روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني سُورَةٌ
أَنْزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا وَأَنْزَلْنَا فِيهَا آيَاتٍ
بَيِّنَاتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (1) الزَّانِيَةُ
وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ
جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ
اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ
الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ
الْمُؤْمِنِينَ (2) الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً
أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لَا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ
أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (3)
وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا
بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً
وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ
الْفَاسِقُونَ (4) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ
ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5)
سورة النّور
مدنية كما أخرج ابن مردويه عن ابن عباس وابن الزبير رضي الله
تعالى عنهم، وحكى أبو حيان الإجماع على مدنيتها ولم يستثن
الكثير من آيها شيئا، وعن القرطبي أن آية يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ [النور: 58] إلخ مكية،
وهي اثنتان وستون آية، وقيل أربع وستون آية، ووجه اتصالها
بسورة المؤمنين أنه سبحانه لما قال فيها وَالَّذِينَ هُمْ
لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ [المؤمنون: 5] ذكر في هذه أحكام من لم
يحفظ فرجه من الزانية والزاني وما اتصل بذلك من شأن القذف وقصة
الإفك والأمر بغض البصر الذي هو داعية الزنا والاستئذان الذي
إنما جعل من أجل النظر وأمر فيها بالإنكاح حفظا للفرج وأمر من
لم يقدر على النكاح بالاستعفاف ونهى عن إكراه الفتيات على
الزنا.
وقال الطبرسي في ذلك: إنه تعالى لما ذكر فيما تقدم أنه لم يخلق
الخلق للعبث بل للأمر والنهي ذكر جل وعلا هاهنا جملة من
الأوامر والنواهي ولعل الأول أولى،
وجاء عن مجاهد قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم:
علموا رجالكم سورة المائدة وعلموا نساءكم سورة النور»
وعن حارثة بن مضرب رضي الله تعالى عنه قال: كتب إلينا عمر بن
الخطاب رضي الله تعالى عنه أن تعلموا سورة النساء والأحزاب
والنور.
سُورَةٌ خبر مبتدأ محذوف أي هذه سورة وأشير إليها بهذه تنزيلا
لها منزلة الحاضر المشاهد، وقوله تعالى:
أَنْزَلْناها مع ما عطف عليه صفات لها مؤكدة لما أفاده التنكير
من الفخامة من حيث الذات بالفخامة من حيث الصفات على ما ذكره
شيخ الإسلام، والقول بجواز أن تكون للتخصيص احترازا عما هو
قائم بذاته تعالى ليس بشيء أصلا كما لا يخفى.
وجوز أن تكون سُورَةٌ مبتدأ محذوف الخبر أي ما يتلى عليكم أو
فيما أوحينا إليك سورة أنزلناها إلخ، وذكر بعضهم أنه قصد من
هذه الجملة الامتنان والمدح والترغيب لا فائدة الخبر ولا
لازمها وهو كون المخبر عالما
(9/273)
بالحكم للعلم بكل ذلك، والكلام فيما إذا
قصد به مثل هذا إنشاء على ما اختاره في الكشف وهو ظاهر قول
الإمام المرزوقي في قوله قومي هم قتلوا أميم أخي هذا الكلام
تحزن وتفجع وليس بإخبار، واختار آخرون أن الجملة خبرية مراد
بها معناها إلا أنها إنما أوردت لغرض سوى إفادة الحكم أو لازمه
وإليه ذهب السالكوتي، وأول كلام المروزي بأن المراد بالإخبار
فيه الإعلام، وتحقيق ذلك في موضعه، واعترض شيخ الإسلام هذا
الوجه بما بحث فيه.
وجوز ابن عطية أن تكون سُورَةٌ مبتدأ والخبر قوله تعالى:
الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي إلخ وفيه من البعد ما فيه والوجه
الوجيه هو الأول، وعندي في أمثال هذه الجمل أن الإثبات فيها
متوجه إلى القيد، وقد ذكر ذلك الشيخ عبد القاهر وهو هنا
إنزالها وفرضها، وإنزال آيات بينات فيها لأجل أن يتذكر
المخاطبون أو مرجوا تذكرهم فتأمل.
وقرأ عمر بن عبد العزيز ومجاهد وعيسى بن عمر الثقفي البصري
وعيسى بن عمر الهمداني الكوفي وابن أبي عبلة وأبو حيوة ومحبوب
عن أبي عمرو وأم الدرداء «سورة» بالنصب على أنها مفعول فعل
محذوف أي اتل، وقدر بعضهم اتلوا بضمير الجمع لأن الخطابات
الآتية بعده كذلك وليس بلازم لأن الفعل متضمن معنى القول فيكون
الكلام حينئذ نظير قوله تعالى: قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ [آل
عمران: 32] ولا شك في جوازه.
وجوز الزمخشري أن تكون نصبا على الإغراء أي دونك سورة، ورده
أبو حيان بأنه لا يجوز حذف أداة الإغراء لضعفها في العمل لما
أن عملها بالحمل على الفعل، وكلام ابن مالك يقتضي جوازه وزعم
أنه مذهب سيبويه وفيه بحث، وجوز غير واحد كون ذلك من باب
الاشتغال وهو ظاهر على مذهب من لا يشترط في المنصوب على
الاشتغال صحة الرفع على الابتداء وأما على مذهب من يشترط ذلك
فغير ظاهر لأن «سورة» نكرة لا مسوغ لها فلا يجوز رفعها على
الابتداء، ولعل من يشترط ذلك ويقول بالنصب على الاشتغال هنا
يجعل النكرة موصوفة بما يدل عليه التنوين كأنه قيل: سورة عظيمة
كما قيل:- شر أهر ذا ناب-.
وقال الفراء: نصب «سورة» على أنها حال من ضمير النصب في
أَنْزَلْناها والحال من الضمير يجوز أن يتقدم عليه انتهى، ولعل
الضمير على هذا للأحكام المفهومة من الكلام فكأنه قيل: أنزلنا
الأحكام سورة أي في حال كونها سورة من سور القرآن وإلى هذا ذهب
في البحر، وربما يقال: يجوز أن يكون الضمير للسورة الموجودة في
العلم من غير ملاحظة تقييدها بوصف، و «سورة» المذكورة موصوفة
بما يدل عليه تنوينها فكأنه قيل: أنزلنا السورة حال كونها سورة
عظيمة، ولا يخفى أن كل ذلك تكلف لا داعي إليه مع وجود الوجه
الذي لا غبار عليه، وقوله تعالى:
وَفَرَضْناها إما على تقدير مضاف أي فرضنا أحكامها وإما على
اعتبار المجاز في الإسناد حيث أسند ما للمدلول للدال لملابسة
بينهما، تشبه الظرفية، ويحتمل على بعد أن يكون في الكلام
استخدام بأن يراد بسورة معناها الحقيقي وبضميرها معناها
المجازي أعني الأحكام المدلول عليها بها، والفرض في الأصل قطع
الشيء الصلب والتأثير فيه، والمراد به هنا الإيجاب على أتم وجه
فكأنه قيل: أوجبنا ما فيها من الأحكام إيجابا قطعيا وفي ذكر
ذلك براعة استهلال على ما قيل.
وقرأ عبد الله وعمر بن عبد العزيز ومجاهد وقتادة وأبو عمرو
وابن كثير «وفرّضناها» بتشديد الراء لتأكيد الإيجاب، والإشارة
إلى زيادة لزومه أو لتعدد الفرائض وكثرتها أو لكثرة المفروض
عليهم من السلف والخلف، وفي
(9/274)
الحواشي الشهابية قد فسر فَرَضْناها
بفصلناها ويجري فيه ما ذكر أيضا وَأَنْزَلْنا فِيها أي في هذه
السورة آياتٍ بَيِّناتٍ يحتمل أن يراد بها الآيات التي نيطت
بها الأحكام المفروضة وأمر الظرفية عليه ظاهر، ومعنى كونها
بينات وضوح دلالتها على أحكامها لا على معانيها مطلقا لأنها
أسوة لأكثر الآيات في ذلك، وتكرير أَنْزَلْنا مع استلزام إنزال
السورة إنزالها إبراز كمال العناية بشأنها، ويحتمل أن يراد بها
جميع آيات السورة والظرفية حينئذ باعتبار اشتمال الكل على كل
واحد من أجزائه، ومعنى كونه بينات أنها لا إشكال فيها يحوج إلى
تأويل كبعض الآيات، وتكرير أَنْزَلْنا مع ظهور أن إنزال جميع
الآيات عين إنزال السورة لاستقلالها بعنوان رائق داع إلى تخصيص
إنزالها بالذكر إبانة لخطرها ورفعا لمحلها كقوله تعالى:
وَنَجَّيْناهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ [هود: 58] بعد قوله
سبحانه:
نَجَّيْنا هُوداً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ
مِنَّا [هود: 58] والاحتمال الأول أظهر، وقال الإمام: إنه
تعالى ذكر في أول السورة أنواعا من الأحكام والحدود وفي آخرها
دلائل التوحيد فقوله تعالى: فَرَضْناها إشارة إلى الأحكام
المبنية أولا، وقوله سبحانه: وَأَنْزَلْنا فِيها آياتٍ
بَيِّناتٍ إشارة إلى ما بين من دلائل التوحيد ويؤيده قوله عز
وجل: لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ فإن الأحكام لم تكن معلومة حتى
يتذكرونها انتهى، وهو عندي وجه حسن، نعم قيل فيما ذكره من
التأييد نظر إذ لمن ذهب إلى الاحتمال أن يقول: المراد من
التذكر غايته وهو اتقاء المحارم بالعمل بموجب تلك الآيات،
ولقائل أن يقول: إن هذا محوج إلى ارتكاب المجاز في التذكر دون
ما ذكره الإمام فإن التذكر عليه على معناه المتبادر ويكفي هذا
القدر في كونه مؤيدا، وأصل تَذَكَّرُونَ تتذكرون حذف إحدى
التاءين وقرىء بإدغام الثانية منهما في الذال الزَّانِيَةُ
وَالزَّانِي شروع في تفصيل الأحكام التي أشير إليها أولا، ورفع
«الزانية» على أنها خبر مبتدأ محذوف والكلام على حذف مضاف
وإقامة المضاف إليه مقامه والأصل مما يتلى عليكم أو في الفرائض
أي المشار إليها في قوله تعالى: وَفَرَضْناها حكم الزانية
والزاني، والفاء في قوله تعالى: فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ
مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ سببية وقيل سيف خطيب، وذهب الفراء
والمبرد والزجاج إلى أن الخبر جملة «فاجلدوا» إلخ، والفاء في
المشهور لتضمن المبتدأ معنى الشرط إذ اللام فيه وفيما عطف عليه
موصولة أي التي زنت والذي زنى فاجلدوا إلخ، وبعضهم يجوز دخول
الفاء في الخبر إذا كان في المبتدأ معنى يستحق به أن يترتب
عليه الخبر وإن لم يكن هناك موصول كما في قوله: «وقائلة خولان
فانكح فتاتهم» فإن هذه القبيلة مشهورة بالشرف والحسن شهرة حاتم
بالسخاء وعنترة بالشجاعة وذلك معنى يستحق به أن يترتب عليه
الأمر بالنكاح وعلى هذا يقوى أمر دخول الفاء هنا كما لا يخفى،
وقال العلامة القطب: جيء بالفاء لوقوع المبتدأ بعد أما تقديرا
أي أما الزانية والزاني فاجلدوا إلخ، ونقل عن الأخفش أنها سيف
خطيب، والداعي لسيبويه على ما ذهب إليه ما يفهم من الكتاب كما
قيل من أن النهج المألوف في كلام العرب إذا أريد بيان معنى
وتفصيله اعتناء بشأنه أن يذكر قبله ما هو عنوان وترجمة له وهذا
لا يكون إلا بأن يبنى على جملتين فما ذهب إليه في الآية أولى
لذلك مما ذهب إليه غيره، وأيضا هو سالم من وقوع الإنشاء خبرا
والدغدغة التي فيه، وأمر الفاء عليه ظاهر لا يحتاج إلى تكلف،
وقال أبو حيان: سبب الخلاف أن سيبويه والخليل يشترطان في دخول
الفاء الخبر كون المبتدأ موصولا لا بما يقبل مباشرة أداة الشرط
وغيرهما لا يشترط ذلك.
وقرأ عبد الله «والزان» بلا ياء تخفيفا، وقرأ عيسى الثقفي
ويحيى بن يعمر وعمرو بن قائد وأبو جعفر وشيبة وأبو السمال
ورويس «الزانية والزاني» بنصبهما على إضمار فعل يفسره الظاهر،
والفاء على ما قال ابن جني لأن مآل المعنى إلى الشرط والأمر في
الجواب يقترن بها فيجوز زيدا فأضربه لذلك ولا يجوز زيدا فضربته
بالفاء لأنها لا تدخل في جواب الشرط إذا كان ماضيا.
(9/275)
والمراد هنا على ما في بعض شروح الكشاف إن
أردتم معرفة حكم الزانية والزاني فاجلدوا إلخ، وقيل: إن جلدتم
الزانية والزاني فاجلدوا إلخ وهو لا يدل على الوجوب المراد
وقيل دخلت الفاء لأن حق المفسر أن يذكر عقب المفسر كالتفصيل
بعد الإجمال في قوله تعالى: فَتُوبُوا إِلى بارِئِكُمْ
فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ [البقرة: 54] ويجوز أن تكون عاطفة
والمراد جلد بعد جلد وذلك لا ينافي كونه مفسرا للمعطوف عليه
لأنه باعتبار الاتحاد النوعي انتهى.
وأنت تعلم أنه لم يعهد العطف بالفاء فيما اتحد فيه لفظ المفسر
والمفسر وقد نصوا على عدم جواز زيدا فضربته بالاتفاق فلو ساغ
العطف فيما ذكر لجاز هذا على معنى ضرب بعد ضرب، على أن كون
المراد فيما نحن فيه جلد بعد جلد مما لا يخفى ما فيه فالظاهر
ما نقل عن ابن جني، والمشهور أن سيبويه والخليل يفضلان قراءة
النصب لمكان الأمر، وغيرهما من البصريين والكوفيين يفضلون
الرفع لأنه كالإجماع في القراءة وهو أقوى في العربية لأن
المعنى عليه من زنى فاجلدوه كذا قال الزجاج، وقال الخفاجي بعد
نقله كلام سيبويه في هذا المقام: ليس في كلام سيبويه شيء مما
يدل على التفضيل كما سمعت بل يفهم منه أن الرفع في نحو ذلك
أفصح وأبلغ من النصب من جهة المعنى وأفصح من الرفع على أن
الكلام جملة واحدة من جهة المعنى واللفظ معا فليراجع وليتأمل
والجلد ضرب الجلد وقد طرد صوغ فعل المفتوح العين الثلاثي من
أسماء الأعيان فيقال رأسه وظهره وبطنه، وجوز الراغب أن يكون
معنى جلده ضربه بالجلد نحو عصاه ضربه بالعصا، والمراد هنا
المعنى الأول فإن الأخبار قد دلت على أن الزانية والزاني
يضربان بسوط لا عقدة عليه ولا فرع له، وقيل: إن كون الجلد بسوط
كذلك كان في زمن عمر رضي الله تعالى عنه بإجماع الصحابة وأما
قبله فكان تارة باليد وتارة بالنعل وتارة بالجريدة الرطبة
وتارة بالعصا، ثم الظاهر من ضرب الجلد أعم من أن يكون بلا
واسطة أو بواسطة، وزعم بعضهم وليس بشيء أن الظاهر أن يكون بلا
واسطة وأنه ربما يستأنس به لما ذهب إليه أصحابنا وبه قال مالك
من أنه ينزع عن الزاني عند الجلد ثيابه إلا الإزار فإنه لا
ينزع لستر عورته به، وعن الشافعي، وأحمد أنه يترك عليه قميص أو
قميصان، وروى عبد الرزاق بسنده عن علي كرم الله تعالى وجهه أنه
أتي برجل في حد فضربه وعليه كساء قسطلاني، وعن ابن مسعود رضي
الله تعالى عنه لا يحل في هذه الأمة تجريد ولا مد، وأما
الامرأة فلا ينزع عنها ثيابها عندنا إلا الفرو والمحشو ووجه
ظاهر.
وفي بعض الأخبار ما يدل على أن الرجل والمرأة في عدم نزع
الثياب إلا الفرو والمحشو سواء، وكأن من لا يقول بنزع الثياب
يقول: إن الجلد في العرف الضرب مطلقا وليس خاصا بضرب الجلد بلا
واسطة، نعم ربما يقال: إن في اختياره على الضرب إشارة إلى أن
المراد ضرب يؤلم الجلد وكأنه لهذا قيل ينزع الفرو والمحشو فإن
الضرب في الأغلب لا يؤلم جلد من عليه واحد منهما، وينبغي أن لا
يكون الضرب مبرحا لأن الإهلاك غير مطلوب، ومن هنا قالوا:
إذا كان من وجب عليه الحد ضعيف الخلقة فخيف عليه الهلاك يجلد
جلدا ضعيفا يحتمله، وكذا قالوا: يفرق الضرب على أعضاء المحدود
لأن جمعه في عضو قد يفسده وربما يفضي إلى الهلاك، وينبغي أن
يتقى الوجه والمذاكير لما
روي موقوفا على عليّ كرّم الله تعالى وجهه أنه أتي برجل سكران
أو في حد فقال: اضرب وأعط كل عضو حقه واتق الوجه والمذاكير
، وكذا الرأس لأنه مجمع الحواس الباطنة فربما يفسد وهو إهلاك
معنى، وكان أبو يوسف يقول باتقائه ثم رجع وقال يضرب ضربة
واحدة، وروي عنه أنه استثنى البطن والصدر وفيه نظر إلا أن
يقال: كان الضرب في زمانه كالضرب الذي يفعله ظلمة زماننا
وحينئذ ينبغي أن يقول باستثناء الرأس قطعا، وعن مالك أنه خص
الظهر وما يليه بالجلد لما صح من
قوله صلّى الله عليه وسلّم لهلال بن أمية: «البينة وإلا فحد في
ظهرك»
وأجيب بأن المراد بالظهر فيه نفسه أي فحد
(9/276)
ثابت عليك بدليل ما ثبت عن كبار الصحابة من
عمر وعلي وابن مسعود رضي الله تعالى عنهم،
وقوله صلّى الله عليه وسلّم: «إذا ضرب أحدكم فليتق الوجه»
فإنه في نحو الحد فما سواه داخل في الضرب، ثم خص منه الفرج
بدليل الإجماع، وعن محمد في التعزيز ضرب الظهر وفي الحدود ضرب
الأعضاء، ثم هذا الضرب يكون للرجل قائما غير ممدود وللمرأة
قاعدة وجاء ذلك عن عليّ كرم الله تعالى وجهه، وكأن وجهه أن
مبني الحد على التشهير زجرا للعامة عن مثله والقيام أبلغ فيه،
والمرأة مبني أمرها على الستر فيكتفى بتشهير الحد فقط من غير
زيادة، وإن امتنع الرجل ولم يقف أو لم يصبر فلا بأس بربطه على
أسطوانة أو إمساك أحد له، والمراد من العدد المفروض في جلد كل
واحد منهما أعني مائة جلدة ما يقال له مائة جلدة بوجه من
الوجوه وإن لم تتعين الأولى والثانية والثالثة وهكذا إلى تمام
المائة فلو ضربه مائة رجل بمائة سوط دفعة واحدة كفى في الحد بل
قالوا: جاز أن تجمع الأسواط فيضرب مرة واحدة بحيث يصيبه كل
واحد منها
وروي عن علي كرم الله تعالى وجهه أنه ضرب في حد بسوط له طرفان
أربعين ضربة فحسب كل ضربة بضربتين
، وقدمت الزانية على الزاني مع أن العادة تقديم الزاني عليها
لأنها هي الأصل إذ الباعثة فيها أقوى ولولا تمكينها لم يزن،
واشتقاقهما من الزنا وهو مقصور في اللغة الفصحى وهي لغة أهل
الحجاز وقد يمد في لغة أهل نجد وعليها قال الفرزدق.
أبا طاهر من يزن يعرف زناؤه ... ومن يشرب الخرطوم يصبح مسكرا
والزنا في عرف اللغة والشرع على ما قيل وطء الرجل المرأة في
القبل في غير الملك وشبهة الملك، وفيه أنه يرد عليه زنى المرأة
فإنه زنى ولا يصدق عليه التعريف، وما قيل في الجواب عنه: إنه
فعل الوطء أمر مشترك بين الرجل والمرأة فإذا وجد بينهما يتصف
كل منهما به وتسمى هي واطئة ولذا سماها سبحانه وتعالى زانية لا
يخفى ما فيه مع أن في التعريف ما لا يصلحه هذا الجواب لو كان
صحيحا، والحق أن زناها لغة تمكينها من زنى الرجل بها وأنه إذا
أريد تعريف الزنا المراد في الآية بحيث يشمل زناها فلا بد من
زيادة التمكين بالنسبة إليها بل زيادته بالنسبة إلى كل منهما
وأن يقال: هو إدخال المكلف الطائع قدر حشفته قبل مشتهاة حالا
أو ماضيا بلا ملك أو شبهة أو تمكينه من ذلك أو تمكينها في دار
الإسلام ليصدق على ما لو كان مستلقيا فقعدت على ذكره فتركها
حتى أدخلته فإنهما يحدان في هذه الصورة وليس الموجود منه سوى
التمكين، ويعلم من هذا التعريف أنه لا حد على الصبي والمجنون
ومن أكرهه السلطان، ولا على من أولج في دبر أو في فرج صغير غير
مشتهاة أو ميتة أو بهيمة بخلاف من أولج في فرج عجوز، ولا على
من زنى في دار الحرب، ولا على من زنى مع شبهة، وفي بعض ما ذكر
كلام يطلب من كتب الفقه، والحكم عام فيمن زنى وهو محصن وفي
غيره لكن نسخ في حق المحصن قطعا فإن الحكم في حقه الرجم،
ويكفينا في تعيين الناسخ القطع بأمره صلّى الله عليه وسلّم
بالرجم وفعله في زمانه عليه الصلاة والسلام مرات فيكون من نسخ
الكتاب بالسنة القطعية.
وقد أجمع الصحابة رضي الله تعالى عنهم ومن تقدم من السلف
وعلماء الأمة وأئمة المسلمين على أن المحصن يرجم بالحجارة حتى
يموت، وإنكار الخوارج ذلك باطل لأنهم إن أنكروا حجية إجماع
الصحابة رضي الله تعالى عنهم فجهل مركب، وإن أنكروا وقوعه من
رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لإنكارهم حجية خبر الواحد فهو
بعد بطلانه بالدليل ليس ما نحن فيه لأن ثبوت الرجم منه عليه
الصلاة والسلام متواتر المعنى كشجاعة عليّ كرم الله تعالى وجهه
وجود حاتم، والآحاد في تفاصيل صوره وخصوصياته وهم كسائر
المسلمين يوجبون العمل بالمتواتر معنى كالمتواتر لفظا إلا أن
انحرافهم عن الصحابة والمسلمين وترك التردد إلى علماء المسلمين
والرواة أوقعهم في جهالات كثيرة لخفاء السمع عنهم والشهرة،
ولذا حين عابوا على عمر بن عبد العزيز في القول بالرجم من كونه
ليس في كتاب الله تعالى
(9/277)
ألزمهم بأعداد الركعات ومقادير الزكوات
فقالوا: ذلك من فعله صلّى الله عليه وسلّم والمسلمين فقال لهم:
وهذا أيضا كذلك، وقد كوشف بهم عمر بن الخطاب رضي الله تعالى
عنه وكاشف بهم حيث قال كما روى البخاري: خشيت أن يطول بالناس
زمان حتى يقول قائل: لا نجد الرجم في كتاب الله تعالى عز وجل
فيضلوا بترك فريضة أنزلها الله عز وجل ألا وإن الرجم حق على من
زنى وقد أحصن إذا قامت البينة أو كان الحبل أو الاعتراف، وروى
أبو داود أنه رضي الله تعالى عنه خطب وقال: «إن الله عز وجل
بعث محمدا صلّى الله عليه وسلّم بالحق وأنزل عليه كتابا فكان
فيما أنزل عليه آية الرجم يعني بها قوله تعالى: «الشيخ والشيخة
إذا زنيا فارجموهما البتة نكالا من الله والله عزيز حكيم»
فقرأناها وو عيناها إلى أن قال:
وإني خشيت أن يطول بالناس زمان فيقول قائل: «لا نجد الرجم»
الحديث بطرقه، وقال: لولا أن يقال: إن عمر زاد في الكتاب
لكتبتها على حاشية المصحف الشريف ومن الناس من ذهب إلى أن
الناسخ الآية المنسوخة التي ذكرها عمر رضي الله تعالى عنه.
وقال العلامة ابن الهمام: إن كون الناسخ السنة القطعية أولى من
كون الناسخ ما ذكر من الآية لعدم القطع بثبوتها قرآنا، ثم نسخ
تلاوتها وإن ذكرها عمر رضي الله تعالى عنه وسكت الناس فإن كون
الإجماع السكوتي حجة مختلف فيه وبتقدير حجيته لا نقطع بأن جميع
المجتهدين من الصحابة رضي الله تعالى عنهم كانوا إذ ذاك حضورا
ثم لا شك في أن الطريق في ذلك إلى عمر رضي الله تعالى عنه ظني
ولهذا والله تعالى أعلم
قال علي كرّم الله تعالى وجهه حين جلد شراحة ثم رجمها: جلدتها
بكتاب الله تعالى ورجمتها بسنة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم
ولم يعلل الرجم بالقرآن المنسوخ التلاوة، ويعلم من قوله
المذكور كرم الله تعالى وجهه أنه قائل بعدم نسخ عموم الآية
فيكون رأيه أن الرجم حكم زائد في حق المحصن ثبت بالسنة وبذلك
قال أهل الظاهر وهو رواية عن أحمد، واستدلوا على ذلك بما
رواه أبو داود من قوله صلّى الله عليه وسلّم: «الثيب بالثيب
جلد مائة ورمي الحجارة»
وفي رواية غيره «ورجم بالحجارة»
وعند الحنفية لا يجمع بين الرجم والجلد في المحصن وهو قول مالك
والشافعي ورواية أخرى عن أحمد لأن الجلد يعري عن المقصود الذي
شرع الحد له وهو الانزجار أو قصده إذا كان القتل لاحقا له،
والعمدة في استدلالهم على ذلك أنه صلّى الله عليه وسلّم لم
يجمع بينهما قطعا،
فقد تظافرت الطرق أنه صلّى الله عليه وسلّم بعد سؤاله ماعزا عن
الإحصان وتلقينه الرجوع لم يزد على الأمر بالرجم فقال: اذهبوا
به فارجموه
،
وقال أيضا عليه الصلاة والسلام: «اغد يا أنيس إلى امرأة هذا
فإن اعترفت بذلك فارجمها»
ولم يقل فاجلدها ثم ارجمها،
وجاء في باقي الحديث الشريف «فاعترفت فأمر بها صلّى الله عليه
وسلّم فرجمت»
وقد تكرر الرجم في زمانه صلّى الله عليه وسلّم ولم يرو أحد أنه
جمع بينه وبين الجلد فقطعنا بأنه لم يكن إلا الرجم فوجب كون
الخبر السابق منسوخا وإن لم يعلم خصوص الناسخ، وأجيب عما فعل
عليّ كرم الله تعالى وجهه من الجمع بأنه رأي لا يقاوم ما ذكر
من القطع عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وكذا لا يقاوم
إجماع الصحابة رضي الله تعالى عنهم، ويحتمل أن يقال: إنه كرم
الله تعالى وجهه لم يثبت عنده الإحصان إلا بعد الجلد وهو بعيد
جدا كما يظهر من الرجوع إلى القصة والله تعالى أعلم، وإحصان
الرجم يتحقق بأشياء نظمها بعضهم فقال:
شروط (1) إحصان أتت ستة ... فخذها عن النص مستفهما
بلوغ وعقل وحرية ... ورابعها كونه مسلما
وعقد صحيح ووطء مباح ... متى اختل شرط فلن يرجما
__________
(1) قوله: شروط إحصان كذا بالأصل وهو غير متزن ولعله هكذا-
شروط حصان.
