روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني

قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى (59) فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتَى (60) قَالَ لَهُمْ مُوسَى وَيْلَكُمْ لَا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى (61) فَتَنَازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى (62) قَالُوا إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَنْ يُخْرِجَاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِمَا وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى (63) فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلَى (64) قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى (65) قَالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى (66) فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى (67) قُلْنَا لَا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلَى (68) وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى (69) فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّدًا قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى (70) قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى (71) قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (72) إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى (73) إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى (74) وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُولَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَى (75) جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ مَنْ تَزَكَّى (76) وَلَقَدْ أَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا لَا تَخَافُ دَرَكًا وَلَا تَخْشَى (77)

مطمئن بحيث يستر الحاضرين فيه بعضهم عن بعض ومراده مكانا يتبين الواقفون فيه ولا يكون فيه ما يستر أحدا منهم ليرى كل ما يصدر منك ومن السحرة. وفيه من إظهار الجلادة وقوة الوثوق بالغلبة ما فيه، وهذا المعنى عندي حسن جدا وإليه ذهب جماعة، وقيل: المعنى مكانا تستوي حالنا فيه وتكون المنازل فيه واحدة لا تعتبر فيه رئاسة ولا تؤدى سياسة بل يتحد هناك الرئيس والمرءوس والسائس والمسوس ولا يخلو عن حسن، وربما يرجع إلى معنى منصفا أي محل نصف وعدل.
وقيل: سُوىً بمعنى غير والمراد مكانا غير هذا المكان وليس بشيء لأن سوى بهذا المعنى لا تستعمل إلا مضافة لفظا ولا تقطع عن الإضافة، وانتصاب مَكاناً على أنه مفعول به لفعل مقدر يدل عليه مَوْعِداً أي عد مكانا لا لموعدا لأنه كما قال ابن الحاجب: مصدر قد وصف والمنصوب بالمصدر من تتمته ولا يوصف الشيء إلا بعد تمامه فكان كوصف الموصول قبل تمام صلته وهو غير سائغ.
وعن بعض النحاة أنه يجوز وصف المصدر قبل العمل مطلقا وهو ضعيف، وقال ابن عطية: يجوز وصفه قبل العمل إذا كان المعمول ظرفا لتوسعهم فيه ما لم يتوسعوا في غيره، ومن هنا جوز بعضهم أن يكون مَكاناً منصوبا على الظرفية بموعدا. ورد بأن شرط النصب على الظرفية مفقود فيه، فقد قال الرضي: يشترط في نصب مَكاناً على الظرفية أن يكون في عامله معنى الاستقرار في الظرف كقمت وقعدت وتحركت مكانك فلا يجوز نحو كتبت الكتابة مكانك وقتلته وشتمته مكانك، وتعقب بأن ما ذكره الرضي غير مسل إذ لا مانع من قولك لمن أراد التقرب منك ليكلمك: تكلم مكانك، نعم لا يطرد حسن ذلك في كل مكان، ويجوز أن يكون ظرفا لقوله تعالى: لا نُخْلِفُهُ على أنه مضمن معنى المجيء أو الإتيان، وجوز أن يكون ظرفا لمحذوف وقع حالا من فاعل نُخْلِفُهُ ويقدر كونا خاصا لظهور القرينة أي آتين أو جائين مكانا.
وقرأ أبو جعفر ونافع وابن كثير وأبو عمرو «سوى» بكسر السين والتنوين وصلا، وقرأ باقي السبعة بالضم والتنوين كذلك، ووقف أبو بكر وحمزة والكسائي بالإمالة وورش وأبو عمرو بين بين.
وقرأ الحسن في رواية كباقي السبعة إلا أنه لم ينون وقفا ووصلا، وقرأ عيسى كالأولين إلا أنه لم ينون وقفا ووصلا أيضا، ووجه عدم التنوين في الوصل إجراؤه مجرى الوقف في حذف التنوين والضم والكسر كما قال محيي السنة. وغيره لغتان في سوى مثل عدي وعدى.
وذكر بعض أهل اللغة أن فعلا بكسر الفاء مختص بالأسماء الجامدة كعنب ولم يأت منه في الصفة إلا عدا جمع عدو، وزاد الزمخشري سوى. وغيره روى بمعنى مرو، وقال الأخفش: سوى مقصور إن كسرت سينه أو ضممت وممدود إن فتحت ففيه ثلاث لغات ويكون فيها جميعا بمعنى غير وبمعنى عدل ووسط بين الفريقين، وأعلى اللغات على ما قال النحاس سوى بالكسر قالَ أي موسى عليه السّلام، قال في البحر: وأبعد من قال إن القائل فرعون ولعمري إنه لا ينبغي أن يلتفت إليه، وكأن الذي اضطر قائله الخبر السابق عن وهب بن منبه فليتذكر

(8/529)


مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ هو يوم عيد كان لهم في كل عام يتزينون فيه ويزينون أسواقهم كما روي عن مجاهد.
وقتادة، وقيل: يوم النيروز وكان رأس سنتهم.
وأخرج سعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن المنذر عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه يوم عاشوراء وبذلك فسر في قوله صلّى الله عليه وسلّم: «من صام يوم الزينة أدرك ما فاته من صيام تلك السنة ومن تصدق يومئذ بصدقة أدرك ما فاته من صدقة تلك السنة» ،
وقيل: يوم كسر الخليج، وفي البحر أنه باق إلى اليوم، وقيل: يوم سوق لهم، وقيل: يوم السبت وكان يوم راحة ودعة فيما بينهم كما هو اليوم كذلك بين اليهود، وظاهر صنيع أبي حيان اختيار أنه يوم عيد صادف يوم عاشوراء، وكان يوم سبت.
والظاهر أن الموعد هاهنا اسم زمان للإخبار عنه بيوم الزينة أي زمان وعدكم اليوم المشتهر فيما بينكم، وإنما لم يصرح عليه السّلام بالوعد بل صرح بزمانه مع أنه أول ما طلبه اللعين منه عليه السّلام للإشارة إلى أنه عليه السّلام أرغب منه فيه لما يترتب عليه من قطع الشبهة وإقامة الحجة حتى كأنه وقع منه عليه السّلام قبل طلبه إياه فلا ينبغي له طلبه، وفيه إيذان بكمال وثوقه من أمره، ولذا خص عليه السّلام من بين الأزمنة يوم الزينة الذي هو يوم مشهود وللاجتماع معدود، ولم يذكر عليه السّلام المكان الذي ذكره اللعين لأنه بناء على المعنى الأول والثالث فيه إنما ذكره اللعين إيهاما للتفضل عليه عليه السّلام يريد بذلك إظهار الجلادة فأعرض عليه السّلام عن ذكره مكتفيا بذكر الزمان المخصوص للإشارة إلى استغنائه عن ذلك وأن كل الأمكنة بعد حصول الاجتماع بالنسبة إليه سواء. وأما على المعنى الثاني فيحتمل أنه عليه السّلام اكتفى عن ذلك بما يستدعيه يوم الزينة فإن من عادة الناس في الأعياد في كل وقت وكل بلد الخروج إلى الأمكنة المستوية والاجتماع في الأرض السهلة التي لا يمنع فيها شيء عن رؤية بعضهم بعضا، وبالجملة قد أخرج عليه الصلاة والتسليم جوابه على الأسلوب الحكيم، ولله تعالى در الكليم ودره النظيم، وقيل: الموعد هاهنا

(8/530)


مصدر أيضا ويقدر مضاف لصحة الأخبار أي وعدكم وعد يوم الزينة، ويكتفي عن ذكر المكان بدلالة يوم الزينة عليه، وقيل: الموعد في السؤال اسم مكان وجعله مخلفا على التوسع كما في قوله: ويوما شهدنا أو الضمير في لا نُخْلِفُهُ للوعد الذي تضمنه اسم المكان على حد اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى [المائدة: 8] أو للموعد بمعنى الوعد على طريق الاستخدام، والجملة في الاحتمالين معترضة.
ولا يجوز أن تكون صفة إذ لا بد في جملة الصفة من ضمير يعود على الموصوف بعينه، والقول بحذفه ليس بشيء ومَكاناً على ما قال أبو علي مفعول ثان لأجعل، وقيل: بدل أو عطف بيان، والموعد في الجواب اسم زمان ومطابقة الجواب من حيث المعنى فإن يوم الزينة يدل على مكان مشتهر باجتماع الناس يومئذ فيه أو هو اسم مكان أيضا ومعناه مكان وقوع الموعود به لا مكان لفظ الوعد كما توهم ويقدر مضاف لصحة الأخبار أي مكان يوم الزينة والمطابقة ظاهرة، وقيل: الموعد في الأول مصدر إلا أنه حذف منه المضاف أعني مكان وأقيم هو مقامه ويجعل مَكاناً تابعا للمقدر أو مفعولا ثانيا وفي الثاني أما اسم زمان ومعناه زمان وقوع الموعود به لا لفظ الوعد كما يرشد إليه قوله:
قالوا الفراق فقلت موعده غد والمطابقة معنوية وأما اسم مكان، ويقدر مضاف في الخبر والمطابقة ظاهرة كما سمعت، وأما مصدر أيضا ويقدر مضافان أحدهما في جانب المبتدأ والآخر في جانب الخبر أي مكان وعدكم مكان يوم الزينة وأمر المطابقة لا يخفى، وقيل: يقدر في الأول مضافان أي مكان إنجاز وعدكم أو مضاف واحد لكن تصير الإضافة لأدنى ملابسة، والأظهر تأويل المصدر بالمفعول وتقدير مضاف في الثاني أي موعدكم مكان يوم الزينة وهو مبني على توهم باطل أشرنا إليه، وقيل: هو في الأول والثاني اسم زمان ولا نُخْلِفُهُ من باب الحذف والإيصال والأصل لا نخلف فيه ومَكاناً ظرف لا جعل وإلى هذا أشار في الكشف فقال: لعل الأقرب مأخذا أن يجعل المكان مخلفا على الاتساع والطباق من حيث المعنى أو المعنى اجعل بيننا وبينك في مكان سوى منصف زمان وعد لا نخلف فيه فالمطابقة حاصلة لفظا ومعنى ومَكاناً ظرف لغو انتهى.
واعترض بما لا يخفى رده على من أحاط خبرا بأطراف كلامنا. وأنت تعلم أن الاحتمالات في هذه الآية كثيرة جدا والأولى منها ما هو أوفق بجزالة التنزيل مع قلة الحذف والخلو عن نزع الخف قبل الوصول إلى الماء فتأمل.
وقرأ الحسن والأعمش وعاصم في رواية وأبو حيوة وابن أبي عبلة وقتادة الجحدري، وهبيرة والزعفراني «يوم الزينة» بنصب «يوم» وهو ظاهر في أن المراد بالموعد المصدر لأن المكان والزمان لا يقعان في زمان بخلاف الحدث، أما الأول فلأنه لا فائدة فيه لحصوله في جميع الأزمنة وأما الثاني فلأن الزمان لا يكون ظرفا للزمان ظرفية حقيقية لأنه يلزم حلول الشيء في نفسه، وأما مثل ضحى اليوم في اليوم فهو من ظرفية الكل لأجزائه وهي ظرفية مجازية وما نحن فيه ليس من هذا القبيل كذا قيل وفيه منع ظاهر.
وقيل: إنه يستدل بظاهر ذلك على كون الموعد أولا مصدرا أيضا لأن الثاني عين الأول لإعادة النكرة معرفة، وفي الكشف لعل الأقرب مأخذا على هذه القراءة أن يجعل الأول زمانا، والثاني مصدرا أي وعدكم كائن يوم الزينة.
والجواب مطابق معنى دون تكلف إذ لا فرق بين زمان الوعد يوم كذا رفعا وبين الوعد يوم كذا نصبا في الحاصل بل هو من الأسلوب الحكيم لاشتماله على زيادة، وقوله تعالى وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى عطف على الزينة، وقيل: على يوم، والأول أظهر لعدم احتياجه إلى التأويل، وانتصب ضُحًى على الظرف وهو ارتفاع النهار

(8/531)


ويؤنث ويذكر، والضحاء بفتح الضاد ممدود مذكر، وهو عند ارتفاع النهار الأعلى.
وجوز على القراءة بنصب يَوْمُ أن يكون مَوْعِدُكُمْ مبتدأ بتقدير وقت مضاف إليه على أنه من باب أتيتك خفوق النجم، والظرف متعلق به وضُحًى خبره على نية التعريف فيه لأنه ضحى ذلك اليوم بعينه ولو لم يعرف لم يكن مطابقا لمطلبهم حيث سألوه عليه السّلام موعدا معينا لا يخلف وعده، وقيل: يجوز أن يكون الموعد زمانا وضُحًى خبره ويَوْمُ الزِّينَةِ حالا مقدما وحينئذ يستغني عن تعريف ضحى وليس بشيء ثم إن هذا التعريف بمعنى التعيين معنى لا على معنى جعل ضُحًى أحد المعارف الاصطلاحية كما قد يتوهم.
وقال الطيبي: قال ابن جني: يجوز أن يكون أَنْ يُحْشَرَ عطفا على الموعد كأنه قيل: إنجاز موعدكم وحشر الناس ضحى في يوم الزينة. وكأنه جعل الموعد عبارة عما يتجدد في ذلك اليوم من الثواب والعقاب وغيرهما سوى الحشر ثم عطف الحشر عليه عطف الخاص على العام اه وهو كما ترى.
وقرأ ابن مسعود والجحدري وأبو عمران الجوني وأبو نهيك وعمرو بن قائد «تحشر الناس» بتاء الخطاب ونصب «الناس» والمخاطب بذلك فرعون. وروي عنهم أنهم قرؤوا بياء الغيبة ونصب «الناس» والضمير في «يحشر» على هذه القراءة إما لفرعون وجيء به غائبا على سنن الكلام مع الملوك، وإما لليوم والإسناد مجازي كما في صام نهاره، وقال صاحب اللوامح: الفاعل محذوف للعلم به أي وأن يحشر الحاشر الناس.
وأنت تعلم أن حذف الفاعل في مثل هذا لا يجوز عند البصريين، نعم قيل في مثله: إن الفاعل ضمير يرجع إلى اسم الفاعل المفهوم من الفعل فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ أي انصرف عن المجلس، وقيل: تولى الأمر بنفسه وليس بذاك.
وقيل: أعرض عن قبول الحق وليس بشيء فَجَمَعَ كَيْدَهُ أي ما يكاد به من السحرة وأدواتهم أو ذوي كيده ثُمَّ أَتى أي الموعد ومعه ما جمعه. وفي كلمة التراخي إيماء إلى أنه لم يسارع إليه بل أتاه بعد بطء وتلعثم، ولم يذكر سبحانه إتيان موسى عليه السّلام بل قال جل وعلا قالَ لَهُمْ مُوسى للإيذان بأنه أمر محقق غني عن التصريح به، والجملة مستأنفة استئنافا بيانيا كأنه قيل: فماذا صنع موسى عليه السّلام عند إتيان فرعون بمن جمعه من السحرة. فقيل:
قال لهم بطريق النصيحة وَيْلَكُمْ لا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِباً بأنت تدعوا آياته التي ستظهر على يدي سحرا كما فعل فرعون فَيُسْحِتَكُمْ أي يستأصلكم بسبب ذلك، بِعَذابٍ هائل لا يقادر قدره. وقرأ جماعة من السبعة وابن عباس «فيسحتكم» بفتح الياء والحاء من الثلاثي على لغة أهل الحجاز والإسحات لغة نجد وتميم، وأصل ذلك استقصاء الحلق للشعر ثم استعمل في الإهلاك والاستئصال مطلقا وَقَدْ خابَ مَنِ افْتَرى أي على الله تعالى كائنا من كان بأي وجه كان فيدخل فيه الافتراء المنهي عنه دخولا أوليا أو قد خاب فرعون المفتري فلا تكونوا مثله في الخيبة وعدم نجح الطلبة، والجملة اعتراض مقرر لمضمون ما قبلها.
فَتَنازَعُوا أي السحرة حين سمعوا كلامه عليه السّلام كأن ذلك غاظهم فتنازعوا أَمْرَهُمْ الذي أريد منهم من مغالبته عليه السّلام وتشاوروا وتناظروا بَيْنَهُمْ في كيفية المعارضة وتجاذبوا أهداب القول في ذلك وَأَسَرُّوا النَّجْوى بالغوا في إخفاء كلامهم عن موسى وأخيه عليهما السّلام لئلا يقفا عليه فيدافعاه، وكان نجواهم على ما قاله جماعة منهم الجبائي وأبو مسلم ما نطق به قوله تعالى قالُوا أي بطريق التناجي والإسرار إِنْ هذانِ لَساحِرانِ إلخ فإنه تفسير لذلك ونتيجة التنازع وخلاصة ما استقرت عليه آراؤهم بعد التناظر والتشاور.
وقيل: كان نجواهم أن قالوا حين سمعوا مقالة موسى عليه السّلام ما هذا بقول ساحر، وروي ذلك عن محمد ابن إسحاق. وقيل: كان ذلك أن قالوا: إن غلبنا موسى اتبعناه، ونقل ذلك عن الفراء والزجاج.

(8/532)


وقيل: كان ذلك إن قالوا: إن كان هذا ساحرا فسنغلبه وإن كان من السماء فله أمر، وروي ذلك عن قتادة، وعلى هذه الأقوال يكون المراد من أَمْرَهُمْ أمر موسى عليه السّلام وإضافته إليهم لأدنى ملابسة لوقوعه فيما بينهم واهتمامهم به ويكون أسرارهم من فرعون وملئه، ويحمل قولهم: إِنْ هذانِ لَساحِرانِ إلخ على أنهم اختلفوا فيما بينهم من الأقاويل المذكورة ثم استقرت آراؤهم على ذلك وأبوا إلا المناصبة للمعارضة وهو كلام مستأنف استئنافا بيانيا كأنه قيل: فماذا قالوا للناس بعد تمام التنازع فقيل: قالُوا إِنْ هذانِ إلخ.
وجعل الضمير في قالُوا: لفرعون وملئه على أنهم قالوا ذلك للسحرة ردا لهم عن الاختلاف وأمرا بالإجماع والإزماع وإظهار الجلادة مخل بجزالة النظم الكريم كما يشهد به الذوق السليم، نعم لو جعل ضمير «تنازعوا» والضمائر الذي بعده لهم كما ذهب إليه أكثر المفسرين أيضا لم يكن فيه ذلك الإخلال وإن مخففة من أن وقد أهملت عن العمل واللام فارقة.
وقرأ ابن كثير بتشديد نون هذانِ وهو على خلاف القياس للفرق بين الأسماء المتمكنة وغيرها.
وقال الكوفيون: إن نافية واللام بمعنى إلا أي ما هذان إلا ساحران. ويؤيده أنه قرىء كذلك. وفي رواية عن أبي أنه قرى «إن هذان إلا ساحران» . وقرىء «إن ذان» بدون هاء التنبيه «إلا ساحران» . وعزاها ابن خالويه إلى عبد الله وبعضهم إلى أبي وهي تؤيد ذلك أيضا. وقرىء «إن ذان لساحران» بإسقاط هاء التنبيه فقط.
وقرأ أبو جعفر والحسن وشيبة والأعمش وطلحة وحميد وأيوب وخلف في اختياره وأبو عبيد وأبو حاتم وابن عيسى الأصبهاني وابن جرير: وابن جبير الأنطاكي. والأخوان. والصاحبان من السبعة «إنّ» بتشديد النون «هذان» بألف ونون خفيفة، واستشكلت هذه القراءة حتى قيل: إنها لحن وخطأ بناء على ما أخرجه أبو عبيد في فضائل القرآن عن هشام بن عروة عن أبيه قال: سألت عائشة رضي الله تعالى عنها عن لحن القرآن عن قوله تعالى إِنْ هذانِ لَساحِرانِ. وعن قوله تعالى وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكاةَ [النساء: 162] وعن قوله تعالى وَالَّذِينَ هادُوا وَالصَّابِئُونَ [المائدة: 69] فقالت: يا ابن أخي هذا عمل الكتاب أخطؤوا في الكتاب، وإسناده صحيح على شرط الشيخين كما قال الجلال السيوطي. وهذا مشكل جدا إذ كيف يظن بالصحابة أولا أنهم يلحنون في الكلام فضلا عن القرآن وهم الفصحاء اللد، ثم كيف يظن بهم ثانيا الغلط في القرآن الذي تلقوه من النبي صلّى الله عليه وسلّم كما أنزل ولم يألوا جهدا في حفظه وضبطه وإتقانه، ثم كيف يظن بهم ثالثا اجتماعهم كلهم على الخطا وكتابته، ثم كيف يظن بهم رابعا عدم تنبههم ورجوعهم عنه، ثم كيف يظن خامسا الاستمرار على الخطا وهو مروي بالتواتر خلفا عن سلف ولو ساغ مثل ذلك لارتفع الوثوق بالقرآن.
وقد خرجت هذه القراءة على وجوه الأول أن إِنْ بمعنى نعم وإلى ذلك ذهب جماعة منهم المبرد والأخفش الصغير وأنشدوا قوله:
بكر العواذل في الصبو ... ح يلمنني وألومهنه

ويقلن شيب قد علا ... ك وقد كبرت فقلت إنه
والجيد الاستدلال بقول ابن الزبير رضي الله تعالى عنهما لمن قال له: لعن الله ناقة حملتني إليك إن وراكبها إذ قد قيل: في البيت إنا لا نسلم أن إن فيه بمعنى نعم والهاء للسكت بل هي الناصبة والهاء ضمير منصوب بها والخبر محذوف أي إنه كذلك ولا يصح أن يقال: إنها في الخبر كذلك وحذف الجزءان لأن حذف الجزأين جميعا لا يجوز.
وضعف هذا الوجه بأن كونها بمعنى نعم لم يثبت، أو هو نادر. وعلى تقدير الثبوت من غير ندرة ليس قبلها ما يقتضي

(8/533)


جوابا حتى تقع نعم في جوابه. والقول بأنه يفهم من صدر الكلام أن منهم من قال: هما ساحران فصدق وقيل: نعم بعيد. ومثله القول بأن ذلك تصديق لما يفهم من قول فرعون: أَجِئْتَنا لِتُخْرِجَنا مِنْ أَرْضِنا بِسِحْرِكَ يا مُوسى [طه:
57] وأيضا إن لام الابتداء لا تدخل على خبر المبتدأ.
وأجيب عن هذا بأن اللام زائدة وليس للابتداء كما في قوله:
أم الحليس لعجوز شهربه ... ترضى من اللحم بعظم الرقبة
أو بأنها داخلة على مبتدأ محذوف أي لهما ساحران، كما اختاره الزجاج وقال: عرضته على عالمنا وشيخنا وأستاذنا محمد بن زيد يعني المبرد. والقاضي إسماعيل بن إسحاق بن حماد فقبلاه، وذكرا أنه أجود ما سمعناه في هذا أو بأنها دخلت بعد إن هذه لشبهها بأن المؤكدة لفظا كما زيدت أن بعد ما المصدرية لمشابهتها للنافية في قوله:
ورج الفتى للخير ما إن رأيته ... على السن خيرا لا يزال يزيد
ورد الأول بأن زيادتها في الخبر خاصة بالشعر وما هنا محل النزاع فلا يصح الاحتجاج به كما توهم النيسابوري وزيف الثاني أبو علي في الإغفال بما خلاصته أن التأكيد فيما خيف لبسه فإذا بلغ به الشهرة الحذف استغنى لذلك عن التأكيد، ولو كان ما ذكر وجها لم يحمل نحو لعجوز شهربة على الضرورة ولا تقاس على أن حيث حذف معها الخبر في أن محلا وأن مرتحلا وان اجتمعا في التأكيد لأنها مشبهة بلا وحمل والنقيض على النقيض شائع، وابن جني بأن الحذف من باب الإيجاز والتأكيد من باب الإطناب والجمع بينهما محال للتنافي.
وأجيب: بأن الحذف لقيام القرينة والاستغناء غير مسلم والتأكيد لمضمون الجملة لا للمحذوف والحمل في البيت ممكن أيضا واقتصارهم فيه على الضرورة ذهول وكم ترك الأول للآخر واجتماع الإيجاز والإطناب مع اختلاف الوجه غير محال. وأصدق شاهد على دخول اللام في مثل هذا الكلام ما رواه الترمذي وأحمد وابن ماجة «أغبط أوليائي عندي لمؤمن خفيف الحاذ» نعم لا نزاع في شذوذ هذا الحذف استعمالا وقياسا.
الثاني أن إن من الحروف الناصبة واسمها ضمير الشأن وما بعد مبتدأ وخبر والجملة خبرها، وإلى ذلك ذهب قدماء النحاة. وضعف بأن ضمير الشأن موضوع لتقوية الكلام وما كان كذلك لا يناسبه الحذف والمسموع من حذفه كما في قوله:
إن من لام في بني بنت حسا ... ن ألمه وأعصه في الخطوب
وقوله:
إن من يدخل الكنيسة يوما ... يلق فيها جاذرا وظباء
ضرورة أو شاذ إلا في باب أن المفتوحة إذا خففت فاستسهلوه لوروده في كلام بني على التخفيف فحذف تبعا لحذف النون ولأنه لو ذكر لوجب التشديد إذ الضمائر ترد الأشياء إلى أصولها، ثم يرد بحث دخول اللام في الخبر، وإن التزم تقدير مبتدأ داخلة هي عليه فقد سمعت ما فيه من الجرح والتعديل، الثالث أنها الناصبة وهاء ضمير القصة اسمها وجملة ذان لَساحِرانِ خبرها، وضعف بأنه يقتضي وصل ها بأن من إثبات الألف وفصل ها من «ذان» في الرسم وما في المصحف ليس كذلك، ومع ذلك يرد بحث دخول اللام.
الرابع: أن إن ملغاة وإن كانت مشددة حملا لها على المخففة وذلك كما أعملت المخففة حملا لها عليها في قوله تعالى: «وإن كلا لما ليوفينهم» أو حطا لرتبتها عن الفعل لأن عملها ليس بالأصالة بل بالشبه له وما بعدها مبتدأ

(8/534)


وخبر وإلى ذلك ذهب علي بن عيسى وفيه أن هذا الإلغاء لم ير في غير هذا الموضع وهو محل النزاع وبحث اللام فيه بحاله. والخامس: وهو أجود الوجوه وأوجهها. واختاره أبو حيان وابن مالك والأخفش وأبو علي الفارسي وجماعة أنها الناصبة واسم الإشارة اسمها: واللام لام الابتداء و «ساحران» خبرها ومجيء اسم الإشارة بالألف مع أنه منصوب جار على لغة بعض العرب من إجراء المثنى بالألف دائما قال شاعرهم:
واها لريا ثم واها واها ... يا ليت عيناها لنا وفاها

وموضع الخلخال من رجلاها ... بثمن نرضي به أباها
وقال الآخر:
وأطرق إطراق الشجاع ولو يرى ... مساغا لنا باه الشجاع لصمما
وقالوا: ضربته بين أذناه ومن يشتري الخفان وهي لغة لكنانة حكى ذلك أبو الخطاب ولبني الحارث بن كعب وخثعم وزبيد وأهل تلك الناحية حكى ذلك الكسائي ولبني العنبر وبني الهيجم ومراد وعذرة وقال أبو زيد: سمعت من العرب من يقلب كل ياء ينفتح ما قبلها ألفا، وابن الحاجب يقول:
إن هذانِ مبني لدلالته على معنى الإشارة: وإن قول الأكثرين هذين جرا ونصبا ليس إعرابا أيضا.
قال ابن هشام: وعلى هذا فقراءة هذان أقيس إذ الأصل في المبنى أن لا تختلف صيغته مع أن فيها مناسبة لألف «ساحران» اه. وأما الخبر السابق عن عائشة فقد أجاب عنه ابن أشته وتبعه ابن جبارة في شرح الرائية بأن قولها: اخطؤوا على معنى أخطؤوا في اختيار الأولى من الأحرف السبعة لجمع الناس عليه لا أن الذي كتبوا من ذلك خطأ لا يجوز فإن ما لا يجوز من كل شيء مردود بالإجماع وإن طالت مدة وقوعه وبنحو هذا يجاب عن أخبار رويت عنها أيضا.
وعن ابن عباس في هذا الباب تشكل ظواهرها. ثم أخرج عن إبراهيم النخعي أنه قال: إن هذان لساحران وإن هذين لساحران سواء لعلهم كتبوا الألف مكان الياء يعني أنه من إبدال حرف في الكتابة بحرف كما وقع في صلاة وزكاة وحياة. ويرد على هذا أنه إنما يحسن لو كانت القراءة بالياء في ذلك. ثم أنت تعلم أن الجواب المذكور لا يحسم مادة الإشكال لبقاء تسمية عروة ذلك في السؤال لحنا اللهم إلا أن يقال: أراد باللحن اللغة كما قال ذلك ابن اشته في قوله ابن جبير المروي عنه بطرق في وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ [النساء: 162] هو لحن من الكاتب أو يقال: أراد به اللحن بحسب بادىء الرأي وابن الأنباري جنح إلى تضعيف الروايات في هذا الباب ومعارضتها بروايات أخر عن ابن عباس. وغيره تدل على ثبوت الأحرف التي قيل فيها ما قيل في القراءة. ولعل الخبر الساق الذي ذكر أنه صحيح الإسناد على شرط الشيخين داخل في ذلك لكن قال الجلال السيوطي: إن الجواب الأول الذي ذكره ابن اشته أولى وأقعد. وقال العلاء فيما أخرجه ابن الأنباري وغيره عن عكرمة قال: لما كتبت المصاحف عرضت على عثمان فوجد فيها حروفا من اللحن فقال: لا تغيروها فإن العرب ستغيرها أو قال: ستقرؤها بألسنتها لو كان الكاتب من ثقيف والمملى من هذيل لم توجد فيه هذه الحروف إن ذلك لا يصح عن عثمان فإن إسناده ضعيف مضطرب منقطع.
والذي أجنح أنا إليه والعاصم هو الله تعالى تضعيف جميع ما ورد مما فيه طعن بالمتواتر ولم يقبل تأويلا ينشرح له الصدر ويقبله الذوق وإن صححه من صححه. والطعن في الرواة أهون بكثير من الطعن بالأئمة الذين تلقوا القرآن العظيم الذي وصل إلينا بالتواتر من النبي صلّى الله عليه وسلّم ولم يألوا جهدا في إتقانه وحفظه.
وقد ذكر أهل المصطلح أن مما يدرك به وضع الخبر ما يؤخذ من حال المروي كأن يكون مناقضا لنص القرآن أو السنة المتواترة أو الإجماع القطعي أو صريح العقل حيث لا يقبل شيء من ذلك التأويل أو لم يحتمل سقوط شيء

(8/535)


منه يزول به المحذور فلو قال قائل بوضع بعض هاتيك الأخبار لم يبعد والله تعالى أعلم.
وقرأ أبو عمرو «إن هذين» بتشديد نون «إن» وبالياء في «هذين» . وروي ذلك عن عائشة والحسن والأعمش والنخعي والجحدري وابن جبير وابن عبيد وإعراب ذلك واضح إذ جاء على المهيع المعروف في مثله لكن في الدر المصون قد استشكلت هذه القراءة بأنها مخالفة لرسم الإمام فإن اسم الإشارة فيه بدون ألف وياء فإثبات الياء زيادة عليه. ولذا قال الزجاج: أنا لا أجيزها وليس بشيء لأنه مشترك الإلزام ولو سلم فكم في القراءات ما خالف رسمه القياس مع أن حذف الألف ليس على القياس أيضا.
يُرِيدانِ أَنْ يُخْرِجاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ أي أرض مصر بالاستيلاء عليها بِسِحْرِهِما الذي أظهراه من قبل، ونسبة ذلك لهارون لما أنهم رأوه مع موسى عليهما السلام سالكا طريقته. وهذه الجملة صفة أو خبر بعد خبر.
وَيَذْهَبا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلى أي بمذهبكم الذي هو أفضل المذاهب وأمثلها بإظهار مذهبهما وإعلاء دينهما يريدون به ما كان عليه قوم فرعون لا طريقة السحر فإنهم ما كانوا يعتقدونه دينا. وقيل: أرادوا أهل طريقتكم فالكلام على تقدير مضاف. والمراد بهم بنو إسرائيل لقول موسى عليه السلام «أرسل معنا بني إسرائيل» وكانوا أرباب علم فيما بينهم.
وأخرج ذلك ابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس وتعقب بأن إخراجهم من أرضهم إنما يكون بالاستيلاء عليها تمكنا وتصرفا فكيف يتصور حينئذ نقل بني إسرائيل إلى الشام. وحمل الإخراج على إخراج بني إسرائيل منها مع بقاء قوم فرعون على حالهم مما يجب تنزيه التنزيل عن أمثاله، على أن هذا المقال منهم للإغراء بالمبالغة في المغالبة والاهتمام بالمناصبة فلا بد أن يكون الإنذار والتحذير بأشد المكاره وأشقها عليهم، ولا ريب في أن إخراج بني إسرائيل من بينهم والذهاب بهم إلى الشام وهم آمنون في ديارهم ليس فيه كثير محذور وهو كلام يلوح عليه مخايل القبول فلعل الخبر عن الحبر لا يصح.
وأخرج ابن المنذر. وابن أبي حاتم أيضا عن مجاهد أن الطريقة اسم لوجوه القوم وأشرافهم. وحكى فلان طريقة قومه أي سيدهم. وكأن إطلاق ذلك على الوجوه مجاز لاتباعهم كما يتبع الطريق،
وأخرجا عن علي كرم الله تعالى وجهه أن إطلاق ذلك عليهم بالسريانية،
وكأنهم أرادوا بهؤلاء الوجوه الوجوه من قوم فرعون أرباب المناصب وأصحاب التصرف والمراتب فيكونوا قد حذروهم بالإخراج من أوطانهم وفصل ذوي المناصب منهم عن مناصبهم وفي ذلك غاية الذل والهوان ونهاية حوادث الزمان، فما قيل: إن تخصيص الإذهاب بهم مما لا مزية فيه ليس بشيء، وقيل: إنهم أرادوا بهم بني إسرائيل أيضا لأنهم كانوا أكثر منهم نسبا وأشرف نسبا وفيه ما مر آنفا، واعترض أيضا بأنه ينافيه استعبادهم واستخدامهم وقتل أولادهم وسومهم العذاب.
وأجيب بالمنع فكم من متبوع مقهور وشريف بأيدي الأنذال مأسور وهو كما ترى فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ تصريح بالمطلوب إثر تمهيد المقدمات. والفاء فصيحة أي إذا كان الأمر كما ذكر من كونهما ساحرين يريدان بكم ما يريدان فأزمعوا كيدكم واجعلوه مجمعا عليه بحيث لا يتخلف عنه منكم أحد وارموا عن قوس واحدة.
وقرأ الزهري وابن محيصن وأبو عمرو ويعقوب في رواية وأبو حاتم «فأجمعوا» بوصل الهمزة وفتح الميم من الجمع. ويعضده قوله تعالى فَجَمَعَ كَيْدَهُ وفي الفرق بين جمع وأجمع كلام للعلماء. قال ابن هشام: إن أجمع يتعلق بالمعاني فقط وجمع مشترك بين المعاني والذوات. وفي عمدة الحفاظ حكاية القول بأن أجمع أكثر ما يقال في المعاني وجمع في الأعيان فيقال: أجمعت أمري وجمعت قومي وقد يقال بالعكس.

