
بالموت فلم يجبها إلى ذلك فإذا خلص منها وصفا وقته وطاب عيشه
بما يجده في طريق المحبوب يتنور باطنه ويظهر له لوامع أنوار
الغيب وينفتح له باب الملكوت وتلوح منه لوائح مرة بعد أخرى
فيشاهد أمورا غيبية في صور مثالية فإذا ذاق شيئا منها يرغب في
العزلة والخلوة والذكر والمواظبة على الطهارة والعبادة
والمراقبة والمحاسبة ويعرض عن الملاذ الحسية كلها ويفرغ القلب
عن محبتها فيتوجه باطنه إلى الحق تعالى بالكلية فيظهر له الوجد
والسكر والشوق والعشق والهيمان ويجعله فانيا عن نفسه غافلا
عنها فيشاهد الحقائق السرية والأنوار الغيبية فيتحقق بالمشاهدة
والمعاينة والمكاشفة ويظهر له أنوار حقيقية تارة وتختفي أخرى
حتى يتمكن ويتخلص من التلوين وينزل عليه السكينة الروحية
والطمأنينة الإلهية ويصير ورود هذه البوارق والأحوال له ملكة
فيدخل في عوالم الجبروت ويشاهد العقول المجردة والأنوار
القاهرة من الملائكة المقربين والمهيمين ويتحقق بأنوارهم فيظهر
له أنوار سلطان الأحدية وسواطع العظمة والكبرياء الإلهية
فتجعله هباء منثورا ويندك حيئنذ جبال إنيته فيخر لله تعالى
خرورا ويتلاشى في التعين الذاتي ويضمحل وجوده في الوجود الإلهي
وهذا مقام الفناء والمحو وهو غاية السفر الأول للسالكين فإن
بقي في الفناء والمحو ولم يجىء إلى البقاء والصحو صار مستغرقا
في عين الجمع محجوبا بالحق عن الخلق لا يزيغ بصره عن مشاهدة
جماله عز شأنه وأنوار ذاته وجلاله فاضمحلت الكثرة في شهوده
واحتجب التفصيل عن وجوده وذلك هو الفوز العظيم، وفوق ذلك مرتبة
يرجع فيها إلى الصحو بعد المحو وينظر إلى التفصيل في عين الجمع
ويسع صدره الحق والخلق فيشاهد الحق في كل شيء ويرى كل شيء
بالحق على وجه لا يوجب التكثر والتجسم وهو طور وراء طور العقل،
ووقع في عبارة بعضهم أنه قد يصير العارف متخلقا بأخلاق الله
تعالى بالحقيقة لا بمعنى صيرورة صفاته تعالى عرضا قائما بالنفس
فإن هذا مما لا يتصور أبدا، والقول به خروج عن الشريعة
والطريقة والحقيقة بل بمعنى علاقة أخرى أتم من علاقتها مع
الصفات الكونية البدنية وغيرها لا تعلم حقيقتها، ولعل مرادهم
بالمرتبة التي تترقى إليها النفس فتكون سرا من أسرار الله
تعالى هي هذه المرتبة والاطلاع عليها يحتاج إلى سلوك طريقة
الأبرار ولا يتم بمجرد الأنظار والأفكار والله تعالى الموفق
للسلوك والمتفضل بالغنى على الصعلوك.
«البحث الرابع» اختلف الناس في الروح هل تموت أم لا؟ فذهبت
طائفة إلى أنها تموت لأنها نفس وكل نفس ذائقة الموت وقد دل
الكتاب على أنه لا يبقى إلا الله تعالى وحده وهو يستدعي هلاك
الأرواح كغيرها من المخلوقات وإذا كانت الملائكة عليهم السلام
يموتون فالأرواح البشرية أولى، وأيضا أخبر سبحانه عن أهل النار
أنهم يقولون أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا
اثْنَتَيْنِ [غافر: 11] ولا تحقق الإماتتان إلا بإماتة البدن
مرة وإماتة الروح أخرى.
وقالت طائفة: إنها تموت للأحاديث الدالة على نعيمها وعذابها
بعد المفارقة إلى أن يرجعها الله تعالى إلى الجسد، وإن قلنا
بموتها لزم انقطاع النعيم والعذاب، والصواب أن يقال: موت الروح
هو مفارقتها الجسد فإن أريد بموتها هذا القدر فهي ذائقة الموت
وإن أريد أنها تعدم وتضمحل فهي لا تموت بل تبقى مفارقة ما شاء
الله تعالى ثم تعود إلى
(8/151)
الجسد وتبقى معه في نعيم أو عذاب أبد
الآبدين ودهر الداهرين وهي مستثناة ممن يصعق عند النفخ في
الصور على أن الصعق لا يلزم منه الموت والهلاك ليس مختصا
بالعدم بل يتحقق بخروج الشيء عن حد الانتفاع به ونحو ذلك، وما
ذكر في تفسير الإماتتين غير مسلم، وسيأتي إن شاء الله تعالى
الكلام فيه.
وإلى أنها لا تموت بموت البدن ذهبت الفلاسفة أيضا، واحتج الشيخ
عليه بأن قال: قد ثبت أن النفس يجب حدوثها عند حدوث البدن فلا
يخلو إما أن يكونا معا في الوجود أو لأحدهما تقدم على الآخر
فإن كانا معا فلا يخلو إما أن يكونا معا في الماهية أولا في
الماهية والأول باطل وإلا لكانت النفس والبدن متضايفين لكنهما
جوهران هذا خلف وإن كانت المعية في الوجود فقط من غير أن يكون
لأحدهما حاجة في ذلك الوجود إلى الآخر فعدم كل واحد منهما يوجب
عدم تلك المعية إما لا يوجب عدم الآخر وإما إن كان لأحدهما
حاجة في الوجود إلى الآخر فلا يخلو إما أن يكون المقدم هو
النفس أو البدن فإن كان المقدم في الوجود هو النفس فذلك التقدم
إما أن يكون زمانيا أو ذاتيا والأول باطل لما ثبت أن النفس
ليست موجودة قبل البدن، وأما الثاني فباطل أيضا لأن كل موجود
يكون وجوده معلول شيء كان عدمه معلول عدم ذلك الشيء إذ لو
انعدم ذلك المعلول مع بقاء العلة لم تكن تلك العلة كافية في
إيجابها فلا تكون العلة علة بل جزء من العلة هذا خلف فإذا لو
كان البدن معلولا لا متنع عدم البدن إلا لعدم النفس، والتالي
بطلان البدن قد ينعدم لأسباب أخر مثل سوء المزاج أو سوء
التركيب أو تفرق الاتصال فبطل أن تكون النفس علة للبدن، وباطل
أيضا أن يكون البدن علة للنفس لأن العلل كما عرف أربع ومحال أن
يكون البدن علة فاعلية للنفس فإنه لا يخلو إما أن يكون علة
فاعلية لوجود النفس بمجرد جسميته أو لأمر زائد على جسميته
والأول باطل وإلا لكان كل جسم كذلك، والثاني باطل أما أولا
فلما ثبت أن الصور المادية إنما تفعل بواسطة الوضع وكل ما لا
يفعل إلا بواسطة الوضع استحال أن يفعل أفعالا مجردة عن الحيز
والوضع وأما ثانيا فلأن الصور المادية أضعف من المجرد القائم
بنفسه والأضعف لا يكون سببا للأقوى ومحال أن يكون البدن علة
قابلية لما ثبت أن النفس مجردة مستغنية عن المادة، ومحال أن
يكون علة صورية للنفس أو تمامية فإن الأمر أولى أن يكون بالعكس
فإذا ليس بين البدن والنفس علاقة واجبة الثبوت أصلا فلا يكون
عدم أحدهما علة لعدم الآخر.
فإن قيل: ألستم جعلتم البدن علة لحدوث النفس؟ فنقول: قد بين أن
الفاعل إذا كان منزها عن التغير ثم صدر عنه الفعل بعد أن كان
غير صادر فلا بد وأن يكون لأجل أن شرط الحدوث قد حصل في ذلك
الوقت دون ما قبله ثم إن ذلك الشرط لما كان شرطا للحدوث فقط
وكان غنيا في وجوده عن ذلك الشيء استحال أن يكون عدم ذلك الشرط
مؤثرا في عدم ذلك الشيء، ثم لما اتفق أن كان ذلك الشرط مستعدا
لأن يكون آلة للنفس في تحصيل الكمالات والنفس لذاتها مشتاقة
إلى الكمال لا جرم حصل للنفس شوق طبيعي إلى التصرف في ذلك
البدن والتدبير فيه على الوجه الأصلح ومثل ذلك لا يمكن أن يكون
عدمه علة لعدم ذلك الحادث بل ذهب الفلاسفة إلى استحالة انعدام
النفس وبرهنوا على ذلك بما برهنوا وعندنا لا استحالة في ذلك.
«البحث الخامس في تمايز الأرواح بعد مفارقتها الأبدان» نص ابن
القيم على أن كل روح تأخذ من بدنها صورة تتميز بها عن غيرها
وأن تمايز الأرواح أعظم من تمايز الأبدان إلا أنه زعم أنه لا
يمكن التمايز بينها على القول بأنها جوهر مجرد عن المادة وفيه
نظر فإن القائلين بذلك قائلون بالتمايز أيضا باعتبار ما يحصل
لها من التعلق بالبدن أو بنحو آخر من التمايز، وذكر الشيخ
إبراهيم الكوراني في بعض رسائله أن الأرواح بعد مفارقتها
أبدانها المخصوصة تتعلق بأبدان أخر مثالية حسبما يليق بها وإلى
ذلك الإشارة بالطير الخضر
في حديث الشهداء ففي صحيح مسلم عن ابن مسعود أن
(8/152)
أرواح الشهداء في أجواف طير خضر،
وأخرج سعيد بن منصور عن مكحول عن النبي صلّى الله عليه وسلّم
أن ذراري المؤمنين أرواحهم في عصافير في شجر في الجنة
أي إنها تكون في أبدان على تلك الصور، ويؤيد ذلك
رواية ابن ماجة عن ابن مسعود أرواح الشهداء عند الله تعالى
كطير خضر
،
وفي لفظ عن كعب أرواح الشهداء طير خضر
،
ولفظ ابن عمر في صورة طير بيض
،
وفي رواية علي بن عثمان اللاحقي عن مكحول أن ذراري المؤمنين
أرواحهم عصافير في الجنة،
وعلى هذا يكون إنكار قوم من المتكلمين خبر في أجواف طير وكذا
خبر في عصافير لما في ذلك من تعلق روحين في بدن واحد وقد قالوا
باستحالته ناشئا من عدم التأمل والتثبت لأنه على ما قررنا لا
يكون للطائر روح غير روح الشهيد على أنه لو بقي الخبر على
ظاهره لم يلزم محال لجواز أن تكون الروح في جوف الطير على نحو
كون الجنين في بطن أمه فتدبر.
«البحث السادس في مستقر الأرواح بعد مفارقة الأبدان» الذي دلت
عليه الأخبار أن مستقر الأرواح بعد المفارقة مختلف فمستقر
أرواح الأنبياء عليهم السلام في أعلى عليين وصح أن آخر كلمة
تكلم بها صلّى الله عليه وسلّم اللهم الرفيق الأعلى وهو يؤيد
ما ذكر، ومستقر أرواح الشهداء في الجنة ترد من أنهارها وتأكل
من ثمارها وتأوي إلى قناديل معلقة بالعرش، وروي في أرواح أطفال
المؤمنين ما هو قريب من ذلك،
وروى ابن المبارك عن كعب قال: جنة المأوى جنة فيها طير خضر
ترعى فيها أرواح الشهداء على بارق نهر بباب الجنة في قبة خضراء
يخرج عليهم رزقهم من الجنة بكرة وعشيا،
ولعل هذا كما قال ابن رجب في عوام الشهداء وما تقدم في خواصهم
أو لعل هذا في شهداء الآخرة كالغريق والمبطون إلى غير ذلك،
وأما مستقر أرواح سائر المؤمنين فقيل في الجنة أيضا وهو نص
الإمام الشافعي،
وقد أخرج الإمام مالك عن كعب بن مالك مرفوعا «إنما نسمة المؤمن
طائر يعلق في شجر الجنة حتى يرجعه الله تعالى في جسده حين
يبعثه» ورواه الإمام أحمد في مسنده وخرجه النسائي من طريق مالك
وخرجه ابن ماجة ورواه خلق كثير
،
وروى ابن منده من حديث أم بشر مرفوعا ما هو نص في أن مستقر
أرواح المؤمنين نحو مستقر أرواح الشهداء
، وقال وهب بن منبه: إن لله تعالى في السماء السابعة دارا يقال
لها البيضاء يجتمع فيها أرواح المؤمنين ومستقر أرواح الكفار في
سجين،
وفي حديث أم بشر أن أرواح الكفار في حواصل طير سود تأكل من
النار وتشرب من النار وتأوي إلى جحر في النار يقولون ربنا لا
تلحق بنا إخواننا ولا تؤتنا ما وعدتنا
، وقيل: مستقر أرواح الموتى أفنية قبورهم، وحكى هذا ابن حزم عن
عامة أهل الحديث، واستدل له بعضهم
بحديث ابن عمر عن النبي صلّى الله عليه وسلّم «إذا مات أحدكم
عرض عليه مقعده بالغداة والعشي إن كان من أهل الجنة فمن أهل
الجنة وإن كان من أهل النار فمن أهل النار يقال هذا مقعدك حتى
يبعثك الله تعالى»
وبأنه صلّى الله عليه وسلّم حين زار الموتى
قال «السلام عليكم دار قوم مؤمنين»
ورجح ابن عبد البر أن مستقر أرواح ما عدا الشهداء بأفنية
القبور، وفيه أنه إن أريد أن الأرواح لا تفارق الأفنية فهو خطأ
يرده نصوص الكتاب والسنة وإن أريد أنها تكون هناك وقتا من
الأوقات كما روي عن مجاهد الأرواح على القبور سبعة أيام من يوم
دفن الميت أولها إشراق على قبورها وهي في مقرها فهو حق لكن لا
يقال مستقرها أقنية القبور، وعول بعض المحققين على أن الأرواح
حيث كانت لها اتصال لا يعلم حقيقته إلا الله تعالى وبذلك ترد
السلام وتعرف المسلم ويعرض عليها مقعدها من الجنة أو النار،
وقال بعضهم: لا مانع من انتقالها من مستقرها وعودها إليه في
أسرع وقت حيث يشاء الله تعالى ذلك، نعم جاء في حديث البراء بن
عازب ما يدل على أن أرواح المؤمنين تستقر في الأرض ولا تعود
إلى السماء بعد عرضها حيث
قال فيه في صفة قبض روح المؤمن فإذا انتهى إلى العرش كتب كتابه
في عليين ويقول الرب تعالى شأنه: ردوا عبدي إلى مضجعه فإني
وعدتهم أني منها خلقتهم وفيها أعيدهم ومنها أخرجهم تارة أخرى
،
وفي لفظ ردوا روح عبدي إلى الأرض فإني
(8/153)
وعدتهم أن أردهم فيها ثم قرأ رسول الله
صلّى الله عليه وسلّم مِنْها خَلَقْناكُمْ [طه: 55]
الآية لكن قال الحافظ ابن رجب: إن حديث البراء وحده لا يعارض
الأحاديث الكثيرة المصرحة بأن الأرواح في الجنة لا سيما
الشهداء، وقوله تعالى: مِنْها خَلَقْناكُمْ إلخ باعتبار
الأبدان، وقالت طائفة: مستقر الأرواح مطلقا في السماء الدنيا
عن يمين آدم عليه السلام وعن شماله ويدل عليه ما
في الصحيحين عن أبي ذر من حديث المعراج ففيه لما فتح علونا
السماء الدنيا فإذا رجل قاعد على يمينه أسودة وعلى يساره أسودة
فإذا نظر قبل يمينه ضحك وإذا نظر قبل شماله بكى فقال مرحبا
بالنبي الصالح والابن الصالح قلت لجبريل من هذا قال آدم وهذه
الأسودة عن يمينه وشماله نسم بنيه وأهل اليمين ثم أهل الجنة
والأسودة التي عن شماله أهل النار
. ويجاب بأن المراد أنه عليه السلام يرى هذين الصنفين من جهة
يمينه وجهة شماله وهو يجامع كون أرواح كل فريق في مستقرها من
الجنة والنار فقد رأى النبي صلّى الله عليه وسلّم الجنة والنار
في صلاة الكسوف وهو في الأرض والجنة ليست فيها ورآهما وهو في
السماء والنار ليست فيها، وفي حديث لأبي هريرة في الإسراء ما
يؤيد ما قلنا. والنسفي في بحر الكلام جعل الأرواح على أربعة
أقسام أرواح الأنبياء عليهم السلام تخرج من جسدها ويصير مثل
صورتها مثل المسك والكافور وتكون في الجنة تأكل وتشرب وتتنعم
وتأوي بالليل إلى قناديل معلقة تحت العرش، وأرواح الشهداء تخرج
من جسدها وتكون في أجواف طير خضر في الجنة تأكل وتتنعم وتأوي
إلى قناديل كأرواح الأنبياء. عليهم السلام، وأرواح المطيعين من
المؤمنين بربض الجنة لا تأكل ولا تتمتع ولكن تنظر إلى الجنة،
وأرواح العصاة منهم تكون بين السماء والأرض في الهواء، وأما
أرواح الكفار ففي سجين في جوف طير سود تحت الأرض السابعة وهي
متصلة بأجسادها فتعذب الأرواح وتتألم من ذلك الأجساد اه. وما
ذكره في أرواح المطيعين مخالف لما صح من أنها تتمتع في الجنة.
وفي الإفصاح أن المنعم من الأرواح على جهات مختلفة منها ما هو
طائر في شجر الجنة ومنها ما هو في حواصل طير خضر ومنها ما يأوي
إلى قناديل تحت العرش ومنها ما هو في حواصل طير بيض ومنها ما
هو في حواصل طير كالزرازير، ومنها ما هو في أشخاص صور من صور
الجنة ومنها ما هو في صورة تخلق من ثواب أعمالهم ومنها ما تسرح
وتتردد إلى جثتها وتزورها ومنها ما تتلقى أرواح المقبوضين وممن
سوى ذلك ما هو في كفالة ميكائيل عليه السلام ومنها ما هو في
كفالة آدم عليه السلام ومنها ما هو في كفالة إبراهيم عليه
السلام اه، قال القرطبي: وهذا قول حسن يجمع الأخبار حتى لا
تتدافع وارتضاه الجلال السيوطي.
وأخرج ابن أبي الدنيا عن مالك قال: بلغني أن الروح مرسلة تذهب
حيث شاءت وهو إن صح ليس على إطلاقه.
وقيل في مستقر الأرواح غير ذلك حتى زعم بعضهم أن مستقرها لعدم
المحض وهو مبني على أنها من الإعراض وهي الحياة وهو قول باطل
عاطل فاسد كاسد يرده الكتاب والسنة والإجماع والعقل السليم،
ويعجبني في هذا الفصل ما ذكره الإمام العارف ابن برجان في شرح
أسماء الله تعالى الحسنى حيث قال: والنفس مبراة من باطن ما خلق
منه الجسم وهي روح الجسم وأوجد تبارك وتعالى الروح من باطن ما
برأ منه النفس وهو للنفس بمنزلة النفس للجسم والنفس حجابه
والروح يوصف بالحياة بإحياء الله تعالى شأنه له وموته خمود إلا
ما شاء الله تعالى يوم خمود الأرواح والجسم يوصف بالموت حتى
يحيى بالروح وموته مفارقة الروح إياه وإذا فارق هذا العبد
الروحاني الجسم صعد به فإن كان مؤمنا فتحت له أبواب السماء حتى
يصعد إلى ربه عز وجل فيؤمر بالسجود فيسجد ثم يجعل حقيقته
النفسانية تعمر السفل من قبره إلى حيث شاء الله تعالى من الجو
وحقيقته الروحانية تعمر العلو من السماء الدنيا إلى السابعة في
سرور ونعيم ولذلك لقي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم موسى
عليه السلام قائما في قبره يصلي وإبراهيم عليه السلام تحت
الشجرة قبل صعوده إلى السماء الدنيا ولقيهما في السموات العلى
فتلك أرواحهما وهذه نفوسهما وأجسادهما
(8/154)
في قبورهما، وإن كان شقيا لم يفتح له فرمي
من علو إلى الأرض اه، وفيه القول بالمغايرة بين الروح والنفس،
وبهذا التحقيق تندفع معارضات كثيرة واعتراضات وفيرة، ويعلم أن
حديث ما من أحد يمر بقبر أخيه المؤمن كان يعرفه في الدنيا فسلم
عليه إلا عرفه ورد عليه السلام ليس نصا في أن الروح على القبر
إذ يفهم منه أن الذي في القبر حقيقته النفسانية المتصلة بالروح
اتصالا لا يعلم كنهه إلا الله تعالى. وللروح مع ذلك أحوالا
وأطوارا لا يعلمها إلا الله تعالى فقد تكون مستغرقة بمشاهدة
جمال الله تعالى وجلاله سبحانه ونحو ذلك وقد تصحو عن ذلك
الاستغراق وهو المراد برد الروح
في خبر «ما من أحد يسلم علي إلا رد الله تعالى روحي فأرد عليه
السلام»
والذي ينبغي أن يعول عليه مع ما ذكر أن الأرواح وإن اختلف
مستقرها بمعنى محلها الذي أعطيته بفضل الله تعالى جزاء عملها
لكن لها جولانا في ملك الله تعالى حيث شاء جل جلاله ولا يكون
إلا بعد الأذن وهي متفاوتة في ذلك حسب تفاوتها في القرب
والزلفى من الله تعالى حتى إن بعض الأرواح الطاهرة لتظهر
فيراها من شاء الله تعالى من الأحياء يقظة وأن أرواح الموتى
تتلاقى وتتزاور وتتذاكر وقد تتلاقى أرواح الأموات والأحياء
مناما ولا ينكر ذلك إلا من يجعل الرؤيا خيالات لا أصل لها وذلك
لا يلتفت إليه لكن لا ينبغي أن يبنى على ذلك حكم شرعي لاحتمال
عدم الصحة وإن قامت قرينة عليها، وما صح من أن ثابت بن قيس بن
شماس خرج مع خالد بن الوليد إلى حرب مسيلمة فاستشهد رضي الله
تعالى عنه وكان عليه درع نفيسة فمر به رجل من المسلمين فأخذها
فبينا رجل من الجند نائم إذ أتاه ثابت في منامه فقال له: أوصيك
بوصية فإياك أن تقول هذا حلم فتضيعه إني لما قتلت أمس مر بي
رجل من المسلمين فأخذ درعي ومنزله في أقصى الناس وعند خبائه
فرس يستن في طوله وقد كفى على الدرع برمة وفوق البرمة رحل فأت
خالدا فمره أن يبعث إلي درعي فيأخذها وإذا قدمت المدينة على
خليفة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقل له: إن علي من الدين
كذا وكذا وفلان من رقيقي عتيق فأتى الرجل خالدا فأخبره فبعث
إلى الدرع وأتى بها وحدث أبا بكر رضي الله تعالى عنه برؤياه
فأجاز وصيته، وقد ذكر ذلك ابن عبد البر وغيره مجاب عنه بأن ذلك
كان بإجازة الوارث وهي بنته لغلبة ظن صدق الرؤيا بما قام من
القرينة ولو لم تجز لم يسغ لأبي بكر رضي الله تعالى عنه ذلك
بمجرد الرؤيا، وقيل: إن أبا بكر لم ير الرد ففعل ذلك من حصة
بيت المال، ومثل هذه القصة قصة مصعب بن جثامة وعوف بن مالك وقد
ذكرها ابن القيم في كتاب الروح وهي أغرب مما ذكر بكثير، وربما
يؤذن لأرواح بعض الناس في زيارة أهليهم كما ورد في بعض الآثار
وبعض الأرواح تحبس في قبرها أو حيث شاء الله تعالى عن مقامها
كروح من يموت وعليه دين استدانه في محرم
لا مطلقا كما هو المشهور، وتحقيقه في شرح الشمائل للعلامة ابن
حجر ثم اعلم أن اتصال الروح بالبدن لا يختص بجزء دون جزء بل هي
متصلة مشرقة على سائر أجزائه وإن تفرقت وكان جزء بالمشرق وجزء
بالمغرب، ولعل هذا الإشراق على الأجزاء الأصلية لأنها التي
يقوم بها الإنسان من قبره يوم القيامة على ما اختاره جمع،
واعلم أيضا أن الروح على القول بتجردها لا مستقر لها بل لا
يقال إنها داخل العالم أو خارجه كما سمعت وإنما المستقر حينئذ
للبدن الذي تتعلق به، وقد نص بعض الصوفية على أنه لا مانع من
أن تتعلق نفس ببدنين فأكثر بل هو واقع عندهم، وذكر بعضهم أن
أحد البدنين هو البدن الأصلي والآخر مثالي يظهر للعيان على وجه
خرق العادة، وقال آخر: إن الآخر من باب تطور الروح وظهورها
بصورة على نحو ظهور جبريل عليه السلام بصورة دحية الكلبي وظهور
القرآن لحافظه بصورة الرجل الشاحب يوم القيامة، والفلاسفة
قالوا لا يجوز أن تتعلق نفس واحدة بأبدان كثيرة لأنه يلزم أن
يكون معلوم أحدها معلوم الآخر ومجهول أحدها مجهول الآخر ومعلوم
أن الأمر ليس كذلك، ولا يخفى أن هذا الدليل يدل على أن كل
إنسانين يعلم أحدهما ما لا يعلم الآخر فإن نفسهما متغايرتان
فلم لا يجوز وجود إنسانين يتعلق ببدنهما نفس واحدة ويكون كل ما
علمه أحدهما علمه الآخر لا محالة وما يجهله أحدهما يكون مجهولا
للآخر لا بد لعدم الجواز من دليل، وعلى ما ذكره
(8/155)
هؤلاء الصوفية يجوز أن تتعلق الروح ببدن في
الجنة وببدن آخر حيث شاء الله تعالى بل يجوز أن تظهر في صور
شتى في أماكن متعددة على حد ما قالوه في جبريل عليه السلام أنه
في حال ظهوره في صورة دحية أو أعرابي غيره بين يدي النبي صلّى
الله عليه وسلّم لم يفارق سدرة المنتهى، وأنت تعلم ما يقولون
في تجلي الله تعالى في الصور وسمعت
خبر «إن الله تعالى خلق آدم على صورته»
ومن هنا قالوا: من عرف نفسه فقد عرف ربه فافهم الإشارة ولعمري
هي عبارة، ثم إن أرواح سائر الحيوانات من البهائم ونحوها قيل:
تكون بعد المفارقة في الهواء ولا اتصال لها بالأبدان، وقيل:
تعدم ولا يعجز الله تعالى شيء، ومن الناس من قال: إن كان
للحيوانات حشر يوم القيامة كما هو المشهور الذي تقتضيه ظواهر
الآيات والأخبار فالأولى أن يقال ببقاء أرواحها في الهواء أو
حيث شاء الله تعالى وإن لم يكن لها حشر كما ذهب إليه الغزالي
وأول الظواهر فالأولى أن يقال بانعدامها، هذا وبقيت أبحاث
كثيرة تركناها لضيق القفص واتساع دائرة الغصص، ولعل فيما
ذكرناه هنا مع ما ذكرناه فيما قبل كفاية لأهل البداية وهداية
لمن ساعدته العناية والله عز وجل ولي الكرم والجود، ومنه
سبحانه بدء كل شيء وإليه جل وعلا يعود.