(9/278)
وزاد غير واحد كون واحد من الزوجين مساويا
الآخر في شرائط الإحصان وقت الإصابة بحكم النكاح فلو تزوج الحر
المسلم البالغ العاقل أمة أو صبية أو مجنونة أو كتابية ودخل
بها لا يصير محصنا بهذا الدخول حتى لو زنى من بعد لا يرجم،
وكذا لو تزوجت الحرة البالغة العاقلة المسلمة من عبد أو مجنون
أو صبي ودخل بها لا تصير محصنة فلا ترجم لو زنت بعد.
وذكر ابن الكمال شرطا آخر وهو أن لا يبطل إحصانهما بالارتداد
فلو ارتد والعياذ بالله تعالى ثم أسلما لم يعد إلا بالدخول
بعده ولو بطل بجنون أو عته عاد بالإفاقة، وقيل بالوطء بعده.
والشافعي لا يشترط المساواة في شرائط الإحصان وقت الإصابة فلا
رجم عنده في المسألتين السابقتين، وكذا لا يشترط الإسلام فلو
زنى الذمي الثيب الحر يجلد عندنا ويرجم عنده وهو رواية عن أبي
يوسف وبه قال أحمد، وقول مالك كقولنا.
واستدل المخالف بما
في الصحيحين من حديث عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما أن
اليهود جاؤوا إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فذكروا له أن
امرأة منهم ورجلا زنيا فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم:
ما تجدون في التوراة في شأن الرجم؟
فقالوا: نفضحهم ويجلدون فقال عبد الله بن سلام: كذبتم فيما
زعمتم أن فيها الرجم فأتوا بالتوراة فسردوها فوضع أحدهم يعني
عبد الله بن صور يا يده على آية الرجم وقرأ ما قبلها وما بعدها
فقال له عبد الله بن سلام: ارفع يدك فرفع يده فإذا آية الرجم
فقالوا: صدق يا محمد فأمر بهما النبي صلّى الله عليه وسلّم
فرجما.
ودليلنا ما
رواه إسحاق بن رهوايه في مسنده قال: أخبرنا عبد العزيز بن محمد
حدثنا عبيد الله عن نافع عن ابن عمر عن النبي صلّى الله عليه
وسلّم قال: «من أشرك بالله فليس بمحصن»
وقد رفع هذا الخبر كما قال إسحاق مرة ووقف أخرى، ورواه
الدارقطني في سننه وقال: لم يرفعه غير راهويه بن راهويه،
ويقال: إنه رجع عن ذلك والصواب أنه موقوف اهـ.
وفي العناية أن لفظ إسحاق كما تراه ليس فيه رجوع وإنما ذكر عن
الراوي أنه مرة رفعه ومرة أخرجه مخرج الفتوى ولم يرفعه ولا شك
في أن مثله بعد صحة الطريق إليه محكوم برفعه على ما هو المختار
في علم الحديث من أنه إذا تعارض الرفع والوقف حكم بالرفع وبعد
ذلك إذا خرج من طرق فيها ضعف لا يضر.
وأجاب بعض أجلة أصحابنا بأنه كان الرجم مشروعا بدون اشتراط
الإسلام حين رجم صلّى الله عليه وسلّم الرجل والمرأة اليهوديين
وذلك بما أنزله الله تعالى إليه عليه الصلاة والسلام، وسؤاله
صلّى الله عليه وسلّم اليهود عما يجدونه في التوراة في شأنه
ليس لأن يعلم حكمه من ذلك.
والقول بأنه عليه الصلاة والسلام كان أول ما قدم المدينة
مأمورا بالحكم بما في التوراة ممنوع بل ليس ذلك إلا ليبكتهم
بترك الحكم بما أنزل الله تعالى عليهم فلما حصل الغرض حكم صلّى
الله عليه وسلّم برجمهما بشرعه الموافق لشرعهم وإذا علم أن
الرجم كان ثابتا في شرعنا حال رجمها بلا اشتراط الإسلام. وقد
ثبت حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما المفيد لاشتراط الإسلام
وليس تاريخ يعرف به تقدم اشتراط الإسلام على عدم اشتراطه أو
تأخره عنه حصل التعارض بين فعله صلّى الله عليه وسلّم رجم
اليهوديين وقوله المذكور فيطلب الترجيح، وقد قالوا: إذا تعارض
القول والفعل ولم يعلم المتقدم من المتأخر يقدم القول على
الفعل، وفيه وجه آخر وهو أن تقديم هذا القول موجب لدرء الحد
وتقديم ذلك الفعل يوجب الاحتياط في إيجاب الحد والأولى في
الحدود ترجيح الرافع عند التعارض.
ولا يخفى أن كل مترجح فهو محكوم بتأخره اجتهادا فيكون المعول
عليه في الحكم حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما، وقول
المخالف: إن المراد بالمحصن فيه المحصن الذي يقتص له من المسلم
خلاف الظاهر لأن أكثر استعمال الإحصان في إحصان الرجم.
(9/279)
ورد بعضهم بالآية على القائلين: إن حد زنا
البكر بالبكر جلد مائة وتغريب سنة وهم الإمام الشافعي والإمام
أحمد والثوري والحسن بن صالح، ووجه الرد أن قوله تعالى:
الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي إلخ شروع في بيان حكم الزنا ما هو
فكان المذكور تمام حكمه وإلا كان تجهيلا لا بيانا وتفصيلا إذ
يفهم منه أنه تمام وليس بتمام في الواقع فكان مع الشروع في
البيان أبعد من البيان، لأنه أوقع في الجهل المركب وقبله كان
الجهل بسيطا فيفهم بمقتضى ذلك أن حد الزانية والزاني ليس إلا
الجلد، وأخصر من هذا أن المقام مقام البيان فالسكوت فيه يفيد
الحصر، وقال المخالف: لو سلمنا الدلالة على الحصر وأن المذكور
تمام الحكم ليكون المعنى أن حد كل ليس إلا الجلد فذلك منسوخ
بما صح من
رواية عبادة بن الصامت عنه صلّى الله عليه وسلّم «البكر بالبكر
جلد مائة وتغريب عام»
وأجيب بأنه بعد التسليم لا تصح دعوى النسخ بما ذكر لأنه خبر
الواحد وعندنا لا يجوز نسخ الكتاب به والقول بأن الخبر المذكور
قد تلقته الأمة بالقبول لا يجدي نفعا لأنه إن أريد بتلقيه
بالقبول إجماعهم على العمل به فممنوع،
فقد صح عن عليّ كرم الله تعالى وجهه أنه لا يقول بتغريبهما
وقال: حسبهما من الفتنة أن ينفيا
، وفي رواية كفى بالنفي فتنة، وإن أريد إجماعهم على صحته بمعنى
صحة سنده فكثير من أخبار الآحاد كذلك ولم تخرج بذلك عن كونها
آحادا، على أنه ليس فيه أكثر من كون التغريب واجبا ولا يدل على
أنه واجب بطريق الحد بل ما
في صحيح البخاري من قول أبي هريرة: إن رسول الله صلّى الله
عليه وسلّم قضى فيمن زنى ولم يحصن بنفي عام وإقامة الحد
ظاهر في أن النفي ليس من الحد لعطفه عليه، وكونه استعمل الحد
في جزء مسماه وعطف على الجزء الآخر بعيد فجاز كونه تعزيرا
لمصلحة، وقد يغرب الإمام لمصلحة يراها في غير ما ذكر كما صح أن
عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه غرب نصر بن حجاج إلى البصرة
بسبب أنه لجماله افتتن بعض النساء به فسمع قائلة يقال: إنها أم
الحجاج الثقفي ولذا قال له عبد الملك يوما يا ابن المتمنية
تقول:
هل من سبيل إلى خمر فأشربها ... أو هل سبيل إلى نصر بن حجاج
إلى فتى ماجد الأعراق (1) مقتبل ... سهل المحيا كريم غير ملجاج
والقول بأنه لا يجتمع التعزير مع الحد لا يخفى ما فيه، وادعى
الفقيه المرغيناني أن الخبر المذكور منسوخ فإن شطره الثاني
الدال على الجمع بين الجلد والرجم منسوخ كما علمت، وفيه أنه لا
لزوم فيجوز أن تروى جمل نسخ بعضها وبعضها لم ينسخ، نعم ربما
يكون نسخ أحد الشطرين مسهلا لتطرق احتمال نسخ الشطر الآخر
فيكون هذا الاحتمال قائما فيما نحن فيه فيضعف عن درجة الآحاد
التي لم يتطرق ذلك الاحتمال إليها فيكون أحرى أن لا ينسخ ما
أفاده الكتاب من أن الحد هو الجلد لا غير على ما سمعت تقريره
فتأمل.
ثم إن التغريب ليس مخصوصا بالرجل عند أولئك الأئمة فقد قالوا:
تغرب المرأة مع محرم وأجرته عليها في قول وفي بيت المال في
آخر، ولو امتنع ففي قول يجبره الإمام وفي آخر لا، ولو كانت
الطريق آمنة ففي تغريبها بلا محرم قولان، وعند مالك والأوزاعي
إنما ينفى الرجل ولا تنفى المرأة
لقوله عليه الصلاة والسلام: «البكر بالبكر»
إلخ، وقال غيرهما ممن تقدم: إن الحديث يجب أن يشملها فإن أوله
«خذوا عني قد جعل الله تعالى لهن سبيلا البكر بالبكر»
إلخ وهو نص على أن النفي والجلد سبيل للنساء والبكر يقال: على
الأنثى ألا ترى إلى
قوله عليه الصلاة والسلام: «البكر تستأذن»
ومع قطع النظر عن كل ذلك قد يقال: إن هذا من المواضع التي تثبت
الأحكام فيه في النساء بالنصوص المفيدة إياها للرجال بتنقيح
المناط، هذا ثم لا يخفى أن الظاهر من الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي
ما يشمل الرقيق وغيره فيكون
__________
(1) هو الذي لم يظهر فيه أثر كبر انتهى منه.
(9/280)
مقدار الحد في الجميع واحدا لكن قوله
تعالى: فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ ما عَلَى الْمُحْصَناتِ مِنَ
الْعَذابِ [النساء: 25] الآية أخرجت الإماء فإن الآية نزلت
فيهن، وكذا أخرجت العبيد إذ لا فرق بين الذكر والأنثى بتنقيح
المناط فيرجع في ذلك إلى دلالة النص بناء على أنه لا يشترط في
الدلالة أولوية المسكوت بالحكم من المذكور بل المساواة تكفي
فيه وقيل تدخل العبيد بطريق التغليب عكس القاعدة وهي تغليب
الذكور.
ولا يشترط الإحصان في الرقيق لما
روى مسلم وأبو داود والنسائي عن علي كرم الله تعالى وجهه قال:
«قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: أقيموا الحدود على ما
ملكت أيمانكم من أحصن ومن لم يحصن»
وفيه دليل على أن الشرط أعني الإحصان في الآية الدالة على
تنصيف الحد لا مفهوم له، ونقل عن ابن عباس وطاوس أنه لا حد على
الأمة حتى تحصن بزوج، وفيه اعتبار المفهوم، ثم هذا الإحصان شرط
للجلد لأن الرجم لا يتنصف، وللشافعي في تغريب العبد أقوال:
يغرب سنة يغرب نصف سنة لا يغرب أصلا والخطاب في قوله تعالى:
فَاجْلِدُوا لأئمة المسلمين ونوابهم.
واختلف في إقامة المولى الحد على عبده فعندنا لا يقيمه إلا
بإذن الإمام والشافعي ومالك وأحمد يقيمه من غير إذن، وعن مالك
إلا في الأمة المزوجة، واستثنى الشافعي من المولى الذمي
والمكاتب والمرأة، وكذا اختلف في إقامة الخارجي المتغلب الحد
فقيل يقيم وقيل لا، وأدلة الأقوال المذكورة وتحقيق ما هو الحق
منها في محله، والظاهر أن إقامة الحد المذكور بعد تحقق الزنا
بإحدى الطرق المعلومة، وقال إسحاق:
إذا وجد رجل وامرأة في ثوب واحد يجلد كل واحد منهما مائة جلدة
وروي ذلك عن عمر وعلي رضي الله تعالى عنهما
، وقال عطاء والثوري ومالك وأحمد: يؤديان على مذاهبهم في الأدب
وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ تلطف ومعاملة برفق وشفقة
فِي دِينِ اللَّهِ في طاعته وإقامة حده الذي شرعه عز وجل،
والمراد النهي عن التخفيف في الجلد بأن يجلدوهما جلدا غير مؤلم
أو بأن يكون أقل من مائة جلدة.
وقال أبو مجلز ومجاهد وعكرمة وعطاء: المراد النهي عن إسقاط
الحد بنحو شفاعة كأنه قيل: أقيموا عليهما الحد ولا بد، وروي
معنى ذلك عن عمر وابن جبير، وفي هذا دليل على أنه لا يجوز
الشفاعة في إسقاط الحد، والظاهر أن المراد عدم جواز ذلك بعد
ثبوت الحد عند الحاكم، وأما قبل الوصول إليه والثبوت فإن
الشفاعة عند الرافع لمن اتصف بسبب الحد إلى الحاكم ليطلقه قبل
الوصول وقبل الثبوت تجوز، ولم يخصوا ذلك بالزنا لما
صح أنه عليه الصلاة والسلام أنكر على حبه أسامة بن زيد حين شفع
في فاطمة بنت الأسود بن عبد الأسد المخزومية السارقة قطيفة
وقيل حليا فقال له: «أتشفع في حد من حدود الله تعالى؟ ثم قام
فخطب فقال: أيها الناس إنما ضل من قبلكم أنهم كانوا إذا سرق
فيهم الشريف تركوه وإذا سرق الضعيف أقاموا عليه الحد وايم الله
تعالى لو أن فاطمة بنت محمد سرقت وحاشاها لقطعت يدها»
وكما تحرم الشفاعة يحرم قبولها فعن الزبير بن العوام رضي الله
تعالى عنه أنه قال: إذا بلغ الحد إلى الإمام فلا عفا الله
تعالى عنه إن عفا، وبِهِما قيل متعلق بمحذوف على البيان أي
أعني بهما، وقيل بترأفوا محذوفا أي ولا ترأفوا بهما، ويفهم
صنيع أبي البقاء اختيار تعلقه بتأخذ والباء للسببية أي ولا
تأخذكم بسببهما رأفة ولم يجوز تعلقه برأفة معللا بأن المصدر لا
يتقدم معموله عليه، وعندي هو متعلق بالمصدر ويتوسع في الظرف ما
لا يتوسع في غيره.
وقد حقق ذلك العلامة سعد الملة والدين في أول شرح التلخيص بما
لا مزيد عليه، وفِي دِينِ قيل متعلق بتأخذ وعليه أبو البقاء،
وقيل متعلق بمحذوف وقع صفة لرأفة. وقرأ عليّ كرم الله تعالى
وجهه والسلمي وابن مقسم وداود بن أبي هند عن مجاهد «ولا
يأخذكم» بالياء التحتية لأن تأنيث رَأْفَةٌ مجازي وحسن ذلك
الفصل وقرأ ابن
(9/281)
كثير «رأفة» بفتح الهمزة، وابن جريج «رافة»
بألف بعد الهمزة على وزن فعالة وروي ذلك عن عاصم وابن كثير،
ونقل أبو البقاء أنه قرأ «رافة» بقلب الهمزة الفا وهي في كل
ذلك مصدر مسموع إلا أن الأشهر في الاستعمال ما وافق قراءة
الجمهور.
إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ من
باب التهييج والإلهاب كما يقال: إن كنت رجلا فافعل كذا ولا شك
في رجوليته وكذا المخاطبون هنا مقطوع بإيمانهم لكن قصد تهييجهم
وتحريك حميتهم ليجدوا في طاعة الله تعالى ويجتهدوا في إجراء
أحكامه على وجهها، وذكر الْيَوْمِ الْآخِرِ لتذكير ما فيه من
العقاب في مقابلة الرأفة بهما وَلْيَشْهَدْ عَذابَهُما
طائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أي ليحضره زيادة في التنكيل فإن
التفضيح قد ينكل أكثر من التعذيب أو لذلك وللعبرة والموعظة،
وعن نصر بن علقمة أن ذلك ليدعى لهما بالتوبة والرحمة لا
للتفضيح وهو في غاية البعد من السياق، والأمر هنا على ما يدل
عليه كلام الفقهاء للندب.
واختلف في هذه الطائفة فأخرج عبد بن حميد وغيره عن ابن عباس
أنه قال: الطائفة الرجل فما فوقه وبه قال أحمد وقال عطاء
وعكرمة وإسحاق بن راهويه: اثنان فصاعدا وهو القول المشهور
لمالك وقال قتادة والزهري: ثلاثة فصاعدا، وقال الحسن: عشرة،
وعن الشافعي وزيد: أربعة وهو قول لمالك قال الخفاجي: وتحقيق
المقام أن الطائفة في الأصل اسم فاعل مؤنث من الطواف الدوران
أو الإحاطة فهي إما صفة نفس أي نفس طائفة فتطلق على الواحد أو
صفة جماعة أي جماعة طائفة فتطلق على ما فوقه فهي كالمشترك بين
تلك المعاني فتحمل في كل مقام على ما يناسبه.
وذكر الراغب أنها إذا أريد بها الواحد يصح أن تكون جمعا كني به
عن الواحد، ويصح أن تكون مفردا والتاء فيها كما في رواية، وفي
حواشي العضد للهروي يصح أن يقال للواحد طائفة ويراد نفس طائفة
فهي من الطواف بمعنى الدوران.
وفي شرح البخاري حمل الشافعي الطائفة في مواضع من القرآن على
أوجه مختلفة بحسب المواضع فهي في قوله تعالى: فَلَوْلا نَفَرَ
مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ [التوبة: 122] واحد
فأكثر واحتج به على قبول خبر الواحد وفي قوله تعالى:
وَلْيَشْهَدْ عَذابَهُما طائِفَةٌ أربعة وفي قوله سبحانه:
فَلْتَقُمْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ [النساء: 102] ثلاثة،
وفرقوا في هذه المواضع بحسب القرائن، أما في الأولى فلأن
الإنذار يحصل به، وأما في الثانية فلأن التشنيع فيه أشد، وأما
في الثالثة فلضمير الجمع بعد في قوله تعالى: وَلْيَأْخُذُوا
أَسْلِحَتَهُمْ [النساء: 102] وأقله ثلاثة، وكونها مشتقة من
الطواف لا ينافيه لأنه يكون بمعنى الدوران أو هو الأصل وقد لا
ينظر إليه بعد الغلبة فلذا قيل: إن تاءها للنقل انتهى ولا يخلو
عن بحث.
والحق أن المراد بالطائفة هنا جماعة يحصل بهم التشهير، والزجر
وتختلف قلة وكثرة بحسب اختلاف الأماكن والأشخاص فرب شخص يحصل
تشهيره وزجره بثلاثة وآخر لا يحصل تشهيره وزجره بعشرة، وللقائل
بالأربعة هنا وجه وجيه كما لا يخفى.
الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً تقبيح
لأمر الزاني أشد تقبيح ببيان أنه بعد أن رضي بالزنا لا يليق به
أن ينكح العفيفة المؤمنة فبينهما كما بين سهيل والثريا فترى
هذه شامية إذا ما استقلت وترى ذاك إذا ما استقل يمانيا وإنما
يليق به أن ينكح زانية هي في ذلك طبقه ليوافق- كما قيل- شن
طبقه أو مشركة هي أسوأ منه حالا وأقبح أفعالا «فلا ينكح» خبر
مراد منه لا يليق به أن ينكح كما تقول: السلطان لا يكذب أي لا
يليق به أن يكذب نزل فيه عدم لياقة
(9/282)
الفعل منزلة عدمه وهو كثير في الكلام، ثم
المراد اللياقة وعدم اللياقة من حيث الزنا فيكون فيه من تقبيح
الزنا ما فيه.
ولا يشكل صحة نكاح الزاني المسلم الزانية المسلمة وكذا العفيفة
المسلمة وعدم صحة نكاحه المشركة المذكورة في الآية إذا فسرت
بالوثنية بالإجماع لأن ذلك ليس من اللياقة وعدم اللياقة من حيث
الزنا بل من حيثية أخرى يعلمها الشارع كما لا يخفى، وعلى هذا
الطرز قوله تعالى: وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُها إِلَّا زانٍ
أَوْ مُشْرِكٌ أي الزانية بعد أن رضيت بالزنا فولغ فيها كلب
شهوة الزاني لا يليق أن ينكحها من حيث إنها كذلك إلا من هو
مثلها وهو الزاني أو من هو أسوأ حالا منها وهو المشرك، وأما
المسلم العفيف فإن غيرته تأبى ورود جفرتها.
تجتنب الأسود ورود ماء ... إذا كان الكلاب يلغن فيه
ولا يشكل على هذا صحة نكاحه إياها وعدم صحة نكاح المشرك سواء
فسر بالوثني أو بالكتابي ليحتاج إلى الجواب وهو ظاهر والإشارة
في قوله سبحانه: وَحُرِّمَ ذلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ يحتمل
أن تكون للزنا المفهوم مما تقدم والتحريم عليه على ظاهره وكذا
المؤمنين، ولعل هذه الجملة وما قبلها متضمنة لتعليل ما تقدم من
الأمر والنهي ولذا لم يعطف قوله سبحانه: الزَّانِي لا يَنْكِحُ
إلخ عليه كما عطف قوله عز وجل الآتي: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ
الْمُحْصَناتِ إلخ، وأمر إشعار ما تقدم بالتحريم سهل، وتخصيص
المؤمنين بالتحريم عليهم على رأي من يقول: إن الكفار غير
مكلفين بالفروع ظاهر، وأما على رأي من يقول بتكليفهم بها
كالأصول وإن لم تصح منهم إلا بعد الإيمان فتخصيصهم بالذكر
لشرفهم، ويحتمل أن تكون لنكاح الزانية وعليه فالمراد من
التحريم المنع وبالمؤمنين المؤمنون الكاملون، ومعنى منعهم عن
نكاح الزواني جعل نفوسهم أبية عن الميل إليه فلا يليق ذلك بهم،
ولا يأبى حمل الآية على ما قرر فيها ما
روي في سبب نزولها مما أخرج أبو داود والترمذي وحسنه والحاكم
وصححه والبيهقي وابن المنذر وغيرهم عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن
جده قال: «كان رجل يقال له مرثد يحمل الأسارى من مكة حتى يأتي
بهم المدينة وكانت امرأة بغي بمكة يقال لها عناق وكانت صديقة
له وأنه وعد رجلا من أسارى مكة بحمله قال فجئت حتى انتهيت إلى
ظل حائط من حوائط مكة في ليلة مقمرة فجاءت عناق فأبصرت سواد ظل
تحت الحائط فلما انتهت إلى غرفتي فقالت: مرثد؟ فقلت: مرثد
فقالت: مرحبا وأهلا هلم فبت عندنا الليلة قلت: يا عناق حرم
الله تعالى الزنا قالت: يا أهل الخيام هذا الرجل يحمل أسراكم
قال فتبعني ثمانية وسلكت الخندمة فانتهيت إلى غار أو كهف فدخلت
فجاؤوا حتى قاموا على رأسي فطل بولهم على رأسي وعماهم الله
تعالى عني ثم رجعوا ورجعت إلى صاحبي فحملته حتى قدمت المدينة
فأتيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقلت: يا رسول الله أنكح
عناق؟ فأمسك فلم يرد عليّ شيئا حتى نزل الزَّانِي لا يَنْكِحُ
إِلَّا زانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً الآية فقال رسول الله عليه
الصلاة والسلام: يا مرثد الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا
زانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُها إِلَّا
زانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ فلا
تنكحها
لأن تفريع النهي فيه عن نكاح تلك البغي مما لا شبهة في صحته
على تقدير كون الآية المفرع عليها لتقبيح أمر الزاني والزانية
فكأنه قيل: إذا علمت أمر الزانية وأنها بلغت في القبح إلى حيث
لا يليق أن ينكحها إلا مثلها أو من هو أسوأ حالا فلا تنكحها.
نعم في هذا الخبر ما هو أوفق بجعل الإشارة فيما مر إلى نكاح
الزانية ويعلم منه وجه تقديم الزَّانِي والأخبار عن الزانية
بأنه لا ينكحها إلا زان أو مشرك على خلاف ما تقتضيه المقابلة،
هذا وللعلماء في هذه الآية الجليلة كلام كثير لا بأس بنقل ما
تيسر منه وإبداء بعض ما قيل فيه ثم انظر فيه وفيما قدمناه
واختر لنفسك ما يحلو فأقول: نقل عن الضحاك والقفال، وقال
النيسابوري: إنه أحسن الوجوه في الآية أن قوله سبحانه:
الزَّانِي لا
(9/283)
يَنْكِحُ
إلخ حكم مؤسس على الغالب المعتاد جيء به لزجر المؤمنين عن نكاح
الزواني بعد زجرهم عن الزنا وذلك أن الفاسق الخبيث الذي من
شأنه الزنا والتقحب لا يرغب غالبا في نكاح الصوالح من النساء
اللاتي على خلاف صفته وإنما يرغب في فاسقة خبيثة من شكله أو في
مشركة والفاسقة الخبيثة المسافحة كذلك لا يرغب في نكاحها
الصلحاء من الرجال وينفرون عنها وإنما يرغب فيها من هو من
شكلها من الفسقة والمشركين، ونظير هذا الكلام لا يفعل الخير
إلا تقي فإنه جار مجرى الغالب، ومعنى التحريم على المؤمنين على
هذا قيل التنزيه وعبر به عنه للتغليظ، ووجه ذلك أن نكاح
الزواني متضمن التشبه بالفساق والتعرض للتهمة والتسبب لسوء
القالة والطعن في النسب إلى كثير من المفاسد، وقيل: التحريم
على ظاهره وذلك الفعل يتضمن محرمات والحرمة ليست راجعة إلى نفس
العقد ليكون العقد باطلا وعلى القولين الآية محكمة، ولا يخفى
أن حمل الزاني والزانية على من شأنهما الزنا والتقحب لا يخلو
عن بعد لأنهما فيما تقدم لم يكونا بهذا المعنى والظاهر
الموافقة، وأيضا لا يكاد يسلم أن الغالب عدم رغبة من شأنه
الزنا في نكاح العفائف ورغبته في الزواني أو المشركات فكثيرا
ما شاهدنا كثيرا من الزناة يتحرون في النكاح أكثر من تحري
غيرهم فلا يكاد أحدهم ينكح من في أقاربها شبهة زنا فضلا عن أن
تكون فيها وقليلا ما سمعنا برغبة الزاني في نكاح زانية أو
مشركة، وأيضا في حمل التحريم على التنزيه نوع بعد وكذا حمله
على ظاهره مع التزام أن الحرمة ليست راجعة إلى نفس العقد.