(8/536)


وفي المحكم أنه يقال: جمع الشيء عن تفرقة يجمعه جمعا وأجمعه فلم يفرق بينهما، وقال الفراء: إذا أردت جمع المتفرق قلت: جمعت القوم فهم مجموعون وإذا أردت جمع المال قلت جمعت بالتشديد ويجوز تخفيفه والإجماع الاحكام والعزيمة على الشيء ويتعدى بنفسه وبعلى تقول: أجمعت الخروج وأجمعت على الخروج، وقال الأصمعي: يقال جمعت الشيء إذا جئت به من هنا ومن هنا وأجمعته إذا صيرته جميعا، وقال أبو الهيثم: أجمع أمره أي جعله جميعا وعزم عليه بعد ما كان متفرقا وتفرقته أن يقول مرة أفعل كذا ومرة أفعل كذا والجمع أن يجمع شيئا إلى شيء، وقال الفراء: في هذه الآية على القراءة الأولى أي لا تدعوا شيئا من كيدكم إلا جئتم به ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا أي مصطفين أمروا بذلك لأنه أهيب في صدور الرائين وادخل في استجلاب الرهبة من المشاهدين. قيل: كانوا سبعين ألفا مع كل منهم حبل وعصا وأقبلوا عليه عليه السلام إقبالة واحدة، وقيل: كانوا اثنين وسبعين ساحرا اثنان من القبط والباقي من بني إسرائيل، وقيل: تسعمائة ثلاثمائة من الفرس وثلاثمائة من الروم وثلاثمائة من الإسكندية، وقيل: خمسة عشر ألفا، وقيل: بضعة وثلاثين ألفا، ولا يخفى حال الأخبار في ذلك والقلب لا يميل إلى المبالغة والله تعالى أعلم، ولعل الموعد كان مكانا متسعا خاطبهم موسى عليه السلام بما ذكر في قطر من أقطاره وتنازعوا أمرهم في قطر آخر منه ثم أمروا أن يأتوا وسطه على الحال المذكورة، وقد فسر أبو عبيدة الصف بالمكان الذي يجتمعون فيه لعيدهم وصلواتهم وفيه بعد، وكأنه علم لموضع معين من مكان يوم الزينة، وعلى هذا التفسير يكون صَفًّا مفعولا به.
وقرأ شبل بن عباد وابن كثير في رواية شبل عنه «ثم ايتوا» بكسر الميم وإبدال الهمزة ياء. قال أبو علي: وهذا غلط ولا وجه لكسر الميم من ثم، وقال صاحب اللوامح: إن ذلك لالتقاء الساكنين كما كانت الفتحة في قراءة العامة كذلك وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلى اعتراض تذييلي من قبلهم مؤكد لما قبله من الأمرين أي قد فاز بالمطلوب من غلب. فاستفعل بمعنى فعل كما في الصحاح أو من طلب العلو والغلب وسعى سعيه على ما في البحر. فاستفعل على بابه، ولعله أبلغ في التحريض حيث جعلوا الفوز لمن طلب الغلب فضلا عمن غلب بالفعل وأرادوا بالمطلوب ما وعدهم فرعون من الأجر والتقريب حسبما نطق به قوله تعالى وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ [الأعراف: 114] وبمن استعلى أنفسهم جميعا على طريقة قولهم بعزة فرعون إِنَّا لَنَحْنُ الْغالِبُونَ [الشعراء: 44] أو من استعلى منهم حثا على بذل المجهود في المغالبة.
وقال الراغب: الاستعلاء قد يكون لطلب العلو المذموم وقد يكون لغيره وهو هاهنا يحتملهما فلهذا جاز أن يكون هذا الكلام محكيا عن هؤلاء القائلين للتحريض على إجماعهم واهتمامهم وأن يكون من كلام الله عز وجل فالمستعلى موسى. وهارون عليهما السلام ولا تحريض فيه.
وأنت تعلم أن الظاهر هو الأول قالُوا استئناف بياني كأنه قيل: فماذا فعلوا بعد ما قالوا ذلك؟ فقيل قالوا:
يا مُوسى وإنما لم يتعرض لإجماعهم وإتيانهم مصطفين إشعارا بظهور أمرهما وغنائهما عن البيان إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ أي ما تلقيه أولا على أن المفعول محذوف لظهوره أو تفعل الإلقاء أولا على أن الفعل منزل منزلة اللازم وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقى ما يلقيه أو أول من يفعل الإلقاء خيروه عليه السلام وقدموه على أنفسهم إظهارا للثقة بأمرهم، وقيل: مراعاة للأدب معه عليه السلام. وأن مع ما في حيزها منصوب بفعل مضمر أي إما تختار إلقاءك أو تختار كوننا أول من ألقى أو مرفوع على أنه خبر لمبتدأ محذوف أي الأمر إما إلقاؤك أو كوننا أول من ألقى. واختار أبو حيان كونه مبتدأ محذوف الخبر أي إلقاؤك أول بقرينة إِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقى وبه تتم المقابلة لكنها معنوية قالَ استئناف كما مر كأنه قيل فماذا قال عليه السلام؟ فقيل قال: بَلْ أَلْقُوا أنتم أولا إظهارا لعدم المبالاة بسحرهم وإسعافا لما

(8/537)


أوهموا من الميل إلى البدء في شقهم حيث غيروا النظم إلى وجه أبلغ إذ كان الظاهر أن يقولوا: وإما أن نلقي وليبرزوا ما معهم ويستفرغوا جهدهم ويستنفذوا قصارى وسعهم ثم يظهر الله تعالى شأنه سلطانه فيقذف بالحق على الباطل فيدمغه.
قيل وفي ذلك أيضا مقابلة أدب بأدب، واستشكل بعضهم هذا الأمر ظنا منه أنه يستلزم تجويز السحر فحمله دفعا لذلك على الوعيد على السحر كما يقال للعبد العاصي: افعل ما أردت، وقال أبو حيان: هو مقرون بشرط مقدر أي ألقوا إن كنتم محقين. وفيه أنه عليه السلام يعلم عدم إحقاقهم فلا يجدي التقدير بدون ملاحظة غيره.
وأنت تعلم أنه لا حاجة إلى ذلك ولا إشكال فإن هذا كالأمر بذكر الشبهة لتنكشف. والقول بأن تقديم سماع الشبهة على الحجة غير جائز لجواز أن لا يتفرغ لإدراك الحجة بعد ذلك فتبقى مما لا يلتفت إليه.
فَإِذا حِبالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّها تَسْعى الفاء فصيحة معربة عن مسارعتهم إلى الإلقاء كما في قوله تعالى: أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ [الشعراء: 63] أي فالقوا فإذا حبالهم إلخ. وهي في الحقيقة عاطفة لجملة المفاجأة على الجملة المحذوفة. وإذا فجائية وهي عند الكوفيين حرف وهو مذهب مرجوح عند أبي حيان وظرف زمان عند الرياشي وهو كذلك عنده أيضا وظرف مكان عند المبرد وهو ظاهر كلام سيبويه ومختار أبي حيان والعامل فيها هنا أَلْقُوا عند أبي البقاء. ورد بأن الفاء تمنع من العمل، وفي البحر إنما هي معمولة لخبر المبتدأ الذي هو حِبالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ إن لم نجعلها هي في موضع الخبر بل جعلنا الخبر جملة يُخَيَّلُ وإذا جعلناها في موضع الخبر وجعلنا الجملة في موضع الحال فالأمر واضح. وهذا نظير خرجت فإذا الأسد رابض ورابضا. ولصحة وقوعها خبرا يكتفى بها وبالمرفوع بعدها كلاما فيقال: خرجت فإذا الأسد. ونص الأخفش في الأوسط على أنها قد يليها جملة فعلية مصحوبة بقد فيقال: خرجت فإذا قد ضرب زيد عمرا، وفي الكشاف التحقيق فيها أنها إذا الكائنة بمعنى الوقت الطالبة ناصبا لها وجملة تضاف إليها خصت في بعض المواضع بأن يكون ناصبها فعلا مخصوصا وهو فعل المفاجأة، والجملة ابتدائية لا غير فتقدير الآية ففاجأ موسى وقت تخيل سعي حبالهم وعصيهم وهذا تمثيل، والمعنى على مفاجأة حبالهم وعصيهم مخيلة إليه السعي انتهى، وفيه من المخالفة لما قدمنا ما فيه لكن أمر العطف عليه أوفق كما لا يخفى، وعنى بقوله: هذا تمثيل أنه تصوير للإعراب وأن إذا وقتية أوقع عليها فعل المفاجأة توسعا لأنها سدت مسد الفعل والمفعول ولأن مفاجأة الوقت يتضمن مفاجأة ما فيه بوجه أبلغ. وما قيل: إنه أراد الاستعارة التمثيلية فيحتاج إلى تكلف لتحصيلها. وضمير إِلَيْهِ الظاهر أنه لموسى عليه السلام بل هو كالمتعين، وقيل: لفرعون وليس بشيء، وأن وما في حيزها نائب فاعل يُخَيَّلُ أي يخيل إليه بسبب سحرهم سعيها وكأن ذلك من باب السيمياء وهي علم يقتدر به على إراء الصورة الذهنية لكن يشترط غالبا أن يكون لها مادة في الخارج في الجملة ويكون ذلك على ما ذكره الشيخ محمد عمر البغدادي في حاشيته على رسالة الشيخ عبد الغني النابلسي في وحدة والوجود بواسطة أسماء وغيرها.
وذكر العلامة البيضاوي في بعض رسائله أن علم السيمياء حاصله إحداث مثالات خيالية لا وجود لها في الحس ويطلق على إيجاد تلك المثالات بصورها في الحس وتكون صورا في جوهر الهواء وهي سريعة الزوال بسبب سرعة تغير جوهره، ولفظ سيمياء معرب شيم يه ومعناه اسم الله تعالى انتهى وما ذكره من سرعة الزوال لا يسلم كليا وهو عندي بعض من علم السحر. وعرفه البيضاوي بأنه علم يستفاد منه حصول ملكة نفسانية يقتدر بها على أفعال غريبة بأسباب خفية ثم قال: والسحر منه حقيقي. ومنه غير حقيقي ويقال له: الأخذ بالعيون وسحرة فرعون أتوا

(8/538)


بمجموع الأمرين انتهى، والمشهور أن هؤلاء السحرة جعلوا في الحبال والعصي زئبقا فلما أصابتها حرارة الشمس اضطربت واهتزت فخيل إليه عليه السلام أنها تتحرك وتمشي كشيء فيه حياة. ويروى أنه عليه السلام رآها كأنها حيات وقد أخذت ميلا في ميل، وقيل: حفروا الأرض وجعلوا فيها نارا ووضعوا فوقها تلك الحبال والعصي فلما أصابتها حرارة النار تحركت ومشت. وفي القلب من صحة كلا القولين شيء.
والظاهر أن التخيل من موسى عليه السلام قد حصل حقيقة بواسطة سحرهم، وروي ذلك عن وهب.
وقيل: لم يحصل والمراد من الآية أنه عليه السلام شاهد شيئا لولا علمه بأنه لا حقيقة له لظن فيها أنها تسعى فيكون تمثيلا وهو خلاف الظاهر جدا، وقرأ الحسن وعيسى «عصيهم» بضم العين وإسكان الصاد وتخفيف الياء مع الرفع وهو جمع كما في القراءة المشهورة وقرأ الزهري والحسن وعيسى وأبو حيوة وقتادة والجحدري وروح وابن ذكوان وغيرهم «تخيل» بالتاء الفوقانية مبنيا للمفعول وفيه ضمير الحبال والعصى. وأَنَّها تَسْعى بدل اشتمال من ذلك الضمير ولا يضر الإبدال منه في كونه رابطا لكونه ليس ساقطا من كل الوجوه.
وقرأ أبو السمال «تخيل» بفتح التاء أي تتخيل وفيه أيضا ضمير ما ذكروا أَنَّها تَسْعى بدل منه أيضا، وقال ابن عطية: هو مفعول من أجله، وقال أبو القاسم بن حبارة الهذلي الأندلس في كتاب الكامل: عن أبي السمال أنه قرىء «تخيل» بالتاء من فوق المضمومة وكسر الياء والضمير فيه فاعل و «أنها تسعى» نصب على المفعول به. ونسب ابن عطية هذه القراءة إلى الحسن وعيسى الثقفي ومن بنى «تخيل» للمفعول فالمخيل لهم ذلك هو الله تعالى للمحنة والابتلاء.
وروى الحسن بن يمن عن أبي حيوة «نخيل» بالنون وكسر الياء فالفاعل ضميره تعالى أَنَّها تَسْعى مفعول به.
فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسى الإيجاس الإخفاء والخيفة الخوف وأصله خوفة قلبت الواو ياء لكسرة ما قبلها، وقال ابن عطية: يحتمل أن يكون خوفة بفتح الخاء قلبت الواو ياء ثم كسرت الخاء للتناسب والأول أولى.
والتنوين للتحقير أي أخفى فيها بعض خوف من مفاجأة ذلك بمقتضى طبع الجبلة البشرية عند رؤية الأمر المهول وهو قول الحسن، وقال مقاتل: خاف عليه السلام من أن يعرض للناس ويختلج في خواطرهم شك وشبهة في معجزة العصا لما رأوا من عصيهم. وإضمار خوفه عليه السلام من ذلك لئلا تقوى نفوسهم إذا ظهر لهم فيؤدي إلى عدم اتباعهم، وقيل: التنوين للتعظيم أي أخفى فيها خوفا عظيما، وقال بعضهم: إن الصيغة لكونها فعلة وهي دالة على الهيئة والحالة اللازمة تشعر بذلك ولذا اختيرت على الخوف في قوله تعالى وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ [الرعد:
13] ولا يأباه الإيجاس، وقيل: يأباه والأول هو الأنسب بحال موسى عليه السلام إن كان خوفه مما قاله الحسن والثاني هو الأنسب بحاله عليه السلام إن كان خوفه مما قاله مقاتل، وقيل: إنه أنسب أيضا بوصف السحر بالعظم في قوله تعالى وَجاؤُ بِسِحْرٍ عَظِيمٍ [الأعراف: 116] وأيد بعضهم كون التنوين لذلك بإظهار موسى وعدم إضماره فتأمل، وقيل: إنه عليه السلام سمع لما قالوا إما أن تلقى إلخ القوا يا أولياء الله تعالى فخاف لذلك حيث يعلم أن أولياء الله تعالى لا يغلبون ولا يكاد يصح والنظم الكريم يأباه. وتأخير الفاعل لمراعاة الفواصل قُلْنا لا تَخَفْ أي لا تستمر على خوفك مما توهمت وادفع عن نفسك ما اعتراك فالنهي على حقيقته، وقيل: حرج عن ذلك للتشجيع وتقوية القلب إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلى تعليل لما يوجبه النهي من الانتهاء عن الخوف وتقرير لغلبته على أبلغ وجه وآكده كما يعرب عن ذلك الاستئناف البياني وحرف التحقيق وتكرير الضمير وتعرف الخبر ولفظ العلو المنبئ عن الغلبة الظاهرة وصيغة التفضيل كما قاله غير واحد. والذي أميل إليه أن الصيغة المذكورة لمجرد الزيادة فإن كونها للمشاركة والزيادة

(8/539)


يقتضي أن يكون للسحرة علو وغلبة ظاهرة أيضا مع أنه ليس كذلك وإثبات ذلك لهم بالنسبة إلى العامة كما قيل ليس بشيء إذ لا مغالبة بينهم وبينهم وَأَلْقِ ما فِي يَمِينِكَ أي عصاك كما وقع في سورة الأعراف. وكأن التعبير عنها بذلك لتذكيره ما وقع وشاده عليه السلام منها يوم قال سبحانه له وَما تِلْكَ بِيَمِينِكَ يا مُوسى [طه: 17] ، وقال بعض المحققين: إنما أوثر الإبهام تهويلا لأمرها وتفخيما لشأنها وإيذانا بأنها ليست من جنس العصي المعهودة المستتبعة للآثار المعتادة بل خارجة عن حدود سائر أفراد الجنس مبهمة لكنها مستتبعة لآثار غريبة وعدم مراعاة هذه النكتة عند حكاية الأمر في مواضع أخر لا يستدعي عدم مراعاتها عند وقوع المحكي انتهى. وحاصله أن الإبهام للتفخيم كأن العصا لفخامة شأنها لا يحيط بها نطاق العلم نحو فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ ما غَشِيَهُمْ [طه: 78] ووقع حكاية الأمر في مواضع أخر بالمعنى والواقع نفسه ما تضمن هذه النكتة وإن لم يكن بلفظ عربي وإنما لم يعتبر العكس لأن المتضمن أوفق بمقام النهي عن الخوف وتشجيعه عليه السلام.
وقال أبو حيان: عبر بذلك دون عصاك لما في اليمين من معنى اليمن والبركة، وفيه أن الخطاب لم يكن بلفظ عربي، وقيل: الإبهام للتحقير بأن يراد لا تبالي بكثرة حبالهم وعصيهم وألق العويد الذي في يدك فإنه بقدرة الله تعالى يلقفها مع وحدته وكثرتها وصغره وعظمها. وتعقب بأنه يأباه ظهور حالها فيما مر مرتين على أن ذلك المعنى إنما يليق بما لو فعلت العصا ما فعلت وهي على الهيئة الأصلية وقد كان منها ما كان، وما يحتمل أن تكون موصوفة ويحتمل أن تكون موصولة على كل من الوجهين، وقيل: الأنسب على الأول الأول وعلى الثاني الثاني، وقوله تعالى تَلْقَفْ ما صَنَعُوا بالجزم جواب الأمر من لقفه ناله بالحذف باليد أو بالفم، والمراد هنا الثاني والتأنيث بكون ما عبارة عن العصا أي تبتلع ما صنعوه من الحبال والعصي التي خيل إليك سعيها، والتعبير عنها بما صنعوا للتحقير والإيذان بالتمويه والتزوير. وقرأ الأكثرون «تلقّف» بفتح اللام وتشديد القاف وإسقاط إحدى التاءين من «تتلقف» .
وقرأ ابن عامر كذلك إلا أنه رفع الفعل على أن الجملة مستأنفة استئنافا بيانيا أو حال مقدرة من فاعل ألق بناء على تسببه أو من مفعوله أي متلقفا أو متلقفة وجملة الأمر معطوفة على النهي متممة بما في حيزها لتعليل موجبه ببيان كيفية علوه وغلبه عليه السلام فإن ابتلاع عصاه عليه السلام لأباطيلهم التي منها أوجس في نفسه خيفة يقلع مادة الخوف بالكلية. وزعم بعضهم أن هذا صريح في أن خوفه عليه السلام لم يكن من مخالجة الشك للناس في معجزة العصا وإلا لعلل بما يزيله من الوعد بما يوجب إيمانهم وفيه تأمل.
وقوله تعالى إِنَّما صَنَعُوا إلخ تعليل لقوله تعالى تَلْقَفْ ما صَنَعُوا وما إما موصولة أو موصوفة أو مصدرية أي إن الذي صنعوه أو إن شيئا صنعوه أو إن صنعهم كَيْدُ ساحِرٍ بالرفع على أنه خبر إن أي كيد جنس الساحر، وتنكيره للتوسل به إلى ما يقتضيه المقام من تنكير المضاف ولو عرف لكان المضاف إليه معرفة وليس مرادا. واعترض بأنه يجوز أن يكون تعريفه الإضافي حينئذ للجنس وهو كالنكرة معنى وإنما الفرق بينهما حضوره في الذهن. وأجيب بأنه لا حاجة إلى تعيين جنسه فإنه مما علم من قوله تعالى «يخيل» إلخ وإنما الغرض بعد تعيينه أن يذكر أنه أمر مموه لا حقيقة له وهذا مما يعرف بالذوق، وقيل: نكر ليتوسل به إلى تحقير المضاف. وتعقب بأنه بعد تسليم إفادة ذلك تحقير المضاف لا يناسب المقام ولأنه يفيد انقسام السحر إلى حقير وعظيم وليس بمقصود. وأيضا ينافي ذلك قوله تعالى في آية أخرى وَجاؤُ بِسِحْرٍ عَظِيمٍ إلا أن يقال عظمه من وجه لا ينافي حقارته في نفسه وهو المراد من تحقيره. وقيل: إنما نكر لئلا يذهب الذهن إلى أن المراد ساحر معروف فتدبر.
وقرأ مجاهد وحميد وزيد بن علي عليهم الرحمة «كيد» بالنصب على أنه مفعول صَنَعُوا وما كافة.

(8/540)


وقرأ حمزة والكسائي وأبو بحرية والأعمش وطلحة وابن أبي ليلى وخلف في اختياره وابن عيسى الأصبهاني وابن جبير الأنطاكي وابن جرير «سحر» بكسر السين وإسكان الحاء على معنى ذي سحر أو على تسمية الساحر سحرا مبالغة كأنه لتوغله في السحر صار نفس السحر. وقيل: على أن الإضافة لبيان أن الكبد من جنس السحر. وهذه الإضافة من إضافة العام إلى الخاص. وهي على معنى اللام عند شارح الهادي وعلى معنى من على ما يفهم من ظاهر كلام الشريف في أول شرح المفتاح وتسمى إضافة بيانية. ويحمل فيما وجدت فهى المضاف إليه على المضاف. ولا يشترط أن يكون بين المتضايفين عموم وخصوص من وجه وبعضهم شرط ذلك.
وقوله تعالى شأنه وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ أي هذا الجنس حَيْثُ أَتى حيث كان وأين أقبل فحيث ظرف مكان أريد به التعميم من تمام التعليل. ولم يتعرض لشأن العصا وكونها معجزة إلهية مع ما في ذلك من تقوية التعليل للإيذان بظهور أمرها.
وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عن جندب بن عبد الله البجلي قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا أخذتم الساحر فاقتلوه ثم قرأ: وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتى قال لا يؤمن حيث وجد»
وقرأت فرقة «أين أتى» والفاء في قوله تعالى فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّداً فضيحة معربة عن جمل غنية عن التصريح أي فزال الخوف وألقى ما في يمينه وصارت حية وتلقفت حبالهم وعصيهم وعلموا أن ذلك معجز فألقى السحرة على وجوههم سجدا لله تعالى تائبين مؤمنين به عز وجل وبرسالة موسى عليه السلام.
روي أن رئيسهم قال: كنا نغلب الناس وكانت الآلات تبقى علينا فلو كان هذا سحرا فأين ما ألقينا فاستدل بتغير أحوال الأجسام على الصانع القدير العليم وبظهور ذلك على يد موسى عليه السلام على صحة رسالته. وكأن هاتيك الحبال والعصي صارت هباء منبثا وانعدامها بالكلية ممكن عندنا، وفي التعبير بألقى دون فسجد إشارة إلى أنهم شاهدوا ما أزعجهم فلم يتمالكوا حتى وقعوا على وجوههم ساجدين، وفيه إيقاظ السامع لإلطاف الله تعالى في نقله من شاء من عباده من غاية الكفر والعناد إلى نهاية الإيمان والسداد مع ما فيه من المشاكلة والتناسب، والمراد أنهم أسرعوا إلى السجود، قيل: إنهم لم يرفعوا رؤوسهم من السجود حتى رأوا الجنة والنار والثواب والعقاب.
وأخرج عبد بن حميد. وابن المنذر. وابن أبي حاتم عن عكرمة أنهم لما خروا سجدا أراهم الله تعالى في سجودهم منازلهم في الجنة. واستبعد ذلك القاضي بأنه كالإلجاء إلى الإيمان وأنه ينافي التكليف. وأجيب بأنه حيث كان الإيمان مقدما على هذا الكشف فلا منافاة ولا الجاء، وفي إرشاد العقل السليم أنه لا ينافيه قولهم: إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنا لِيَغْفِرَ لَنا خَطايانا [طه: 73] إلخ لأن كون تلك المنازل منازلهم باعتبار صدور هذا القول عنهم.
قالُوا استئناف كما مر غير مرة آمَنَّا بِرَبِّ هارُونَ وَمُوسى تأخير موسى عليه السلام عند حكاية كلامهم المذكورة في سورة الأعراف المقدم فيه موسى عليه السلام لأنه أشرف من هارون والدعوة والرسالة إنما هي له أولا وبالذات وظهور المعجزة على يده عليه السلام لرعاية الفواصل، وجوز أن يكون كلامهم بهذا الترتيب وقدموا هارون عليه السلام لأنه أكبر سنا، وقول السيد في شرح المفتاح: إن موسى أكبر من هارون عليهما السلام سهو. وأما للمبالغة في الاحتراز عن التوهم الباطل من جهة فرعون وقومه حيث كان فرعون ربي موسى عليه السلام فلو قدموا موسى لربما توهم اللعين وقومه من أول الأمر أن مرادهم فرعون تقديمه في سورة الأعراف تقديم في الحكاية لتلك النكتة.
وجوز أبو حيان أن يكون ما هنا قول طائفة منهم وما هناك قول أخرى وراعى كل نكتة فيما فعل لكنه لما اشترك القول في المعنى صح نسبة كل منهما إلى الجميع. واختيار هذا القول هنا لأنه أوفق بآيات هذه السورة.
قالَ أي فرعون للسحرة آمَنْتُمْ لَهُ أي لموسى كما هو الظاهر. والإيمان في الأصل متعد بنفسه ثم شاع تعديه بالباء لما فيه من التصديق حتى صار حقيقة. وإنما عدي هنا باللام لتضمينه معنى الانقياد وهو يعدى بها يقال.

(8/541)


انقاد له لا الاتباع كما قيل: لأنه متعد بنفسه يقال: اتبعه ولا يقال: اتبع له، وفي البحر إن آمن يوصل بالباء إذا كان متعلقه الله عز اسمه وباللام إن كان متعلقه غيره تعالى في الأكثر نحو يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ [التوبة: 61] . فما آمن لموسى إلخ. لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ [الإسراء: 90] وَما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا [يوسف: 17] فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ [العنكبوت:
26] ، وجوز أن تكون اللام تعليلية والتقدير آمنتم بالله تعالى لأجل موسى وما شاهدتهم منه، واختاره بعضهم ولا تفكيك فيه كما توهم، وقيل: يحتمل أن يكون ضمير «له» للرب عز وجل، وفي الآية حينئذ تفكيك ظاهر.
وقرأ الأكثر «أآمنتم» على الاستفهام التوبيخي. والتوبيخ هو المراد من الجملة على القراءة الأولى أيضا لا فائدة الخبر أو لازمها قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ أي من غير إذني لكم في الإيمان كما في قوله تعالى: لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِماتُ رَبِّي [الكهف: 109] لا إن إذنه لهم في ذلك واقع بعد أو متوقع، وفرق الطبرسي بين الإذن والأمر بأن الأمر يدل على إرادة الآمر الفعل المأمور به وليس في الإذن ذلك إِنَّهُ يعني موسى عليه السلام لَكَبِيرُكُمُ لعظيمكم في فنكم وأعلمكم به وأستاذكم الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ كأن اللعين وبخهم أولا على إيمانهم له عليه السلام من غير إذنه لهم ليرى قومه أن إيمانهم غير معتد به حيث كان بغير إذنه. ثم استشعر أن يقولوا: أي حاجة إلى الإذن بعد أن صنعنا ما صنعنا وصدر منه عليه السلام ما صدر فأجاب عن ذلك بقوله: إِنَّهُ إلخ أي ذلك غير معتد به أيضا لأنه أستاذكم في السحر فتواطأتم معه على ما وقع أو علمكم شيئا دون شيء فلذلك غلبكم فالجملة تعليل لمحذوف، وقيل: هي تعليل للمذكور قبل. وبالجملة قال ذلك لما اعتراه من الخوف من اقتداء الناس بالسحرة في الإيمان لموسى عليه السلام ثم أقبل عليهم بالوعيد المؤكد حيث قال: فَلَأُقَطِّعَنَّ أي إذا كان الأمر كذلك فأقسم لأقطعن أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ أي اليد اليمنى والرجل اليسرى وعليه عامة المفسرين وهو تخصيص من خارج وإلا فيحتمل أن يراد غير ذلك. ومِنْ ابتدائية.
وقال الطبرسي: بمعنى عن أو على وليس بشيء. والمراد من الخلاف الجانب المخالف أو الجهة المخالفة.
والجار والمجرور حسبما يظهر متعلق بأقطعن، وقيل: متعلق بمحذوف وقع صفة مصدر محذوف أي تقطيع مبتدأ من جانب مخالف أو من جهة مخالفة وابتداء التقطيع من ذلك ظاهر، ويجوز أن يبقى الخلاف على حقيقته أعني المخالفة وجعله مبتدأ على التجوز فإنه عارض ما هو مبدأ حقيقة، وجعل بعضهم الجار والمجرور في حيز النصب على الحالية، والمراد لأقطعنها مختلفات فتأمل، وتعيين هذه الكيفية قيل للإيذان بتحقيق الأمر وإيقاعه لا محالة بتعيين كيفيته المعهودة في باب السياسة. ولعل اختيارها فيها دون القطع من وفاق لأن فيه إهلاكا وتفويتا للمنفعة، وزعم بعضهم أنها أفظع وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ أي عليها. وإيثار كلمة في للدلالة على إبقائهم عليها زمانا مديدا تشبيها لاستمرارهم عليها باستقرار الظرف في المظروف المشتمل عليه. وعلى ذلك قوله:
وهم صلبوا العبدي في جذع نخلة ... فلا عطست شيبان إلا بأجدعا
وفيه استعارة تبعية. والكلام في ذلك شهير، وقيل: لا استعارة أصلا لأن فرعون نقر جذوع النخل وصلبهم في داخلها ليموتوا جوعا وعطشا ولا يكاد يصح بل في أصل الصلب كلام. فقال بعضهم: إنه أنفذ فيهم وعيده وصلبهم وهو أول من صلب. ولا ينافيه قوله تعالى: أَنْتُما وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغالِبُونَ [القصص: 35] لأن المراد الغلبة بالحجة.
وقال الإمام: لم يثبت ذلك في الأخبار. وأنت تعلم أن الظاهر السلامة. وصيغة التفعيل في الفعلين للتكثير. وقرىء بالتخفيف فيهما.
وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنا أَشَدُّ عَذاباً وَأَبْقى يريد من- نا- نفسه وموسى عليه السلام بقرينة تقدم ذكره في قوله تعالى

(8/542)


آمَنْتُمْ لَهُ بناء على الظاهر فيه. واختار ذلك الطبري وجماعة وهذا إما لقصد توضيع موسى عليه السلام والهزء به لأنه عليه السلام لم يكن من التعذيب في شيء، وإما لأن إيمانهم لم يكن بزعمه عن مشاهدة المعجزة ومعاينة البرهان بل كان عن خوف من قبله عليه السلام حيث رأوا ابتلاع عصاه لحبالهم وعصيهم فخافوا على أنفسهم أيضا. واختار أبو حيان أن المراد من الغير الذي أشار إليه الضمير رب موسى عز وجل الذي آمنوا به بقولهم آمَنَّا بِرَبِّ هارُونَ وَمُوسى.
وَلَتَعْلَمُنَّ هنا معلق وأَيُّنا أَشَدُّ جملة استفهامية من مبتدأ وخبر في موضع نصب سادة مسد مفعوليه إن كان العلم على بابه أو في موضع مفعول واحد له إن كان بمعنى المعرفة: ويجوز على هذا الوجه أن يكون أَيُّنا مفعولا وهو مبني على رأي سيبويه وأَشَدُّ خبر مبتدأ محذوف أي هو أشد. والجملة صلة أي والعائد الصدر، وعَذاباً تمييز. وقد استغنى بذكره مع أَشَدُّ عن ذكره مع أَبْقى وهو مراد أيضا. واشتقاق أبقى من البقاء بمعنى الدوام.
وقيل: لا يبعد والله تعالى أعلم أن يكون من البقاء بمعنى العطاء فإن اللعين كان يعطي لمن يرضاه العطايا فيكون للآية شبه بقول نمروذ «أنا أحيي وأميت» وهو في غاية البعد عند من له ذوق سليم. ثم لا يخفى أن اللعين في غاية الوقاحة ونهاية الجلادة حيث أوعد وهدد وأبرق وأرعد مع قرب عهده بما شاهد من انقلاب العصا حية وما لها من الآثار الهائلة حتى إنها قصدت ابتلاع قبته فاستغاث بموسى عليه السلام ولا يبعد نحو ذلك من فاجر طاغ مثله قالُوا غير مكترثين بوعيده لَنْ نُؤْثِرَكَ لن نختارك بالإيمان والانقياد عَلى ما جاءَنا من الله تعالى على يد موسى عليه السلام مِنَ الْبَيِّناتِ من المعجزات الظاهرة التي اشتملت عليه العصا. وإنما جعلوا المجيء إليهم وإن عم لأنهم المنتفعون بذلك والعارفون به على أتم وجه من غير تقليد. وما موصولة وما بعدها صلتها والعائد الضمير المستتر في جاء. وقيل العائد محذوف وضمير جاءَنا لموسى عليه السلام أي على الذين جاءنا به موسى عليه السلام وفيه بعد. وإن كان صنيع بعضهم اختياره مع أن في صحة حذف مثل هذا المجرور كلاما.
وَالَّذِي فَطَرَنا أي أبدعنا وأوجدنا وسائر العلويات والسفليات. وهو عطف على «ما جاءنا» وتأخيره لأن ما في ضمنه آية عقلية نظرية وما شاهدوه آية حسية ظاهرة. وإيراده تعالى بعنوان الفاطرية لهم للإشعار بعلة الحكم فإن إبداعه تعالى لهم. وكون فرعون من جملة مبدعاته سبحانه مما يوجب عدم إيثارهم إياه عليه عز وجل. وفيه تكذيب للعين في دعواه الربوبية. وقيل: الواو للقسم وجوابه محذوف لدلالة المذكور عليه أي وحق الذي فطرنا لن نؤثرك إلخ.
ولا مساغ لكون المذكور جوابا عند من يجوز تقديم الجواب أيضا لما أن القسم لإيجاب كما قال أبو حيان: بلن إلا في شاذ من الشعر. وقولهم: هذا جواب لتوبيخ اللعين بقوله: آمنتم إلخ. وقوله تعالى فَاقْضِ ما أَنْتَ قاضٍ جواب عن تهديده بقوله: لأقطعن إلخ أي فاصنع ما أنت بصدد صنعه أو فاحكم بما أنت بصدد الحكم به فالقضاء أما بمعنى الإيجاد الإبداعي كما في قوله تعالى فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ [فصلت: 12] وإما بمعناه المعروف. وعلى الوجهين ليس المراد من الأمر حقيقته، وما موصولة والعائد محذوف.
وجوز أبو البقاء كونها مصدرية وهو مبني على ما ذهب إليه بعض النحاة من جواز وصل المصدرية بالجملة الاسمية ومنع ذلك بعضهم، وقوله تعالى إِنَّما تَقْضِي هذِهِ الْحَياةَ الدُّنْيا مع ما بعده تعليل لعدم المبالاة المستفاد مما سبق من الأمر بالقضاء، وما كافة وهذِهِ الْحَياةَ منصوب محلا على الظرفية لتقضى والقضاء على ما مر ومفعوله محذوف أي إنما تصنع ما تهواه أو تحكم بما تراه في هذه الحياة الدنيا فحسب وما لنا من رغبة في عذبها ولا رهبة من عذابها، وجوز أن تكون ما مصدرية فهي وما في حيزها في تأويل مصدر اسم أن وخبرها هذِهِ الْحَياةَ أي إن قضاءك كائن في هذه الحياة، وجوز أن ينزل الفعل منزلة اللازم فلا حذف.

(8/543)


وقرأ أبو حيوة وابن أبي عبلة «إنما تقضي» بالبناء للمفعول «هذه الحياة» بالرفع على أنه اتسع في الظرف فجعل مفعولا به ثم بنى الفعل له نحو صيم يوم الخميس إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنا لِيَغْفِرَ لَنا خَطايانا التي اقترفناها من الكفر والمعاصي ولا يؤاخذنا بها في الدار الآخرة لا ليمتعنا بتلك الحياة الفانية حتى نتأثر بما أوعدتنا به.
وقوله تعالى وَما أَكْرَهْتَنا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ عطف على خَطايانا أي ويغفر لنا السحر الذي علمناه في معارضة موسى عليه السلام باكراهك وحشرك إيانا من المدائن القاصية خصوه بالذكر مع اندراجه في خطاياهم إظهارا لغاية نفرتهم عنه ورغبتهم في مغفرته، وذكر الإكراه للإيذان بأنه مما يجب أن يفرد بالاستغفار مع صدوره عنهم بالإكراه، وفيه نوع اعتذار لا ستجلاب المغفرة، وقيل: إن رؤساءهم كانوا اثنين وسبعين اثنان منهم من القبط والباقي من بني إسرائيل وكان فرعون أكرههم على تعلم السحر.
وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: أخذ فرعون أربعين غلاما من بني إسرائيل فأمر أن يتعلموا السحر وقال:
علموهم تعليما لا يغلبهم أحد من أهل الأرض وهم من الذين آمنوا بموسى عليه السلام وهم الذين قالوا: إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنا لِيَغْفِرَ لَنا خَطايانا وَما أَكْرَهْتَنا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ، وقال الحسن: كان يأخذ ولدان الناس ويجبرهم على تعلم السحر، وقيل: إنه أكرههم على المعارضة حيث روي أنهم قالوا له: أرنا موسى نائما ففعل فوجدوه تحرسه عصاه فقالوا: ما هذا بسحر فإن الساحر إذا نام بطل سحره فأبى إلا أن يعارضوه ولا ينافي ذلك قولهم: بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغالِبُونَ [الشعراء: 44] لاحتمال أن يكون قبل ذلك أو تجلدا كما أن قولهم: إِنَّ لَنا لَأَجْراً إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغالِبِينَ [الأعراف:
133] قبله كما قيل: وزعم أبو عبيد أن مجرد أمر السلطان شخصا إكراه وإن لم يتوعده وإلى ذلك ذهب ساداتنا الحنفية كما في عامة كتبهم لما في مخالفة أمره من توقع المكروه لا سيما إذا كان السلطان جبارا طاغية وَاللَّهُ خَيْرٌ في حد ذاته تعالى وَأَبْقى أي وأدوم جزاء ثوابا كان أو عقابا أو خير ثوابا وأبقى عذابا، وقوله تعالى: إِنَّهُ إلى آخر الشرطيتين تعليل من جهتهم لكونه تعالى شأنه خير وأبقى وتحقيق له وإبطال لما ادعاه اللعين، وتصديرهما بضمير الشأن للتنبيه على فخامة مضمونهما ولزيادة تقرير له أي إن الشأن الخطير. هذا أي قوله تعالى مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً بأن مات على الكفر والمعاصي.
فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لا يَمُوتُ فِيها فينتهي عذابه وهذا تحقيق لكون عذابه تعالى أبقى وَلا يَحْيى حياة ينتفع بها وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِناً به عز وجل وبما جاء من عنده من المعجزات التي من جملتها ما شاهدناه قَدْ عَمِلَ الصَّالِحاتِ من الأعمال فَأُولئِكَ إشارة إلى مَنْ والجمع باعتبار معناها كما أن الأفراد فيما تقدم باعتبار لفظها، وما فيه من معنى البعد للإشعار بعلو درجتهم وبعد منزلتهم أي فأولئك المؤمنون العاملون للأعمال الصالحات لَهُمُ بسبب إيمانهم وعملهم ذلك الدَّرَجاتُ الْعُلى أي المنازل الرفيعة جَنَّاتُ عَدْنٍ بدل من الدرجات العلى أو بيان وقد تقدم في عدن (1) تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ حال من الجنات، وقوله تعالى: خالِدِينَ فِيها تحقيق لكون ثوابه تعالى أبقى وهو حال من الضمير في لهم، والعامل فيه معنى الاستقرار في الظرف أو ما في (أولئك) من معنى أشير والحال مقدرة ولا يجوز أن يكون جَنَّاتُ خبر مبتدأ محذوف أي هي جنات لخلو الكلام حينئذ عن عامل في الحال على ما ذكره أبو البقاء وَذلِكَ إشارة إلى ما أتيح لهم من الفوز بما ذكر ومعنى البعد (2) لما أشير إليه
__________
(1) قوله وقد تقدم في عدن كذا بخطه والأمر سهل.
(2) قوله ومعنى البعد إلخ كذا بخطه وتأمله.