وَلَئِنْ شِئْنا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ
من القرآن الذي هو شفاء ورحمة للمؤمنين والذي ثبتناك عليه حين
كادوا يفتنونك عنه إلى غير ذلك من أوصافه التي يشعر بها
السياق، وإنما عبر عنه بالموصول تفخيما لشأنه ووصفا له بما في
حيز الصلة ابتداء إعلاما بحاله من أول الأمر وبأنه ليس من قبيل
كلام المخلوق، واللام الأولى موطئة للقسم «ولنذهبن» جوابه
النائب مناب جزاء الشرط فهو مغن عن تقديره وليس جزاء لدخول
اللام عليه وهو ظاهر وبذلك حسن حذف مفعول المشيئة، والمراد
بالذهاب به محوه عن المصاحف والصدور وهو أبلغ من الأفعال،
ويراد على هذا من القرآن على ما قيل صورته من أن تكون في نقوش
الكتابة أو في الصور التي في القوة الحافظة ثُمَّ لا تَجِدُ
لَكَ بِهِ أي القرآن عَلَيْنا وَكِيلًا أي متعهدا وملتزما
استرداده بعد الذهاب به كما يلتزم الوكيل ذلك فيما يتوكل عليه
حال كونه متوقعا أن يكون محفوظا في السطور والصدور كما كان قبل
فالوكيل مجاز عما ذكر.
إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ استثناء منقطع على ما اختاره ابن
الأنباري وابن عطية وغيرهما وهو مفسر بلكن في المشهور،
والاستدراك على ما صرح به الطيبي وغيره، واقتضاه ظاهر كلام جمع
عن قوله تعالى: وَلَئِنْ شِئْنا لَنَذْهَبَنَّ وقال في الكشف:
إنه ليس استدراكا عن ذلك فإن المستثنى منه وَكِيلًا وهذا من
المنقطع الممتنع إيقاعه موقع الاسم الأول الواجب فيه النصب في
لغتي الحجاز وتميم كما في قوله تعالى: لا عاصِمَ الْيَوْمَ
مِنْ أَمْرِ اللَّهِ [هود:
43] إلا من رحم في رأي، وقولهم: لا تكونن من فلان إلا سلاما
بسلام فقد صرح الرضي وغيره بأن الفريقين يوجبون النصب ولا
يجوزون الإبدال في المنقطع فيما لا يكون قبله اسم يصح حذفه،
وكون ما نحن فيه من ذلك ظاهر لمن له ذوق، والمعنى ثم بعد
الإذهاب لا تجد من يتوكل علينا بالاسترداد ولكن رحمة من ربك
تركته غير منصوب فلم تحتج إلى من يتوكل للاسترداد مأيوس عنه
بالفقدان المدلول عليه بلا تجد، والتغاير المعنوي بين الكلامين
من دلالة الأول على الإذهاب ضمنا والثاني على خلافه حاصل وهو
كاف فافهم، ويفهم صنيع البعض اختيار أنه استثناء متصل من
وَكِيلًا أي لا تجد وكيلا باسترداده إلا الرحمة فإنك تجدها
مستردة، وأنت تعلم أن شمول الوكيل للرحمة يحتاج إلى نوع تكلف.
وقال أبو البقاء: إن رَحْمَةً نصب على أنه مفعول له والتقدير
حفظناه عليك للرحمة، ويجوز أن يكون نصبا على أنه مفعول مطلق أي
ولكن رحمناك رحمة اه وهو كما ترى، والآية على تقدير الانقطاع
امتنان بإبقاء القرآن بعد الامتنان بتنزيله، وذكروا أنها على
التقدير الآخر دالة على عدم الإبقاء فالمنة حينئذ إنما هي في
تنزيله، ولا يخفى ما فيه
(8/156)
من الخفاء وما يذكر في بيانه لا يروي
الغليل، والآية ظاهرة في أن مشيئة الذهاب به غير متحققة وأن
فقدان المسترد إلا الرحمة إنما هو على فرض تحقق المشيئة لكن
جاء في الأخبار أن القرآن يذهب به قبل يوم القيامة،
فقد أخرج البيهقي والحاكم وصححه وابن ماجة بسند قوي عن حذيفة
قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: يدرس الإسلام كما
يدرس وشي الثوب حتى لا يدرى ما صيام ولا صدقة ولا نسك ويسري
على كتاب الله تعالى في ليلة فلا يبقى في الأرض منه آية ويبقى
الشيخ الكبير والعجوز يقولون أدركنا آباءنا على هذه الكلمة لا
إله إلا الله فنحن نقولها.
وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس وابن عمر قالا: خطب رسول الله
صلّى الله عليه وسلّم فقال: «يا أيها الناس ما هذه الكتب التي
بلغني أنكم تكتبونها مع كتاب الله تعالى يوشك أن يغضب الله
تعالى لكتابه فيسري عليه ليلا لا يترك في قلب ولا ورق منه حرف
إلا ذهب به فقيل: يا رسول الله فكيف بالمؤمنين والمؤمنات؟ قال:
من أراد الله تعالى به خيرا أبقى في قلبه لا إله إلا الله»
وأخرج ابن أبي حاتم والحاكم وصححه عن أبي هريرة قال: يسري على
كتاب الله تعالى فيرفع إلى السماء فلا يبقى في الأرض آية من
القرآن ولا من التوراة والإنجيل والزبور فينزع من قلوب الرجال
فيصبحون في الضلالة لا يدرون ما هم فيه.
وأخرج الديلمي عن ابن عمر مرفوعا لا تقوم الساعة حتى يرجع
القرآن من حيث جاء له دوي حول العرش كدوي النحل فيقول الله عز
وجل: ما لك؟ فيقول منك خرجت وإليك أعود أتلى ولا يعمل بي وأخرج
محمد بن نصر نتحوه موقوفا على عبد الله بن عمرو بن العاص
،
وأخرج غير واحد عن ابن مسعود أنه قال: سيرفع القرآن من المصاحف
والصدور، ثم قرأ وَلَئِنْ شِئْنا الآية
، وفي البهجة أنه يرفع أولا من المصاحف ثم يرفع لأعجل زمن من
الصدور والذاهب به هو جبريل عليه السلام كما
أخرجه ابن أبي حاتم من طريق القاسم بن عبد الرحمن عن أبيه عن
جده فيا لها من مصيبة ما أعظمها وبلية ما أوخمها
فإن دلت الآية على الذهاب به فلا منافاة بينها وبين هذه
الأخبار وإذا دلت على إبقائه فالمنافاة ظاهرة إلا أن يقال: إن
الإبقاء لا يستلزم الاستمرار ويكفي فيه إبقاؤه إلى قرب قيام
الساعة فتدبر، ومما يرشد إلى أن سوق الآية للامتنان قوله
تعالى: إِنَّ فَضْلَهُ كانَ لم يزل ولا يزال عَلَيْكَ كَبِيراً
ومنه إنزال القرآن واصطفاؤه على جميع الخلق وختم الأنبياء
عليهم السلام به وإعطاؤه المقام المحمود إلى غير ذلك وقال أبو
سهل: (1) إلى أنها سيقت لتهديد غيره صلّى الله عليه وسلّم
بإذهاب ما أوتوا ليصدهم عن سؤال ما لم يؤتوا كعلم الروح وعلم
الساعة.
وقال صاحب التحرير: يحتمل أن يقال: إنه صلّى الله عليه وسلّم
لما سئل عن الروح وذي القرنين وأهل الكهف وأبطأ عليه الوحي شق
عليه ذلك وبلغ منه الغاية فأنزل الله تعالى هذه الآية تسكينا
له صلّى الله عليه وسلّم والتقدير أيعز عليك تأخر الوحي فإنا
إن شئنا ذهبنا بما أوحينا إليك جميعه فسكن ما كان يجده صلّى
الله عليه وسلّم وطاب قلبه انتهى، وكلا القولين كما ترى.
قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ أي اتفقوا عَلى
أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ المنعوت بما لا تدركه
العقول من النعوت الجليلة الشأن من البلاغة وحسن النظم وكمال
المعنى، وتخصيص الثقلين بالذكر لأن المنكر لكونه من عند الله
تعالى منهما لا من غيرهما والتحدي إنما كان معهما وإن كان
النبي صلّى الله عليه وسلّم مبعوثا إلى الملك كما هو مبعوث
إليهما لا لأن غيرهما قادر على المعارضة فإن الملائكة عليهم
السلام على فرض تصديهم لها وحاشاهم إذ هم معصومون لا يفعلون
إلا ما يؤمرون عاجزون كغيرهم لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ أي هذا
القرآن وأوثر الإظهار على إيراد الضمير الراجع إلى المثل
المذكور احترازا عن أن يتوهم أن له مثلا معينا وإيذانا بأن
المراد نفي الإتيان بمثل ما أي لا يأتون
__________
(1) قوله وقال أبو سهل إلى أنها كذا في نسخة المؤلف والأولى
وذهب أبو سهل إلخ كما هو ظاهر اه.
(8/157)
بكلام مماثل له فيما ذكر من الصفات الجليلة
الشأن وفيهم العرب العرباء أرباب البراعة والبيان، وقيل:
المراد تعجيز الإنس وذكر الجن مبالغة في تعجيزهم لأنهم إذا
عجزوا عن الإتيان بمثله ومعهم الجن القادرون على الأفعال
المستغربة فهم عن الإتيان بمثله وحدهم أعجز وليس بذاك، وقيل:
يجوز أن يراد من الجن ما يشمل الملائكة عليهم السلام وقد جاء
إطلاق الجن على الملائكة كما في قوله تعالى: وَجَعَلُوا
بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً [الصافات: 158] نعم
الأكثر استعماله في غير الملائكة عليهم السلام ولا يخفى أنه
خلاف الظاهر، وزعم بعضهم أن الملائكة عليهم السلام حيث كانوا
وسائط في إتيانه لا ينبغي إدراجهم إذ لا يلائمه حينئذ لا
يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وفيه أنه ليس المراد نفي الإتيان بمثله
من عند الله تعالى في شيء ممن أسند إليهم الفعل، وجملة «لا
يأتون» جواب القسم الذي ينبىء عنه اللام الموطئة وساد مسد جزاء
الشرط ولولاها لكان لا يَأْتُونَ جزاء الشرط وإن كان مرفوعا
بناء على القول بأن فعل الشرط إذا كان ماضيا يجوز الرفع في
الجواب كما في قول زهير:
وإن أتاه خليل يوم مسغبة ... يقول لا غائب مالي ولا حرم
لأن أداة الشرط إذا لم تؤثر في الشرط ظاهرا مع قربه جاز أن لا
تؤثر في الجواب مع بعده، وهذا القول خلاف مذهب سيبويه ومذهب
الكوفيين والمبرد كما فصل في موضعه، ولا يجوز عند البصريين مع
وجود هذه اللام جعل المذكور جواب الشرط خلافا للفراء، وأما قول
الأعشى:
لئن منيت بنا عن غب معركة ... لا تلفنا عن دماء الخلق ننتفل
فاللام ليست الموطئة بل هي زائدة على ما قيل فافهم، وحيث كان
المراد بالاجتماع على الإتيان بمثل القرآن مطلق الاتفاق على
ذلك سواء كان التصدي للمعارضة من كل واحد منهم على الانفراد أو
من المجموع بأن يتألبوا على تلفيق كلام واحد بتلاحق الأفكار
وتعاضد الأنظار قال سبحانه: وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ
ظَهِيراً أي معينا في تحقيق ما يتوخونه من الإتيان بمثله،
والجملة عطف على مقدر أي لا يأتون بمثله لو لم يكن بعضهم لبعض
ظهيرا ولو كان إلخ وهي في موضع الحال كالجملة المحذوفة،
والمعنى لا يأتون بمثله على كل حال مفروض ولو في مثل هذه الحال
المنافية لعدم الإتيان به فضلا عن غيرها وفيه رد لليهود أو
قريش في زعمهم الإتيان بمثله،
فقد روي أن طائفة من الأولين قالوا: أخبرنا يا محمد بهذا الحق
الذي جئت به أحق من عند الله تعالى فإنا لا نراه متناسقا
كتناسق التوراة فقال صلّى الله عليه وسلّم لهم: أما والله إنكم
لتعرفونه أنه من عند الله تعالى قالوا: إنا نجيئك بمثل ما تأتي
به فأنزل الله تعالى هذه الآية.
وفي رواية أن جماعة من قريش قالوا له صلّى الله عليه وسلّم:
جئنا بآية غريبة غير هذا القرآن فإنا نحن نقدر على المجيء
بمثله فنزلت
، ولعل مرادهم بهذه الآية الغريبة ما تضمنه الآيات بعد وهي
قوله تعالى: وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ إلخ وحينئذ قيل يمكن
أن تكون هذه الآية مع الآيات الأخر رد لجميع ما عنوه بهذا
الكلام إلا أنه ابتدأ برد قولهم: نحن نقدر إلخ اهتماما به فإن
قولهم ذلك منشا طلبهم الآية الغريبة.
وفي إرشاد العقل السليم أن في هذه الآية حسم أطماعهم الفارغة
في روم تبديل بعض آياته ببعض ولا مساغ لكونها تقريرا لما قبلها
من قوله تعالى: ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنا وَكِيلًا
كما قيل لكن لا لما قيل من أن الإتيان بمثله أصعب من استرداد
عينه ونفي الشيء إنما يقرره نفي ما دونه دون نفي ما فوقه لأن
أصعبية الاسترداد بغير أمره تعالى من الإتيان المذكور مما لا
شبهة فيه بل لأن الجملة القسمية ليست مسوقة إلى النبي صلّى
الله عليه وسلّم بل إلى المكابرين من قبله عليه الصلاة والسلام
انتهى، ومنه يعلم ما في قول بعضهم في وجه التقرير: أن عدم قدرة
الثقلين على رده بعد إذهابه مساو لعدم قدرتهم على مثله لأن رده
بعينه غير ممكن لعدم وصولهم إلى الله تعالى شأنه فلم يبق إلا
رده بمثله فصرح بنفيه
(8/158)
تقريرا له من النظر وعدم الجدوى، هذا
واستدل صاحب الكشاف بإعجاز القرآن على حدوثه إذ لو كان قديما
لم يكن مقدورا فلا يكون معجزا كالمحال، وتعقبه في الكشف بأنه
لا نزاع في حدوث النظم وإن تحاشى أهل السنة من إطلاق المخلوق
عليه للإيهام وهو المعجز إنما النزاع في المعبر بهذه العبارة
المعجزة وهو المسمى بالكلام النفسي فهو استدلال لا ينفعه وذكر
نحوه ابن المنير.
وقال صاحب التقريب: الجواب منع الملازمة إذ مصحح المقدورية
الإمكان وهو حاصل لا الحدوث وأيضا المعجز لفظه ولا يقال بقدمه
والقديم كلام النفس ولا يقال بإعجازه وأيضا سلمنا أن القديم لا
يقدر البشر على عينه لكن لم لا يقدر على مثله، واختار العلامة
الطيبي هذا الأخير في الجواب، وقد ذكرنا في المقدمات من الكلام
ما ينفعك في هذا المقام فتدبر والله تعالى ولي الأنعام ومسدد
الأفهام.
وَلَقَدْ صَرَّفْنا كررنا ورددنا على أساليب مختلفة توجب زيادة
تقرير ورسوخ لِلنَّاسِ أهل مكة وغيرهم كما هو الظاهر فِي هذَا
الْقُرْآنِ المنعوت بما ذكر من النعوت الفاضلة مِنْ كُلِّ
مَثَلٍ من كل معنى بديع هو في الحسن والغرابة واستجلاب النفوس
كالمثل ومفعول صَرَّفْنا على ما استظهره أبو حيان محذوف أي
البيان وقدره البينات والعبر ومن لابتداء الغاية وجوز ابن عطية
أن تكون سيف خطيب فكل هو المفعول وهذا مبني على مذهب الكوفيين
والأخفش لأنهم يجوزون زيادة من في الإيجاب دون جمهور البصريين.
وقرأ الحسن «صرفنا» بتخفيف الراء وقراءة الجمهور أبلغ، وأيّا
ما كان فالمراد فعلنا ذلك للناس ليذعنوا ويتلقوه بالقبول
فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُوراً أي جحودا وفسر به
لثبوت الصدق بأصل الإعجاز، والمراد بالناس المذكورون أولا
وأوثر الإظهار على الإضمار تأكيدا وتوضيحا، والمراد بالأكثر
قيل: من كان في عهده صلّى الله عليه وسلّم من المشركين وأهل
الكتاب.
واستظهر في البحر أنهم أهل مكة بدليل أن الضمائر الآتية لهم
ونصب كُفُوراً على أنه مفعول أبى والاستثناء مفرغ وصح ذلك هنا
مع أنه مشروط بتقدم النفي فلا يصح ضربت إلا زيدا لأن أبى قريب
من معنى النفي فهو مؤول به فكأنه قيل ما قبل أكثرهم إلا كفورا
وفيه من المبالغة ما ليس في أبوا الإيمان لأن فيه زيادة على
أنهم لم يرضوا بخصلة سوى الكفر من الإيمان والتوقف في الأمر
ونحو ذلك وأنهم بالغوا في عدم الرضا حتى بلغوا مرتبة الإباء،
وإنما لم يجز ذلك في الإثبات لفساد المعنى إذ لا قرينة على
تقدير أمر خاص والعموم لا يصح إذ لا يمكن في المثال أن تضرب كل
أحد إلا زيدا فإن صح العموم في مثال جاز التفريغ في غير تأويل
بنفي فيجوز صليت إلا يوم كذا إذ يجوز أن تصلي كل يوم غيره،
وجوز أن تكون الآية من هذا القبيل بأن يكون المراد أبوا كل شيء
فيما اقترحوه إلا كفورا وَقالُوا عند ظهور عجزهم ووضوح
مغلوبيتهم بالإعجاز التنزيلي وغيره من المعجزات الباهرة
متعللين بما لا تقتضي الحكمة وقوعه من الأمور ولا توقف لثبوت
المدعى عليه وبعضه من المحالات العقلية لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ
حَتَّى تَفْجُرَ بالتخفيف من باب نصر المتعدي وبذلك قرأ
الكوفيون أي تفتح، وقرأ باقي السبعة «تفجر» من فجر مشددا
والتضعيف للتكثير لا للتعدية.