وفي البحر روي عن ابن عمر وابن عباس وأصحابه أن الآية في قوم
مخصوصين كانوا يزنون في جاهليتهم ببغايا مشهورات فلما جاء
الإسلام وأسلموا لم يمكنهم الزنا فأرادوا لفقرهم زواج أولئك
النسوة إذ كان من عادتهن الإنفاق على من تزوجهن فنزلت الآية
لذلك، والإشارة بالزاني إلى أحد أولئك القوم أطلق عليه اسم
الزنا الذي كان في الجاهلية للتوبيخ، ومعنى لا يَنْكِحُ إِلَّا
زانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً لا يريد أن يتزوج إلا زانية أو مشركة
أي لا تنزع نفسه إلا إلى هذه الخسائس لقلة انضباطها، والإشارة-
بذلك- إلى نكاح أولئك البغايا والتحريم على ظاهره، ويرد على
هذا التأويل أن الإجماع على أن الزانية لا يجوز أن يتزوجها
مشرك انتهى.
وأنت تعلم أن هذا لا يرد بعد حمل نفي النكاح على نفي إرادة
التزوج إذ يكون المعنى حينئذ الزانية لا يريد أن يتزوجها إلا
زان أو مشرك وليس في الإجماع ما يأباه، وفيه أيضا كلام ستعلمه
قريبا إن شاء الله تعالى، نعم كون الزَّانِي إشارة إلى أحد
أولئك القوم وهم من المهاجرين رضوان الله تعالى عليهم أجمعين
كما جاء في آثار كثيرة وقد أسلموا وتابوا من الزنا محل تردد إذ
يبعد كل البعد أن يسم الله عز وجل بالزنا صحابيا كان قد زنى
قبل إسلامه ثم أسلم وتاب فخرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه ويطلق
سبحانه عليه هذا الوصف الشنيع الذي غفره تبارك وتعالى له بمجرد
أنه مال إلى نكاح زانية بسبب ما به من الفقر قبل العلم بحظر
ذلك مع أنهم كانوا نادين على فراق من ينكحونهن إذا وجدوا عنهن
غنى.
فقد أخرج ابن أبي حاتم عن مقاتل أنه قال: لما قدم المهاجرون
المدينة قدموها وهم بجهد إلا قليل منهم والمدينة غالية السعر
شديدة الجهد وفي السوق زوان متعالنات من أهل الكتاب وإماء لبعض
الأنصار قد رفعت كل امرأة منهن على بابها علامة لتعرف أنها
زانية وكن من أخصب أهل المدينة وأكثرهم خيرا فرغب أناس من
مهاجري المسلمين فيما يكتسبن للذي فيهم من الجهد فأشار بعضهم
على بعض لو تزوجنا بعض هؤلاء الزواني فنصيب من فضول ما يكتسبن
فقال بعضهم: نستأمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأتوه
فقالوا: يا رسول الله قد شق علينا الجهد ولا نجد ما نأكل وفي
السوق بغايا نساء أهل الكتاب وولائدهن وولائد الأنصار يكتسبن
لأنفسهن فيصلح لنا أن نتزوج منهن
(9/284)
فنصيب من فضول ما يكتسبن فإذا وجدنا عنهن
غنى تركناهن فأنزل الله تعالى الآية
، وأيضا إطلاق الزاني عليه بهذا المعنى لا يوافق إطلاق الزانية
على إحدى صاحبات الرايات، وكذا لا يوافق إطلاق الزاني على من
أطلق عليه في قوله سبحانه: الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي
فَاجْلِدُوا إلخ.
وقال أبو مسلم وأبو حيان وأخرجه أبو داود في ناسخه والبيهقي في
سننه، والضياء في المختارة وجماعة من طريق ابن جبير عن ابن
عباس أن النكاح بمعنى الوطء أي الزنا وذلِكَ إشارة إليه،
والمعنى الزاني لا يطأ في وقت زناه إلا زانية من المسلمين أو
أخس منها وهي المشركة والزانية لا يطؤها حين زناها إلا زان من
المسلمين أو أخس منه وهو المشرك وحرم الله تعالى الزنا على
المؤمنين.
وتعقب بأنه لا يعرف النكاح في كتاب الله تعالى إلا بمعنى
التزويج وبأنه يؤدي إلى قولك الزاني لا يزني إلا بزانية
والزانية لا تزني إلا بزان وهو غير مسلم إذ قد يزني الزاني
بغير زانية يعلم أحدهما بالزنا والآخر جاهل به يظن الحل، وإذا
ادعى أن ذلك خارج مخرج الغالب كان من الأخبار بالواضحات، وإن
حمل النفي على النهي كان المعنى نهي الزاني عن الزنا إلا
بزانية وبالعكس وهو ظاهر الفساد.
وأجيب عن الأول بأن جل العلماء على أن النكاح في قوله تعالى:
حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ [البقرة: 230] بمعنى الوطء
دون العقد وردوا على من فسره بالعقد وزعم أن المطلقة ثلاثا تحل
لزوجها الأول بعقد الثاني عليها دون وطء، وعن الثاني بأنه
إخبار خارج مخرج الغالب أريد به تشنيع أمر الزنا ولذلك زيدت
المشركة، والاعتراض بالوضوح ليس بشيء.
وللفاضل سري الدين المصري كلام طويل في ذلك، وما قيل: إنه
حينئذ يكون كقوله تعالى: الْخَبِيثاتُ لِلْخَبِيثِينَ [النور:
26] إلخ فيحصل التكرار ستعلم إن شاء الله تعالى أنه لا يتم إلا
في قول، وقيل: النكاح بمعنى التزوج والنفي بمعنى النهي وعبر به
عنه للمبالغة، وأيد بقراءة عمرو بن عبيد «لا ينكح» بالجزم
والتحريم على ظاهره.
قال ابن المسيب: وكان الحكم عاما في الزناة أن لا يتزوج أحدهم
إلا زانية ثم جاءت الرخصة ونسخ ذلك بقوله تعالى: وَأَنْكِحُوا
الْأَيامى مِنْكُمْ [النور: 32] وقوله سبحانه: فَانْكِحُوا ما
طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ [النساء: 3] وروي القول بالنسخ عن
مجاهد، وإلى ذلك ذهب الإمام الشافعي قال في الأم: اختلف أهل
التفسير في قوله تعالى:
الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زانِيَةً إلخ اختلافا متباينا،
قيل: هي عامة ولكنها نسخت أخبرنا سفيان عن يحيى عن سعيد بن
المسيب أنه قال: هي منسوخة نسختها وَأَنْكِحُوا الْأَيامى
مِنْكُمْ فهي أي الزانية من أيامي المسلمين كما قال ابن المسيب
إن شاء الله تعالى، ولنا دلائل من الكتاب والسنة على فساد غير
هذا القول وبسط الكلام، وقد نقل هذا عن الإمام الشافعي البقاعي
ثم قال: إن الشافعي لم يرد أن هذا الحكم نسخ بآية الأيامى فقط
بل مع ما انضم إليها من الإجماع وغيره من الآيات والأحاديث
بحيث صير ذلك دلالتها على ما تناولته متيقنا كدلالة الخاص على
ما تناوله فلا يقال: إنه خالف أصله في أن الخاص لا ينسخ بالعام
بل العام المتأخر محمول على الخاص لأن ما تناوله الخاص متيقن
وما تناوله العام مظنون اهـ.
والجبائي يزعم أن النسخ بالإجماع ولعله أراد أنه كاشف عن ناسخ
وإلا فالإجماع لا يكون ناسخا كما بين في علم الأصول، نعم في
تحقق الإجماع هنا كلام، واعترض هذا الوجه بأنه يلزم عليه حل
نكاح المشرك للمسلمة، وأقول: إن نكاح الكافر للمسلمة كان حلالا
قبل الهجرة وبعدها إلى سنة الست وفيها بعد الحديبية نزلت آية
التحريم كما صرح بذلك العلامة ابن حجر الهيتمي وغيره، وقد صح
أن النبي صلّى الله عليه وسلّم زوج بنته زينب رضي الله تعالى
عنها لأبي
(9/285)
العاص بن الربيع قبل البعثة وبعث عليه
الصلاة والسلام ثم هاجر وهاجرت معه وهي في نكاح أبي العاص ولم
يكن مؤمنا إذ ذاك واستمر الأمر على ذلك إلى سنة الست فلما نزلت
آية التحريم لم يلبث إلا يسيرا حتى جاء وأظهر إسلامه رضي الله
تعالى عنه فردها صلّى الله عليه وسلّم له بنكاحه الأول.
فيحتمل أن يكون النكاح المذكور حلالا عند نزول الآية التي من
فيها بأن يكون نزولها قبل سنة الست ثم نسخ، وفي هذه السورة
آيات نصوا على أن نزولها كان قبل ذلك وهي قوله تعالى: إِنَّ
الَّذِينَ جاؤُ بِالْإِفْكِ [النور:
11] إلخ قال: إنها نزلت عام غزوة بني المصطلق وكانت سنة خمس
لليلتين خلتا من شعبان فلعل هذه الآية من هذا القبيل بل في أثر
رواه ابن أبي شيبة عن ابن جبير وذكره العراقي وابن حجر ما
ظاهره أن هذه الآية مكية فإذا انضم هذا إلى ما روي عن ابن
المسيب وقال به الشافعي يكون فيها نسخان لكن لم أر من نبه على
ذلك، وإذا صح كان هذا الوجه أقل من الأوجه السابقة مؤنة وكأني
بك لا تفضل عليه غيره.
وذهب قوم إلى أن حرمة التزوج بالزانية أو من الزاني إن لم تظهر
التوبة من الزنا باقية إلى الآن، وعندهم أنه إن زنى أحد
الزوجين يفسد النكاح بينهما، وقال بعضهم: لا ينفسخ إلا أن
الرجل يؤمر بطلاق زوجته إذا زنت فإن أمسكها أثم، وعند بعض من
العلماء أن الزنا عيب من العيوب التي يثبت بها الخبار فلو
تزوجت برجل فبان لها أنه ممن يعرف بالزنا ثبت لها الخيار في
البقاء معه أو فراقه، وعن الحسن أن حرمة نكاح الزاني للعفيفة
إنما هي فيما إذا كان مجلودا وكذا حرمة نكاح العفيف للزانية
إنما هي إذا كانت مجلودة فالمجلود عنده لا يتزوج إلا مجلودة
والمجلودة لا يتزوجها إلا مجلود وهو موافق لما في بعض الأخبار.
فقد أخرج أبو داود وابن المنذر وجماعة عن أبي هريرة قال: «قال
رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: لا ينكح الزاني المجلود إلا
مثله»
وأخرج سعيد بن منصور وابن المنذر «أن رجلا تزوج امرأة ثم إنه
زنى فأقيم عليه الحد فجاؤوا به إلى عليّ كرم الله تعالى وجهه
ففرق بينه وبين امرأته وقال له: لا تتزوج إلا مجلودة مثلك
، وعن ابن مسعود والبراء بن عازب أن من زنى بامرأة لا يجوز له
أن يتزوجها أصلا، وأبو بكر الصديق وابن عمر وابن عباس وجابر
وجماعة من التابعين والأئمة على خلافه.
واستدل على ذلك بما
أخرجه الطبراني والدارقطني من حديث عائشة رضي الله تعالى عنها
قالت: «سئل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن رجل زنى بامرأة
وأراد أن يتزوجها فقال: الحرام لا يحرم الحلال»
هذا ومن أضعف ما قيل في الآية: إنه يجوز أن يكون معناها ما في
الحديث من أن من زنى تزني امرأته ومن زنت يزني زوجها فتأمل
جميع ذاك والله عز وجل يتولى سداك.
وقرأ أبو البرهسم «وحرّم» بالبناء للفاعل وهو الله تعالى، وزيد
بن علي رضي الله تعالى عنهما «وحرم» بفتح الحرم وضم الراء
وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ شروع في بيان حكم من نسب
الزنا إلى غيره بعد بيان حكم من فعله، والموصول على ما اختاره
العلامة الثاني في التلويح منصوب بفعل محذوف يدل فعل الأمر بعد
عليه أي اجلدوا الذين، ويجوز أن يكون في محل رفع على الابتداء
ولا يخفى عليك خبره والآية نزلت في امرأة عويمر كما في صحيح
البخاري، وعن سعيد بن جبير أنها نزلت بسبب قصة الإفك والرمي
مجاز عن الشتم.
وجرح اللسان كجرح اليد والمراد الرمي بالزنا كما يدل عليه
إيراد ذلك عقيب الزواني مع جعل المفعول الْمُحْصَناتِ الدال
على النزاهة عن الزنا وهذا كالصريح في ذلك، وربما يدعى أن
اشتراط أربعة من الشهود يشهدون بتحقق ما رمي به كما يدل عليه
قوله تعالى: ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ
فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً قرينة
(9/286)
على المراد بناء على العلم بأنه لا شيء
يتوقف ثبوته بالشهادة على شهادة أربعة إلا الزنا، والظاهر أن
المراد النساء المحصنات وعليه يكون ثبوت وجوب جلد رامي المحصن
بدلالة النص للقطع بإلغاء الفارق وهو صفة الأنوثة واستقلال دفع
عار ما نسب إليه بالتأثير بحيث لا يتوقف فهمه على ثبوت أهلية
الاجتهاد، وكذا ثبوت وجوب جلد رامية المحصن أو المحصنة بتلك
الدلالة وإلا فالذين يرمون للجمع المذكر، وتخصيص الذكور في
جانب الرامي والإناث في جانب المرمي لخصوص الواقعة، وقيل
المراد الفروج المحصنات وفيه أن إسناد الرمي يأباه مع ما فيه
من التوصيف بالمحصنات من مخالفة الظاهر.
وقال ابن حزم وحكاه الزهراوي: المراد الأنفس المحصنات واستدل
له أبو حيان بقوله تعالى: وَالْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ
[النساء: 24] فإنه لولا أن المحصنات صالح للعموم لم يقيد وتعقب
بأن من النساء هناك قرينة على العموم ولا قرينة هنا، وجعل كون
حكم الرجال كذلك قرينة لا يخلو عن شيء فالأولى الاعتماد على ما
تقدم والإحصان هنا، وجعل كون حكم الرجال كذلك قرينة لا يخلو عن
شيء فالأولى الاعتماد على ما تقدم والإحصان هنا لا يتحقق إلا
بتحقق العفة عن الزنا وهو معناه المشهور وبالحرية والبلوغ
والعقل والإسلام.
قال أبو بكر الرازي: ولا نعلم خلافا بين الفقهاء في ذلك، ولعل
غيره علم كما ستعلم إن شاء الله تعالى، وثبوته بإقرار القاذف
أو شهادة رجلين أو رجل وامرأتين خلافا لزفر، ووجه اعتبار العفة
عن الزنا ظاهر لكن في شرح الطحاوي في الكلام على العفة عدم
الاقتصار على كونها عن الزنا حيث قال فيها: بأن لم يكن وطئ
امرأة بالزنا ولا بشبهة ولا بنكاح فاسد في عمره فإن كان فعل
ذلك مرة يريد النكاح الفاسد تسقط عدالته ولا حد على قاذفه،
وكذا لو وطئ في غير الملك كما إذا وطئ جارية مشتركة بينه وبين
غيره سقطت عدالته، ولو وطئ في الملك إلا أنه محرم فإنه ينظر إن
كانت الحرمة مؤقتة لا تسقط عدالته كما إذا وطئ امرأته في الحيض
أو أمته المجوسية، وإن كانت مؤبدة سقطت عدالته كما إذا وطئ
أمته وهي أخته من الرضاعة.
ولو مس امرأة أو نظر إلى فرجها بشهوة ثم تزوج بنتها فدخل بها
أو أمها لا يسقط إحصانه عند أبي حنيفة عليه الرحمة (1) وعندهما
يسقط، ولو وطئ امرأة بالنكاح ثم تزوج بها سقط إحصانه انتهى.
والمذكور في غير كتاب أن أبا حنيفة يشترط في سقوط الحد عن قاذف
الواطئ في الحرمة المؤبدة كون تلك الحرمة ثابتة بحديث مشهور
كحرمة وطء المنكوحة بلا شهود الثابتة
بقوله عليه الصلاة والسلام: «لا نكاح إلا بشهود»
وهو حديث مشهور أو ثابتة بالإجماع كموطوءة أبيه بالنكاح أو
بملك اليمين لو تزوجها الابن أو اشتراها فوطئها، ومثل ذلك عنده
وطء مزنيته فإنه لا يعتبر الخلاف عند ثبوت الحرمة بالنص وهنا
قد ثبتت به لقوله تعالى:
وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ [النساء:
22] وإنما يعتبره إذا ثبتت بقياس أو احتياط كثبوتها بالنظر إلى
الفرج والمس بشهوة فإن ثبوتها فيما ذكر لإقامة السبب مقام
المسبب احتياطا، ومن هذا يعلم حال فروع كثيرة فليحفظ، وما ذكر
من سقوط إحصان من وطئ أمته وهي أخته من الرضاع فيه خلاف الكرخي
فإنه قال: لا يسقط الإحصان بوطئها وهو قول الشافعي ومالك وأحمد
لقيام الملك فكان كوطء أمته المجوسية، وفيه أن الحرمة في وطء
المجوسية يمكن ارتفاعها فتكون مؤقتة وحرمة الرضاع لا يمكن
ارتفاعها فلم يكن المحل قابلا للحل أصلا، واشترط في الملك أن
لا يظهر فساده بالاستحقاق فلو اشترى جارية فوطئها ثم استحقت
فقذفه إنسان لا يحد. وفي كافي
__________
(1) وكذا عند الأئمة الثلاثة اهـ منه.
(9/287)
الحاكم والقهستاني والفتح أن الوطء في
الشراء الفاسد يسقط الحد عن القاذف وحمله بعضهم على ما ذكرنا،
وقال بعض الأجلة: كما يشترط العفة عن الزنا يشترط السلامة عن
تهمته ويحترز به عن قذف ذات ولد ليس له أب معروف فإنهم ذكروا
أنه لا يحد قاذفها لمكان التهمة، وقد ذكر ذلك الحصكفي في باب
اللعان من شرح تنوير الأبصار، ولا تقاس اللواطة على الزنا فلو
قذف بها لا يحد القاذف خلافا لأبي يوسف ومحمد وقد اختلفا في
أحكام كثيرة ذكرها زين الدين في بحره، وأما اعتبار الحرية
فلأنها يطلق عليها اسم الإحصان قال الله تعالى: فَعَلَيْهِنَّ
نِصْفُ ما عَلَى الْمُحْصَناتِ مِنَ الْعَذابِ فإن المراد
بالمحصنات فيه الحرائر فالرقيق ليس محصنا بهذا المعنى وكونه
محصنا بمعنى آخر كالإسلام وغيره فيكون محصنا من وجه دون وجه
وذلك شبهة في إحصانه فوجب درء الحد عن قاذفه فلا يحد حتى يكون
محصنا بجميع المفهومات التي يطلق عليها لفظ الإحصان إلا ما
أجمع على عدم اعتباره في تحقق الإحصان وهو كون المقذوفة زوجة
أو كون المقذوف زوجا فإنه جاء بمعناه في قوله تعالى:
وَالْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ [النساء: 24] أي المتزوجات ولا
يعتبر في إحصان القذف بل في إحصان الرجم، ثم لا شك في أن
الإحصان أطلق بمعنى الحرية كما سمعت وبمعنى الإسلام في قوله عز
وجل: فَإِذا أُحْصِنَّ [النساء: 25] قال ابن مسعود:
أسلمن وهذا يكفي في إثبات اعتبار الإسلام في الإحصان، وعن داود
عدم اشتراط الحرية وأنه يحد قاذف العبد وأما اعتبار العقل
والبلوغ ففيه إجماع إلا ما روي عن أحمد عليه الرحمة من أن
الصبي الذي يجامع مثله محصن فيحد قاذفه، والأصح عنه موافقة
الجماعة، وقول مالك في الصبية التي يجامع مثلها يحد قاذفها
خصوصا إذا كانت مراهقة فإن الحد لعلة إلحاق العار ومثلها يلحقه
العار، وكذا قوله وقول الليث: إنه يحد قاذف المجنون لذلك
والجماعة يمنعون كون الصبي والمجنون يلحقهما العار بنسبتهما
إلى الزنا بل ربما يضحك من ناسبهما إليه إما لعدم صحة قصده
منهما وإما لعدم مخاطبتهما بالمحرمات وما أشبه ذلك، ولو فرضنا
لحوق عار بالمراهق فليس ذلك على الكمال فيندرئ الحد، ومثل
الصبي والمجنون في أنه ربما يضحك من نسبة الزنا إليهما الرتقاء
والمجبوب بل هما أولى بذلك لعدم تصوره فيهما ولذا لا يحد
بقذفهما، وإلا ما روي عن سعيد وابن أبي ليلى من أنه يحد بقذف
الذمية إذا كان لها ولد مسلم، وكذا ما قيل: إنه يحد بقذفها إذا
كانت تحت مسلم، ثم إن الإسلام والحرية إذا لم يكونا موجودين
وقت الزنا المقذوف به بل كانا موجودين وقت القذف لا يفيدان
شيئا فلو قذف امرأة مسلمة زنت في نصرانيتها أو رجلا مسلما زنى
في نصرانيته وقال: زنيت وأنت كافرة أو زنيت وأنت كافر أو قذف
معتقا زنى وهو عبد أو معتقة زنت وهي أمة وقال: زنيت أو زنيت
وأنت عبد أو أنت أمة لا يحد، وكذا المكاتب والمكاتبة والكافر
الحربي إذا زنى في دار الحرب ثم أسلم، ويفهم من كلامهم أن
البلوغ والعقل كالإسلام والحرية في ذلك، فقد صرحوا فيما إذا
قال: زنيت وأنت صغيرة أو زنيت وأنت مجنون بأنه لا يحد، وكان
المدار في درء الحد الصدق في كل ذلك، ومن هنا قال في المبسوط:
إن الموطوءة إذا كانت مكرهة يسقط إحصانها ولا يحد قاذفها كما
يسقط إحصان المكره الواطئ ولا يحد قاذفه لأن الإكراه يسقط
الإثم ولا يخرج الفعل به من أن يكون زنى، لكن ذكر فيه أن من
قذف زانيا لا حد عليه سواء قذفه بذلك الزنا بعينه أو بزنى آخر
من جنسه أو أبهم في حالة القذف، ووجه أن الله تعالى أوجب الحد
على من رمى المتصف بالإحصان وبالزنا لا يبقى إحصان فلا يثبت
الحد خلافا لإبراهيم وابن أبي ليلى، نعم إذا كان القذف بزنا
تاب عنه المقذوف يعزر القاذف، وهذا يقتضي أنه لا يحتاج سقوط
الحد في المسائل السابقة إلى التقييد فليتأمل، ولو تزوج مجوسي
بأمه أو بنته ثم أسلم ففسخ النكاح فقذفه مسلم في حال إسلامه
يحد عند أبي حنيفة عليه الرحمة بناء على ما يراه من أن أنكحة
المجوس لها حكم الصحة.
(9/288)
وقال الإمامان: لا يحد بناء على أن ليس لها
حكم الصحة وهو قول الأئمة الثلاثة، ولا يعلم خلاف بين من يعتبر
الحرية في الإحصان في أنه لا حد على من قذف مكاتبا مات وترك
وفاء لتمكن الشبهة في شرط الحد وهو الإحصان لاختلاف الصحابة
رضي الله تعالى عنهم في أنه مات حرا أو عبدا وذلك يوجب درء
الحد ولأنه يدرأ بالشبهة، لا يحد من قذف أخرس فإن هناك احتمال
أن يصدقه لو نطق ولا يعول على إشارته هنا وإن قالوا: إنها تقوم
مقام عبارته في بعض الأحكام لقيام الاحتمال فيها، واشترطوا
أيضا أن يوجد الإحصان وقت الحد حتى لو ارتد المقذوف سقط الحد
ولو أسلم بعد، وكذا لو زنى أو وطئ وطأ حراما أو صار معتوها أو
أخرس وبقي ذلك لم يحد كما في كافي الحاكم، واشترطوا أيضا أن لا
يموت قبل أن يحد القاذف لأن الحد لا يورث، وأن لا يكون المقذوف
ولد القاذف أو ولد ولده فلا يحد من قذف أحدهما إلى غير ذلك مما
ستعلم بعضه إن شاء الله تعالى، ولم يصرح أكثر الفقهاء بشروط
القاذف، ويفهم من كلامهم أنه يشترط فيه أن يكون- بالغا- فلا
يحد الصبي إذا قذف ويعزر- عاقلا- فلا يحد المجنون ولا لسكران
إلا إذا سكر بمحرم- ناطقا- فلا يحد الأخرس لعدم التصريح
بالزنا، وصرح بهذا ابن الشلبي عن النهاية- طائعا- فلا يحد
المكره- قاذفا- في دار العدل. فلا يحد القاذف في دار
الحرب أو البغي، وفي الآية إشارة إلى بعض ذلك، ويحتمل أن يعد
من الشروط كونه عالما بالحرمة حقيقة أو حكما بأن يكون ناشئا في
دار الإسلام، لكن في كافي الحاكم حربي دخل دار الإسلام بأمان
فقذف مسلما يحد في قوله الأخير وهو قول صاحبيه، وظاهره أنه يحد
ولو كان قذفه في فور دخوله، ولعل وجهه أن الزنا حرام في كل ملة
فيحرم القذف به أيضا فلا يصدق بالجهل، ويشترط أن يكون القذف
بصريح الزنا بأي لسان كان كما صرح به جمع من الفقهاء وألحقوا
به بعض ألفاظ ثبت الحد بها بالأثر والإجماع فيحد بقوله: زنيت
أو زاني بياء ساكنة وكذا يا زانىء بهمزة مضمومة عند أبي حنيفة
وأبي يوسف خلافا لمحمد فلا يحد بذلك عنده لأنه حقيقة عنده في
الصعود. وتعقب بأن ذلك إنما يفهم منه إذا ذكر مقرونا بمحل
الصعود، على أنه ينبغي أن يكون المذهب أنه لو قيل مع ذكر محل
الصعود في حالة الغضب والسباب يكون قذفا، فقد جزم في المبسوط
بالحد فيما إذا قال: زنأت في الجبل أو على الجبل في حالة الغضب
ولو قال لامرأة: يا زاني حد اتفاقا، وعلله في الجوهرة بأن
الأصل في الكلام التذكير، ولو قال للرجل: يا زانية لا يحد عند
الإمام وأبي يوسف لأنه أحال كلامه فوصف الرجل بصفة المرأة،
وقال محمد: يحد لأن الهاء تدخل للمبالغة كما في علامة، وأجيب
بأن كونها للمبالغة مجاز بل هي لما عهد لها من التأنيث ولو
كانت في ذلك حقيقة فالحد لا يجب للشك، ويحد بقوله: أنت أزنى من
فلان أو مني على ما في الظهيرية وهو الظاهر، لكن في الفتح عن
المبسوط أنه لا حد في أنت أزنى من فلان أو أزنى الناس، وعلله
في الجوهرة بأن معناه أنت أقدر على الزنا، وفي الفتح بأن أفعل
في مثله يستعمل للترجيح في العلم فكأنه قال: أنت أعلم بالزنا،
ولا يخفى أن قصد ذلك في حالة السباب بعيد، وفي الخانية في أنت
أزنى الناس أو أزنى من فلان الحد، وفي أنت أزنى مني لا حد، ولا
يخفى أن التفرقة غير ظاهرة، وقد يقال: إن قوله: أنت أزنى من
فلان فيه نسبة فلان إلى الزنا وتشريك المخاطب معه في ذلك بخلاف
أنت أزنى مني لأن فيه نسبة نفسه إلى الزنا وذلك غير قذف فلا
يكون قذفا للمخاطب لأنه تشريك له فيما ليس بقذف، ويحد بلست
لأبيك لما فيه من نسبة الزنا إلى الأم ولما جاء في الأثر عن
ابن مسعود لا حد إلا في قذف محصنة أو نفي رجل من أبيه، وقيد
بكونه في حالة الغضب إذ هو في حالة الرضا يراد به المعاتبة
بنفي مشابهته له، وذكر أن مقتضى القياس أن لا حد به مطلقا
لجواز أن ينفى النسب من أبيه من غير أن تكون الأم زانية من كل
وجه بأن تكون موطوءة بشبهة ولدت في عدة الواطئ لكن ترك ذلك
للأثر، ولا حد بالتعريض كأن يقول ما أنا بزان أو ليست أمي
زانية وبه قال الشافعي وسفيان الثوري وابن شبرمة والحسن بن
صالح وهو الرواية المشهورة عن أحمد، وقال مالك وهو رواية عن
أحمد: يحد
(9/289)
بالتعريض لما روى الزهري عن سالم عن ابن
عمر قال: كان عمر رضي الله تعالى عنه يضرب الحد بالتعريض،
وعن علي كرّم الله تعالى وجهه أنه جلد رجلا بالتعريض
، ولأنه إذا عرف المراد بدليله من القرينة صار كالصريح،
وللجماعة أن الشارع لم يعتبر مثله فإنه حرم صريح خطبة المتوفى
عنها زوجها في العدة وأباح التعريض فقال سبحانه: وَلكِنْ لا
تُواعِدُوهُنَّ سِرًّا [البقرة: 235] وقال تعالى: وَلا جُناحَ
عَلَيْكُمْ فِيما عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّساءِ
أَوْ أَكْنَنْتُمْ [البقرة:
235] فإذا ثبت من الشرع عدم اتحاد حكمهما في غير الحد لم يجز
أن يعتبر مثله على وجه يوجب الحد المحتاط في درئه، وهو أولى من
الاستدلال بأنه صلّى الله عليه وسلّم لم يلزم الحد للذي قال:
يا رسول الله إن امرأتي ولدت غلاما أسود يعرض بنفسه لأن إلزام
حد القذف متوقف على الدعوى والمرأة لم تدع ذلك، ولا حد بوطئك
فلان وطأ حراما أو جامعك حراما أو فجرت بفلانة أو يا حرام زاده
أو اذهب فقل لفلان: إنك زان فذهب الرسول فقال له ذلك عنه بأن
قال: فلان يقول إنك زان لا إذا قال له: إنك زان فإنه يحد
الرسول حينئذ، واستيفاء ما فيه حد وما لا حد فيه في كتب الفقه،
وقولنا في كذا حد على إرادة إذا تحقق الشرط المفهوم من قوله
سبحانه: ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا إلخ، واشترط الإتيان بأربعة شهداء
تشديدا على القاذف، ويشترط كونهم رجالا لما صرحوا به من أنه لا
مدخل لشهادة النساء في الحدود، وظاهر إتيان التاء في العدد
مشعر باشتراط كونهم كذلك، ولا يشترط فيهم العدالة ليلزم من عدم
الإتيان بأربعة شهداء عدول الجلد لما صرح به في الملتقط من أنه
لو أتى بأربعة فساق فشهدوا أن الأمر كما قال درىء الحد عن
القاذف والمقذوف والشهود، ووجه ذلك أن في الفاسق نوع قصور وإن
كان من أهل الأداء والتحمل ولذا لو قضى بشهادته نفذ عندنا
فيثبت بشهادتهم شبهة الزنا فيسقط الحد عنهم وعن القاذف وكذا عن
المقذوف لاشتراط العدالة في الثبوت، ولو كانوا عميانا أو عبيدا
أو محدودين في قذف فإنهم يحدون للقذف دون المشهود عليه لعدم
أهلية الشهادة فيهم كما قيل.