(8/544)


من قرب من التفخيم جَزاءُ مَنْ تَزَكَّى أي تطهر من دنس الكفر والمعاصي بما ذكر من الإيمان والأعمال الصالحة.
وهذا تصريح بما أفادته الشرطية، وتقديم ذكر حال المجرم للمسارعة إلى بيان أشدية عذابه عز وجل ودوامه ردا على ما ادعاه فرعون بقوله أَيُّنا أَشَدُّ عَذاباً وَأَبْقى، وقال بعضهم: إن الشرطيتين إلى هنا ابتداء كلام منه جل وعلا تنبيها على قبح ما فعل فرعون وحسن ما فعل السحرة والأول أولى خلافا لما حسبه النيسابوري.
هذا واستدل المعتزلة بالشرطية الأولى على القطع بعذاب مرتكب الكبيرة قالوا: مرتكب الكبيرة مجرم لأن أصل الجرم قطع الثمرة عن الشجرة ثم استعير لاكتساب المكروه وكل مجرم فإن له جهنم للآية فإن من الشرطية فيها عامة بدليل صحة الاستثناء فينتج مرتكب الكبيرة أن له جهنم وهو دال على القطع بالوعيد.
وأجاب أهل السنة بأنا لا نسلم الصغرى لجواز أن يراد بالمجرم الكافر فكثيرا ما جاء في القرآن بذلك المعنى كقوله تعالى يَتَساءَلُونَ عَنِ الْمُجْرِمِينَ ما سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ إلى قوله سبحانه وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ [المدثر:
40- 46] وقوله تعالى إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ [المطففين: 29] إلى آخر السورة، وعلى تقدير تسليم هذه المقدمة لا نسلم الكبرى على إطلاقها وإنما هي كلية بشرط عدم العفو مع أنا لا نسلم أن من الشرطية قطعية في العموم كما قال الإمام وحينئذ لا يحصل القطع بالوعيد مطلقا، وعلى تقدير تسليم المقدمتين يقال يعارض ذلك الدليل عموم الوعد في قوله تعالى ومن يأته مؤمنا إلخ ويجعل الكلام فيمن آمن وعمل الصالحات وارتكب الكبيرة وهو داخل في عموم مَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِناً قَدْ عَمِلَ الصَّالِحاتِ ولا يخرجه عن العموم ارتكابه الكبيرة ومتى كانت له الجنة فهي لمن آمن وارتكب الكبيرة ولم يعمل الأعمال الصالحة أيضا إذ لا قائل بالفرق، فإذا قالوا: مرتكب الكبيرة لا يقال له مؤمن كما لا يقال كافر لإثباتهم المنزلة بين المنزلتين فلا يدخل ذلك في العموم أبطلنا ذلك وبرهنا على حصر المكلف في المؤمن والكافر ونفي المنزلة بين الإيمان والكفر بما هو مذكور في محله. وعلى تقدير تسليم أن مَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِناً إلخ لا يعم مرتكب الكبيرة يقال: إن قوله تعالى فَأُولئِكَ لهم الدرجات العلى يدل على حصول العفو لأصحاب الكبائر لأنه تعالى جعل الدرجات العلى وجنات عدن لمن أتى بالإيمان والأعمال الصالحة فسائر الدرجات الغير العالية والجنات لا بد أن تكون لغيرهم وما هم إلا العصاة من أهل الإيمان.
ولقد أخرج أبو داود وابن مردوية عن أبي سعيد قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إن أهل الدرجات العلى ليراهم من تحتهم كما ترون الكوكب الدري في أفق السما. وإن أبا بكر وعمر منهم وأنعما»
، واستدل على شمول مَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِناً صاحب الكبيرة بقوله تعالى وَذلِكَ جَزاءُ مَنْ تَزَكَّى بناء على ما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما من أن المراد بمن تزكى من قال لا إله إلا الله كأنه أراد من تطهر عن دنس الكفر والله تعالى أعلم.
ثم إن العاصي إذا دخل جهنم لا يكون حاله كحال المجرم الكافر إذا دخلها بل قيل: إنه يموت احتجاجا بما
أخرج مسلم وأحمد وابن أبي حاتم وابن مردويه عن أبي سعيد الخدري «أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم خطب فأتى على هذه الآية أنه مَنْ يَأْتِ إلخ فقال عليه الصلاة والسلام: أما أهلها- يعني جهنم- الذين هم أهلها فإنهم لا يموتون فيها ولا يحيون وأما الذين ليسوا بأهلها فإن النار تميتهم إماتة ثم يقوم الشفعاء فيشفعون فيؤتى بهم ضبائر على نهر يقال له الحياة أو الحيوان فينبتون كما تنبت القثاء بحميل السيل»
وحمل ذلك القائل تميتهم فيه على الحقيقة وجعل المصدر تأكيدا لدفع توهم المجاز كما قيل في قوله تعالى وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسى تَكْلِيماً [النساء: 164] ، وذكر أن فائدة بقائهم في النار بعد إماتتهم إلى حيث شاء الله تعالى حرمانهم من الجنة تلك المدة وذلك منضم إلى عذابهم بإحراق النار إياهم.
وقال بعضهم: إن تميتهم مجاز والمراد أنها تجعل حالهم قريبة من حال الموتى بأن لا يكون لهم شعور تام

(8/545)


بالعذاب، ولا يسلم أن ذكر المصدر ينافي التجوز فيجوز أن يقال قتلت زيدا بالعصا قتلا والمراد ضربته ضربا شديدا ولا يصح أن يقال: المصدر لبيان النوع أي تميتهم نوعا من الإماتة لأن الإماتة لا أنواع لها بل هي نوع واحد وهو إزهاق الروح ولهذا قيل:
ومن لم يمت بالسيف مات بغيره ... تعددت الأسباب والموت واحد
واستدل المجسمة بقوله سبحانه إنه من يأت ربه على ثبوت مكان له تعالى شأنه، وأجيب بأن المراد من إتيانه تعالى إتيان موضع وعده عز وجل أو نحو ذلك وَلَقَدْ أَوْحَيْنا إِلى مُوسى حكاية إجمالية لما انتهى إليه أمر فرعون وقومه وقد طوى في البين ذكر ما جرى عليهم بعد أن غلبت السحرة من الآيات المفصلة الظاهرة على يد موسى عليه السلام في نحو من عشرين سنة حسبما فصل في سورة الأعراف، وكان فرعون كلما جاءت آية وعد أن يرسل بني إسرائيل عند انكشاف العذاب حتى إذا انكشف نكث فلما كملت الآيات أوحى الله تعالى إلى موسى عليه السلام أَنْ أَسْرِ بِعِبادِي وتصدير الجملة بالقسم الإبراز كمال العناية بمضمونها.
وأن إما مفسرة لما في الوحي من معنى القول وإما مصدرية حذف عنها الجار، والتعبير عن بني إسرائيل بعنوان العبودية لله تعالى لإظهار الرحمة والاعتناء بأمرهم والتنبيه على غاية قبح صنيع فرعون بهم حيث استعبدهم وهم عباده عز وجل وفعل بهم من فنون الظلم ما فعل ولم يراقب فيهم مولاهم الحقيقي جل جلاله، والظاهر أن الإيحاء بما ذكر وكذا ما بعده كان بمصر أي وبالله تعالى لقد أوحينا إليه عليه السلام أن سر بعبادي الذين أرسلتك لإنقاذهم من ملكة فرعون من مصر ليلا فَاضْرِبْ لَهُمْ بعصاك طَرِيقاً فِي الْبَحْرِ مفعول به لأضرب على الاتساع وهو مجاز عقلي والأصل اضرب البحر ليصير لهم طريقا يَبَساً أي يابسا وبذلك قرأ أبو حيوة على أنه مصدر جعل وصفا لطريقا مبالغة وهو يستوي فيه الواحد المذكر وغيره.
وقرأ الحسن «يبسا» بسكون الباء وهو إما مخفف منه بحذف الحركة فيكون مصدرا أيضا أو صفة مشبهة كصعب أو جمع يابس كصحب وصاحب. ووصف الواحد به للمبالغة وذلك أنه جعل الطريق لفرط يبسها كأشياء يابسة كما قيل في قول القطامي:
كأن قتود رحلي حين ضمت ... حوالب غرزا ومعي جياعا
أنه جعل المعي لفرط جوعه كجماعة جياع أو قدر كل جزء من أجزاء الطريق طريقا يابسا كما قيل في «نطفة أمشاج» وثوب أخلاق أو حيث أريد بالطريق الجنس وكان متعددا حسب تعدد الأسباط لا طريق واحدة على الصحيح جاء وصفه جمعا، وقيل: يحتمل أن يكون اسم جمع، والظاهر أنه لا فرق هنا بين اليبس بالتحريك واليبس بالتسكين معنى لأن الأصل توافق القراءتين وإن كانت إحداهما شاذة، وفي القاموس اليبس بالإسكان ما كان أصله رطبا فجف وما أصله اليبوسة ولم يعهد رطبا يبس بالتحريك، وأما طريق موسى عليه السلام في البحر فإنه لم يعهد طريقا لا رطبا ولا يابسا إنما أظهره الله تعالى لهم حينئذ مخلوقا على ذلك اه.
وهذا مخالف لما ذكره الراغب من أن اليبس بالتحريك ما كان فيه رطوبة فذهبت، والمكان إذا كان فيه ماء فذهب، وروي أن موسى عليه السلام لما ضرب البحر وانفلق حتى صارت فيه طرق بعث الله تعالى ريح الصبا فجففت تلك الطرق حتى يبست. وذهب غير واحد أن الضرب بمعنى الجعل من قولهم: ضرب له في ماله سهما وضرب عليهم الخراج أو بمعنى الاتخاذ فينصب مفعولين أولهما طَرِيقاً وثانيهما لَهُمْ.
واختار أبو حيان بقاءه على المعنى المشهور وهو أوفق بقوله تعالى أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْبَحْرَ [الشعراء: 63] ،

(8/546)


فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ (78) وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَى (79) يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ قَدْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ وَوَاعَدْنَاكُمْ جَانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى (80) كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَلَا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى (81) وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى (82) وَمَا أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يَا مُوسَى (83) قَالَ هُمْ أُولَاءِ عَلَى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى (84) قَالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ (85) فَرَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ يَا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْدًا حَسَنًا أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي (86) قَالُوا مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا وَلَكِنَّا حُمِّلْنَا أَوْزَارًا مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْنَاهَا فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ (87) فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ (88) أَفَلَا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا وَلَا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا (89) وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِنْ قَبْلُ يَا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي (90) قَالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى (91) قَالَ يَا هَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا (92) أَلَّا تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي (93) قَالَ يَبْنَؤُمَّ لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلَا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي (94) قَالَ فَمَا خَطْبُكَ يَا سَامِرِيُّ (95)

وزعم أبو البقاء أن طَرِيقاً على هذا الوجه مفعول فيه، وقال: التقدير فَاضْرِبْ لَهُمْ موضع طريق لا تَخافُ دَرَكاً في موضع الحال من ضمير فَاضْرِبْ أو الصفة الأخرى لطريقا والعائد محذوف أي فيها أو هو استئناف كما قال أبو البقاء وقدمه على سائر الاحتمالات. وقرأ الأعمش وحمزة وابن أبي ليلى «لا تخف» بالجزم على جواب الأمر أعني «أسر» ، ويحتمل أنه نهي مستأنف كما ذكره الزجاج. وقرأ أبو حيوة وطلحة والأعمش «دركا» بسكون الراء وهو اسم من الإدراك أي اللحوق كالدرك بالتحريك، وقال الراغب: الدرك بالتحريك في الآية ما يلحق الإنسان من تبعة أي لا تخاف تبعة، والجمهور على الأول أي لا تخاف أن يدرككم فرعون وجنوده من خلفكم وَلا تَخْشى أن يغرقكم البحر من قدامكم وهو عطف على لا تَخافُ، وذلك ظاهر على الاحتمالات الثلاثة في قراءة الرفع، وأما على قراءة الجزم فقيل هو استئناف أي وأنت لا تخشى، وقيل: عطف على المجزوم والألف جيء بها للإطلاق مراعاة لأواخر الآي كما في قوله تعالى فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا [الأحزاب: 67] وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا [الأحزاب: 10] أو هو مجزوم بحذف الحركة المقدرة كما في قوله:
إذا العجوز غضبت فطلق ... ولا ترضّاها ولا تملّق
وهذا لغة قليلة عند قوم وضرورة عند آخرين فلا يجوز تخريج التنزيل الجليل الشأن عليه أو لا يليق مع وجود مثل الاحتمالين السابقين أو الأول منهما. والخشية أعظم الخوف وكأنه إنما اختيرت هنا لأن الغرق أعظم من إدراك فرعون وجنوده لما أن ذاك مظنة السلامة، ولا ينافي ذلك أنهم إنما ذكروا أولا ما يدل على خوفهم منه حيث قالوا: إِنَّا لَمُدْرَكُونَ [الشعراء: 61] ولذا سورع في إزاحته بتقديم نفيه كما يظهر بالتأمل.

(8/547)


فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ أي تبعهم ومعه جنوده على أن أتبع بمعنى تبع وهو متعد إلى واحد والباء للمصاحبة والجار والمجرور في موضع الحال، ويؤيد ذلك أنه قرأ الحسن وأبو عمرو في رواية فاتبعهم بتشديد التاء، وقرىء أيضا فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ، وقيل: أتبع متعد إلى اثنين هنا كما في قوله تعالى: «أتبعناهم ذرياتهم» والثاني مقدر أي فأتبعهم رؤساء دولته أو عقابه، وقيل: نفسه والجار والمجرور في موضع الحال أيضا، وعن الأزهري أن المفعول الثاني جنوده والباء سيف خطيب أي أتبعهم فرعون جنوده وساقهم خلفهم فكان معهم يحثهم على اللحوق بهم، وجوز أن يكون المفعول الثاني جنوده والباء للتعدية فيكون قد تعدى الفعل إلى واحد بنفسه وإلى الآخر بالحرف، وأيّا ما كان فالفاء فصيحة معربة عن مضمر قد طوي ذكره ثقة بغاية ظهوره وإيذانا بكمال مسارعة موسى عليه السلام إلى الامتثال بالأمر أي ففعل ما أمر به من الإسراء بعبادي وضرب الطريق لهم فاتبعه فرعون بجنوده.
وزعم بعضهم أن الإيحاء بالضرب كان بعد أن اتبعهم فرعون وتراءى الجمعان. والظاهر الأول،
روي أن موسى عليه السلام خرج بهم أول الليل يريد القلزم وكانوا قد استعاروا من قوم فرعون الحلي والدواب لعيد يخرجون إليه وكانوا ستمائة ألف وثلاثة آلاف ونيفا ليس فيهم ابن ستين ولا عشرين، وفي رواية أنهم خرجوا وهم ستمائة ألف وسبعون ألفا (1) وأخرجوا معهم جسد يوسف عليه السلام لأنه كان عهد إليهم ذلك ودلتهم عجوز على موضعه فقال لها موسى عليه السلام: احتكمي فقالت: أكون معك في الجنة فاتصل الخبر بفرعون فجمع جنوده وخرج بهم وكان في خيله سبعون ألف أدهم وكانت مقدمته فيما يحكى سبعمائة ألف فارس، وقيل: ألف ألف وخمسمائة ألف فقص أثرهم حتى تراءى الجمعان فعظم فزع بني إسرائيل فضرب عليه السلام بعصاه البحر فانفلق اثني عشر فرقا كل فرق كالطود العظيم فدخلوا ووصل فرعون وجنوده إلى المدخل فرأوا البحر منفلقا فاستعظموا الأمر فقال فرعون لهم: إنما انفلق من هيبتي فدخل على فرس حصان وبين يديه جبريل عليه السلام على فرس حجر وصاحت الملائكة عليهم السلام وكانوا ثلاثة وثلاثين ملكا أن ادخلوا فدخلوا حتى إذا استكملوا دخولا خرج موسى عليه السلام بمن معه من الأسباط سالمين ولم يخرج أحد من فرعون وجنوده
فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ ما غَشِيَهُمْ أي علاهم منه وغمرهم ما غمرهم من الأمر الهائل الذي لا يقادر قدره ولا يبلغ كنهه.
وقيل: غشيهم ما سمعت قصته وليس بذاك فإن مدار التهويل والتفخيم خروجه عن حدود الفهم والوصف لا سماع القصة، والظاهر أن ضميري الجمع لفرعون وجنوده، وقيل: لجنوده فقط للقرب ولأنه ألقي بالساحل ولم يتغط بالبحر كما أشير إليه بقوله تعالى فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ [يونس: 92] وفيه أن الإنجاء بعد ما غشيه ما غشي جنوده وشك بنو إسرائيل في هلاكه والقرب ليس بداع قوي، وقيل: الضمير الأول لفرعون وجنوده والثاني لموسى عليه السلام وقومه وفي الكلام حذف أي فنجا موسى عليه السلام وقومه وغرق فرعون وجنوده انتهى وليس بشيء كما لا يخفى.
وقرأت فرقة منهم الأعمش «فغشاهم من اليم ما غشاهم» أي غطاهم ما غطاهم فالفاعل ما أيضا وترك المفعول زيادة
__________
(1) لا يخفى أن هذه المبالغات مما لم يصح فيها خبر والله تعالى أعلم بها اه منه.

(8/548)


في الإبهام، وقيل: المفعول مِنَ الْيَمِّ أي بعض اليم، ويجوز أن يكون الفاعل ضمير الله تعالى شأنه وما مفعول وقيل: هو ضمير فرعون والاسناد مجازي لأنه الذي ورطهم للهلكة، ويبعده الإظهار في قوله تعالى وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ» أي سلك بهم مسلكا أداهم إلى الخسران في الدين والدنيا معا حيث أغرقوا فأدخلوا نارا وَما هَدى أي وما أرشدهم إلى طريق موصل إلى مطلب من المطالب الدينية والدنيوية والمراد بذلك التهكم به كما ذكر غير واحد، واعترض بأن التهكم أن يؤتى بما قصد به ضده استعارة ونحوها نحو إنك لأنت الحليم الرشيد إذا كان الغرض الوصف بضد هذين الوصفين، وكونه لم يهد إخبار عما هو كذلك في الواقع.
وأجيب بأن الأمر كذلك ولكن العرف في مثل ما هدى زيد عمرا ثبوت كون زيد عالما بطريق الهداية مهتديا في نفسه ولكنه لم يهد عمرا وفرعون أضل الضالين في نفسه فكيف يتوهم أنه يهدي غيره، ويحقق ذلك أن الجملة الأولى كافية في الإخبار عن عدم هدايته إياهم بل مع زيادة إضلاله إياهم فإن من لا يهدي قد لا يضل وإذا تحقق إغناؤها في الإخبار على أتم وجه تعين كون الثانية بمعنى سواه وهو التهكم، وقال العلامة الطيبي: توضيح معنى التهكم أن قوله تعالى وَما هَدى من باب التلميح وهو إشارة إلى ادعاء اللعين إرشاد القوم في قوله «وما أهديكم إلا سبيل الرشاد» فهو كمن ادعى دعوى وبالغ فيها فإذا حان وقتها ولم يأت بها قيل له لم تأت بما ادعيت تهكما واستهزاء انتهى، ويعلم مما ذكر المغايرة بين الجملتين وأنه لا تكرير، وقيل: المراد وما هداهم في وقت ما ويحصل بذلك المغايرة لأنه لا دلالة في الجملة الأولى على هذا العموم والأول أولى، وقيل: هدى بمعنى اهتدى أي أضلهم وما اهتدى في نفسه وفيه بعد، وحمل بعضهم الإضلال والهداية على ما يختص بالديني منهما، ويأباه مقام بيان سوقه بجنوده إلى مساق الهلاك الدنيوي. وجعلهما عبارة عن الإضلال في البحر والإنجاء منه مما لا يقبله الطبع المستقيم.
واحتج القاضي بالآية على أنه تعالى ليس خالقا للكفر لأنه تعالى شأنه قد ذم فيها فرعون بإضلاله ومن ذم أحدا بشيء يذم إذا فعله. وأجيب بمنع اطراد ذلك يا بَنِي إِسْرائِيلَ حكاية لما خاطبهم تعالى به بعد إغراق عدوهم وإنجائهم منه لكن لا عقيب ذلك بل بعد ما أفاض عليهم من فنون النعم الدينية والدنيوية ما أفاض.
وقيل: إنشاء خطاب للذين كانوا منهم في عهد النبي صلّى الله عليه وسلّم على معنى أنه تعالى قد من عليهم بما فعل بآبائهم أصالة وبهم تبعا، وتعقب بأنه يرده قوله تعالى «وما أعجلك» إلخ ضرورة استحالة حمله على الإنشاء وكذا السباق فالوجه هو الحكاية بتقدير قلنا عطفا على «أوحينا» أي وقلنا يا بني إسرائيل قَدْ أَنْجَيْناكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ فرعون وقومه حيث كانوا يسومونكم سوء العذاب يذبحون أبناءكم ويستحيون نساءكم.
وقرأ حميد «نجّيناكم» بتشديد الجيم من غير همزة قبلها وبنون العظمة. وقرأ حمزة والكسائي والأعمش وطلحة «أنجيتكم» بتاء الضمير وَواعَدْناكُمْ جانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ بالنصب على أنه صفة المضاف. وقرىء بالجر وخرجه الزمخشري على الجوار نحو- هذا جحر ضب خرب.. وتعقبه أبو حيان بأن الجر المذكور من الشذوذ والقلة بحيث ينبغي أن تخرج القراءة عليه وقال: الصحيح أنه نعت للطور لما فيه من اليمن، وإما لكونه عن يمين من يستقبل الجبل اه.
والحق أن القلة لم تصل إلى حد منع تخريج القراءة لا سيما إذا كانت شاذة على ذلك وتوافق القراءتين يقتضيه، وقوله: وإما لكونه إلخ غير صحيح على تقدير أن يكون الطور هو الجبل ولو قال: وإما لكونه عن يمين من انطلق من مصر إلى الشام لكان صحيحا، ونصب جانِبَ على الظرفية بناء على ما نقل الخفاجي عن الراغب. وابن مالك في شرح التسهيل من أنه سمع نصب جنب وما بمعناه مضاف على الظرفية. ومنع بعضهم ذلك لأنه محدود وجعله منصوبا على

(8/549)


أنه مفعول- واعدنا- على الاتساع أو بتقدير مضاف. أي إتيان جانب إلخ. وإلى هذا ذهب أبو البقاء. وإذا كان ظرفا فالمفعول مقدر أي وواعدناكم بواسطة نبيكم في ذلك الجانب إتيان موسى عليه السلام للمناجاة وإنزال التوراة عليه، ونسبة المواعدة إليهم مع كونها لموسى عليه السلام نظرا إلى ملابستها إياهم وسراية منفعتها إليهم فكأنهم كلهم مواعدون فالمجاز في النسبة. وفي ذلك من إيفاء مقام الامتنان حقه ما فيه.
وقرأ حمزة والمذكورون معه آنفا «وواعدتكم» بتاء الضمير أيضا. وقرىء «ووعدناكم» من الوعد.
وَنَزَّلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى الترنجبين والسمانى حيث كان ينزل عليهم المن وهم في التيه مثل الثلج من الفجر إلى الطلوع لكل إنسان صاع ويبعث الجنوب عليهم السمانى فيأخذ الواحد منهم ما يكفيه.
كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ أي من لذائذه أو حلالاته على أن المراد بالطيب ما يستطيبه الطبع أو الشرع.
وجوز أن يراد بالطيبات ما جمعت وصفي اللذة والحل، والجملة مستأنفة مسوقة لبيان إباحة ما ذكر لهم وإتماما للنعمة عليهم، وقرأ من ذكر آنفا «رزقتكم» وقدم سبحانه نعمة الإنجاء من العدو لأنها من باب درء المضار وهو أهم من جلب المنافع ومن ذاق مرارة كيد الأعداء خذلهم الله تعالى ثم أنجاه الله تعالى وجعل كيدهم في نحورهم علم قدر هذه النعمة، نسأل الله تعالى أن يتم نعمه علينا وأن لا يجعل لعدو سبيلا إلينا، وثنى جلّ وعلا بالنعمة الدينية لأنها الأنف في وجه المنافع، وأخر عز وجل النعمة الدنيوية لكونها دون ذلك فتبا لمن يبيع الدين بالدنيا وَلا تَطْغَوْا فِيهِ أي فيما رزقناكم بالإخلال بشكره وتعدي حدود الله تعالى فيه بالسرف والبطر والاستعانة به على معاصي الله تعالى ومنع الحقوق الواجبة فيه، وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: أي لا يظلم بعضكم بعضا فيأخذه من صاحبه بغير حق، وقيل: أي لا تدخروا.
وقرأ زيد بن علي رضي الله تعالى عنهما «ولا تطغوا» بضم الغين فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي جواب للنهي أي فيلزمكم غضبي ويجب لكم من حل الدين يحل بكسر الحاء إذا وجب أداؤه وأصله من الحلول وهو في الأجسام ثم استعير لغيرها وشاع حتى صارت حقيقة فيه وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوى أي هلك وأصله الوقوع من علو كالجبل ثم استعمل في الهلاك للزومه له، وقيل: أي وقع في الهاوية وإليه ذهب الزجاج.
وفي بعض الآثار أن في جهنم قصرا يرمي الكافر من أعلاه فيهوي في جهنم أربعين خريفا قبل أن يبلغ الصلصال فذلك قوله تعالى فَقَدْ هَوى فيكون بمعناه الأصلي إذا أريد به فرد مخصوص منه لا بخصوصه.
وقرأ الكسائي «فيحل» بضم الحاء «ومن يحلل» بضم اللام الأولى وهي قراءة قتادة وأبي حيوة والأعمش وطلحة ووافق ابن عتبة في يَحْلِلْ فضم، وفي الإقناع لأبي على الأهوازي قرأ ابن غزوان عن طلحة «لا يحلنّ عليكم» بنون مشددة وفتح اللام وكسر الحاء وهو من باب لا أرينك هنا، وفي كتاب اللوامح قرأ قتادة وعبد الله بن مسلم بن يسار وابن وثاب والأعمش «فيحل» بضم الياء وكسر الحاء من الإحلال ففاعله ضمير الطغيان، وغَضَبِي مفعوله، وجوز أن يكون هو الفاعل والمفعول محذوف أي العذاب أو نحوه، ومعنى يحل مضموم الحاء ينزل من حل بالبلد إذا نزل كما في الكشاف.
وفي المصباح حل العذاب يحل ويحل هذه وحدها بالكسر والضم والباقي بالكسر فقط، والغضب في البشر ثوران دم القلب عند إرادة الانتقام،
وفي الحديث «اتقوا الغضب فإنه جمرة توقد في قلب ابن آدم ألم تروا إلى انتفاخ أوداجه وحمرة عينيه»
وإذا وصف الله تعالى به لم يرد هذا المعنى قطعا وأريد معنى لائق بشأنه عز شأنه، وقد يراد به

(8/550)


الانتقام والعقوبة أو إرادتهما نعوذ بالله تعالى من ذلك، ووصف ذلك بالحلو حقيقة على بعض الاحتمالات ومجازا على بعض آخر، وفي الانتصاف أن وصفه بالحلول لا يتأتى على تقدير أن يراد به إرادة العقوبة ويكون ذلك بمنزلة
قوله صلّى الله عليه وسلّم: «ينزل ربنا إلى السماء الدنيا»
على التأويل المعروف أو عبر عن حلول أثر الإرادة بحلولها تعبيرا عن الأثر بالمؤثر كما يقول الناظر إلى عجيب من مخلوقات الله تعالى: انظر إلى قدرة الله تعالى يعني أثر القدرة لا نفسها وَإِنِّي لَغَفَّارٌ كثير المغفرة لِمَنْ تابَ من الشرك على ما روي عن ابن عباس، وقيل: منه ومن المعاصي التي من جملتها الطغيان فيما رزق وَآمَنَ بما يجب الإيمان به. واقتصر ابن عباس رضي الله تعالى عنهما فيما يروى عنه على ذكر الإيمان بالله تعالى ولعله من باب الاقتصار على الأشرف وإلا فالأفيد إرادة العموم مع ذكر التوبة من الشرك وَعَمِلَ صالِحاً أي عملا مستقيما عند الشرع وهو بحسب الظاهر شامل للفرض والسنة، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما تفسير ذلك بأداء الفرائض ثُمَّ اهْتَدى أي لزم الهدى واستقام عليه إلى الموافاة وهو مروي عن الحبر.
والهدى يحتمل أن يراد به الإيمان، وقد صرح سبحانه بمدح المستقيمين على ذلك في قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخافُوا وَلا تَحْزَنُوا [فصلت: 41] .
وقال الزمخشري: الاهتداء هو الاستقامة والثبات على الهدى المذكور وهو التوبة والإيمان والعمل الصالح وأيّا ما كان فكلمة ثم إما للتراخي باعتبار الانتهاء لبعده عن أول الانتهاء أو للدلالة على بعد ما بين المرتبتين فإن المداومة أعلى وأعظم من الشروع كما قيل:
لكل إلى شأو العلى وثبات (1) ... ولكن قليل في الرجال ثبات
وقيل: المراد ثم عمل بالسنة، وأخرج سعيد بن منصور عن الحبر أن المراد من اهتدى علم أن لعمله ثوابا يجزى عليه، وروي عنه غير ذلك، وقيل: المراد طهر قلبه من الأخلاق الذميمة. كالعجب والحسد والكبر وغيرها، وقال ابن عطية: الذي يقوى في معنى ثُمَّ اهْتَدى أن يكون ثم حفظ معتقداته من أن تخالف الحق في شيء من الأشياء فإن الاهتداء على هذا الوجه غير الإيمان وغير العمل انتهى، ولا يخفى عليك أن هذا يرجع إلى قولنا ثم استقام على الإيمان بما يجب الإيمان به على الوجه الصحيح،
وروى الإمامية من عدة طرق عن أبي جعفر الباقر رضي الله تعالى عنه أنه قال: ثم اهتدى إلى ولايتنا أهل البيت فو الله لو أن رجلا عبد الله تعالى عمره بين الركن والمقام ثم مات ولم يجىء بولايتنا لأكبه الله تعالى في النار على وجهه.
وأنت تعلم أن ولايتهم وحبهم رضي الله تعالى عنهم مما لا كلام عندنا في وجوبه لكن حمل الاهتداء في الآية على ذلك مع كونها حكاية لما خاطب الله تعالى به بني إسرائيل في زمان موسى عليه السلام مما يستدعي القول بأنه عز وجل أعلم بني إسرائيل بأهل البيت وأوجب عليهم ولا يتهم إذ ذاك ولم يثبت ذلك في صحيح الأخبار.
نعم
روى الإمامية من خبر جارود بن المنذر العبدي أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال له «يا جارود ليلة أسري بي إلي السماء أوحى الله عز وجل إليّ أن سل من أرسلنا قبلك من رسلنا علام بعثوا قلت: علام بعثوا؟ قال: على نبوتك وولاية علي بن أبي طالب والأئمة منكما ثم عرفني الله تعالى بهم بأسمائهم ثم ذكر صلّى الله عليه وسلّم أسماءهم واحدا بعد واحد إلى المهدي
وهو خير طويل يتفجر الكذب منه. ولهم أخبار في هذا المطلب كلها من هذا القبيل فلا فائدة في ذكرها إلا التطويل. والآية تدل على تحقق المغفرة لمن اتصف بمجموع الصفات المذكورة. وقصارى ما يفهم منها عند القائلين بالمفهوم عدم
__________
(1) في نسخة حركات اه منه.

(8/551)


تحققها لمن لم يتصف بالمجموع وعدم التحقق أعم من تحقق العدم فالآية بمعزل عن أن تكون دليلا للمعتزلي على تحقق عدم المغفرة لمرتكب الكبيرة إذا مات من غير توبة فافهم واحتج بها من قال تجب التوبة عن الكفر أولا ثم الإتيان بالإيمان ثانيا لأنه قدم فيها التوبة على الإيمان، واحتج بها أيضا من قال بعدم دخول العمل الصالح في الإيمان للعطف المقتضي للمغايرة وَما أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يا مُوسى حكاية لما جرى بينه تعالى وبين موسى عليه السلام من الكلام عند ابتداء موافاته الميقات بموجب المواعدة المذكورة سابقا أي وقلنا له أي شيء عجل بك عن قومك فتقدمت عليهم. والمراد بهم هنا عند كثير ومنهم الزمخشري النقباء السبعون. والمراد بالتعجيل تقدمه عليهم لا الإتيان قبل تمام الميعاد المضروب خلافا لبعضهم. والاستفهام للإنكار ويتضمن كما في الكشف إنكار السبب الحامل لوجود مانع في البين وهو إيهام إغفال القوم وعدم الاعتداد بهم مع كونه عليه السلام مأمورا باستصحابهم وإحضارهم معه وإنكار أصل الفعل لأن العجلة نقيصة في نفسها فكيف من أولي العزم اللائق بهم مزيد الحزم، وقوله تعالى:
قالَ هُمْ أُولاءِ عَلى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضى متضمن لبيان اعتذاره عليه السلام، وحاصله عرض الخطأ في الاجتهاد كأنه عليه السلام قال: إنهم لم يبعدوا عني وإن تقدمي عليهم بخطإ يسيرة وظني أن مثل ذلك لا ينكر وقد حملني عليه استدامة رضاك أو حصول زيادته وظني أن مثل هذا الحامل يصلح للحمل على مثل ما ذكر ولم يخطر لي أن هناك مانعا لينكر علي. ونحو هذا الإسراع المزيل للخشوع إلى إدراك الإمام في الركوع طلبا لأن يكون أداء هذا الركن مع الجماعة التي فيها رضا الرب تعالى فإنهم قالوا: إن ذلك غير مشروع، وقدم عليه السلام الاعتذار عن إنكار أصل الفعل لأنه أهم، وقال بعضهم: إن الاستفهام سؤال عن سبب العجلة يتضمن إنكارها لأنها في نفسها نقيصة انضم إليها الإغفال وإيهام التعظيم فأجاب عليه السلام عن السبب بأنه استدامة الرضا أو حصول زيادته وعن الإنكار بما محصله أنهم لم يبعدوا عني وظننت أن التقدم اليسير لكونه معتادا بين الناس لا ينكر ولا يعد نقيصة وعلل تقديم هذا الجواب بما مر. واعترض بأن مساق كلامه بظاهره يدل على أن السؤال عن السبب على حقيقته وأنت خبير بأن حقيقة الاستفهام محال على الله تعالى فلا وجه لبناء الكلام عليه، وأجيب بأن السؤال من علام الغيوب محال إن كان لاستدعاء المعرفة أما إذا كان لتعريف غيره أو لتبكيته أو تنبيهه فليس محالا، وتعقب بأنه لا يحسن هنا أن يكون السؤال لأحد المذكورات والمتبادر أن يكون للإنكار، وفي الانتصاف أن المراد من سؤال موسى عليه السلام عن سبب العجلة وهو سبحانه أعلم أن يعلمه أدب السفر وهو أنه ينبغي تأخر رئيس القوم عنهم ليكون بصره بهم ومهيمنا عليهم وهذا المعنى لا يحصل مع التقدم ألا ترى كيف علم الله تعالى هذا الأدب لوطا فقال سبحانه وَاتَّبِعْ أَدْبارَهُمْ [الحجر:
65] فأمره عز وجل أن يكون آخرهم وموسى عليه السلام إنما أغفل هذا الأمر مبادرة إلى رضا الله تعالى ومسارعة إلى الميعاد وذلك شأن الموعود بما يسره يود لو ركب أجنحة الطير ولا أسرّ من مواعدة الله تعالى له عليه الصلاة والسلام انتهى.
وأنت تعلم أن السؤال عن السبب ما لم يكن المراد منه إنكار المسبب لا يتسنى هذا التعليم، وقال بعضهم:
الذي يلوح بالبال أن يكون المعنى أي شيء أعجلك منفردا عن قومك، والإنكار بالذات للانفراد عنهم فهو منصب على القيد كما عرف في أمثاله، وإنكار العجلة ليس إلا لكونها وسيلة له فاعتذر موسى عليه السلام عنه بأني أخطأت في الاجتهاد وحسبت أن القدر اليسير من التقدم لا يخل بالمعية ولا يعد انفرادا ولا يقدح بالاستصحاب والحامل عليه طلب استدامة مرضاتك بالمبادرة إلى امتثال أمرك فالجواب هو قوله هُمْ أُولاءِ عَلى أَثَرِي، وقوله وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضى كالتتميم له اه وهو عندي لا يخلو عن حسن.

(8/552)


وقيل: إن السؤال عن السبب والجواب إنما هو قوله وَعَجِلْتُ إلخ وما قبله تمهيد له وفيه نظر، وعلى هذا وما قبله لم يكن جواب موسى عليه السلام عن أمرين ليجيء سؤال الترتيب فيجاب بما مر أو بما ذكره الزمخشري من أنه عليه السلام حار لما ورد عليه من التهيب لعتاب الله عز وجل فأذهله ذلك عن الجواب المنطبق المترتب على حدود الكلام لكن قال في البحر: إن في هذا الجواب إساءة الأدب مع الأنبياء عليهم السلام، وذلك شأن الزمخشري معهم صلى الله تعالى وسلّم عليهم، والمراد من إِلَيْكَ إلى مكان وعدك فلا يصلح دليلا للمجسمة على إثبات مكان له عز وجل. ونداؤه تعالى بعنوان الربوبية لمزيد الضراعة والابتهال رغبة في قبول العذر وأُولاءِ اسم إشارة كما هو المشهور مرفوع المحل على الخبرية- لهم- وعَلى أَثَرِي خبر بعد خبر أو حال كما قال أبو حيان وجوز الطبرسي كون أُولاءِ بدل من هُمْ وعَلى أَثَرِي هو الخبر، وقال أبو البقاء: أُولاءِ اسم موصول وعَلى أَثَرِي صلته وهو مذهب كوفي.
وقرأ الحسن وابن معاذ عن أبيه «أولاي» بياء مكسورة وابن وثاب وعيسى في رواية «أولى» بالقصر، وقرأت فرقة «أولاي» بياء مفتوحة وقرأ عيسى ويعقوب وعبد الوارث عن أبي عمرو وزيد بن علي رضي الله تعالى عنهما «على إثري» بكسر الهمزة وسكون الثاء، وحكى الكسائي «أثري» بضم الهمزة وسكون الثاء وتروى عن عيسى، وفي الكشاف إن «الأثر» بفتحتين أفصح من «الأثر» بكسر فسكون، وأما الأثر فمسموع في فرند السيف مدون في الأصول يقال: أثر السيف وأثره وهو بمعنى الأثر غريب قالَ استئناف مبني على سؤال نشأ من حكاية اعتذاره عليه السلام وهو السر في وروده على صيغة الغائب لا أنه التفات من التكلم إلى الغيبة لما أن المقدر فيما سبق على صيغة التكلم كأنه قيل من جهة السامعين: فماذا قال له ربه تعالى حينئذ؟ فقيل: قال سبحانه فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ أي اختبرناهم بما فعل السامري أو أوقعناهم في فتنة أي ميل مع الشهوات ووقوع في اختلاف مِنْ بَعْدِكَ من بعد فراقك لهم وذهابك من بينهم وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ حيث أخرج لهم عجلا جسدا له خوار ودعاهم إلى عبادته. وقيل: قال لهم وذهابك من بينهم وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ حيث أخرج لهم عجلا جسدا له خوار ودعاهم إلى عبادته. وقيل: قال لهم بعد أن غاب موسى عليه السلام عنهم عشرين ليلة: إنه قد كملت الأربعون فجعل العشرين مع أيامها أربعين ليلة. وليس من موسى عين ولا أثر وليس إخلافه ميعادكم إلا لما معكم من حلي القوم وهو حرام عليكم فجمعوه وكان من أمر العجل ما كان. والمراد بقومك هنا الذين خلفهم مع هارون عليه السلام، وكانوا على ما قيل ستمائة ألف ما نجا منهم من عبادة العجل إلا اثنا عشر ألفا فالمراد بهم غير المراد بقومك فيما تقدم، ولذا لم يؤت بضميرهم، وقيل: المراد بالقوم في الموضعين المتخلين لتعين إرادتهم هنا، والمعرفة المعادة عين الأولى. ومعنى «هم أولاء على أثري» هم بالقرب مني ينتطرونني.
وتعقبه في الكشف بأنه غير ملائم للفظ الأثر ولا هو مطابق لتمهيد عذر العجلة ومن أين لصاحب هذا التأويل النقل بأنهم كانوا على القرب من الطور وحديث المعرفة المعادة إنما هو إذا لم يقم دليل التغاير وقد قام على أن لنا أن تقول: هي عين الأولى لأن المراد بالقوم الجنس في الموضعين لكن المقصود منه أولا النقباء وثانيا المتخلفون ومثله كثير في القرآن انتهى. وما ذكره من نفي النقل الدال على القرب فيه مقال، وسيأتي إن شاء الله تعالى قريبا من الأخبار ما يدل بظاهره على القرب إلا أنا لم نقف على تصحيحه أو تضعيفه.
وما ذكر من تفسير هُمْ أُولاءِ عَلى أَثَرِي على إرادة المتخلفين في الأول أيضا نقله الطبرسي عن الحسن، ونقل عنه أيضا تفسيره بأنهم على ديني ومنهاجي والأمر عليه أهون. والفاء لتعليل ما يفهمه الكلام السابق كأنه قيل: لا ينبغي عجلتك عن قومك وتقدمك عليهم وإهمال أمرهم لوجه من الوجوه فإنهم لحداثة عهدهم باتباعك ومزيد

(8/553)


بلاهتهم وحماقتهم بمكان يحيق فيه مكر الشيطان ويتمكن من إضلالهم فإن القوم الذين خلفتهم مع أخيك قد فتنوا وأضلهم السامري بخروجك من بينهم فكيف تأمن على هؤلاء الذين أغفلتهم وأهملت أمرهم.
وفي إرشاد العقل السليم إنها لترتيب الأخبار بما ذكر من الابتلاء على أخبار موسى عليه السلام بعجلته لكن لا لأن الأخبار بها سبب موجب للأخبار به بل لما بينهما من المناسبة المصححة للانتقال من أحدهما إلى الآخر من حيث أن مدار الابتلاء المذكور عجلة القوم وليس بذاك. وأما قول الخفاجي: إنها للتعقيب من غير تعليل أخ أقول لك عقب ما ذكر إنا قد فتنا إلى آخره ففيه سهو ظاهر لأن هذا المعنى إنما يتسنى لو كانت الفاء داخلة على القول لكنها داخلة على ما بعده وظاهر الآية يدل على أن الفتن وإضلال السامري إياهم قد تحققا ووقعا قبل الإخبار بهما إذ صيغة الماضي ظاهرة في ذلك، والظاهر أيضا على ما قررنا أن الأخبار كان عند مجيئه عليه السلام للطور لم يتقدمه إلا العتاب والاعتذار. وفي الآثار ما يدل على أن وقوع ما ذكر كان بعد عشرين ليلة من ذهابه عليه السلام لجانب الطور، وقيل: بعد ست وثلاثين يوما وحينئذ يكون التعبير عن ذلك بصيغة الماضي لاعتبار تحققه في علم الله تعالى ومشيئته أو لأنه قريب الوقوع مترقبه أو لأن السامري كان قد عزم على إيقاع الفتنة عند ذهاب موسى عليه السلام وتصدى لترتيب مبادئها وتمهيد مبانيها فنزل مباشرة الأسباب منزلة الوقوع. والسامري عند الأكثر كما قال الزجاج: كان عظيما من عظماء بني إسرائيل من قبيلة تعرف بالسامرة وهم إلى هذه الغاية في الشام يعرفون بالسامريين، وقيل: هو ابن خالة موسى عليه السلام، وقيل: ابن عمه، وقيل: كان علجا من كرمان، وقيل: كان من أهل باجرما قرية قريبة من مصر أو قرية من قرى موصل، وقيل: كان من القبط وخرج مع موسى عليه السلام مظهرا الإيمان وكان جاره.
وقيل: كان من عباد البقر وقع في مصر فدخل في بني إسرائيل بظاهره وفي قلبه عبادة البقر. واسمه قيل موسى بن ظفر، وقيل: منجا، والأول أشهر، وأخرج ابن جرير عن ابن عباس أن أمه حين خافت أن يذبح خلفته في غار وأطبقت عليه فكان جبريل عليه السلام يأتيه فيغذوه بأصابعه في واحدة لبنا وفي الأخرى عسلا، وفي الأخرى سمنا ولم يزل يغذوه حتى نشأ وعلى ذلك قول من قال:
إذا المرء لم يخلق سعيدا تحيرت ... عقول مربيه وخاب المؤمل

فموسى الذي رباه جبريل كافر ... وموسى الذي رباه فرعون مرسل
وبالجملة كان عند الجهور منافقا يظهر الإيمان ويبطن الكفر، وقرأ معاذ «أضلّهم» على أنه أفعل تفضيل أي أشدهم ضلالا لأنه ضال ومضل فَرَجَعَ مُوسى إِلى قَوْمِهِ عند رجوعه المعهود أي بعد ما استوفى الأربعين ذا القعدة وعشر ذي الحجة وأخذ التوراة لا عقيب الأخبار المذكور فسببية ما قبل الفاء لما بعدها إنما هي باعتبار قيد الرجوع المستفاد من قوله تعالى: غَضْبانَ أَسِفاً لا باعتبار نفسه وإن كانت داخلة عليه حقيقة فإن كون الرجوع بعد تمام الأربعين أمر مقرر مشهور لا يذهب الوهم إلى كونه عند الأخبار المذكور كما إذا قلت: شايعت الحجاج ودعوت لهم بالسلامة فرجعوا سالمين فإن أحدا لا يرتاب في أن المراد رجوعهم المعتاد لا رجوعهم أثر الدعاء وإن سببية الدعاء باعتبار وصف السلامة لا باعتبار نفس الرجوع كذا في إرشاد العقل السليم وهو مما لا ينتطح فيه كبشان. والأسف الحزين كما روي عن ابن عباس وكان حزنه عليه السلام من حيث أن ما وقع فيه قومه مما يترتب عليه العقوبة ولا يد له بدفعها.