وقرأ الأعمش وعبد الله بن مسلم بن يسار «تفجر» من أفجر رباعيا
وهي لغة في فجر لَنا مِنَ الْأَرْضِ أي أرض مكة لقلة مياهها
فالتعريف عهدي يَنْبُوعاً مفعول من نبع الماء كيعبوب من عب
الماء إذا زخر وكثر موجه فالياء زائدة للمبالغة، والمراد عينا
لا ينضب ماؤها، وأخرج ابن أبي حاتم عن السدي أن الينبوع هو
النهر الذي يجري من العين، والأول مروي عن مجاهد وكفى به أَوْ
تَكُونَ لَكَ خاصة جَنَّةٌ بستان تستر أشجارها ما تحتها من
العرصة
(8/159)
مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ خصوهما بالذكر
لأنهما كانا الغالب في هاتيك النواحي مع جلالة قدرهما
فَتُفَجِّرَ الْأَنْهارَ أي تجريها خِلالَها نصب على الظرفية
أي وسط تلك الجنة وأثنائها تَفْجِيراً كثيرا والمراد إما إجراء
الأنهار خلالها عند سقيها أو إدامة إجرائها كما ينبىء الفاء
أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ الجرم المعلوم كَما زَعَمْتَ عَلَيْنا
كِسَفاً جمع كسفة كقطعة وقطع لفظا ومعنى وهو حال من السماء
والكاف في كَما في محل النصب على أنه صفة مصدر محذوف أي إسقاطا
مماثلا لما زعمت يعنون بذلك قوله تعالى: أَوْ نُسْقِطْ
عَلَيْهِمْ كِسَفاً مِنَ السَّماءِ [سبأ: 9] وزعم بعضهم أنهم
يعنون ما في هذه السورة من قوله تعالى: أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ
يَخْسِفَ بِكُمْ جانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ
حاصِباً وليس بشيء، وقيل: إن المعنى كما زعمت أن ربك إن شاء
فعل وسيأتي ذلك إن شاء الله تعالى في خبر ابن عباس، وقرأ مجاهد
«يسقط السماء» بياء الغيبة ورفع «السماء» وقرأ ابن كثير وأبو
عمرو وحمزة والكسائي ويعقوب «كشفا» بسكون السين في جميع القرآن
إلا في الروم وابن عامر إلا في هذه السورة ونافع وأبو بكر في
غيرهما، وحفص فيما عدا الطور في قوله. وفي النشر أنهم اتفقوا
على إسكان السين في الطور وهو إما مخفف من المفتوح لأن السكون
من الحركة مطلقا كسدر وسدر أو هو فعل صفة بمعنى مفعول كالطحن
بمعنى المطحون أي شيئا مكسوفا أي مقطوعا أَوْ تَأْتِيَ
بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلًا أي مقابلا كالعشير
والمعاشر وأرادوا كما أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس عيانا
وهذا كقولهم «لولا أنزل علينا الملائكة أو نرى ربنا» وفي رواية
أخرى عن الحبر والضحاك تفسير القبيل بالكفيل أي كفيلا بما
تدعيه يعنون شاهدا يشهد لك بصحة ما قلته وضامنا يضمن ما يترتب
عليه وهو على الوجهين حال من الجلالة وحال الملائكة محذوفة
لدلالة الحال المذكورة عليها أي قبلاء كما حذف الخبر في قوله:
ومن يك أمسى في المدينة رحله ... فإني وقيار بها لغريب
وذكر الطبرسي عن الزجاج أنه فسر قبيلا بمقابلة ومعاينة، وقال
إن العرب تجريه في هذا المعنى مجرى المصدر فلا يثنى ولا يجمع
ولا يؤنث فلا تغفل، وعن مجاهد القبيل الجماعة كالقبيلة فيكون
حالا من الملائكة، وفي الكشف جعله حالا من الملائكة لقرب اللفظ
وسداد المعنى لأن المعنى تأتي بالله تعالى وجماعة من الملائكة
لا تأتي بهما جماعة ليكون حالا على الجمع إذ لا يراد معنى
المعية معه تعالى ألا ترى إلى قوله سبحانه حكاية عنهم «أو نرى
ربنا» والقرآن يفسر بعضه بعضا انتهى، وقرأ الأعرج «قبلا» من
المقابلة وهذا يؤيد التفسير الأول.
أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ من ذهب كما روي عن ابن
عباس وقتادة وغيرهما، وأصله الزينة وإطلاقه على الذهب لأن
الزينة به أرغب وأعجب، وقرأ عبد الله «من ذهب» وجعل ذلك في
البحر تفسيرا لا قراءة لمخالفته سواد المصحف أَوْ تَرْقى فِي
السَّماءِ أي تصعد في معارجها فحذف المضاف يقال رقي في السلم
والدرجة والظاهر أن السماء هنا المظلة، وقيل: المراد المكان
العالي وكل ما ارتفع وعلا يسمى سماء قال الشاعر:
وقد يسمى سماء كل مرتفع ... وإنما الفضل حيث الشمس والقمر
وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ أي لأجل رقيك فيها وحده أو لن
نصدق رقيك فيها حَتَّى تُنَزِّلَ منها عَلَيْنا كِتاباً
نَقْرَؤُهُ بلغتنا على أسلوب كلامنا وفيه تصديقك قُلْ تعجبا من
شدة شكيمتهم وفرط حماقتهم سُبْحانَ رَبِّي أو قل ذلك تنزيها
لساحة الجلال عما لا يكاد يليق بها من مثل هذه الاقتراحات التي
تضمنت ما هو من أعظم المستحيلات كإتيان الله تعالى على الوجه
الذي اقترحوه أو عن طلب ذلك، وفيه تنبيه على بطلان ما قالوه.
وقرأ ابن كثير وابن عامر «قال سبحان ربي» أي قال النبي صلّى
الله عليه وسلّم: هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَراً رَسُولًا كسائر
الرسل
(8/160)
عليهم السلام وكانوا لا يأتون قومهم إلا
بما يظهره الله تعالى على أيديهم حسبما تقتضيه الحكمة من غير
تفويض إليهم فيه ولا تحكم منهم عليه سبحانه، وبَشَراً خبر كان
ورَسُولًا صفته وهو معتمد الكلام وكونه بشرا توطئة لذلك ردا
لما أنكروه من جواز كون الرسول بشرا ودلالة على أن الرسل عليهم
السلام من قبل كانوا كذلك ولهذا قال الزمخشري هل كنت إلا رسولا
كسائر الرسل بشرا مثلهم، وزعم بعض أن ذكر بَشَراً ليس للتوطئة
فإن طلب القوم منه عليه الصلاة والسلام ما طلبوه يحتمل أن يكون
طلب أن يأتي به بقدرة نفسه صلّى الله عليه وسلّم ويحتمل أن
يكون طلب أن يأتي به بقدرة الله تعالى فذكر بَشَراً لنفي أن
يأتي بذلك بقدرة نفسه كأنه قال: هل كنت إلا بشرا والبشر لا
قدرة له على الإتيان بذلك، وذكر رسولا لنفي أن يأتي به بقدرة
الله تعالى كأنه قيل هل كنت إلا رسولا والرسول لا يتحكم على
ربه سبحانه.
وتعقب بأن هذا مع ما فيه من مخالفة لآثار كما ستعلمه قريبا إن
شاء الله تعالى ظاهر في جعل الاسمين خبرين وهو مما يأباه الذوق
السليم، وقال الخفاجي: إن كون الاسمين خبرين غير متوجه لأنه
يقتضي استقلالها وأنهم أنكروا كلا منهما حتى رد عليهم بذلك ولم
ينكر أحد بشريته صلّى الله عليه وسلّم، وتعقب بأنهم لما طلبوا
منه عليه الصلاة والسلام ما لا يتأتى من البشر كالرقي في
السماء كانوا بمنزلة من أنكر بشريته وهو كما ترى. وجوز بعضهم
كون بشرا حالا من النكرة وسوغ ذلك تقدمه عليها وهو ركيك لأنه
يقتضي أن له صلّى الله عليه وسلّم حالا آخر غير البشرية ولا
يقول بذلك أحد اللهم إلا أن يكون من الوجودية. هذا والظاهر
اتحاد القائل لجميع ما تقدم ويحتمل عدم الاتحاد بأن يكون بعض
اقترح شيئا وبعض آخر اقترح آخر لكن نسب القول إلى الجميع لرضا
كل بما اقترح الآخر.
وأخرج سعيد بن منصور، وغيره عن ابن جبير أن قوله تعالى:
وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ إلخ نزل في عبد الله ابن أبي أمية
وهو ظاهر في أنه القائل ولا يعكر عليه ضمير الجمع لما أشرنا
إليه،
وأخرج ابن إسحاق. وجماعة عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن
عتبة وشيبة ابني ربيعة وأبا سفيان بن حرب والأسود بن المطلب
وزمعة بن الأسود والوليد بن المغيرة وأبا جهل وعبد الله بن أبي
أمية وأمية بن خلف وناسا آخرين اجتمعوا بعد غروب الشمس عند
الكعبة فقال بعضهم لبعض: ابعثوا إلى محمد فكلموه حتى تعذروا
فيه فبعثوا إليه فجاءهم صلّى الله عليه وسلّم سريعا وهو يظن
أنهم قد بدا لهم في أمره بداء وكان عليهم حريصا يحب رشدهم ويعز
عليه عنتهم حتى جلس إليهم فقالوا: يا محمد إنا قد بعثنا إليك
لنعذرك وإنا والله ما نعلم رجلا من العرب أدخل على قومه ما
أدخلت على قومك لقد شتمت الآباء وعبت الدين وسفهت الأحلام
وشتمت الآلهة وفرقت الجماعة فما بقي من قبيح إلا وقد جثته فيما
بيننا وبينك فإن كنت إنما جئت بهذا الحديث تطلب مالا جمعنا لك
من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالا وإن كنت إنما تطلب الشرف فينا
سودناك علينا وإن كنت تريد ملكا ملكناك علينا وإن كان هذا الذي
يأتيك بما يأتيك رئيا تراه قد غلب عليك بذلنا أموالنا في طلب
الطب حتى نبرئك منه أو نعذر فيك فقال رسول الله صلّى الله عليه
وسلّم: ما بي ما تقولون ما جئتكم بما جثتكم به أطلب أموالكم
ولا الشرف فيكم ولا الملك عليكم ولكن الله تعالى بعثني إليكم
رسولا وأنزل علي كتابا وأمرني أن أكون لكم بشيرا ونذيرا
فبلغتكم رسالة ربي ونصحت لكم فإن تقبلوا مني ما جئتكم به فهو
حظكم في الدنيا والآخرة وإن تردوه علي أصبر لأمر الله تعالى
حتى يحكم الله تعالى بيني وبينكم فقالوا: يا محمد فإن كنت غير
قابل منا ما عرضنا عليك فقد علمت أنه ليس أحد من الناس أضيق
بلادا ولا أقل مالا ولا أشد عيشا منا فاسأل ربك الذي بعثك بما
بعثك به فليسير عنا هذه الجبال التي ضيقت علينا وليبسط لنا
بلادنا وليجر فيها أنهارا كأنهار الشام والعراق وليبعث لنا من
قد مضى من آياتنا وليكن فيمن يبعث لنا منهم قصي بن كلاب فإنه
كان شيخا صدوقا فنسألهم عما تقول حق هو أم باطل فإن
(8/161)
صنعت ما سألناك وصدقوك صدقناك وعرفنا به
منزلتك عند الله تعالى وأنه بعثك رسولا فقال رسول الله صلّى
الله عليه وسلّم ما بهذا بعثت إنما جئتكم من عند الله تعالى
بما بعثني به فقد بلغتكم ما أرسلت به إليكم فإن تقبلوه فهو
حظكم في الدنيا والآخرة وإن تردوه علي أصبر لأمر الله تعالى
حتى يحكم الله تعالى بيني وبينكم قالوا فإن لم تفعل لنا هذا
فخذ لنفسك فاسأل ربك أن يبعث ملكا يصدقك بما تقول فيراجعنا عنك
وتسأله أن يجعل لك جنانا كنوزا وقصورا من ذهب وفضة ويغنك عما
نراك تبتغي فإنك تقول بالأسواق وتلتمس المعاش كما نلتمسه حتى
نعرف منزلتك من ربك إن كنت رسولا كما تزعم فقال صلّى الله عليه
وسلّم: ما أنا بفاعل ما أنا بالذي يسأل ربه هذا وما بعثت إليكم
بهذا ولكن الله تعالى بعثني بشيرا ونذيرا فإن تقبلوا ما جئتكم
به فهو حظكم في الدنيا والآخرة وإن تردوه علي أصبر لأمر الله
تعالى حتى يحكم الله تعالى بيني وبينكم قالوا: فتسقط السماء
كما زعمت أن ربك إن شاء فعل فإنا لن نؤمن لك إلا أن تفعل فقال
رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ذلك إلى الله تعالى إن شاء
فعل بكم ذلك فقالوا: يا محمد فاعلم ربك أنا سنجلس معك ونسألك
عما سألناك عنه ونطلب منك ما نطلب فيتقدم إليك ويعلمك ما
تراجعنا به ويخبرك مما هو صانع في ذلك بنا إذا لم نقبل منك ما
جئتنا به فقد بلغنا أنه إنما يعلمك هذا رجل باليمامة يقال له
الرحمن وإنا والله لا نؤمن بالرحمن أبدا فقد أعذرنا إليك يا
محمد أما والله لا نتركك وما فعلت بنا حتى نهلكك أو تهلكنا
وقال قائلهم: لن نؤمن لكن حتى تأتي بالله والملائكة قبيلا فلما
قالوا ذلك قام رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عنهم وقام معه
عبد الله بن أبي أمية فقال: يا محمد عرض عليك قومك ما عرضوا
فلم تقبله منهم ثم سألوك لأنفسهم
أمورا يتعرفوا بها منزلتك من الله تعالى فلم تفعل ثم سألوك أن
تعجل ما يخوفهم به من العذاب فو الله لا نؤمن بك أبدا حتى تتخذ
إلى السماء سلما ثم نرقى فيه وأنا أنظر حتى تأتيها وتأتي معك
بنسخة منشورة معك بأربعة من الملائكة يشهدون لك أنك كما تقول
وايم الله لو فعلت ذلك لظننت أني لأصدقك ثم انصرف وانصرف رسول
الله صلّى الله عليه وسلّم إلى أهله حزينا آسفا لما فاته مما
كان طمع فيه من قومه حين دعوه ولما رأى من مباعديهم فأنزل عليه
هذه الآيات وقوله تعالى: كَذلِكَ أَرْسَلْناكَ فِي أُمَّةٍ
قَدْ خَلَتْ [الرعد: 30] الآية وقوله سبحانه: وَلَوْ أَنَّ
قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ [الرعد: 31]
الآية اه والله تعالى أعلم.
وَما مَنَعَ النَّاسَ أي الذين حكيت أباطيلهم أَنْ يُؤْمِنُوا
مفعول منع وقوله تعالى: إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى ظرف منع أو
يؤمنوا أي ما منعهم وقت مجيء الوحي المقرون بالمعجزات
المستدعية للإيمان أن يؤمنوا بالقرآن وبنبوتك أو ما منعهم أن
يؤمنوا وقت مجيء ما ذكر إِلَّا أَنْ قالُوا فاعل منع أي إلا
قولهم: أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَراً رَسُولًا منكرين أن يكون رسول
الله عليه الصلاة والسلام من جنس البشر وليس المراد أن هذا
القول صدر عن بعض فمنع آخرين بل المانع هو الاعتقاد الشامل
للكل المستتبع لهذا القول منهم.
وإنما عبر عنه بالقول إيذانا بأنه مجرد قول يقولونه بأفواههم
من غير أن يكون له مفهوم ومصداق، وحصر المانع فيما ذكر مع أن
لهم موانع شتى لما أنه معظمها أو لأنه هو المانع بحسب الحال
أعني عند سماع الجواب بقوله تعالى: هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَراً
رَسُولًا إذ هو الذي يتشبثون به حينئذ من غير أن يخطر ببالهم
شبهة أخرى من شبههم الواهية، وفيه على هذا إيذان بكمال عنادهم
حيث يشير إلى أن الجواب المذكور مع كونه حاسما لمواد شبههم
مقتضيا للإيمان يعكسون الأمر ويجعلونه مانعا قاله بعض
المحققين، وظاهر ذلك أن القوم لا يقولون برسالة أحد من الرسل
المشهورين كإبراهيم وموسى عليهما السلام أصلا، وصرح بعضهم
بأنهم لم ينكروا إرسال غيره صلّى الله عليه وسلّم منهم وبأن
قولهم هذا كان تعنتا وهذا خلاف الظاهر هنا، ولعل القوم كانوا
في ريب وتردد لا يستقيمون على حال فتدبر.
والظاهر أن الآية إخبار منه عز مجده عن الأمر المانع إياهم عن
الإيمان، ويظهر من كلام ابن عطية أن هذا الكلام
(8/162)
منه عليه الصلاة والسلام قاله على معنى
التوبيخ والتلهف وحاشا من له أدنى ذوق من أن يذهب إلى ذلك قُلْ
لهم أولا من قبلنا تبيينا للحكمة وتحقيقا للحق المزيح للريب
لَوْ كانَ أي لو وجد فِي الْأَرْضِ بدل البشر مَلائِكَةٌ
يَمْشُونَ كما يمشي البشر ولا يطيرون إلى السماء فيسمعوا من
أهلها ويعلموا ما يجب علمه مُطْمَئِنِّينَ ساكنين مقيمين فيها،
وقال الجبائي أي مطمئنين إلى الدنيا ولذاتها غير خائفين ولا
متعبدين بشرع لأن المطمئن من زال الخوف عنه لَنَزَّلْنا
عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ مَلَكاً رَسُولًا يعلمهم ما لا
تستقل قدرهم بعلمه ليسهل عليهم الاجتماع به والتلقي منه وأما
عامة البشر فلا يسهل عليهم ذلك لبعد ما بين الملك وبينهم فلا
يبعث إليهم وإنما يبعث إلى خواصهم لأن الله تعالى قد وهبهم
نفوسا زكية وأيدهم بقوى قدسية وجعل لهم جهتين جهة ملكية بها من
الملك يستفيضون وجهة بشرية بها على البشر يفيضون، وجعل كل
البشر كذلك مخل بالحكمة، وأنزل الملك عليهم على وجه يسهل
التلقي منه بأن يظهر لهم بصورة بشر كما ظهر جبريل عليه السلام
مرارا في صورة دحية الكلبي.
وقد صح أن أعرابيا جاء وعليه أثر السفر إلى رسول الله صلّى
الله عليه وسلّم فسأله عن الإسلام والإيمان والإحسان وغيرها
فأجابه عليه الصلاة والسلام بما أجابه ثم انصرف ولم يعرفه أحد
من الصحابة رضي الله تعالى عنهم فقال صلّى الله عليه وسلّم هذا
جبريل جاءكم يعلمكم أمر دينكم مما لا يجدي نفعا لأولئك الكفرة
كما قال تعالى جده وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ
رَجُلًا وَلَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُونَ [الأنعام: 9]
وقيل علة تنزيل الملك عليهم أن الجنس إلى الجنس إلى الجنس أميل
وهو به آنس، ولعل الأول أولى وإن زعم خلافه.
وحكى الطبرسي عن بعضهم أنه قال في الآية: إن العرب قالوا كنا
ساكنين مطمئنين فجاء محمد صلّى الله عليه وسلّم فأزعجنا وشوش
علينا أمرنا فبين سبحانه أنه لو كان ملائكة مطمئنين لأوجبت
الحكمة إرسال الرسل إليهم ولم يمنع اطمئنانهم الإرسال فكذلك
الناس لا يمنع كونهم مطمئنين إرسال الرسل إليهم، وأنت تعلم أن
هذا بمراحل عن السياق ولا يصح فيه أثر كما لا يخفى على
المتتبع.
ونصب مَلَكاً يحتمل أن يكون على الحالية من رسولا الواقع
مفعولا لنزلنا وسوغ ذلك التقدم، ويحتمل أن يكون على المفعولية
لنزلنا ورسولا صفة له، وكذا الكلام في قوله تعالى أبعث الله
بشرا رسولا، ورجع غير واحد الأول بأنه أكثر موافقة للمقام
وأنسب، ووجه ذلك القطب وصاحب التقريب بأنه على الحالية يفيد
المقصود بمنطوقه وعلى الوصفية يفيد خلاف المقصود بمفهومه، أما
الأول فلأن منطوقه ابعث الله تعالى رسولا حال كونه بشرا لا
ملكا ولنزلنا عليهم رسولا حال كونه ملكا لا بشرا وهو المقصود،
وأما الثاني فلأن التقييد بالصفة يفيد أبعث الله تعالى بشرا
مرسلا لا بشرا غير مرسل ولنزلنا عليهم ملكا مرسلا لا ملكا غير
مرسل وهو خلاف المقصود بل غير مستقيم، وقال صاحب الكشف تبعا
لشيخه العلامة الطيبي في ذلك: لأن التقديم إزالة عن موضعه
الأصلي دلالة على أنه مصب الإنكار في الأول أعني أبعث الله
بشرا رسولا فيدل على أن البشرية منافية لهذا الثابت- أعني
الرسالة- كما تقول أضربت قائما زيدا ولو قلت أضربت زيادا قائما
أو القائم لم يفد تلك الفائدة لأن الأول يفيد أن المنكر ضربه
قائما لا الضرب مطلقا، والثاني يفيد أن المنكر ضرب زيد لاتصافه
بهذه الصفة المانعة ولا يفيد أن أصل الضرب حسن ومسلم والجهة
منكرة هذا إن جعل التقديم للحصر وإن جعل للاهتمام دل على كونه
مصب الإنكار وإن لم يدل على ثبوت مقابله، وعلى التقديرين فائدة
التقديم لائحة اه، وهو أكثر تحقيقا. واستشكل بعضهم هذه الآية
بأنها ظاهرة في أنه إنما يرسل إلى كل قبيل ما يناسبه ويجانسه
كالبشر للبشر والملك للملك ولا يرسل إلى قبيل مالا يناسبه ولا
يجانسه وهو ينافي كونه صلّى الله عليه وسلّم مرسلا إلى الجن
كالإنس إجماعا معلوما من الدين بالضرورة فيكفر منكره ومن نازع
في ذلك وهم وأجيب بمنع كونها
(8/163)
ظاهرة في ذلك بل قصارى ما تدل عليه أن
القول أنكروا أن يبعث الله تعالى إلى البشر بشرا وزعموا أنه
يجب أن يكون المبعوث إليهم ملكا ومرامهم نفي أن يكون النبي
صلّى الله عليه وسلّم مبعوثا إليهم فأجيبوا بما حاصله أن
الحكمة تقتضي بعث الملك إلى الملائكة لوجود المناسبة المصححة
للتلقي لا إلى عامة البشر لانتفاء تلك المناسبة فأمر الوجوب
الذي يزعمونه بالعكس وليس في هذا أكثر من الدلالة على أن أمر
البعث منوط بوجود المناسبة فمتى وجدت صح البعث ومتى لم توجد لا
يصح البعث وأنها موجودة بين الملك والملك لا بينه وبين عامة
البشر كالمنكرين المذكورين وهذا لا ينافي بعثته صلّى الله عليه
وسلّم إلى الجن لأنه عليه الصلاة والسلام متى صح فيه المناسبة
المصححة للاجتماع مع الملك والتلقي منه صح فيه المناسبة
المصححة للاجتماع مع الجن والإلقاء إليهم كيف لا وهو عليه
الصلاة والسلام نسخة الله تعالى الجامعة وآيته الكبرى الساطعة
وإذا قلنا إن اجتماعه عليه الصلاة والسلام بالجن وإلقاءه عليهم
بعد تشكلهم له فأمر المناسبة أظهر وليس تشكل الملك لو أرسل إلى
البشر بمجد لما سمعت آنفا، ويقال نحو هذا في إرساله صلّى الله
عليه وسلّم إلى الملائكة لما فيه عليه الصلاة والسلام من قوة
الإلقاء إليهم كالتلقي منهم، وإلى كونه عليه الصلاة والسلام
مرسلا إليهم ذهب من الشافعية تقي الدين السبكي والبارزي
والجلال المحلي في خصائصه، ومن الحنابلة ابن تيمية وابن مفلح
في كتاب الفروع، ومن المالكية عبد الحق وقال ابن تيمية: لا
نزاع بين العلماء في جنس تكليفهم بالأمر والنهي.
وقال إبراهيم اللقاني: لا شك في ثبوت أصل التكليف بالطاعات
العملية في حقهم وأما نحو الإيمان فهو فيهم ضروري فيستحيل
تكليفهم به، وقال السبكي في فتاويه: الجن مكلفون بكل شيء من
هذه الشريعة لأنه إذا ثبت أنه عليه الصلاة والسلام مرسل إليهم
كما هو مرسل إلى الإنس وأن الدعوة عامة والشريعة كذلك لزمتهم
جميع التكاليف التي توجد فيهم أسبابها لا أن يقوم دليل على
تخصيص بعضها فنقول: إنه يجب عليهم الصلاة والزكاة إن ملكوا
نصابا بشرطه والحج وصوم رمضان وغيرها من الواجبات ويحرم عليهم
كل حرام في الشريعة بخلاف الملائكة فإنا لا نلتزم أن هذه
التكاليف كلها ثابتة في حقهم إذا قلنا بعموم الرسالة إليهم بل
يحتمل ذلك ويحتمل الرسالة في شيء خاص اه.