والظاهر أن القاذف يحد أيضا لأن الشهود إذا حدوا مع أنهم إنما
تكلموا على وجه الشهادة دون القذف فحد القاذف أولى، والظاهر أن
المراد ثم لم يأتوا بأربعة شهداء يشهدون على من رمي بأنه زنى،
والمتبادر أن يكون ذلك عن معاينة لكن قال في الفتح: لو شهد
رجلان أو رجل وامرأتان على إقرار المقذوف بالزنا يدرأ عن
القاذف الحد وكذا عن الثلاثة أي الرجل والمرأتين لأن الثابت
بالبينة كالثابت فكأنا سمعنا إقراره بالزنا انتهى.
وأنت تعلم أن البينة على الإقرار لا تعتبر بالنسبة إلى حد
المقذوف لأنه إن كان منكرا فقد رجع بالإنكار عن الإقرار وهو
موجب لدرء الحد فتلغو البينة، وإن أقر بشرطه لا تسمع فإنها
إنما تسمع مع الإقرار في سبعة مواضع ليس هذا الموضع منها،
ويشترط اجتماع شهود الزنا في مجلس الحاكم بأن يأتوا إليه
مجتمعين أو فرادى ويجتمعوا فيه ويقوم منهم إلى الحاكم واحد بعد
واحد فإن لم يأتوا كذلك بأن أتوا متفرقين أو اجتمعوا خارج مجلس
الحاكم ودخلوا واحدا بعد واحد لم تعتبر شهادتهم وحدوا حد
القذف.
والظاهر أنه يجوز أن يكون أحد الشهود زوج المقذوفة لاندراجه في
أربعة شُهَداءَ وبه قال أبو حنيفة وأصحابه وروي ذلك عن الحسن
والشعبي وقال مالك والشافعي: يلاعن الزوج وتحد الثلاثة، وروي
مثله عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، وظاهر الآية أنه إذا
لم يأت القاذف بتمام العدة بأن أتى باثنين أو ثلاثة منها جلد
وحده ولا يجلد الشاهد إلا أن المأثور جلده، فقد روي أنه شهد
على المغيرة بالزنا شبل بن معبد البجلي وأبو بكرة وأخوه نافع
وتوقف زياد فحد الثلاثة عمر رضي الله تعالى عنه بمحضر من
الصحابة رضي الله تعالى عنهم ولم ينكروا عليه وهم هم وفي كلمة
ثُمَّ إشعار بجواز تأخير الإتيان بالشهود كما أن في كلمة لَمْ
إشارة إلى تحقق العجز عن الإتيان بهم وتقرره.
(9/290)
وفي غير كتاب من كتب الفروع لأصحابنا أن
القاذف إذا عجز عن الشهود للحال واستأجل لإحضارهم زاعما أنهم
في المصر يؤجل مقدار قيام الحاكم من مجلسه فإن عجز حد ولا يكفل
ليذهب لطلبهم بل يحبس ويقال: ابعث إليهم من يحضرهم عند الإمام،
وأبي يوسف في أحد قوليه لأن سبب وجوب الحد ظهر عند الحاكم فلا
يكون له أن يؤخر الحد لتضرر المقذوف بتأخير دفع العار عنه
والتأخير مقدار قيامه من المجلس قليل لا يتضرر به، وفي قول أبي
يوسف الآخر وهو قول محمد يكفل أي بالنفس إلى ثلاثة أيام.
وكان أبو بكر الرازي يقول: مراد أبي حنيفة أن الحاكم لا يجبره
على إعطاء الكفيل فأما إذا سمحت نفسه به فلا بأس لأن تسليم
نفسه مستحق عليه والكفيل بالنفس إنما يطالب بهذا القدر، وذكر
ابن رستم عن محمد أنه إذا لم يكن له من يأتي بالشهود يبعث معه
الحاكم واحدا ليرده عليه، والأمر في قوله سبحانه:
فَاجْلِدُوهُمْ لولاة الأمر ونوابهم.
والظاهر وجوب الجلد إن لم يطالب المقذوف وبه قال ابن ليلى،
وقال أبو حنيفة وأصحابه والأوزاعي والشافعي: لا يحد إلا
بمطالبته. وقال مالك: كذلك إلا أن يكون الإمام سمعه يقذفه
فيحده إن كان مع الإمام شهود عدول وإن لم يطالب المقذوف كذا
قال أبو حيان وللمقذوف المطالبة وإن كان آمرا للقاذف بقذفه لأن
بالأمر لا يسقط الحد كما نقل الحصكفي ذلك عن شرح التكملة ثم لا
يخفى أن القول بأن القاذف لا يحد إلا بمطالبة المقذوف ظاهر في
أن الحد حق العبد ويشهد لذلك أحكام كثيرة ذكرها أصحابنا. منها
أنه لا تبطل الشهادة على ما يوجبه بالتقادم، ومنها أنه لا
يدفعه الرجوع عن الإقرار بموجبه. ومنها أنه يقام على المستأمن
وإنما يؤاخذ المستأمن بما هو من حقوق العباد، ومنها أنه يقدم
استيفاؤه على استيفاء حد الزنا وحد السرقة وشرب الخمر ومنها
أنه يقيمه القاضي بعلمه إذا علمه في أيام قضائه ولذا لو قذف
بحضرته يحده.
وعندنا أحكام تشهد بأنه حق الله عز وجل. منها أن استيفاءه إلى
الإمام وهو إنّما يتعين نائبا في استيفاء حق الله تعالى وأما
حق العبد فاستيفاؤه إليه. ومنها أنه لا يحلف القاذف إذا أنكر
سببه وهو القذف ولم تقم عليه بينة. ومنها أنه لا ينقلب مالا
عند السقوط. ومنها أنه يتصف بالرق كسائر العقوبات الواجبة حقا
له عز وجل، وذكر ابن الهمام أنه لا خلاف في أن فيه حق الله
تعالى وحق العبد إلا أن الشافعي مال إلى تغليب حق العبد
باعتبار حاجته وغنى الحق سبحانه وتعالى ونحن صرنا إلى تغليب حق
الله تعالى لأن ما للعبد من الحقوق يتولى استيفاءه مولاه فيصير
حق العبد موجبا لتغليب حق الله تعالى لا مهدرا ولا كذلك عكسه
أي لو غلب حق العبد لزم أن لا يستوفي حق الله عز وجل إلا بأن
يجعل ولاية استيفائه إليه وذلك لا يجوز إلا بدليل ينصبه الشرع
على إنابة العبد في الاستيفاء ولم يثبت ذلك بل الثابت هو
استنابة الإمام حتى كان هو الذي يستوفيه كسائر الحدود التي هي
حقه سبحانه وتعالى. ويتفرع على الخلاف أن من ثبت أنه قذف فمات
قبل إقامة الحد على القاذف لا يورث عنه إقامة الحدّ عندنا إذ
الإرث يجري في حقوق العباد بشرط كونها مالا أو ما يتصل بالمال
(1) أو ما ينقلب إليه (2) وتورث عنده، وأن الحد لا يسقط عندنا
بعد ثبوته إلا أن يقول المقذوف: لم يقذفني أو كذب شهودي وحينئذ
يظهر أن القذف لم يقع موجبا للحد لا أنه وقع ثم سقط بقوله ذلك
وهو كما إذا صدقه المقذوف، وقال زين الدين: إن المقذوف إذا عفا
لم يكن للإمام استيفاء الحد
__________
(1) كالكفالة.
(2) كالقصاص.
(9/291)
لعدم الطلب فإذا عاد وطلب يقيمه ويلغو
العفو، وعند الشافعي يصح العفو وعن أبي يوسف مثله، وكأن المراد
أنه إذا عفا سقط الحد ولا ينفع العود إلى المطالبة وأنه لا
يجوز الاعتياض عنه عندنا وبه قال مالك، وعنده يجوز وهو قول
أحمد وأنه يجري فيه التداخل عندنا لا عنده وبقولنا قال مالك
والثوري والشعبي والنخعي والزهري وقتادة وطاوس وحماد وأحمد في
رواية حتى إذا حد إلا سوطا فقذف آخر فإنه يتم الأول ولا شيء
للثاني.
وكذا إذا قذف واحدا مرات أو جماعة بكلمة مثل أنتم زناة أو
بكلمات مثل أنت يا زيد زان وأنت يا عمرو زان وأنت يا بشر زان
في يوم أو أيام يحد حدا واحدا إذا لم يتخلل حد بين القذفين.
ووافقنا الشافعي في الحد الواحد لقاذف جماعة بكلمة مرة واحدة،
وفي الظهيرية من قذف إنسانا فحد ثم قذفه ثانيا لم يحد، والأصل
فيه ما روي أن أبا بكرة لما شهد على المغيرة فحد لما سمعت كان
يقول بعد ذلك في المحافل: أشهد إن المغيرة لزان فأراد عمر رضي
الله تعالى عنه أن يحده ثانيا فمنعه علي كرم الله تعالى وجهه
فرجع إلى قوله وصارت المسألة إجماعا اهـ، والظاهر أن هذا فيما
إذا قذفه ثانيا بالزنا الأول أو أطلق لحمل إطلاقه على الأول
لأن المحدود بالقذف يكرر كلامه لإظهار صدقه فيما حد به كما فعل
أبو بكرة فإنه لم يرد أن المغيرة لزان أنه زان غير الزنا
الأول، أما إذا قذفه بعد الحد بزنا آخر فإنه يحد به كما في
الفتح.
وذكر صدر الإسلام أبو اليسر في مبسوطه الصحيح أن الغالب في هذا
الحد حق العبد كما قال الشافعي لأن أكثر الأحكام تدل عليه
والمعقول يشهد له وهو أن العبد ينتفع به على الخصوص، وقد نص
محمد في الأصل على أن حد القذف كالقصاص حق العبد، وتفويضه إلى
الإمام لأن كل أحد لا يهتدي إلى إقامته ولأنه ربما يريد
المقذوف موته لحنقه فيقع متلفا، وإنما لا يورث لأنه مجرد حق
ليس مالا ولا بمنزلته فهو كخيار الشرط وحق الشفعة بخلاف القصاص
فإنه ينقلب إلى المال، وأيضا هو في معنى ملك العين لأن من له
القصاص يملك إتلاف العين وملك الإتلاف ملك العين عند الناس
فصار من عليه القصاص كالملك لمن له القصاص فيملكه الوارث في حق
استيفاء القصاص، وإنما لا يصح عفوه لأنه متعنت فيه لأنه رضا
بالعار والرضا بالعار عار ولا يخفى ما في ذلك من الأبحاث.
والشافعي يستدل بالآية لعدم التدخل فإن مقتضاها ترتب الحكم على
الوصف المشعر بالعلية فيتكرر بتكرره ويجاب بأن الإجماع لما كان
على دفع الحدود بالشبهات كان مقيدا لما اقتضته الآية من التكرر
عند التكرر بالتكرر الواقع من بعد الحد الأول بل هذا ضروري
لظهور أن المخاطبين بالإقامة في قوله تعالى: فَاجْلِدُوهُمْ هم
الحكام ولا يتعلق بهم هذا الخطاب إلا بعد الثبوت عندهم فكان
حاصل الآية إيجاب الحد إذا ثبت عندهم السبب وهو الرمي وهو أعم
من كونه بوصف الكثرة أو القلة فإذا ثبت وقوعه منه كثيرا كان
موجبا للجلد ثمانين ليس غير فإذا جلد ذلك وقع الامتثال، ثم هو
عليه الرحمة ترك مقتضى التكرر بالتكرر فيما إذا قذف واحدا مرة
ثم قذفه ثانيا بذلك الزنا فإنه لا يحد مرتين عنده أيضا، وكذا
في حد الزنا والشرب فإنه إذا زنى ألف مرة أو شرب كذلك لا يحد
إلا مرة، فالحق أن استدلاله بالآية لا يخلص فإنه ملجىء إلى ترك
منها من آية أخرى وهي آية حد الزنا فيعود إلى أن هذا حق آدمي
بخلاف الزنا فكان المبني هو إثبات أنه حق الله عز وجل أو حق
العبد، والنظر الدقيق يقتضي أن الغالب فيه حق الله سبحانه
وتعالى فتدبر.
ثم الظاهر أن الرمي المراد في الآية لا يتوقف على حضور المرمي
وخطابه فقذف المحصن حاضرا أو غائبا له الحكم المذكور كما في
التتار خانية نقلا عن المضمرات واعتمده في الدرر، ويدل على أن
الغيبة كالحضور حده صلّى الله عليه وسلّم أهل الإفك مع أنه لم
يشافه أحد منهم به من نزهها الله تعالى عنه، فما في حاوي
الزاهدي سمع من أناس كثيرة أن
(9/292)
فلانا يزني بفلانة فتكلم بما سمعه منهم مع
آخر في غيبة فلان لا يجب حد القذف لأنه غيبة لا رمي وقذف
بالزنا لأن الرمي والقذف به إنما يكون بالخطاب كقوله: يا زاني
يا زانية ضعيف لا يعول عليه.
والظاهر أيضا أنه لا فرق بين رمي الحي ورمي الميت فإذا قال:
أبوك زان أو أمك زانية كان قاذفا ويحد عند تحقق الشرط لا لو
قال: جدك زان فإنه لا حد عليه لما في الظهيرية من أنه لا يدري
أي جد هو، وفي الفتح لأن في أجداده من هو كافر فلا يكون قاذفا
ما لم يعين محصنا. ويطالب بحد القذف للميت من يقع القدح في
نسبه بالقذف وهو الوالد وإن علا والولد وإن سفل، ولا يطالبان
عن غائب خلافا لابن أبي ليلى لعدم اليأس عن مطالبته ولأنه يجوز
أن يصدق القاذف، وولد البنت كولد الابن في هذا الفصل خلافا لما
روي عن محمد، وتثبت المطالبة للمحروم عن الميراث بقتل أو رق أو
كفر، نعم ليس للعبد أن يطالب مولاه بقذف أمه الحرة التي قذفها
في حال موتها، وعند زفر إذا كان الولد عبدا أو كافرا لا حق له
فيها مطلقا، وتثبت للأبعد مع وجود الأقرب فيطالب ولد الولد مع
وجود الولد خلافا لزفر ولو عفا بعضهم كان لغيره المطالبة لأنها
لدفع العار عن نفسه، والأم كالأب تطالب بحد قذف ولدها لا أم
الأم وأبوها، ولا يطالب الابن أباه وجده وإن علا بقذف أمه وهو
قول الشافعي وأحمد ورواية عن مالك، والمشهور عنه أن للابن أن
يطالب الأب بقذف الأم فيقيم عليه الحد وهو قول أبي ثور وابن
المنذر لعموم الآية أو إطلاقها ولأنه حد هو حق الله عز وجل ولا
يمنع من إقامته قرابة الولاد.
وأجيب بأن عموم قوله تعالى: فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ
[الإسراء: 23] مانع من إقامة الولد الحد على أبيه ولا فائدة
للمطالبة سوى ذلك والمانع مقدم
وقد صح أنه صلّى الله عليه وسلّم قال: «لا يقاد الوالد بولده
ولا السيد بعبده»
وأجمعوا على أنه لا يقتص منه بقتل ولده ولا شك أن إهدار جنايته
على نفس الولد توجب إهدارها في عرضه بطريق الأولى مع أن القصاص
متيقن سببه والمغلب فيه حق العبد بخلاف حد القذف فيهما، ولا حق
لأخي الميت وعمه وعمته وخاله وخالته في المطالبة بحد قذفه.
وعند الشافعي ومالك عليهما الرحمة تثبت المطالبة لكل وارث وهو
رواية غريبة عن محمد، وللشافعية فيمن يرثه ثلاثة أوجه، الأول
جميع الورثة. والثاني غير الوارث بالزوجية. والثالث ذكور
العصبات لا غير. والظاهر أن مطالبة من له المطالبة بالحد غير
واجبة عليه بل في التتار خانية وحسن أن لا يرفع القاذف إلى
القاضي ولا يطالب بالحد وحسن من الإمام أن يقول للمطالب أعرض
عنه ودعه اهـ.
وكأنه لا فرق في هذا بين أن يعلم الطالب صدق القاذف وأن يعلم
كذبه وما نقل في القنية من أن المقذوف إذا كان غير عفيف في
السر له مطالبة القاذف ديانة فيه نظر لا يخفى، وظاهر الآية أنه
لا فرق بين أن يكون الرامي حرا وأن يكون عبدا فيجلد كل منهما
إذا قذف وتحقق الشرط ثمانين جلدة، وبذلك قال عبد الله بن مسعود
والأوزاعي وجمهور الأئمة على أن العبد ينصف له الحد لما علمت
أول السورة وإذا أريد إقامة الحد على القاذف لا يجرد من ثيابه
إلا في قول مالك لأن سببه هو النسبة إلى الزنا كذبا غير مقطوع
به لجواز كونه صادقا غير أنه عاجز عن البيان.
نعم ينزع عنه الفرو والثوب المحشو لأنهما يمنعان من وصول الألم
إليه كذا في عامة الكتب، ومقتضاه أنه لو كان عليه ثوب ذو بطانة
غير محشو لا ينزع، والظاهر كما في الفتح أنه لو كان هذا الثوب
فوق قميص نزع لأنه يصير مع القميص كالمحشو أو قريبا من ذلك
ويمنع إيصال الألم وكيف لا والضرب هنا أخف من ضرب الزنا، هذا
وقرأ أبو
(9/293)
زرعة وعبد الله بن مسلم «بأربعة» بالتنوين
فشهداء بدل أو صفة، وقيل حال أو تمييز وليس بذاك، وهي قراءة
فصيحة ورجحها ابن جني على قراءة الجمهور بناء على إطلاق قولهم:
إنه إذا اجتمع اسم العدد والصفة كان الإتباع أجود من الإضافة.
وتعقب بأن ذاك إذا لم تجر الصفة مجرى الأسماء في مباشرتها
العوامل وأما إذا جرت ذلك المجرى فحكمها حكمها في العدد وغيره
غاية ما في الباب أنه يجوز فيها الإبدال بعد العدد نظرا إلى
أنها غير متمحضة الاسمية وشُهَداءَ من ذلك القبيل. فأربعة
شهداء. بالإضافة أفصح من «أربعة شهداء» بالتنوين والاتباع.
وقال ابن عطية:
وسيبويه يرى أن تنوين العدد وترك إضافته إنما يجوز في الشعر
انتهى، وكأنه أراد الطعن في هذه القراءة على هذا القول، وفيه
أن سيبويه إنما يرى ذلك في العدد الذي بعده اسم نحو ثلاثة رجال
دون الذي بعده صفة فإنه على التفصيل الذي ذكر كما قال أبو
حيان.
وقوله سبحانه: وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أَبَداً أي مدة
حياتهم كما هو الظاهر عطف على فَاجْلِدُوا داخل في حكمه تتمة
له كأنه قيل: فاجلدوهم وردوا شهادتهم أي فاجمعوا لهم الجلد
والرد، ورد شهادتهم عند الإمام أبي حنيفة عليه الرحمة معلق
باستيفاء الجلد فلو شهدوا قبل الجلد أو قبل تمام استيفائه قبلت
شهادتهم، وقيل: ترد إذا ضربوا سوطا، وقيل: ترد إذا أقيم عليهم
الأكثر، ومن الغريب ما روى ابن الهمام عن مالك أنه مع قوله: إن
للابن أن يطالب بحد والده إذا قذف أمه قال: إنه إذا حد الأب
سقطت عدالة الابن لمباشرته سبب عقوبة أبيه أي وكذا عدالة الأب
وهذا ظاهر، وقوله تعالى: وَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ كلام
مستأنف مبين لسوء حالهم في حكم الله عز وجل، وما في اسم
الإشارة من معنى البعد للإيذان ببعد منزلتهم في الشر والفساد
أي أولئك هم المحكوم عليهم بالفسق والخروج عن الطاعة والتجاوز
عن الحدود الكاملون فيه كأنهم المستحقون لإطلاق اسم الفاسق
عليهم لا غيرهم من الفسقة، ويعلم مما أشرنا إليه أنهم فسقة عند
الشرع الحاكم بالظاهر لا أنهم كذلك في نفس الأمر وعند الله عز
وجل العالم بالسرائر لاحتمال صدقهم مع عجزهم عن الإتيان
بالشهداء كما لا يخفى، وصرح بهذا بعض المفسرين.
وجوز أن يكون المراد الإخبار عن فسقهم عند الله تعالى وفي
علمه، ووجهه إذا كانوا كاذبين ظاهر، وأما وجهه إذا كانوا
صادقين فهو أنهم هتكوا ستر المؤمنين وأوقعوا السامع في الشك من
غير مصلحة دينية بذلك والعرض مما أمر الله تعالى بصونه إذا لم
يتعلق بهتكه مصلحة فكانوا فسقة غير ممتثلين أمره عز وجل، ولا
يخفى حسن حمل الآية على هذا المعنى وهو أوفق لما ذكره الحصكفي
في شرح الملتقى نقلا عن النجم الغزي من أن الرمي بالزنا من
الكبائر وإن كان الرامي صادقا ولا شهود له عليه ولو من الوالد
لولده وإن لم يحد به بل يعزر ولو غير محصن وشرط الفقهاء
الإحصان إنما هو لوجوب الحد لا لكونه كبيرة،
وقد روى الطبراني عن واثلة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه
قال: «من قذف ذميا حد له يوم القيامة بسياط من نار»
وهذه مسألة مختلف فيها، ففي شرح جمع الجوامع للعلامة المحلي
قال الحليمي:
قذف الصغيرة والمملوكة والحرة المتهتكة من الصغائر لأن الإيذاء
في قذفهن دونه الحرة الكبيرة المستترة، وقال ابن عبد السلام:
قذف المحصن في خلوة بحيث لا يسمعه إلا الله تعالى والحفظة ليس
بكبيرة موجبة للحد لانتفاء المفسدة أما قذف الرجل زوجته إذا
أتت بولد يعلم أنه ليس منه فمباح، وكذا جرح الراوي والشاهد
بالزنا إذا علم بل هو واجب انتهى، وظاهر ما نقل عن ابن عبد
السلام ففي إيجاب الحد لا نفي كونه كبيرة أيضا لشيوع توجه
النفي إلى القيد في مثله، وإن قلنا: إنه هنا لنفي القيد
والمقيد فهو ظاهر كما قال الزركشي فيما إذا كان صادقا لا فيما
إذا كان كاذبا لجرأته على الله تعالى جل شأنه فهو كبيرة وإن
كان في الخلوة، ولعل ما ذكره من وجوب جرح الشاهد بالزنا
(9/294)
إذا علم مقيد بما إذا قدر على الإتيان
بالشهود، والأولى عندي فيما إذا كان الضرر في قبول شهادته عليه
يسيرا عدم الجرح بذلك وإن قدر على إثباته، وما ذكره في جرح
الراوي لا يتم فيما أرى على رأي من يعتبر الجرح المجرد عن بيان
السبب، ولا يبعد القول بأن الرمي منه ما هو كفر كرمي عائشة رضي
الله تعالى عنها سواء كان جهرا أو سرا وسواء كان بخصوص الذي
برأها الله تعالى منه أو بغيره وكذا رمي سائر أمهات المؤمنين
رضي الله تعالى عنهن وكذا القول في مريم عليها السلام، ومنه ما
هو كبيرة دون الكفر ومثاله ظاهر، ومنه ما هو صغيرة كرمي
المملوكة والصغيرة، ومنه ما هو واجب كرمي شاهد على مسلم معصوم
الدم بما يكون سببا لقتله لو قبلت شهادته وعلم كونها زورا
وتعين ذلك لرد شهادته وصيانة ذلك المسلم من القتل ولو كان رميه
مع إقامة البينة عليه بالزنا موجبا لرجمه، ومنه ما هو سنة كرمي
ترتبت عليه مصلحة دون مصلحة الرمي الواجب، وقوله تعالى: إِلَّا
الَّذِينَ تابُوا أي رجعوا عما قالوا وندموا على ما تكلموا
استثناء من الفاسقين كما صرح به أكثر الأصحاب، وقال بعضهم:
المستثنى منه في الحقيقة أُولئِكَ وسيأتي إن شاء الله تعالى ما
يتعلق بذلك، ومحل المستثنى النصب لأنه عن موجب، وقوله عز وجل:
مِنْ بَعْدِ ذلِكَ لتهويل المتوب عنه أي من بعد ما اقترفوا ذلك
الذنب العظيم الهائل، وقوله تعالى: وَأَصْلَحُوا على معنى
وأصلحوا أعمالهم بالاستحلال ممن رموه. وهذا ظاهر إن كان قد بقي
حيا فإن كان قد مات فلعل الاستغفار له يقوم مقام الاستحلال منه
كما قيل في نظير المسألة. فإن كانوا قد رموا أمواتا فالظاهر
أنهم يستحلون ممن خاصمهم وطلب إقامة الحد عليهم، ويحتمل أن
يغني عنه الاستغفار لمن رموه. والجمع بين الاستحلال من أولئك
المخاصمين والاستغفار للمرميين أولى ولم أر من تعرض لذلك.