(8/554)


وقال غير واحد: هو شديد الغضب، وقال الجبائي متلهفا على ما فاته متحيرا في أمر قومه يخشى أن لا يمكنه تداركه وهذا معنى للأسف غير مشهور قالَ استئناف بياني كأنه قيل: فماذا فعل بهم لما رجع إليهم؟ فقيل قال:
يا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ الهمزة لإنكار عدم الوعد ونفيه وتقرير وجوده على أبلغ وجه وآكده أي وعدكم وَعْداً حَسَناً لا سبيل لكم إلى إنكاره. والمراد بذلك إعطاء التوراة التي فيها هدى ونور، وقيل: هو ما وعدهم سبحانه من الوصول إلى جانب الطور الأيمن وما بعد ذلك من الفتوح في الأرض والمغفرة لمن تاب وآمن وغير ذلك مما وعد الله تعالى أهل طاعته.
وعن الحسن أن الوعد الحسن الجنة التي وعدها من تمسك بدينه، وقيل: هو أن يسمعهم جل وعلا كلامه عز شأنه ولعل الأول أولى، ونصب وَعْداً يحتمل أن يكون على أنه مفعول ثان وهو بمعنى الموعود ويحتمل أن يكون على المصدرية والمفعول الثاني محذوف، والفاء في قوله تعالى: أَفَطالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ للعطف على مقدر والهمزة لإنكار المعطوف ونفيه فقط، وجوز أن تكون الهمزة مقدمة من تأخير لصدارتها والعطف على لم يَعِدْكُمْ لأنه بمعنى قد وعدكم، واختار جمع الأول أل في العهد له، والمراد زمان الإنجاز، وقيل: زمان المفارقة أي أوعدكم سبحانه ذلك فطال زمان الإنجاز أو زمان المفارقة للإتيان به أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ أي يجب عَلَيْكُمْ غَضَبٌ شديد لا يقادر قدره كائن مِنْ رَبِّكُمْ أي من مالك أمركم على الإطلاق. والمراد من إرادة ذلك فعل ما يكون مقتضيا له.
والفاء في قوله تعالى فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي لترتيب ما بعدها على كل من الشقين، والموعد مصدر مضاف إلى مفعوله للقصد إلى زيادة تقبيح حالهم فإن إخلافهم الوعد الجاري فيما بينهم وبينه عليه السلام من حيث إضافته إليه عليه السلام أشنع منه من حيث إضافته إليهم، والمعنى أفطال عليكم الزمان فنسيتم بسبب ذلك فأخلفتم وعدكم إياي بالثبات على ديني إلى أن أرجع من الميقات نسيانا أو تعمدتم فعل ما يكون سببا لحلول غضب ربكم عليكم فأخلفتم وعدكم إياي بذلك عمدا، وحاصله أنسيتم فأخلفتم أو تعمدتم فاخلفتم، ومنه يعلم التقابل بين الشقين.
وجوز المفضل أن يكون الموعد مصدرا مضافا إلى الفاعل وإخلافه بمعنى وجدان الخلف فيه يقال: أخلف وعد زيد بمعنى وجد الخلف فيه، ونظيره أحمدت زيدا أي فوجدتم الخلف في موعدي إياكم بعد الأربعين، وفيه أنه لا يساعده السياق ولا السباق أصلا، وقيل: المصدر مضاف إلى المفعول إلا أن المراد منه وعدهم إياه عليه السلام باللحاق به والمجيء للطور على أثره وفيه ما فيه، واستدلت المعتزلة بالآية على أن الله عز وجل ليس خالقا للكفر وإلا لما قال سبحانه وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ ولما كان لغضب موسى عليه السلام وأسفه وجه ولا يخفى ما فيه قالُوا ما أَخْلَفْنا مَوْعِدَكَ أي وعدنا إياك الثبات على دينك، وإيثاره على أن يقال موعدنا على إضافة المصدر إلى فاعله لما مر آنفا.
بِمَلْكِنا بأن ملكنا أمرنا يعنون أنا ولو خلينا وأنفسنا ولم يسول لنا السامري ما سوله مع مساعدة بعض الأحوال لما أخلفناه. وقرأ بعض السبعة «بملكنا» بكسر الميم وقرأ الأخوان والحسن والأعمش وطلحة وابن أبي ليلى وقعنب بضمها وقرأ عمر رضي الله تعالى عنه «بملكنا» بفتح الميم واللام قال في البحر: أي بسلطاننا، واستظهر أن الملك بالضم والفتح والكسر بمعنى. وفرق أبو علي فقال: معنى المضموم أنه لم يكن لنا ملك فنخلف موعدك بسلطانه وإنما أخلفناه بنظر أدى إليه ما فعل السامري، والكلام على حد قوله تعالى لا يَسْئَلُونَ النَّاسَ إِلْحافاً [البقرة:
273] وقول ذي الرمة.

(8/555)


لا تشتكي سقطة منها وقد رقصت ... بها المفاوز حتى ظهرها حدب
ومفتوح الميم مصدر ملك، والمعنى ما فعلنا ذلك بأن ملكنا الصواب ووفقنا له بل غلبتنا أنفسنا ومكسور الميم كثر استعماله فيما تحوزه اليد ولكنه يستعمل في الأمور التي يبرمها الإنسان، والمعنى عليه كالمعنى على المفتوح الميم، والمصدر في هذين الوجهين مضاف إلى الفاعل والمفعول مقدر أي بملكنا الصواب وَلكِنَّا حُمِّلْنا أَوْزاراً مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ استدراك عما سبق واعتذار عما فعلوا ببيان منشأ الخطأ، والمراد بالقوم القبط والأوزار الأحمال وتسمى بها الآثام. وعنوا بذلك ما استعاروه من القبط من الحلي برسم التزين في عيد لهم قبيل الخروج من مصر كما أسلفنا.
وقيل: استعاروه باسم العرس. وقيل: هو ما ألقاه البحر على الساحل مما كان على الذين غرقوا، ولعلهم أطلقوا على ذلك الأوزار مرادا بها الآثام من حيث أن الحلي سبب لها غالبا لما أنه يلبس في الأكثر للفخر والخيلاء والترفع على الفقراء، وقيل: من حيث أنهم أثموا بسببه وعبدوا العجل المصوغ منه، وقيل من حيث أن ذلك الحلي صار بعد هلاك أصحابه في حكم الغنيمة ولم يكن مثل هذه الغنيمة حلالا لهم بلا ظاره الأحاديث الصحيحة أن الغنائم سواء كانت من المنقولات أم لا لم تحل لأحد قبل نبينا ص، والرواية السابقة في كيفية الإضلال توافق هذا التوجيه إلا أنه يشكل على ذلك ما روي من أن موسى عليه السلام هو الذي أمرهم بالاستعارة حتى قيل: إن فاعل التحميل في قولهم حُمِّلْنا هو موسى عليه السلام حيث ألزمهم ذلك بأمرهم بالاستعارة وقد أبقاه في أيديهم بعد هلاك أصحابه وأقرهم على استعماله فإذا لم يكن حلالا فكيف يقرهم، وكذا يقال على القول بأن المراد به ما ألقاه البحر على الساحل، واحتمال أن موسى عليه السلام نهى عن ذلك وظن الامتثال ولم يطلع على عدمه لإخفاء الحال عنه عليه السلام مما لا يكاد يلتفت إلى مثله أصلا لا سيما على رواية أنهم أمروا باستعارة دواب من القوم أيضا فاستعاروها وخرجوا بها.
وقد يقال: إن أموال القبط مطلقا بعد هلاكهم كانت حلالا عليهم كما يقتضيه ظاهر قوله تعالى كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَزُرُوعٍ وَمَقامٍ كَرِيمٍ [الدخان: 25، 26] كذلك وَأَوْرَثْناها بَنِي إِسْرائِيلَ [غافر: 53] وقد أضاف سبحانه الحلي إليهم في قوله تعالى وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلًا جَسَداً [الأعراف: 148] وذلك يقتضي بظاهره أن الحلي ملك لهم ويدعي اختصاص الحل فيما كان الرد فيه متعذرا لهلاك صاحبه ومن يقوم مقامه، ولا ينافي ذلك
قوله ص: «أحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد قبلي
لجواز أن يكون المراد به أحلت لي الغنائم على أي وجه كانت ولم تحل كذلك لأحد قبلي ويكون تسميتهم ذلك أوزارا إما لما تقدم من الوجه الأول والثاني وإما لظنهم الحرمة لجهلهم في أنفسهم أو لإلقاء السامري الشبهة عليهم، وقيل: إن موسى عليه السلام أمره الله تعالى أن يأمرهم بالاستعارة فأمرهم وأبقى ما استعاروه بأيديهم بعد هلاك أصحابه بحكم ذلك الأمر منتظرا ما يأمر الله تعالى به بعد. وقد جاء في بعض الأخبار ما يدل على أن الله سبحانه بين حكمه على لسان هارون عليه السلام بعد ذهاب موسى عليه السلام للميقات كما سنذكره قريبا إن شاء الله تعالى فتأمل ذاك والله تعالى يتولى هداك. والجار والمجرور يحتمل أن يكون متعلقا بحملنا وأن يكون متعلقا بمحذوف وقع صفة لأوزارا، ولا يتعين ذلك بناء على قولهم: إن الجمل والظروف بعد النكرات صفات وبعد المعارف أحوال لأن ذلك ليس على إطلاقه.
وقرأ الأخوان وأبو عمرو وابن محيصن «حملنا» بفتح الحاء والميم وأبو رجاء «حملنا» بضم الحاء وكسر الميم

(8/556)


من غير تشديد فَقَذَفْناها أي طرحناها في النار كما تدل عليه الأخبار. وقيل: أي ألقيناها على أنفسنا وأولادنا وليس بشيء أصلا فَكَذلِكَ أي فمثل ذلك أَلْقَى السَّامِرِيُّ أي ما كان معه منها قيل كأنه أراهم أنه أيضا يلقي ما كان معه من الحلي فقالوا ما قالوا على زعمهم وإنما كان الذي ألقاه التربة التي أخذها من أثر الرسول كما سيأتي إن شاء الله تعالى. وقيل: إنه ألقى ما معه من الحلي وألقى مع ذلك ما أخذه من أثر الرسول كأنهم لم يريدوا إلا أنه ألقى ما معه من الحلي، وقيل: أرادوا ألقى التربة، وأيده بعضهم بتغيير الأسلوب إذ لم يعبر بالقذف المتبادر منه أن ما رماه جرم مجتمع وفيه نظر، وقد يقال: المعنى فمثل ذلك الذي ذكرناه لك ألقى السامري إلينا وقرره علينا وفيه بعد وإن ذكر أنه قال لهم: إنما تأخر موسى عليه السلام عنكم لما معكم من حلي القوم وهو حرام عليكم فالرأي أن نحفر حفيرة ونسجر فيها نارا ونقذف فيها ما معنا منه ففعلوا وكان صنع في الحفيرة قالب عجل،
وقد أخرج ابن إسحاق وابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه لما فصل موسى عليه السلام إلى ربه سبحانه قال لهم هارون عليه السلام: إنكم قد حملتم أوزارا من زينة القوم إلى فرعون وأمتعة وحليا فتطهروا منها فإنها رجس وأوقد لهم نارا فقال لهم: اقذفوا ما معكم من ذلك فيها فجعلوا يأتون بما معهم فيقذفونه فيها فجاء السامري ومعه تراب من أثر حافر فرس جبريل عليه السلام وأقبل إلى النار فقال لهارون عليه السلام: يا نبي الله أألقي ما في يدي؟ فقال: نعم ولا يظن هارون عليه السلام إلا أنه كبعض ما جاء به غيره من ذلك الحلي والأمتعة فقذفه فيها فقال: كن عجلا جسدا له خوار فكان للبلاء والفتنة.
وأخرج عبد بن حميد وابن أبي حاتم عنه أيضا أن بني إسرائيل استعاروا حليا من القبط فخرجوا به معهم فقال لهم هارون بعد أن ذهب موسى عليهما السلام: اجمعوا هذا الحلي حتى يجيء موسى فيقضي فيه ما يقضي فجمع ثم أذيب فألقى السامري عليه القبضة فَأَخْرَجَ أي السامري لَهُمْ للقائلين المذكورين عِجْلًا من تلك الأوزار التي قذفوها وتأخيره مع كونه مفعولا صريحا عن الجار والمجرور لما مر غير مرة من الاعتناء بالمقدم والتشويق إلى المؤخر مع ما فيه من نوع طول يخل تقديمه بتجاوب النظم الكريم فإن قوله جَسَداً أي جئة ذا لحم ودم أو جسدا من ذهب لا روح فيه بدل منه، وقيل: هو نعت له على أن معناه أحمر كالمجسد، وكذا قوله تعالى لَهُ خُوارٌ نعت له، والخوار صوت العجل. وهذا الصوت إما لأنه نفخ فيه الروح بناء على ما
أخرجه ابن مردويه عن كعب بن مالك عن النبي ص قال: «إن الله تعالى لما وعد موسى عليه السلام أن يكلمه خرج للوقت الذي وعده فبينما هو يناجي ربه إذ سمع خلفه صوتا فقال: إلهي إني أسمع خلفي صوتا قال: لعل قومك ضلوا قال: إلهي من أضلهم؟ قال: أضلهم السامري قال: فيم أضلهم؟ قال: صاغ لهم عجلا جسدا له خوار قال: إلهي هذا السامري صاغ لهم العجل فمن نفخ فيه الروح حتى صار له خوار؟ قال: أنا يا موسى قال: فوعزتك ما أضل قومي أحد غيرك قال: صدقت يا حكيم الحكماء لا ينبغي لحكيم أن يكون أحكم منك» .
وجاء في رواية أخرى عن راشد بن سعد أنه سبحانه قال له: يا موسى إن قومك قد افتتنوا من بعدك قال: يا رب كيف يفتتنون وقد نجيتهم من فرعون ونجيتهم من البحر وأنعمت عليهم وفعلت بهم قال: يا موسى إنهم اتخذوا من بعدك عجلا له خوار قال: يا رب فمن جعل فيه الروح؟ قال: أنا قال: فأنت يا رب أضللتهم قال: يا موسى يا رأس النبيين ويا أبا الحكماء إني رأيت ذلك في قلوبهم فيسرته لهم، وإما لأنه تدخل فيه الريح فيصوت
بناء على ما أخرجه ابن جرير عن ابن عباس قال: كان بني إسرائيل تأثموا من حلي آل فرعون الذي معهم فأخرجوه لتنزل النار فتأكله فلما جمعوه ألقى السامري القبضة وقال: كن عجلا جسدا له خوار فصار كذلك وكان يدخل الريح من دبره ويخرج من فيه

(8/557)


فيسمع له صوت فَقالُوا أي السامري ومن افتتن به أول ما رآه، وقيل: الضمير للسامري، وجيء به ضمير جمع تعظيما لجرمه، وفيه بعد.
هذا إِلهُكُمْ وَإِلهُ مُوسى فَنَسِيَ أي فغفل عنه موسى وذهب يطلبه في الطور، فضمير نسى لموسى عليه السلام كما روي عن ابن عباس وقتادة والفاء فصيحة أي فاعبدوه والزموا عبادته فقد نسي موسى عليه السلام، وعن ابن عباس أيضا. ومكحول أن الضمير للسامري والنسيان مجاز عن الترك والفاء فصيحة أيضا أي فأظهر السامري النفاق فترك ما كان فيه من أسرار الكفر، والأخبار بذلك على هذا منه تعالى وليس داخلا في حيز القول بخلافه على الوجه الأول. وصنيع بعض المحققين يشعر باختيار الأول ولا يخفى ما في الإتيان باسم الإشارة والمشار إليه بمرأى منهم وتكريرا له، وتخصيص موسى عليه السلام بالذكر وإتيان الفاء من المبالغة في الضلال والأخبار بالإخراج وما بعده حكاية نتيجة فتنة السامري فعلا وقولا من جهته سبحانه قصدا إلى زيادة تقريرها ثم الإنكار عليها لا من جهة القائلين وإلا لقيل فأخرج لنا، والحمل على أن عدولهم إلى ضمير الغيبة لبيان أن الإخراج والقول المذكورين للكل لا للعبدة فقط خلاف الظاهر مع أنه مخل باعتذارهم فإن مخالفة بعضهم للسامري وعدم افتتانهم بتسويله مع كون الإخراج والخطاب لهم مما يهون مخالفته للمعتذرين فافتتانهم بعد أعظم جناية وأكثر شناعة، وأما ما قيل من أن المعتذرين هم الذين لم يعبدوا العجل وأن نسبة الأخلاف إلى أنفسهم وهم برآء منه من قيل قولهم بنو فلان قتلوا فلانا مع أن القاتل واحد منهم كانوا قالوا: ما وجدنا الأخلاف فيما بيننا بأمر كنا نملكه بل تمكنت الشبهة في قلوب العبدة حيث فعل بهم السامري ما فعل فأخرج لهم ما أخرج وقال ما قال فلم نقدر على صرفهم عن ذلك ولم نفارقهم مخافة ازدياد الفتنة فقد قال شيخ الإسلام: إن سياق النظم الكريم وسباقه يقضيان بفساده، وذهب أبو مسلم إلى أن كلام المعتذرين ثم عند قولهم فقذفناها وما بعده من قوله تعالى: فَكَذلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ إلى آخره أخبار من جهته سبحانه أن السامري فعل كما فعلوا فأخرج لهم إلخ وهو خلاف الظاهر.
هذا وقرأ الأعمش «فنسي» بسكون الياء، وقوله تعالى أَفَلا يَرَوْنَ إلى آخره إنكار وتقبيح من جهته تعالى الضالين والمضلين جميعا وتسفيه لهم فيما أقدموا عليه من المنكر الذي لا يشتبه بطلانه واستحالته على أحد وهو اتخاذ ذلك العجل إلها، ولعمري لو لم يكونوا في البلادة كالبقر لما عبدوه، والفاء للعطف على مقدر يقتضيه المقام أي ألا يتفكرون فلا يعلمون أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا أي أنه لا يرجع إليهم كلاما ولا يرد عليهم جوابا بل يخور كسائر العجاجيل فمن هذا شأنه كيف يتوهم أنه إله.
وقرأ الإمام الشافعي وأبو حيوة وأبان وابن صبيح والزعفراني «يرجع» بالنصب على أن أن هي الناصبة لا المخففة من الثقيلة، والرؤية حينئذ بمعنى الإبصار لا العلم بناء على ما ذكره الرضى. وجماعة من أن الناصبة لا تقع بعد أفعال القلوب مما يدل على يقين أو ظن غالب لأنها لكونها للاستقبال تدخل على ما ليس بثابت مستقر فلا يناسب وقوعها بعد ما يدل على يقين ونحوه، والعطف أيضا كما سبق أي ألا ينظرون فلا يبصرون عدم رجعه إليهم قولا من الأقوال، وتعليق الأبصار بما ذكر مع كونه أمرا عدميا للتنبيه على كمال ظهوره المستدعي لمزيد تشنيعهم وتركيك عقولهم، وقيل: إن الناصبة لا تقع بعد رأي البصرية أيضا لأنها تفيد العلم بواسطة إحساس البصر كما في إيضاح المفصل. وأجاز الفراء وابن الأنباري وقوعها بعد إفعال العلم فضلا عن أفعال البصر، وقوله تعالى وَلا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً عطف على لا يَرْجِعُ داخل معه في حيز الرؤية أي فلا يرون أنه لا يقدر على أن يدفع عنهم ضرا ويجلب لهم نفعا أو لا يقدر على أن يضرهم إن لم يعبدوه أو ينفعهم إن عبدوه.

(8/558)


وقوله تعالى وَلَقَدْ قالَ لَهُمْ هارُونُ مِنْ قَبْلُ مع ما بعد جملة قسمية مؤكدة لما سبق من الإنكار والتشنيع ببيان عتوهم واستعصائهم على الرسول إثر بيان مكابرتهم لقضية العقول أي وباف لقد نصح لهم هارون ونبههم على كنه الأمر من قبل رجوع موسى عليه السلام إليهم وخطابه إياهم بما ذكر من المقالات، وإلى اعتبار المضاف إليه قبل ما ذكر ذهب الواحدي، وقيل: من قبل قول السامري هذا إلهكم وإله موسى كأنه عليه السلام أول ما أبصره حين طلع من الحفيرة تفرس فيهما لافتتان فسارع إلى تحذيرهم، واختاره صاحب الكشف تبعا لشيخه وقال: هو أبلغ وأدل على توبيخهم بالإعراض عن دليل العقل والسمع في «أفلا يرون. ولقد ال» واختار بعضهم الأول وادعى أن الجواب يؤيده، وسيأتي إن شاء الله تعالى الكلام في ذلك.
وجوز العلامة الطيبي في هذه الجملة وجهين كونها معطوفة على قوله تعالى أَفَلا يَرَوْنَ وقال: إن في إيثار المضارع فيه دلالة على استحضار تلك الحالة الفظيعة في ذهن السامع واستدعاء الإنكار عليهم، وكونها في موضع الحال من فاعل يَرَوْنَ مقررة لجهة الإنكار أي أفلا يرون والحال أن هارون نبههم قبل ذلك على كنه الأمر، وقال لهم: يا قَوْمِ إِنَّما فُتِنْتُمْ بِهِ أي أوقعتهم في الفتنة بالعجل أو أضللتم على توجيه القصر المستفاد من كلمة إِنَّما في أغلب استعمالاتها إلى نفس الفعل بالقياس إلى مقابله الذي يدعيه القوم لا إلى قيده المذكور بالقياس إلى قيد آخر على معنى إنما فعل بكم الفتنة لا الإرشاد إلى الحق لا على معنى إنما فتنتم بالعجل لا بغيره، وقوله تعالى وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمنُ بكسر همزة إِنَّ عطفا على إِنَّما إلخ إرشاد لهم إلى الحق أثر زجرهم عن الباطل. والتعرض لعنوان الربوبية والرحمة للاعتناء باستمالتهم إلى الحق. وفي ذلك تذكير لتخليصهم من فرعون زمان لم يوجد العجل. وكذا على ما قيل تنبيه على أنهم متى تابوا قبلهم. وتعريف الطرفين لإفادة الحصر أي وإن ربكم المستحق للعبادة هو الرحمن لا غير.
وقرأ الحسن وعيسى وأبو عمرو في رواية «وأن ربكم» بفتح الهمزة، وخرج على أن المصدر المنسبك خبر مبتدأ محذوف أي والأمر أن ربكم الرحمن، والجملة معطوفة على ما مر، وقال أبو حاتم: التقدير ولأن ربكم إلخ وجعل الجار والمجرور متعلقا باتبعوني. وقرأت فرقة «أنما» «وأن ربكم» بفتح الهمزتين، وخرج على لغة سليم حيث يفتحون همزة إن بعد القول مطلقا. والفاء في قوله تعالى: فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي لترتيب ما بعدها على ما قبلها من مضمون الجملتين أي إذا كان الأمر كذلك فاتبعوني وأطيعوا أمري في الثبات على الدين.
وقال ابن عطية: أي فاتبعوني إلى الطور الذي واعدكم الله تعالى إليه. وفيه أنه عليه السلام لم يكن بصدد الذهاب إلى الطور ولم يكن مأمورا به وما واعد الله سبحانه أولئك المفتونين بذهابهم أنفسهم إليه، وقيل:- لا يخلو عن حسن- أي فاتبعوني في الثبات على الحق وأطيعوا أمري هذا وأعرضوا عن التعرض لعبادة ما عرفتم أمره أو كفوا أنفسكم عن اعتقاد ألوهيته وعبادته قالُوا في جواب هارون عليه السلام لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ أي لا نزال على عبادة العجل عاكِفِينَ مقيمين حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنا مُوسى الظاهر من حالهم أنهم لم يجعلوا رجوعه عليه السلام وماذا يقول فيه، وقيل: إنهم علق في أذهانهم قول السامري: هذا إِلهُكُمْ وَإِلهُ مُوسى فَنَسِيَ فغيوا برجوعه بطريق التعليل والتسويف وأظهروا أنه إذا رجع عليه السلام غاية للعكوف على عبادة العجل على طريق الوعد بتركها لا محالة عند رجوعه بل ليروا ماذا يكون منه عليه السلام يوافقهم على عبادته وحاشاه، وهذا مبني على أن المحاورة بينهم وبين هارون عليه السلام وقعت بعد قول السامري المذكور فيكون مِنْ قَبْلُ على معنى من قبل رجوع موسى، وذكر أن

(8/559)


هذا الجواب يؤيده هذا المعنى لأن قولهم: لَنْ نَبْرَحَ إلخ يدل على عكوفهم حال قوله عليه السلام وهم لم يعكفوا على عبادته قبل قول السامري وإنما عكفوا بعده.
وقال الطيبي: إن جوابهم هذا من باب الأسلوب الأحمق نقيض الأسلوب الحكيم لأنهم قالوه عن قلة مبالاة بالأدلة الظاهرة كما قال نمروذ في جواب الخليل عليه السلام أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ [البقرة: 258] فتأمل، واستدل أبو حيان بهذا التغيي على أن- لن- لا تفيد التأبيد لأن التغيي لا يكون إلا حيث يكون الشيء محتملا فيزال الاحتمال به.
وأنت تعلم أن القائل بافادتها ذلك لا يدعي أنها تفيده في كل الموارد وهو ظاهر، وفي بعض الأخبار أنهم لما قالوا ذلك اعتزلهم هارون عليه السلام في اثني عشر ألفا وهم الذين لم يعبدوا العجل فلما رجع موسى عليه السلام وسمع الصياح وكانوا يسجدون إذا خار العجل فلا يرفعون حتى يخور ثانية، وفي رواية كانوا يرقصون عند خواره قال للسبعين الذين كانوا معه: هذا صوت الفتنة حتى إذا وصل قال لقومه ما قال وسمع منهم ما قالوا.
وقوله تعالى: قالَ استئناف نشأ من حكاية جوابهم السابق أعني قوله تعالى ما أَخْلَفْنا مَوْعِدَكَ إلخ كأنه قيل: فماذا قال موسى لهارون عليهما السلام حين سمع جوابهم وهل رضي بسكوته بعد ما شاهد منهم ما شاهد؟
فقيل: قال له وهو مغتاظ قد أخذ بلحيته ورأسه يا هارُونُ ما مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا بعبادة العجل ولم يلتفتوا إلى دليل بطلانها أَلَّا تَتَّبِعَنِ أي تتبعني على أن (لا) سيف خطيب كما في قوله تعالى ما مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ [الأعراف: 12] وهو مفعول ثان لمنع وإذ متعلق بمنع، وقيل: بتتبعني، ورد بأن ما بعد- أن- لا يعمل فيما قبلها، وأجيب بأن الظرف يتوسع فيه ما لم يتوسع في غيره وبأن الفعل السابق لما طلبه على أنه مفعول ثان له كان مقدما حكما وهو كما ترى أي أي شيء منعك حين رؤيتك لضلالهم من أن تتبعني وتسير بسيري في الغضب لله تعالى والمقاتلة مع من كفر به وروي ذلك عن مقاتل، وقيل: في الإصلاح والتسديد ولا يساعده ظاهر الاعتذار، واستظهر أبو حيان أن يكون المعنى ما منعك من أن تلحقني إلى جبل الطور بمن آمن من بني إسرائيل، وروي ذلك عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وكان موسى عليه السلام رأى أن مفارقة هارون لهم وخروجه من بينهم بعد تلك النصائح القولية أزجر لهم من الاقتصار على النصائح لما أن ذلك أدل على الغضب وأشد في الإنكار لا سيما وقد كان عليه السلام رئيسا عليهم محبوبا لديهم وموسى يعلم ذلك ومفارقة الرئيس المحبوب كراهة لأمر تشق جدا على النفوس وتستدعي ترك ذلك الأمر المكروه له الذي يوجب مفارقته وهذا ظاهر لا غبار عليه عند من أنصف.
فالقول بأن نصائح هارون عليه السلام حيث لم تزجرهم عما كانوا عليه فلأن لا تزجرهم مفارقته إياهم عنه أولى على ما فيه لا يرد على ما ذكرنا ولا حاجة إلى الاعتذار بأنهم إذا علموا أنه يلحقه ويخبره عليهما السلام بالقصة يخافون رجوع موسى عليه السلام فينزجرون عن ذلك ليقال: إنه بمعزل عن القبول كيف لا وهم قد صرحوا بأنهم عاكفون عليه إلى حين رجوعه عليه السلام، وقال علي بن عيسى: إن (لا) ليست مزيدة، والمعنى ما حملك على عدم الاتباع فإن المنع عن الشيء مستلزم للحمل على مقابله أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي بسياستهم حسب ما ينبغي فإن قوله عليه السلام اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي بدون ضم قوله وَأَصْلِحْ وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ [الأعراف: 142] متضمن للأمر بذلك حتما فإن الخلافة لا تتحقق إلا بمباشرة الخليفة ما كان يباشره المستخلف لو كان حاضرا وموسى عليه السلام لو كان حاضرا لساسهم على أبلغ وجه، والفاء للعطف على مقدر يقتضيه المقام أي ألم تتبعني أو أخالفتني

(8/560)


فعصيت أمري الَ يَا بْنَ أُمَ
خص الأم بالإضافة استعطافا وترقيقا لقلبه لا لما قيل من أنه كان أخاه لأمه فإن الجمهور على أنهما كانا شقيقين.
وقرأ حمزة والكسائي «يا بن أم» بكسر الميم تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي
أي بشعر رأسي فإن الأخذ أنسب به، وزعم بعضهم أن قوله لِحْيَتِي
على معنى بشعر لحيتي أيضا لأن أصل وضع اللحية للعضو النابت عليه الشعر ولا يناسبه الأخذ كثير مناسبة، وأنت تعلم أن المشهور استعمال اللحية في الشعر النابت على العضو المخصوص، وظاهر الآيات والأخبار أنه عليه السلام أخذ بذلك. روي أنه أخذ شعر رأسه بيمينه ولحيته بشماله وكان عليه السلام حديدا متصلبا غضوبا لله تعالى وقد شاهد ما شاهد وغلب على ظنه تقصير في هارون عليه السلام يستحق به وإن لم يخرجه عن دائرة العصمة الثابتة للأنبياء عليهم السلام التأديب ففعل به ما فعل وباشر ذلك بنفسه ولا محذور فيه أصلا ولا مخالفة للشرع فلا يرد ما توهمه الإمام فقال: لا يخلو الغضب من أن يزيل عقله أولا والأول لا يعتقده مسلم والثاني لا يزيل السؤال بلزوم عدم العصمة. وأجاب بما لا طائل تحته.
وقرأ عيسى بن سليمان الحجازي «بلحيتي» بفتح اللام وهي لغة أهل الحجازنِّي خَشِيتُ
إلخ استئناف لتعليل موجب النهي بتحقيق أنه غير عاص أمره ولا مقصر في المصلحة أي خشيت لو قاتلت بعضهم ببعض وتفانوا وتفرقوا أو خشيت لو لحقتك بمن آمن نْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرائِيلَ
برأيك مع كونهم أبناء واحد كما ينبىء عن ذلك ذكرهم بهذا العنوان دون القوم ونحوه، واستلزام المقاتلة التفريق ظاهر، وكذا اللحوق بموسى عليه السلام مع من آمن وربما يجر ذلك إلى المقاتلة. وقيل: أراد عليه السلام بالتفريق على التفسير الأول ما يستتبعه القتال من التفريق الذي لا يرجى بعده الاجتماع.
لَمْ تَرْقُبْ
أي ولم تراع وْلِي
والجملة عطف على رَّقْتَ
أي خشيت أن تقول مجموع الجملتين وتنسب إلى تفريق بني إسرائيل وعدم مراعاة قولك لي ووصيتك إياي، وجوز أن تكون الجملة في موضع الحال من ضميررَّقْتَ
أي خشيت أن تقول فرقت بينهم غير مراع قولي أي خشيت أن تقول مجموع هذا الكلام، وأراد بقول موسى المضاف إلى الياء قوله عليه السلام اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ إلخ، وحاصل اعتذاره عليه السلام إني رأيت الإصلاح في حفظ الدهماء والمداراة معهم وزجرهم على وجه لا يختل به أمر انتظامهم واجتماعهم ولا يكون سببا للومك إياي إلى أن ترجع إليهم فتكون أنت المتدارك للأمر حسبما تراه لا سيما والقوم قد استضعفوني وقربوا من أن يقتلوني كما أفصح عليه السلام بهذا في آية أخرى.
وأخرج ابن المنذر عن ابن جريج ما يدل على أن المراد من القول المضاف قول هارون عليه السلام، وجملةمْ تَرْقُبْ
في موضع الحال من ضميرقُولَ
أي خشيت أن تقول ذلك غير منتظر قولي وبيان حقيقة الحال فتأمل.
وقرأ أبو جعفر «ولم ترقب» بضم التاء وكسر القاف مضارع أرقب قالَ استئناف وقع جوابا عما نشأ من حكاية ما سلف من اعتذار القوم بإسناد الفساد إلى السامري واعتذار هارون عليه السلام كأنه قيل: فماذا صنع موسى عليه السلام بعد سماع ما حكي من الاعتذارين واستقرار أصل الفتنة على السامري؟ فقيل قال موبخا له إذا كان الأمر هذا فَما خَطْبُكَ يا سامِرِيُّ أي ما شأنك والأمر العظيم الصادر عنك وما سؤال عن السبب الباعث لذلك، وتفسير الخطب بذلك هو المشهور، وفي الصحاح الخطب سبب الأمر.
وقال بعض الثقات: هو في الأصل مصدر خطب الأمر إذا طلبه فإذا قيل لمن يفعل شيئا: ما خطبك؟ فمعناه ما

(8/561)


قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُهَا وَكَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي (96) قَالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَيَاةِ أَنْ تَقُولَ لَا مِسَاسَ وَإِنَّ لَكَ مَوْعِدًا لَنْ تُخْلَفَهُ وَانْظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفًا لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفًا (97) إِنَّمَا إِلَهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا (98) كَذَلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ مَا قَدْ سَبَقَ وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْرًا (99) مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وِزْرًا (100) خَالِدِينَ فِيهِ وَسَاءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِمْلًا (101) يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا (102) يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْرًا (103) نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْمًا (104) وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا (105) فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا (106) لَا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلَا أَمْتًا (107) يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لَا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا (108) يَوْمَئِذٍ لَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا (109) يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا (110)

طلبك له وشاع في الشأن والأمر العظيم لأنه يطلب ويرغب فيه، واختير في الآية تفسيره بالأصل ليكون الكلام عليه أبلغ حيث لم يسأله عليه السلام عما صدر منه ولا عن سببه بل عن سبب طلبه، وجعل الراغب الأصل لهذا الشائع الخطب بمعنى التخاطب أي المراجعة في الكلام، وأطلق عليه لأن الأمر العظيم يكثر فيه التخاطب، وجعل في الأساس الخطب بمعنى الطلب مجازا فقال: ومن المجاز فلان يخطب عمل كذا يطلبه وما خطبك ما شأنك الذي تخطبه، وفرق ابن عطية بين الخطب والشأن بأن الخطب يقتضي انتهارا ويستعمل في المكاره دون الشأن ثم قال فكأنه قيل: ما نحسك وما شؤمك وما هذا الخطب الذي جاء منك انتهى.
وليس ذلك بمطرد فقد قال إبراهيم عليه السلام للملائكة عليهم السلام: فَما خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ [الحجر: 57، الذاريات: 31] ولا يتأتى فيه ما ذكر.
وزعم بعض من جعل اشتقاقه من الخطاب أن المعنى ما حملك على أن خاطبت بني إسرائيل بما خاطبت.
وفعلت معهم ما فعلت وليس بشيء، وخطابه عليه السلام إياه بذلك ليظهر للناس بطلان كيده باعترافه ويفعل به وبما أخرجه ما يكون نكالا للمفتونين ولمن خلفهم من الأمم.
قالَ أي السامري مجيبا له عليه السلام بَصُرْتُ بِما لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ بضم الصاد فيهما أي علمت ما لم يعلمه القوم وفطنت لما لم يفطنوا له، قال الزجاج يقال: بصر بالشيء إذا علمه وأبصر إذا نظر، وقيل: بصره وأبصره بمعنى واحد: وقال الراغب: البصر يقال: للجارحة الناظرة وللقوة التي فيها ويقال: لقوة القلب المدركة بصيرة وبصر ويقال من الأول أبصرت. ومن الثاني أبصرته وبصرت به. وقلما يقال: بصرت في الحاسة إذا لم يضامه رؤية القلب اه.
وقرأ الأعمش وأبو السمال «بصرت» بكسر الصاد «بما لم يبصروا» بفتح الصاد. وقرأ عمرو بن عبيد «بصرت» بضم الباء وكسر الصاد «بما لم تبصروا» بضم التاء المثناة من فوق وفتح الصاد على البناء للمفعول.
وقرأ الكسائي وحمزة وأبو بحرية والأعمش وطلحة وابن أبي ليلى وابن مناذر وابن سعدان وقعنب «بما لم

(8/562)