ولا مانع من أن يكلفهم كلهم بما جاءه من ربه جل جلاله بواسطة
بعضهم على أنه ليس كل ما جاء به عليه الصلاة والسلام حاصلا
بوساطة الملك فيمكن أن يكون ما كلفوا به لم يكن بوساطة أحد
منهم، وأنكر بعضهم إرساله صلّى الله عليه وسلّم إليهم وبعدم
الإرسال إليهم جزم الحليمي والبيهقي من الشافعية ومحمود بن
حمزة الكرمائي في كتابه العجائب والغرائب من الحنفية بل نقل
البرهان النسفي والفخر الرازي في تفسيريهما الإجماع عليه وجزم
به من المتأخرين زين الدين العراقي في نكته على ابن الصلاح
والجلال المحلي في شرح جمع الجوامع وصريح آية لِيَكُونَ
لِلْعالَمِينَ نَذِيراً [الفرقان: 1] إذ العالم ما سوى الله
تعالى وصفاته، وخبر مسلم أرسلت إلى الخلق كافة يؤيد المذهب
الأول، نعم استدل أهل هذا المذهب بما استدلوا به وفيه ما فيه،
وقد ادعى بعض الناس أن الآية تؤيد مذهبهم لأنه تعالى خص فيها
الملك بالإرسال إلى الملائكة فيتعين أن يكون هو الرسول إليهم
لا البشر سواء كان بينه وبينهم مناسبة أم لا وقد سمعت ما نقل
عن العلامة القطب وصاحب التقريب من أن المراد لنزلنا عليهم
رسولا حال كونه ملكا لا بشرا، وأجيب بأنه بعد إرخاء العنان لا
تدل الآية إلا على تعيين إرسال الملك إلى الملائكة إذا كانوا
في الأرض يمشون مطمئنين بدل البشر ولا يلزم منه أن لا يصح
إرسال البشر إليهم إذا لم يكونوا كذلك لجواز أن يكون حكمة
التعيين في الصورة الأولى سوى المناسبة المترتب عليها سهولة
الاجتماع والتلقي شيء آخر لا يوجد في الصورة الثانية وذلك أنه
إذا كان أهل الأرض ملائكة وأرسل إليهم بشر له قوة الإلقاء
إليهم والإفاضة عليهم، نحو إرسال رسل البشر عليهم السلام إليهم
صعب بحسب الطبع على ذلك الرسول بقاؤه معهم زمنا يعتد بهم كما
يبقى رسل البشر مع البشر كذلك إلا أن يجعل
(8/164)
مشاركا لهم فيما جبلوا عليه ويلحق بهم وهو
أشبه شيء بإخراجه عن الطبيعة البشرية بالمرة فيكون العدول عن
إرسال ملك إلى إرساله أشبه شيء بالعبث المنافي للحكمة اه
فتدبر.
فلعل الله سبحانه يمن عليك بما يروي الغليل وتأمل في جميع ما
تقدم فلعلك توفق بعون الله تعالى إلى الجرح والتعديل قُلْ لهم
ثانيا من جهتك بعد ما قلت لهم من قبلنا ما قلت وبينت لهم ما
تقتضيه الحكمة في البعثة ولم يرفعوا إليه رأسا كَفى بِاللَّهِ
عز وجل وحده شَهِيداً على أني قد أديت ما علي من مواجب الرسالة
أكمل أداء وإنكم فعلتم ما فعلتم من التكذيب والعناد، وقيل
شهيدا على أني رسول الله تعالى إليكم بإظهار المعجزة على وفق
دعواي، ورجح الأول بأنه أوفق بقوله تعالى: بَيْنِي
وَبَيْنَكُمْ وكذا بقوله سبحانه تعليلا للكفاية إِنَّهُ كانَ
بِعِبادِهِ أي الرسل والمرسل إليهم خَبِيراً بَصِيراً أي محيطا
بظواهرهم وبواطنهم فيجازيهم على ذلك، وزعم الخفاجي أن الثاني
أوفق بالسباق منه إذ يكون الكلام عليه كالسابق ردا لإنكارهم أن
يكون الرسول بشرا وإلى ذلك ذهب الإمام وأن كون الأول أوفق
بقوله تعالى إِنَّهُ كانَ إلخ لا وجه له لأن معناه التهديد
والوعيد بأنه سبحانه يعلم ظواهرهم وبواطنهم وأنهم إنما ذكروا
هذه الشبهة للحسد وحب الرياسة والاستنكاف عن الحق وفيه من
التسلية لحبيبه صلّى الله عليه وسلّم ما فيه، وأنت تعلم أن
إنكار كون الأول أوفق بذلك مما لا وجه له لظهور خلافه، ولا
ينافيه تضمن الجملة الوعيد والتسلية، وأيضا يبقى أمر أوفقيته
بيني وبينكم في البين ومع ذلك في تصدير الكلام بقل نوع تأييد
لإرادة الأول كما لا يخفى على الذكي، هذا وإنما لم يقل سبحانه
بيننا تحقيقا للمفارقة وإبانة للمباينة، ونصب شَهِيداً أما على
الحال أو على التمييز وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ كلام مبتدأ غير
داخل في حيز قُلْ يفصل ما أشار إليه الكلام السابق من مجازاة
العباد لما أن علمه تعالى في مثل هذا الموضع مستعمل بمعنى
المجازاة أي من يهد الله تعالى إلى الحق فَهُوَ الْمُهْتَدِ
إليه وإلى ما يؤدي إليه من الثواب أو المهتدي إلى كل مطلوب
والأكثرون حذفوا ياء المهتدي وَمَنْ يُضْلِلْ يخلق فيه الضلال
لسوء اختياره وقبح استعداده كهؤلاء المعاندين فَلَنْ تَجِدَ
لَهُمْ أَوْلِياءَ أي أنصارا مِنْ دُونِهِ عز وجل يهدونهم إلى
طريق الحق أو إلى طريق يوصلهم إلى مطالبهم الدنيوية والأخروية
أو إلى طريق النجاة من العذاب الذي يستدعيه ضلالهم على معنى لن
تجد لأحد منهم وليا على ما يقتضيه قضية مقابلة الجمع بالجمع من
انقسام الآحاد على الآحاد على ما هو المشهور وقيل قال سبحانه:
أَوْلِياءَ مبالغة لأن الأولياء إذا لم تنفعهم فكيف الولي
الواحد، وضمير لَهُمْ عائد على من باعتبار معناه كما أن (هو)
عائد عليه باعتبار لفظه فلذا أفرد الضمير تارة وجمع أخرى.
وفي إيثار الإفراد والجمع فيما أوثرا فيه تلويح بوحدة طريق
الحق وقلة سالكيه وتعدد سبل الضلال وكثرة الضلال، وذكر أبو
حيان وتبعه بعضهم أن الجملة الثانية من المواضع التي جاء فيها
الحمل على المعنى ابتداء من غير أن يتقدمه الحمل على اللفظ وهي
قليلة في القرآن. وتعقب ذلك الخفاجي بأنه لا وجه له فإنه حمل
فيها الضمير على اللفظ أولا إذ في قوله تعالى يُضْلِلْ ضمير
محذوف مفردا ذو تقديره يضلله على الأصل وهو راجع إلى لفظ من
فلا يقال إنه لم يتقدمه حمل على اللفظ ثم قال: وأغرب من ذلك ما
قيل إنه قد يقال إن الحمل على اللفظ قد تقدمه في قوله سبحانه
مَنْ يَهْدِ اللَّهُ وإن كان في جملة أخرى اه. وفيه أن وجهه
جعل أبي حيان من مفعول يُضْلِلْ كما نص عليه في البحر وكذا نص
على أنها في الجملة الأولى مفعول «يهد» وحينئذ ليس هناك ضمير
مفرد محذوف كما لا يخفى فتفطن، وجوز كون الجملتين داخلتين في
حيز قُلْ لمجيء ومن بالواو، وقوله تعالى: وَنَحْشُرُهُمْ أوفق
بالأول وفيه التفات من الغيبة إلى التكلم للإيذان لكمال
الاعتناء بأمر الحشر، وعلى الاحتمال الثاني يجعل حكاية
(8/165)
لما قاله الله تعالى عليه الصلاة والسلام
يَوْمَ الْقِيامَةِ حين يقومون من قبورهم عَلى وُجُوهِهِمْ في
موضع الحال من الضمير المنصوب أي كائنين عليها إما مشيا بأن
يزحفون منكبين عليها ويشهد له ما
أخرجه الشيخان وغيرهما عن أنس قال قيل يا رسول الله كيف يحشر
الناس على وجوههم؟ قال الذي أمشاهم على أرجلهم قادر على أن
يمشيهم على وجوههم
، والمراد كيف يحشر هذا الجنس على الوجه لأن ذلك خاص بالكفار
وغيرهم يحشر على وجه آخر.
فقد أخرج أبو داود والترمذي وحسنه وابن جرير وغيرهم عن أبي
هريرة قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «يحشر الناس
يوم القيامة على ثلاثة أصناف صنف مشاة أي على العادة وصنف
ركبان وصنف على وجوههم قيل يا رسول الله وكيف يمشون على وجوههم
قال: إن الذي أمشاهم على أقدامهم قادر على أن يمشيهم على
وجوههم أنهم يتقون بوجوههم كل حدب وشوك، وإما سحبا بأن تجرهم
الملائكة منكبين عليها كقوله تعالى يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي
النَّارِ عَلى وُجُوهِهِمْ [القمر: 48]
ويشهد له ما
أخرجه أحمد والنسائي والحاكم وصححه عن أبي ذر أنه تلا هذه
الآية وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَلى وُجُوهِهِمْ إلخ
فقال: حدثني الصادق المصدوق صلّى الله عليه وسلّم أن الناس
يحشرون يوم القيامة على ثلاثة أفواج فوج طاعمين كاسين راكبين
وفوج يمشون ويسعون وفوج تسحبهم الملائكة على وجوههم
،
وأخرج أحمد والنسائي والترمذي وحسنه عن معاوية بن حيدة قال:
قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «إنكم تحشرون رجالا
وركبانا وتجرون على وجوهكم»
وليطلب وجه الجمع فإن لم يوجد فالمعول عليه ما شهد له حديث
الشيخين، ولا تعين الآية أعني قوله تعالى: يَوْمَ يُسْحَبُونَ
فِي النَّارِ عَلى وُجُوهِهِمْ الثاني لأن القرآن يفسر بعضهم
بعضا لأنها في حالهم بعد دخول النار وما هنا في حالهم قبل
فتغايرا، وزعم بعضهم أن الكلام على المجاز وذلك كما يقال
للمنصرف خائبا عن أمر مهموما انصرف على وجهه فالمراد ونحرهم
يوم القيامة مهمومين خائبين، وكأن الداعي لهذا الارتكاب أنه قد
روي عن ابن عباس حمل الأحوال الآنية على المجاز وحينئذ تكون
جميع الأحوال على طراز واحد ولا يخفى عليك فإياك أن تلتفت إلى
تأويل نطقت السنة النبوية بخلافه ولا تعبأ بقوم يفعلون ذلك
عُمْياً وَبُكْماً وَصُمًّا أحوال من الضمير المستكن في الجار
والمجرور الواقع حالا أولا وفي إرشاد العقل السليم أنها أحوال
من الضمير المجرور في الحال السابقة، والأول أبعد عن القيل
والقال، وجوز أبو البقاء كون ذلك بدلا من تلك الحال وهو كما
ترى.
واستظهر أبو حيان كون المراد مما ذكر حقيقته ويكون ذلك في مبدأ
الأمر ثم يرد الله تعالى إليهم أبصارهم ونطقهم وسمعهم فيرون
النار ويسمعون زفيرها وينطقون بما حكى الله تعالى عنهم في غير
موضع.
نعم قد يختم على أفواههم في البين، وقيل هو على المجاز على
معنى أنهم لفرط الحيرة والذهول يشبهون أصحاب هذه الصفات أو على
معنى أنهم لا يرون شيئا يسرهم ولا يسمعون كذلك ولا ينطقون بحجة
كما أنهم كانوا في الدنيا لا يستبصرون ولا ينطقون بالحق ولا
يسمعونه وأخرج ذلك ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس وروي
أيضا عن الحسن فنزل ما يقولونه ويسمعونه ويبصرونه منزلة العدم
لعدم الانتفاع به، ولا يعكر عليه أن بعض الآيات يدل على سلب
بعض القوى عنهم لاختلاف الأوقات، وقيل عميا عن النظر إلى ما
جعل الله تعالى لأوليائه بكما عن الكلام معه سبحانه صما عما
مدح الله تعالى به أولياءه، وقيل يحصل لهم ذلك حقيقة بعد قوله
تعالى لهم اخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ [المؤمنون: 108]
وعلى هذا تكون الأحوال مقدرة كقوله تعالى مَأْواهُمْ أي
مستقرهم جَهَنَّمُ على تقدير جعله حالا ويحتمل أن يكون
استئنافا، وقوله سبحانه كُلَّما خَبَتْ زِدْناهُمْ سَعِيراً
يحتمل أيضا الاستئناف ويحتمل أن يكون حالا من جهنم كما قال أبو
البقاء، وجعل العامل في الحال معنى المأوى، وقال الطبرسي: هو
حال
(8/166)
منها لأنها توضع (1) متلظ ومتسعر ولولا ذلك
ما جعل حالا منها.
وجوز جعله حالا مما جعلت الجملة الأولى منه لكن بعد اعتبارها
في النظم والرابط الضمير المنصوب في زِدْناهُمْ وهو كما ترى
والاستئناف أقل مؤنة، والخبو وكذا الخبو بضمتين وتشديد وهما
مصدرا خبت النار سكون اللهب قال في البحر: يقال خبت النار تخبو
إذا سكن لهبها وخمدت إذا سكن جمرها وضعف وهمدت إذا طفئت جملة،
وقال الراغب: خبت النار سكن لهبها وصار عليها خباء من رماد أي
غشاء، وفي القاموس تفسير خبت بسكنت وطفئت وتفسير طفئت بذهب
لهبها وفيه مخالفة لما في البحر والأكثرون على ما فيه، ومن
الغريب ما أخرجه ابن الأنباري عن أبي صالح من تفسير خَبَتْ في
الآية بحميت وهو خلاف المشهور والمأثور، والسعير اللهب،
والمعنى كلما سكن لهبها بأن أكلت جلودهم ولحومهم ولم يبق ما
تتعلق به النار وتحرقه زدناهم لهبا وتوقدا بأن أعدناهم على ما
كانوا فاستعرت النار بهم وتوقدت، أخرج ابن جرير وابن المنذر
وغيرهما عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال في الآية إن
الكفرة وقود النار فإذا أحرقتهم فلم يبق شيء صارت جمرا تتوهج
فذلك خبوها فإذا بدلوا خلقا جديدا عاودتهم، ولعل ذلك على ما
قاله بعض الأجلة عقوبة لهم على إنكارهم الإعادة بعد الإفناء
بتكررها مرة بعد الأخرى ليروها عيانا حيث لم يروها برهانا كما
يفصح عنه ما بعد. واستشكل ما ذكر بأن قوله تعالى: كُلَّما
نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها
[النساء: 56] يدل على أن النار لا تتجاوز عن إنضاجهم إلى
إحراقهم وإفنائهم فيعارض ذلك، وأجاب بعضهم بأن تبديلهم جلودا
غيرها بإحراقها وإفنائها وخلق غيرها فكأنه قيل كلما نضجت
جلودهم أحرقناها وأفنيناها وخلقنا لهم غيرها، وبعض بأن المراد
كلما نضجت جلودهم كمال النضج بأن يبلغ شيها إلى حد لو بقيت
عليه لا يحس صاحبها بالعذاب وهو مرتبة الاحتراق بدلناهم إلخ
ويدل على ذلك قوله تعالى: لِيَذُوقُوا الْعَذابَ [النساء: 56]
، وقال الخفاجي: أجيب بأنه يجوز أن يحصل لجلودهم تارة النضج
وتارة الإفناء أو كل منهما في حق قوم على أنه لا سد لباب
المجاز بأن يجعل النضج عبارة عن مطلق تأثير النار إذ لا يحصل
في ابتداء الدخول غير الإحراق دون النضج اه. ولا يخفى ما في
قوله بأن يجعل النضج: عبارة عن مطلق تأثير النار من المساهلة،
وفي قوله:
إذ لا يحصل إلخ منع ظاهر، وذكر أنه أورد على الجواب الأول أن
كلمة كلما تنافيه وفيه بحث فتأمل، وربما يتوهم أن بين هذه
الآية وقوله تعالى: لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ [البقرة:
162، آل عمران: 88] تعارضا لأن الخبو يستلزم التخفيف وهو مدفوع
بأن الخبو سكون اللهب كما سمعت، واستلزامه تخفيف عذاب النار
ممنوع، على أنا لو سلمنا الاستلزام، فالعذاب الذي لا يخفف ليس
منحصرا بالعذاب بالنار والإيلام بحراراتها وحينئذ فيمكن أن
يعوض ما فات منه بسكون اللهب بنوع آخر من العذاب مما لا يعلمه
إلا الله تعالى. وذكر الإمام أن قوله سبحانه زِدْناهُمْ
سَعِيراً يقتضي ظاهره أن الحالة الثانية أزيد من الحالة الأولى
فتكون الحالة الأولى تخفيفا بالنسبة إلى الحالة الثانية، وأجاب
بأنه حصل في الحالة الأولى خوف حصول الثانية فكان العذاب
شديدا، ويحتمل أن يقال: لما عظم العذاب صار التفاوت الحاصل في
أثنائه غير مشعور به نعوذ بالله تعالى منه اه، وقد يقال: ليس
في الآية أكثر من ازدياد توقدهم ولعله لا يستلزم ازدياد
عذابهم، والمراد من الآية كلما أحرقوا أعيدوا إلا أنه عبر بما
عبر للمبالغة، ويشير إلى كون المراد ذلك قوله تعالى:
زِدْناهُمْ دون زدناها فتدبر ذلِكَ أي العذاب المفهوم من قوله
سبحانه كلما خبت زدناهم سعيرا أو إلى جميع ما ذكر من حشرهم على
وجوههم عميا وبكما وصما إلخ، والمفهوم مما ذكرنا مندرج فيه
__________
(1) قوله توضع متلظ كذا بخط مؤلفه ولعل لفظ موضع سقط من
العبارة كما هو ظاهر.
(8/167)
جَزاؤُهُمْ بِأَنَّهُمْ أي بسبب أنهم
كَفَرُوا بِآياتِنا القرآنية والآفاقية الدالة على صحة الإعادة
دلالة واضحة أو على صحة ما أرسلناك به مطلقا فيشمل ما ذكر،
وذلِكَ مبتدأ وجزاؤهم خبره والظرف متعلق به، وحوز أن يكون
جَزاؤُهُمْ مبتدأ ثانيا والظرف خبره والجملة خبر لذلك، وأن
يكون جَزاؤُهُمْ بدلا من ذلك أو بيانا والخبر هو الظرف، وقيل
ذلك خبر مبتدأ محذوف أي الأمر ذلك وما بعده مبتدأ وخبر، وليس
بشيء وَقالُوا منكرين أشد الإنكار أَإِذا كُنَّا عِظاماً
وَرُفاتاً هو في الأصل كما قال الراغب كالفتات ما تكسر وتفرق
من التبن والمراد هنا بالين متفرقين أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ
خَلْقاً جَدِيداً إما مصدر مؤكد من غير لفظه أي لمبعوثون بعثا
جديدا وإما حال أي مخلوقين مستأنفين.
أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ
وَالْأَرْضَ أي ألم يتفكروا ولم يعلموا أن الله تعالى الذي قدر
على خلق هذه الأجرام والأجسام الشديدة العظيمة التي بعض ما
تحويه البشر قادِرٌ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ من الأنس أي
ومن هو قادر على ذلك كيف لا يقدر على إعادتهم وهي أهون عليه جل
وعلا، وقال بعض المحققين: مثل هنا مثلها في- مثلك لا يبخل- أي
قادر على أن يخلقهم، والمراد بالخلق الإعادة كما عبر عنها أو
لا بذلك حيث قيل خَلْقاً جَدِيداً ولا يخلو عن بعد، وزعم بعضهم
أن المراد قادر على أن يخلق عبيدا آخرين يوحدونه تعالى، ويقرون
بكمال حكمته وقدرته ويتركون ذكر هذه الشبهات الفاسدة كقوله
تعالى: وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ [فاطر: 16] وقوله سبحانه:
وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ [التوبة: 39] وفيه أنه لا
يلائم السياق كما لا يخفى على ذوي الأذواق، ثم اعلم أن ظاهر
الآية أن الكفرة أنكروا إعادتهم يوم القيامة على معنى جمع
أجزائهم المتفرقة وعظامهم المتفتتة وتاليفها وإفاضة الحياة
عليها كما كانت في الدنيا فهو الذي عنوه بقولهم أإنا لمبعوثون
خلقا جديدا بعد قولهم أئذا كنا عظاما ورفاتا فرد عليهم بإثبات
ذلك بطريق برهاني، وعلى هذا تكون الآية أحد أدلة من يقول: إن
الحشر بإعادة أجزاء الأبدان التي تتفرق كأبدان ما عدا الأنبياء
عليهم السلام ومن لم يعمل خطيئة قط والمؤذنين احتسابا ونحوهم
ممن حرمت أجسادهم على الأرض كما جاء في الأخبار وجمعها بعد
تفرقها وعنوا بذلك الأجزاء الأصلية وهي الحاصلة في أول الفطرة
حال نفخ الروح وهي عندهم محفوظة من أن تصير جزءا لبدن آخر فضلا
عن أن تصير جزءا أصليا له، والذاهبون إلى هذا هم الأقل وحكاه
الآمدي بصيغة قيل لكن رجحه الفخر الرازي وذكر أن الأكثر على أن
الله سبحانه يعدم الذوات بالكلية ثم يعيدها وقال: إنه الصحيح،
وكذا قال البدر الزركشي، وذكر اللقاني أنه قول أهل السنة
والمعتزلة القائلين بصحة الفناء والعدم على الأجسام بل بوقوعه
وإن اختلفوا في أن ذلك هل هو بحدوث ضد أو بانتفاء شرط أو بلا
ولا فذهب إلى الأخير القاضي من أهل السنة وأبو الهذيل من
المعتزلة قالا: إن الله تعالى يعدم ما يريد إعدامه على نحو
إيجاده إياه فيقول له عند أبي الهذيل افن فيفنى كما يقول له كن
فيكون. وذهب جمهور المعتزلة إلى الأول فقالوا: إن فناء الجوهر
بحدوث ضد له وهو الفناء ثم اختلفوا فذهب ابن الأخشيد إلى أن
الله تعالى يخلق الفناء في جهة من جهات الجواهر فتعدم الجواهر
بأسرها، وقال ابن شبيب: أنه تعالى يحدث في كل جوهر بعينه فناء
يقتضي عدم الجوهر في الزمان الثاني وذهب أبو علي وأبو هاشم
واتباعهما إلى أن الله تعالى يعدم الجوهر بخلق فناء لا في محل
معين منه ثم اختلفا فقال أبو علي وأتباعه: إن الله سبحانه يخلق
فناء واحدا لا في محل فيفني به الجواهر بأسرها وقال أبو هاشم
وأتباعه إنه تعالى يخلق لكل جوهر فناء لا في محل.