وكون الاستثناء من الجملة الأخيرة مذهب الحنفية فعندهم لا تقبل
شهادة المحدود في قذف وإن تاب وأصلح لكن قالوا: إن حد الكافر
ثم أسلم قبلت شهادته وإن لم تكن تقبل قبل على أهل الذمة، ووجهه
أن النص موجب لرد شهادته الناشئة عن أهليته الثابتة له عند
القذف ولذا قيل: وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً دون ولا
تقبلوا شهادتهم أي ولا تقبلوا منهم شهادة من الشهادات حال
كونها حاصلة لهم عند الرمي والشهادة التي كانت حاصلة للكافر
عند الرمي هي الشهادة على أبناء جنسه فتدخل تحت الرد، وأما
الشهادة التي اعتبرت بعد الإسلام فغير تلك الشهادة ولهذا قبلت
على أهل الإسلام وغيرهم فلم تدخل تحت الرد، وهذا بخلاف العبد
إذا حد في قذف ثم أعتق فإنه لا تقبل شهادته لأنه لم تكن له
شهادة من قبل للرق فلزم كون تتميم حده بر شهادته التي تجددت
له، وقد طلب الفرق بينه وبين من زنى في دار الحرب ثم خرج إلى
دار الإسلام فإنه لا يحد حيث توقف حكم الموجب في العبد إلى أن
أمكن ولم يتوقف في الزنا في دار الحرب إلى الإمكان بالخروج إلى
دار الإسلام.
وأجيب بأن الزنا في دار الحرب لم يقع موجبا أصلا لعدم قدرة
الإمام فلم يكن الإمام مخاطبا بإقامته أصلا لأن القدرة شرط
التكليف فلو حد بعد خروجه من غير سبب آخر كان بلا موجب وغير
الموجب لا ينقلب موجبا بنفسه خصوصا في الحد المطلوب درؤه، وأما
قذف العبد فموجب حال صدوره للحد غير أنه لم يكن تمامه في الحال
فتوقف تتميمه على حدوث ذلك بعد العتق كذا قيل، وقال في المبسوط
في الفرق بين الكافر إذا أسلم بعد الحد والعبد إذا أعتق بعده:
إن الكافر استفاد بالإسلام عدالة لم تكن موجودة له عند إقامة
الحد وهذه العدالة لم تكن مجروحة بخلاف العبد فإنه بالعتق لا
يستفيد عدالة لم تكن من قبل وقد صارت عدالته مجروحة بإقامة
الحد، ثم لا فرق في العبد بين أن يكون حد ثم أعتق وبين أن يكون
أعتق ثم حد حيث لم تقبل شهادته في الصورتين، وأما الكافر فإنه
لو قذف محصنا ثم أسلم ثم حد لا تقبل شهادته، ومقتضى الآية عدم
قبول كل شهادة للمحدود حادثة كانت أو
(9/295)
قديمة لما أن شَهادَةً نكرة وهي واقعة في
حيز النهي فتفيد العموم كالنكرة الواقعة في حيز النفي، وهذا
يعكر على ما مر من قبول شهادة الكافر المحدود إذا أسلم، وأجاب
العلامة ابن الهمام بأن التكليف بما في الوسع وقد كلف الحكام
برد شهادته فالامتثال إنما يتحقق برد شهادة قائمة فحيث ردت
تحقق الامتثال وتم وقد حدثت أخرى فلو ردت كانت غير مقتضى إذ
الموجب أخذ مقتضاه وللبحث فيه مجال، ومقتضى العموم أيضا عدم
قبول شهادة المحدود في الديانات غيرها وهي رواية المنتقى، وفي
رواية أخرى أنها تقبل في الديانات وكأنهم اعتبروها رواية وخبرا
لا شهادة ورب شخص ترد شهادته وتقبل روايته، وأورد على العموم
أنهم اكتفوا في النكاح بشهادة المحدودين.
وأجيب بأن الشهادة هناك بمعنى الحضور وإنما يكتفى به في انعقاد
النكاح وقد صرحوا بأن للنكاح حكمين حكم الانعقاد وحكم الإظهار
ولا يقبل في الثاني إلا شهادة من تقبل شهادته في سائر الأحكام
كما في شرح الطحاوي والحاصل أن الآية تدل على وجوب رد شهادة
المحدود على الحكام بمعنى أنه إذا شهد عندهم على حكم وجب عليهم
رد شهادته ويندرج في ذلك شهادته في النكاح لأنه يشهد عندهم إذا
وقع التجاحد فلا يعكر على العموم اعتبار حضوره مجلس النكاح في
صحة انعقاده إذ ذلك أمر وراء ما نحن فيه كذا قيل فليتدبر، وذهب
الشافعي إلى قبول شهادة المحدود إذا تاب، والمراد بتوبته أن
يكذب نفسه في قذفه، ومبنى الخلاف على المشهور الخلاف فيما إذا
جاء استثناء بعد جمل مقترنة بالواو هل ينصرف للجملة الأخيرة أو
إلى الكل أو هناك تفصيل فالذي ذهب إليه أصحاب الشافعي انصرافه
إلى الكل، والذي ذهب إليه أصحاب أبي حنيفة انصرافه للجملة
الأخيرة، وقال القاضي عبد الجبار وأبو الحسين البصري وجماعة من
المعتزلة إن كان الشروع في الجملة الثانية إضرابا عن الأولى
ولا يضمر فيها شيء مما في الأولى فالاستثناء مختص بالجملة
الأخيرة لأن الظاهر أنه لم ينتقل عن الجملة الأولى مع
استقلالها بنفسها إلى غيرها إلا وقد تم مقصوده منها وذلك على
أربعة أقسام، الأول أن تختلف الجملتان نوعا كما لو قال: أكرم
بني تميم والنحاة البصريون إلا البغاددة إذ الجملة الأولى أمر
والثانية خبر، الثاني أن يتحدا نوعا ويختلفا اسما وحكما كما لو
قال: أكرم بني تميم واضرب ربيعة إلا الطوال إذ هما أمران،
الثالث أن يتحدا نوعا ويشتركا حكما لا اسما كما لو قال:
سلم على بني تميم وسلم على بني ربيعة إلا الطوال، الرابع أن
يتحدا نوعا ويشتركا اسما لا حكما ولا يشترك الحكمان في غرض من
الأغراض كما لو قال: سلم علي بني تميم واستأجر بني تميم إلا
الطوال، وقوة اقتضاء اختصاص الاستثناء بالجملة الأخيرة في هذه
الأقسام على هذا الترتيب وإن لم يكن الشروع في الجملة الثانية
إضرابا عن الأولى بأن كان بين الجملتين نوع تعلق فالاستثناء
ينصرف إلى الكل وذلك على أربعة أقسام، الأول أن يتحد الجملتان
نوعا واسما لا حكما غير أن الحكمين قد اشتركا في غرض واحد كما
لو قال: أكرم بني تميم وسلم على بني تميم إلا الطوال
لاشتراكهما في غرض الإعظام، الثاني أن يتحد الجملتان نوعا
ويختلفا حكما واسم الأولى مضمر في الثانية كما لو قال: أكرم
بني تميم واستأجرهم إلا الطوال، الثالث بعكس ما قبله كما لو
قال: أكرم بني تميم وربيعة إلا الطوال، الرابع أن يختلف نوع
الجمل إلا أنه قد أضمر في الأخيرة ما تقدم أو كان غرض الأحكام
المختلفة فيها واحدا، وجعل آية الرمي التي نحن فيها من ذلك حيث
قيل: إن جملها مختلفة النوع من حيث إن قوله تعالى:
فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً أمر وقوله سبحانه: وَلا
تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أَبَداً نهي وقوله جل وعلا:
وَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ خبر وهي داخلة أيضا تحت القسم
الأول من هذه الأقسام الأربعة لاشتراك أحكام هذه الجمل في غرض
الانتقام والإهانة وداخلة أيضا تحت القسم الثاني من جهة إضمار
الاسم المتقدم فيها، وذهب الشريف المرتضى من الشيعة إلى القول
بالاشتراك وذهب القاضي أبو بكر والغزالي وجماعة إلى الوقف،
وقال الآمدي: المختار أنه مهما ظهر كون الواو للابتداء
فالاستثناء يكون مختصا بالجملة الأخيرة كما في القسم الأول من
الأقسام الثمانية لعدم تعلق إحدى
(9/296)
الجملتين بالأخرى وهو ظاهر وحيث أمكن أن
تكون الواو للعطف أو للابتداء كما في باقي الأقسام السبعة
فالواجب الوقف، وذكر حجج المذاهب بما لها وعليها في الأحكام،
وفي التلويح وغيره أنه لا خلاف في جواز رجوع الاستثناء إلى كل
وإنما الخلاف في الأظهر وفيه نظر فإن بعض حجج القائلين برجوعه
إلى الجملة الأخيرة قد استدل بما يدل على عدم جواز رجوعه
للجميع، قال القلانسي: إن نصب ما بعد الاستثناء في الإثبات
إنما كان بالفعل المتقدم بإعانة إلا على ما ذهب إليه أكابر
البصريين فلو قيل برجوعه إلى الجميع لكان ما بعد إلا منتصبا
بالأفعال المقدرة في كل جملة ويلزم منه اجتماع عاملين على
معمول واحد وذلك لا يجوز لأنه بتقدير مضادة أحدهما للآخر في
العمل يلزم أن يكون المعمول الواحد مرفوعا منصوبا معا وهو محال
ولأنه إن كان كل منهما مستقلا في العمل لزم عدم استقلاله ضرورة
أنه لا معنى لكون كل مستقلا إلا أن الحكم ثبت به دون غيره وإن
لم يكن كل منهما مستقلا لزم خلاف المفروض، وإن كان المستقل
البعض دون البعض لزم الترجيح بلا مرجح، ووجه دلالته وإن بحث
فيه على عدم جواز رجوعه للجميع ظاهر وكما اختلف الأصوليون في
ذلك اختلف النحاة فيه ففي شرح اللمع أنه يختص بالأخيرة وأن
تعليقه بالجميع خطأ للزوم تعدد العامل في معمول واحد إلا على
القول بأن العامل إلا أو تمام الكلام.
وقال أبو حيان: لم أر من تكلم على هذه المسألة من النحاة غير
المهاباذي وابن مالك فاختار ابن مالك عود الاستثناء إلى الجمل
كلها كالشرط، واختار المهاباذي عوده إلى الجملة الأخيرة، وقال
الولي بن العراقي: لم يطلق ابن مالك عوده إلى الجمل كلها بل
استثنى من ذلك ما إذا اختلف العامل والمعمول كقولك: اكس
الفقراء وأطعم أبناء السبيل إلا من كان مبتدعا فقال في هذه
الصورة: إنه يعود إلى الأخيرة خاصة، ونقل عن أبي علي الفارسي
القول برجوعه إلى الأخيرة مطلقا وهذا كقول الحنفية في المشهور،
والحق أنهم إنما يقولون برجوعه إلى الأخيرة فقط إذا تجرد
الكلام عن دليل رجوعه إلى الكل أما إذا وجد الدليل عمل به وذلك
كما في قوله تعالى في المحاربين: أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ
يُصَلَّبُوا إلى قوله سبحانه: إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ
قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فإن قوله تعالى: مِنْ
قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ [المائدة: 33، 34] يقتضي
رجوعه إلى الكل فإنه لو عاد إلى الأخيرة أعني قوله سبحانه:
وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ لم يبق للتقييد بذلك فائدة للعلم لأن
التوبة تسقط العذاب فليس فائدة «من قبل» إلخ إلا سقوط الحد
وعلى مثل ذلك ينبغي حمل قول الشافعية بأن يقال: إنهم أرادوا
رجوع الاستثناء إلى الكل إذا لم يكن دليل يقتضي رجوعه إلى
الأخيرة.
وذكر بعض أجلة المحققين أن الحنفية إنما قالوا برجوع الاستثناء
إلى الجملة الأخيرة هنا لأن الجملتين الأوليين وردتا جزاء
لأنهما أخرجتا بلفظ الطلب مخاطبا بهما الأئمة ولا يضر
اختلافهما أمرا ونهيا والجملة الأخيرة مستأنفة بصيغة الإخبار
دفعا لتوهم استبعاد كون القذف سببا لوجوب العقوبة التي تندرئ
بالشبهة وهي قائمة هنا لأن القذف خبر يحتمل الصدق وربما يكون
حسبة، ووجه الدفع أنهم فسقوا بهتك ستر العفة بلا فائدة حيث
عجزوا عن الإثبات فلذا استحقوا العقوبة وحيث كانت مستأنفة توجه
الاستثناء إليها.
ونقل عن الشافعي أنه جعل وَلا تَقْبَلُوا استئنافا منقطعا عن
الجملة السابقة وأبى أن يكون من تتمة الحد لأنه لا مناسبة بين
الجلد وعدم قبول الشهادة وجعل الاستثناء مصروفا إليه بجعل من
تاب مستثنى من ضمير لَهُمْ ويكون قوله تعالى: وَأُولئِكَ هُمُ
الْفاسِقُونَ اعتراضا جاريا مجرى التعليل لعدم قبول الشهادة
غير منقطع عما قبله ولهذا جاز توسطه بين المستثنى والمستثنى
منه ولا تعلق للاستثناء به، وآثر ذلك ابن الحاجب في أماليه حيث
قال: إن الاستثناء لا يرجع إلى الكل أما الجلد فبالاتفاق، وأما
قوله تعالى: وَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ فلأنه إنما جيء به
لتقرير
(9/297)
منع الشهادة فلم يبق إلا الجملة الثانية
فيرجع إليها، وتعقب بأن استئناف وَلا تَقْبَلُوا إلخ في غاية
البعد، والمراد من عدم قبول الشهادة ردها ومناسبته للجلد ظاهرة
لأن كلّا منهما مؤلم زاجر عن ارتكاب جريمة الرمي وكم من شخص لا
يتألم بالضرب كما يتألم برد شهادته، وربما يقال: إن رد الشهادة
قطع للآلة الخائنة معنى وهي اللسان فيكون كقطع اليد حقيقة في
السرقة، ومن أنصف رأى مناسبته للجلد أتم من مناسبة التغريب له
لأن التغريب ربما يكون سببا لزيادة الوقوع في الزنا لقلة من
يراقب ويستحي منه في الغربة وقد تضطر المرأة إذا غربت إلى ما
يسد رمقها فتسلم نفسها لتحصيل ذلك، وأيضا الجلد فعل يلزم على
الإمام فعله والرد المراد من عدم القبول كذلك وقد خوطب بكلتا
الجملتين الإنشائيتين لفظا ومعنى الأئمة وبهذا يقوى أمر
المناسبة.
واعترض الزيلعي على القول بأن جملة وَأُولئِكَ هُمُ
الْفاسِقُونَ تعليل لرد الشهادة فقال: لا جائز أن يكون رد
شهادته لفسقه لأن الثابت بالنص في خبر الفاسق هو التوقف لقوله
تعالى: إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا [الحجرات:
6] لا الرد وعلة الرد هنا ليست إلا أنه حد انتهى، وفيه نظر ولم
يجعل الشافعي على هذا النقل الجملة المذكورة مع كونها جارية
مجرى التعليل لما قبلها معطوفة عليه لما قال غير واحد من أن
العطف بالواو يمنع قصد التعليل لرد الشهادة بسبب الفسق لأن
العلة لا تعطف على الحكم بالواو بل إنما تذكر بالفاء، وكذا
ينبغي أن لا تكون معطوفة على ما أشير إليه سابقا من أنها علة
لاستحقاق العقوبة إذ ذلك غير منطوق، وانتصر للشافعي عليه
الرحمة فيما ذهب إليه من قبول شهادته إذا تاب بأنه إذا جعلت
الجملة تعليلا للرد يتم ذلك ولو سلم رجوع الاستثناء إلى الجملة
الأخيرة من الجمل المتعاقبة بالواو وجوب زوال الحكم بزوال
العلة، ولا أظنه يدفع إلا بالتزام أنها ليست للتعليل.
وقال بعضهم: لا انقطاع بين الجمل عند الشافعي ومقتضى أصله
المشهور رجوع الاستثناء إلى الجميع فيلزم حينئذ سقوط الجلد
بالتوبة لكنه لا يقول بذلك لأن تحقيق مذهبه أن الرجوع إلى الكل
قد يعدل عنه وذلك عند قيام الدليل وظهور المانع والمانع هنا من
رجوعه إلى الجملة الأولى على ما قيل الإجماع على عدم سقوط
الجلد بالتوبة لما فيه من حق العبد، وأولى منه ما أومأ إليه
القاضي البيضاوي من أن الاستسلام للجلد من تتمة التوبة فكيف
يعود إليه، ولا يمكن أن يقال: إن عدم قبول الشهادة والتفسيق من
تتمتها أيضا كما لا يخفى، وقيل يجوز أن تخرج الآية على أصله
المشهور، ولا مانع من رجوع الاستثناء إلى الجملة الأولى أيضا
لما أن المستثنى هو الَّذِينَ تابُوا وَأَصْلَحُوا ومن جملة
الإصلاح الاستحلال وطلب العفو من المقذوف وعند وقوع ذلك يسقط
الجلد أيضا، وفيه أن كون طلب العفو من الإصلاح غير نافع لأن
الجلد لا يسقط بطلب العفو بل العفو وهو ليس من جملة هذا
الإصلاح إذ العفو فعل المقذوف وهذا الإصلاح فعل القاذف فلم يصح
صرف الاستثناء إلى الكل كما هو أصله المشهور.
وقال الزمخشري: الذي يقتضيه ظاهر الآية ونظمها أن يكون الجمل
الثلاث بمجموعهن جزاء الشرط، والمعنى من قذف فاجمعوا لهم بين
الأجزئة الثلاثة إلا الذين تابوا منهم فيعودون غير مجلودين ولا
مردودي الشهادة ولا مفسقين، قال في الكشف: وهذا جار على أصل
الشافعي من أن الاستثناء يرجع إلى الكل وانضم إليه هاهنا أن
الجمل دخلت في حيز الشرط فصرن كالمفردات، وتعقب القول بدخول
قوله تعالى: وَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ في حيز الجزاء بأن
دليل عدم المشاركة في الشرط يقتضي عدم الدخول فإنه جملة خبرية
غير مخاطب بها الأئمة لإفراد الكاف في أُولئِكَ فهو عطف على
الجملة الاسمية أي الذين يرمون إلخ أو مستأنف لحكاية حال
الرامين عند الشرع، وأورد عليه أن عطف الخبر على الإنشاء وعكسه
لاختلاف الأغراض شائعان في الكلام وأن إفراد كاف الخطاب مع
(9/298)
الإشارة جائز في خطاب الجماعة كقوله تعالى:
ثُمَّ عَفَوْنا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ [البقرة: 52] على أن
التحقيق أن الَّذِينَ يَرْمُونَ منصوب بفعل محذوف أي اجلدوا
الذين إلخ فهو أيضا جملة فعلية إنشائية مخاطب بها الأئمة
فالمانع المذكور قائم هنا زيادة العدول عن الأقرب إلى الأبعد
ولو سلم أن الَّذِينَ مبتدأ فلا بد في الإنشائية الواقعة موقع
الخبر من تأويل وصرف عن الإنشائية عند الأكثر وحينئذ يصح عطف
أُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ عليه، وقال الزمخشري: معنى
أُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ فسقوهم والإنصاف يحكم بعدم ظهور
دخول الجملة الأخيرة في حيز الجزاء وجميع ما ذكروه إنما يفيد
الصحة لا الظهور.
ولعل الظاهر أنها استئناف تذييلي لبيان سوء حال الرامين في حكم
الله تعالى وحينئذ عود الاستئناف إليه ظاهر، لا يقال، إن ذلك
ينفي الفائدة لأنه معلوم شرعا أن التوبة تزيل الفسق من غير هذه
الآية لأنا نقول: لا شبهة في أن العلم بذلك من طريق السمع وقد
ذكر الدال عليه منه وكون آية أخرى تفيده لا يضر للقطع بأن طريق
القرآن تكرار الدوال خصوصا إذا كان التأكيد مطلوبا، هذا وإلى
ما ذهب إليه أبو حنيفة من عدم قبول شهادة المحدود في القذف إذا
تاب ذهب الحسن وابن سيرين وسعيد بن المسيب وسعيد بن جبير وقد
روى ذلك عن كل الجلال السيوطي في الدر المنثور وإلى ما ذهب
إليه الشافعي من قبول شهادته ذهب مالك وأحمد، وروي ذلك عن عمر
بن عبد العزيز وطاوس ومجاهد والشعبي والزهري ومحارب وشريح
ومعاوية بن قرة وعكرمة وسعيد بن جبير على ما ذكره الطيبي وعد
ابن جبير من القائلين كقول الشافعي يخالفه ما سمعت آنفا، وعد
ابن الهمام شريحا ممن قال كقول أبي حنيفة وعن ابن عباس
روايتان، وفي صحيح البخاري جلد عمر رضي الله عنه أبا بكرة وشبل
بن معبد ونافعا بقذف المغيرة ثم استتابهم، وقال من تاب قبلت
شهادته، ومن تتبع تحقق أن أكثر الفقهاء قائلون كقول الشافعي
عليه الرحمة ودعوى إجماع فقهاء التابعين عليه غير صحيحة كما لا
يخفى والله تعالى أعلم، ووجه التعليل المستفاد من قوله تعالى:
فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ على القولين ظاهر لكن قيل إنه
على قول أبي حنيفة أظهر وهو تعليل لما يفيده الاستثناء ولا محل
من الإعراب، وجوز أبو البقاء كون الَّذِينَ مبتدأ وهذه الجملة
خبره والرابط محذوف أي لهم.
واختار الجمهور الاستئناف والاستثناء وهو على ما ذهب إليه
أصحابنا منقطع، وبينه أبو زيد الدبوسي في التقويم بما حاصله أن
المستثنى وإن دخل في الصدر لكن لم يقصد إخراجه من حكمه على ما
هو معنى الاستثناء المتصل بل قصد إثبات حكم آخر له وهو أن
التائب لا يبقى فاسقا، وتعقبه العلامة الثاني بأنه إنما يتم
إذا لم يكن معنى هُمُ الْفاسِقُونَ الثبات والدوام وإلا فلا
تعذر للاتصال فلا وجه للانقطاع، وبينه فخر الإسلام بأن
المستثنى غير داخل في صدر الكلام لأن التائب ليس بفاسق ضرورة
إنه عبارة عمن قام به الفسق والتائب ليس كذلك لزوال الفسق
بالتوبة، وهذا مبني على أنه يشترط في حقيقة اسم الفاعل بقاء
معنى الفعل، وأما إذا لم يشترط ذلك فيتحقق التناول لكن لا يصح
الإخراج لأن التائب ليس بمخرج ممن كان فاسقا في الزمان الماضي.
واعترض بأن المستثنى منه على تقدير اتصال الاستثناء ليس هو
الفاسقين بل الذين حكم عليهم بذلك وهم الذين يرمون المشار إليه
بقوله تعالى: وَأُولئِكَ ولا شك أن التائبين داخلون فيهم
مخرجون عن حكمهم وهو الفسق كأنه قيل جميع القاذفين فاسقون إلا
التائبين منهم كما يقال القوم منطلقون إلا زيدا استثناء متصلا
بناء على أن زيدا داخل في القوم مخرج عن حكم الانطلاق فيصح
الاستثناء المتصل سواء جعل المستثنى منه بحسب اللفظ هو القوم
أو الضمير المستتر في منطلقون بناء على أنه أقرب وأن عمل الصفة
في المستثنى أظهر، وليس المراد أن المستثنى منه لفظا هو لفظ
القوم البتة وإذا جعل المستثنى منه ضمير منطلقون فمعنى الكلام
إن زيدا داخل في الذوات المحكوم
(9/299)
عليهم بالإطلاق مخرج عن حكم الانطلاق كما
في قولنا: انطلق القوم إلا زيدا وكذا الكلام في الآية.
وأجيب بأن الفاسقين هاهنا إما أن يكون بمعنى الفاسق على قصد
الدوام والثبات أو بمعنى من صدر عنه الفسق في الزمان الماضي أو
من قام به الفسق في الجملة ماضيا كان أو حالا فإن أريد الأول
فالتائب ليس بفاسق ضرورة قضاء الشارع بأن التائب ليس بفاسق
حقيقة، ومن شرط الاستثناء المتصل أن يكون الحكم متناولا
للمستثنى على تقدير السكوت عن الاستثناء وهذا مراد فخر الإسلام
بعدم تناول الفاسقين للتائبين بخلاف منطلقون فإنه يدخل فيه زيد
على تقدير عدم الاستثناء وإن أريد الثاني أو الثالث فلا صحة
لإخراج التائب عن الفاسقين لأنه فاسق بمعنى صدور الفسق عنه في
الجملة ضرورة أنه قاذف والقذف فسق.
ولا يخفى أن منع عدم دخول التائبين في الفاسقين بالمعنى الذي
ذكرنا ومنع عدم صحة إخراجهم عنهم بالمعنى الآخر غير موجه وأن
الاستدلال على دخولهم بأنه قد حكم بالفسق على أُولئِكَ المشار
به إلى الَّذِينَ يَرْمُونَ وهو عام ليس بصحيح للإجماع القاطع
على أنه لا فسق مع التوبة، وكفى به مخصصا اهـ. وفيه أن الإجماع
لا يكون مخصصا فيما نحن فيه لكونه متراخيا عن النص ضرورة أنه
لا إجماع إلا بعد زمان النبي صلّى الله عليه وسلّم فالحكم
بالفسق على أُولئِكَ المشار به إلى الَّذِينَ يَرْمُونَ وهو
عام فيتم الاستدلال.
وأجيب عن هذا بأن المراد بالتخصيص قصر العام على بعض ما
يتناوله اللفظ لا التخصيص المصطلح وهو كما ترى وفي قوله: ومن
شرط الاستثناء المتصل إلخ بحث يعلم مما سيأتي إن شاء الله
تعالى قريبا، وقال العلامة: الظاهر كون الاستثناء متصلا أي
أولئك الذين يرمون محكوم عليهم بالفسق إلا التائبين منهم فإنه
غير محكوم عليهم بالفسق لأن التائب من الذنب كمن لا ذنب له
وكأنه أراد أنهم غير محكوم عليهم بالفسق الدائم وهو المحكوم به
عليهم في الصدر بقرينة الجملة الاسمية.