تبصروا» بالتاء الفوقانية المفتوحة وبضم الصاد. والخطاب لموسى عليه السلام وقومه. وقيل: له عليه السلام وحده وضمير الجمع للتعظيم كما قيل في قوله تعالى رَبِّ ارْجِعُونِ [المؤمنون: 99] وهذا منقول عن قدماء النحاة وقد صرح به الثعالبي في سر العربية، فما ذكره الرضي من أن التعظيم إنما يكون في ضمير المتكلم مع الغير كفعلنا غير مرتضى وإن تبعه كثير. وادعى بعضهم أن الأنسب بما سيأتي إن شاء الله تعالى من قوله: وَكَذلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي تفسير بصر برأى لا سيما على القراءة بالخطاب فإن ادعاء علم ما لم يعلمه موسى عليه السلام جراءة عظيمة لا تليق بشأنه ولا بمقامه بخلاف ادعاء رؤية ما لم يره عليه السلام فإنه مما يقع بحسب ما يتفق. وقد كان فيما أخرج ابن جرير عن ابن عباس رأى جبريل عليه السلام يوم فلق البحر على فرس فعرفه لما أنه كان يغذوه صغيرا حين خافت عليه أمه فألقته في غار فأخذ قبضة من تحت حافر الفرس وألقى في روعه أنه لا يلقيها على شيء فيقول: كن كذا إلا كان.
وعن علي كرم الله تعالى وجهه أنه رآه عليه السلام راكبا على فرس حين جاء ليذهب بموسى عليهما السلام إلى الميقات ولم يره أحد غيره من قوم موسى عليه السلام فأخذ من موطىء فرسه قبضة من التراب.
وفي بعض الآثار أنه رآه كلما رفع الفرس يديه أو رجليه على التراب اليبس يخرج النبات فعرف أن له شأنا فأخذ من موطئه حفنة
، وذلك قوله تعالى فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ أي من أثر فرس الرسول. وكذا قرأ عبد الله، فالكلام على حذف مضاف كما عليه أكثر المفسرين. وأثر الفرس التراب الذي تحت حافره. وقيل: لا حاجة إلى تقدير مضاف لأن أثر فرسه أثره عليه السلام.
ولعل ذكر جبريل عليه السلام بعنوان الرسالة لأنه لم يعرفه إلا بهذا العنوان أو للإشعار بوقوفه على ما لم يقف عليه القوم من الأسرار الإلهية تأكيدا لما صدر به مقالته والتنبيه كما قيل على وقت أخذ ما أخذ.
والقبضة المرة من القبض أطلقت على المقبوض مرة، وبذلك يرد على القائلين بأن المصدر الواقع كذلك لا يؤنث بالتاء فيقولون: هذه حلة نسيج اليمن ولا يقولون: نسيجة اليمن. والجواب بأن الممنوع إنما هو التاء الدالة على التحديد لا على مجرد التأنيث كما هنا والمناسب على هذا أن لا تعتبره المرة كما لا يخفى.
وقرأ عبد الله وأبي وابن الزبير والحسن وحميد «قبصت قبصة» بالصاد فيهما وفرقوا بين القبض بالضاد المعجمة والقبص بالصاد بأن الأول الأخذ بجميع الكف والثاني الأخذ بأطراف الأصابع ونحوهما الخضم بالخاء للأكل بجميع الفم والقضم بالقاف للأكل بأطراف الأسنان. وذكر أن ذلك مما غير لفظه لمناسبة معناه فإن الضاد المعجمة للثقل واستطالة مخرجها جعلت فيما يدل على الأكثر والصاد لضيق محلها وخفائه جعلت فيما يدل على القليل.
وقرأ الحسن بخلاف عنه. وقتادة ونصر بن عاصم بضم القاف والصاد المهملة وهو اسم للمقبوض كالمضغة اسم للممضوغ فَنَبَذْتُها أي ألقيتها في الحلي المذاب. وقيل: في جوف العجل فكان ما كان.
وَكَذلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي أي زينته وحسنته إلي والإشارة إلى مصدر الفعل المذكور بعد. وذلك على حد قوله تعالى وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً [البقرة: 143] وحاصل جوابه أن ما فعله إنما صدر عنه بمحض اتباع هوى النفس الأمارة بالسوء لا لشيء آخر من البرهان العقلي أو النقلي أو من الإلهام الإلهي. هذا ثم ما ذكر من تفسير الآية هو المأثور عن الصحابة والتابعين رضي الله تعالى عنهم وتبعهم جل أجلة المفسرين، وقال أبو مسلم الأصبهاني: ليس في القرآن تصريح بهذا الذي ذكروه. وهنا وجه آخر وهو أن يكون المراد بالرسول موسى عليه السلام وأثره سنته ورسمه

(8/563)


الذي أمر به ودرج عليه فقد يقول الرجل: فلان يقفو أثر فلان ويقتص أثره إذا كان يمتثل رسمه، وتقرير الآية على ذلك أن موسى عليه السلام لما أقبل على السامري باللوم والمسألة عن الأمر الذي دعاه إلى إضلال القوم بالعجل قال: بصرت بما لم يبصروا به أي عرفت أن الذي عليه القوم ليس بحق وقد كنت قبضت قبضة من أثرك أي شيئا من دينك فنبذتها أي طرحتها ولم أتمسك بها. وتعبيره عن موسى عليه السلام بلفظ الغائب على نحو قول من يخاطب الأمير ما قول الأمير في كذا. ويكون إطلاق الرسول منه عليه عليه السلام نوعا من التهكم حيث كان كافرا مكذبا به على حد قوله تعالى حكاية عن الكفرة يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ [الحجر: 6] انتهى، وانتصر له بعضهم بأنه أقرب إلى التحقيق. ويبعد قول المفسرين أن جبريل عليه السلام ليس معهودا باسم الرسول ولم ير له فيما تقدم ذكر حتى تكون اللام في الرسول لسابق في الذكر وأن ما قالوه لا بد له من تقدير المضاف والتقدير خلاف الأصل وأن اختصاص السامري برؤية جبريل عليه السلام ومعرفته من بين سائر الناس بعيد جدا. وأيضا كيف عرف أن أثر حافر فرسه يؤثر هذا الأمر الغريب العجيب من حياة الجماد وصيرورته لحما ودما على أنه لو كان كذلك لكان الأثر نفسه أولى بالحياة. وأيضا متى اطلع كافر على تراب هذا شأنه فلقائل أن يقول لعل موسى عليه السلام اطلع شيء آخر يشبه هذا فلأجله أتى بالمعجزات فيكون ذلك فيما أتى به المرسلون عليهم السلام من الخوارق، وأيضا يبعد الكفر والإقدام على الإضلال بعد أن عرف نبوة موسى عليه السلام بمجيء هذا الرسول الكريم إليه انتهى.
وأجيب بأنه قد عهد في القرآن العظيم إطلاق الرسول على جبريل عليه السلام فقد قال سبحانه إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ [الحاقة: 40، التكوير: 19] وعدم جريان ذكر له فيما تقدم لا يمنع من أن يكون معهودا، ويجوز أن يكون إطلاق الرسول عليه عليه السلام شائعا في بني إسرائيل لا سيما إن قلنا بصحة ما روي أنه عليه السلام كان يغذي من يلقى من أطفالهم في الغار في زمان قتل فرعون لهم، وبأن تقدير المضاف في الكلام أكثر من أن يحصى وقد عهد ذلك في كتاب الله تعالى غير مرة، وبأن رؤيته جبريل عليه السلام دون الناس كان ابتلاء منه تعالى ليقضي الله أمرا كان مفعولا. وبأن معرفته تأثير ذلك الأثر ما ذكر كانت لما ألقى في روعه أنه لا يلقيه على شيء فيقول كن كذا إلا كان كما في خبر ابن عباس أو كانت لما شاهد من خروج النبات بالوطء كما في بعض الآثار. ويحتمل أن يكون سمع ذلك من موسى عليه السلام، وبأن ما ذكر من أولوية الأثر نفسه بالحياة غير مسلم ألا ترى أن الإكسير يجعل ما يلقي هو عليه ذهبا ولا يكون هو بنفسه ذهبا. وبأن المعجزة مقرونة بدعوى الرسالة من الله تعالى والتحدي وقد قالوا: متى ادعى أحد الرسالة وأظهر الخارق وكان لسبب خفي يجهله المرسل إليهم قبض الله تعالى ولا بد من بين حقيقة ذلك بإظهار مثله غير مقرون بالدعوى أو نحو ذلك أو جعل المدعي بحيث لا يقدم على فعل ذلك الخارق بذلك السبب بأن يسلب قوة التأثير أو نحو ذلك لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل وتكون له عز وجل الحجة البالغة، وجوزوا ظهور الخارق لا عن سبب أو عن سبب خفي على يد مدعي الألوهية لأن كذبه ظاهر عقلا ونقلا. ولا تتوقف إقامة الحجة على تكذيبه بنحو ما تقدم. وبأن ما ذكر من بعد الكفر والإضلال من السامري بعد أن عرف نبوة موسى عليه السلام في غاية السقوط فقد قال تعالى وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ [النمل: 14] وليس كفر السامري بأبعد من كفر فرعون وقد رأى ما رأى. ويرد على ما ذكره أبو مسلم مع مخالفته للمأثور عن خير القرون مما لا يقال مثله من قبل الرأي فله حكم المرفوع أن التعبير عن موسى عليه السلام بلفظ الغائب بعيد. وإرادة وقد كنت قبضت قبضة إلخ من النظم الكريم أبعد. وأن نبذ ما عرف أنه ليس بحق لا يعد من تسويل النفس في شيء فلا يناسب ختم جوابه بذلك. فزعم أن ما ذكره أقرب إلى التحقيق باطل عند أرباب التدقيق.

(8/564)


وزعمت اليهود أن ما ألقاه السامري كان قطعة من الحلي منقوشا عليها بعض الطلسمات وكان يعقوب عليه السلام قد علقها في عنق يوسف عليه السلام إذ كان صغيرا كما يعلق الناس اليوم في أعناق أطفالهم التمائم وربما تكون من الذهب والفضة منقوشا عليها شيء من الآيات أو الأسماء أو الطلسمات وقد ظفر بها من حيث ظفر فنبذها مع حلي بني إسرائيل فكان ما كان لخاصية ما نقش عليها فيكون على هذا قد أراد بالرسول رسول بني إسرائيل في مصر من قبل وهو يوسف عليه السلام. ولم يجىء عندنا خبر صحيح ولا ضعيف بل ولا موضوع فيما زعموا. نعم جاء عندنا أن يعقوب كان قد جعل القميص المتوارث في تعويذ وعلقه في عنق يوسف عليه السلام.
وفسر بعضهم بذلك قوله تعالى اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هذا [يوسف: 93] إلخ. وما أغفل أولئك البهت عن زعم أن الأثر هو ذلك القميص فإنه قد عهد منه ما تقدم في أحسن القصص في قوله تعالى: اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هذا فَأَلْقُوهُ عَلى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيراً فبين معافاة المبتلي وحياة الجماد مناسبة كلية فهذا الكذب لو ارتكبوه لربما كان أروج قبولا عند أمثال الأصبهاني الذين ينبذون ما روي عن الصحابة مما لا يقال مثله بالرأي وراء ظهورهم نعوذ بالله تعالى من الضلال.
قالَ استئناف كما مر غير مرة أي قال موسى عليه السلام إذا كان الأمر كما ذكرت فَاذْهَبْ أي من بين الناس، وقوله تعالى فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَياةِ إلى آخره تعليل لموجب الأمر. و «في» متعلقة بالاستقرار العامل في لَكَ أي ثابت لك في الحياة أو بمحذوف وقع حالا من الكاف، والعامل معنى الاستقرار المذكور أيضا لاعتماده على ما هو مبتدأ معنى أعني قوله تعالى أَنْ تَقُولَ لا مِساسَ ولم يجوز تعلقه بتقول لمكان أن وقد تقدم آنفا عذر من يعلق الظرف المتقدم بما بعدها. ولا يظهر ما يشفي الخاطر في وجه تعليق العلامة أبي السعود- إذ- في قوله تعالى ما مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا أَلَّا تَتَّبِعَنِ فيما بعد أن وعدم تجويز تعليق فِي الْحَياةِ فيما بعدها أي إن لك مدة حياتك أن تفارق الناس مفارقة كلية لكن لا بحسب الاختيار بموجب التكليف بل بحسب الاضطرار الملجئ إليها، وذلك أنه تعالى رماه بداء عقام لا يكاد يمس أحدا أو يمسه أحد كائنا من كان إلا حم من ساعته حمى شديدة فتحامى الناس وتحاموه وكان يصيح بأقصى صوته لا مساس وحرم عليهم ملاقاته ومكالمته ومؤاكلته ومبايعته وغير ذلك مما يعتاد جريانه فيما بين الناس من المعاملات وصار بين الناس أوحش من القاتل اللاجئ إلى الحرم ومن الوحشي النافر في البيداء، وذكر أنه لزم البرية وهجر البرية، وذكر الطبرسي عن ابن عباس أن المراد أن لك ولولدك أن تقول إلخ، وخص عمرو الحمى بما إذا كان الماس أجنبيا، وذكر أن بقايا ولده باق فيهم تلك الحال إلى اليوم، وقيل: ابتلي بالوسواس حين قال له موسى عليه السلام ذلك، وعليه حمل قول الشاعر:
فأصبح ذلك كالسامري ... إذ قال موسى له لا مساسا
وأنكر الجبائي ما تقدم من حديث عرو الحمى عند المس وقال: إنه خاف وهرب وجعل يهيم في البرية لا يجد أحدا من الناس يمسه حتى صار لبعده عن الناس كالقائل لا مساس وصحح الأول، والمساس مصدر ماس كقتال مصدر قاتل وهو منفي بلا التي لنفي الجنس وأريد بالنفي النهي أي لا تمسني ولا أمسك. وقرأ الحسن وأبو حيوة وابن أبي عبلة وقعنب «لا مساس» بفتح الميم وكسر السين آخره وهو بوزن فجار، ونحوه قولهم في الظباء إن وردت الماء فلا عباب وإن فقدته فلا أباب. وهي كما قال الزمخشري وابن عطية اعلام للمسة والعبة والأبة وهي المرة من الأب أي الطلب، ومن هذا قول الشاعر:
تميم كرهط السامري وقوله ... ألا لا يريد السامري مساس
و «لا» على هذا ليست النافية للجنس لأنها مختصة بالنكرات وهذا معرفة من أعلام الأجناس ولا داخلة معنى

(8/565)


عليه فإن المعنى لا يكون أولا يكن منك مس لنا. وهذا أولى من أن يكون المعنى لا أقول مساس.
وظاهر كلام ابن جني أنه اسم فعل كنزال. والمراد نفي الفعل أي لا أمسك والسر في عقوبته على جنايته بما ذكر على ما قيل: إنه ضد ما قصده من إظهار ذلك ليجتمع عليه الناس ويعززوه فكان سببا لبعدهم عنه وتحقيره وصار لديهم أبغض من الطلياء وأهون من معبأة.
وقيل: لعل السر في ذلك ما بينهما من مناسبة التضاد فإنه لما أنشأ الفتنة بما كانت ملابسته سببا لحياة الموات عوقب بما يضاده حيث جعلت ملابسته سببا للحمى التي هي من أسباب موت الأحياء، وقيل: عوقب بذلك ليكون الجزاء من جنس العمل حيث نبذ فنبذ فإن ذلك التحامي أشبه شيء بالنبذ وكانت هذه العقوبة على ما في البحر باجتهاد من موسى عليه السلام، وحكي فيه القول بأنه أراد قتله فمنعه الله تعالى عن ذلك لأنه كان سخيا، وروي ذلك عن الصادق رضي الله تعالى عنه، وعن بعض الشيوخ أنه قد وقع ما يقرب من ذلك في شرعنا في قضية الثلاثة الذين خلفوا فقد أمر النبي صلّى الله عليه وسلّم أن لا يكلموا ولا يخالطوا وأن يعتزلوا نساءهم حتى تاب الله تعالى عليهم. ومذهب الإمام أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه في القاتل اللاجئ إلى الحرم نحو ذلك ليضطر إلى الخروج فيقتل في الحل وَإِنَّ لَكَ مَوْعِداً أي في الآخرة لَنْ تُخْلَفَهُ أي لن يخلفك الله تعالى ذلك الوعد بل ينجزه لك البتة بعد ما عاقبك في الدنيا.
وقرأ ابن كثير وأبو عمرو والأعمش بضم التاء وكسر اللام على البناء للفاعل على أنه من أخلفت الموعد إذا وجدته خلفا كأجبنته إذا وجدته جبانا. وعلى ذلك قول الأعشى:
أثوى وقصر ليله ليزودا ... فمضى وأخلف من قتيلة موعدا
وجوز أن يكون التقدير لن تخلف الواعد إياه فحذف المفعول الأول وذكر الثاني لأنه المقصود. والمعنى لن تقدر أن تجعل الواعد مخلفا لوعده بل سيفعله، ونقل ابن خالويه عن ابن نهيك أنه قرأ «لن تخلفه» بفتح التاء المثناة من فوق وضم اللام، وفي اللوامح أنه قرىء «لن يخلفه» بفتح الياء المثناة من تحت وضم اللام وهو من خلفه يخلفه إذا جاء بعده، قيل: المعنى على الرواية الأولى وإن لك موعدا لا بد أن تصادفه، وعلى الرواية الثانية وإن لك موعدا لا يدفع قول لا مساس فافهم.
وقرأ ابن مسعود والحسن بخلاف عنه «لن نخلفه» بالنون المفتوحة وكسر اللام على أن ذلك حكاية قول الله عز وجل، وقال ابن جني: أي لن نصادفه خلفا فيكون من كلام موسى عليه السلام لا على سبيل الحكاية وهو ظاهر لو كانت النون مضمومة وَانْظُرْ إِلى إِلهِكَ أي معبودك الَّذِي ظَلْتَ أي ظللت كما قرأ بذلك أبي والأعمش فحذفت اللام الأولى تخفيفا، ونقل أبو حيان عن سيبويه أن هذا الحذف من شذوذ القياس ولا يكون ذلك إلا إذا سكن آخر الفعل، وعن بعض معاصريه أن ذلك منقاس في كل مضاعف العين واللام في لغة بني سليم حيث سكن آخر الفعل، وقال بعضهم: إنه مقيس في المضاعف إذا كانت عينه مكسورة أو مضمومة.
وقرأ ابن مسعود وقتادة والأعمش بخلاف عنه وأبو حيوة وابن أبي عبلة وابن يعمر بخلاف عنه أيضا «ظلت» بكسر الظاء على أنه نقل حركة اللام إليها بعد حذف حركتها، وعن ابن يعمر أنه ضم الظاء وكأنه مبني على مجيء الفعل في بعض اللغات على فعل بضم العين وحينئذ يقال بالنقل كما في الكسر عَلَيْهِ أي على عبادته عاكِفاً أي مقيما، وخاطبه عليه السلام دون سائر العاكفين على عبادته القائلين: لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنا مُوسى [طه: 91] لأنه رأس الضلال ورئيس أولئك الجهال لَنُحَرِّقَنَّهُ جواب قسم محذوف أي بالله تعالى لنحرقنه بالنار كما أخرج ذلك ابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس، ويؤيده قراءة الحسن وقتادة وأبي جعفر في

(8/566)


رواية. وأبي رجاء والكلبي «لنحرقنّه» مخففا من أحرق رباعيا فإن الإحراق شائع فيما يكون بالنار وهذا ظاهر في أنه صار ذا لحم ودم. وكذا ما في مصحف أبي وعبد الله «لنذبحنه ثم لنحرقنه» .
وجوز أبو علي أن يكون نحرق مبالغة في حرق الحديد حرقا بفتح الراء إذا برده بالمبرد. ويؤيده قراءة علي كرم الله تعالى وجه. وحميد وعمرو بن فايد وأبي جعفر في رواية. وكذا ابن عباس رضي الله تعالى عنهما «لنحرقنّه» بفتح النون وسكون الحاء وضم الراء فإن حرق يحرق بالضم مختص بهذا المعنى كما قيل، وهذا ظاهر في أنه لم يصر ذا لحم ودم بل كان باقيا على الجمادية.
وزعم بعضهم أنه لا بعد على تقدير كونه حيا في تحريقه بالمبرد إذ يجوز خلق الحياة في الذهب مع بقائه على الذهبية عند أهل الحق، وقال بعض القائلين بأنه صار حيوانا ذا لحم ودم: إن التحريق بالمبرد كان للعظام وهو كما ترى، وقال النسفي: تفريقه بالمبرد طريق تحريقه بالنار فإنه لا يفرق الذهب إلا بهذا الطريق. وجوز على هذا أن يقال:
إن موسى عليه السلام حرقه بالمبرد ثم أحرقه بالنار. وتعقب بأن النار تذيبه وتجمعه ولا تحرقه وتجعله رمادا فلعل ذلك كان بالحيل الإكسيرية أو نحو ذلك ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ أي لنذرينه. وقرأت فرقة منهم عيسى بضم السين. وقرأ ابن مقسم «لننسفنّه» بضم النون الأولى وفتح الثانية وتشديد السين فِي الْيَمِّ أي في البحر كما أخرج ذلك ابن أبي حاتم عن ابن عباس.
وأخرج عن علي كرم الله تعالى وجهه أنه فسره بالنهر
، وقوله تعالى نَسْفاً مصدر مؤكد أي لنفعلن به ذلك بحيث لا يبقى منه عين ولا أثر ولا يصادف منه شيء فيؤخذ، ولقد فعل عليه السلام ما أقسم عليه كله كما يشهد به الأمر بالنظر، وإنما لم يصرح به تنبيها على كمال ظهوره واستحالة الخلف في وعده المؤكد باليمين، وفي ذلك زيادة عقوبة للسامري وإظهار لغباوة المفتتنين، وقال في البحر بيانا لسر هذا الفعل: يظهر أنه لما كان قد أخذ السامري القبضة من أثر فرس جبريل عليه السلام وهو داخل البحر ناسب أن ينسف ذلك العجل الذي صاغه من الحلي الذي كان أصله للقبط وألقى فيه القبضة في البحر ليكون ذلك تنبيها على أن ما كان به قيام الحياة آل إلى العدم وألقى في محل ما قامت به الحياة وأن أموال القبط قذفها الله تعالى في البحر لا ينتفع بها كما قذف سبحانه أشخاص مالكيها وغرقهم فيه ولا يخفى ما فيه.
إِنَّما إِلهُكُمُ اللَّهُ استئناف مسوق لتحقيق الحق إثر إبطال الباطل بتلوين الخطاب وتوجيهه إلى الكل أي إنما معبودكم المستحق للعبادة هو الله عز وجل الَّذِي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ وحده من غير أن يشاركه شيء من الأشياء بوجه من الوجوه التي من جملتها أحكام الألوهية. وقرأ طلحة «الله لا إله إلا هو الرحمن الرحيم رب العرش» وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً أي وسع علمه كل ما من شأنه أن يعلم فالشيء هنا شامل للموجود والمعدوم وانتصب عِلْماً على التمييز المحول عن الفاعل، والجملة بدل من الصلة كأنه قيل: إنما إلهكم الذي وسع كل شيء علما لا غيره كائنا ما كان فيدخل فيه العجل الذي هو مثل في الغباوة دخولا أوليا.
وقرأ مجاهد. وقتادة «وسّع» بفتح السين مشددة فيكون انتصاب عِلْماً على أنه مفعول ثان، ولما كان في القراءة الأولى فاعلا معنى صح نقله بالتعدية إلى المفعولية كما تقول في خاف زيد عمرا: خوفت زيدا عمرا أي جعلت زيدا يخاف عمرا فيكون المعنى هنا على هذا جعل علمه يسع كل شيء، لكن أنت تعلم أن الكلام ليس على ظاهره لأن علمه سبحانه غير مجعول ولا ينبغي أن يتوهم أن اقتضاء الذات له على تقدير الزيادة جعلا وبهذا تم حديث موسى عليه السلام، وقوله تعالى كَذلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ كلام مستأنف خوطب به النبي صلّى الله عليه وسلّم بطريق الوعد الجميل بتنزيل أمثال ما مر من أنباء الأمم السالفة. والجار والمجرور في موضع الصفة لمصدر مقدر أو الكاف في محل نصب صفة

(8/567)


لذلك المصدر أي نقص عليك مِنْ أَنْباءِ ما قَدْ سَبَقَ من الحوادث الماضية الجارية على الأمم الخالية قصا كائنا كذلك القص المار أو قصا مثل ذلك، والتقديم للقصر المفيد لزيادة التعيين أي كذلك لا ناقصا عنه، ومِنْ في مِنْ أَنْباءِ إما متعلق بمحذوف هو صفة للمفعول أي نقص عليك نبأ أو بعضا كائنا من أنباء.
وجوز أن يكون في حيز النصب على أنه مفعول نَقُصُّ باعتبار مضمونه أي نقص بعض أنباء، وتأخيره عن عَلَيْكَ لما مر غير مرة من الاعتناء بالمقدم والتشويق إلى المؤخر، ويجوز أن يكون كَذلِكَ نَقُصُّ مثل قوله تعالى كَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً [البقرة: 143] على أن الإشارة إلى مصدر الفعل المذكور بعد، وقد مر تحقيق ذلك.
وفائدة هذا القص توفير علمه عليه الصلاة والسلام وتكثير معجزاته وتسليته وتذكرة المستبصرين من أمته صلّى الله عليه وسلّم وَقَدْ آتَيْناكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْراً كتابا منطويا على هذه الأقاصيص والأخبار حقيقا بالتذكر والتفكر فيه والاعتبار، ومِنْ متعلق بآتيناك، وتنكير ذكرا للتفخيم، وتأخيره عن الجار والمجرور لما أن مرجع الإفادة في الجملة كون المؤتى من لدنه تعالى ذكرا عظيما وقرآنا كريما جامعا لكل كمال لا كون ذلك الذكر مؤتى من لدنه عز وجل مع ما فيه من نوع طول بما بعده من الصفة.
وجوز أن يكون الجار والمجرور في موضع الحال من ذِكْراً وليس بذاك، وتفسير الذكر بالقرآن هو الذي ذهب إليه الجمهور وروي عن ابن زيد، وقال مقاتل: أي بيانا ومآله ما ذكر، وقال أبو سهل: أي شرفا وذكرا في الناس، ولا يلائمه قوله تعالى مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ إذ الظاهر أن ضمير عَنْهُ للذكر، والجملة في موضع الصفة له، ولا يحسن وصف الشرف أو الذكر في الناس بذلك، وقيل: الضمير لله تعالى على سبيل الالتفات وهو خلاف الظاهر جدا، ومَنْ إما شرطية أو موصولة أي من أعرض عن الذكر العظيم الشأن المستتبع لسعادة الدارين ولم يؤمن به فَإِنَّهُ أي المعرض عنه يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وِزْراً أي عقوبة ثقيلة على إعراضه وسائر ذنوبه.
والوزر في الأصل يطلق على معنيين الحمل الثقيل والإثم، وإطلاقه على العقوبة نظرا إلى المعنى الأول على سبيل الاستعارة المصرحة حيث شبهت. الثاني على سبيل المجاز المرسل من حيث إن العقوبة بالحمل الثقيل. ثم استعير لها بقرينة ذكر يوم القيامة، ونظرا إلى المعنى الثاني على سبيل المجاز المرسل من حيث إن العقوبة جزاء الإثم فهي لازمة له أو مسببة، والأول هو الأنسب بقوله تعالى فيما بعد وَساءَ إلخ لأنه ترشيح له، ويؤيده قوله تعالى في آية أخرى وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ [العنكبوت: 13] وتفسير الوزر بالإثم وحمل الكلام على حذف المضاف أي عقوبة أو جزاء إثم ليس بذاك. وقرأت فرقة منهم داود بن رفيع «يحمّل» مشدد الميم مبنيا للمفعول لأنه يكلف ذلك لا أنه يحمله طوعا ويكون وِزْراً على هذا مفعولا ثانيا خالِدِينَ فِيهِ أي في الوزر المراد منه العقوبة.
وجوز أن يكون الضمير لمصدر يَحْمِلُ ونصب خالِدِينَ على الحال من المستكن في يَحْمِلُ والجمع بالنظر إلى معنى مَنْ لما أن الخلود في النار مما يتحقق حال اجتماع أهلها كما أن الأفراد فيما سبق من الضمائر الثلاثة بالنظر إلى لفظها وَساءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ حِمْلًا إنشاء للذم على أن ساء فعل ذم بمعنى بئس وهو أحد معنييه المشهورين، وفاعله على هذا هنا مستتر يعود على حِمْلًا الواقع تمييز الأعلى وزرا لأن فاعل بئس لا يكون إلا ضميرا مبهما يفسره التمييز العائد هو إليه وإن تأخر لأنه من خصائص هذا الباب والمخصوص بالذم محذوف والتقدير ساء حملهم حملا وزرهم، ولام لَهُمْ للبيان كما في «سقيا له» وهَيْتَ لَكَ [يوسف: 23] وهي متعلقة بمحذوف كأنه قيل: لمن يقال هذا؟ فقيل: هو يقال لهم وفي شأنهم وإعادة يَوْمَ الْقِيامَةِ لزيادة التقرير وتهويل الأمر، وجوز أن يكون ساءَ بمعنى أحزن وهو المعنى الآخر من المعنيين والتقدير على ما قيل وأحزنهم الوزر حال كونه حملا لهم.

(8/568)


وتعقبه في الكشف بأنه أي فائدة فيه والوزر أدل على الثقل من قيده ثم التقييد بلهم مع الاستغناء عنه وتقديمه الذي لا يطابق المقام وحذف المفعول وبعد هذا كله لا يلائم ما سبق له الكلام ولا مبالغة في الوعيد بذلك بعد ما تقدم ثم قال: وكذلك ما قاله العلامة الطيبي من أن المعنى وأحزنهم حمل الوزر على أن حِمْلًا تمييز واللام في لَهُمْ للبيان لما ذكر من فوات فخامة المعنى، وأن البيان إن كان لاختصاص الحمل بهم ففيه غنية، وإن كان لمحل الأحزان فلا كذلك طريق بيانه، وإن كان على أن هذا الوعيد لهم فليس موقعه قبل يوم القيامة وأن المناسب حينئذ وزرا ساء لهم حملا على الوصف لا هكذا معترضا مؤكدا انتهى. ولا مجال لتوجيه الإتيان باللام إلى اعتبار التضمين لعدم تحقق فعل مما يلائم الفعل المذكور مناسبا لها لأنها ظاهرة في الاختصاص النافع والفعل في الحدث الضار، والقول بازديادها كما في رَدِفَ لَكُمْ [النمل: 72] أو الحمل على التهكم تمحل لتصحيح اللفظ من غير داع إليه ويبقى معه أمر فخامة المعنى، والحاصل أن ما ذكر لا يساعده اللفظ ولا المعنى، وجوز أن يكون ساءَ بمعنى قبح فقد ذكر استعماله بهذا المعنى وإن كان في كونه معنى حقيقيا نظر، وحِمْلًا تمييزا ولَهُمْ حالا ويَوْمَ الْقِيامَةِ متعلقا بالظرف أي قبح ذلك الوزر من جهة كونه حملا لهم في يوم القيامة وفيه ما فيه.
يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ منصوب بإضمار الذكر، وجوز أن يكون ظرف المضمر حذف للإيذان بضيق العبارة عن حصره وبيانه أو بدلا من يَوْمَ الْقِيامَةِ أو بيانا له أو ظرفا ليتخافتون، وقرأ أبو عمرو وابن محيصن وحميد «ننفخ» بنون العظمة على إسناد الفعل إلى الآمر به وهو الله سبحانه تعظيما للنفخ لأن ما يصدر من العظيم عظيم أو للنافخ بجعل فعله بمنزلة فعله تعالى وهو إنما يقال لمن له مزيد اختصاص وقرب مرتبة، وقيل: إنه يجوز أن يكون لليوم الواقع هو فيه.
وقرىء «ينفخ» بالياء المفتوحة على أن ضميره لله عز وجل أو لإسرافيل عليه السلام وإن لم يجر ذكره لشهرته وقرأ الحسن وابن عياض في جماعة فِي الصُّورِ بضم الصاد وفتح الواو جمع صورة كغرفة وغرف، والمراد به الجسم المصور. وأورد أن النفخ يتكرر لقوله تعالى ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى [الزمر: 68] والنفخ في الصورة إحياء والإحياء غير متكرر بعد الموت وما في القبر ليس بمراد من النفخة الأولى بالاتفاق.
وأجيب بأنه لا نسلم أن كل نفخ إحياء، وبعضهم فسر الصور على القراءة المشهورة بذلك أيضا، والحق تفسيره بالقرن الذي ينفخ فيه وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ أي يوم إذ ينفخ في الصور، وذكر ذلك صريحا مع تعين أن الحشر لا يكون إلا يومئذ للتهويل، وقرأ الحسن «يحشر» بالياء والبناء للمفعول و «المجرمون» بالرفع على النيابة عن الفاعل، وقرىء أيضا «يحشر» بالياء والبناء للفاعل وهو ضميره عز وجل أي ويحشر الله تعالى المجرمين زُرْقاً حال كونهم زرق الأبدان وذلك غاية في التشويه ولا تزرق الأبدان إلا من مكابدة الشدائد وجفوف رطوبتها، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما زرق العيون فهو وصف للشيء بصفة جزئه كما يقال غلام أكحل وأحول والكحل والحول من صفات العين، ولعله مجاز مشهور، وجوز أن يكون حقيقة كرجل أعمى وإنما جعلوا كذلك لأن الزرقة أسوأ ألوان العين وأبغضها إلى العرب فإن الروم الذين كانوا أشد أعدائهم عداوة زرق، ولذلك قالوا في وصف العدو أسود الكبد أصهب السبال أزرق العين، وقال الشاعر:
وما كنت أخشى أن تكون وفاته ... بكفي سبنتى أزرق العين مطرق
وكانوا يهجون بالزرقة كما في قوله:
لقد زرقت عيناك يا ابن مكعبر ... الا كل ضبيّ من اللؤم أزرق
وسئل ابن عباس عن الجمع بين زُرْقاً على ما روي عنه وعميا في آية أخرى فقال: ليوم القيامة حالات فحالة يكونون فيها عميا وحالة يكونون فيها زرقا. وعن الفراء المراد من زُرْقاً عميا لأن العين إذا ذهب نورها ازرق ناظرها،

(8/569)


ووجه الجمع عليه ظاهر، وعن الأزهري المراد عطاشا لأن العطش الشديد يغير سواد العين فيجعله كالأزرق، وقيل:
يجعله أبيض، وجاء الأزرق بمعنى الأبيض ومنه سنان أزرق، وقوله: فلما وردنا الماء زرقا جمامه ويلائم تفسيره بعطاشا قوله تعالى على ما سمعت وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلى جَهَنَّمَ وِرْداً [مريم: 86] .
يَتَخافَتُونَ بَيْنَهُمْ أي يخفضون أصواتهم ويخفونها لشدة هول المطلع، والجملة استئناف لبيان ما يأتون وما يذرون حينئذ أو حال أخرى من الْمُجْرِمِينَ، وقوله تعالى: إِنْ لَبِثْتُمْ بتقدير قول وقع حالا من ضمير يَتَخافَتُونَ أي قائلين ما لبثتم في القبور إِلَّا عَشْراً أي عشر ليال أو عشرة أيام، ولعله أوفق بقول الأمثل.
والمذكر إذا حذف وأبقى عدده قد لا يؤتى بالتاء حكى الكسائي صمنا من الشهر خمسا، ومنه ما
جاء في الحديث «ثم أتبعه بست من شوال»
فإن المراد ستة أيام، وحسن الحذف هنا كون ذلك فاصلة، ومرادهم من هذا القول استقصار المدة وسرعة انقضائها والتنديم على ما كانوا يزعمون حيث تبين الأمر على خلاف ما كانوا عليه من إنكار البعث وعده من قبيل المحالات كأنهم قالوا: قد بعثتم وما لبثتم في القبر إلا مدة يسيرة وقد كنتم تزعمون أنكم لن تقوموا منه أبدا، وعن قتادة أنهم عنوا لبثهم في الدنيا وقالوا ذلك استقصارا لمدة لبثهم فيها لزوالها ولاستطالتهم مدة الآخرة أو لتأسفهم عليها لما عاينوا الشدائد وأيقنوا أنهم استحقوها على إضاعة الأيام في قضاء الأوطار واتباع الشهوات، وتعقب بأنهم في شغل شاغل عن تذكر ذلك فالأوفق بحالهم ما تقدم، وبأن قوله تعالى: لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتابِ اللَّهِ إِلى يَوْمِ الْبَعْثِ [الروم: 56] صريح في أنه اللبث في القبور وفيه بحث.
وفي مجمع البيان عن ابن عباس. وقتادة أنهم عنوا لبثهم بين النفختين يلبثون أربعين سنة مرفوعا عنهم العذاب نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَقُولُونَ أي بالذي يقولونه وهو مدة لبثهم إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً أي أعدلهم رأيا وأرجحهم عقلا وإِذْ ظرف يقولون إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْماً واحدا وإليه ينتهي العدد في القلة.
وقيل: المراد باليوم مطلق الوقت وتنكيره للتقليل والتحقير فالمراد إلا زمنا قليلا، وظاهر المقابلة بالعشر يبعده، ونسبة هذا القول إلى أَمْثَلُهُمْ استرجاح منه تعالى له لكن لا لكونه أقرب إلى الصدق بل لكونه أعظم في التنديم أو لكونه أدل على شدة الهول وهذا يدل على كون قائله أعلم بفظاعة الأمر وشدة العذاب.
وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْجِبالِ السائلون منكرو البعث من قريش على ما أخرجه ابن المنذر عن ابن جرير قالوا على سبيل الاستهزاء كيف يفعل ربك بالجبال يوم القيامة، وقيل: جماعة من ثقيف، وقيل: أناس من المؤمنين فَقُلْ يَنْسِفُها رَبِّي نَسْفاً يجعلها سبحانه كالرمل ثم يرسل عليها الرياح فتفرقها، والفاء للمسارعة إلى إزالة ما في ذهن السائل من بقاء الجبال بناء على ظن أن ذلك من توابع عدم الحشر ألا ترى أن منكري الحشر يقولون بعدم تبدل هذا النظام المشاهد في الأرض والسموات أو للمسارعة إلى تحقيق الحق حفظا من أن يتوهم ما يقضي بفساد الاعتقاد.
وهذا مبني على أن السائل من المؤمنين والأول: على أنه من منكري البعث، ومن هنا قال الإمام: إن مقصود السائلين الطعن في الحشر والنشر فلا جرم أمر صلّى الله عليه وسلّم بالجواب مقرونا بحرف التعقيب لأن تأخير البيان في هذه المسألة الأصولية غير جائز وأما تأخيره في المسائل الفروعية فجائز ولذا لم يؤت بالفاء في الأمر بالجواب في قوله تعالى يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ [البقرة: 219] الآية، وقوله تعالى وَيَسْئَلُونَكَ ماذا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ [البقرة: 219] وقوله تعالى يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ قُلِ الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ [الأنفال: 1] وقوله سبحانه يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْيَتامى قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ [البقرة: 220] إلى غير ذلك، وقال في موضع آخر: إن السؤال المذكور إما عن قدم الجبال أو عن وجوب بقائها وهذه المسألة من أمهات مسائل أصول الدين فلا جرم أمر صلّى الله عليه وسلّم أن يجيبه بالفاء

(8/570)