وذهب إمام الحرمين وأكثر أهل السنة وبشر المريسي والكعبي من
المعتزلة إلى الثاني ثم اختلفوا في تعيين الشرط فقال بشر: إنه
بقاء يخلقه سبحانه لا في محل فإن لم يخلقه عدم الجوهر. وقال
الأكثر والكعبي: إنه بقاء قائم بالجوهر يخلقه جل وعلا فيه حالا
فحالا فإذا لم يخلقه تعالى فيه انتفى الجوهر. وقال إمام
الحرمين: إنه الأعراض التي
(8/168)
يجب اتصاف الجسم بها فإن الله تعالى شأنه
يخلقها في الجسم حالا فحالا فمتى لم يخلقها سبحانه فيه انعدم.
وقال النظام: إنه خلق الله تعالى الجوهر حالا فحالا فإن
الجواهر عنده لا بقاء لها بل هي متجددة بتجدد الأعراض فإذا لم
يوالي عز مجده على الجوهر خلقه فني، وأنت تعلم أن أكثر هذه
الأقاويل من قبيل الأباطيل سيما القول بأن الفناء أمر محقق في
الخارج ضد للبقاء قائم بنفسه أو بالجوهر وكون البقاء موجودا لا
في محل، ولعل وجه البطلان غني عن البيان. واحتجوا لهذا المذهب
بقوله سبحانه كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ [القصص: 88]
وقوله تعالى: كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ [الرحمن: 26] وأجابوا
عن الآية بأن الكفار اكتفوا بأقل اللازم وأرادوا المبالغة في
الإنكار لأنه إذا لم يمكن بزعمهم الحشر بعد كونهم عظاما ورفاتا
فعدم إمكانه بعد فنائهم بالمرة أظهر وأظهر، وفيه أن هلاك كل
شيء خروجه عن صفاته المطلوبة منه والتفرق كذلك فيقال له هلاك
ويسمى أيضا فناء عرفا فالاحتجاج بالآيتين غير تام وإن ما قالوه
في الجواب عن الآية خلاف الظاهر. ولا يرد عليهم أن إعادة
المعدوم محال لما ذكره الفلاسفة من الأدلة لما ذكره المسلمون
في إبطالها، ومن الناس من قال: إن عجب الذنب لا يفنى وإن فني
ما عداه من أجزاء البدن
لحديث الصحيحين «ليس من الإنسان شيء إلا يبلى إلا عظما واحدا
وهو عجب الذنب منه خلق الخلق يوم القيامة» .
وفي رواية مسلم «كل ابن آدم يأكله التراب إلا عجب الذنب منه
خلق ومنه يركب»
وصحح المزني أنه يفنى أيضا وتأول الحديث بأن المراد منه أن كل
الإنسان يبلى بالتراب ويكون سبب فنائه إلا عجب الذنب فإن الله
تعالى يفنيه بلا تراب كما يميت ملك الموت بلا ملك موت، والخلق
منه والتركيب يمكن أن يكون بعد إعادته فليس ما ذكر نصا في
بقائه، ووافقه على ذلك ابن قتيبة، وأنت تعلم أن ظواهر الأخبار
تدل على عدم فنائه مطلقا، وتوقف بعض العلماء عن الجزم بأحد
المذهبين السابقين في كيفية الحشر.
وقال السعد: إنه الحق وهو اختيار إمام الحرمين وفي المواقف
وشرحه للسيد السند هل يعدم الله تعالى الأجزاء البدنية ثم
يعيدها أو يفرقها ويعيد فيها التأليف الحق أنه لم يثبت في ذلك
شيء فلا جزم فيه نفيا ولا إثباتا لعدم الدليل على شيء من
الطرفين.
وقال حجة الإسلام الغزالي في كتاب الاقتصاد: فإن قيل ما تقولون
هل تعدم الجواهر والأعراض ثم يعادان جميعا أو تعدم الأعراض دون
الجواهر ثم تعاد الأعراض فقط؟ قلنا كل ذلك ممكن، والحق أنه ليس
في الشرع دليل قاطع على تعيين أحد الأمرين الممكنين.
وقال بعضهم: الحق وقوع الأمرين جميعا إعادة ما انعدم بعينه
وإعادة ما تفرق بإعراضه وهو حسن، والكلام في هذا المقام طويل
جدا ولعل الله سبحانه وتعالى يمن علينا باستيفائه ولو في مواضع
متعددة.
وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلًا وهو ميقات إعادتهم وحشرهم أو موتهم
وهو على هذا اسم جنس لأن لكل أحد أجلا للموت يخصه، وقد جاء
إطلاق الأجل على الموت ووجهه أنه يطلق على مدة الحياة وعلى
آخرها والموت مجاور لذلك لا رَيْبَ فِيهِ أي لا ينبغي الريب
فيه والإنكار لمن تدبره أو النفي على ظاهره، والجملة معطوفة
على أَوَلَمْ يَرَوْا وهي وإن كانت إنشائية وفي عطف الإخبارية
عليها مقال مؤولة بخبرية والعطف على الصلة فيما مر متعذر للفصل
بخبر أن.
وكذا على ما بعد أن المصدرية لفظا ومعنى والمعنى كما في الكشف
وغيره قد علموا بدليل العقل أن الله تعالى قادر على إعادتهم
وقد جعل أجلا لها لا ريب فيه فلا بد منها أي إذا كان ذلك ممكنا
في نفسه واجب الوقوع بخبر الصادق لا يبقى للإنكار معنى فإن كان
الأجل بمعنى ميقات إعادتهم أي يوم القيامة لقولهم أَإِذا
كُنَّا عِظاماً
(8/169)
وَرُفاتاً
وهو الظاهر فهو واضح، وإن كان بمعنى الموت فوجهه أنهم قد علموا
إمكانه وأنهم ميتون لا محالة منسلخون من هذه الحياة وأنه لا بد
لهم من جزاء فلم يخلقوا عبثا ولم يتركوا سدى ففيم الإنكار،
وكأنه قد اكتفى بالموت عما بعده لأنه أول القيامة ومن مات فقد
قامت قيامته فالعطف في التقدير على قد علموا، ويعلم من هذا
التقرير أن الجامع بين الجملتين لصحة العطف في غاية القوة.
وزعم القطب أن الأولى العطف على ما بعد أن المصدرية أما أولا
فلأنه أقرب، وأما ثانيا فلأن جعل الأجل يدخل حينئذ تحت قدرته
تعالى وتحت علمهم بخلاف ما إذا عطف على قوله سبحانه «أو لم
يروا» إلخ ولا يخفى ما فيه على من استدارت كرة فكره على محور
التحقيق فَأَبَى الظَّالِمُونَ الذين كفروا بالآيات وقالوا ما
قالوا، ووضع الظاهر موضع ضميرهم تسجيلا عليهم بالظلم وتجاوز
الحد بالمرة إِلَّا كُفُوراً أي جحودا.
قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي
إِذاً لَأَمْسَكْتُمْ أي خزائن نعمه التي أفاضها على كافة
الموجودات فالرحمة مجاز عن النعم والخزائن استعارة تحقيقية أو
تخييلية، وأَنْتُمْ على ما ذهب إليه الحوفي. والزمخشري.
وأبو البقاء. وابن عطية وغيرهم فاعل لفعل محذوف يفسره المذكور
لأن لو يمتنع أن يليها الاسم والأصل لو تملكون تملكون فلما حذف
الفعل انفصل الضمير، ومثل ذلك قول حاتم وقد أسر فلطمته جارية
لو ذات سوار لطمتني، وقول الملتمس:
ولو غير أخوالي أرادوا نقيصتي ... جعلت لهم فوق العرانين ميسما
وفائدة الحذف والتفسير على ما قيل الإيجاز فإنه بعد قصد
التوكيد لو قيل تملكون تملكون لكان إطنابا وتكرارا بحسب
الظاهر، والمبالغة لتكرير الإسناد أو لتكرير الشرط فإنه يقتضي
تكرر ترتب الجزاء عليه والدلالة على الاختصاص وذلك بناء على أن
أَنْتُمْ بعينه ضمير تَمْلِكُونَ المؤخر فهو في المعنى فاعل
مقدم وتقديم الفاعل المعنوي يفيد الاختصاص إذا ناسب المقام
فيفيد الكلام حينئذ ترتب الإمساك، وسيأتي قريبا إن شاء الله
تعالى المراد منه على تفردهم بملك الخزائن ويعلم منه ترتبه على
ملكها بالاشتراك بالطريق الأولى، وإلى تخريج مثل هذا التركيب
على هذا الطرز ذهب البصريون بيد أن أبا الحسن بن الصائغ وغيره
صرحوا بأنهم يمنعون إيلاء لو فعلا مضمرا في الفصيح ويجيزونه في
الضرورة وفي نادر كلام، ولعل شعر المتلمس ومثل حاتم عندهم من
ذلك والحق خلاف ذلك.
وقال أبو الحسن علي بن فضالة المجاشعي: إن التقدير لو كنتم
أنتم تملكون، وظاهره أن أنتم عنده توكيد للضمير المحذوف مع
الفعل وليس بشيء، وقال أبو الحسن بن الصائغ: إن الأصل لو كنتم
تملكون فحذفت كان وحدها وانفصل الضمير فهو عنده اسم لكان
محذوفة وجملة تَمْلِكُونَ خبرها وعلى هذا تخرج نظائره.
قال أبو حيان بعد نقل ما تقدم: وهذا التخريج أحسن لأن حذف كان
بعد لو معهود في لسان العرب، ولا يخفى أن الكلام على ما سمعت
أولا أفيد وإن كان الظاهر أن الإمساك على هذا يكون على استمرار
الملك، والمراد من الإمساك البخل وذلك لأن البخل إمساك خاص
فلما حذف المفعول ووجه إلى نفس الفعل بمعنى لفعلتم الإمساك جعل
كناية عن أبلغ أنواعه وأقبحها، وإلى كونه كناية عما ذكر ذهب
صاحب الفرائد وغيره.
وجوز أن يكون مضمنا معنى البخل وتعقب بأنه ليس بشيء لفظا
ومعنى، وعلى ما ذكرنا يتخرج قولهم للبخيل ممسك خَشْيَةَ
الْإِنْفاقِ أي مخافة الفقر كما أخرجه ابن جرير وابن المنذر عن
ابن عباس وروي نحوه عن قتادة وإليه ذهب الراغب قال: يقال أنفق
فلان إذا افتقر، وأبو عبيدة قال: أنفق وأملق وأعدم وأصرم بمعنى
واحد، وقال بعضهم:
(8/170)
الإنفاق بمعناه المعروف وهو صرف المال، وفي
الكلام مقدر أي خشية عاقبة الإنفاق.
وجوز أن يكون مجازا عن لازمه وهو النفاد، ونصب خَشْيَةَ على
أنه مفعول له، وجعله مصدرا في موضع الحال كما جوزه أبو البقاء
خلاف الظاهر، وقد بلغت هذه الآية في الوصف بالشح الغاية القصوى
التي لا يبلغها الوهم حيث أفادت أنهم لو ملكوا خزائن رحمة الله
تعالى التي لا تتناهى وانفردوا بملكها من غير مزاحم أمسكوها من
غير مقتض إلا خشية الفقر، وإن شئت فوازن بقول الشاعر:
ولو أن دارك أنبتت لك أرضها ... إبرا يضيق بها فناء المنزل
وأتاك يوسف يستعيرك ابرة ... ليخيط قد قميصه لم تفعل
مع أن فيه من المبالغات ما يزيد على العشرة ترى التفاوت الذي
لا يحصر، وجعل غير واحد الخطاب فيها عاما فيقتضي أن يكون كل
واحد من الناس بخيلا كما هو ظاهر ما بعد مع أنه أثبت لبعضهم
الإيثار مع الحاجة.
وأجيب بأن ذلك بالنسبة إلى الجواد الحقيقي والفياض المطلق عز
مجده فإن الإنسان إما ممسك أو منفق والإنفاق لا يكون إلا لغرض
للعاقل كعوض مالي أو معنوي كثناء جميل أو خدمة واستمتاع كما في
النفقة على الأهل أو نحو ذلك وما كان لعوض كان مبادلة لا
مبادلة أو هو بالنظر إلى الأغلب وتنزيل غيره منزلة العدم كما
قيل:
عدنا في زماننا ... عن حديث المكارم
من كفى الناس شره ... فهو في جود حاتم
وهذا الجواب عندي أولى من الأول وعلى ذلك يحمل قوله تعالى:
وَكانَ الْإِنْسانُ قَتُوراً مبالغا في البخل، وجاء القتر
بمعنى تقليل النفقة وهو بإزاء الإسراف وكلاهما مذموم ويقال
قترت الشيء واقترته وقترته أي قللته وفلان مقتر فقير، وأصل ذلك
كما قال الراغب من القتار والقتر وهو الدخان الساطع من الشواء
والعود ونحوهما فكأن المقتر والمقتر هو الذي يتناول من الشيء
قتاره، وقيل الخطاب لأهل مكة الذين اقترحوا ما اقترحوا من
الينبوع والأنهار وغيرها، والمراد من الإنسان كما في القول
الأول الجنس ولا شك في أن جنس الإنسان مجبول على البخل لأن
مبنى أمره الحاجة، وقيل الإنسان وعليه الإمام، ووجه ارتباط
الآية بما قبلها على تخصيص الخطاب أن أهل مكة طلبوا ما طلبوا
من الينبوع والأنهار لتكثر أقواتهم وتتسع عليهم فبيّن سبحانة
أنهم لو ملكوا خزائن رحمة الله تعالى لبخلوا وشحوا ولما قدموا
على إيصال النفع لأحد، والمراد التشنيع عليهم بأنهم في غاية
الشح ويقترحون ما يقترحون أو المراد أن صفتهم هذه فلا فائدة في
إسعافهم بما طلبوا كذا قال العسكري وغيره فالآية عندهم مرتبطة
بقوله تعالى وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا
مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً [الإسراء: 90] ويكفي على العموم
اندراج أهل مكة فيه.
وقال أبو حيان: المناسب في وجه الارتباط أن يقال: إنه عليه
الصلاة والسلام قد منحه الله تعالى ما لم يمنحه لأحد من النبوة
والرسالة إلى الإنس والجن فهو صلّى الله عليه وسلّم أحرص الناس
على إيصال الخير إليهم وإنقاذهم من الضلال يثابر على ذلك
ويخاطر بنفسه في دعائهم إلى الله تعالى ويعرض ذلك على القبائل
وأحياء العرب سمحا بذلك لا يطلب منهم أجرا وهؤلاء أقرباؤه لا
يكاد يجيب منهم أحد إلا الواحد بعد الواحد قد لجوا في عناده
وبغضائه فلا يصل منهم إلا الأذى فنبه تعالى شأنه بهذه الآية
على سماحته عليه الصلاة والسلام وبذل ما آتاه الله تعالى وعلى
امتناع هؤلاء أن يصل منهم شيء من الخير إليه صلّى الله عليه
وسلّم فهي قد جاءت مبينة للباين ما بينه عليه الصلاة والسلام
وبينهم من حرصه على نفعهم
(8/171)
وعدم إيصال شيء من الخير منهم إليه اه.
فالارتباط بين الآية وبين مجموع الآيات السابقة من حيث إنها
تشعر بحرصه صلّى الله عليه وسلّم على هدايتهم ولعمري إن هذا
مما يأباه الذوق السليم والذهن المستقيم.
ويحتمل أن يكون وجه الارتباط اشتمالها على ذمهم بالشح المفرط
كما أن ما قبلها مشتمل على ذمهم بالكفر كذلك وهما صفتان سيئتان
ضرر أحداهما قاصر وضرر الأخرى متعد فتأمل فلمسلك الذهن اتساع
والله تعالى أعلم بمراده، ولما حكى سبحانه عن قريش ما حكى من
العنت والعناد مع رسوله صلّى الله عليه وسلّم سلاه تعالى جده
بما جرى لموسى عليه السلام مع فرعون وما صنع سبحانه بفرعون
وقومه فقال عز قائلا:
وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى تِسْعَ آياتٍ بَيِّناتٍ ظاهر السياق
والنظائر يقتضيان كون المعنى تسع أدلة وواضحات الدلالة على
نبوة موسى عليه السلام وصحة ما جاء به من عند الله تعالى ولا
ينافيه أنه قد أوتي من ذلك ما هو أكثر مما ذكر لأن تخصيص العدد
بالذكر لا يدل على نفي الزائد كما حقق في الأصول وإلى هذا ذهب
غير واحد إلا أنه اختلف في تعيين هذه التسع ففي بعض التفاسير
هي كما في التوراة العصا ثم الدم ثم الضفادع ثم القمل ثم موت
البهائم ثم برد كنار أنزل مع نار مضطرمة أهلكت ما مرت به من
نبات وحيوان ثم جراد ثم ظلمة ثم موت عم كبار الآدميين وجميع
الحيوانات. وأخرج عبد الرزاق وسعيد بن منصور وابن جرير وابن
المنذر وابن أبي حاتم من طرق عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما
أنها العصا واليد والطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم
والسنين ونقص من الثمرات، وروي ذلك عن مجاهد والشعبي وقتادة
وعكرمة.
وتعقب هذا بأن السنين والنقص من الثمرات آية واحدة كما روي عن
الحسن.
ورد بأنه ليس بالحسن إذ ظاهر قوله تعالى: وَلَقَدْ أَخَذْنا
آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَراتِ
[الأعراف:
130] يقتضي المغايرة فيحمل الأول على الجدب في بواديهم والثاني
على النقصان في مزارعهم أو على نحو ذلك وقد تقدم الكلام فيه
فلا ضير في عدهما آيتين. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم في
رواية أخرى عن الحبر أنها يده عليه السلام ولسانه وعصاه والبحر
والطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم وفي الكشاف عنه رضي
الله تعالى عنه أنها العصا واليد والجراد والقمل والضفادع
والدم والحجر والبحر والطور الذي نتقه الله تعالى على بني
إسرائيل. وتعقبه في الكشف بقوله فيه: إن الحجر والطور ليسا من
الآيات المذهوب بها إلى فرعون وقال تعالى: فِي تِسْعِ آياتٍ
إِلى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ [النمل: 12] وذكر سبحانه في هذه
السورة لَقَدْ عَلِمْتَ ما أَنْزَلَ هؤُلاءِ والإشارة إلى
الآيات ثم قال: والجواب جاز أن يكون التسع البينات بعضا منها
غير البعض من تلك التسع وليس في هذه الآية أن الكل لفرعون
وقومه وأما الإشارة فإلى البعض بالضرورة لأن الكل إنما حصلت
على التدريج وفلق البحر لم يكن في معرض التحدي بل عند ما حق
الهلاك اه، ولا يخلو عن ارتكاب خلاف الظاهر، وما روي عن ابن
عباس أولا لائح الوجه ما فيه أشكال ونسبه في الكشاف إلى الحسن
وهو خلاف ما وجدناه في الكتب التي يعول عليها في أمثال ذلك،
وروي أن عمر بن عبد العزيز عليه الرحمة سأل محمد بن كعب عن هذه
الآيات فعد ما عد وذكر فيه الطمس فقال عمر: كيف يكون الفقيه
إلا هكذا ثم قال: يا غلام أخرج ذلك الجراب فأخرجه فنفضه فإذا
بيض مكسور بنصفين وجوز مكسور وفوم وحمص وعدس كلها حجارة هذا
وظاهر بعض الأخبار يقتضي خلاف ذلك.
فقد أخرج أحمد والبيهقي والطبراني والنسائي وابن ماجة والترمذي
وقال حسن صحيح والحاكم وقال صحيح
(8/172)
لا نعرف له علة وخلق آخرون عن صفوان بن
عسال «أن يهوديين قال. أحدهما لصاحبه: انطلق بنا إلى هذا النبي
نسأله فأتياه صلّى الله عليه وسلّم فسألاه عن قول الله تعالى:
وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى تِسْعَ آياتٍ بَيِّناتٍ فقال عليه
الصلاة والسلام: لا تشركوا بالله شيئا ولا تزنوا ولا تقتلوا
النفس التي حرم الله تعالى إلا بالحق ولا تسرقوا ولا تسحروا
ولا تأكلوا الربا ولا تمشوا ببريء إلى سلطان ليقتله ولا تقذفوا
محصنة ولا تفروا من الزحف» .
وفي رواية «أو قال لا تفروا من الزحف- شك شعبة- وعليكم يا يهود
خاصة أن لا تعتدوا في السبت فقبلا يديه ورجليه وقالا نشهد إنك
نبي» الخبر
، ومن هنا قيل المراد بالآيات الأحكام، وقال الشهاب الخفاجي:
إنه التفسير الصحيح، ووجه إطلاقها عليها بأنها علامات على
السعادة لمن امتثلها والشقاوة لغيره، وقيل أطلقت عليها لأنها
نزلت في ضمن آيات بمعنى عبارات دالة على المعاني نحو آيات
الكتاب فيكون من قبيل إطلاق الدال وإرادة المدلول، وقيل لا ضير
أن يراد على ذلك بالآيات العبارات الإلهية الدالة على تلك
الأحكام من حيث إنها دالة عليها، وفيه وكذا في سابقة القول
بإطلاق الآيات على ما أنزل على غير نبينا صلّى الله عليه وسلّم
من العبارات الإلهية كإطلاقها على ما أنزل عليه عليه الصلاة
والسلام منها. واستشكل بأن الآيات في الرواية التي لا شك فيها
عشرة وما في الآية المسئول عنها تسع، وأجيب بأن الأخير فيها
أعني لا تعتدوا في السبت ليس من الآيات لأن المراد بها أحكام
عامة ثابتة في الشرائع كلها وهو ليس كذلك ولذا غير الأسلوب فيه
فهو تذييل للكلام وتتميم له بالزيادة على ما سألوه صلّى الله
عليه وسلّم، وفي الكشف أنه من الأسلوب الحكيم لأنه عليه الصلاة
والسلام لما ذكر التسع العامة في كل شريعة ذكر خاصا بهم ليدل
على إحاطة علمه صلّى الله عليه وسلّم بالكل وهو حسن وليس
الأسلوب الحكيم فيه بالمعنى المشهور فإطلاق القول بأنه ليس من
الأسلوب الحكيم كما فعل الخفاجي ليس في محله.
وقال بعض الأجلة: إن هذه الأشياء لا تعلق لها بفرعون وإنما
أوتيها بنو إسرائيل ولعل جوابه صلّى الله عليه وسلّم بما ذكر
لما أنه المهم للسائل وقبوله لما أنه كان في التوراة مسطورا
وقد علم أنه ما علمه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلا من
جهة الوحي اه.
وتعقب بأنا لا نسلم أنه يجب في الآيات المذكورة في الآية أن
تكون مما له تعلق بفرعون وما بعد ليس نصا في ذلك نعم هو
كالظاهر فيه لكن كثيرا ما تترك الظواهر للأخبار الصحيحة سلمنا
أنه يجب أن يكون لها تعلق لكن لا نسلم أن تلك الأحكام لا تعلق
لها لجواز أن يكون كلها أو بعضها مما خوطب به فرعون وبنو
إسرائيل جميعا لا بد لنفي ذلك من دليل، وكأن حاصل ما أراد من
قوله لعل جوابه صلّى الله عليه وسلّم إلخ أن ذلك الجواب من
الأسلوب الحكيم بأن يكون موسى عليه السلام قد أوتي تسع آيات
بينات بمعنى المعجزات الواضحات وهي المرادة في الآية وأوتي
تسعا أخرى بمعنى الأحكام وهي غير مرادة إلا أن الجواب وقع عنها
لما ذكر وهو كما ترى فتأمل.