وذكر بعض الأفاضل في توجيه كونه متصلا أن دخول المستثنى في
المستثنى منه إنما يكون باعتبار تناول المستثنى منه وشموله
إياه لا بحسب ثبوته له في الواقع كيف ولو ثبت الحكم له صح
استثناؤه فهاهنا الَّذِينَ يَرْمُونَ شامل للتائبين منهم فلا
يضر في صحة الاستثناء أنهم ليسوا بفاسقين وأن التوبة تنافي
ثبوت الفسق كما إذا لم يدخل زيد في الانطلاق فإنه يصح استثناؤه
باعتبار دخوله في القوم مثل انطلق القوم إلا زيدا.
والحاصل أنه يكفي في الاستثناء دخول المستثنى في حكم المستثنى
منه بحسب دلالة اللفظ وإن لم يدخل فيه بحسب دليل خارج كما
يقال: خلق الله تعالى كل شيء إلا ذاته سبحانه وصفاته العلى،
قال العلامة: ويمكن الجواب عن هذا بأنه لا فائدة للاستثناء
المتصل على هذا التقدير لأن خروج المستثنى من حكم المستثنى منه
معلوم فيحمل على المنقطع المفيد لفائدة جديدة وهذا مراد فخر
الإسلام بعدم دخول التائبين في صدر الكلام وبحث فيه بأن عدم
التناول الشرعي مستفاد من الاستثناء المذكور في الآية والحديث
أعني التائب من الذنب كمن لا ذنب له مبين له فلا وجه لمنع وجود
الفائدة وبأن كون خروج المستثنى من حكم المستثنى منه معلوما
هنا غير معلوم لمكان الخلاف في اشتراط بقاء الفعل وبأن الفائدة
الجديدة في المنقطع التي يعرى عنها المتصل غير ظاهرة، وقال
أيضا: لا يقال لم لا يجوز أن يكون المستثنى منه هو الفاسقون
ويكون الاستثناء لإخراج التائبين منهم في الحكم الذي هو الحمل
على أولئك القاذفين والإثبات له فإن الاستثناء كما يجوز من
المحكوم به يجوز من غيره كما يقال: كرام أهل بلدتنا أغنياؤهم
إلا زيدا بمعنى أن زيدا وإن كان غنيا لكنه خارج عن الحمل على
الكرام لأنا نقول: فحينئذ يلزم أن يكون التائبون من الفاسقين
ولا يكونوا من القاذفين والأمر بالعكس، وقد يقال: إن الاستثناء
منقطع على معنى أنهم
(9/300)
وَالَّذِينَ يَرْمُونَ
أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا
أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ
بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (6) وَالْخَامِسَةُ
أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ
الْكَاذِبِينَ (7) وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ
تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ
الْكَاذِبِينَ (8) وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ
عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ (9) وَلَوْلَا فَضْلُ
اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ
حَكِيمٌ (10) إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ
مِنْكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ
لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ
وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ
(11) لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ
وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا
إِفْكٌ مُبِينٌ (12) لَوْلَا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ
شُهَدَاءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ
عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ (13) وَلَوْلَا فَضْلُ
اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ
لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (14)
إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ
بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ
وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ (15)
وَلَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ
نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ (16)
يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا إِنْ
كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (17) وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ
الْآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (18) إِنَّ الَّذِينَ
يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا
لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ
يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (19) وَلَوْلَا فَضْلُ
اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ رَءُوفٌ
رَحِيمٌ (20)
فاسقون في جميع الأحوال إلا حال التوبة،
ولا يخفى أنه يحتاج إلى تكليف في التقدير أي إلا حال توبة
الذين إلخ أو إلا توبة القاذفين أي وقت توبتهم على أن يجعل
الَّذِينَ حرفا مصدريا لا اسما موصولا وضمير تابُوا عائدا على
أُولئِكَ وبعد اللتيا والتي يكون الاستثناء مفرغا متصلا لا
منقطعا انتهى فتأمل.
وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ [النور: 6. 20] بيان لحكم
الرامين لأزواجهم خاصة وهو ناسخ لعموم المحصنات وكانوا قبل
نزول هذه الآية يفهمون من آية وَالَّذِينَ يَرْمُونَ إلخ أن
حكم [النور: 4] من رمى الأجنبية وحكم من رمى زوجته سواء
فقد أخرج أبو داود وجماعة عن ابن عباس قال: لما نزلت
والَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ [النور: 4] الآية قال سعد
بن عبادة وهو سيد الأنصار: أهكذا أنزلت يا رسول الله؟ فقال
رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «يا معشر الأنصار ألا تسمعون
ما يقول سيدكم؟ قالوا: يا رسول الله لا تلمه فإنه رجل غيور
والله ما تزوج امرأة قط إلا بكرا وما طلق امرأة فاجترأ رجل منا
على أن يتزوجها من شدة غيرته فقال: سعد والله يا رسول الله إني
لأعلم أنها حق وأنها من عند الله تعالى ولكني تعجبت أني لو
وجدت لكاعا قد تفخذها رجل لم يكن لي أن أهيجه ولا أحركه حتى
آتي بأربعة شهداء فو الله لا آتي بهم حتى يقضي حاجته قال: فما
لبثوا يسيرا حتى جاء هلال بن أمية وهو أحد الثلاثة الذين تيب
عليهم فغدا على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: يا رسول
إني جئت أهلي (1) عشاء فوجدت عندها رجلا (2) فرأيت بعيني
__________
(1) اسمها خولة بنت عاصم اهـ منه.
(2) هو شريك بن سحماء كما في صحيح البخاري اهـ منه.
(9/301)
وسمعت بأذني فكره رسول الله صلّى الله عليه
وسلّم ما جاء به واشتد عليه واجتمعت الأنصار فقالوا: قد
ابتلينا بما قال سعد بن عبادة الآن يضرب رسول الله عليه الصلاة
والسلام هلال بن أمية وتبطل شهادته في المسلمين فقال هلال:
والله إني لأرجو أن يجعل الله تعالى لي منها مخرجا فقال: يا
رسول الله إني قد أرى ما اشتد عليك مما جئت به والله تعالى
يعلم إني لصادق فو الله إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم
يريد أن يأمر بضربه إذ نزل على رسول الله عليه الصلاة والسلام
الوحي وكان إذا نزل عليه عليه الصلاة والسلام الوحي عرفوا ذلك
في تربد جلده فأمسكوا عنه حتى فرغ من الوحي فنزلت وَالَّذِينَ
يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ الآية فسري عن رسول الله صلّى الله
عليه وسلّم فقال أبشر يا هلال قد كنت أرجو ذلك من ربي، وقال
عليه الصلاة والسلام أرسلوا إليها فجاءت فتلاها رسول الله صلّى
الله عليه وسلّم عليهما وذكرهما وأخبرهما أن عذاب الآخرة أشد
من عذاب الدنيا فقال:
هلال والله يا رسول الله لقد صدقت عليها فقالت: كذب فقال: رسول
الله صلّى الله عليه وسلّم: «لاعنوا بينهما» الحديث
، ومنه وكذا من رواية أخرى ذكرها البخاري في صحيحه والترمذي:
وابن ماجة يعلم أن قصة هلال سبب نزول الآية، وقيل: نزلت في
عاصم بن عدي، وقيل: في عويمر بن نصر العجلاني وفي صحيح البخاري
ما يشهد له بل قال السهيلي إن هذا هو الصحيح ونسب غيره للخطأ،
والمشهور كما في البحر أن نازلة هلال قبل نازلة عويمر، وأخرج
أبو يعلى. وابن مردويه عن أنس أنه قال: لأول لعان كان في
الإسلام ما وقع بين هلال بن أمية وزوجته، ونقل الخفاجي هنا عن
السبكي إشكالا وأنه قال: إنه إشكال صعب وارد على آية اللعان
والسرقة والزنا وهو أن ما تضمن الشرط نص في العلية مع الفاء
ومحتمل لها بدونها ولتنزيله منزلة الشرط يكون ما تضمنه من
الحدث مستقبلا لا ماضيا فلا ينسحب حكمه على ما قبله ولا يشمل
ما قبله من سبب النزول، وتعقبه بأنه لا صعوبة فيه بل هو أسهل
من شرب الماء البارد في حر الصيف لأن هذا وأمثاله معناه إن
أردتم معرفة هذا الحكم فهو كذا فالمستقبل معرفة حكمه وتنفيذه
وهو مستقبل في سبب النزول وغيره، والقرينة على أن المراد هذا
أنها نزلت في أمر ماض أريد بين حكمه ولذا قالوا: دخول سبب
النزول قطعي.
ولا حاجة إلى القول بأن الشرط قد يدخل على الماضي ولا أن ما
تضمن الشرط لا يلزمه مساواته لصريحه من كل وجه ولا أن دخول ما
ذكر بدلالة النص لفساده هنا انتهى، ثم إن المراد هنا نظير ما
مر والذين يرمون بالزنا أزواجهم المدخول بهن وغير المدخول بهن
وكذا المعتدات في طلاق رجعي وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَداءُ
أربعة يشهدون بما رموهن به من الزنا. وقرىء «تكن» بالتاء
الفوقية وقراءة الجمهور أفصح إِلَّا أَنْفُسُهُمْ بدل من
شُهَداءُ لأن الكلام غير موجب والمختار فيه الإبدال أو إلا
بمعنى غير صفة لشهداء ظهر إعرابها على ما بعدها لكونها على
صورة الحرف كما قالوا في أل الموصولة الداخلة على أسماء
الفاعلين مثلا، وفي جعلهم من جملة الشهداء إيذان كما قيل من
أول الأمر بعدم إلغاء قولهم بالمرة ونظمه في سلك الشهادة وبذلك
ازداد حسن إضافة الشهادة إليهم في قوله تعالى:
فَشَهادَةُ أَحَدِهِمْ أي شهادة كل واحد منهم وهو مبتدأ وقوله
سبحانه: أَرْبَعُ شَهاداتٍ خبره أي فشهادتهم المشروعة أربع
شهادات بِاللَّهِ متعلق بشهادات، وجوز بعضهم تعلقه بشهادة.
وتعقب بأنه يلزم حينئذ الفصل بين المصدر ومعموله بأجنبي وهو
الخبر، وأنت تعلم أن في كون الخبر أجنبيا كلاما وأن بعض
النحويين أجاز الفصل مطلقا وبعضهم أجازه فيما إذا كان المعمول
ظرفا كما هنا.
وقرأ الأكثر «أربع» بالنصب على المصدرية والعامل فيه «شهادة»
وهي خبر مبتدأ محذوف أي فالواجب شهادة أو مبتدأ خبره محذوف أي
فعليهم شهادة أو فشهادة أحدهم أربع شهادات بالله واجبة أو
كافية، ولا خلاف في جواز تعلق الجار على هذه القراءة بكل من
الشهادة والشهادات وإنما الخلاف في الأولى إِنَّهُ لَمِنَ
الصَّادِقِينَ أي فيما
(9/302)
رماها به من الزنا، والأصل على أنه إلخ
فحذف الجار وكسرت إن وعلق العامل عنها باللام للتأكيد، ولا
يختص التعليق بأفعال القلوب بل يكون فيما يجري مجراها ومنه
الشهادة لإفادتها العلم، وجوز أن تكون الجملة جوابا للقسم بناء
على أن الشهادة هنا بمعنى القسم حتى قال الراغب. إنه يفهم منها
ذلك وإن لم يذكر بِاللَّهِ وسيأتي إن شاء الله تعالى تحقيق ذلك
وَالْخامِسَةُ أي والشهادة الخامسة للأربع المتقدمة أي الجاعلة
لها خمسا بانضمامها إليهن، وإفرادها مع كونها شهادة أيضا
لاستقلالها بالفحوى ووكادتها في إفادتها ما يقصده بالشهادة من
تحقيق الخبر وإظهار الصدق، وهي مبتدأ خبره قوله تعالى: أَنَّ
لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كانَ مِنَ الْكاذِبِينَ فيما
رماها به من الزنا وَيَدْرَؤُا أي يدفع عَنْهَا الْعَذابَ أي
العذاب الدنيوي وهو الحبس عندنا والحد عند الشافعي، وسيأتي إن
شاء الله تعالى تحقيق الكلام فيه أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ
شَهاداتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ أي الزوج لَمِنَ الْكاذِبِينَ فيما
رماها به من الزنا وَالْخامِسَةَ بالنصب عطفا على أَرْبَعَ
شَهاداتٍ وقوله تعالى: أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْها إِنْ
كانَ أي الزوج مِنَ الصَّادِقِينَ فيما رماها به من الزنا
بتقدير حرف الجر أي بأن غضب إلخ، وجوز أن تكون أَنَّ وما بعدها
بدلا من الْخامِسَةَ وتخصيص الغضب بجانب المرأة للتغليظ عليها
لما أنها مادة الفجور ولأن النساء كثيرا ما يستعملن اللعن
فربما يتجرين على التفوه به لسقوط وقعه عن قلوبهن بخلاف غضبه
جل جلاله.
وقرأ طلحة والحسن والأعمش وخالد بن إياس بنصب الْخامِسَةُ في
الموضعين وقد علمت وجه النصب في الثاني، وأما وجه النصب في
الأول فهو عطف الْخامِسَةَ على أَرْبَعَ شَهاداتٍ على قراءة من
نصب أَرْبَعَ وجعلها مفعولا لفعل محذوف يدل عليه المعنى على
قراءة من رفع أَرْبَعَ أي ويشهد الخامسة، والكلام في أَنَّ
لَعْنَتَ إلخ كما سمعت في أَنَّ غَضَبَ إلخ. وقرأ نافع أن لعنة
بتخفيف أن ورفع لعنة وأن غضب بتخفيف أن وغضب فعل ماض والجلالة
بعد مرفوعة، وأن في الموضعين مخففة من الثقيلة واسمها ضمير
الشأن ولم يؤت بأحد الفواصل بين قد والسين ولا بينها وبين
الفعل في الموضع الثاني لكون الفعل في معنى الدعاء فما هناك
نظير قوله تعالى: أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ [النمل: 8]
فلا غرابة في هذه القراءة خلافا لما يوهمه كلام ابن عطية.
وقرأ الحسن وأبو رجاء، وقتادة وعيسى وسلام وعمرو بن ميمون
والأعرج ويعقوب بخلاف عنهما «أن لعنة» كقراءة نافع و «أن غضب»
بتخفيف «أن» و «غضب» مصدر مرفوع، هذا ظاهر قوله تعالى:
وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ العموم والمذكور في كتب
الأصحاب أنه يشترط في القاذف وزوجته التي قذفها أن يكون لهما
أهلية أداء الشهادة على المسلم فلا يجري اللعان بين الكافرين
والمملوكين ولا إذا كان أحدهما مملوكا أو صبيا أو مجنونا أو
محدودا في قذف، ويشترط في الزوجة كونها مع ذلك عفيفة عن الزنا
وتهمته بأن لم توطأ حراما لعينه ولو مرة بشبهة أو بنكاح فاسد
ولم يكن لها ولد بلا أب معروف في بلد القذف، واشتراط هذا لأن
اللعان قائم مقام حد القذف في حق الزوج كما يشير إليه ما
قدمناه من الخبر لكن بالنسبة إلى كل زوجة على حدة لا مطلقا ألا
ترى أنه لو قذف بكلمة أو كلمات أربع وزوجات له بالزنا لا يجزيه
لعان واحد لهن بل لا بد أن يلاعن كلا منهن، ولو قذف أربع
أجنبيات كذلك حد حدا واحدا بهن، فمتى لم تكن الزوجة ممن يحد
قاذفها كما إذا لم تكن عفيفة لم يتحقق في قذفها ما يوجب الحد
ليقام اللعان مقامه، وأما اشتراط كونهما ممن له أهلية أداء
الشهادة فلأن اللعان شهادات مؤكدات بالأيمان عندنا خلافا
للشافعي فإنه عنده أيمان مؤكدة وهو الظاهر من قول مالك وأحمد
فيقع ممن كان أهلا لليمين وهو ممن يملك الطلاق فكل من يملكه
فهو أهل اللعان عنده فيكون من كل زوج عاقل وإن كان كافرا أو
عبدا.
(9/303)
واستدل على أن اللعان أيمان مؤكدة بقوله
سبحانه: فَشَهادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهاداتٍ بِاللَّهِ
وذلك أن قوله تعالى: بِاللَّهِ محكم في اليمين والشهادة محتملة
لليمين ألا يرى أنه لو قال: أشهد ينوي به اليمين كان يمينا
فيحمل المحتمل على المحكم لأن حمله على حقيقته متعذر لأن
المعهود في الشرع عدم قبول شهادة الإنسان لنفسه بخلاف يمينه،
وكذا المعهود شرعا عدم تكرر الشهادة في موضع بخلاف اليمين فإن
تكرره معهود في القسامة، ولأن الشهادة محلها الإثبات واليمين
للنفي فلا يتصور تعلق حقيقتهما بأمر واحد فوجب العمل بحقيقة
أحدهما ومجاز الآخر فليكن المجاز لفظ الشهادة لما سمعت من
الموجبين.
واستدل أصحابنا على أنه شهادات مؤكدة بأيمان بالآية أيضا لأن
الحمل على الحقيقة يجب عند الإمكان وقوله سبحانه وتعالى:
وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَداءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ أثبت أنهم
شهداء لأن الاستثناء من النفي إثبات وجعل الشهداء مجازا عن
الحالفين يصير المعنى ولم يكن لهم حالفون إلا أنفسهم وهو غير
مستقيم لأنه يفيد أنه إذا لم يكن للذين يرمون أزواجهم من يحلف
لهم يحلفون لأنفسهم وهذا فرع تصور حلف الإنسان لغيره ولا وجود
له أصلا فلو كان معنى اليمين حقيقيا للفظ الشهادة كان هذا
صارفا عنه إلى مجازه كيف وهو مجازي لها ولو لم يكن هذا كان
إمكان العمل بالحقيقة موجبا لعدم الحمل على اليمين فكيف وهذا
صارف عن المجاز وما توهم كونه صارفا مما ذكر غير لازم قوله
قبول الشهادة لنفسه وتكرر الأداء لا عهد بهما قلنا: وكل من
الحلف لغيره والحلف لإيجاب الحكم لا عهد به بل اليمين لرفع
الحكم فإن جاز شرعية هذين الأمرين في محل بعينه ابتداء جاز
أيضا شرعية ذلك ابتداء بل هي أقرب لعقلية كون التعدد في ذلك
أربعا بدلا عما عجز عنه من إقامة شهود الزنا وهم أربع وعدم
قبول الشهادة له عند التهمة ولذا تثبت عند عدمها أعظم ثبوت قال
الله عز وجل: شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ [آل
عمران: 18] فغير بعيد أن تشرع عند ضعفها بواسطة تأكيدها
باليمين وإلزام اللعنة والغضب إن كان كاذبا مع عدم ترتب موجبها
في حق كل من الشاهدين إذ موجب شهادة كل إقامة حد على الآخر
وليس ذلك بثابت هنا بل الثابت عند الشهادتين هو الثابت
بالأيمان وهو اندفاع موجب دعوى كل عن الآخر، وإنما قيل عندهما
ولم يقل بهما لأن هذا الاندفاع ليس موجب الشهادتين بل هو موجب
تعارضهما، وأما قوله: واليمين للنفي إلخ فمحله ما إذا وقعت في
إنكار دعوى مدع وإلا فقد يحلف على إخبار بأمر نفي أو إثبات
وهنا كذلك فإنها على صدقه في الشهادة، والحق أنها على ما وقعت
الشهادة به وهو كونه من الصادقين فيما رماها به كما إذا جمع
أيمانا على أمر واحد يخبر به فإن هذا هو حقيقة كونها مؤكدة
للشهادة إذ لو اختلف متعلقهما لم يكن أحدهما مؤكدا للآخر.
وأورد على اشتراط الأهلية لأداء الشهادة أنهم قالوا: إن اللعان
يجري بين الأعميين والفاسقين مع أنه لا أهلية لهما لذلك. ودفع
بأنهما من أهل الأداء إلا أنه لا يقبل للفسق ولعدم تمييز
الأعمى بين المشهود له وعليه وهنا هو قادر على أن يفصل بين
نفسه وزوجته فيكون أهلا لهذه الشهادة دون غيرها، وروى ابن
المبارك عن أبي حنيفة أن الأعمى لا يلاعن وعمم القهستاني
الأهلية فقال: ولو بحكم القاضي والفاسق يصح القضاء بشهادته
وكذا الأعمى على القول بصحتها فيما يثبت بالتسامع كالموت
والنكاح والنسب وهذا بخلاف المحدود بالقذف فإنه لا يصح القضاء
بشهادته، ولعل مراد ابن كمال باشا بقوله: لو قضى بشهادة
المحدود بالقذف نفذ نفاذ الحكم بصحتها ممن يراها كشافعي على ما
قيل وهو خلاف ظاهر كلامه كما لا يخفى على من رجع إليه، ويشترط
كون القذف في دار الإسلام وكونه بصريح الزنا فلا لعان بالقذف
باللواط عند الإمام وعندهما فيه لعان ولا لعان بالقذف كناية
وتعريضا والقذف بصريحه نحو أن يقال: أنت زانية أو يا زانية أو
رأيتك تزنين، والمشهور عن مالك أن القذف بالأولين يوجب الحد
(9/304)
والذي يوجب اللعان القذف بالأخير وهو قول
الليث وعثمان ويحيى بن سعيد، وضعف بأن الكل رمي بالزنا وهو
السبب كما تدل عليه الآية فلا فرق، وبمنزلة القذف بالصريح نفي
نسب ولدها منه أو من غيره.
وفي المحيط والمبتغى إذا نفى الولد فقال: ليس هذا بابني ولم
يقذفها بالزنا لا لعان بينهما لأن النفي ليس بقذف لها بالزنا
يقينا لاحتمال أن يكون الولد من غيره بوطء شبهة وهو احتمال
ساقط لا يلتفت إليه كما حققه زين في البحر، ويشترط في وجوب
اللعان طلب الزوجة في مجلس القاضي كما في البدائع إذا كان
القذف بصريح الزنا لأن اللعان حقها فإنه لدفع العار عنها وبذلك
قالت الأئمة الثلاثة أيضا، وإذا كان القذف بنفي الولد فيشترط
طلب القاذف لأنه حقه أيضا لاحتياجه إلى نفي من ليس ولده عنه
ويجب عليه هذا النفي إذا تيقن أن الولد ليس منه لما في السكوت
أو الإقرار من استلحاق نسب من ليس منه وهو حرام كنفي نسب من هو
منه، فقد روى أبو داود والنسائي أنه عليه الصلاة والسلام قال
حين نزلت آية الملاعنة: «أيما امرأة أدخلت على قوم من ليس منهم
فليست من الله تعالى في شيء ولن يدخلها الله تعالى جنته وأيما
رجل جحد ولده وهو ينظر إليه احتجب الله عز وجل عنه يوم القيامة
وفضحه على رؤوس الأولين والآخرين» وإن احتمل أن يكون الولد منه
فلا يجب بل قد يباح وقد يكون خلاف الأولى بحسب قوة الاحتمال
وضعفه، وقد يضعف الاحتمال إلى حد لا يباح معه النفي كأن أتت
امرأته المعروفة بالعفاف بولد لا يشبهه
فعن أبي هريرة «أن رجلا قال للنبي صلّى الله عليه وسلّم إن
امرأتي ولدت غلاما أسود فقال: هل لك من إبل؟ قال: نعم قال ما
ألوانها؟ قال: حمر قال: فهل فيها أورق؟ قال: نعم قال: فكيف
ذلك؟ قال: نزعه عرق قال: فلعل هذا نزعه عرق»
وذكروا فيما إذا كانت متهمة برجل فأتت بولد يشبهه وجهين إباحة
النفي وعدمها، وأما القذف بصريح الزنا فمع التحقق يباح ويجوز
أن يستر عليها ويمسكها لظاهر ما
روي من «أن رجلا قال: يا رسول الله إن امرأتي لا ترديد لامس
قال طلقها قال: إني أحبها قال فأمسكها»
وفيه احتمال آخر ذكره شراح الحديث مع عدم التحقق لا يباح ذلك،
والأفضل للزوجة أن لا تطالب باللعان وتستر الأمر وللحاكم أن
يأمرها وإذا طلبت وقد أقر الزوج بقذفها أو ثبت بالبينة وهي
رجلان لا رجل وامرأتان إذ لا شهادة للنساء في الحدود، وما في
النهر والدر المنتقى من جواز ذلك سبق قلم لاعن إن كان مصرا
وعجز عن البينة على زناها أو على إقرارها به أو على تصديقها له
أو أقام البينة على ذلك ثم عمي الشاهدان أو فسقا أو ارتدا وهذا
بخلاف ما إذا ماتا أو غابا بعد ما عدلا فإنه حينئذ لا يقضى
باللعان فإن امتنع حد حد القذف وكذا إذا لاعن فامتنعت تحد عنده
حد الزنا وعندنا تحبس حتى تلاعن أو تصدقه فيرتفع سبب وجوب
لعانهما وهو التكاذب على ما قيل، والأوجه كون السبب القذف
والتكاذب شرطه: وكما لا لعان مع التصديق إذا كان بلفظ صدقت لا
حد عليها ولو أعادت ذلك أربع مرات في مجالس متفرقة لأن التصديق
المذكور ليس بإقرار قصدا وبالذات فلا يعتبر في وجوب الحد بل في
درئه فيندفع به اللعان ولا يجب به الحد وكذا يندفع بذلك كما في
كافي الحاكم الحد عن قاذفها بعد ولو صدقته في نفي الولد فلا حد
ولا لعان أيضا وهو ولدهما لأن النسب إنما ينقطع بحكم اللعان
ولم يوجد وهو حق الولد فلا يصدقان في إبطاله وما في شرحي
الوقاية والنقاية من أنها إذا صدقته ينتفي غير صحيح كما نبه
عليه في شرح الدرر والغرر.
ووجه قول الشافعي بالحد عند الامتناع أن الواجب بالقذف مطلقا
الحد لعموم قوله سبحانه: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ
إلخ إلا أنه يتمكن من دفعه فيما إذا كانت المقذوفة زوجة
باللعان تخفيفا عليه فإذا لم يدفعه به يحد وكذا المرأة تلاعن
بعد ما أوجب الزوج عليها اللعان بلعانه فإذا امتنعت حدت للزنا
ويشير إليه قوله سبحانه وتعالى:
وَيَدْرَؤُا عَنْهَا الْعَذابَ ووجه قولنا إن قوله تعالى:
وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ إلى قوله تعالى:
فَشَهادَةُ أَحَدِهِمْ
(9/305)
إلخ يفهم منه كيفما كانت القراءة أن الواجب
في قذف الزوجات اللعان ولا ينكر ذلك إلا مكابر فإما أن يكون
ناسخا أو مخصصا لعموم ذلك العام والظاهر عندنا كونه ناسخا
لتراخي نزوله كما تشهد له الأخبار الصحيحة والمخصص لا يكون
متراخي النزول وعلى التقديرين يلزم كون الحكم الثابت في قذف
الزوجات إنما هو ما تضمنته الآية من اللعان حال قيام الزوجية
كما هو الظاهر فلا يجب غيره عند الامتناع عن إيفائه بل يحبس
لإيفائه كما في كل حق امتنع من هو عليه عن إيفائه ولم يتعين
كون المراد من العذاب في الآية الحد لجواز كونه الحبس وإذا قام
الدليل على أن اللعان هو الواجب وجب حمله عليه.