المفيدة للتعقيب كأنه سبحانه قال: يا محمد أجب عن هذا السؤال في الحال من غير تأخير لأن القول بقدمها أو وجوب بقائها كفر، ودلالة الجواب على نفي ذلك من جهة أن النسف ممكن لأنه ممكن في كل جزء من أجزاء الجبل والحس يدل عليه فوجب أن يكون ممكنا في حق كل الجبل فليس بقديم ولا واجب الوجود لأن القديم لا يجوز عليه التغير والنسف انتهى.
واعترض بأن عدم جواز التغير والنسف إنما يسلم في حق القديم بالذات ولم يذهب أحد من السائلين إلى كون الجبال قديمة كذلك، وأما القديم بالزمان فلا يمتنع عليه لذاته ذلك بل إذا امتنع فإنما يمتنع لأمر آخر على أن في كون الجبال قديمة بالزمان عند السائلين وكذا غيرهم من الفلاسفة نظرا بل الظاهر أن الفلاسفة قائلون بحدوثها الزماني وإن لم يعلموا مبدأ معينا لحدوثها فتأمل، ثم إنه ذكر رحمه الله تعالى أن السؤال والجواب قد ذكرا في عدة مواضع من كتاب الله تعالى منها فروعية ومنها أصولية والأصولية في أربعة مواضع في هذه الآية وقوله تعالى: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ [البقرة: 189] وقوله سبحانه: وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي [الإسراء: 85] وقوله عز وجل يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها [النازعات: 42] ولا يخفى أن عد جميع ما ذكر من الأصولية غير ظاهر، وعلى تقدير ظهور ذلك في الجميع يرد السؤال عن سر اقتران الأمر بالجواب بالفاء في بعضها دون بعض.
وكون ما اقترن بالفاء هو الأهم في حيز المنع فإن الأمر بالجواب عن السؤال عن الروح إن كان عن القدم ونحوه فمهم كالأمر بالجواب فيما نحن فيه بل لعله أهم منه لتحقق القائل بالقدم الزماني للروح بناء على أنها النفس الناطقة كأفلاطون وأتباعه، وقد يقال: لما كان الجواب هنا لدفع السؤال عن الكلام السابق أعني قوله تعالى:
يَتَخافَتُونَ بَيْنَهُمْ كأنه قيل كيف يصح تخافت المجرمين المقتضي لا لاجتماعهم والجبال في البين مانعة عن ذلك فمتى قلتم بصحته فبينوا لنا كيف يفعل الله تعالى بها؟ فأجيب بأن الجبال تنسف في ذلك الوقت فلا يبقى مانع عن الاجتماع والتخافت، وقرن الأمر بالفاء للمسارعة إلى الذب عن الدعوة السابقة، والآيات التي لم يقرن الأمر فيها بالفاء لم تسق هذا المساق كما لا يخفى على أرباب الأذواق، وقال النسفي. وغيره: الفاء في جواب شرط مقدر أي إذا سألوك عن الجبال فقل، وهو مبني على أنه لم يقع السؤال عن ذلك كما وقع في قصة الروح وغيرها فلذا لم يؤت بالفاء ثمة وأتي به هنا فيسألونك متمحض للاستقبال، واستبعد ذلك أبو حيان، وما أخرجه ابن المنذر عن ابن جريج من أن قريشا قالوا: يا محمد كيف يفعل ربك بهذه الجبال يوم القيامة فنزلت وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْجِبالِ الآية، يدل على خلافه، وقال الخفاجي: الظاهر أنه إنما قرن بها هنا ولم يقرن بها ثمة للإشارة إلى أن الجواب معلوم له صلّى الله عليه وسلّم قبل ذلك فأمر عليه الصلاة والسلام بالمبادرة إليه بخلاف ذلك انتهى.
وأنت تعلم أن القول بأن الجواب عن سؤال الروح، وعن سؤال المحيض ونحو ذلك لم يكن معلوما له صلّى الله عليه وسلّم قبل لم يتجاسر عليه أحد من عوام الناس فضلا عن خواصهم فما ذكره مما لا ينبغي أن يلتفت إليه. ومما يضحك الثكلى أن بعض المعاصرين سمع السؤال عن سر اقتران الأمل هنا بالفاء وعدم اقترانه بها في الآيات الأخر فقال: ما أجهل هذا السائل بما يجوز وما لا يجوز من المسائل أما سمع قوله تعالى لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ [الأنبياء: 23] أما درى أن معناه نهي من يريد السؤال عن أن يسأل. وأدل من هذا على جهل الرجل أنه دون ما قال ولم يبال بما قيل ويقال، ونقلي لذلك من باب التحميض وتذكير من سلم من مثل هذا الداء بما من الله تعالى عليه من الفضل الطويل العريض، وأمر الفاء في قوله تعالى فَيَذَرُها ظاهر جدا، والضمير إما للجبال باعتبار أجزائها السافلة الباقية بعد النسف وهي مقارها ومراكزها أي فنذر ما انبسط منها وساوى سطحه سطوح سائر أجزاء الأرض بعد نسف ما نتأ منها ونشز وإما

(8/571)


للأرض المدلول عليها بقرينة الحال لأنها الباقية بعد نسف الجبال. وعلى التقديرين يذر سبحانه الكل قاعاً صَفْصَفاً لأن الجبال إذا سويت وجعل سطحها مساويا لسطوح أجزاء الأرض فقد جعل الكل سطحا واحدا والقاع قيل: السهل، وقال الجوهري: المستوي من الأرض. ومنه قول ضرار بن الخطاب:
لتكونن بالبطاح قريش ... فقعة القاع في أكف الإماء
وقال ابن الأعرابي: الأرض الملساء لا نبات فيها ولا بناء. وحكى مكي أنه المكان المنكشف، وقيل: المستوي الصلب من الأرض، وقيل مستنقع الماء وليس بمراد. وجمعه أقوع وأقواع وقيعان والصفصف الأرض المستوية الملساء كان أجزاؤه صف واحد من كل جهة، وقيل: الأرض التي لا نبات فيها، وعن ابن عباس. ومجاهد جعل القاع والصفصف بمعنى واحد وهو المستوي الذي لا نبات فيه وانتصاب قاعاً على الحالية من الضمير المنصوب وهو مفعول ثان ليذر على تضمين معنى التصيير. وصَفْصَفاً إما حال ثانية أو بدل من المفعول الثاني، وقوله تعالى لا تَرى فِيها أي في مقار الجبال أو في الأرض على ما فصل عِوَجاً وَلا أَمْتاً استئناف مبين كيفية ما سبق من القاع الصفصف أو حال أخرى أو صفة لقاع والرؤية بصرية والخطاب لكل من يتأتى منه. وعلقت بالعوج وهو بكسر العين ما لا يدرك بفتحها بل بالبصيرة لأن المراد به ما خفي من الاعوجاج حتى احتاج إثباته إلى المساحة الهندسية المدركة بالعقل فألحق بما هو عقلي صرف فأطلق عليه ذلك لذلك وهذا بخلاف العوج بفتح العين فإنه ما يدرك بفتحها كعوج الحائط والعود وبهذا فرق بينهما في الجمهرة وغيرها.
واختار المرزوقي في شرح الفصيح أنه لا فرق بينهما، وقال أبو عمرو: يقال لعدم الاستقامة المعنوية والحسية عوج بالكسر، وأما العوج بالفتح فمصدر عوج، وصح الواو فيه لأنه منقوص من أعوج. ولما صح في الفعل صح في المصدر أيضا، والأمت النتوء، والتنكير فيها للتقليل. وعن ابن عباس عوجا ميلا ولا أمتا أثرا مثل الشراك. وفي رواية أخرى عنه عوجا واديا ولا أمتا رابية. وعن قتادة عوجا صدعا ولا أمتا أكمة، وقيل: الأمت الشقوق في الأرض. وقال الزجاج: هو أن يغلظ مكان ويدق مكان، وقيل: الأمت في الآية العوج في السماء تجاه الهواء والعوج في الأرض مختص بالعرض. وتقديم الجار والمجرور على المفعول الصريح لما مر غير مرة.
وقوله تعالى يَوْمَئِذٍ أي يوم إذ تنسف الجبال على إضافة يوم إلى وقت النسف من إضافة العام إلى الخاص فلا يلزم أن يكون للزمان ظرف وإن كان لا مانع عنه عند من عرفه بمتجدد يقدر به متجدد آخر. وقيل: هو من إضافة المسمى إلى الاسم كما قيل في شهر رمضان. وهو ظرف لقوله تعالى يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ وقيل: بدل من يوم القيامة.
فالعامل فيه هو العامل فيه، وفيه الفصل الكثير وفوات ارتباط يتبعون بما قبله. وعليه فقوله تعالى: «ويسألونك» إلخ استطراد معترض وما بعده استئناف وضمير يَتَّبِعُونَ للناس. والمراد بالداعي داعي الله عز وجل إلى المحشر وهو إسرافيل عليه السلام يضع الصور في فيه ويدعو الناس عند النفخة الثانية قائما على صخرة بيت المقدس ويقول: أيتها العظام البالية والجلود المتمزقة واللحوم المتفرقة هلموا إلى العرض إلى الرحمن فيقبلون من كل صوب إلى صوته.
وأخرج ابن أبي حاتم عن محمد بن كعب القرظي قال: يحشر الله تعالى الناس يوم القيامة في ظمة تطوى السماء وتتناثر النجوم ويذهب الشمس والقمر وينادي مناد فيتبع الناس الصوت يؤمونه فذلك قوله تعالى: يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ إلخ، وقال علي بن عيسى: الدَّاعِيَ هنا الرسول الذي كان يدعوهم إلى الله عز وجل والأول أصح.
لا عِوَجَ لَهُ أي للداعي على معنى لا يعوج له مدعو ولا يعدل عنه، وهذا كما يقال: لا عصيان له أي لا يعصى ولا ظلم له أي لا يظلم، وأصله أن اختصاص الفعل بمتعلقه ثابت كما هو بالفاعل، وقيل: أي لا عوج لدعائه فلا

(8/572)


يعصى ولا ظلم له أي لا يظلم، وأصله أن اختصاص الفعل بمتعلقه ثابت كما هو بالفاعل، وقيل: أي لا عوج لدعائه فلا يميل إلى ناس دون ناس بل يسمع جميعهم وحكي ذلك عن أبي مسلم.
وقيل: هو على القلب أي لا عوج لهم عنه بل يأتون مقبلين إليه متبعين لصوته من غير انحراف وحكي ذلك عن الجبائي وليس بشيء، والجملة في موضع الحال من الداعي أو مستأنفة كما قال ابن عطية: يحتمل أن يكون المعنى لا شك فيه ولا يخالف وجوده خبره وَخَشَعَتِ الْأَصْواتُ لِلرَّحْمنِ أي خفيت لمهابته تعالى وشدة هول المطلع، وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: سكنت والخشوع مجاز في ذلك، وقيل: لا مجاز والكلام على حذف مضاف أي أصحاب الأصوات وليس بذاك فَلا تَسْمَعُ خطاب لكل من يصح منه السمع إِلَّا هَمْساً أي صوتا خفيا خافتا كما قال أبو عبيدة. وعن مجاهد هو الكلام الخفي، ويؤيده قراءة أبي «فلا ينطقون إلا همسا» وعن ابن عباس هو تحريك الشفاه بغير نطق، واستبعد بأن ذلك مما يرى لا مما يسمع، وفي رواية أخرى عنه أنه خفق الأقدام وروي ذلك عن عكرمة وابن جبير والحسن، واختاره الفراء والزجاج.
ومنه قول الشاعر: وهن يمشين بنا هميسا. وذكر أنه يقال للأسد الهموس لخفاء وطئه فالمعنى سكنت أصواتهم وانقطعت كلماتهم فلم يسمع منهم إلا خفق أقدامهم ونقلها إلى المحشر يَوْمَئِذٍ أي يوم إذ يقع ما ذكر من الأمور الهائلة وهو ظرف لقوله تعالى: لا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ وجوز أن يكون بدلا من يوم القيامة أو من يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ، والمراد لا تنفع الشفاعة من الشفعاء أحدا إِلَّا مَنْ أَذِنَ في الشفاعة.
لَهُ الرَّحْمنُ فالاستثناء من أعم المفاعيل ومَنْ مفعول تَنْفَعُ وهي عبارة عن المشفوع له ولَهُ متعلق بمقدر متعلق بإذن، وفي البحر أن اللام للتعليل وكذا في قوله تعالى وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا أي ورضي لأجله قول الشافع وفي شأنه أو رضي قول الشافع لأجله وفي شأنه فالمراد بالقول على التقديرين قول الشافع، وجوز فيه أيضا أن لا يكون للتعليل، والمعنى ورضي قولا كائنا له فالمراد بالقول قول المشفوع وهو على ما روي عن ابن عباس لا إله إلا الله، وحاصل المعنى عليه لا تنفع الشفاعة أحدا إلا من أذن الرحمن في أن يشفع له وكان مؤمنا، والمراد على كل تقدير أنه لا تنفع الشفاعة أحدا إلا من أذن الرحمن في أن يشفع له وكان مؤمنا، والمراد على كل تقدير أنه لا تنفع الشفاعة أحدا إلا من ذكر وأما من عداه فلا تكاد تنفعه وإن فرض صدورها عن الشفعاء المتصدين للشفاعة للناس كقوله تعالى: فَما تَنْفَعُهُمْ شَفاعَةُ الشَّافِعِينَ [المدثر: 48] .
وجوز في البحر والدر المصون أن لا يقدر مفعول لتنفع تنزيلا له منزلة اللازم والاستثناء من شفاعة ومن في محل رفع على البدلية منها بتقدير مضاف أو في محل نصب على الاستثناء بتقديره أيضا أي إلا شفاعة من أذن إلخ، ومن عبارة عن الشافع والاستثناء متصل ويجوز أن يكون منقطعا إذا لم يقدر شيء ومحل «من» حينئذ نصب على لغة الحجاز ورفع على لغة تميم، واعترض كون الاستثناء من الشفاعة على تقدير المضاف بأن حكم الشفاعة ممن لم يؤذن له أن يملكها ولا تصدر عنه أصلا ومعنى «لا يقبل منها شفاعة» لا يؤذن لها فيها لا أنها لا تقبل بعد وقوعها فالأخبار عنها بمجرد عدم نفعها للمشفوع له ربما يوهم إمكان صدورها حين لم يأذن له مع إخلاله بمقتضى مقام تهويل اليوم.
يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ الظاهر أن ضمير الجمع عائد على الخلق المحشورين، وهم متبعو الداعي، وقيل: على الناس لا بقيد الحشر والاتباع، وقيل: على الملائكة عليهم السلام وهو خلاف الظاهر جدا، والمراد من الموصولين على ما قيل ما تقدمهم من الأحوال وما بعدهم مما يستقبلونه أو بالعكس أو أمور الدنيا وأمور الآخرة أو بالعكس أو ما يدركونه وما لا يدركونه وقد مر الكلام في ذلك.
وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً أي لا يحيط علمهم بمعلوماته تعالى فعلما تمييز محول عن الفاعل وضمير «به» لله

(8/573)


وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا (111) وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا يَخَافُ ظُلْمًا وَلَا هَضْمًا (112) وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا (113) فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا (114) وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا (115) وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى (116) فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى (117) إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى (118) وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى (119) فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلَى (120) فَأَكَلَا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى (121) ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى (122) قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى (123) وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى (124) قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا (125) قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى (126) وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى (127) أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِأُولِي النُّهَى (128) وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكَانَ لِزَامًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى (129) فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى (130) وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى (131) وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى (132) وَقَالُوا لَوْلَا يَأْتِينَا بِآيَةٍ مِنْ رَبِّهِ أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الْأُولَى (133) وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَى (134) قُلْ كُلٌّ مُتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُوا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحَابُ الصِّرَاطِ السَّوِيِّ وَمَنِ اهْتَدَى (135)

تعالى والكلام على تقدير مضاف. وقيل: المراد لا يحيط علمهم بذاته سبحانه أي من حيث اتصافه بصفات الكمال التي من جملتها العلم الشامل ويقتضي صحة أن يقال: علمت الله تعالى إذ المنفي العلم على طريق الإحاطة.
وقال الجبائي: الضمير لمجموع الموصولين فإنهم لا يعلمون جميع ما ذكر ولا تفصيل ما علموا منه، وجوز أن يكون لأحد الموصولين لا على التعيين.

(8/574)


وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ أي ذلت وخضعت خضوع العناة أي الأسارى، والمراد بالوجوه إما الذوات وإما الأعضاء المعلومة وتخصيصها بالذكر لأنها أشرف الأعضاء الظاهرة وآثار الذل أول ما تظهر فيها، وأل فيها للعهد أو عوض عن المضاف إليه أي وجوه المجرمين فتكون الآية نظير قوله تعالى: سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا [الملك:
27] واختار ذلك الزمخشري وجعل قوله تعالى: وَقَدْ خابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً اعتراضا ووضع الموصول موضع ضميرهم ليكون أبلغ، وقيل: الوجوه الأشراف أي عظماء الكفرة لأن المقام مقام الهيبة ولصوق الذلة بهم أولى والظلم الشرك وجملة وَقَدْ خابَ إلخ حال والرابط الواو لا معترضة لأنها في مقابلة وهو مؤمن فيما بعد انتهى. قال صاحب الكشف: الظاهر مع الزمخشري والتقابل المعنوي كاف فإن الاعتراض لا يتقاعد عن الحال انتهى.
وأنت تعلم أن تفسير الظلم بالشرك مما لا يختص بتفسير الوجوه بالإشراف وجعل الجملة حالا بل يكون على الوجه الأول أيضا بناء على أن المراد بالمجرمين الكفار، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنه أنه قال في قوله تعالى:
وَقَدْ خابَ إلخ خسر من أشرك بالله تعالى ولم يتب، وقال غير واحد: الظاهر أن أل للاستغراق أي خضعت واستسلمت جميع الوجوه وقوله تعالى وَقَدْ خابَ إلخ يحتمل الاستئناف والحالية، والمراد بالموصول إما المشركون وإما ما يعمهم وغيرهم من العصاة وخيبة كل حامل بقدر ما حمل من الظلم فخيبة المشرك دائمة وخيبة المؤمن العاصي مقيدة بوقت العقوبة إن عوقب. وقد تقدم لك معنى- الحي القيوم- في آية الكرسي. والظاهر أن قوله تعالى وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ قسيم لقوله سبحانه وَعَنَتِ الْوُجُوهُ إلى آخر ما تقدم ولقوله عز وجل «وقد خاب من حمل ظلما» على هذا كما صرح به ابن عطية وغيره أي ومن يعمل بعض الصالحات أو بعضا من الصالحات وَهُوَ مُؤْمِنٌ أي بما يجب الإيمان به. والجملة في موضع الحال والتقييد بذلك لأن الإيمان شرط في صحة الطاعات وقبول الحسنات فَلا يَخافُ ظُلْماً أي منع ثواب مستحق بموجب الوعد وَلا هَضْماً ولا منع بعض منه تقول العرب هضمت حقي أي نقصت منه ومنه هضيم الكشحين أي ضامرهما وهضم الطعام تلاشى في المعدة. روي عن ابن عباس ومجاهد وقتادة أن المعنى فلا يخاف أن يظلم فيزاد في سيئاته ولا أن يهضم فينقص من حسناته. والأول مروي عن ابن زيد، وقيل الكلام على حذف مضاف أي فلا يخاف جزاء ظلم وهضم إذ لم يصدر عنه ظلم ولا هضم حق أحد حتى يخاف ذلك أو أنه أريد من الظلم والهضم جزاؤهما مجازا، ولعل المراد على ما قيل نفي الخوف عنه من ذلك من حيث إيمانه وعمله بعض الصالحات ويتضمن ذلك نفي أن يكون العمل الصالح مع الإيمان ظلما أو هضما.
وقيل: المراد أن من يعمل ذلك وهو مؤمن هذا شأنه لصون الله تعالى إياه عن الظلم أو الهضم ولأنه لا يعتد بالعمل الصالح معه. فلا يرد ما قيل إنه لا يلزم من الإيمان وبعض العمل أن لا يظلم غيره ويهضم حقه ولا يخفى عليك أن القول بحذف المضاف والتجوز في هذه الآية في غاية البعد وما قيل من الاعتراض قوي وما أجيب به كما ترى. ثم إن ظاهر كلام الجوهري أنه لا فرق بين الظلم والهضم، وظاهر الآية قاض بالفرق وكذا قول المتوكل الليثي:
إن الأذلة واللئام لمعشر ... مولاهم المتهضم المظلوم
وممن صرح به الماوردي حيث قال: الفرق بينهما أن الظلم منع الحق كله والهضم منه بعضه. وقرأ ابن كثير وابن محيصن وحميد «فلا يخف» على النهي. قال الطيبي: قراءة الجمهور توافق قوله تعالى: وَقَدْ خابَ إلخ من

(8/575)


حيث الأخبار وأبلغ من القراءة الأخرى من حيث الاستمرار والأخرى أبلغ من حيث إنها لا تقبل التردد في الأخبار.
وَكَذلِكَ عطف على كَذلِكَ نَقُصُّ [طه: 99] والإشارة إلى إنزال ما سبق من الآيات المتضمنة للوعيد المنبئة عما سيقع من أحوال القيامة وأهوالها أي مثل ذلك الإنزال أَنْزَلْناهُ أي القرآن كله وهو تشبيه لإنزال الكل بانزال الجزء والمراد أنه على نمط واحد، وإضماره من غير سبق ذكره للإيذان بنباهة شأنه وكونه مركوزا في العقول حاضرا في الأذهان قُرْآناً عَرَبِيًّا ليفهمه العرب ويقفوا على ما فيه من النظم المعجز الدال على كونه خارجا عن طوق الآدميين نازلا من رب العالمين وَصَرَّفْنا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ أي كررنا فيه بعض الوعيد أو بعضا من الوعيد، والجملة عطف على جملة أَنْزَلْناهُ وجعلها حالا قيد الإنزال خلاف الظاهر جدا.
لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ المفعول محذوف وتقدم الكلام في لعل، والمراد لعلهم يتقون الكفر والمعاصي بالفعل أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْراً أي عظة واعتبارا مؤديا في الآخرة إلى الاتقاء، وكأنه لما كانت التقوى هي المطلوبة بالذات منهم أسند فعلها إليهم ولما لم يكن الذكر كذلك غير الأسلوب إلى ما سمعت كذا قيل، وقيل: المراد بالتقوى ملكتها، وأسندت إليهم لأنها ملكة نفسانية تناسب الإسناد لمن قامت به، وبالذكر العظة الحاصلة من استماع القرآن المثبطة عن المعاصي، ولما كانت أمرا يتجدد بسبب استماعه ناسب الإسناد إليه، ووصفه بالحدوث المناسب لتجدد الألفاظ المسموعة، ولا يخفى بعد تفسير التقوى بملكتها على أن في القلب من التعليل شيئا.
وفي البحر أسند ترجي التقوى إليهم لأن التقوى عبارة عن انتفاء فعل القبيح وذلك استمرار على العدم الأصلي، وأسند ترجي أحداث الذكر للقرآن لأن ذلك أمر حدث بعد أن لم يكن انتهى، وهو مأخوذ من كلام الإمام وفي قوله:
لأن التقوى إلى آخره على إطلاقه منع ظاهر، وفسر بعضهم التقوى بترك المعاصي والذكر بفعل الطاعات فإنه يطلق عليه مجاز لما بينهما من السببية والمسببية فكلمة أو على ما قيل للتنويع، وفي الكلام إشارة إلى أن مدار الأمر التخلية والتحلية. والإمام ذكر في الآية وجهين، الأول أن المعنى إنما أنزلنا القرآن ليصيروا محترزين عن فعل ما لا ينبغي أو يحدث لهم ذكرا يدعوهم إلى فعل ما ينبغي فالكلام مشير أيضا إلى التخلية والتحلية إلا أنه ليس فيه ارتكاب المجار، والثاني أن المعنى أنزلنا القرآن ليتقوا فإن لم يحصل ذلك فلا أقل من أن يحدث لهم ذكرا وشرفا وصيتا حسنا، ولا يخفى أن هذا ليس بشيء، وقال الطيبي: إن المعنى وكذلك أنزلناه قرآنا عربيا أي فصيحا ناطقا بالحق ساطعا بيناته لعلهم يحدث لهم التأمل والتفكر في آياته وبيناته الوافية الشافية فيذعنون ويطيعون وصرفنا فيه من الوعيد لعلهم يتقون العذاب. ففي الآية لف من غير ترتيب وهي على وزان قوله تعالى لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى [طه: 44] وعندي كون الآية متضمنة للتخلية والتحلية لا يخلو عن حسن فتأمل.
وقرأ الحسن «أو يحدث» بسكون الثاء، وقرأ عبد الله ومجاهد وأبو حيوة والحسن في رواية والجحدري وسلام «أو نحدث» بالنون وسكون الثاء وذلك حمل وصل على وقف أو تسكين حرف الإعراب استثقالا لحركته كما قال ابن جنى نحو قول امرئ القيس:
اليوم أشرب غير مستحقب ... إثما من الله ولا واغلي
وقول جرير:
سيروا بني العم فالأهواز منزلكم ... ونهر تيري ولا يعرفكم العرب
فَتَعالَى اللَّهُ استعظام له تعالى ولما صرف في القرآن من الوعد والوعيد والأوامر والنواهي وغير ذلك وتنزيه لذاته المتعالية أن لا يكون إنزال قرآنه الكريم منتهيا إلى غاية الكمالية من تسببه لترك من أنزل عليهم المعاصي، ولفعلهم

(8/576)


الطاعات وفيه تعجيب واستدعاء للإقبال عليه وعلى تعظيمه، وفي وصفه تعالى بقوله سبحانه الْمَلِكُ أي المتصرف بالأمر والنهي الحقيق بأن يرجى وعده ويخشى وعيده ما يدل على أن قوارع القرآن سياسات إلهية يتضمن صلاح الدارين لا يحيد عنها إلا مخذول هالك، وقوله تعالى الْحَقُّ صفة بعد صفة لله تعالى أي الثابت في ذاته وصفاته عز وجل، وفسره الراغب بموجد الشيء على ما تقتضيه الحكمة.
وجوز غير واحد كونه صفة للملك ومعناه خلاف الباطل أي الحق في ملكيته يستحقها سبحانه لذاته، وفيه إيماء إلى أن القرآن وما تضمنه من الوعد والوعيد حق كله لا يحوم حول حماه الباطل بوجه وأن المحق من أقبل عليه بشرا شره وأن المبطل من أعرض عن تدبر زواجره، وفيه تمهيد لوصل النهي عن العجلة به في قوله سبحانه وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ أي يتم وَحْيُهُ أي تبليغ جبريل عليه السلام إياه فإن من حق الإقبال ذلك وكذلك من حق تعظيمه.
وذكر الطيبي أن هذه الجملة عطف على قوله تعالى فَتَعالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لما فيه من إنشاء التعجب فكأنه قيل حيث نبهت على عظمة جلالة المنزل وأرشدت إلى فخامة المنزل فعظم جنابه الملك الحق المتصرف في الملك والملكوت، وأقبل بكلك على تحفظ كتابه وتحقق مبانيه ولا تعجل به، وكان صلّى الله عليه وسلّم إذا ألقى عليه جبريل عليه السلام القرآن يتبعه عند تلفظ كل حرف وكل كلمة خوفا أن يصعد عليه السلام ولم يحفظه صلّى الله عليه وسلّم فنهى عليه الصلاة والسلام عن ذلك إذ ربما يشغل التلفظ بكلمة عن سماع ما بعدها، ونزل عليه أيضا لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ
[القيامة: 66] الآية، وأمر صلّى الله عليه وسلّم باستفاضة العلم واستزادته منه سبحانه فقيل: وَقُلْ أي في نفسك رَبِّ زِدْنِي عِلْماً أي سل الله عز وجل بدل الاستعجال زيادة العلم مطلقا أو في القرآن فإن تحت كل كلمة بل كل حرف منه أسرارا ورموزا وعلوما جمة وذلك هو الأنفع لك، وقيل: وجملة وَلا تَعْجَلْ مستأنفة ذكرت بعد الإنزال على سبيل الاستطراد، وقيل: إن ذلك نهي عن تبليغ ما كان مجملا قبل أن يأتي بيانه وليس بذاك، فإن تبليغ المجمل وتلاوته قبل البيان مما لا ريب في صحته ومشروعيته.
ومثله ما قيل: إنه نهي عن الأمر بكتابته قبل أن تفسر له المعاني وتتقرر عنده عليه الصلاة والسلام بل هو دونه بكثير، وقيل: إنه نهي عن الحكم بما من شأنه أن ينزل فيه قرآن بناء على ما أخرج جماعة عن الحسن أن امرأة شكت إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم أن زوجها لطمها فقال لها: بينكما القصاص فنزلت هذه الآية فوقف صلّى الله عليه وسلّم حتى نزل الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ [النساء: 34] ، وقال الماوردي: إنه نهي عن العجلة بطلب نزوله. وذلك أن أهل مكة وأسقف نجران قالوا: يا محمد أخبرنا عن كذا وقد ضربنا لك أجلا ثلاثة أيام فأبطأ الوحي عليه وفشت المقالة بين اليهود وزعموا أنه عليه الصلاة والسلام قد غلب فشق ذلك عليه صلّى الله عليه وسلّم واستعجل الوحي فنزلت وَلا تَعْجَلْ إلخ وفي كلا القولين ما لا يخفى.
وقرأ عبد الله والجحدري والحسن وأبو حيوة وسلام ويعقوب والزعفراني وابن مقسم «نفضي» بنون العظمة مفتوح الياء «وحيه» بالنصب. وقرأ الأعمش كذلك إلا أنه سكن الياء من «نقضي» ، قال صاحب اللوامح: وذلك على لغة من لا يرى فتح الياء بحال إذا انكسر ما قبلها وحلت طرفا، واستدل بالآية على فضل العلم حيث أمر صلّى الله عليه وسلّم بطلب زيادته، وذكر بعضهم أنه ما أمر عليه الصلاة والسلام بطلب الزيادة في شيء إلا العلم.
وأخرج الترمذي وابن ماجه عن أبي هريرة قال: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «اللهم انفعني بما علمتني وعلمني ما ينفعني وزدني علما والحمد لله على كل حال» .

(8/577)


وأخرج سعيد بن منصور. وعبد بن حميد عن ابن مسعود أنه كان يدعو «اللهم زدني إيمانا وفقها ويقينا وعلما» وما هذا إلا لزيادة فضل العلم وفضله أظهر من أن يذكر، نسأل الله تعالى أن يرزقنا الزيادة فيه ويوفقنا للعمل بما يقتضيه وَلَقَدْ عَهِدْنا إِلى آدَمَ كأنه لما مدح سبحانه القرآن، وحرض على استعمال التؤدة والرفق في أخذه وعهد على العزيمة بأمره وترك النسيان فيه ضرب حديث آدم مثلا للنسيان وترك العزيمة.
وذكر ابن عطية أن في ذلك مزيد تحذير للنبي صلّى الله عليه وسلّم عن العجلة وعدم التؤدة لئلا يقع فيما لا ينبغي كما وقع آدم عليه السلام، فالكلام متعلق بقوله تعالى وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ إلخ، وقال الزمخشري: هو عطف على صَرَّفْنا عطف القصة على القصة، والتخالف فيه إنشاء وخبرية لا يضر مع أن المقصود بالعطف جواب القسم. وحاصل المعنى عليه صرفنا الوعيد وكررناه لعلهم يتقون أو يحدث لهم ذكرا لكنهم لم يلتفتوا لذلك ونسوه كما لم يلتفت أبوهم إلى الوعيد ونسي العهد إليه. والفائدة في ذلك الإشارة إلى أن مخالفتهم شنشنة أخزمية وأن أساس أمرهم ذلك وعرقهم راسخ فيه، وحكي نحو هذا عن الطبري.
وتعقبه ابن عطية بأنه ضعيف لما فيه من الغضاضة من مقام آدم عليه السلام حيث جعلت قصته مثلا للجاحدين لآيات الله تعالى وهو عليه السلام إنما وقع منه ما وقع بتأويل انتهى، والإنصاف يقضي بحسنه فلا تلتفت إلى ما قيل: إن فيه نظرا، وقال أبو مسلم: إنه عطف على قوله تعالى كَذلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ ما قَدْ سَبَقَ [طه: 99] وليس بذاك، نعم فيه مع ما تقدم إنجاز الموعود في تلك الآية، واستظهر ابن عطية فيه أحد أمرين التعلق بلا تعجل وكونه ابتداء كلام لا تعلق له بما قبله، وهذا الأخير وإن قدمه في كلامه ناشىء من ضيق العطن كما لا يخفى، والعهد الوصية يقال عهد إليه الملك ووغر إليه وعزم عليه وتقدم إليه إذا أمره ووصاه، والمعهود محذوف يدل عليه ما بعده، واللام واقعة في جواب قسم محذوف أي وأقسم بالله لقد أمرناه ووصيناه مِنْ قَبْلُ أي من قبل هذا الزمان، وقيل: أي من قبل وجود هؤلاء المخالفين.
وعن الحسن أي من قبل إنزال القرآن، وقيل: أي من قبل أن يأكل من الشجرة فَنَسِيَ العهد ولم يهتم به ولم يشتغل بحفظه حتى غفل عنه، والعتاب جاء من ترك الاهتمام، ومثله عليه السلام يعاتب على مثل ذلك، وعن ابن عباس (1) والحسن أن المراد فترك ما وصى به من الاحتراس عن الشجرة وأكل ثمرتها فالنسيان مجاز عن الترك والفاء للتعقيب وهو عرفي، وقيل: فصيحة أي لم يهتم به فنسي والمفعول محذوف وهو ما أشرنا إليه، وقيل: المنسي الوعيد بخروج الجنة إن أكل، وقيل قوله تعالى: إِنَّ هذا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ وقيل: الاستدلال على أن النهي عن الجنس دون الشخص، والظاهر ما أشرنا إليه.
وقرأ اليماني والأعمش «فنسّي» بضم النون وتشديد السين أي نساه الشيطان وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً تصميم رأي وثبات قدم في الأمور، وهذا جاء على القولين في النسيان، نعم قيل: إنه أنسب بالثاني وأوفق بسياق الآية على ما ذكرنا أولا. وروي جماعة عن ابن عباس وقتادة أن المعنى لم نجد له صبرا عن أكل الشجرة، وعن ابن زيد وجماعة أن المعنى لم نجد له عزما على الذنب فإنه عليه السلام أخطأ ولم يتعمد وهو قول من قال: إن النسيان على حقيقته وجاء عن ابن عباس ما يقتضيه، فقد أخرج الزبير بن بكار في الموفقيات عنه قال قال لي عمر رضي الله تعالى عنه إن صاحبكم هذا- يعني علي بن أبي طالب كرم الله تعالى وجهه- إن ولي زهد ولكني أخشى عجب نفسه أن يذهب به
__________
(1) رواه عنه جماعة اه منه.

(8/578)


قلت: يا أمير المؤمنين إن صاحبنا من قد علمت والله ما نقول: إنه غير ولا بدل ولا أسخط رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أيام صحبته فقال ولا في بنت أبي جهل وهو يريد أن يخطبها على فاطمة قلت قال الله تعالى في معصية آدم عليه السلام وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً فصاحبنا لم يعزم على إسخاط رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ولكن الخواطر التي لا يقدر أحد دفعها عن نفسه وربما كانت من الفقيه في دين الله تعالى العالم بأمر الله سبحانه فإذا نبه عليها رجع وأناب فقال: يا ابن عباس من ظن أنه يرد بحوركم فيغوص فيها معكم حتى يبلغ قعرها فقد ظن عجزا، لكن لا يخفى عليك أن هذا التفسير غير متبادر ولا كثير المناسبة للمقام. وحاصل لم نجد إلخ عليه أنه نسي فيتكرر مع ما قبله.
ثم إن لَمْ نَجِدْ إن كان من الوجود العلمي،- فله عزما- مفعولاه قدم الثاني على الأول لكونه ظرفا وإن كان من الوجود المقابل للعدم كما اختاره بعضهم- فله- متعلق به قدم على مفعوله لما مر غير مرة أو بمحذوف وقع حالا من مفعوله المنكر، والمعنى على هذا ولم نصادف له عزما وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ شروع في بيان المعهود وكيفية ظهور نسيانه وفقدان عزمه، وَإِذْ منصوب على المفعولية بمضمر خوطب به النبي صلّى الله عليه وسلّم أي واذكر وقت قولنا للملائكة إلخ. قيل: وهو معطوف على مقدر أي اذكر هذا واذكر إذ قلنا أو من عطف القصة على القصة.
وأيّا ما كان فالمراد اذكر ما وقع في ذلك الوقت منا ومنه حتى يتبين لك نسيانه وفقدان عزمه فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ قد مر الكلام فيه مرارا أَبى جملة مستأنفة وقعت جوابا عن سؤال نشأ عن الأخبار بعدم سجوده كأنه قيل: فما باله لم يسجد؟ فقل: أَبى والإباء الامتناع أو شدته ومفعوله إما محذوف أي أبى السجود كما في قوله تعالى أَبى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ [الحجر: 31] أو غير منوي رأسا بتنزيله منزلة اللازم أي فعل الإباء وأظهره فَقُلْنا عقيب ذلك اعتناء بنصح آدم عليه السلام يا آدَمُ إِنَّ هذا الذي رأيت منه ما رأيت عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ أعيد اللام لأنه لا يعطف على الضمير المجرور بدون إعادة الجار عند الجمهور. وقيل: أعيد للدلالة على أن عداوة اللعين للزوجة أصالة لا تبعا. وهو على القول بعدم لزوم إعادة الجار في مثله كما ذهب إليه ابن مالك ظاهر. وأما على القول باللزوم فقد قيل في توجيهه. إن كون الشيء لازما بحسب القاعدة النحوية لا ينافي قصد إفادة ما يقتضيه المقام.
وقد صرح السيد السند في شرح المفتاح في توجيه جعل صاحب المفتاح تنكير التمييز في قوله تعالى:
وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً [مريم: 4] لإفادة المبالغة بما يرشد إلى ذلك، ولا يخفى ما في التعبير بزوجك دون حواء من مزيد التنفير والتحذير منه، واختلف في سبب العداوة فقيل مجرد الحسد وهو لعنه الله تعالى ولعن أتباعه أول من حسد، وقيل: كونه شيخا جاهلا وكون آدم عليه السّلام شابا عالما، والشيخ الجاهل يكون أبدا عدوا للشاب العالم بل الجاهل مطلقا عدو للعالم كذلك كما قيل: والجاهلون لأهل العلم أعداء وقيل: تنافي الأصلين فإن اللعين خلق من نار وآدم عليه السلام خلق من طين وحواء خلقت منه، وقد ذكر جميع ذلك الإمام الرازي.
فَلا يُخْرِجَنَّكُما أي فلا يكونن سببا لإخراجكما مِنَ الْجَنَّةِ وهذا كناية عن نهيهما عن أن يكونا بحيث يتسبب الشيطان في إخراجهما منها نحو قوله تعالى: فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ [الأعراف: 2] والفاء لترتيب موجب النهي على عداوته لهما أو على الأخبار بها فَتَشْقى أي فتتعب بمتاعب الدنيا وهي لا تكاد تحصى ولا يسلم منها أحد وإسناد ذلك إليه عليه السلام خاصة بعد تعليق الإخراج الموجب له بهما معا لأصالته في الأمور واستلزام تعبه لتعبها مع ما في ذلك من مراعاة الفواصل على أتم وجه، وقيل: المراد بالشقاء التعب في تحصيل مبادئ المعاش وهو من وظائف الرجال، وأيد هذا بما أخرجه عبد بن حميد وابن عساكر. وجماعة عن سعيد بن جبير قال: «إن آدم عليه السلام لما أهبط من الجنة استقبله ثور أبلق فقيل له: اعمل عليه فجعل يمسح العرق عن جبينه ويقول: هذا ما

(8/579)


وعدني ربي فَلا يُخْرِجَنَّكُما مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقى ثم نادى حواء حواء أنت عملت بي هذا فليس من ولد آدم أحد يعمل على ثور إلا قال: حو دخلت عليهم من قبل آدم عليه السلام، وكذا أيد بالآية بعد وفيه تأمل، ولعل القول بالعموم أولى، و «تشقى» يحتمل أن يكون منصوبا بإضمار أن في جواب النهي، ويحتمل أن يكون مرفوعا على الاستئناف بتقدير فأنت تشقى، واستبعد هذا بأنه ليس المراد الأخبار عنه بالشقاء بل المراد أن وقع الإخراج حصل ذلك.
إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيها وَلا تَعْرى وَأَنَّكَ لا تَظْمَؤُا فِيها وَلا تَضْحى أي ولا تصيبك الشمس يقال: ضحا كسعى وضحى كرضى ضحوا وضحيا إذا أصابته الشمس، ويقال ضحا وضحوا وضحوا وضحيا إذا برز لها، وأنشدوا قول عمرو بن أبي ربيعة:
رأت رجلا أما إذا الشمس عارضت ... فيضحى وأما بالعشي فيخصر
وفسر بعضهم ما في الآية بذلك والتفسير الأول مروي عن عكرمة، وأيّا ما كان فالمراد نفي أن يكون بلا كن، والجملة تعليل لما يوجبه النهي فإن اجتماع أسباب الراحة فيها مما يوجب المبالغة في الاهتمام بتحصيل مبادئ البقاء فيها والجد في الانتهاء عما يؤدي إلى الخروج عنها، والعدول عن التصريح بأن له عليه السلام فيها تنعما بفنون النعم من المآكل والمشارب وتمتعا بأصناف الملابس البهية والمساكن المرضية مع أن فيه من الترغيب في الإبقاء فيها ما لا يخفى إلى ما ذكر من نفي نقائضها التي هي الجوع والعطش والعرى والضحو لتذكير تلك الأمور المنكرة والتنبيه على ما فيها من أنواع الشقوة التي حذره سبحانه عنها ليبالغ في التحامي عن السبب المؤدي إليها، ومعنى أَلَّا تَجُوعَ إلخ أن لا يصيبه شيء من الأمور الأربعة أصلا فإن الشبع والري والكسوة والكن قد تحصل بعد عروض أضدادها وليس الأمر فيها كذلك بل كلما وقع فيها شهوة وميل إلى شيء من الأمور المذكورة تمتع به من غير أن يصل إلى حد الضرورة على أن الترغيب قد حصل بما سوغ له من التمتع بجميع ما فيها سوى الشجرة حسبما ينطق به قوله تعالى:
يا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلا مِنْها رَغَداً حَيْثُ شِئْتُما [البقرة: 35] وقد طوي ذكره هاهنا اكتفاء بذلك واقتصر على ما ذكر من الترغيب المتضمن للترهيب، وقال بعضهم: إن الاقتصار على ما ذكر لما وقع في سؤال آدم عليه السلام فإنه روي أنه لما أمره سبحانه بسكنى الجنة قال إلهي ألي فيها ما آكل ألي فيها ما ألبس ألي فيها ما أشرب ألي فيها ما أستظل به فأجيب بما ذكر، وفي القلب من صحة الرواية شيء.
ووجه إفراده عليه السلام بما ذكر ما مر آنفا، وقيل: كونه السائل وكان الظاهر عدم الفصل بين الجوع والظمأ والعري والضحو للتجانس والتقارب إلا أنه عدل عن المناسبة المكشوفة إلى مناسبة أتم منها وهي أن الجوع خلو الباطن والعري خلو الظاهر فكأنه قيل لا يخلو باطنك وظاهرك عما يهمهما، وجمع بين الظمأ المورث حرارة الباطن والبروز للشمس وهو الضحو المورث حرارة الظاهر فكأنه قيل: لا يؤلمك حرارة الباطن والظاهر وذلك الوصل الخفي وهو سر بديع من أسرار البلاغة، وفي الكشف إنما عدل إلى المنزل تنبيها على أن الشبع والكسوة أصلان وأن الأخيرين متممان على الترتيب فالامتنان على هذا الوجه أظهر ولهذا فرق بين القرينتين فقيل أولا إِنَّ لَكَ وثانيا أَنَّكَ، وقد ذكر هذه العلامة الطيبي أيضا ثم قال: وفي تنسيق المذكورات الأربعة مرتبة هكذا مقدما ما هو الأهم فالأهم ثم في جعلها تفصيلا لمضمون قوله تعالى فَلا يُخْرِجَنَّكُما مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقى وتكرير لفظة فيها وإخراجها في صيغة النفي مكررة الأداة الإيماء إلى التعريض بأحوال الدنيا وأن لا بد من مقاساتها فِيها لأنها خلقت لذلك وأن الجنة ما خلقت إلا للتنعم ولا يتصور فيها غيره.