فمؤيدات كل من التفسيرين أعني تفسير الآيات بالأدلة والمعجزات
وتفسيرها بالأحكام متعارضة وأقوى ما يؤيد الثاني الخبر
فَسْئَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ وقرأ جمع «فسل» والظاهر أنه خطاب
لنبينا صلّى الله عليه وسلّم والسؤال بمعناه المشهور إلا أن
الجمهور على أنه خطاب لموسى عليه السلام، والسؤال إما بمعنى
الطلب أو بمعناه المشهور لقراءة رسول الله صلّى الله عليه
وسلّم وأخرجها أحمد في الزهد وابن المنذر وابن جرير وغيرهم عن
ابن عباس فسأل على صيغة الماضي بغير همز كقال وهي لغة قريش
فإنهم يبدلون الهمزة المتحركة وذلك لأن هذه القراءة دلت على أن
السائل موسى عليه السلام وأنه مستعقب عن الإيتاء فلا يجوز أن
يكون فاسأل خطابا للنبي صلّى الله عليه وسلّم لئلا تتخالف
القراءتان ولا بد إذ ذاك من إضمار لئلا يختلفا خبرا وطلبا أي
فقلنا له اطلبهم من فرعون وقل له أرسل معي بني إسرائيل أو اطلب
منهم أن يعاضدوك وتكون قلوبهم وأيديهم
(8/173)
معك أو سلهم عن إيمانهم وعن حال دينهم
واستفهم منهم هل هم ثابتون عليه أو اتبعوا فرعون ويتعلق بالقول
بالمضمر قوله تعالى: إِذْ جاءَهُمْ وهو متعلق بسأل على قراءته
صلّى الله عليه وسلّم والدليل على ذلك المضمر في اللفظ قوله
تعالى: فَقالَ لَهُ فِرْعَوْنُ لأنه لو كان فاسأل خطابا لنبينا
عليه الصلاة والسلام لانفك النظم وأيضا لا يظهر استعقابه ولا
تسببه عن إيتاء موسى عليه السلام نعم جعل الذاهبون إلى الأول
فاسأل اعتراضا من باب زيد فاعلم فقيه والفاء تكون للاعتراض
كالواو وعلى ذلك قوله:
واعلم فعلم المرء ينفعه ... أن سوف يأتي كل ما قدرا
وهذا الوجه مستغن عن الإضمار وإِذْ جاءَهُمْ متعلق عليه بآتينا
ظرفا ولا يصح تعلقه بسل إذ ليس سؤاله صلّى الله عليه وسلّم في
وقت مجيء موسى عليه السلام، قال في الكشف: والمعنى فاسأل يا
محمد مؤمني أهل الكتاب عن ذلك إما لأن تظاهر الأدلة أقوى، وإما
من باب التهييج والإلهاب، وإما للدلالة على أنه أمر محقق عندهم
ثابت في كتابهم وليس المقصود حقيقة السؤال بل كونهم أعني
المسئولين من أهل علمه ولهذا يؤمر مثلك بسؤالهم وهذا هو الوجه
الذي يحمل به موقع الاعتراض، وجوز أن يكون منصوبا باذكر مضمرا
على أنه مفعول به وجاز على هذا أن لا يجعل فَسْئَلْ اعتراضا
ويجعل اذكر بدلا عن اسأل لما سمعت من أن السؤال ليس على حقيقته
وكذا جوز أن يكون منصوبا كذلك بيخبروك مضمرا وقع جواب الأمر أي
سلهم يخبروك إذ جاءهم.
ولا يجوز على هذا الاعتراض، نعم يجوز الاعتراض على هذا بأن
أخبر يتعدى بالباء أو عن لا بنفسه فيجب أن يقدر بدل الإخبار
الذكر ونحوه مما يتعدى بنفسه وإما جعله ظرفا له غير صحيح إذ
الإخبار غير واقع في وقت المجيء، واعترض أيضا بأن السؤال عن
الآيات والجواب بالإخبار عن وقت المجيء أو ذكره لا يلائمه.
ويمكن الجواب بأن المراد يخبروك بذلك الواقع وقت مجيئه لهم أو
يذكروا ذلك لك وهو كما ترى، وبعضهم جوز تعلقه بيخبروك على أن
إذ للتعليل، وعلى هذا يجوز تعلقه باذكر، والمعنى على سائر
احتمالات كون الخطاب لنبينا عليه الصلاة والسلام إذ جاء آباءهم
إذ بنو إسرائيل حينئذ هم الموجودون في زمانه صلّى الله عليه
وسلّم وموسى عليه السلام ما جاءهم فالكلام إما على حذف مضاف أو
على ارتكاب نوع من الاستخدام، والاحتمالات على تقدير جعل
الخطاب لمن يسمع هي الاحتمالات التي سمعت على تقدير جعله لسيد
السامعين عليه الصلاة والسلام.
والفاء في فَقالَ على سائر الاحتمالات والأوجه فصيحة والمعنى
إذ جاءهم فذهب إلى فرعون وادعى النبوة وأظهر المعجزة وكيت وكيت
فقال: إِنِّي لَأَظُنُّكَ يا مُوسى مَسْحُوراً سحرت فاختل عقلك
ولذلك اختل كلامك وادعيت ما ادعيت وهو كقوله: إِنَّ
رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ
[الشعراء: 27] .
وقال الفراء والطبري: مسحورا بمعنى ساحرا على النسب أو حقيقة
وهو يناسب قلب العصا ونحوه على تفسير الآيات بالمعجزات قالَ
موسى عليه السلام ردا لقوله المذكور لَقَدْ عَلِمْتَ يا فرعون
ما أَنْزَلَ هؤُلاءِ أي الآيات التسع أو بعضها والإشارة إلى
ذلك بما ذكر على حد قوله على إحدى الروايتين والعيش بعد أولئك
الأيام. وقد مر إِلَّا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي
خالقهما ومدبرهما، وحاصل الرد أن علمك بأن هاتيك الآيات من
الله تعالى إذ لا يقدر عليها سواه تعالى يقتضي أني لست بمسحور
ولا ساحر وأن كلامي غير مختل لكن حب الرياسة حملك على العناد
في التعرض لعنوان الربوبية إيماء إلى ان إنزالها من آثار ذلك،
وفي البحر ما أحسن إسناد إنزالها إلى رب السموات والأرض إذ هو
عليه السلام لما سأله فرعون في أول محاورته فقال له: وما رب
العالمين؟ قال: رب السموات والأرض تنبيها على نقصه وأنه لا
تصرف له في الوجود فدعواه الربوبية دعوى مستحيل فبكته وأعلمه
أنه يعلم آيات الله تعالى
(8/174)
ومن أنزلها ولكنه مكابر معاند كقوله تعالى:
وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً
وَعُلُوًّا [النمل: 14] وخاطبه بذلك على سبيل التوبيخ أي أنت
بحال من يعلم هذه أو هي من الوضوح بحيث تعلمها وليس خطابه على
جهة إخباره عن علمه أو العلم بعلمه ليكون إفادة لازم الخبر
كقولك لمن حفظ التوراة حفظت التوراة.
وقرأ علي كرم الله تعالى وجه وزيد بن علي رضي الله تعالى عنهما
والكسائي «لقد علمت» بضم التاء
فيكون موسى عليه السلام قد أخبر عن نفسه أنه ليس بمسحور كما
زعم عدو الله تعالى وعدوه بل هو يعلم أن ما أنزل تلك الآيات
إلا خالق السموات والأرض ومدبرهما، وروي عن الأمير كرم الله
تعالى وجهه أنه قال: والله ما علم عدو الله تعالى ولكن موسى
عليه السلام هو الذي علم، وتعقبه أبو حيان بأنه لا يصح لأنه
رواه كلثوم المرادي وهو مجهول وكيف يقول ذلك باب مدينة العلم
كرم الله تعالى وجهه، ووجه نسبة العلم إليه ظاهر.
وقد ذكر الجلال السيوطي في الدر المنثور أن سعيد بن منصور وابن
المنذر وابن أبي حاتم أخرجوا عن علي كرم الله تعالى وجهه أنه
كان يقرأ بالضم ويقول ذلك
ولم يتعقبه بشيء، ولعل هذا المجهول الذي ذكره أبو حيان في
أسانيدهم والله تعالى أعلم.
وجملة ما أَنْزَلَ إلخ معلق عنها سادة (1) مسد عَلِمْتَ وقوله
تعالى: بَصائِرَ حال من هؤلاء والعامل فيه أنزل المذكور عند
الحوفي وأبي البقاء وابن عطية وما قبل إلا يعمل فيما بعدها إذا
كان مستثنى منه أو تابعا له وقد نص الأخفش والكسائي على جواز
ما ضرب هندا إلا زيد ضاحكة ومذهب الجمهور عدم الجواز فإن ورد
ما ظاهره ذلك أول عندهم على إضمار فعل يدل عليه ما قبل
والتقدير هنا أنزلها بصائر أي بينات مكشوفات تبصرك صدقي على
أنه جمع بصيرة بمعنى مبصرة أي بينة وتطلق البصائر على الحجج
بجعلها كأنها بصائر العقول أي ما أنزلها إلا حججا وأدلة على
صدقي وتكون بمعنى العبرة كما ذكره الراغب، هذا ولا يخفى عليك
أنه إذا كان المراد من الآيات التسع ما اقتضاه خبر صفوان
السابق يجوز أن تكون هؤُلاءِ إشارة إلى ما أظهره عليه السلام
من المعجزات ويعتبر إظهار ذلك فيما يفصح عنه الفاء الفصيحة وإن
أبيت إلا جعلها إشارة إلى الآيات المذكورة بذلك المعنى لتحقق
جميعها من أول الأمر وثبوتها وقت المحاورة وشدة ملاءمة الإنزال
لها احتجت إلى ارتكاب نوع تكلف فيما لا يخفى عليك وَإِنِّي
لَأَظُنُّكَ يا فِرْعَوْنُ مَثْبُوراً أي هالكا كما روي عن
الحسن ومجاهد على أنه من ثبر اللازم بمعنى هلك، ومفعول فيه
للنسب بناء على أنه يأتي له من اللازم والمتعدي، وفسره بعضهم
بمهلكا وهو ظاهر، وعن الفراء أنه قال: أي مصروفا عن الخير
مطبوعا على الشر من قولهم: ما ثبرك عن هذا أي ما منعك وإليه
يرجع ما أخرجه الطستي عن ابن عباس من تفسيره بملعونا محبوسا عن
الخير.
وأخرج الشيرازي في الألقاب وابن مردويه من طريق ميمون بن مهران
عنه رضي الله تعالى عنه تفسيره بناقص العقل، وفي معناه تفسير
الضحاك بمسحور قال: رد موسى عليه السلام بمثل ما قال له فرعون
مع اختلاف اللفظ، وأخرج ابن أبي الدنيا في ذم الغضب عن أنس بن
مالك أنه سئل عن مَثْبُوراً في الآية فقال: مخالفا ثم قال:
الأنبياء عليهم السلام (2) من أن يلعنوا أو يسبوا، وأنت تعلم
أن هذا معنى مجازي له وكذا ناقص العقل ولا داعي إلى ارتكابه،
وما
__________
(1) قوله مسد علمت كذا بخط مؤلفه وسقط منه مضاف والأصل مسد
مفعولي علمت.
(2) قوله الأنبياء عليهم السلام من أن يلعنوا إلخ كذا بخطه
ولعل فيه سقطا من قلمه والأصل الأنبياء عليهم السلام مبرؤون من
أن يلعنوا إلخ أو نحو ذلك وفي الدر المنثور الأنبياء أكرم من
أن تلعن أو تسب. [.....]
(8/175)
ذكره الإمام مالك فيه ما فيه، نعم قيل: إن
تفسيره بهالكا ونحوه مما فيه خشونة ينافي قوله تعالى خطابا
لموسى وهارون عليهما السلام: فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّناً
[طه: 44] وأشار أبو حيان إلى جوابه بأن موسى عليه السلام كان
أولا يتوقع من فرعون المكروه كما قال: إِنَّنا نَخافُ أَنْ
يَفْرُطَ عَلَيْنا أَوْ أَنْ يَطْغى [طه: 45] فأمر أن يقول له
قولا لينا فلما قال سبحانه له: لا تَخَفْ [طه: 21، 68 وغيرها]
وثق بحماية الله تعالى فصال عليه صولة المحمي وقابله من الكلام
بما لم يكن ليقابله به قبل ذلك، وفيه كلام ستطلع عليه إن شاء
الله تعالى في محله، وبالجملة التفسير الأول أظهر التفاسير ولا
ضير فيه لا سيما مع تعبير موسى عليه السلام بالظن ثم إنه عليه
السلام قد قارع ظنه بظنه وشتان ما بين الظنين فإن ظن فرعون إفك
مبين وظن موسى عليه السلام يحوم حول اليقين.
وقرأ أبي، وابن كعب «وإن أخالك يا فرعون لمثبورا» على إن
المخففة واللام الفارقة، وأخال بمعنى أظن بكسر الهمزة في
الفصيح وقد تفتح في لغة كما في القاموس.
فَأَرادَ فرعون أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ أي موسى وقومه، وأصل
الاستفزاز الإزعاج وكنى به عن إخراجهم مِنَ الْأَرْضِ أي أرض
مصر التي هم فيها أو من جميع الأرض ويلزم إخراجهم من ذلك قتلهم
واستئصالهم وهو المراد فَأَغْرَقْناهُ وَمَنْ مَعَهُ جَمِيعاً
أي فعكسنا عليه مكره حيث أراد ذلك لهم دونه فكان له دونهم
فاستفز بالإغراق هو وقومه وهذا التعكيس أظهر من الشمس على
الثاني وظاهر على الأول لأنه أراد إخراجهم من مصر فأخرج هو أشد
الإخراج بالإهلاك والزيادة لا تضر في التعكيس بل تؤيده.
وَقُلْنا على لسان موسى عليه السلام مِنْ بَعْدِهِ أي من بعد
فرعون على معنى من بعد إغراقه أو الضمير للإغراق المفهوم من
الفعل السابق أي من بعد إغراقه وإغراق من معه لِبَنِي
إِسْرائِيلَ الذين أراد فرعون استفزازهم اسْكُنُوا الْأَرْضَ
التي أراد أن يستفزكم منها وهي أرض مصر، وهذا ظاهر أن ثبت أنهم
دخلوها بعد أن خرجوا منها واتبعهم فرعون وجنوده وأغرقوا وإن لم
يثبت فالمراد من بني إسرائيل ذرية أولئك الذين أراد فرعون
استفزازهم، واختار غير واحد أن المراد من الأرض الأرض المقدسة
وهي أرض الشام فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ أي الكرة أو
الحياة أو الساعة أو الدار الآخرة، والمراد على جميع ذلك قيام
الساعة جِئْنا بِكُمْ لَفِيفاً أي مختلطين أنتم وهم ثم نحكم
بينكم ونميز سعداء كم من أشقيائكم وأصل اللفيف الجماعة من
قبائل شتى فهو اسم جمع كالجميع ولا واحد له أو هو مصدر شامل
للقليل والكثير لأنه يقال لف لفا ولفيفا، والمراد منه ما أشير
إليه، وفسره ابن عباس بجميعا وكيفما كان فهو حال من الضمير
المجرور في بكم، ونص بعضهم على أن في بِكُمْ تغليب المخاطبين
على الغائبين، والمراد بهم وبكم وما ألطفه مع لَفِيفاً
وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْناهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ عود إلى شرح
حال القرآن الكريم فهو مرتبط بقوله تعالى لَئِنِ اجْتَمَعَتِ
الْإِنْسُ وَالْجِنُّ [الإسراء: 88] الآية وهكذا طريقة العرب
في كلامها تأخذ في شيء وتستطرد منه إلى آخر ثم إلى آخر ثم تعود
إلى ما ذكرته أولا والحديث شجون فضمير الغائب للقرآن وأبعد من
ذهب إلى أنه لموسى عليه السلام، والآية مرتبطة بما عندها،
والإنزال فيها كما في قوله تعالى: وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ
[الحديد:
25] وقد حمله بعضهم على هذا المعنى فيما قبل أو للآيات التسع
وذكر على المعنى أو للوعد المذكور آنفا، والظاهر أن الباء في
الموضعين للملابسة والجار والمجرور في موضع الحال من ضمير
القرآن واحتمال أن يكون أولا حالا من ضميره تعالى خلاف الظاهر،
والمراد بالحق الأول على ما قيل الحكمة الإلهية المقتضية
لإنزاله وبالثاني ما اشتمل عليه من العقائد والأحكام ونحوها أي
ما أنزلناه إلا ملتبسا بالحق المقتضي لإنزاله وما نزل إلا
ملتبسا بالحق الذي اشتمل عليه، وقيل الباء الأولى للسببية
متعلقة بالفعل بعد والثانية للملابسة، وقيل هما للسببية
فيتعلقان بالفعل وقال أبو سليمان
(8/176)
الدمشقي: الحق الأول التوحيد والثاني الوعد
والوعيد والأمر والنهي، وقيل الحق في الموضعين الأمر المحفوظ
الثابت، والمعنى ما أنزلناه من السماء إلا محفوظا بالرصد من
الملائكة وما نزل على الرسول إلا محفوظا بهم من تخليط
الشياطين، وحاصله أنه محفوظ حال الإنزال وحال النزول وما بعده
لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.
وأبعد من جوز كون المراد بالحق الثاني النبي صلّى الله عليه
وسلّم ومعنى نزوله به نزوله عليه وحلوله عنده من قولهم نزل
بفلان ضيف، وعلى سائر الأوجه لا تخفى فائدة ذكر الجملة الثانية
بعد الأولى، وما يتوهم من التكرار مندفع ونحا الطبري إلى أن
الجملة الثانية توكيد للأولى من حيث المعنى لأنه يقال أنزلته
فنزل وأنزلته فلم ينزل إذا عرض له مانع من النزول فجاءت الجملة
الثانية مزيلة لهذا الاحتمال وتحاشى بعضهم من إطلاق التوكيد
لما بين الإنزال والنزول من المغايرة وادعى أنه لو كانت
الثانية توكيدا للأولى لما جاز العطف لكمال الاتصال وَما
أَرْسَلْناكَ إِلَّا مُبَشِّراً للمطيع بالثواب وَنَذِيراً
للعاصي من العقاب فلا عليك إلا التبشير والإنذار لا هداية
الكفرة المقترحين وإكراههم على الدين ولعل الجملة لتحقيق حقية
بعثته صلّى الله عليه وسلّم إثر تحقيق حقيقة القرآن ونصب ما
بعد إلا على الحال.
وَقُرْآناً نصب بفعل مضمر يفسره قوله تعالى فَرَقْناهُ فهو من
باب الاشتغال ورجع النصب على الرفع العطف على الجملة الفعلية
ولو رفع على الابتداء في غير القرآن جاز إلا أنه لا بد له من
ملاحظة مسوغ عند من لا يكتفي في صحة الابتداء بالنكرة بحصول
الفائدة وعلى هذا أخرجه الحوفي.
وقال ابن عطية: هو مذهب سيبويه، وقال الفراء: هو منصوب
بأرسلناك أي ما أَرْسَلْناكَ إِلَّا مُبَشِّراً وَنَذِيراً
وقرآنا كما تقول رحمة لأن القرآن رحمة، ولا يخفى أنه إعراب
متكلف لا يكاد يقوله فاضل، ومما يقضي منه العجب ما جوزه ابن
عطية من نصبه بالعطف على الكاف في أَرْسَلْناكَ.
وقال أبو البقاء: وهو دون الأول وفوق ما عداه إنه منصوب بفعل
مضمر دل عليه آتَيْنا السابق أو أَرْسَلْناكَ وجملة فَرَقْناهُ
في موضع الصفة له أي آتيناك قرآنا فرقناه أي أنزلناه منجما
مفرقا أو فرقنا فيه بين الحق والباطل فحذف الجار وانتصب مجروره
على أنه مفعول به على التوسع كما في قوله: ويوما شهدناه سليما
وعامرا وروي ذلك عن الحسن، وعن ابن عباس بينّا حلاله وحرامه،
وقال الفراء: أحكمناه وفصلناه كما في قوله تعالى: فِيها
يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ [الدخان: 4] وقرأ علي كرم الله
تعالى وجهه وابن عباس وأبي وعبد الله وأبو رجاء وقتادة والشعبي
وحميد وعمر بن قائد وزيد بن علي وعمرو بن ذر وعكرمة والحسن
بخلاف عنه «فرقّناه» بشد الراء ومعناه كالمخفف أي أنزلناه
مفرقا منجما بيد أن التضعيف للتكثير في الفعل وهو التفريق،
وقيل فرق بالتخفيف يدل على فصل متقارب وبالتشديد على فصل
متباعد والأول أظهر، ولما كان قوله تعالى الآتي عَلى مُكْثٍ
يدل على كثرة نجومه كانت القراءتان بمعنى، وقيل معناه فرقنا
آياته بين أمر ونهي وحكم وأحكام ومواعظ وأمثال وقصص وأخبار
مغيبات أتت وتأتي والجمهور على الأول.
وقد أخرج ابن أبي حاتم وابن الأنباري وغيرهما عن ابن عباس قال:
نزل القرآن جملة واحدة من عند الله تعالى من اللوح المحفوظ إلى
السفرة الكرام الكاتبين في السماء الدنيا فنجمته السفرة على
جبريل عليه السلام عشرين ليلة ونجمه جبريل عليه السلام على
النبي صلّى الله عليه وسلّم عشرين سنة
،
وفي رواية أنه أنزل ليلة القدر في رمضان ووضع في بيت العزة في
السماء الدنيا ثم أنزل نجوما في عشرين
،
وفي رواية في ثلاث وعشرين سنة
وفي أخرى في خمس وعشرين
، وهذا الاختلاف على ما في البحر مبني على الاختلاف في سنة
صلّى الله عليه وسلّم.
(8/177)
وأخرج ابن الضريس من طريق قتادة عن الحسن
كان يقول: أنزل الله القرآن على نبي الله صلّى الله عليه وسلّم
في ثماني عشرة سنة ثمان سنين بمكة وعشر بعد ما هاجر.
وتعقبه ابن عطية بأنه قول مختل لا يصح عن الحسن، واعتمد جمع أن
بين أوله وآخره ثلاثا وعشرين سنة وكان ينزل به جبريل عليه
السلام على ما قيل خمس آيات خمس آيات، فقد أخرج البيهقي في
الشعب عن عمر رضي الله تعالى عنه أنه قال: تعلموا القرآن خمس
آيات خمس آيات فإن جبريل عليه السلام كان ينزل به خمسا خمسا.
وأخرج ابن عساكر من طريق أبي نضرة قال: كان أبو سعيد الخدري
يعلمنا القرآن خمس آيات بالغداة وخمس آيات بالعشي ويخبر أن
جبريل عليه السلام نزل به خمس آيات خمس آيات، وكان المراد في
الغالب فإنه قد صح أنه نزل بأكثر من ذلك وبأقل منه.
وقرأ أبي وعبد الله «فرقناه عليك» لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ
عَلى مُكْثٍ أي تؤدة وتأنّ فإنه أيسر للحفظ وأعون على الفهم
وروي ذلك عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، وقيل أي تطاول في
المدة وتقضيها شيئا فشيئا، والظاهر تعلق لتقرأه بفرقناه وعلى
الناس بتقرأه وعلى مكث به أيضا إلا أن فيه تعلق حرفي جر بمعنى
بمتعلق واحد. وأجيب بأن تعلق الثاني بعد اعتبار تعلق الأول به
فيختلف المتعلق، وفي البحر لا يبالى بتعلق هذين الحرفين بما
ذكر لاختلاف معناهما لأن الأول في موضع المفعول به والثاني في
موضع الحال أي متمهلا مترسلا، ولما في ذلك من القيل والقال
اختار بعضهم تعلقه بفرقناه، وجوز الخفاجي تعلقه بمحذوف أي
تفريقا أو فرقا على مكث أو قراءة على مكث منك كمكث تنزيله،
وجعله أبو البقاء في موضع الحال من الضمير المنصوب في فرقناه
أي متمكثا، ومن العجيب قول الحوفي أنه بدل من عَلَى النَّاسِ
وقد تعقبه أبو حيان بأنه لا يصح لأن عَلى مُكْثٍ من صفات
القارئ أو من صفات المقروء وليس من صفات الناس ليكون بدلا
منهم، والمكث مثلث الميم وقرىء بالضم والفتح ولم يقرأ بالكسر
وهو لغة قليلة، وزعم ابن عطية إجماع القراء على الضم.