قيل: والعجب من الشافعي عليه الرحمة لا يقبل شهادة الزوج عليها
بالزنا مع ثلاثة عدول ثم يوجب الحد عليها بقوله وحده وإن كان
عبدا فاسقا، وأعجب منه أن اللعان يمين عنده وهو لا يصلح لإيجاب
المال ولا لإسقاطه بعد الوجوب وأسقط به كل من الرجل والمرأة
الحد عن نفسه وأوجب به الرجم الذي هو أغلظ الحدود على المرأة،
فإن قال: إنما يوجب عليها لنكولها بامتناعها عن اللعان قلنا:
هو أيضا من ذلك العجب فإن كون النكول إقرارا فيه شبهة والحد
مما يندفع بها مع أنه غاية ما يكون بمنزلة إقراره مرة، ثم إن
هذه الشبهة أثرت عنده في منع إيجاب المال مع أنه يثبت مع
الشبهة فكيف يوجب الرجم به وهو أغلظ الحدود وأصعبها إثباتا
وأكثرها شروطا انتهى، وليراجع في ذلك كتب الشافعية. وفي النهر
نقلا عن الأسبيجابي أنهما يحبسان إذا امتنعا عن اللعان بعد
الثبوت، ثم قال: وينبغي حمله على ماذا لم تعف المرأة كما في
البحر، وعندي في حبسها بعد امتناعه نوع إشكال لأن اللعان لا
يجب عليها إلا بعد لعانه فقبله ليس امتناعا لحق وجب عليها
انتهى.
وأجاب الطحاوي بأنه بعد الترافع منهما صار إمضاء اللعان حق
الشرع فإذا لم تعف وأظهرت الامتناع تحبس بخلاف ما إذا أبى هو
فقط فلا تحبس انتهى.
وقيل: ليس المراد امتناعهما في آن واحد بل المراد امتناعه بعد
المطالبة به وامتناعها بعد لعانه فتأمل.
والمتبادر من الشهادة ما كان قولا حقيقة، ولذا قالوا: لا لعان
لو كانا أخرسين أو أحدهما لفقد الركن وهو لفظ أشهد، وعلل أيضا
بأن هناك شبهة احتمال تصديق أحدهما للآخر لو كان ناطقا والحد
يدرأ بالشبهة وكتابة الأخرس في هذا الفصل كإشارته لا يعول
عليها، وذكروا لو طرأ الخرس بعد اللعان قبل التفريق فلا تفريق
ولا حد، ويشعر ظاهر الآية بتقديم لعان الزوج وهو المأثور في
السنة فلو بدأ القاضي بأمرها فلاعنت قبله فقد أخطأ السنة ولا
يجب كما في الغاية أن تعيد لعانها بعد وبه قال مالك.
وفي البدائع ينبغي أن تعيد لأن اللعان شهادة المرأة وشهادتها
تقدح في شهادة الزوج فلا تصح إلا بعد وجود شهادته ولهذا يبدأ
بشهادة المدعي في باب الدعوى ثم بشهادة المدعى عليه بطريق
الدفع له، ونقل ذلك عن الشافعي وأحمد عليهما الرحمة وأشهب من
المالكية، والوجه ما تقدم فقد أعقب في الآية الرمي بشهادة
أحدهم وشهادتها الدارئة عنها العذاب فيكون هذا المجموع بعد
الرمي، وليس في الآية ما يدل على الترتيب بين أجزاء المجموع،
وهذا نظير ما قرره بعض أجلّة الأصحاب في قوله تعالى: إِذا
قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ
وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ [المائدة: 6] الآية في بيان
أنه لا يدل على فرضية الترتيب كما يقوله الشافعية، وظاهر الآية
أنه لا يجب في لعانه أن يأتي بضمير المخاطبة ولا في لعانها أن
تأتي بضمير المخاطب، ففي الهداية صفة للعان أن يبتدىء به
القاضي فيشهد أربع مرات يقول في كل مرة: أشهد بالله إني لمن
الصادقين فيما رميتها به من الزنا ويقول في الخامسة: لعنة الله
عليه إن كان من الكاذبين فيما رميتها به من الزنا يشير في جميع
ذلك ثم تشهد المرأة أربع مرات تقول في كل مرة أشهد
(9/306)
بالله إنه لمن الكاذبين فيما رماني به من
الزنا وتقول في الخامسة: غضب الله عليها إن كان من الصادقين
فيما رماني به من الزنا والأصل فيه الآية، وروى الحسن عن أبي
حنيفة أنه يأتي بلفظة المواجهة ويقول فيما رميتك به من الزنا
أي وتأتي هي بذلك أيضا وتقول: إنك لمن الكاذبين فيما رميتني به
من الزنا لأنه أقطع للاحتمال وهو احتمال إضمار مرجع للضمير
الغائب غير المراد، ووجه الأول أن لفظة المغايبة إذا انضمت
إليها الإشارة انقطع الاحتمال، وعن الليث أنه يكتفى في اللعان
بالكيفية المذكورة في الآية ويأتي الملاعن مكان ضمير الغائب
بضمير المتكلم في شهادته مطلقا وتأتي الملاعنة بذلك في شهادتها
الخامسة فتدخل على (علي) ياء الضمير، والمراد من الاكتفاء
بالكيفية المذكورة أنه لا يحتاج إلى زيادة فيما رميتها به من
الزنا في شهادته وإلى زيادة فيما رماني به من الزنا في
شهادتها، وما ذكر من الإتيان بضمير المتكلم هو الظاهر ولم يؤت
به في النظم الكريم لتتسق الضمائر وتكون في جميع الآية على طرز
واحد مع ما في ذلك من نكتة رعاية التالي على ما قيل، وليس في
الآية التفات أصلا كما توهم بعض من أدركناه من فضلاء العصر،
وأما ما أشير من عدم الاحتياج إلى زيادة ما تقدم فالظاهر أن
الأحوط خلافه وقد جاءت تلك الزيادة فيما وقع في زمانه صلّى
الله عليه وسلّم من اللعان بين هلال وزوجته على ما في بعض
الروايات، وذكر الأصحاب أنه يزيد في صورة اللعان بالقذف بنفي
الولد بعد قوله: لمن الصادقين قوله فيما رميتك به من نفي الولد
وأنها تزيد بعد لمن الكاذبين قولها: فيما رميتني به من نفي
الولد: ولو كان القذف بالزنا ونفي الولد ذكر في اللعان
الأمران، ونقل أبو حيان عن مالك أن الملاعن يقول: أشهد بالله
إني رأيتها تزني والملاعنة تقول أشهد بالله ما رآني أزني وعن
الشافعي أن الزوج يقول: أشهد بالله إني لصادق فيما رميت به
زوجتي فلانة بنت فلان ويشير إليها إن كانت حاضرة أربع مرات ثم
يقعده الإمام ويذكره الله تعالى فإن رآه يريد أن يمضي أمر من
يضع يده على فيه فإن لم يمتنع تركه وحينئذ يقول الخامسة ويأتي
بياء الضمير مع (على) وإن كان قد قذفها بأحد يسميه بعينه واحدا
أو اثنين في كل شهادة، وإن نفى ولدها زاد وإن هذا الولد ولد
زنا ما هو مني، والتخويف بالله عز وجل مشروع في حق المتلاعنين،
فقد صح في قصة هلال أنه لما كان الخامسة قيل له: اتق الله
تعالى واحذر عقابه فإن عذاب الدنيا أسهل من عذاب الآخرة وإن
هذه هي الموجبة التي توجب عليك العقاب، وقيل: نحو ذلك لامرأته
عند الخامسة أيضا.
وفي ظاهر الآية رد على الشافعي عليه الرحمة حيث قال إنه بمجرد
لعان الزوج تثبت الفرقة بينهما وذلك لأن المتبادر أنها تشهد
الشهادات وهي زوجة ومتى كانت الفرقة بلعان الزوج لم تبق زوجة
عند لعانها، والذي ذهب إليه أبو حنيفة عليه الرحمة أنه إذا وقع
التلاعن تثبت حرمة الوطء ودواعيه عن الملاعن فإن طلقها فذاك
وإن لم يطلقها بانت بتفريق الحاكم وإن لم يرضيا بالفرقة، ولو
فرق خطأ بعد وجود الأكثر من كل منهما صح، ويشترط كون التفريق
بحضورهما وحضور الوكيل كحضور الأصيل ويتوارثان قبله، ولو زالت
أهلية اللعان بعده فإن كان بما يرجى زواله كجنون فرق وإلّا لا،
وقال زفر: تقع الفرقة بتلاعنهما وإن أكذب نفسه من بعد اللعان
والتفريق وحد أم لم يحد يحل له تزوجها عند أبي حنيفة ومحمد
وقال أبو يوسف إذا افترق المتلاعنان فلا يجتمعان أبدا وتثبت
بينهما حرمة كحرمة الرضاع وبه قالت الأئمة الثلاثة، وأدلة هذه
الأقوال وما لها وما عليها تطلب من كتب الفقه المبسوطة، واستدل
بمشروعية اللعان على جواز الدعاء باللعن على كاذب معين فإن
قوله: لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كانَ مِنَ الْكاذِبِينَ
دعاء على نفسه باللعن على تقدير كذبه وتعليقه على ذلك لا يخرجه
عن التعيين، نعم يقال إن مشروعيته إن كان صادقا فلو كان كاذبا
فلا يحل له، واستدل الخوارج على أن الكذب كفر لاستحقاق من يتصف
به اللعن وكذا الزنا كفر لاستحقاق فاعله الغضب فإن كلا من
اللعن والغضب لا يستحقه إلا الكافر لأن اللعن الطرد عن الرحمة
وهو لا يكون
(9/307)
إلا لكافر والغضب أعظم منه، وفيه أنه لا
يسلم أن اللعن في أي موضع وقع بمعنى الطرد عن الرحمة فإنه قد
يكون بمعنى الإسقاط عن درجة الأبرار وقد يقصد به إظهار خساسة
الملعون، وكذا لا يسلم اختصاص الغضب بالكافر وإن كان أشد من
اللعن والله تعالى أعلم.
وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ
اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ التفات إلى خطاب الرامين والمرميات
بطريق التغليب لتوفية مقام الامتنان حقه، وجواب لَوْلا محذوف
لتهويله حتى كأنه لا توجد عبارة تحيط ببيانه، وهذا الحذف شائع
في كلامهم.
قال جرير:
كذب العواذل لو رأين مناخنا ... بحزيز رامة والمطي سوام
ومن أمثالهم لو ذات سوار لطمتني فكأنه قيل: لولا تفضله تعالى
عليكم ورحمته سبحانه وأنه تعالى مبالغ في قبول التوبة حكيم في
جميع أفعاله وأحكامه التي من جملتها ما شرع لكم من حكم اللعان
لكان مما لا يحيط به نطاق البيان، ومن جملته أنه تعالى لو لم
يشرع لهم ذلك لوجب على الزوج حد القذف مع أن الظاهر صدقه لأنه
أعرف بحال زوجته وأنه لا يفتري عليها لاشتراكهما في الفضاحة،
وبعد ما شرع لهم لو جعل شهاداته موجبة لحد الزنا عليها لفات
النظر إليها، ولو جعل شهاداته موجبة لحد القذف عليه لفات النظر
له، ولا ريب في خروج الكل عن سنن الحكمة والفضل والرحمة، فجعل
شهادات كل منهما مع الجزم بكذب أحدهما حتما دارئة لما توجه
إليه من الغائلة الدنيوية، وقد ابتلي الكاذب منهما في تضاعيف
شهاداته من العذاب بما هو أتم مما درأته عنه وأطم وفي ذلك من
أحكام الحكم البالغة وآثار التفضل والرحمة ما لا يخفى أما على
الصادق فظاهر وأما على الكاذب فهو إمهاله والستر عليه في
الدنيا ودرء الحد عنه وتعريضه للتوبة حسبما ينبىء عنه التعرض
لعنوان توابيته تعالى فسبحانه ما أعظم شأنه وأوسع رحمته وأدق
حكمته قال شيخ الإسلام، وعن ابن سلام تفسير الفضل بالإسلام ولا
يخفى أنه مما لا يقتضيه المقام، وعن أبي مسلم أنه أدخل في
الفضل النهي عن الزنا ويحسن ذلك لو جعلت الجملة تذييلا لجميع
ما تقدم من الآيات وفيه من البعد ما فيه إِنَّ الَّذِينَ جاؤُ
بِالْإِفْكِ أي بأبلغ ما يكون من الكذب والافتراء وكثيرا ما
يفسر بالكذب مطلقا، وقيل: هو البهتان لا تشعر به حتى يفجأك،
وجوز فيه فتح الهمزة والفاء وأصله من الأفك بفتح فسكون وهو
القلب والصرف لأن الكذب مصروف عن الوجه الذي يحق، والمراد به
ما افك به الصديقة أم المؤمنين رضي الله تعالى عنها على أن
اللام فيه للعهد، وجوز حمله على الجنس قيل فيفيد القصر كأنه لا
إفك إلا ذلك الإفك، وفي لفظ المجيء إشارة إلى أنهم أظهروه من
عند أنفسهم من غير أن يكون له أصل، وتفصيل القصة ما
أخرجه البخاري وغيره عن عروة عن عائشة رضي الله تعالى عنها
قالت: «كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا أراد أن يخرج
أقرع بين أزواجه فأيتهن خرج سهمها خرج بها رسول الله صلّى الله
عليه وسلّم معه. قالت عائشة. فأقرع بيننا في غزوة (1) غزاها
فخرج سهمي فخرجت مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بعد ما نزل
الحجاب فأنا أحمل في هودجي وأنزل فيه فسرنا حتى إذا فرغ رسول
الله صلّى الله عليه وسلّم من تلك وقفل ودنونا من المدينة
قافلين آذن ليلة بالرحيل فمشيت حتى جاوزت الجيش فلما قضيت شأني
أقبلت إلى رحلي فإذا عقد لي من جزع ظفار قد انقطع فالتمست عقدي
وحبسني ابتغاؤه وأقبل الرهط الذين كانوا يرحلون لي فاحتملوا
هودجي فرحلوه على بعيري الذي كنت ركبت وهم يحسبون أني فيه وكان
النساء إذ ذاك خفافا لم يثقلهن اللحم إنما
__________
(1) هي غزوة بني المصطلق وكانت في سنة ست اهـ منه.
(9/308)
نأكل العلقة من الطعام فلم يستنكر القوم
خفة الهودج حين رفعوه وكنت جارية حديثة السن فبعثوا الجمل
وساروا فوجدت عقدي بعد ما استمر الجيش فجئت منازلهم وليس بها
داع ولا مجيب فأممت منزلي الذي كنت به وظننت أنهم سيفقدوني
فيرجعون إليّ فبينا أنا جالسة في منزلي غلبتني عيني فنمت وكان
صفوان بن المعطل السلمي ثم الذكواني من وراء الجيش فأدلج فأصبح
عند منزلي فرأى سواد إنسان نائم فأتاني فعرفني وكان يراني قبل
الحجاب فاستيقظت باسترجاعه حين عرفني فخمرت وجهي بجلبابي والله
ما كلمني كلمة ولا سمعت منه كلمة غير استرجاعه حين أناخ راحلته
فوطئ على يديها فركبتها فانطلق يقود بي الراحلة حتى أتينا
الجيش بعد ما نزلوا موغرين في نحر الظهيرة فهلك فيّ من هلك
وكان الذي تولى الإفك عبد الله بن أبيّ ابن سلول فقدمنا
المدينة فاشتكيت حين قدمت شهرا والناس يفيضون في قول أصحاب
الإفك لا أشعر بشيء من ذلك وهو يريبني في وجعي أني لا أعرف من
رسول الله صلّى الله عليه وسلّم اللطف الذي كنت أرى منه حين
أشتكي إنما يدخل علي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فيسلم ثم
يقول: كيف تيكم؟ ثم ينصرف فذاك الذي يريبني ولا أشعر بالشر حتى
خرجت بعد ما نقهت فخرجت معي أم مسطح قبل المناصع وهو متبرزنا
وكنا لا نخرج إلا ليلا إلى ليل، وذلك قبل أن نتخذ الكنف قريبا
من بيوتنا وأمرنا أمر العرب الأول في التبرز قبل الغائط فكنا
نتأذى بالكنف أن نتخذها عند بيوتنا فانطلقت أنا وأم مسطح وهي
ابنة أبي رهم بن عبد مناف وأمها بنت صخر بن عامر خالة أبي بكر
الصديق وابنها مسطح بن أثاثة فأقبلت أنا وأم مسطح قبل بيتي قد
فرغنا من شأننا فعثرت أم مسطح في مرطها فقالت: تعس مسطح فقلت
لها: بئس ما قلت أتسبين رجلا شهد بدرا؟ قالت: أي هنتاه أولم
تسمعي ما قال؟ قالت: قلت وما قال؟ فأخبرتني بقول أهل الإفك
فازددت مرضا على مرضي فلما رجعت إلى بيتي ودخل عليّ رسول الله
صلّى الله عليه وسلّم ثم قال: كيف تيكم؟ فقلت: أتأذن لي أن آتي
أبوي؟ قالت: وأنا حينئذ أريد أن أستيقن الخبر من قبلهما قالت:
فأذن لي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فجئت أبوي فقلت لأمي
(1) : يا أمتاه ما يتحدث الناس؟ قالت: يا بنية هوني عليك فو
الله لقلما كانت امرأة قط وضيئة عند رجل ولها ضرائر إلا كثرن
عليها قالت: فقلت سبحان الله ولقد تحدث الناس بهذا قالت: فبكيت
تلك الليلة حتى أصبحت لا يرقأ لي دمع ولا أكتحل بنوم حتى أصبحت
أبكي فدعا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم علي بن أبي طالب
وأسامة بن زيد حين استلبث الوحي يستأمرهما في فراق أهله قالت:
فأما أسامة بن زيد فأشار على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم
بالذي يعلم من براءة أهله وبالذي يعلم لهم في نفسه من الود
فقال: يا رسول الله أهلك وما نعلم إلا خيرا وأما عليّ بن أبي
طالب فقال: يا رسول الله لم يضيق الله عليك والنساء سواها كثير
وإن تسأل الجارية تصدقك قالت: فدعا رسول الله صلّى الله عليه
وسلّم بريرة فقال: أي بريرة هل رأيت من شيء يريبك؟ قالت بريرة:
لا والذي بعثك بالحق إن رأيت عليها أمرا أغمصه عليها أكثر من
أنها جارية حديثة السن تنام عن عجين أهلها فتأتي الداجن فتأكله
فقام رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فاستعذر يومئذ من عبد
الله بن أبي ابن سلول قالت: فقال رسول الله صلّى الله عليه
وسلّم وهو على المنبر: يا معشر المسلمين من يعذرني من رجل قد
بلغني أذاه في أهل بيتي؟ فو الله ما علمت على أهلي إلا خيرا
ولقد ذكروا رجلا ما علمت عليه إلا خيرا وما كان يدخل على أهلي
إلا معي فقام سعد بن معاذ الأنصاري فقال: يا رسول الله أنا
أعذرك منه إن كان من الأوس ضربت عنقه وإن كان من إخواننا من
الخزرج أمرتنا ففعلنا أمرك قالت: فقام سعد بن عبادة وهو سيد
الخزرج وكان قبل ذلك رجلا صالحا ولكن احتملته الحمية فقال
لسعد: كذبت لعمر الله لا تقتله ولا تقدر على قتله فقام أسيد بن
حضير وهو ابن عم سعد فقال لسعد بن عبادة: كذبت لعمر الله
لنقتلنه فإنك منافق تجادل عن
المنافقين فثار الحيان
__________
(1) هي أم رومان زينب بنت دهمان اهـ منه.
(9/309)
من الأوس والخزرج حتى هموا أن يقتتلوا
ورسول الله صلّى الله عليه وسلّم قائم على المنبر فلم يزل رسول
الله صلّى الله عليه وسلّم يخفضهم حتى سكتوا وسكت قالت: فمكثت
يومي ذلك لا يرقأ لي دمع ولا أكتحل بنوم قالت: فأصبح أبواي
عندي قد وبكيت ليلتين ويوما لا أكتحل بنوم ولا يرقأ لي دمع
يظناني أن البكاء فالق كبدي قالت: فبينما هما جالسان عندي وأنا
أبكي فاستأذنت عليّ امرأة من الأنصار فأذنت لها فجلست تبكي معي
قالت: فبينا نحن على ذلك دخل علينا رسول الله صلّى الله عليه
وسلّم فسلم ثم جلس قالت: ولم يجلس عندي منذ قيل فيّ ما قيل
قبلها وقد لبث شهرا لا يوحى إليه في شأني قالت:
فتشهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حين جلس ثم قال: أما بعد
يا عائشة فإنه قد بلغني عنك كذا وكذا فإن كنت بريئة فسيبرئك
الله وإن كنت ألممت بذنب فاستغفري الله وتوبي إليه فإن العبد
إذا اعترف بذنبه ثم تاب إلى الله تاب الله عليه قالت: فلما قضى
رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مقالته قلص دمعي حتى ما أحس
منه قطرة فقلت لأبي: أجب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فيما
قال قال: والله ما أدري ما أقول لرسول الله فقلت لأمي: أجيبي
رسول الله قالت: ما أدري ما أقول لرسول الله صلّى الله عليه
وسلّم قالت: فقلت وأنا جارية حديثة السن لا أقرأ كثيرا من
القرآن: إني والله لقد علمت أنكم سمعتم هذا الحديث حتى استقر
في أنفسكم وصدقتم به فلئن قلت لكم: إني برية والله يعلم أني
برية لا تصدقوني ولئن اعترفت لكم بأمر والله يعلم أني منه برية
لتصدقني والله لا أجد لي ولكم مثلا إلا قول أبي يوسف فَصَبْرٌ
جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ [يوسف:
18] فاضطجعت على فراشي وأنا حينئذ أعلم أني برية وأن الله
مبرئني ببراءتي ولكن ما كنت أظن أن الله منزل في شأني وحيا
يتلى ولشأني في نفسي كان أحقر من أن يتكلم الله فيّ بأمر يتلى
ولكن كنت أرجو أن يرى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في النوم
رؤيا يبرئني الله بها قالت: فو الله ما رام رسول الله صلّى
الله عليه وسلّم ولا خرج أحد من أهل البيت حتى أنزل عليه فأخذه
ما كان يأخذه من البرحاء حتى إنه ليتحدر منه مثل الجمان من
العرق وهو في يوم شات من ثقل القول الذي ينزل عليه قالت: فلما
سري عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم سري عنه وهو يضحك فكان
أول كلمة تكلم بها: يا عائشة أما الله فقد برأك فقالت أمي:
قومي إليه فقلت: والله لا أقوم ولا أحمد إلا الله وأنزل الله
إِنَّ الَّذِينَ جاؤُ بِالْإِفْكِ العشر الآيات كلها،
والظاهر أن قوله تعالى:
عُصْبَةٌ مِنْكُمْ خبر إن وإليه ذهب الحوفي وأبو البقاء، وقال
ابن عطية: هو بدل من ضمير «جاؤوا» والخبر جملة قوله تعالى: لا
تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ والتقدير إن فعل الذين وهذا أنسق في
المعنى وأكثر فائدة من أن يكون عُصْبَةٌ الخبر انتهى، ولا يخفى
أنه تكلف، والفائدة في الاخبار على الأول قيل: التسلية بأن
الجائين بذلك الإفك فرقة متعصبة متعاونة وذلك من أمارات كونه
إفكا لا أصل له، وقيل: الأولى أن تكون التسلية بأن ذلك مما لم
يجمع عليه بل جاء به شرذمة منكم، وزعم أبو البقاء أنه بوصف
العصبة بكونها منهم أفاد الخبر، وفيه نظر.
والخطاب في مِنْكُمْ على ما أميل إليه لمن ساءه ذلك من
المؤمنين ويدخل فيه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأبو بكر
وأم رومان وعائشة وصفوان دخولا أوليا، وأصل العصبة الفرقة
المتعصبة قلت أو كثرت وكثر إطلاقها على العشرة فما فوقها إلى
الأربعين وعليه اقتصر في الصحاح، وتطلق على أقل من ذلك ففي
مصحف حفصة عصبة أربعة. وقد صح أن عائشة رضي الله تعالى عنها
عدت المنافق عبد الله بن أبي ابن سلول وحمنة بنت جحش أخت أم
المؤمنين زينب رضي الله تعالى عنها وزوجة طلحة بن عبيد الله
ومسطح بن أثاثة. وحسان بن ثابت، ومن الناس من برأ حسان وهو
خلاف ما في صحيح البخاري وغيره.
نعم الظاهر أنه رضي الله تعالى عنه لم يتكلم به عن صميم قلب
وإنما نقله عن ابن أبيّ لعنه الله تعالى، وقد جاء أنه رضي الله
تعالى عنه اعتذر عما نسب إليه في شأن عائشة رضي الله تعالى
عنها فقال:
(9/310)
حصان رزان ما تزنّ بريبة ... وتصبح غرثى من
لحوم الغوافل
حليلة خير الناس دينا ومنصبا ... نبي الهدى ذي المكرمات
الفواضل
عقيلة حي من لؤي بن غالب ... كرام المساعي مجدهم غير زائل
مهذبة قد طيب الله خيمها ... وطهرها من كل سوء وباطل
فإن كنت قد قلت الذي قد زعمتمو ... فلا رفعت سوطي إليّ أناملي
وكيف وودي ما حييت ونصرتي ... لآل رسول الله زين المحافل
له رتب عال على الناس كلهم ... تقاصر عنه سورة المتطاول
فإن الذي قد قيل ليس بلائط ... ولكنه قول امرئ بي (1) ماحل
وكانت عائشة رضي الله تعالى عنها تكرمه بعد ذلك وتذكره بخير
وإن صح أنها قالت له حين أنشدها أول هذه الأبيات: لكنك لست
كذلك، فقد أخرج ابن سعد عن محمد بن سيرين أن عائشة رضي الله
تعالى عنها كانت تأذن لحسان وتدعو له بالوسادة وتقول: لا تؤذوا
حسانا فإنه كان ينصر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بلسانه.
وأخرج ابن جرير من طريق الشعبي عنها أنها قالت: ما سمعت بشيء
أحسن من شعر حسان وما تمثلت به إلا رجوت له الجنة قوله لأبي
سفيان بن الحارث بن عبد المطلب:
هجوت محمدا وأجبت عنه ... وعند الله في ذاك الجزاء
فإن أبي ووالدتي وعرضي ... لعرض محمد منكم وقاء
أتشتمه ولست له بكفء ... فشركما لخيركما الفداء
لساني صارم لا عيب فيه ... وبحري لا تكدره الدلاء
وعد بعضهم مع الأربعة المذكورين زيد بن رفاعة ولم نر فيه نقلا
صحيحا، وقيل إنه خطأ، ومعنى «منكم» من أهل ملتكم وممن ينتمي
إلى الإسلام سواء كان كذلك في نفس الأمر أم لا فيشمل ابن أبيّ
لأنه ممن ينتمي إلى الإسلام ظاهرا وإن كان كافرا في نفس الأمر:
وقيل إن قوله تعالى: مِنْكُمْ خارج مخرج الأغلب وأغلب أولئك
العصبة مؤمنون مخلصون، وكذا الخطاب في لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا
لَكُمْ وقيل: الخطاب في الأول للمسلمين وفي هذا لسيد المخاطبين
رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ولأبي بكر وعائشة وصفوان رضي
الله تعالى عنهم والكلام مسوق لتسليتهم.
وأخرج ابن أبي حاتم والطبراني عن سعيد بن جبير أن الخطاب في
الثاني لعائشة وصفوان، وأبعد عن الحق من زعم أنه للذين جاؤوا
بالإفك وتكلف للخيرية ما تكلف، ولعل نسبته إلى الحسن لا تصح،
والظاهر أن ضمير الغائب في لا تَحْسَبُوهُ عائد على الإفك.