(8/580)


وفي الانتصاف أن في الآية سرا بديعا من البلاغة يسمى قطع النظير عن النظير، والغرض من ذلك تحقيق تعداد هذه النعم ولو قرن كل بشكله لتوهم المقرونان نعمة واحدة، وقد رمق أهل البلاغة سماء هذا المعنى قديما وحديثا فقال الكندي (1) الأول:
كأني لم أركب جوادا للذة ... ولم أتبطن كاعبا ذات خلخال

ولم أسبأ الزقّ الرويّ ولم أقل ... لخيلي كرّي كرة بعد إجفال
فقطع ركوب الجواد عن قوله لخيله: كري كرة وقطع تبطن الكاعب عن ترشف الكأس مع التناسب وغرضه أن يعدد ملاذه ومفاخره ويكثرها، وتبعه الكندي (2) الآخر فقال:
وقفت وما في الموت شك لواقف ... كأنك في جفن الردى وهو نائم

تمر بك الأبطال كلمى هزيمة ... ووجهك ضحاك وثغرك باسم
وقد اعترض عليه سيف الدولة إذ قطع الشيء عن نظيره فقال له: إن كنت أخطأت بذلك فقد أخطأ امرؤ القيس بقوله وأنشد البيتين السابقين، وفي الآية سر لذلك أيضا زائد على ما ذكر وهو قصد تناسب الفواصل اه.
وقد يقال في بيتي الأول: إنه جمع بين ركوب الخيل للذة والنزهة وتبطن الكاعب للذة الحاصلة فيهما وجمع بين سبء الزق وقوله لخيله: كري لما فيهما من الشجاعة، ثم ما ذكر من قصد تناسب الفواصل في الآية ظاهر في أنه لو عدل عن هذا الترتيب لم يحصل ذلك وهو غير مسلم.
وقرأ شيبة ونافع وحفص وابن سعدان «إنك» بكسر الهمزة. وقرأ الجمهور بفتحها على أن العطف على أن لا تجوع وهو في تأويل مصدر اسم لأن وصحة وقوع ما صدر بأن المفتوحة اسما لأن المكسورة المشاركة لها في إفادة التحقيق مع امتناع وقوعها خبرا لها لما أن المحذور وهو اجتماع حر في التحقيق في مادة واحدة غير موجود فيما نحن فيه لاختلاف مناط التحقيق فيما في حيزها بخلاف ما لو وقعت خبرا فإن اتحاد المناط حيئنذ مما لا ريب فيه، وبيانه على ما في إرشاد العقل السليم أن كل واحدة من الأداتين موضوعة لتحقيق مضمون الجملة الخبرية المنعقدة من اسمها وخبرها ولا يخفى أن مرجع خبريتها ما فيها من الحكم وإن مناطه الخبر لا الاسم فمدلول كل منهما تحقيق ثبوت خبرها لاسمها لا ثبوت اسمها في نفسه فاللازم من وقوع الجملة المصدرة بالمفتوحة اسما للمكسورة تحقيق ثبوت خبرها لتلك الجملة المؤولة بالمصدر، وأما تحقيق ثبوتها في نفسها فهو مدلول المفتوحة فلا يلزم اجتماع حر في التحقيق في مادة واحدة قطعا، وإنما لم يجز أن يقال: إن أن زيدا قائم حق مع اختلاف المناط بل شرطوا الفصل بالخبر كقولنا: إن عندي أن زيدا قائم حق للتجافي عن صورة الاجتماع، والواو العاطفة وإن كانت نائبة عن المكسورة التي يمتنع دخولها على المفتوحة بلا فصل وقائمة مقامها في إفضاء معناها وإجراء أحكامها على مدخولها لكنها حيث لم تكن حرفا موضوعا للتحقيق لم يلزم من دخولها اجتماع حر في التحقيق أصلا. فالمعنى إن لك عدم الجوع وعدم العري وعدم الظمأ خلا أنه لم يقتصر على بيان أن الثابت له عدم الظمأ والضحو مطلقا كما فعل مثله في المعطوف عليه بل قصد بيان أن الثابت له تحقيق عدمهما فوضع موضع الحرف المصدري المحض أن المفيدة له كأنه قيل: إن
__________
(1) هو امرؤ القيس اه منه.
(2) هو المتنبي اه منه.

(8/581)


كل فيها عدم ظمئك على التحقيق انتهى. ويحتاج عليه إلى بيان النكتة في عدم الاقتصار على بيان أن الثابت له عدم الظمأ مطلقا كما فعل مثله في المعطوف عليه فتأمل ولا تغفل.
وقيل: إن الواو وإن كانت نائبة عن إن هنا إلا أنه يلاحظ بعدها لَكَ الموجود بعد أن التي نابت عنها فيكون هناك فاصل ولا يمتنع الدخول معه وهو كما ترى، ولا يخفى عليك أن العطف على قراءة الكسر على أن الأولى مع معموليها لا على اسمها ولا كلام في ذلك فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطانُ أنهى الوسوسة إليه، وهي كما قال الراغب:
الخطرة الرديئة وأصلها من الوسواس وهو صوت الحلي والهمس الخفي، وقال الليث: الوسوسة حديث النفس والفعل وسوس بالبناء للفاعل، ويقال: رجل موسوس بالكسر والفتح لحن.
وذكر غير واحد أن وسوس فعل لازم مأخوذ من الوسوسة وهي حكاية صوت كولولة الثكلى ووعوعة الذئب ووقوقة الدجاجة وإذا عدي بالى ضمن معنى الإنهاء وإذا جيء باللام بعده نحو وسوس له فهي للبيان كما في هَيْتَ لَكَ [يوسف: 23] وقال الزمخشري: للأجل أي وسوس لأجله، وكذا إذا كانت بعد نظائر هذا الفعل نحو قوله:
اجرس (1) لها يا ابن أبي كباش ... فما لها الليلة من أنفاش
وذكر في الأساس وسوس إليه في قسم الحقيقة، وظاهره عدم اعتبار التضمين والكثير على اعتباره.
قالَ إما بدل من (وسوس) أو استئناف وقع جوابا عن سؤال نشأ منه كأنه قيل: فما قال له في وسوسته:
فقيل: قال يا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلى شَجَرَةِ الْخُلْدِ ناداه باسمه ليكون أقبل عليه وأمكن للاستماع ثم عرض عليه ما عرض على سبيل الاستفهام الذي يشعر بالنصح، ومعنى شجرة الخلد شجرة من أكل منها خلد ولم يمت أصلا سواء كان على حاله أو بأن يكون ملكا لقوله تعالى: إِلَّا أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونا مِنَ الْخالِدِينَ [الأعراف: 20] .
وفي البحر أن ما حكي هنا مقدم على ما حكي في الأعراف من قوله تعالى: ما نَهاكُما رَبُّكُما عَنْ هذِهِ الشَّجَرَةِ [الأعراف: 20] إلخ كأن اللعين لما رأى منه عليه السلام نوع إصغاء إلى ما عرض عليه انتقل إلى الأخبار والحصر انتهى، والحق أنه لا جزم بما ذكر وَمُلْكٍ لا يَبْلى أي لا يفنى أو لا يصير باليا خلقا قيل: إن هذا من لوازم الخلود فذكره للتأكيد وزيادة الترغيب فَأَكَلا أي هو وزوجته مِنْها أي من الشجرة التي سماها اللعين شجرة الخلد فَبَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: عريا عن النور الذي كان الله تعالى ألبسهما حتى بدت فروجهما، وفي رواية أخرى عنه أنه كان لباسهما الظفر فلما أصابا الخطيئة نزع عنهما وتركت هذه البقايا في أطراف الأصابع والله تعالى أعلم بصحة ذلك، ثم إن ما ذكر يحتمل أن يكون عقوبة للأكل ويحتمل أن يكون مرتبا عليه لمصلحة أخرى وَطَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ قد مر تفسيره.
وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ بما ذكر من أكل الشجرة فَغَوى ضل عن مطلوبه الذي هو الخلود أو عن المطلوب منه وهو ترك الأكل من الشجرة أو عن الرشد حيث اغتر بقول العدو، وقيل: غوى أي فسد عليه عيشه. ومنه يقال: الغواء لسوء الرضاع. وقرىء «فغوي» بفتح الغين وكسر الواو وفتح الياء أي فبشم من كثرة الأكل من غوي الفصيل إذا اتخم من اللبن وبه فسرت القراءة الأخرى، وتعقب ذلك الزمخشري: فقال وهذا وإن صح على لغة من يقلب الياء المكسور ما قبلها ألفا فيقول في فني وبقي فنا وبقا بالألف وهم بنو طيء تفسير خبيث، وظاهر الآية يدل على أن ما وقع من الكبائر وهو المفهوم من كلام الإمام فإن كان صدوره بعد البعثة تعمدا من غير نسيان ولا تأويل أشكل على ما اتفق عليه
__________
(1) حد لها اه منه.

(8/582)


المحققون والأئمة المتقنون من وجوب عصمة الأنبياء عليهم السلام بعد البعثة عن صدور مثل ذلك منهم على ذلك الوجه، ولا يكاد يقول بذلك إلا الأزارقة من الخوارج فإنهم عليهم ما يستحقون جوزوا الكفر عليهم وحاشاهم فما دونه أولى بالتجويز، وإن كان صدوره قبل البعثة كما قال به جمع وقال الإمام: إنه مذهبنا فإن كان تعمدا أشكل على قول أكثر المعتزلة والشيعة بعصمتهم عليهم السلام عن صدور مثل ذلك تعمدا قبل البعثة أيضا.
نعم لا إشكال فيه على ما قاله القاضي أبو بكر من أنه لا يمتنع عقلا ولا سمعا أن يصدر من النبي عليه السلام قبل نبوته معصية مطلقا بل لا يمتنع عقلا إرسال من أسلم بعد كفره، ووافقه على ذلك كما قال الآمدي في أبكار الأفكار أكثر الأصحاب وكثير من المعتزلة وإن كان سهوا كما يدل عليه قوله تعالى: فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً [طه:
88] بناء على أحد القولين فيه أشكل على ما نقل عن الشيعة من منع صدور الكبيرة سهوا قبل البعثة أيضا، ولا إشكال فيه على ما سمعت عن القاضي أبي بكر، وإن كان بعد البعثة سهوا أشكل أيضا عند بعض دون بعض، فقد قال عضد الملة في المواقف إن الأكثرين جوزوا صدور الكبيرة يعني ما عدا الكفر والكذب فيما دلت المعجزة على صدقهم عليهم السلام فيه سهوا وعلى سبيل الخطأ منهم، وقال العلامة الشريف المختار: خلافه، وذهب كثير إلى أن ما وقع صغيرة والأمر عليه هين فإن الصغائر الغير المشعرة بالخسة يجوز على ما ذكره العلامة الثاني في شرح العقائد صدورها منهم عليهم السلام عمدا بعد البعثة عند الجمهور خلافا للجبائي وأتباعه ويجوز صدورها سهوا بالاتفاق لكن المحققون اشترطوا أن ينبهوا على ذلك فينتهوا عنه.
نعم ذكر في شرح المقاصد عصمتهم عن صدور ذلك عمدا. والأحوط نظرا إلى مقام آدم عليهم السلام أن يقال: إن صدور ما ذكر منه كان قبل النبوة وكان سهوا أو عن تأويل إلا أنه عظم الأمر عليه وعظم لديه نظرا إلى علو شأنه ومزيد فضل الله تعالى عليه، وإحسانه وقد شاع حسنات الأبرار سيئات المقربين، ومما يدل على استعظام ذلك منه لعلو شأنه عليه السلام ما أخرجه البيهقي في شعب الإيمان عن أبي عبد الله المغربي قال: تفكر إبراهيم في شأن آدم عليهما السلام فقال: يا رب خلقته بيدك ونفخت فيه من روحك وأسجدت له ملائكتك ثم بذنب واحد ملأت أفواه الناس من ذكر معصيته فأوحى الله تعالى إليه يا إبراهيم أما علمت أن مخالفة الحبيب على الحبيب شديدة.
وذكر بعضهم أن في استعظام ذلك منه عليه الملام زجرا بليغا لأولاده عن أمثاله، وعلى العلات لا ينبغي لأحد أن ينسب إليه العصيان اليوم وأن يخبر بذلك إلا أن يكون تاليا لما تضمن ذلك أو راويا له عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأما أن يكون مبتدئا من قبل نفسه فلا، وقد صرح القاضي أبو بكر بن العربي بعدم جواز نسبة العصيان للآباء الأدنين إلينا المماثلين لنا فكيف يجوز نسبته للأنبياء الأقدام والنبي المقدم الأكرم، وارتضى ذلك القرطبي وادعى أن ابتداء الأخبار بشيء من صفات الله تعالى المتشابهة كاليد والإصبع والنزول أولى بالمنع وعدم الجواز، ثم إن ما وقع كان في الحقيقة بمحض قضاء الله تعالى وقدره، وإلا فقد روي عن أبي أمامة الباهلي والحسن أن عقله عليه السلام مثل عقل جميع ولده وعداوة إبليس عليه اللعنة له عليه السلام في غاية الظهور، وفي ذلك دليل على أنه لا ينفع عقل ولا يغني شيء في جنب تقدير الله تعالى وقضائه ثُمَّ اجْتَباهُ رَبُّهُ أي اصطفاه سبحانه وقربه إليه بالحمل على التوبة والتوفيق لها من اجتبى الشيء جباه لنفسه أي جمعه كقولك: اجتمعته أو من جبى إلى كذا فاجتبيته مثل جليت على العروس فاجتليتها، وأصل معنى الكلمة الجمع فالمجتبى كأنه في الأصل من جمعت فيه المحاسن حتى اختاره غيره وقربه، وفي التعرض لعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضميره عليه السلام مزيد تشريف له عليه السلام فَتابَ عَلَيْهِ أي رجع عليه بالرحمة وقبل توبته حين تاب وذلك حين قال هو وزوجته: رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَتَرْحَمْنا لَنَكُونَنَّ مِنَ

(8/583)


الْخاسِرِينَ
[الأعراف: 23] وَهَدى أي إلى الثبات على التوبة والتمسك بما يرضي المولى سبحانه وتعالى، وقيل إلى كيفية التوبة بتعليم الكلمات والواو لمطلق الجمع فلا يضر كون ذلك قبل التوبة عليه، وقيل: إلى النبوة والقيام بما تقتضيه. وقدم أبو حيان هذا على سائر الاحتمالات التي ذكرها، والنيسابوري فسر الاجتباء بالاختيار للرسالة وجعل الآية دليلا على أن ما جرى كان قبل البعثة ولم يصرح سبحانه بنسبة العصيان والغواية إلى حواء بأن يسندهما إلى ضمير التثنية الذي هو عبارة عنها، وعن آدم عليه السلام كما أسند الأكل وما بعده إلى ذلك إعراضا عن مزيد النعي على الحرم وأن الأهم نظرا إلى مساق القصة التصريح بما أسند إلى آدم عليه السلام ويتضمن ذلك رعاية الفواصل وحيث لم يصرح جل وعلا بعصيانها لم يتعرض لتوفيقها للتوبة وقبولها منها، وقال بعضهم: إنه تعالى اكتفى بذكر شأن آدم عليه السلام لما أن حواء تبع له في الحكم ولذا طوي ذكر النساء في أكثر مواقع الكتاب والسنة.
قالَ استئناف مبني على سؤال نشأ من الإخبار بأنه تعالى عامله بما عامله كأنه قيل: فماذا أمره بعد ذلك؟
فقيل: قال له ولزوجته اهْبِطا مِنْها جَمِيعاً أي انزلا من الجنة إلى الأرض مجتمعين، وقيل: الخطاب له عليه السلام ولإبليس عليه اللعنة فإنه دخل الجنة بعد ما قيل له فَاخْرُجْ مِنْها فَإِنَّكَ رَجِيمٌ [الحجر: 34] للوسوسة، وخطابهما على الأول بقوله تعالى بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ لما أنهما أصل الذرية ومنشأ الأولاد فالتعادي في الحقيقة بين أولادهما. وهذا على عكس مخاطبة اليهود ونسبة ما فعل آباؤهم إليهم. والجملة في موضع الحال أي متعادين في أمر المعاش وشهوات الأنفس. وعلى الثاني ظاهر لظهور العداوة بين آدم عليه السلام وإبليس عليه اللعنة وكذا بين ذرية آدم عليه السلام وذرية اللعين. ومن هنا قيل: الضمير لآدم وذريته وإبليس وذريته.
وزعم بعضهم أنه لآدم وإبليس والحية والمعول عليه الأول ويؤيد ذلك قوله تعالى فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً إلخ أي نبي أرسله إليكم وكتاب أنزله عليكم فَمَنِ اتَّبَعَ هُدايَ وضع الظاهر موضع المضمر مع الإضافة إلى ضميره تعالى لتشريفه والمبالغة في إيجاب اتباعه.
وأخرج الطبراني وغيره عن أبي الطفيل أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قرأ فَمَنِ اتَّبَعَ هُدايَ فَلا يَضِلُّ في الدنيا وَلا يَشْقى في الآخرة، وفسر بعضهم الهدى بالقرآن لما أخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن أبي حاتم والحاكم وصححه. والبيهقي في شعب الإيمان من طرق عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: أجار الله تعالى تابع القرآن من أن يضل في الدنيا أو يشقى في الآخرة ثم قرأ الآية،
وأخرج جماعة عنه مرفوعا إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بلفظ «من اتبع كتاب الله هداه الله تعالى من الضلالة في الدنيا ووقاه سوء الحساب يوم القيامة»
، ورجح على العموم بقيام القرينة عليه وهو قوله تعالى وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي بناء على تفسير الذكر بالقرآن، وكذا قوله تعالى بعد كَذلِكَ أَتَتْكَ آياتُنا فَنَسِيتَها [طه: 126] والمختار العموم أن يقول: الذكر يقع على القرآن وعلى سائر الكتب الإلهية، وكذا الآيات تكون بمعنى الأدلة مطلقا، وقد فسر الذكر أيضا هنا بالهدى لأنه سبب ذكره تعالى وعبادته سبحانه، فأطلق المسبب وأريد سببه لوقوعه في المقابلة، وما في الخبر من باب التنصيص على حكم أشرف الأفراد المدلول عليه بالعموم اعتناء بشأنه.
ثم إن تقييد لا يَضِلُّ بقولنا في الدنيا وَلا يَشْقى بقولنا في الآخرة هو الذي يقتضيه الخبر.
وجوز بعضهم العكس أي فلا يضل طريق الجنة في الآخرة ولا يتعب في أمر المعيشة في الدنيا، وجعل الأول في مقابلة وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى والثاني في مقابلة فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً ثم قال: وتقديم حال الآخرة على حال الدنيا في المهتدين لأن مطمح نظرهم أمر آخرتهم بخلاف خلافهم فطن نظرهم مقصور على دنياهم، ولا يخفى أن الذي نطقت به الآثار هو الأول، وذكر بعضهم أنه المتبادر، نعم ما ذكر لا يخلو عن حسن وإن قيل: فيه

(8/584)


تكلف، وجوز الإمام كون الأمرين في الآخرة وكونهما في الدنيا، وذكر أن المراد على الأخير لا يضل في الدين ولا يشقى بسبب الدين لا مطلقا فإن لحق المنعم بالهدى شقاء في الدنيا فبسبب آخر وذلك لا يضر اه، والمعول عليه ما سمعت، والمراد من الإعراض عن الذكر عدم الاتباع فكأنه قيل: ومن لم يتبع فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً أي ضيقة شديدة وهو مصدر ضنك وكذا ضناكة ولذا يوصف به المذكر والمؤنث والمفرد والمثنى والمجموع، وقد وصف به هنا المؤنث باعتبار الأصل. وقرأ الحسن «ضنكى» بألف التأنيث كسكرى وبالإمالة. وهذا التأنيث باعتبار تأويله بالوصف، وعن ابن عباس تفسيره بالشديد من كل وجه، وأنشد قول الشاعر:
والخيل قد لحقت بنا في مأزق ... ضنك نواحيه شديد المقدم
والمتبادر أن تلك المعيشة له في الدنيا. وروي ذلك عن عطاء وابن جبير، ووجه ضيق معيشة الكافر المعرض في الدنيا أنه شديد الحرص على الدنيا متهالك على ازديادها خائف من انتقاصها غالب عليه الشح بها حيث لا غرض له سواها بخلاف المؤمن الطالب للآخرة، وقيل: الضنك مجاز عما لا خير فيه، ووصف معيشة الكافر بذلك لأنها وبال عليه وزيادة في عذابه يوم القيامة كما دلت عليه الآيات، وهو مأخوذ مما أخرجه ابن أبي حاتم عن ابن عباس أنه قال في الآية: يقول كل مال أعطيته عبدا من عبادي قل أو كثر لا يتقيني فيه فلا خير فيه وهو الضنك في المعيشة، وقيل:
المراد من كونها ضنكا أنها سبب للضنك يوم القيامة فيكون وصفها بالضنك للمبالغة كأنها نفس الضنك كما يقال في السلطان: الموت بين شفتيه يريدون بالموت ما يكون سببا للموت كالأمر بالقتل ونحوه، وعن عكرمة ومالك بن دينار ما يشعر بذلك، وقال بعضهم: إن تلك المعيشة له في القبر بأن يعذب فيه. وقد روى ذلك جماعة عن ابن مسعود وأبي سعيد الخدري وأبي صالح والربيع والسدي ومجاهد وفي البحر عن ابن عباس أن الآية نزلت في الأسود بن عبد الأسد المخزومي،
والمراد ضغطة القبر حتى تختلف فيه أضلاعه. وروي ذلك مرفوعا أيضا.
فقد أخرج ابن أبي الدنيا في ذكر الموت. والحكيم الترمذي وأبو يعلى وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن حبان وابن مردويه عن أبي هريرة قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم المؤمن في قبره في روضة خضراء ويرحب له قبره سبعين ذراعا ويضيء حتى يكون كالقمر ليلة البدر هل تدرون فيم أنزلت فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً قالوا: الله ورسوله أعلم قال: عذاب الكافر في قبره يسلط عليه تسعة وتسعون تنينا هل تدرون ما التنين؟ تسعة وتسعون حية لكل حية سبعة رؤوس يخدشونه ويلسعونه وينفخون في جسمه إلى يوم يبعثون» .
وأخرج عبد الرزاق وسعيد بن منصور ومسدد في مسنده وعبد بن حميد والحاكم وصححه والبيهقي في كتاب عذاب القبر وجماعة عن أبي سعيد قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في قوله تعالى مَعِيشَةً ضَنْكاً عذاب القبر» ولفظ عبد الرزاق يضيق عليه قبره حتى تختلف أضلاعه،
ولفظ ابن أبي حاتم ضمة القبر
إلى غير ذلك ومن قال: الدنيا ما قبل القيامة الكبرى قال: ما يكون بعد الموت واقع في الدنيا كالذي يكون قبل الموت.
وقال بعضهم: إنها تكون يوم القيامة في جهنم، وأخرج ذلك ابن أبي شيبة وابن المنذر عن الحسن، وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن زيد قال: المعيشة الضنك في النار شوك وزقوم وغسلين وضريع وليس في القبر ولا في الدنيا معيشة وما المعيشة والحياة إلا في الآخرة، ولعل الأخبار السابقة لم تبلغ هذا القائل أو لم تصح عنده، وأنت تعلم أنها إذا صحت فلا مساغ للعدول عما دلت عليه وإن لم تصح كان الأولى القول بأنها في الدنيا لا في الآخرة لظاهر ذكر قوله تعالى وَنَحْشُرُهُ إلخ بعد الأخبار بأن لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وقرأت فرقة منهم أبان بن تغلب «ونحشره» بإسكان الراء وخرج على أنه تخفيف أو جزم بالعطف على محل فَإِنَّ لَهُ إلخ لأنه جواب الشرط كأنه قيل: ومن أعرض عن

(8/585)


ذكري تكن له معيشة ضنك ونحشره إلخ. ونقل ابن خالويه عن أبان أنه قرأ «ونحشره» بسكون الهاء على إجراء الوصل مجرى الوقف. وفي البحر الأحسن تخريج ذلك على لغة بني كلاب وعقيل فإنهم يسكنون مثل هذه الهاء، وقد قرىء لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ [العاديات: 6] بإسكان الهاء وقرأت فرقة «ويحشره» بالياء يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى الظاهر أن المراد فاقد البصر كما في قوله تعالى وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَلى وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَبُكْماً وَصُمًّا [الإسراء: 97] قالَ استئناف كما مر رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً أي في الدنيا كما هو الظاهر، ولعل هذا باعتبار أكثر أفراد من أعرض لأن من أفراده من كان أكمه في الدنيا. والظاهر أن هذا سؤال عن السبب الذي استحق به الحشر أعمى لأنه جهل أو ظن أن لا ذنب له يستحق به ذلك.
قالَ الله تعالى في جوابه كَذلِكَ أَتَتْكَ آياتُنا الكاف مقحمة كما في مثلك لا يبخل وذلك إشارة إلى مصدر أتتك أي مثل ذلك الإتيان البديع أتتك الآيات الواضحة النيرة. وعند الزمخشري لا إقحام وذلك إشارة إلى حشره أعمى أي مثل ذلك الفعل فعلت أنت. وقوله تعالى أَتَتْكَ إلخ جواب سؤال مقدر كأنه قيل: يا رب ما فعلت أنا؟ فقيل: أتتك آياتنا فَنَسِيتَها أي تركتها ترك المنسي الذي لا يذكر أصلا، والمراد فعميت عنها إلا أنه وضع المسبب موضع السبب لأن من عمي عن شيء نسيه وتركه. والإشارة في قوله تعالى وَكَذلِكَ إلى النسيان المفهوم من نسيتها والكاف على ظاهرها أي مثل ذلك النسيان الذي كنت فعلته في الدنيا الْيَوْمَ تُنْسى أي تترك في العمى جزاء وفاقا، وقيل: الكاف بمعنى اللام الأجلية كما قيل في قوله تعالى وَاذْكُرُوهُ كَما هَداكُمْ [البقرة: 198] أي ولأجل ذلك النسيان الصادر منك تنسى. وهذا الترك يبقى إلى ما شاء الله تعالى ثم يزال العمى عنه فيرى أهوال القيامة ويشاهد النار كما قال سبحانه وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُواقِعُوها [الكهف: 53] الآية ويكون ذلك له عذابا فوق العذاب وكذا البكم والصمم يزيلهما الله تعالى عنهم كما يدل عليه قوله تعالى أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنا [مريم: 38] .
وفي رواية عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه أن الكافر يحشر أولا بصيرا ثم يعمى فيكون الإخبار بأنه قد كان بصيرا إخبارا عما كان عليه في أول حشره، والظاهر أن ذلك العمى يزول أيضا، وعن عكرمة أنه لا يرى شيئا إلا النار، ولعل ذلك أيضا في بعض أجزاء ذلك اليوم وإلا فكيف يقرأ كتابه، وروي عن مجاهد ومقاتل والضحاك وأبي صالح وهي رواية عن ابن عباس أيضا أن المعنى نحشره يوم القيامة أعمى عن الحجة أي لا حجة له يهتدي بها. وهو مراد من قال: أعمى القلب والبصيرة، واختار ذلك إبراهيم بن عرفة وقال كلما ذكر الله سبحانه في كتابه العمى فذمه فإنما يراد به عمى القلب قال سبحانه وتعالى: فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ [الحج: 46] وعلى هذا فالمراد بقوله وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً وقد كنت عالما بحجتي بصيرا بها أحاج عن نفسي في الدنيا. ومنه يعلم اندفاع ما قاله ابن عطية في رد من حمل العمى على عمى البصيرة من أنه لو كان كذلك لم يحس الكافر به لأنه كان في الدنيا أعمى البصيرة ومات وهو كذلك. وحاصل الجواب عليه إني حشرتك أعمى القلب لا تهتدي إلى ما ينجيك من الحجة لأنك تركت في الدنيا آياتي وحججي وكما تركت ذلك تترك على هذا العمى أبدا، وقيل: المراد بأعمى متحيرا لا يدري ما يصنع من الحيل في دفع العذاب كالأعمى الذي يتحير في دفع ما لا يراه. وليس في الآية دليل كما يتوهم على عد نسيان القرآن أو آية منه كبيرة كما ذهب إليه الإمام الرافعي ويشعر كلام الإمام النووي في الروضة باختياره لأن المراد بنسيان الآيات بعد القول بشمولها آيات القرآن تركها وعدم الإيمان بها. ومن عد نسيان شيء من القرآن كبيرة أراد بالنسيان معناه الحقيقي نعم تجوز أبو شامة شيخ النووي فحمل النسيان في الأحاديث الواردة في ذم

(8/586)


نسيان شيء من القرآن على ترك العمل به. وتحقيق هذه المسألة وأن كون النسيان بالمعنى الأول كبيرة عند من قال به مشروط كما قال الجلال البلقيني والزركشي وغيرهما بما إذا كان عن تكاسل وتهاون يطلب من محله وكذا تحقيق حال الأحاديث الواردة في ذلك.
وقرأ حمزة والكسائي وخلف «أعمى» بالإمالة في الموضعين لأنه من ذوات الياء. وأمال أبو عمرو في الأول فقط لكونه جديرا بالتغيير لكونه رأس الآية ومحل الوقف وَكَذلِكَ أي ومثل ذلك الجزاء الموافق للجناية نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ بالانهماك في الشهوات وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآياتِ رَبِّهِ بل كذبها وأعرض عنها، والمراد تشبيه الجزاء العام بالجزاء الخاص وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ على الإطلاق أو عذاب النار أَشَدُّ من عذاب الأولى وَأَبْقى أي أكثر بقاء منه أو أشد وأبقى من ذلك ومن عذاب القبر أو منهما ومن الحشر على العمى.
أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كلام مستأنف مسوق لتقرير ما قبله من قوله تعالى وَكَذلِكَ نَجْزِي الآية والهمزة للإنكار التوبيخي والفاء للعطف على مقدر يقتضيه المقام. واستعمال الهداية باللام إما لتنزيلها منزلة اللازم فلا حاجة إلى المفعول أو لأنها بمعنى التبيين والمفعول الثاني محذوف. وأيّا ما كان فالفاعل ضميره تعالى وضمير لَهُمْ للمشركين المعاصرين لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم. والمعنى أغفلوا فلم يفعل الله تعالى لهم الهداية أو فلم يبين عز وجل لهم العبر.
وقوله تعالى: كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ إما بيان بطريق الالتفات لتلك الهداية أو كالتفسير للمفعول المحذوف، وقيل: فاعل يَهْدِ ضميره صلّى الله عليه وسلّم، وقيل: ضمير الإهلاك المفهوم من قوله تعالى: كَمْ أَهْلَكْنا والجملة مفسرة له، وقيل: الفاعل محذوف أي النظر والاعتبار ونسب ذلك إلى المبرد، وفيه حذف الفاعل وهو لا يجوز عند البصريين، وقال الزمخشري: الفاعل جملة كَمْ أَهْلَكْنا إلخ ووقوع الجملة فاعلا مذهب كوفي، والجمهور على خلافه لكن رجح ذلك هنا بأن التعليل فيما بعد يقتضيه. ورجح كون الفاعل ضميره تعالى شأنه بأنه قد قرأ فرقة منهم ابن عباس والسلمي «أفلم نهد» بالنون واختار بعضهم عليه كون الفعل منزلا منزلة اللازم وجملة كَمْ أَهْلَكْنا بيانا لتلك الهداية، وبعض آخر كونه متعديا والمفعول مضمون الجملة أي أفلم يبين الله تعالى لهم مضمون هذا الكلام، وقيل: الجملة سادة مسد المفعول والفعل معلق عنها، وتعقب بأن كَمْ هنا خبرية وهي لا تعلق عن العمل وإنما التي تعلق عنه كم الاستفهامية على ما نص عليه أبو حيان في البحر لكن أنت تعلم أنه إذا كان مدار التعليق الصدارة كما هو الظاهر فقد صرح ابن هشام بأن لكل من كم الاستفهامية وكم الخبرية ما ذكر ورد في المغني قول ابن عصفور: أن كَمْ في الآية فاعل يهد بأن لها الصدر ثم قال: وقوله إن ذلك جاء على لغة رديئة حكاها الأخفش عن بعضهم أنه يقول ملكت كم عبيد فيخرجها عن الصدرية خطأ عظيم إذ خرج كلام الله تعالى شأنه على هذه اللغة انتهى. وهو ظاهر في أنه قائل بأن كم هنا خبرية ولها الصدر. نعم نقل الحوفي عن بعضهم أنه رد القائل بالفاعلية بأنها استفهامية لا يعمل ما قبلها فيها والظاهر خبريتها وهي مفعول مقدم لأهلكنا ومِنَ الْقُرُونِ متعلق بمحذوف وقع صفة لمميزها أي كم قرن كائن من القرون يَمْشُونَ فِي مَساكِنِهِمْ حال من الْقُرُونِ أو من مفعول أَهْلَكْنا أي أهلكناهم وهم في حال أمن وتقلب في ديارهم. واختار في البحر كونه حالا من الضمير في لَهُمْ مؤكدا للإنكار والعامل فيه يَهْدِ أي أفلم يهد للمشركين حال كونهم ماشين في مساكن من أهلكنا من القرون السالفة من أصحاب الحجر وثمود وقوم لوط مشاهدين لآثار هلاكهم إذا سافروا إلى الشام وغيره، وتوهم بعضهم أن الجملة في موضع الصفة للقرون وليس كذلك، وقرأ ابن السميفع «يمشّون» بالتشديد والبناء للمفعول أي يمكنون في المشي إِنَّ فِي ذلِكَ تعليل للإنكار

(8/587)


وتقرير للهداية مع عدم اهتدائهم. وذلِكَ إشارة إلى مضمون قوله تعالى كَمْ أَهْلَكْنا إلخ، وما فيه من معنى البعد للإشعار ببعد منزلته وعلو شأنه في بابه.
لَآياتٍ كثيرة عظيمة ظاهرات الدلالة على الحق، وجوز أن تكون كلمة في تجريدية كما قيل في قوله عز وجل لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ [الأحزاب: 21] لِأُولِي النُّهى أي لذوي العقول النهاية عن القبائح التي من أقبحها ما يتعاطاه هؤلاء المنكر عليهم من الكفر بآيات الله تعالى والتعامي عنها وغير ذلك من فنون المعاصي.
وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ كلام مستأنف سيق لبيان حكمة عدم وقوع ما يشعر به قوله تعالى أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ الآية من أن يصيبهم مثل ما أصاب القرون المهلكة والكلمة السابقة هي العدة بتأخير عذاب الاستئصال عن هذه الأمة إما إكراما للنبي صلّى الله عليه وسلّم كما يشعر به التعرض لعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضميره صلّى الله عليه وسلّم قوله تعالى وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ [الأنفال: 33] أو لأن من نسلهم من يؤمن أو لحكمة أخرى الله تعالى أعلم بها أي لولا الكلمة السابقة والعدة بتأخير العذاب لَكانَ أي عقاب جناياتهم لِزاماً أي لازما لهؤلاء الكفرة بحيث لا يتأخر عن جناياتهم ساعة لزوم ما نزل بأضرابهم من القرون السالفة، واللزام إما مصدر لازم كالخصام وصف به للمبالغة أو اسم آلة كحزام وركاب والوصف به للمبالغة أيضا كلزاز خصم بمعنى ملح على خصمه.
وجوز أبو البقاء كونه جمع لازم كقيام جمع قائم وهو خلاف الظاهر وَأَجَلٌ مُسَمًّى عطف على كَلِمَةٌ كما أخرج ابن أبي حاتم عن قتادة والسدي أي لولا العدة بتأخير عذابهم والأجل المسمى لأعمارهم لما تأخر عذابهم أصلا، وفصله عما عطف عليه للمسارعة إلى بيان جواب لولا، والإشعار باستقلال كل منهما بنفي لزوم العذاب ومراعاة فواصل الآي الكريمة، وقيل: أي ولولا أجل مسمى لعذابهم وهو يوم القيامة.
وتعقب بأنه يتحد حينئذ بالكلمة السابقة فلا يصح إدراج استقلال كل منهم بالنفي في عداد نكت الفصل.
وأجيب بأنه لا يلزم من تأخير العذاب عن الدنيا أن يكون له وقت لا يتأخر عنه ولا يتخلف فلا مانع من الاستقلال.
وأخرج ابن المنذر عن مجاهد أن الأجل المسمى هي الكلمة التي سبقت، وقيل: الأجل المسمى للعذاب هو يوم بدر وتعقب بأنه ينافي كون الكلمة هي العدة بتأخير عذاب هذه الأمة. وأجيب بأن المراد من ذلك العذاب هو عذاب الاستئصال ولم يقع يوم بدر وجوز الزمخشري كون العطف على المستكن في كان العائد إلى الأخذ العاجل المفهوم من السياق تنزيلا للفصل بالخبر منزلة التأكيد أي لكان الأخذ العاجل والأجل المسمى لازمين لهم كدأب عاد وثمود وأضرابهم، ولم ينفرد الأجل المسمى دون الأخذ العاجل، وأنت تعلم أن هذا لا يتسنى إذا كان لِزاماً اسم آلة للزوم التثنية حينئذ فَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ أي إذا كان الأمر على ما ذكر من أن تأخير عذابهم ليس باهمال بل إمهال وأنه لازم لهم البتة فَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ من كلمات الكفر فإن علمه صلّى الله عليه وسلّم بأنهم معذبون لا محالة مما يسليه ويحمله على الصبر، والمراد به عدم الاضطراب لا ترك القتال حتى تكون الآية منسوخة وَسَبِّحْ ملتبسا بِحَمْدِ رَبِّكَ أي صل وأنت حامد لربك عز وجل الذي يبلغك إلى كمالات على هدايته وتوفيقه سبحانه قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ أي صلاة الفجر وَقَبْلَ غُرُوبِها أي صلاة المغرب، والظاهر أن الظرف متعلق بسبح.
وقد أخرج تفسير التسبيح في هذين الوقتين بما ذكر الطبراني وابن عساكر وابن مردويه عن جرير مرفوعا إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم.
وأخرج الحاكم عن فضالة بن وهب الليثي أن النبي عليه الصلاة والسلام قال له: «حافظ على العصرين