وَنَزَّلْناهُ تَنْزِيلًا على حسب الحوادث والمصالح فذكر هذا
بعد قوله تعالى: فَرَقْناهُ إلخ مفيد وذلك لأن الأول دال على
تدريج نزوله ليسهل حفظه وفهمه من غير نظر إلى مقتض لذلك وهذا
أخص منه فإنه دال على تدريجه بحسب الاقتضاء قُلْ للذين كفروا
آمِنُوا بِهِ أي بالقرآن أَوْ لا تُؤْمِنُوا أي به على معنى أن
إيمانكم به وعدم إيمانكم به سواء لأن إيمانكم لا يزيده كمالا
وعدم إيمانكم لا يورثه نقصا.
إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ أي العلماء
الذين قرؤوا الكتب السالفة من قبل تنزل القرآن وعرفوا حقيقة
الوحي وأمارات النبوة وتمكنوا من تمييز الحق والباطل والمحق
والمبطل أو رأوا نعتك ونعت ما أنزل إليك إِذا يُتْلى أي القرآن
عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ الخرور السقوط بسرعة،
والأذقان جمع ذقن وهو مجتمع اللحيين ويطلق على ما ينبت عليه من
الشعر مجازا وكذا يطلق على الوجه تعبيرا بالجزء عن الكل قيل
وهو المراد وروي عن ابن عباس فكأنه قيل يسقطون بسرعة على
وجوههم سُجَّداً تعظيما لأمر الله تعالى أو شكرا لإنجاز ما وعد
به في تلك الكتب من بعثتك والظاهر أن هنا خروا وسجودا على
الحقيقة، وقيل: لا شيء من ذلك وإنما المقصود أنهم ينقادون لما
سمعوا ويخضعون له كمال الانقياد والخضوع فأخرج الكلام على سبيل
الاستعارة التمثيلية، وفسر الخرور للأذقان بالسقوط على الوجوه
الزمخشري ثم قال: وإنما ذكر الذقن لأنه أول ما يلقى الساجد به
الأرض من وجهه، وقيل: فيه نظر لأن الأول هو الجبهة والأنف ثم
وجه بأنه إذا ابتدأ الخرور فأقرب الأشياء من وجهه إلى الأرض هو
الذقن، وكأنه أريد أول ما يقرب من اللقاء، وجوز أن تبقى
الأذقان على حقيقتها والمراد المبالغة في الخشوع وهو تعفير
اللحى على التراب أو
(8/178)
أنه ربما خروا على الذقن كالمغشى عليهم
لخشية الله تعالى، وقيل: لعل سجودهم كان هكذا غير ما عرفناه
وهو كما ترى.
وقال صاحب الفرائد المراد المبالغة في التحامل على الجبهة
والأنف حتى كأنهم يلصقون الأذقان بالأرض وهو وجه حسن جدا
واللام على ما نص عليه الزمخشري للاختصاص وذكر أن المعنى جعلوا
أذقانهم للخرور واختصوها به.
ومعنى هذا الاختصاص على ما في الكشف أن الخرور لا يتعدى
الأذقان إلى غيرها من الأعضاء المقابلة وحقق ذلك بما لا مزيد
عليه واعترض القول بالاختصاص بأنه مخالف لما سبق من قوله: إن
الذقن أول ما يلقي الساجد به الأرض وأجيب بما أجيب وتعقبه
الخفاجي بأنه مبني على أن الاختصاص الذي تدل عليه اللام بمعنى
الحصر وليس كذلك وإنما هو بمعنى تعلق خاص ولو سلّم فمعنى
الاختصاص بالذقن الاختصاص بجهته ومحاذيه وهي جهة السفل ولا شك
في اختصاصه به إذ هو لا يكون لغيره يَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ
يقعون على الأرض عند التحقيق، والمراد تصوير تلك الحالة كما في
قوله: فخر صريعا لليدين وللفم فتأمل.
واختار بعضهم كون اللام بمعنى على، وزعم بعض عود ضميري بِهِ
وقَبْلِهِ على النبي صلّى الله عليه وسلّم ويأباه السباق
واللحاق، وأخرج ابن المنذر وابن جرير أن ضمير يُتْلى لكتابهم
ولا يخفى حاله والظاهر أن الجملة الاسمية داخلة في حيز قُلْ
وهي تعليل لما يفهم من قوله تعالى: آمِنُوا بِهِ أَوْ لا
تُؤْمِنُوا من عدم المبالاة بذلك أي إن لم تؤمنوا به فقد آمن
به أحسن إيمان من هو خير منكم، ويجوز أن لا تكون داخلة في حيز
قل بل هي تعليل له على سبيل التسلية لرسول الله صلّى الله عليه
وسلّم كأنه قيل تسل بإيمان العلماء عن إيمان الجهلة ولا تكترث
بإيمانهم وأغراضهم وقد ذكر كلا الوجهين الكشاف قال في الكشف
والحاصل أن المقصود التسلي والازدراء وعدم المبالاة المفيد
للتوبيخ والتقريع مفرع عليه مدمج أو بالعكس والصيغة في الثاني
أظهر والتعليل بقوله سبحانه إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ
في الأول.
وقال ابن عطية يتوجه في الآية معنى آخر وهو أن قوله سبحانه:
قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا إنما جاء للوعيد والمعنى
افعلوا أي الأمرين شئتم فسترون ما تجازون به ثم ضرب لهم المثل
على جهة التقريع بمن تقدم من أهل الكتاب أي إن الناس لم يكونوا
كما أنتم في الكفر بل كان الذين أوتوا التوراة والإنجيل
والزبور والكتب المنزلة إذا يتلى عليهم ما أنزل عليهم خشعوا
وآمنوا اه، وهو بعيد جدا ولا يخلو عن ارتكاب مجاز.
وربما يكون في الكلام عليه استخدام وَيَقُولُونَ أي في سجودهم
أو مطلقا سُبْحانَ رَبِّنا عن خلف وعده أو عما يفعل الكفرة من
التكذيب إِنْ كانَ وَعْدُ رَبِّنا لَمَفْعُولًا إن مخففة من
المثقلة واسمها ضمير شأن واللام فارقة أي إن الشأن هذا
وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ يَبْكُونَ كرر الخرور للأذقان
لاختلاف السبب فإن الأول لتعظيم أمر الله تعالى أو الشكر
لإنجاز الوعد والثاني لما أثر فيهم من مواعظ القرآن، والجار
والمجرور إما متعلق بما عنده أو بمحذوف وقع حالا مما قبل أو
مما بعد أي ساجدين، وجملة يَبْكُونَ حال أيضا أي باكين من خشية
الله تعالى، ولما كان البكاء ناشئا من الخشية الناشئة من
التفكر الذي يتجدد جيء بالجملة الفعلية المفيدة للتجدد، وقد
جاء في مدح البكاء من خشيته تعالى أخبار كثيرة
فقد أخرج الحكيم الترمذي عن النضر بن سعد قال: قال رسول الله
صلّى الله عليه وسلّم «لو أن عبدا بكى في أمة لأنجى الله تعالى
تلك الأمة من النار ببكاء ذلك العبد وما من عمل إلا له وزن
وثواب إلا الدمعة فإنها تطفئ بحورا من النار وما اغرورقت عين
بمائها من خشية الله تعالى إلا حرم الله تعالى جسدها على النار
فإن فاضت على خده لم يرهق وجهه قتر ولا ذلة»
وأخرج أيضا عن ابن عباس قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه
وسلّم يقول: «عينان لا تمسهما النار عين بكت من خشية الله
تعالى وعين باتت تحرس في سبيل الله تعالى»
وأخرج هو والنسائي ومسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله
(8/179)
صلّى الله عليه وسلّم: «لا يلج النار رجل
بكى من خشية الله تعالى حتى يعود اللبن في الضرع ولا اجتمع على
عبد غبار في سبيل الله تعالى ودخان جهنم» زاد النسائي في
منخريه ومسلم أبدا
، وينبغي أن يكون ذلك حال العلماء فقد أخرج ابن جرير وابن
المنذر وغيرهما عن عبد الأعلى التيمي أنه قال: إن من أوتي من
العلم ما لا يبكيه لخليق أن قد أوتي من العلم ما لا ينفعه لأن
الله تعالى نعت أهل العلم فقال وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ
يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ أي القرآن بسماعهم خُشُوعاً لما
يزيدهم علما ويقينا بأمر الله تعالى على ما حصل عندهم من
الأدلة.
قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ
أخرج ابن جرير وابن مروديه عن ابن عباس قال: صلى صلّى الله
عليه وسلّم بمكة ذات يوم فدعا الله تعالى فقال في دعائه: يا
الله يا رحمن فقال المشركون: انظروا إلى هذا الصابىء ينهانا أن
ندعو إلهين وهو يدعو إلهين فنزلت،
وعن الضحاك أنه قال: قال أهل الكتاب للرسول صلّى الله عليه
وسلّم: إنك لتقل ذكر الرحمن وقد أكثر الله تعالى في التوراة
هذا الاسم فنزلت
، والمراد على الأول التسوية بين اللفظين بأنهما عبارتان عن
ذات واحد وإن اختلف الاعتبار والتوحيد إنما هو للذات الذي هو
المعبود وهو يلائم قوله تعالى فيما بعد وَقُلِ الْحَمْدُ
لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ
شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وعلى الثاني التسوية في حسن الإطلاق
والإفضاء إلى المقصود فإن أهل الكتاب فهموا أحسنية الرحمن
لكونه أحب إليه تعالى إذ أكثر ذكره في كتابهم وكأن حكمة ذلك أن
موسى عليه السلام كان غضوبا كما دلت عليه الآثار فأكثر له من
ذكر الرحمن ليعامل أمته بمزيد الرحمة لأن الأنبياء عليهم
السلام يتخلقون بأخلاق الله تعالى، قال القاضي البيضاوي: وهذا
أجوب لقوله تبارك اسمه أَيًّا ما تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ
الْحُسْنى لأن توصيف الأسماء بالحسنى يفهم منه أن المقول لهم
ذلك يظنون أحسنية اسم من اسم لا التغاير، وقال صاحب الكشف:
الغرض على الوجهين التسوية بين اللفظين في الحسن والاختلاف
إنما هو بأن الاستواء في الحسن رد لمن قال: إنك لتقل إلخ بأن
الإتيان بأحد الحسنين كاف أو لمن قال: ينهانا أن ندعو إلهين
وهو يدعو بأن الاختلاف بين اللفظين الدالين على كماله تعالى لا
بين كاملين فالأجوبية ممنوعة انتهى.
وتعقب بأن أنسبية التوصيف بالحسنى للثاني ظاهرة مما لا تكاد
تنكر، ووجه الطيبي الأجوبية بأن اعتراض اليهود كان تعبيرا
للمسلمين على ترجيح أحد الاسمين على الآخر واعتراض المشركين
كان تعبيرا على الجمع بين اللفظين، وقوله تعالى: «أيّا ما
تدعوا» يطابق الرد على اليهود لأن المعنى أي اسم من الاسمين
دعوتموه فهو حسن وهو لا ينطبق على اعتراض المشركين ثم قال: هذا
مسلم إذا كان أو للتخيير ويجوز أن تكون للإباحة والانطباق
حينئذ ظاهر فإن المشركين حظروا الجمع بين الاسمين فيكون ردهم
بإباحة الجمع بين الأسماء المتكاثرة فضلا عن الجمع بين الاسمين
على أن الجواب بالتخيير في الرد على أهل الكتاب غير مطابق
لأنهم اعترضوا بالترجيح. وأجيب بالتسوية لأن أو تقتضيها، وكان
الجواب العتيد أن يقال: إنما رجحنا الله على الرحمن في الذكر
لأنه جامع لجميع صفات الكمال بخلاف الرحمن، وسيأتي قريبا إن
شاء الله تعالى تتمة الكلام فيما يتعلق بهذا.
ومنع الأجوبية أيضا الجلبي بأن تقديم الخبر في قوله تعالى:
فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى يقتضي أجوبية الأول إذ معناه هذه
الأسماء لله تعالى لا لغيره كما زعم المشركون إلا أن يقال أو
للتخيير وهو غير مسلم بل يتعين كونها للإباحة لأنها كما قال
الرضي وغيره يجوز الجمع فيها بين المتعاطفين والاقتصار على
أحدهما وفي التخيير لا يجوز الجمع وهو هنا جائز. ودفع بأن
المعنى لله تعالى أسماء متفقة في الحسن لأنها لا تختلف
مدلولاتها بالذات بخلاف غيره سبحانه فإن أسماءه تختلف فالقصر
إذا كان بأن لم يكن التقديم لمجرد التشويق ناظر إلى الوصف لا
للأسماء وهذا لا يتوقف على تسليم التخيير، ثم إنه لا مانع من
إرادته بل أي تقتضيه لأنها لأحد الشيئين فإذا قلت لأحد: أي
الأمرين
(8/180)
تفعل فافعل لم تأمره بفعلهما بل بفعل
أحدهما وأما الدلالة على جواز الجمع فمن خارج النظم ودلالة
العقل لأنهم إذا لم يتنافيا جاز الجمع بينهما، ومن هنا تعلم
أنه لا حاجة إلى حمل التخيير في كلام من عبر به على غير
الاصطلاح المشهور الذي هو اصطلاح النحاة فيه إذا قوبل بالإباحة
بأن يقال: مراده به التسوية بين الاسمين في الدلالة على ذات
واحدة وسواء فيه الإفراد والجمع، قال في التلويح: وفي التخيير
قد يجوز الجمع بحكم الإباحة الأصلية وهذا يسمى التخيير على
سبيل الإباحة اه. والظاهر أن الحق مع مانع الأجوبية والقائل
بالإباحة فتدبر، والدعاء على ما اختاره أبو حيان وجماعة بمعنى
النداء، وقال الزمخشري: هو بمعنى التسمية لا بمعنى النداء وهو
يتعدى إلى مفعولين تقول دعوته زيدا ثم يترك أحدهما استغناء عنه
فتقول دعوت زيدا، والأصل على ما قيل أن يتعدى إلى الثاني
بالباء لكنه يتسع فيحذف الباء والمفعول الآخر هنا محذوف أي
سموه بهذا الاسم أو بهذا الاسم وكذا يقال في الدعاء الثاني،
وعلل ذلك بأنه لو حمل على الحقيقة المشهورة يلزم إما الاشتراك
إن تغاير مدلولا الاسمين أو عطف الشيء على نفسه بأو وهو إنما
يجوز بالواو إن اتحدا، وبحث فيه بأنا نختار الثاني ولا يلزم ما
ذكر لأنه قصد اللفظ كما تقول نادي النبي صلّى الله عليه وسلّم
بمحمد أو بأحمد مع أن اختلاف مفهوميهما يكفي لصحته، وما روي في
سبب النزول أو لا ينادي على ما قيل على إرادة النداء، وقيل إن
كانت الآية ردا على المشركين فهو بمعنى التسمية وإن كانت ردا
على اليهود فهو بمعنى النداء وجعل الطيبي لذلك تفسير الزمخشري
إياه بالتسمية مؤذنا بميله إلى أنها رد على المشركين وفي ذلك
تأمل، وأَيًّا اسم شرط جازم منصوب بتدعوا وجازم له فهو عامل
ومعمول من جهتين والتنوين عوض عن المضاف إليه المحذوف والتقدير
أي هذين الاسمين وما حرف مزيد للتأكيد، وقيل إنها اسم شرط مؤكد
به. وقرأ طلحة بن مصرف من بدل ما وخرج على زيادتها على مذهب
الكسائي أو جعلها أداة شرط والجمع بين أداتي الشرط كالجمع بين
حرفي الجر في قوله: فاصبحن لا يسألنني عن بما به شاذ، وجملة
فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى واقعة موقع جواب الشرط وهي في
الحقيقة تعليل له، وكأن أصل الكلام أيّا ما تدعوه به فهو حسن
لأن له سبحانه الأسماء الحسنى اللاتي منها هذان، وفي العدول عن
حق الجواب إقامة الشيء بدليله وفيه مبالغة لا تخفى، وهذا
التقدير ظاهر على القول الثاني في سبب النزول ويقدر على القول
الأول فيه فمدلوله واحد ونحوه، ولا حاجة إلى ذلك بل يقدر على
القولين فهو حسن على ما سمعت عن صاحب الكشف.
وقال الطيبي وقد حمل أو على الإباحة وجعل الخطاب للمشركين:
التقدير قل سموا ذاته المقدسة بالله وبالرحمن فهما سيان في
استصواب التسمية بهما فبأيهما سميته فأنت مصيب وإن سميته بهما
جميعا فأنت أصوب لأن له الأسماء الحسنى وقد أمرنا سبحانه بأن
ندعوه بها في قوله تعالى: وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى
فَادْعُوهُ بِها فجواب الشرط الأول قولنا فأنت مصيب ودل على
الشرط الثاني وجوابه قوله تعالى: فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى
والآية على هذا فن من فنون الإيجاز الذي هو من حلية التنزيل،
وعلى تقدير فهو حسن حسبما سمعت أولا من باب الإطناب اه وهو كما
ترى.
ونقل في البحر أن منهم من وقف على أَيًّا على معنى أي اللفظين
تدعوه به جاز ثم استأنف فقال ما تدعو فله الأسماء الحسنى.
وتعقبه بأن هذا لا يصح لأن ما لا يطلق على آحاد ذوي العلم ولأن
الشرط يقتضي عموما وهو لا يصح هنا، وضمير فَلَهُ عائد على
المسمى أو المنادى المفهوم من الكلام والقرينة عقلية وهي أن
الأسماء تكون للمسمى وللمنادى لا للاسم واللفظ المنادى به،
وسيأتي إن شاء الله تعالى عن محيي الدين قدس سره غير ذلك في
باب الإشارة، ووصف الأسماء بالحسنى لدلالتها على ما هو جامع
لجميع صفات الكمال بحيث لا يشذ منها شيء وما
(8/181)
هو من صفات الجلال والجمال والإكرام، هذا
واعلم أن الظاهر مما روي عن اليهود أنهم لا ينكرون حسن سائر
أسمائه تعالى وإنما يزعمون أن الرحمن منها أحب أسمائه تعالى
إليه وأعظمها وأشرفها لكثرة ذكره تعالى إياه في التوراة
واختلاف أسمائه عزت أسماؤه في الشرف والعظم مما ذهب إليه
المسلمون أيضا.
ويدل عليه تخصيصه صلّى الله عليه وسلّم بعض الأسماء بأنه الاسم
الأعظم
فقد روي «أن النبي صلّى الله عليه وسلّم سمع رجلا يدعو وهو
يقول: اللهم إني أسألك بأني أشهد أنك أنت الله لا إله إلا أنت
الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد فقال
عليه الصلاة والسلام: والذي نفسي بيده لقد سأل الله تعالى
باسمه الأعظم الذي إذا دعي به أجاب وإذا سئل به أعطى
وروي أنه عليه الصلاة والسلام قال: اسم الله تعالى في هاتين
الآيتين وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ
الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ [البقرة: 163] وفاتحة آل عمران الم
اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ
ونص حجة الإسلام الغزالي في أوائل كتابه المقصد الأسنى على أن
الله أعظم الأسماء التسعة والتسعين لأنه دال على الذات الجامعة
لصفات الإلهية كلها وسائر الأسماء لا يدل آحادها إلا على آحاد
المعاني من علم أو قدرة أو فعل أو غيره ولأنه أخص الأسماء إذ
لا يطلقه أحد على غيره تعالى لا حقيقة ولا مجازا وسائر الأسماء
قد يسمى به غيره عز وجل كالقادر والعليم والرحيم وغيرها، واسمه
تعالى الرحمن لا يسمى به غيره تعالى أيضا وهو من هذا الوجه
قريب من اسم الله سبحانه وإن كان مشتقا من الرحمة قطعا ولذا
جمع عز وجل بينهما في قوله سبحانه قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ
ادْعُوا الرَّحْمنَ اه.
وقال في أواخره: فإن قيل ما بال تسعة وتسعين من أسمائه تعالى
اختصت بأن من أحصاها دخل الجنة مع أن الكل أسماء الله تعالى
فنقول: الأسامي يجوز أن تتفاوت فضيلتها لتفاوت معانيها في
الجلالة والشرف فتكون تسعة وتسعون منها تجمع أنواعا من المعاني
المنبئة عن الجلال لا يجمع ذلك غيرها مختص بزيادة شرف انتهى،
وقال الإمام الرازي في هذه الآية: تخصيص هذين الاسمين يعني
الله والرحمن بالذكر يدل على أنهما أشرف من سائر الأسماء،
وتقديم اسم الله على اسم الرحمن يدل على قولنا: الله أعظم
الأسماء إلى غير ذلك مما ذكره غير واحد من الأجلة، والآية إنما
تصلح بحسب الظاهر ردا لما فهمه اليهود إذا كان المراد منها نفي
التفاوت الذي زعموه وحينئذ يقع التعارض بينها وبين ما يدل على
التفاوت من الأخبار، وقد يجعل هذا وجها لاختيار كون سبب النزول
قول المشركين ولعل أثره أصح، وما نقلناه فيما سبق عن العلامة
الطيبي مؤيد لما قلناه، واحتج الجبائي بالآية على أنه تعالى
ليس خالق الظلم وإلا لصح اشتقاق اسم له سبحانه منه وحينئذ يبطل
ما دلت عليه الآية من كون أسمائه تعالى بأسرها حسنى.
وأجيب بمنع الملازمة لأن الظلم ليس صفته عز وجل وكونه خالقا له
لا يصح الاشتقاق منه وإلا لصح الاشتقاق من الطول والقصر
والسواد والبياض لأنه تعالى خالق لذلك بالإتفاق، نعم لا ينبغي
أن يقال لله تبارك وتعالى خالق القبيح للزوم الأدب معه سبحانه
ويقال خالق كل شيء. وما هو من أسمائه جلت أسماؤه الخالق لا
خالق كذا فافهم سلك الله تعالى بنا وبك الطريق الأقوم.