(8/588)


قلت: وما العصران؟ قال: صلاة قبل طلوع الشمس وقبل غروبها» ،
وقيل: المراد بالتسبيح قبل غروبها صلاتا الظهر والعصر لأن وقت كل منهما قبل غروبها وبعد زوالها وجمعها لمناسبة قوله تعالى قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ، وأنت تعلم أن قبل الغروب وإن كان باعتبار معناه اللغوي صادقا على وقت الظهر ووقت العصر إلا أن الاستعمال الشائع فيه وقت العصر، وقوله تعالى وَمِنْ آناءِ اللَّيْلِ أي من ساعاته جمع إنى وانو بالياء والواو وكسر الهمزة وإنا بالكسر والقصر وآناءِ بالفتح والمد ولم يشتهر اشتهار الثلاثة الأول، وذكره من يوثق به من المفسرين، وقال الراغب في مفراته:
قال الله تعالى غَيْرَ ناظِرِينَ إِناهُ [الأحزاب: 53] أي وقته، والإناه إذا كسر أوله قصر وإذا فتح مد نحو قول الحطيئة:
وآنيت العشاء إلى سهيل ... أو الشعرى فطال بي الإناء
ثم قال: ويقال آنيت الشيء إيناء أي أخرته عن أوانه ويانيت تأخرت اه، وفي المصباح آنيته بالفتح والمد أخرته، والاسم أناء بوزن سلام قيل منصوب على الظرفية بمضمر، وقوله سبحانه فَسَبِّحْ عطف عليه أي قم بعض آناء الليل فسبح وهو كما ترى، وقيل: منصوب بسبح على نسق وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ [البقرة: 40] ، والفاء على الأول عاطفة وعلى الثاني مفسرة، وقيل: إنه معمول فَسَبِّحْ، والفاء زائدة فائدتها الدلالة على لزوم ما بعدها لما قبلها.
وذكر الخفاجي أنه معمول لما ذكر من غير حاجة لدعوى زيادة الفاء لأنها لا تمنع عمل ما بعدها فيما قبلها كما صرح به النحاة، والمراد من التسبيح في بعض آناء الليل صلاة المغرب وصلاة العشاء وللاعتناء بشأنهما لم يكتف في الأمر بفعلهما بالفعل السابق بأن يعطف مِنْ آناءِ اللَّيْلِ على أحد الظرفين السابقين من غير ذكر فسبح وللاهتمام بشأن آناء الليل وامتيازها على سائر الأوقات بأمور خاصية وعامية قدم ذكرها على الأمر ولم يسلك بها مسلك ما تقدم.
وقوله تعالى وَأَطْرافَ النَّهارِ عطف على محل قوله سبحانه مِنْ آناءِ اللَّيْلِ وقيل: على قوله عز وجل قَبْلَ طُلُوعِ والمراد من التسبيح أطراف النهار على ما أخرج ابن جرير وابن المنذر وغيرهما عن قتادة صلاة الظهر واختاره الجبائي، ووجه إطلاق الطرف على وقتها بأنه نهاية النصف الأول من النهار وبداية النصف الأخير منه، وجمعه باعتبار النصفين أو لأن تعريف النهار للجنس الشامل لكل نهار فيكون الجمع باعتبار تعدد النهار وأن لكل طرفا كذا قيل. وأورد على ذلك أن البداية والنهاية فيه ليست على وتيرة واحدة لأن كون ذلك نهاية باعتبار أن النصف الأول انتهى عنده وهو خارج عنه وبداية باعتبار أن النصف الثاني ابتدأ منه وهو داخل فيه، ولا شك في بعد كون الجمع بمثل هذا الاعتبار على أنه لا بد مع ذلك من القول بأن أقل الجمع اثنان، وأيضا أن إطلاق الطرف على طرف أحد نصفيه تكلف فإنه ليس طرفا له بل لنصفه.
وقيل: هذا تكرير لصلاتي الصبح والمغرب إيذانا باختصاصهما بمزيد مزية، والمراد بالنهار ما بين طلوع الشمس وغروبها وبالطرف ما يلاصق أول الشيء وآخره، والإتيان بلفظ الجمع مع أن المراد اثنان لا من اللبس إذ النهار ليس له إلا طرفان، ونظيره قول العجاج:
ومهمهين فدفدين مرتين ... ظهراهما مثل ظهور الترسين
والمرجح المشاكلة لآناء الليل، واختار هذا من أدخل الظهر فيما قبل الغروب، وفيه أن الطرف حقيقة فيما ينتهي به الشيء وهو منه ويطلق على أوله وآخره وإطلاقه على الملاصق المذكور ليس بحقيقة، وأجيب بأنه سائغ شائع وإن لم يكن حقيقة وجوز أن يكون تكريرا لصلاتي الصبح والعصر ويراد بالنهار ما بين طلوع الفجر وغروب الشمس وبالطرف الأول، والآخر بحسب العرف وإذا أريد بالنهار ما بين طلوع الشمس وغروبها يبعد هذا التجويز إذ لا يكون

(8/589)


الطرفان حينئذ على وتيرة واحدة، وقيل: هو أمر بالتطوع في الساعات الأخيرة للنهار وفيه صرف الأمر عن ظاهره مع أن في كون الساعات الأخيرة للنهار زمن تطوع بالصلاة كلاما لا يخفى على الفقيه.
وقال أبو حيان: الظاهر أن قوله تعالى: وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ أمر بالتسبيح مقرونا بالحمد وحينئذ إما أن يراد اللفظ أي قل- سبحان الله والحمد الله- أو يراد المعنى أي نزهه سبحانه عن السوء وأثنى عليه بالجميل.
وفي خبر ذكره ابن عطية «من سبح عند غروب الشمس سبعين تسبيحة غربت بذنوبه»
وقال أبو مسلم: لا يبعد حمل ذلك على التنزيه والإجلال، والمعنى اشتغل بتنزيه الله تعالى في هذه الأوقات وعلى ذلك حمله أيضا العز بن عبد السلام وجعل الباء في قوله سبحانه: بِحَمْدِ رَبِّكَ للآلة، وقال: إن ذلك لتعيين سلب صفات النقص لأن من سلب شيئا فقد أثبت ضده وأضداد صفات النقص صفات الكمال فمن نزهه سبحانه فقد أثبت صفات الكمال، وجوز في إضافة الحمد إلى الرب أن تكون من إضافة المصدر إلى الفاعل أو من إضافة المصدر إلى المفعول أو من إضافة الاختصاص بأن يكون الحمد بمعنى المحامد، ثم استحسن الأول لأن الحمد الحق الكامل حمد الله تعالى نفسه، والمتبادر جعل الباء للملابسة والإضافة من إضافة المصدر إلى المفعول.
واختار الإمام حمل التسبيح على التنزيه من الشرك، وقال: إنه أقرب إلى الظاهر وإلى ما تقدم ذكره لأنه سبحانه صبره أولا على ما يقولون من التكذيب وإظهار الكفر والشرك والذي يليق بذلك أن يؤمر بتنزيهه تعالى عن قولهم: حتى يكون مظهرا لذلك وداعيا إليه. واعترض بأنه لا وجه حينئذ لتخصيص هذه الأوقات بالذكر، وأجيب بأن المراد بذكرها الدلالة على الدوام كما في قوله تعالى: بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ [الأنعام: 52، الكهف: 28] مع أن لبعض الأوقات مزية لأمر لا يعلمه إلا الله تعالى. ورد بأنه يأباه من التبعيضية في قوله سبحانه مِنْ آناءِ اللَّيْلِ على أن هذه الدلالة يكفيها أن يقال: قبل طلوع الشمس وبعده لتناوله الليل والنهار فالزيادة تدل على أن المراد خصوصية الوقت، ولا يخفى أن قوله سبحانه مِنْ آناءِ اللَّيْلِ متعلق بسبح الثاني فليكن الأول للتعميم، والثاني لتخصيص البعض اعتناء به، نعم يرد أن التنزيه عن الشرك لا معنى لتخصيصه إلا إذا أريد به قول: سبحان الله مرادا به التنزيه عن الشرك، وقيل: يجوز أن يكون المراد بالتسبيح ما هو الظاهر منه ويكون المراد من الحمد الصلاة. والظرف متعلق به فتكون حكمة التخصيص ظاهرة كذا في الحواشي الشهابية. وقد عورض ما قاله الإمام بأن الأنسب بالأمر بالصبر الأمر بالصلاة ليكون ذلك إرشادا لما تضمنه قوله تعالى: وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ [البقرة: 45] وأيضا الأمر الآتي أوفق بحمل الأمر بالتسبيح على الأمر بالصلاة وقد علمت أن الآثار تقتضي ذلك ثم إنه يجوز أن يراد بالطرف طائفة من الشيء فإنه أحد معانيه كما في الصحاح والقاموس وإذا كان تعريف النهار للجنس على هذا لم يبق الكلام فيما روي عن قتادة كما كان فتدبر.
لَعَلَّكَ تَرْضى قيل: هو متعلق بسبح أي سبح في هذه الأوقات رجاء أن تنال عنده تعالى ما ترضي به نفسك من الثواب. واستدل به على عدم الوجوب على الله تعالى، وجوز أن يكون متعلقا بالأمر بالصبر والأمر بالصلاة، والمراد لَعَلَّكَ تَرْضى في الدنيا بحصول الظفر وانتشار أمر الدعوة ونحو ذلك، وقرأ أبو حيوة وطلحة والكسائي وأبو بكر وأبان وعصمة وأبو عمارة عن حفص وأبو زيد عن المفضل وأبو عبيد ومحمد بن عيسى الأصفهاني «ترضى» على صيغة البناء للمفعول من أرضى أي يرضيك ربك.
وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ أي لا تطل نظرهما بطريق الرغبة والميل إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ من زخارف الدنيا كالبنين.
والأموال والمنازل والملابس والمطاعم أَزْواجاً مِنْهُمْ أي أصنافا من الكفرة وهو مفعول متعنا قدم عليه الجار

(8/590)


والمجرور للاعتناء به ومن بيانية، وجون أن يكون حالا من ضمير به ومن تبعيضية مفعول متعنا أو متعلقة بمحذوف وقع صفة لمفعوله المحذوف أي لا تمدن عينيك إلى الذي متعنا به وهو أصناف وأنواع بعضهم أو بعضا كائنا منهم.
والمراد على ما قيل استمر على ترك ذلك، وقيل: الخطاب له عليه الصلاة والسلام والمراد أمته لأنه صلّى الله عليه وسلّم كان أبعد شيء عن إطالة النظر إلى زينة الدنيا وزخارفها وأعلق بما عند الله عز وجل من كل أحد
وهو عليه الصلاة والسلام القائل «الدنيا ملعونة ملعون ما فيها إلا ما أريد به وجه الله تعالى»
وكان صلّى الله عليه وسلّم شديد النهي عن الاغترار بالدنيا والنظر إلى زخرفها، والكلام على حذف مضاف أو فيه تجوز في النسبة، وفي العدول عن لا تنظر إلى ما متعنا به إلخ إلى ما في النظم الكريم إشارة إلى أن النظر الغير الممدود معفو وكان المنهي عنه في الحقيقة هو الإعجاب بذلك والرغبة فيه والميل إليه لكن بعض المتقين بالغوا في غض البصر عن ذلك حتى أنهم لم ينظروا إلى أبنية الظلمة وعدد الفسقة في اللباس والمركوب وغيرهما وذلك لمغزى بعيد وهو أنهم اتخذوها لعيون النظارة والفخر بها فيكون النظر إليها محصلا لغرضهم وكالمغري لهم على اتخاذها.
زَهْرَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا أي زينتها وبهجتها وهو منصوب بمحذوف يدل عليه متعنا أي جعلنا لهم زهرة أو بمتعنا على أنه مفعول ثان له لتضمينه معنى أعطينا أو على أنه بدل من محل به وضعفه ابن الحاجب في أماليه لأن إبدال منصوب من محل جار ومجرور ضعيف كمررت بزيد أخاك ولأن الإبدال من العائد مختلف فيه. ومثل ذلك ما قيل إنه بدل من ما الموصولة لما فيه من الفصل بالبدل بين الصلة ومعمولها أو على أنه بدل من- أزواجا- بتقدير مضاف أي ذوي أو أهل زهرة، وقيل: بدون تقدير على كون- أزواجا- حالا بمعنى أصناف التمتعات أو على جعلهم نفس الزهرة مبالغة. وضعف هذا بأن مثله يجري في النعت لا في البدل لمشابهته لبدل الغلط حينئذ أو على أنه تمييز لما أو لضمير به، وحكي عن الفراء أو صفة- أزواجا- ورد ذلك لتعريف التمييز وتعريف وصف النكرة، وقيل: على أنه حال من ضمير به أو من ما وحذف التنوين لالتقاء الساكنين وجر الحياة على البدل من ما واختاره مكي ولا يخفى ما فيه، وقيل:
نصب على الذم أي اذم زهرة إلخ واعترض بأن المقام يأباه لأن المراد أن النفوس مجبولة على النظر إليها والرغبة فيها ولا يلائمه تحقيرها ورد بأن في إضافة الزهرة إلى الحياة الدنيا كل ذم وما ذكر من الرعبة من شهوة النفوس الغبية التي حرمت نور التوفيق.
وقرأ الحسن وأبو حيوة وطلحة وحميد وسلام ويعقوب وسهل وعيسى والزهري- «زهرة» - بفتح الهاء وهي لغة كالجهرة في الجهرة، وفي المحتسب لابن جني مذهب أصحابنا في كل حرف حلق ساكن بعد فتحة أنه لا يحرك إلا على أنه لغة كنهر ونهر وشعر وشعر ومذهب الكوفيين أنه يطرد تحريك الثاني لكونه حرفا حلقيا وإن لم يسمع ما لم يمنع منه مانع كما في لفظ- نحو- لأنه لو حرك قلب الواو ألفا، وجوز الزمخشري كون زهرة بالتحريك جمع زاهر ككافر وكفرة وهو وصف لأزواجا أي أزواجا من الكفرة زاهرين بالحياة الدنيا لصفاء ألوانهم مما يلهون ويتنعمون وتهلل وجوههم وبهاء زيهم بخلاف ما عليه المؤمنون والصلحاء من شحوب الألوان والتقشف في الثياب، وجوز على هذا كونه حالا لأن إضافته لفظية.
وأنت تعلم أن المتبادر من هذه الصفة قصد الثبوت لا الحدوث فلا تكون إضافتها لفظية على أن المعنى على تقدير الحالية ليس بذاك لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ متعلق بمتعنا أي لنعاملهم معاملة من يبتليهم ويختبرهم فيه أو لنعذبهم في الآخرة بسببه وفيه تنفير عن ذلك ببيان سوء عاقبته مآلا أثر بهجته حالا، وقرأ الأصمعي عن عاصم لنفتنهم بضم النون من أفتنه إذا جعل الفتنة واقعة فيه على ما قال أبو حيان وَرِزْقُ رَبِّكَ أي ما ادخر لك في الآخرة أو ما رزقك في

(8/591)


الدنيا من النبوة والهدى، وادعى صاحب الكشف أنه أنسب بهذا المقام أو ما ادخر لك فيها من فتح البلاد والغنائم، وقيل: القناعة خَيْرٌ مما متع به هؤلاء لأنه مع كونه في نفسه من أجل ما يتنافس فيه المتنافسون مأمون الغائلة بخلاف ما متعوا به وَأَبْقى فإنه نفسه أو أثره لا يكاد ينقطع كالذي متعوا به.
وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ أمر صلّى الله عليه وسلّم أن يأمر أهله بالصلاة بعد ما أمر هو عليه الصلاة والسلام بها ليتعاونوا على الاستعانة على خصاصتهم ولا يهتموا بأمر المعيشة ولا يلتفتوا لفت ذوي الثروة، والمراد بأهله صلّى الله عليه وسلّم قيل أزواجه وبناته وصهره علي رضي الله تعالى عنهم، وقيل: ما يشملهم وسائر مؤمني بني هاشم والمطلب، وقيل: جميع المتبعين له عليه الصلاة والسلام من أمته، واستظهر أن المراد أهل بيته صلّى الله عليه وسلّم، وأيد بما أخرجه ابن مردويه وابن عساكر وابن النجار عن أبي سعيد الخدري قال: لما نزلت وَأْمُرْ أَهْلَكَ إلخ كان عليه الصلاة والسلام يجيء إلى باب علي كرم الله تعالى وجهه صلاة الغداة ثمانية أشهر يقول: الصلاة رحمكم الله تعالى إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ ويطهركم تطهيرا، وروى نحو ذلك الإمامية بطرق كثيرة.
والظاهر أن المراد بالصلاة الصلوات المفروضة ويؤمر بأدائها الصبي وإن لم تجب عليه ليعتاد ذلك
فقد روى أبو داود بإسناد حسن مرفوعا «مروا أولادكم بالصلاة وهم أبناء سبع سنين واضربوهم عليها وهم أبناء عشر سنين وفرقوا بينهم في المضاجع»
وَاصْطَبِرْ عَلَيْها أي وداوم عليها فالصبر مجاز مرسل عن المداومة لأنها لازم معناه. وفيه إشارة إلى أن العبادة في رعايتها حق الرعاية مشقة على النفس، والخطاب عام شامل للأهل وإن كان في صورة الخاص وكذا فيما بعد، ولا يخفى ما في التعبير بالتسبيح أولا والصلاة ثانيا مع توجيه الخطاب بالمداومة إليه عليه الصلاة والسلام من الإشارة إلى مزيد رفعة شأنه صلّى الله عليه وسلّم، وقوله تعالى: لا نَسْئَلُكَ رِزْقاً نَحْنُ نَرْزُقُكَ دفع لما عسى أن يخطر ببال أحد من أن المداومة على الصلاة ربما تضر بأمر المعاش فكأنه قيل داوموا على الصلاة غير مشتغلين بأمر المعاش عنها إذ لا نكلفكم رزق أنفسكم إذ نحن نرزقكم، وتقديم المسند إليه للاختصاص أو لإفادة التقوى، وزعم بعضهم أن الخطاب خاص وكذا الحكم إذ لو كان عاما لرخص لكل مسلم المداومة على الصلاة وترك الاكتساب وليس كذلك، وفيه أن قصارى ما يلزم العموم سواء كان الأهل خاصا أو عاما لسائر المؤمنين أن يرخص للمصلي ترك الاكتساب المانع من الصلاة وأي مانع عن ذلك بل ترك الاكتساب لأداء الصلاة المفروضة فرض وليس المراد بالمداومة عليها إلا أداؤها دائما في أوقاتها المعينة لها لا استغراق الليل والنهار بها وكان الزاعم ظن أن المراد بالصلاة ما يشمل المفروضة وغيرها وبالمداومة عليها فعلها دائما على وجه يمنع من الاكتساب وليس كذلك، ومما ذكرنا يعلم أنه لا حاجة في رد ما ذكره الزاعم إلى حمل العموم على شمول خطاب النبي صلّى الله عليه وسلّم لأهله فقط دون جميع الناس كما لا يخفى، نعم قد يستشعر من الآية أن الصلاة مطلقا تكون سببا لإدرار الرزق وكشف الهم وعلى ذلك يحمل ما جاء في الأخبار،
أخرج أبو عبيد وسعيد بن منصور وابن المنذر والطبراني في الأوسط وأبو نعيم في لحلية والبيهقي في شعب الإيمان بسند صحيح عن عبد الله بن سلام قال: «كان النبي صلّى الله عليه وسلّم إذا نزلت بأهله شدة أو ضيق أمرهم بالصلاة وتلا وأمر أهلك بالصلاة»
وأخرج أحمد في الزهد وغيره عن ثابت قال «كان النبي صلّى الله عليه وسلّم إذا أصابت أهله خصاصة نادى أهله بالصلاة صلوا صلوا
قال ثابت: وكانت الأنبياء عليهم السلام إذا نزل بهم أمر فزعوا إلى الصلاة، وأخرج مالك والبيهقي عن أسلم قال كان عمر بن الخطاب يصي من الليل ما شاء الله تعالى أن يصلي حتى إذا كان آخر الليل أيقظ أهله للصلاة ويقول لهم: الصلاة الصلاة ويتلو هذه الآية وَأْمُرْ أَهْلَكَ إلخ، وجوز لظاهر الأخبار أن يراد بالصلاة مطلقها فتأمل، وقرأ ابن وثاب وجماعة «نرزقك» بإدغام القاف في الكاف، وجاء ذلك عن يعقوب وَالْعاقِبَةُ الحميدة أعم من الجنة وغيرها وعن السدي

(8/592)


تفسيرها بالجنة لِلتَّقْوى أي لأهلها كما في قوله تعالى وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ [الأعراف: 128] ولو لم يقدر المضاف صح وفيما ذكر تنبيه على أن ملاك الأمر التقوى وَقالُوا لَوْلا يَأْتِينا بِآيَةٍ مِنْ رَبِّهِ حكاية لبعض أقاويلهم الباطلة التي أمر النبي صلّى الله عليه وسلّم بالصبر عليها أي هلا يأتينا بآية تدل على صدقه في دعوى النبوة أو بآية من الآيات التي اقترحوها لا على التعيين بلغوا من المكابرة والعناد إلى حيث لم يعدوا ما شاهدوا من المعجزات التي تخر لها صم الجبال من قبيل الآيات حتى اجترءوا على التفوه بهذه العظيمة الشنعاء.
وقوله تعالى أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ ما فِي الصُّحُفِ الْأُولى رد من جهته تعالى لمقالتهم القبيحة وتكذيب لهم فيما دسوا تحتها من إنكار إتيان الآية بإتيان القرآن الكريم الذي هو أم الآيات وأس المعجزات وأرفعها وأنفعها لأن حقيقة المعجزة الأمر الخارق للعادة يظهر على يد مدعي النبوة عند التحدي أي أمر كان ولا ريب في أن العلم أجل الأمور وأعلاها إذ هو أصل الأعمال ومبدأ الأفعال وبه تنال المراتب العلية والسعادة الأبدية، ولقد ظهر مع حيازته لجميع علوم الأولين والآخرين على يد من لم يمارس شيئا من العلوم ولم يدارس أحدا من أهلها أصلا فأي معجزة تراد بعد وروده، وأية آية تطلب بعد وفوده، فالمراد بالبينة القرآن الكريم، والمراد بالصحف الأولى التوراة والإنجيل وسائر الكتب السماوية وبما فيها العقائد الحقة وأصول الأحكام التي اجتمعت عليها كافة الرسل عليهم السلام، ومعنى كونه بينة لذلك كونه شاهدا بحقيته، وفي إيراده بهذا العنوان ما لا يخفى من التنويه بشأنه والإنارة لبرهانه حيث أشار إلى امتيازه وغناه عما يشهد بحقية ما فيه باعجاره. وإسناد الإتيان إليه مع جعلهم إياه مأتيا به للتنبيه على أصالته فيه مع ما فيه من المناسبة للبينة، والهمزة لإنكار الوقوع والواو للعطف على مقدر يقتضيه المقام كأنه قيل: ألم يأتهم سائر الآيات ولم يأتهم خاصة بينة ما في الصحف الأولى تقريرا لإتيانه وإيذانا بأنه من الوضوح بحيث لا يتأتى منهم إنكار أصلا وإن اجترءوا على إنكار سائر الآيات مكابرة وعنادا، وتفسير الآية بما ذكر هو الذي تقتضيه جزالة التنزيل.
وزعم الإمام والطبرسي أن المعنى أو لم يأتهم في القرآن بيان ما في الكتب الأولى من أنباء الأمم التي أهلكناهم لما اقترحوا الآيات ثم كفروا بها فماذا يؤمنهم أن يكون حالهم في سؤال الآية بقولهم لَوْلا يَأْتِينا بِآيَةٍ كحال أولئك الهالكين اه. وهو بمعزل عن القبول كما لا يخفى على ذوي العقول. وقرأ أكثر السبعة وأبو بحرية وابن محيصن وطلحة وابن أبي ليلى وابن مناذر وخلف وأبو عبيد وابن سعدان وابن عيسى وابن جبير الأنطاكي «يأتهم» بالياء التحتانية لمجاز تأنيث الآية والفصل.
وقرأت فرقة منهم أبو زيد عن أبي عمرو «بينة» بالتنوين على أن ما بدل، وقال صاحب اللوامح: يجوز أن تكون ما على هذه القراءة نافية على أن يراد بالآتي ما في القرآن من الناسخ والفضل مما لم يكن في غيره من الكتب وهو كما ترى. وقرأت فرقة بنصب «بينة» والتنوين على أنه حال، وما فاعل. وقرأت فرقة منهم ابن عباس «الصحف» بإسكان الحاء للتخفيف، وقوله تعالى وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْناهُمْ بِعَذابٍ إلى آخر الآية جملة مستأنفة لتقرير ما قبلها من كون القرآن آية بينة لا يمكن إنكارها ببيان أنهم يعترفون بها يوم القيامة، والمعنى ولو أنا أهلكناهم في الدنيا بعذاب مستأصل مِنْ قَبْلِهِ متعلق بأهلكنا أو بمحذوف هو صفة لعذاب أي بعذاب كائن من قبله، والضمير للبينة والتذكير باعتبار أنها برهان ودليل أو للإتيان المفهوم من الفعل أي من قبل إتيان البينة، وقال أبو حيان: إنه للرسول بقرينة ما بعد من ذكر الرسول وهو مراد من قال: أي من قبل إرسال محمد صلّى الله عليه وسلّم لَقالُوا أي يوم القيامة رَبَّنا لَوْلا أَرْسَلْتَ في الدنيا إِلَيْنا رَسُولًا مع آيات فَنَتَّبِعَ آياتِكَ التي جاءنا بها مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ بالعذاب في الدنيا وَنَخْزى بدخول النار اليوم، وقال أبو حيان: الذل والخزي كلاهما بعذاب الآخرة. ونقل تفسير الذل بالهوان

(8/593)


والخزي بالافتضاح والمراد أنا لو أهلكناهم قبل ذلك لقالوا ولكنا لم نهلكهم قبله فانقطعت معذرتهم فعند ذلك قالُوا بَلى قَدْ جاءَنا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنا وَقُلْنا ما نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ [الملك: 9] .
وقرأ ابن عباس ومحمد بن الحنفية وزيد بن علي والحسن في رواية عباد والعمري وداود والفزاري وأبو حاتم ويعقوب «نذلّ ونخزى» بالبناء للمفعول، واستدل الأشاعرة بالآية على أن الوجوب لا يتحقق إلا بالشرع والجبائي على وجوب اللطف عليه عز وجل وفيه نظر قُلْ لأولئك الكفرة المتمردين كُلٌّ أي كل واحد منا ومنكم مُتَرَبِّصٌ أي منتظر لما يؤول إليه أمرنا وأمركم وهو خبر كُلٌّ وإفراده حملا له على لفظه فَتَرَبَّصُوا وقرىء «فتمتعوا» فَسَتَعْلَمُونَ عن قريب مَنْ أَصْحابُ الصِّراطِ السَّوِيِّ أي المستقيم. وقرأ أبو مجلز وعمران بن حدير «السواء» أي الوسط، والمراد به الجيد.
وقرأ الجحدري وابن يعمر «السوأى» بالضم والقصر على وزن فعلى وهو تأنيث الأسوأ وأنث لتأنيث الصراط وهو مما يذكر ويؤنث. وقرأ ابن عباس رضي الله تعالى عنهما «السوء» بفتح وسكون وهمزة آخره بمعنى الشر. وقرىء «السوي» بضم السين وفتح الواو وتشديد الياء وهو تصغير سوء بالفتح، وقيل: تصغير سوء بالضم، وقال أبو حيان:
الأجود أن يكون تصغير سواء كما قالوا في عطا عطي لأنه لو كان تصغير ذلك لثبتت همزته، وقيل: سوئي وتعقب بأن إبدال مثل هذه الهمزة ياء جائز، وعن الجحدري وابن يعمر أنهما قرأ «السوي» بالضم والقصر وتشديد الواو، واختير في تخريجه أن يكون أصله السوأى كما في الرواية الأولى فخففت الهمزة بإبدالها واوا وأدغمت الواو في الواو، وقد روعيت المقابلة على أكثر هذه القراءات بين ما تقدم وقوله تعالى وَمَنِ اهْتَدى أي من الضلالة ولم تراع على قراءة الجمهور والأولى من الشواذ.
ومن في الموضعين استفهامية في محل رفع على الابتداء والخبر ما بعد العطف من عطف الجمل ومجموع الجملتين المتعاطفتين ساد مسد مفعولي العلم أو مفعوله إن كان بمعنى المعرفة، وجوز كون من الثانية موصولة فتكون معطوفة على محل الجملة الأولى الاستفهامية المعلق عنها الفعل على أن العلم بمعنى المعرفة المتعدية لواحد إذ لولاه لكان الموصول بواسطة العطف أحد المفعولين وكان المفعول الآخر محذوفا اقتصارا وهو غير جائز.
وجوز أن تكون معطوفة على أَصْحابُ فتكون في حيز من الاستفهامية أي ومن الذي اهتدى أو على «الصراط» فتكون في حيز أصحاب أي ومن أَصْحابُ الذي اهتدى يعني النبي صلّى الله عليه وسلّم، وإذا عنى بالصراط السوي النبي عليه الصلاة والسلام أيضا كان العطف من باب عطف الصفات على الصفات مع اتحاد الذات.
وأجاز الفراء أن تكون من الأولى موصولة أيضا بمعنى الذين وهي في محل النصب على أنها مفعول للعلم بمعنى المعرفة وأَصْحابُ خبر مبتدأ محذوف وهو العائد أي الذين هم أصحاب الصراط وهذا جائز على مذهب الكوفيين فإنهم يجوزون حذف مثل هذا العائد سواء كان في الصلة طول أو لم يكن وسواء كان الموصول أيا أو غيره بخلاف البصريين، وما أشد مناسبة هذه الخاتمة للفاتحة. وقد ذكر الطيبي أنها خاتمة شريفة ناظرة إلى الفاتحة وأنه إذا لاح أن القرآن أنزل لتحمل تعب الإبلاغ ولا تنهك نفسك فحيث بلغت وبلغت جهدك فلا عليك وعليك بالإقبال على طاعتك قدر طاقتك وأمر أهلك وهم أمتك المتبعون بذلك ودع الذين لا ينجع فيهم الإنذار فإنه تذكرة لمن يخشى وسيندم المخالف حين لا ينفعه الندم انتهى.
«ومن باب الإشارة في الآيات» فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسى قيل: إنه عليه السلام رأى أن الله تعالى

(8/594)


ألبس سحر السحرة لباس القهر فخاف من القهر لأنه لا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون.
وسئل ابن عطاء عن ذلك فقال: ما خاف عليه السلام على نفسه وإنما خاف على قومه أن يفوتهم حظهم من الله تعالى قلنا لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلى أي إنك المحفوظ بعيون الرعاية وحرس اللطف أو أنت الرفيع القدر الغالب عليهم غلبة تامة بحيث يكونون بسببها من أتباعك فلا يفوتهم حظهم من الله تعالى فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّداً إلى آخر ما كان منهم فيه إشارة إلى أن الله تعالى يمن على من يشاء بالتوفيق والوصول إليه سبحانه في أقصر وقت فلا يستبعد حصول الكمال لمن تاب وسلك على يد كامل مكمل في مدة يسيرة. وكثير من الجهلة ينكرون على السالكين التائبين إذا كانوا قريبي العهد بمقارفة الذنوب ومفارقة العيوب حصول الكمال لهم وفيضان الخير عليهم ويقولون كيف يحصل لهم ذلك وقد كانوا بالأمس كيت وكيت، وقولهم: لَنْ نُؤْثِرَكَ إلخ كلام صادر من عظم الهمة الحاصل للنفس بقوة اليقين فإنه متى حصل ذلك للنفس لم تبال بالسعادة الدنيوية والشقاوة البدنية واللذات العاجلة الفانية والآلام الحسية في جنب السعادة الأخروية واللذة الباقية الروحانية وَلَقَدْ أَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَسْرِ بِعِبادِي إلخ فيه إشارة إلى استحباب مفارقة الأغيار وترك صحبة الأشرار وَلا تَطْغَوْا فِيهِ عد من الطغيان فيه استعماله مع الغفلة عن الله تعالى وعدم نية التقوى به على تقواه عز وجل وَما أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يا مُوسى الإشارة فيه أنه ينبغي للرئيس رعاية الأصلح في حق المرءوس وللشيخ عدم فعل ما يخشى منه سوء ظن المريد لا سيما إذا لم يكن له رسوخ أصلا قالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ.
قال ابن عطاء: إن الله تعالى قال لموسى عليه السلام بعد أن أخبره بذلك: أتدري من أين أتيت؟ قال: لا يا رب قال سبحانه: من قولك لهارون: اخلفني في قومي وعدم تفويض الأمر إلي والاعتماد في الخلافة علي.
وذكر بعضهم أن سر إخبار الله تعالى إياه بما ذكر مباسطته عليه السلام وشغله بصحبته عن صحبة الأضداد وهو كما ترى وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ صار سبب ضلالهم بما صنع قال بعض أهل التأويل: إنما ابتلاهم الله تعالى بما ابتلاهم ليتميز منهم المستعد القابل للكمال بالتجريد من القاصر الاستعداد المنغمس في المواد الذي لا يدرك إلا المحسوس ولا يتنبه للمجرد المعقول. ولهذا قالوا: ما أَخْلَفْنا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنا أي برأينا فإنهم عبيد بالطبع لا رأي لهم ولا ملكة وليسوا مختارين لا طريق لهم إلا التقليد والعمل لا التحقيق والعلم وإنما استعبدهم السامري بالطلسم المفرغ من الحلي لرسوخ محبة الذهب في نفوسهم لأنها سفلية منجذبة إلى الطبيعة الجسمانية وتزين الطبيعة الذهبية وتحلي تلك الصورة النوعية فيها للتناسب الطبيعي وكان ذلك من باب مزج القوى السماوية التي هي أثر النفس الحيوانية الكلية السماوية المشار إليها بحيزوم وفرس الحياة وهي مركب جبريل عليه السلام المشار به إلى العقل الفعال بالقوى الأرضية ولذلك قال: بَصُرْتُ بِما لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ أي من العلم الطبيعي والرياضي اللذين يبتنى عليهما علم الطلسمات والسيمياء قالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَياةِ أَنْ تَقُولَ لا مِساسَ قال ذلك عليه السلام غضبا على السامري وطردا له وكل من غضب عليه الأنبياء وكذا الأولياء لكونهم مظاهر صفات الحق تعالى وقع في قهره عز وجل وشقي في الدنيا والآخرة وكانت صورة عذاب هذا الطريد في التحرز عن المماسة نتيجة بعده عن الحق في الدعوة إلى الباطل وأثر لعن موسى عليه السلام إياه عند إبطال كيده وإزالة مكره وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْجِبالِ فَقُلْ يَنْسِفُها رَبِّي نَسْفاً قال أهل الوحدة: أي يسألونك عن وجودات الأشياء فقل ينسفها ربي برياح النفحات الإلهية الناشئة من معدن الأحدية فيذرها في القيامة الكبرى قاعا صفصفا وجودا أحديا لا تَرى فِيها عِوَجاً وَلا أَمْتاً اثنينية ولا غيرية

(8/595)


يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ الذي هو الحق سبحانه لا عوج له إذ هو تعالى آخذ بنواصيهم وهو على صراط مستقيم وَخَشَعَتِ الْأَصْواتُ لِلرَّحْمنِ إذ لا فعل لغيره عز وجل فَلا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْساً أمرا خفيا باعتبار الإضافة إلى المظاهر انتهى.
ولكم لهم مثل هذه التأويلات والله تعالى العاصم يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا قيل: هو من صحح فعله وعقده ولم ينسب لنفسه شيئا ولا رأى لها عملا وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً لكمال تقدسه وتنزهه وجلاله سبحانه عز وجل فهيهات أن تحلق بعوضة الفكر في جو سماء الجبروت ومن أين لنحلة النفس الناطقة أن ترعى أزهار رياض بيداء اللاهوت، نعم يتفاوت الخلق في العلم بصفاته عز وجل على قدر تفاوت استعداداتهم وهو العلم المشار إليه بقوله تعالى: وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً وقيل: هذا إشارة إلى العلم اللدني، والإشارة في قصة آدم عليه السلام إلى أنه ينبغي للإنسان مزيد التحفظ عن الوقوع في العصيان، ولله تعالى در من قال:
يا ناظرا يرنو بعيني راقد ... ومشاهدا للأمر غير مشاهد
منيت نفسك ضلة وأبتها ... طرق الرجاء وهن غير قواصد
تصل الذنوب إلى الذنوب وترتجي ... درج الجنان بها وفوز العابد
ونسيت أن الله أخرج آدما ... منها إلى الدنيا بذنب واحد
وروى الضحاك عن ابن عباس قال: بينا آدم عليه السلام يبكي جاءه جبريل عليه السلام فبكى آدم وبكى جبريل لبكائه عليهما السلام وقال: يا آدم ما هذا البكاء؟ قال: يا جبريل وكيف لا أبكي وقد حولني ربي من السماء إلى الأرض ومن دار النعمة إلى دار البؤس فانطلق جبريل عليه السلام بمقالة آدم فقال الله تعالى: يا جبريل انطلق إليه فقل له: يا آدم يقول لك ربك ألم أخلقك بيدي ألم أنفخ فيك من روحي ألم أسجد لك ملائكتي ألم أسكنك جنتي ألم آمرك فعصيتني فوعزتي وجلالي لو أن ملء الأرض رجالا مثلك ثم عصوني لأنزلتهم منازل العاصين غير أنه يا آدم قد سبقت رحمتي غضبي وقد سمعت تضرعك ورحمت بكاءك وأقلت عثرتك.
وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي أي بالتوجه إلى العالم السفلي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً لغلبة شحه وشدة بخله فإن المعرض عن جناب الحق سبحانه انجذبت نفسه إلى الزخارف الدنيوية والمقتنيات المادية لمناسبتها إياه واشتد حرصه وكلبه عليها وشغفه بها للجنسية والاشتراك في الظلمة والميل إلى الجهة السفلية فيشح بها عن نفسه وغيره وكلما استكثر منها ازداد حرصه عليها وشحه بها وتلك المعيشة الضنك.
ولهذا قال بعضهم: لا يعرض أحد عن ذكر ربه سبحانه إلا أظلم عليه وقته وتشوش عليه رزقه بخلاف الذاكر المتوجه إليه تعالى فإنه ذو يقين منه عز وجل وتوكل عليه تعالى في سعة من عيشه ورغد ينفق ما يجد ويستغني بربه سبحانه عما يفقد وَالْعاقِبَةُ لِلتَّقْوى أي العاقبة التي تعتبر وتستأهل أن تسمى عاقبة لأهل التقوى المتخلين عن الرذائل النفسانية المتحلين بالفضائل الروحانية، نسأل الله تعالى أن يمن علينا بحسن العاقبة وصفاء العمر عن المشاغبة ونحمده سبحانه على آلائه ونصلي ونسلم على خير أنبيائه وعلى آله خير آل ما طلع نجم ولمع آل.

(8/596)