وهذه الآية على ما قيل من آيات الحفظ بناء على ما
أخرج البيهقي في الدلائل من طريق نهشل بن سعيد عن الضحاك عن
ابن عباس أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال في قوله تعالى:
قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ إلى آخر الآية
هو أمان من السرق
وأن رجلا من المهاجرين تلاها حين أخذ مضجعه فدخل عليه سارق
فجمع ما في البيت وحمله والرجل ليس بنائم حتى انتهى إلى الباب
فوجده مردودا فوضع الكارة وفعل ذلك ثلاث مرات فضحك صاحب الدار
ثم قال: إني أحصنت بيتي وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا
تُخافِتْ بِها وَابْتَغِ بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلًا
أخرج أحمد والبخاري ومسلم والترمذي والنسائي وابن حبان وغيرهم
عن ابن عباس قال: نزلت ورسول الله صلّى الله عليه وسلّم مختف
بمكة فكان إذا صلى
(8/182)
بأصحابه رفع صوته بالقرآن فإذا سمع ذلك
المشركون سبوا القرآن ومن أنزله ومن جاء به
فقال الله تعالى لنبيه عليه الصلاة والسلام وَلا تَجْهَرْ
بِصَلاتِكَ أي بقراءتك فيسمع المشركون فيسبوا القرآن وَلا
تُخافِتْ بِها عن أصحابك فلا تسمعهم القرآن حتى يأخذوه عنك
وابتغ بين ذلك سبيلا يقول بين الجهر والمخافتة، وظاهره أن
المراد بالصلاة القراءة التي هي أحد أجزائها مجازا، ويجوز أن
يكون الكلام على تقدير مضاف أي بقراءة صلاتك، والظاهر أن
المراد بالقراءة ما يعم البسملة وغيرها وبعض الأخبار يفيد
ظاهره تخصيصها بالبسملة،
فقد أخرج ابن أبي شيبة في المصنف عن سعيد قال: كان النبي صلّى
الله عليه وسلّم يرفع صوته ببسم الله الرحمن الرحيم وكان
مسيلمة قد تسمى بالرحمان فكان المشركون إذا سمعوا ذلك من النبي
عليه الصلاة والسلام قالوا: قد ذكر مسيلمة إله اليمامة ثم
عارضوه بالمكاء والتصدية والصفير فأنزل الله تعالى هذه الآية
، ولا يخفى على هذه الرواية أشدية مناسبة الآية لما قبلها.
وأخرج ابن أبي حاتم عن الربيع قال: كان أبو بكر إذا صلى من
الليل خفض صوته جدا وكان عمر إذا صلى من الليل رفع صوته جدا
فقال عمر: يا أبا بكر لو رفعت من صوتك شيئا وقال أبو بكر: يا
عمر لو خفضت من صوتك شيئا فأتيا رسول الله صلّى الله عليه
وسلّم فاخبراه بأمرهما فأنزل الله تعالى الآية فأرسل عليه
الصلاة والسلام إليهما فقال: يا أبا بكر ارفع من صوتك شيئا
وقال لعمر اخفض من صوتك شيئا
، وفي رواية أنه قيل لأبي بكر: لم تصنع هذا؟ فقال: أناجي ربي
وقد عرف حاجتي، وقيل لعمر: لم تصنع هذا؟ قال: أطرد الشيطان
وأوقظ الوسنان، وأمر التجوز أو حذف المضاف على هذا مثله على
الأول وكذا على ما أخرجه ابن أبي حاتم عن ابن عباس أن المعنى
لا تجهر بصلاتك كلها ولا تخافت بها كلها وابتغ بين ذلك سبيلا
بالجهر في بعض كالمغرب والعشاء والمخافتة في بعض كما فيما عدا
ذلك.
وقيل الصلاة بمعنى الدعاء لما أخرج الشيخان وغيرهما عن عائشة
قالت: إنما نزلت هذه الآية وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا
تُخافِتْ بِها في الدعاء، وأخرج نحوه ابن أبي شيبة عن مجاهد،
وروي ذلك عن ابن عباس أيضا ابن جرير وابن المنذر وجماعة وكانوا
يجهرون بأللهم ارحمني،
وأخرجوا عن عبد الله بن شداد أن أعرابا من بني تميم كانوا إذا
سلم النبي صلّى الله عليه وسلّم قالوا: أي جهرا اللهم ارزقنا
إبلا وولدا فنزلت
، وفي رواية أخرى عن عائشة أن الصلاة هنا التشهد وكان الأعراب
كما نقل عن ابن سيرين يجهرون بتشهدهم فنزلت، وقيل الصلاة على
حقيقتها الشرعية فقد أخرج ابن عساكر عن الحسن أنه قال: المعنى
لا تصل الصلاة رياء ولا تدعها حياء، وروى نحوه ابن أبي حاتم
والطبراني عن ابن عباس أيضا، والأكثرون على التفسير المروي عنه
أولا، والمخافتة إسرار الكلام بحيث لا يسمعه المتكلم، ومن هنا
قال ابن مسعود كما أخرجه عنه ابن أبي شيبة وابن جرير: لم يخافت
من اسمع أذنيه، وخفت وهو من باب ضرب وخافت بمعنى يقال خفت يخفت
خفتا وخفوتا وخافت مخافتة إذا أسر وأخفى، والتعبير عن الأمر
الوسط بالسبيل باعتبار أنه أمر يتوجه إليه المتوجهون ويؤمه
المقتدون ويوصلهم إلى المطلوب، وقد جاء عن عبد الله بن الشخير
وأبي قلابة خير الأمور أوساطها، والآية على ما يقتضيه كلام
الأكثرين محكمة، وقيل منسوخة بناء على ما
أخرجه ابن مردويه وابن أبي حاتم عن ابن عباس من أنه صلّى الله
عليه وسلّم أمر بمكة بالتوسط بأن لا يجهر جهرا شديدا ولا يخفض
حتى لا يسمع أذنيه فلما هاجر إلى المدينة سقط ذلك،
وقيل هي منسوخة بقوله تعالى: ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً
وَخُفْيَةً [الأعراف: 55] وهو كما ترى، ولا يخفى عليك حكم رفع
الصوت بالقراءة فوق الحاجة وحكم المخافتة بالمعنى الذي سمعته
المسطوران في كتب الفقه فراجعها إن لم يكن ذلك على ذبر منك،
وأخرج ابن أبي داود في المصاحف عن أبي رزين قال قرأ عبد الله
«ولا تخافت بصوتك ولا تعال به» وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ
الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً رد على اليهود والنصارى وبني
مليح حيث قالوا: عزيز ابن الله والمسيح ابن الله تعالى
والملائكة بنات الله سبحانه وتعالى عما يقولون علوا كبيرا،
ونفي
(8/183)
اتخاذ الولد ظاهر في نفي التبني ويعلم منه
نفي أن يكون له سبحانه ولد الصلب من باب أولي، وقد نفي ذلك
صريحا في قوله تعالى لَمْ يَلِدْ [الإخلاص: 3] وَلَمْ يَكُنْ
لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ ظاهره أنه رد على الثنوية وهم
المشركون في الربوبية، ويجوز أن يكون كناية عن نفي الشركة في
الألوهية فيكون ردا على الوثنية وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ
مِنَ الذُّلِّ أي ناصر ومانع له سبحانه من الذل لا عتزازه
تعالى بنفسه فمن صلة لولي وضمن معنى المنع والنصر أو لم يوال
تعالى أحدا من أجل مذلة فالولاية بمعنى المحبة على أصلها ومن
تعليلية، وليس المعنى على الوجهين نفي الذل والنصر في الأول
والموالاة والذل في الثاني على أسلوب- لا يهتدي بمناره- بل
المراد أنه تعالى إذا اتخذ عبدا له وليا فذلك محض الاصطناع في
شأن العبد لا أن هناك حاجة، وكذلك نصر الله تعالى كمال للناصر
لا أن ثمة حاجة ألا ترى إلى قوله سبحانه: إِنْ تَنْصُرُوا
اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ [محمد: 7] وإلى هذا ذهب صاحب الكشف وهو
حسن، وجعل ذلك على الوجهين الفاضل الطيبي من ذاك الأسلوب، وفي
الحواشي الشهابية في بيان ثاني الوجهين أن المراد نفي أن يكون
له تعالى مولى يلتجىء هو سبحانه إليه، وأما الولي الذي يوصف به
المؤمن فليس الولاية فيه بهذا المعنى بل بمعنى من يتولى أمره
لمحبته له تفضلا منه عز وجل ورحمة فغاير بين الولايتين، ولعل
الحق مع صاحب الكشف، ومن عجيب ما قيل إن مِنَ الذُّلِّ في موضع
الصفة لولي ومن فيه للتبعيض وأن الكلام على حذف مضاف أي لم يكن
له ولي من أهل الذل والمراد بهم اليهود والنصارى، ولعمري إنه
لا ينبغي أن يلتفت إليه.
وربما يتوهم أن المقام مقام التنزيه لا مقام الحمد لأنه يكون
على الفعل الاختياري وبه وما ذكر من الصفات العدمية ويدفع بأنه
لاق وصفه تعالى بما ذكر بكلمة التحميد لأنه يدل على نفي
الإمكان المقتضي للاحتياج وإثبات أنه تعالى الواجب الوجود
لذاته الغني عما سواه المحتاج إليه ما عداه فهو الجواد المعطي
لكل قابل ما يستحق فهو تعالى المستحق للحمد دون غيره عز وجل،
وهذا الذي عناه الزمخشري وقال في الكشف: لك أن تتخذ نفي هذه
الصفات وهي ذرائع منع المعروف أما الولد فلأنه مبخلة، وأما
الشريك فلأنه مانع من التصرف كيف يشاء، وأما الاحتياج إلى من
يعتز به أو يذب عنه فاظهر رديفا لإثبات أضدادها على سبيل
الكناية وهو وجه حسن ولو حمل الكلام على ظاهره أيضا لكان له
وجه وذلك لأن قول القائل الحمد لله فيه ما ينبىء أن الإلهية
تقتضي الحمد فإذا قلت الحمد لله المنزه عن النقائص مثلا يكون
قد قويت معنى الإلهية المفهومة من اللفظ فيكون وصفا لائقا
مؤيدا لا ستحقاقه تعالى الحمد من غير نظر إلى مدخلية الوصف في
الحمد بالاستقلال وهذا بين مكشوف إلا أن الزمخشري حاول أن ينبه
على مكان الفائدة الزائدة اه.
وتعقب بأن ما ذكره من أن في الحمد لله ما ينبىء أن الإلهية
تقتضي الحمد لا يتم على مذهب مانعي الاشتقاق في الاسم الكريم
وفيه تأمل. والآية على ما قال العلامة الطيبي من التقسيم
الحاصر لأن المانع من إيتاء النعم إما فوقه سبحانه وتعالى أو
دونه أو مثله عز وجل فبنى الكلام على الترقي وبدىء من الأدون
وختم بالأعلى فنفى الكل فمنه ولد الكثرة وله القل والدق والجل
تعالى كبرياؤه وعظمت نعماؤه، ولدلالة ما تقدم على أنه تعالى هو
الكامل وما عداه ناقص استحق التكبير ولذا عطف عليه قوله سبحانه
وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً والتكبير أبلغ لفظة للعرب في معنى
التعظيم والإجلال، وفي الأمر بذلك بعد ما تقدم مؤكدا بالمصدر
المنكر من غير تعيين لما يعظم به تعالى إشارة إلى أنه مما لا
تسعه العبارة ولا تفي به القوة البشرية وإن بالغ العبد في
التنزيه والتمجيد واجتهد في العبادة والتحميد فلم يبق إلا
الوقوف بإقدام المذلة في حضيض القصور والاعتراف بالعجز عن
القيام بحقه جل وعلا وإن طالت القصور،
وروى غير واحد أنه صلّى الله عليه وسلّم كان يعلم الغلام من
بني عبد المطلب إذا أفصح الحمد لله إلى آخر الآية سبع مرات
وسماها عليه الصلاة والسلام
(8/184)
كما أخرج أحمد والطبراني عن معاذ آية العز
،
وأخرج أبو يعلى وابن السني عن أبي هريرة قال: خرجت أنا ورسول
الله صلّى الله عليه وسلّم ويدي في يده فأتى على رجل رث الهيئة
فقال: أي فلان ما بلغ بك ما أرى قال: السقم والضر قال صلّى
الله عليه وسلّم: ألا أعلمك كلمات تذهب عنك السقم والضر توكلت
على الحي الذي لا يموت الحمد لله الذي لم يتخذ ولدا الآية فأتى
عليه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وقد حسنت حالته فقال:
مهيم. فقال: لم أزل أقول الكلمات التي علمتني.
وأخرج ابن أبي الدنيا في كتاب الفرج والبيهقي في الأسماء
والصفات عن إسماعيل بن أبي فديك قال: قال رسول الله صلّى الله
عليه وسلّم: «ما كربني أمر إلا مثل لي جبريل عليه السلام فقال:
يا محمد قل: توكلت على الحي الذي لا يموت والحمد لله الذي لم
يتخذ ولدا»
إلى آخر الآية،
وأخرج ابن السني والديلمي عن فاطمة بنت رسول الله صلّى الله
عليه وسلّم وعليها أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال لها إذا
أخذت مضجعك فقولي: «الحمد لله الكافي سبحان الله الأعلى حسبي
الله وكفى ما شاء الله قضى سمع الله لمن دعا ليس من الله ملجأ
ولا وراء الله ملتجى توكلت على ربي وربكم ما من دابة إلا هو
آخذ بناصيتها إن ربي على صراط مستقيم، الحمد لله الذي لم يتخذ
ولدا- إلى وكبره تكبيرا ثم قال- صلّى الله عليه وسلّم: ما من
مسلم يقرأها عند منامه ثم ينام وسط الشياطين والهوام فتضره»
هذا وما ألطف المناسبة بين ابتداء هذه السورة، وهذا الختام
وليس ذلك بدعا في كلام اللطيف العلام «ومن باب الإشارة في
الآيات» وإن كادوا ليفتنونك إلى آخره تنبيه لحبيبه صلّى الله
عليه وسلّم عن الوقوع فيما يخل بحفظ شرائط المحبة وفيه إشارة
إلى إيصاله إلى مقام التمكين أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ
الشَّمْسِ إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ الآية، ذكر أن الصلاة على
خمسة أقسام صلاة المواصلة والمناغاة في مقام الخفي وصلاة
المشاهدة في مقام الروح وصلاة المناجاة في مقام السر وصلاة
الحضور في مقام القلب وصلاة المطاوعة والانقياد في مقام النفس،
فدلوك الشمس إشارة إلى زوال شمس الوحدة عن الاستواء على وجود
العبد بالفناء المحض فإنه لا صلاة في حال الاستواء إذ لا وجود
للعبد حينئذ ولا شعور له بنفسه، وإنما تجب بالزوال وحدوث ظل
وجود العبد سواء عند الاحتجاب بالخلق وهو حالة الفرق قبل الجمع
أو عند البقاء وهو حالة الفرق بعد الجمع، وغسق الليل إشارة إلى
غسق ليل النفس وقرآن الفجر إشارة إلى قرآن فجر القلب، وأدل
الصلوات وألطفها صلاة المواصلة وأفضلها صلاة الشهود المشار
إليها بصلاة العصر وأخفها صلاة السر المشار إليها بصلاة المغرب
وأشدها تثبيتا للنفس صلاة النفس المشار إليها بصلاة العشاء
وأزجرها للشيطان صلاة الحضور المشار إليها بالفجر إِنَّ
قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً أي تشهده ملائكة الليل
والنهار وهذا إشارة إلى نزول صفات القلب وأنوارها وذهاب صفات
النفس وزوالها، وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً
لَكَ أي زيادة على الفرائض الخمس خاصة بك قيل لكونه علامة مقام
النفس فيجب تخصيصه بزيادة الطاعة لزيادة احتياج هذا المقام إلى
الصلاة بالنسبة إلى سائر المقامات، وقيل إنما خص صلّى الله
عليه وسلّم بالتهجد لأن الليل وقت خلوة المحب بالحبيب وهو عليه
الصلاة والسلام الحبيب الأعظم، والخليل المكرم عَسى أَنْ
يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً وهو مقام إلحاق الناقص
بالكامل والكامل بالأكمل وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي حضرة الوحدة
في عين الجمع مُدْخَلَ صِدْقٍ إدخالا مرضيا بلا آفة زيغ البصر
إلى الالتفات إلى الغير أصلا وَأَخْرِجْنِي إلى فضاء الكثرة
عند الرجوع إلى التفصيل بالوجود الموهوب الحقاني مُخْرَجَ
صِدْقٍ سالما من آفة التلوين والانحراف عن جادة الاستقامة
وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطاناً نَصِيراً حجة ناصرة
بالتثبيت والتمكين وَقُلْ إذا زالت نقطة الغين عن العين جاءَ
الْحَقُّ أي ظهر الوجود الثابت وهو الوجود الواجبي وَزَهَقَ
الْباطِلُ وهو الوجود الإمكاني،
ففي الحديث الصحيح أصدق كلمة قالها شاعر كلمة لبيد:
ألا كل شيء ما خلا الله باطل
(8/185)
ويقال الحق العلم والباطل الجهل والحق ما
بدا من الإلهام والباطل هواجس النفس ووساوس الشيطان. وقال
فارس: كل ما يحملك على سلوك سبيل الحقيقة فهو حق وكل ما يحجبك
ويفرق عليك وقتك فهو باطل وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ
شِفاءٌ من أمراض الصفات الذميمة وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ
بالغيب يفيدهم الكمالات والفضائل العظيمة فالأول إشارة إلى
التخلية والثاني إلى التحلية، ويقال هو شفاء من داء الشك
الضعفاء المؤمنين ومن داء النكرة للعارفين ومن وجع الاشتياق
للمحبين ومن داء القنوط للمريدين والقاصدين، وأنشدوا:
وكتبك حولي لا تفارق مضجعي ... وفيها شفاء للذي أنا كاتم
وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ الباخسين حظوظهم من الكمال بالميل
إلى الشهوات النفسانية إِلَّا خَساراً بزيادة ظهور أنفسهم
بصفاتها من إنكار ونحوه وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ
أَعْرَضَ وَنَأى بِجانِبِهِ فاحتجب بالنعمة عن المنعم ولم يشكر
وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ كانَ يَؤُساً لجهله بعظيم قدرة الله
تعالى ولم يصبر قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلى شاكِلَتِهِ على
طريقته التي تشاكل استعداده وكل إناء بالذي فيه يرشح
وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ
رَبِّي أي من عالم الإبداع وهو عالم الذوات المقدسة عن الشكل
واللون والجهة والأين فلا يمكن إدراك المحجوبين لها وَما
أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا وهو علم المحسوسات
مَنْ يَهْدِ اللَّهُ بنوره بمقتضى العناية الأزلية فَهُوَ
الْمُهْتَدِ دون غيره وَمَنْ يُضْلِلْ بمنع ذلك النور عنه
فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِياءَ من دونه تعالى يهدونه أو
يحفظونه من قهره عز وجل وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ
عَلى وُجُوهِهِمْ لا نجذابهم إلى الجهة السفلية عُمْياً
وَبُكْماً وَصُمًّا لأنها أحوال تناسب أحوالهم في الدنيا إِنَّ
الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذا يُتْلى
عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ سُجَّداً لعلمهم بحقيته،
ووقوفهم على ما أودع فيه من الأسرار وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ
يَبْكُونَ لعظمته أو شوقا لمنزله وحبا للقائه، قال أبو يعقوب
السوسي: البكاء على أنواع: بكاء من الله تعالى وهو أن يبكي
خوفا مما جرى به القلم في الفاتحة ويظهر في الخاتمة وبكاء على
الله عز وجل وهو أن يبكي تحسرا على ما يفوته من الحق تعالى،
وبكاء لله تبارك وتعالى وهو أن يبكي عند ذكره سبحانه وذكر وعده
ووعيده وبكاء بالله تعالى وهو أن يبكي بلا حظ منه في بكائه،
وقال القاسم: البكاء على وجوه بكاء الجهال على ما جهلوا وبكاء
العلماء على ما قصروا وبكاء الصالحين مخافة الفوت وبكاء الأئمة
مخافة السبق وبكاء الفرسان من أرباب القلوب للهيبة والخشية ولا
بكاء للموحدين، وفي الآية إشارة ما إلى السماع ولا أشرف من
سماع القرآن فهو الروح والريحان قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ
ادْعُوا الرَّحْمنَ قيل دعاء الله بالفناء في الذات ودعاء
الرحمن بالفناء في الصفة وصفة الرحمانية هي أم الصفات وبها
استوى سبحانه على عرشه، ومن ذلك يعلم أنه ليس المراد من
الإيجاد إلا رحمة الموجودين أَيًّا ما تَدْعُوا أي أيّا ما
طلبت من هذين المقامين فَلَهُ تعالى في هذين المقامين
الْأَسْماءُ الْحُسْنى لا لك إذ لست هناك بموجود أما في الفناء
في الذات فظاهر وأما في الفناء في الصفة المذكورة فلأن الرحمن
لا يصلح اسما لغير تلك الذات ولا يمكن ثبوت تلك الصفة لغيرها،
ولا يخفى عليك أن ضمير له على هذا التأويل عائد على ما عاد
إليه على التفسير. وفي الفتوحات المكية أنه تعالى جعل الأسماء
الحسنى لله كما هي للرحمن غير أن الاسم له معنى وصورة فيدعى
الله بمعنى الاسم ويدعى الرحمن بصورته لأن الرحمن هو المنعوت
بالنفس وبالنفس ظهرت الكلمات الإلهية في مراتب الخلاء الذي ظهر
فيه العالم فلا ندعوه إلا بصورة الاسم وله صورتان صورة عندنا
من أنفاسنا وتركيب حروفنا وهي التي ندعوه بها وهي أسماء
الأسماء الإلهية وهي كالخلع عليها ونحن بصورة هذه الأسماء
مترجمون عن الأسماء الإلهية ولها صور من نفس الرحمن من كونه
قائلا ومنعوتا بالكلام وخلف تلك الصور المعاني التي هي
كالأرواح للأسماء الإلهية التي يذكر الحق بها نفسه وهي من نفس
الرحمن فله الأسماء الحسنى وأرواح تلك الصور هي التي لاسم الله
خارجة عن حكم النفس لا تنعت بالكيفية
(8/186)
وهي لصور الأسماء النفسية الرحمانية
كالمعاني للحروف، ولما علمنا هذا وأمرنا بأن ندعوه سبحانه
وخيرنا بين الاسمين الجليلين فإن شئنا دعوناه بصور الأسماء
النفسية الرحمانية وهي الهمم الكونية التي في أرواحنا وإن شئنا
دعوناه بالأسماء التي من أنفاسنا بحكم الترجمة فإذا تلفظنا بها
أحضرنا في نفوسنا أما الله فننظر المعنى وأما الرحمن فننظر
صورة الاسم الإلهي النفسي الرحماني كيفما شئنا فعلنا فإن دلالة
الصورتين منا ومن الرحمن على المعنى واحد سواء علمنا ذلك أو لم
نعلمه اه، وهو كلام يعسر فهمه إلا على من شاء الله تعالى بيد
أنه ليس فيه حمل الدعاء على ما سمعت وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ
الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً فضلا عن أن
يكون له سبحانه ولد بطريق التولد وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ
فِي الْمُلْكِ فلا مدخل لغيره تعالى في ملكية شيء على الحقيقة
وما يوجد بسبب ليس السبب إلا آلة له ولا تملك الآلة شيئا بل لا
شيء إلا وهو صنعه تعالى على الحقيقة والسرير مثلا وإن أضيف إلى
النجار من حيث الصنعة إلا أنه في الحقيقة آلة كالقدوم ولا يضاف
العمل إلى الآلة على الحقيقة كذا قيل، وللشيخ قدس سره كلام في
هذا المقام يفصح عن بعض هذا ذكره في الباب الثامن والتسعين بعد
المائة فارجع إليه وتدبر، وكذا له كلام في هذا المقام يفصح عن
بعض هذا ذكره في الباب الثامن التسعين بعد المائة فارجع إليه
وتدبر، وكذا له كلام في قوله سبحانه وَلَمْ يَكُنْ لَهُ
وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ لكن يغني عنه ما قدمناه وَكَبِّرْهُ
تَكْبِيراً قال بعضهم: تكبيره تعالى أن تعلم أنك لا تطيق أن
تكبره إلا به، وقال ابن عطاء تكبيره عز وجل بتعظيم منته
وإحسانه في القلب بالعلم بالتقصير في الشكر وكيف يوفي أحد شكره
تعالى ونعمه جل وعلا لا تحصى وآلاؤه لا تستقصى، هذا وقد تم
بفضل الله تعالى تفسير هذه السورة الكريمة.
(8/187)
|