وجوز أن يعود على القذف وعلى المصدر المفهوم من جاؤُ وعلى ما
نال المسلمين من الغم والكل كما ترى، وعلى ما ذهب إليه ابن
عطية يعود على المحذوف المضاف إلى اسم إن الذي هو الاسم في
الحقيقة ونهوا عن حسبان ذلك شرا لهم إراحة لبالهم بإزاحة ما
يوجب استمرار بلبالهم، وأردف سبحانه النهي عن ذلك بالإضراب
بقوله عز وجل: بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ اعتناء بأمر التسلية،
والمراد بل هو خير عظيم لكم لنيلكم بالصبر عليه الثواب العظيم
وظهور كرامتكم على الله عز وجل بإنزال ما فيه تعظيم شأنكم
وتشديد الوعيد فيمن تكلم بما أحزنكم، والآيات
__________
(1) يقال محل به إذا سعى إلى السلطان فهو ماحل اهـ منه
(9/311)
المنزلة في ذلك على ما سمعت آنفا عن عائشة
رضي الله تعالى عنها عشر.
وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير أنه قال: نزلت ثماني عشرة
آية متواليات بتكذيب من قذف عائشة وبراءتها. وأخرج الطبراني عن
الحكم بن عتيبة قال: إنه سبحانه أنزل فيها خمس عشرة آية من
سورة النور ثم قرأ حتى بلغ الْخَبِيثاتُ لِلْخَبِيثِينَ
[النور: 26] وكأن الخلاف مبني على الخلاف في رؤوس الآي، وفي
كتاب العدد للداني ما يوافق المروي عن ابن جبير.
لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أي من الذين جاؤوا بالإفك مَا
اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ أي جزاء ما اكتسب وذلك بقدر ما خاض
فيه فإن بعضهم تكلم وبعضهم ضحك كالمعجب الراضي بما سمع وبعضهم
أكثر وبعضهم أقل.
وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ بكسر الكاف. وقرأ الحسن والزهري
وأبو رجاء ومجاهد والأعمش وأبو البرهسم وحميد وابن أبي عبلة
وسفيان الثوري ويزيد بن قطيب ويعقوب والزعفراني وابن مقسم
وعمرة بنت عبد الرحمن وسورة عن الكسائي ومحبوب عن أبي عمرو
«كبره» بضم الكاف وهو ومكسورها مصدران لكبر الشيء عظم ومعناهما
واحد، وقيل: الكبر بالضم المعظم وبالكسر البداءة بالشيء، وقيل:
الإثم، والجمهور على الأول أي والذي تحمل معظمه مِنْهُمْ أي من
الجائين به لَهُ عَذابٌ عَظِيمٌ في الدنيا والآخرة أو في
الآخرة فقط، وفي التعبير بالموصول وتكرير الإسناد وتنكير
العذاب ووصفه بالعظم من تهويل الخطب ما لا يخفى، والمراد بالذي
تولى كبره كما في صحيح البخاري عن الزهري عن عروة عن عائشة رضي
الله تعالى عنها عبد الله بن أبي عليه اللعنة وعلى ذلك أكثر
المحدثين.
وكان لعنه الله تعالى يجمع الناس عنده ويذكر لهم ما يذكر من
الإفك وهو أول من اختلقه وأشاعه لإمعانه في عداوة رسول الله
صلّى الله عليه وسلّم، وعذابه في الآخرة بعد جعله في الدرك
الأسفل من النار لا يقدر قدره إلا الله عز وجل، وأما في الدنيا
فوسمه بميسم الذل وإظهار نفاقه على رؤوس الأشهاد وحده حدين على
ما أخرج الطبراني وابن مردويه عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما
من أنه صلّى الله عليه وسلّم بعد أن نزلت الآيات خرج إلى
المسجد فدعا أبا عبيدة بن الجراح فجمع الناس ثم تلا عليهم ما
أنزل الله تعالى من البراءة لعائشة وبعث إلى عبد الله بن أبيّ
فجيء به فضربه عليه الصلاة والسلام حدين وبعث إلى حسان ومسطح
وحمنة فضربوا ضربا وجيعا ووجئوا في رقابهم، وقيل: حد حدا
واحدا، فقد أخرج الطبراني عن ابن عباس أنه فسر العذاب في
الدنيا بجلد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إياه ثمانين جلدة
وعذابه في الآخرة بمصيره إلى النار، وقيل: إنه لم يحد أصلا
لأنه لم يقر ولم يلتزم إقامة البينة عليه تأخيرا لجزائه إلى
يوم القيامة كما أنه لم يلتزم إقامة البينة على نفاقه وصدور ما
يوجب قتله لذلك وفيه نظر.
وزعم بعضهم أنه لم يحد مسطح، وآخرون أنه لم يحد أحدا ممن جاء
بالإفك إذ لم يكن إقرار ولم يلتزم إقامة بينة. وفي البحر أن
المشهور حد حسان ومسطح وحمنة، وقد أخرجه البزار وابن مردويه
بسند حسن عن أبي هريرة، وقد جاء ذلك في أبيات ذكرها ابن هشام
في ملخص السيرة لابن إسحاق وهي:
لقد ذاق حسان الذي كان أهله ... وحمنة إذ قالوا هجيرا ومسطح
تعاطوا برجم الغيب أمر نبيهم ... وسخطة ذي العرش الكريم
فأنزحوا
وآذوا رسول الله فيها فجللوا ... مخازي بغي يمحوها وفضحوا
وصب عليهم محصدات كأنها ... شآبيب قطر من ذرى المزن تسفح
وقيل: الذي تولى كبره حسان واستدل بما في صحيح البخاري أيضا عن
مسروق قال: دخل حسان على عائشة فشبب وقال: حصان «البيت» قالت:
لكنك لست كذلك قلت: تدعين مثل هذا يدخل عليك وقد أنزل الله
(9/312)
تعالى وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ
مِنْهُمْ لَهُ عَذابٌ عَظِيمٌ فقالت: وأي عذاب أشد من العمى،
وجاء في بعض الأخبار أنها قيل لها: أليس الله تعالى يقول:
وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ الآية؟ فقالت: أليس أصابه عذاب
عظيم أليس قد ذهب بصره وكسع بالسيف؟ تعني الضربة التي ضربها
إياه صفوان حين بلغه عنه أنه يتكلم في ذلك، فإنه يروى أنه ضربه
بالسيف على رأسه لذلك والأبيات (1) عرض فيها به وبمن أسلم من
العرب من مضر وأنشد:
تلقّ ذباب السيف مني فإنني ... غلام إذا هوجيت لست بشاعر
ولكنني أحمي حماي وأتقي ... من الباهت الرأي البريء الظواهر
وكاد يقتله بتلك الضربة.
فقد روى ابن إسحاق أنه لما ضربه وثب عليه ثابت بن قيس بن شماس
فجمع يديه إلى عنقه بحبل ثم انطلق به إلى دار بني الحارث بن
الخزرج فلقيه عبد الله بن رواحة فقال: ما هذا؟ قال: أما أعجبك
ضرب حسان بالسيف والله ما أراه إلا قد قتله فقال له عبد الله:
هل علم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بذلك وبما صنعت؟ قال:
لا والله قال: لقد اجترأت أطلق الرجل فأطلقه فأتوا رسول الله
عليه الصلاة والسلام فذكروا ذلك له فدعا حسان وصفوان فقال
صفوان: يا رسول الله آذاني وهجاني فاحتملني الغضب فضربته فقال
صلّى الله عليه وسلّم: يا حسان أتشوهت على قومي بعد أن هداهم
الله تعالى للإسلام ثم قال: أحسن يا حسان في الذي أصابك فقال:
هي لك يا رسول الله فعوضه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم منها
بيرحاء وكان أبو طلحة بن سهل أعطاها إياه عليه الصلاة والسلام
ووهبه أيضا سيرين أمة قبطية فولدت له عبد الرحمن بن حسان.
وفي رواية في صحيح البخاري عن عائشة أيضا رضي الله تعالى عنها
أنها قالت في الَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ هو أي
المنافق ابن أبيّ وحمنة، وقيل: هو وحسان ومسطح، وعذاب المنافق
الطرد وظهور نفاقه وعذاب الأخيرين بذهاب البصر، ولا يأبى إرادة
المتعدد إفراد الموصول لما في الكشف من أن الَّذِي يكون جمعا
وإفراد ضميره جائز باعتبار إرادة الجمع أو الفوج أو الفريق أو
نظرا إلى أن صورته صورة المفرد، وقد جاء إفراده في قوله تعالى:
وَالَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ [الزمر: 33] وجمعه
في قوله سبحانه: وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خاضُوا [التوبة: 69]
والمشهور جواز استعمال «الذي» جمعا مطلقا. واشترط ابن مالك في
التسهيل أن يراد به الجنس لا جمع مخصوص فإن أريد الخصوص قصر
على الضرورة هذا ولا يخفى أن إرادة الجمع هنا لا تخلو عن بعد،
والذي اختاره إرادة الواحد وأن ذلك الواحد هو عدو الله تعالى
ورسوله صلّى الله عليه وسلّم والمؤمنين ابن أبيّ، وقد روى ذلك
الزهري عن سعيد بن المسيب وعروة بن الزبير وعلقمة بن أبي وقاص
وعبد الله بن عتبة وكلهم سمع عائشة تقول: الَّذِي تَوَلَّى
كِبْرَهُ عبد الله بن أبي، وقد تظافرت روايات كثيرة على ذلك،
والذاهبون إليه من المفسرين أكثر من الذاهبين منهم إلى غيره.
ومن الإفك الناشئ من النصب قول هشام بن عبد الملك عليه من الله
تعالى ما يستحق حين سئل الزهري عن الَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ
فقال له: هو ابن أبيّ كذبت هو علي. يعني به أمير المؤمنين علي
بن أبي طالب كرم الله تعالى وجهه. وقد روى ذلك عن هشام البخاري
والطبراني وابن مردويه والبيهقي في الدلائل، ولا بدع من أمويّ
الافتراء على أمير المؤمنين عليّ كرم الله تعالى وجهه ورضي
عنه. وأنت تعلم أن قصارى ما روي عن الأمير رضي الله تعالى عنه
أنه قال لأخيه وابن عمه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حين
استشاره يا رسول الله لم يضيق الله تعالى عليك والنساء سواها
كثير وإن تسأل الجارية تصدقك.
__________
(1) ذكر ابن هشام في السيرة اهـ منه. [.....]
(9/313)
وفي رواية أنه قال: يا رسول الله قد قال
الناس وقد حل لك طلاقها، وفي رواية أنه رضي الله تعالى عنه ضرب
بريرة وقال: اصدقي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وليس في ذلك
شيء مما يصلح مستندا لذلك الأموي الناصبي، وجل غرض الأمير مما
ذكر أن يسري عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ما هو فيه من
الغم غاية ما في الباب أنه لم يسلك في ذلك مسلك أسامة وهو أمر
غير متعين، ومن دقق النظر عرف مغزى الأمير كرم الله تعالى وجهه
وأنه بعيد عما يزعمه النواصب بعد ما بين المشرق والمغرب
فليتدبر لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ التفات إلى خطاب الخائضين
ما عدا من تولى كبره منهم، واستظهر أبو حيان كون الخطاب
للمؤمنين دونه، واختير الخطاب لتشديد ما في لولا التحضيضية من
التوبيخ، ولتأكيد التوبيخ عدل إلى الغيبة في قوله تعالى: ظَنَّ
الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً لكن لا
بطريق الإعراض عن المخاطبين وحكاية جناياتهم لغيرهم بل بالتوسل
بذلك إلى وصفهم بما يوجب الإتيان بالمحضض عليه ويقتضيه اقتضاء
تاما ويزجرهم عن ضده زجرا بليغا وهو الإيمان وكونه مما يحملهم
على إحسان الظن ويكفهم عن إساءته بأنفسهم أي بأبناء جنسهم وأهل
ملتهم النازلين منزلة أنفسهم كقوله تعالى: وَلا تَلْمِزُوا
أَنْفُسَكُمْ [الحجرات: 11] وقوله سبحانه:
ثُمَّ أَنْتُمْ هؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ [البقرة: 85]
ولا حاجة إلى تقدير مضاف أي ظن بعض المؤمنين والمؤمنات بأنفس
بعضهم الآخر وإن قيل بجوازه مما لا ريب فيه فإخلالهم بموجب ذلك
الوصف أقبح وأشنع والتوبيخ عليه أدخل مع ما فيه من التوسل به
إلى توبيخ الخائضات والمشهور منهن حمنة ثم إن كان المراد
بالإيمان الإيمان الحقيقي فإيجابه لما ذكر واضح والتوبيخ خاص
بالمتصفين به، وإن كان مطلق الإيمان الشامل لما يظهره
المنافقون أيضا فإيجابه له من حيث إنهم كانوا يحترزون عن إظهار
ما ينافي مدعاهم فالتوبيخ حينئذ متوجه إلى الكل، والنكتة في
توسيط معمول الفعل المحضض عليه بينه وبين أداة التخصيص وإن جاز
ذلك مطلقا أي سواء كان المعمول الوسط ظرفا أو غيره تخصيص
التخضيض بأول وقت السماع وقصر التوبيخ واللوم على تأخير
الإتيان بالمحضض عليه عن ذلك الآن والتردد فيه ليفيد أن عدم
الإتيان به رأسا في غاية ما يكون من القباحة والشناعة أي كان
الواجب على المؤمنين والمؤمنات أن يظنوا أول ما سمعوا ذلك
الإفك ممن اخترعه بالذات أو بالواسطة من غير تلعثم وتردد بأهل
ملتهم من آحاد المؤمنين والمؤمنات خيرا وَقالُوا في ذلك الآن
هذا إِفْكٌ مُبِينٌ أي ظاهر مكشوف كونه إفكا فكيف بأم المؤمنين
حليلة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بنت المهاجرين رضي الله
تعالى عنهما.
ويجوز أن يكون المعنى هلا ظن المؤمنون والمؤمنات أول ما سمعوا
ذلك خيرا بأهل ملتهم عائشة وصفوان وقالوا إلخ لَوْلا جاؤُ
عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ إما من تمام القول المحضض عليه
مسوق لتوبيخ السامعين على ترك الزام الخائضين أي هلا جاء
الخائضون بأربعة شهداء يشهدون على ثبوت ما قالوا: فَإِذْ لَمْ
يَأْتُوا بِالشُّهَداءِ الأربعة، وكان الظاهر فإذا لم يأتوا
بهم إلا أنه عدل إلى ما في النظم الجليل لزيادة التقرير
فَأُولئِكَ إشارة إلى الخائضين، وما فيها من معنى البعد
للإيذان ببعد منزلتهم في الفساد أي فأولئك المفسدون عِنْدَ
اللَّهِ أي في حكمه وشريعته هُمُ الْكاذِبُونَ أي المحكوم
عليهم بالكذب شرعا أي بأن خبرهم لم يطابق في الشرع الواقع،
وقيل: المعنى فأولئك في علم الله تعالى هم الكاذبون الذين لم
يطابق خبرهم الواقع في نفس الأمر لأن الآية في خصوص عائشة رضي
الله تعالى عنها وخبر أهل الإفك فيها غير مطابق للواقع في نفس
الأمر في علمه عز وجل.
وتعقب بأن خصوص السبب لا ينافي عموم الحكم مع أن ظاهر التقييد
بالظرف يأبى ذلك، وجعله من قبيل قوله تعالى: الْآنَ خَفَّفَ
اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً [الأنفال:
66] خلاف الظاهر، وأيا ما كان فالحصر للمبالغة، وإما كلام
مبتدأ مسوق من جهته سبحانه وتعالى تقريرا لكون ذلك إفكا
وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ أي تفضله سبحانه
(9/314)
عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ إياكم فِي
الدُّنْيا بفنون النعم التي من جملتها الإمهال للتوبة وَفي
الْآخِرَةِ بضروب الآلاء التي من جملتها العفو والمغفرة بعد
التوبة، وفي الكلام نشر على ترتيب اللف، وجوز أن يتعلق فِي
الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ بكل من فضل الله تعالى ورحمته، والمعنى
لولا الفضل العام والرحمة العامة في كلا الدارين لَمَسَّكُمْ
عاجلا فِيما أَفَضْتُمْ فِيهِ أي بسبب ما خضتم فيه من حديث
الإفك.
والإبهام لتهويل أمره واستهجان ذكره يقال أفاض في الحديث وخاض
وهضب واندفع بمعنى، والإفاضة في ذلك مستعارة من إفاضة الماء في
الإناء، ولَوْلا امتناعية وجوابها لَمَسَّكُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ
يستحقر دونه التوبيخ والجلد، والخطاب لغير ابن أبي من
الخائضين، وجوز أن يكون لهم جميعا.
وتعقب بأن ابن أبي رأس المنافقين لا حظ له من رحمة الله تعالى
في الآخرة لأنه مخلد في الدرك الأسفل من النار إِذْ
تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ بحذف إحدى التاءين وإِذْ ظرف
للمس، وجوز أن يكون ظرفا لأفضتم وليس بذاك، والضمير المنصوب
لما أي لمسكم ذلك العذاب العظيم وقت تلقيكم ما أفضتم فيه من
الإفك وأخذ بعضكم إياه من بعض بالسؤال عنه، والتلقي والتلقف
والتلقن متقاربة المعاني إلا أن في التلقي معنى الاستقبال وفي
التلقف معنى الخطف والأخذ بسرعة وفي التلقن معنى الحذق
والمهارة. وقرأ أبيّ رضي الله تعالى عنه: «تتلقونه» على الأصل،
وشد التاء البزي، وأدغم الذال في التاء النحويان وحمزة.
وقرأ ابن السميفع «تلقونه» بضم التاء والقاف وسكون اللام مضارع
ألقى، وعنه «تلقونه» بفتح التاء والقاف وسكون اللام مضارع لقي،
وقرأت عائشة وابن عباس رضي الله تعالى عنهما وعيسى وابن يعمر
وزيد بن علي بفتح التاء وكسر اللام وضم القاف من ولق الكلام
كذبه حكاه السرقسطي، وفيه رد على من زعم أن ولق إذا كان بمعنى
كذب لا يكون متعديا وهو ظاهر كلام ابن سيده وارتضاءه أبو حيان
ولذا جعل ذلك من باب الحذف والإيصال والأصل تلقون فيه، وروي عن
عائشة رضي الله تعالى عنها أنها كانت تقرأ ذلك وتقول: الولق
الكذب، وقال ابن أبي مليكة:
وكانت أعلم بذلك من غيرها لأنه نزل فيها.
وقال ابن الأنباري: من ولق الحديث أنشأه واخترعه، وقيل: من ولق
الكلام دبره، وحكى الطبري وغيره أن هذه اللفظة مأخوذة من الولق
الذي هو الإسراع بالشيء بعد الشيء كعدد في أثر عدد وكلام في
أثر كلام ويقال: ناقة ولقى سريعة، ومنه الأولق للمجنون لأن
العقل باب من السكون والتماسك والجنون باب من السرعة والتهافت.
وعن ابن جني أنه فسر ما في الآية بما ذكر يكون ذلك من باب
الحذف والإيصال والأصل تسرعون فيه أو إليه، قرأ زيد بن أسلم
وأبو جعفر «تألقونه» بفتح التاء وهمزة ساكنة بعدها لام ساكنة
من الألق وهو الكذب. وقرأ يعقوب في رواية المازني «تيلقونه»
بتاء فوقانية مكسورة بعدها ياء ولام مفتوحة كأنه مضارع ولق
بكسر اللام كما قالوا تيجل مضارع وجل، وعن سفيان بن عيينة سمعت
أمي تقرأ «إذ تثقفونه» من ثقفت الشيء إذا طلبته فأدركته جاء
مثقلا ومخففا أي تتصيدون الكلام في الإفك من هاهنا ومن هاهنا.
وقرىء «تقفونه» من قفاه إذا تبعه أي تتبعونه.
وَتَقُولُونَ بِأَفْواهِكُمْ ما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ أي
تقولون قولا مختصا بالأفواه من غير أن يكون له مصداق ومنشأ في
القلوب لأنه ليس تعبيرا عن علم به في قلوبكم فهذا كقوله تعالى:
يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ [آل
عمران: 167] .
(9/315)
وقال ابن المنير: يجوز أن يكون قوله
سبحانه: تَقُولُونَ بِأَفْواهِكُمْ توبيخا كقولك: أتقول ذلك
بملء فيك فإن القائل ربما رمز وعرض وربما تشدق جازما كالعالم،
وقد قيل هذا في قوله سبحانه: بَدَتِ الْبَغْضاءُ مِنْ
أَفْواهِهِمْ [آل عمران: 118] وقال صاحب الفرائد: يمكن أن يقال
فائدة ذكر بِأَفْواهِكُمْ أن لا يظن أنهم قالوا ذلك بالقلب لأن
القول يطلق على غير الصادر من الأفواه كما في قوله تعالى:
قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ [فصلت: 11] وقول الشاعر:
امتلأ الحوض وقال قطني ... مهلا رويدا قد ملأت بطني
فهو تأكيد لدفع المجاز. وأنت تعلم أن السياق يقتضي الأول وإليه
ذهب الزمخشري، وكان الظاهر وتقولونه بأفواهكم إلا أنه عدل عنه
إلى ما في النظم الجليل لما لا يخفى وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً
سهلا لا تبعة له: وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ أي والحال أنه
عند الله عز وجل أمر عظيم لا يقادر قدره في الوزر واستجرار
العذاب، والجملتان الفعليتان معطوفتان على جملة تَلَقَّوْنَهُ
داخلتان معها في حيز إِذْ فيكون قد علق مس العذاب العظيم بتلقي
الإفك بألسنتهم والتحدث به من غير روية وفكر وحسبانهم ذلك مما
لا يعبأ به وهو عند الله عز وجل عظيم.
وَلَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ممن اخترعه أو المتابع له
قُلْتُمْ تكذيبا له وتهويلا لما ارتكبه ما يَكُونُ لَنا أَنْ
نَتَكَلَّمَ أي ما يمكننا وما يصدر عنا بوجه من الوجوه التكلم
بِهذا إشارة إلى القول الذي سمعوه باعتبار شخصه.
وجوز أن يكون إشارة إلى نوعه فإن قذف آحاد الناس المتصفين
بالإحصان محرم شرعا، وجاء عن حذيفة مرفوعا أنه يهدم عمل مائة
سنة فضلا عن تعرض الصديقة حرمة رسول الله صلّى الله عليه
وسلّم، والكلام في توسيط الظرف على نحو ما مر سُبْحانَكَ تعجب
ممن تفوه به، وأصله أن يذكر عند معاينة العجيب من صنائعه تعالى
شأنه تنزيها له سبحانه من أن يصعب عليه أمثاله ثم كثر حتى
استعمل في كل متعجب منه واستعماله فيما ذكر مجاز متفرع على
الكناية، ومثله في استعماله للتعجب لا إله إلا الله، والعوام
يستعملون الصلاة على النبي صلّى الله عليه وسلّم في ذلك المقام
أيضا ولم يسمع في لسان الشرع بل قد صرح بعض الفقهاء بالمنع
منه.
وجوز أن يكون سُبْحانَكَ هنا مستعملا في حقيقته والمراد تنزيه
الله تعالى شأنه من أن يصم نبيه عليه الصلاة والسلام ويشينه
فإن فجور الزوجة وصمة في الزوج تنفر عنه القلوب وتمنع عن
اتباعه النفوس ولذا صان الله تعالى أزواج الأنبياء عليهم
السلام عن ذلك، وهذا بخلاف الكفر فإن كفر الزوجة ليس وصمة في
الزوج، وقد ثبت كفر زوجتي نوح ولوط عليهما السلام كذا قيل،
وسيأتي إن شاء الله تعالى قريبا ما يتعلق به، وعلى هذا يكون
سُبْحانَكَ تقريرا لما قبله وتمهيدا لقوله سبحانه: هذا
بُهْتانٌ أي كذب يبهت ويحير سامعه لفظاعته عَظِيمٌ لا يقدر
قدره لعظمة المبهوت عليه فإن حقارة الذنوب وعظمها كثيرا ما
يكونان باعتبار متعلقاتها، والظاهر أن التوبيخ للسامعين
الخائضين لا للسامعين مطلقا،
فقد روي عن سعيد بن جبير أن سعد بن معاذ لما سمع ما قيل في أمر
عائشة رضي الله تعالى عنها قال: سبحانك هذا بهتان عظيم. وعن
سعيد بن المسيب أنه قال: كان رجلان من أصحاب النبي صلّى الله
عليه وسلّم إذا سمعا شيئا من ذلك قالا ما ذكر أسامة بن زيد بن
حارثة وأبو أيوب رضي الله تعالى عنهما. وأخرج ابن مردويه عن
عائشة رضي الله تعالى عنها أنها قالت: إن امرأة أبي أيوب
الأنصاري قالت له: يا أبا أيوب ألا تسمع ما يتحدث به الناس؟
فقال: ما يكون لنا أن نتكلم بهذا سبحانك هذا بهتان عظيم، ومنشأ
هذا الجزم على ما قاله الإمام الرازي العلم بأن زوجة الرسول
عليه الصلاة والسلام لا يجوز أن تكون فاجرة، وعلل بأن ذلك ينفر
عن الاتباع فيخل بحكمة البعثة كدناءة الآباء وعهر الأمهات، وقد
نص العلامة الثاني على أن من شروط النبوة السلامة عن ذلك بل عن
كل ما ينفر عن الاتباع. واستشكل ذلك بأنه إذا كان ما ذكر شرطا
فكيف علمه من سمعت حتى قالوا ما قالوا وخفي الأمر على رسول
(9/316)
الله صلّى الله عليه وسلّم حتى قال كما في
صحيح البخاري وغيره: «يا عائشة إنه بلغني عنك كذا وكذا فإن كنت
بريئة فسيبرئك الله تعالى وإن كنت ألممت بذنب فاستغفري الله
تعالى وتوبي إليه» .
وجاء في بعض الروايات «يا عائشة إن كنت فعلت هذا الأمر فقولي
لي حتى أستغفر الله تعالى لك»
وكذا خفي على صاحبه أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه، فقد
أخرج البزار بسند صحيح عن عائشة رضي الله تعالى عنها أنه لما
نزل عذرها قبل أبو بكر رضي الله تعالى عنه رأسها فقالت: ألا
عذرتني فقال: أي سماء تظلني وأي أرض تقلني إن قلت ما لا أعلم؟.
وأجيب بأن ذلك ليس من الشروط العقلية للنبوة كالأمانة والصدق
بل هو من الشروط الشرعية والعادية، كما قال اللقاني فيجوز أن
يقال: إنه لم يكن معلوما قبل وإنما علم بعد نزول آيات براءة
عائشة رضي الله تعالى عنها، وعدم العلم بمثل ذلك لا يقدح في
منصب النبوة، وأما دعوى علم من ذكر به فلا دليل عليها، وقولهم
ذلك يجوز أن يكون ناشئا عن حسن الظن لا عن علم بكون السلامة من
المنفر عن الاتباع من شروط النبوة، ويشهد لهذا نظرا إلى بعض
القائلين والظاهر تساويهم ما أخرجه ابن إسحاق وابن جرير وابن
المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه وابن عساكر عن بعض الأنصار
أن امرأة أبي أيوب قالت له حين قال أهل الإفك ما قالوا: ألا
تسمع ما يقول الناس في عائشة رضي الله تعالى عنها؟ قال: بلى
وذلك الكذب أكنت أنت فاعلة يا أم أيوب؟ قالت: لا والله فقال:
فعائشة رضي الله تعالى عنها والله خير منك وأطيب إنما هذا كذب
وإفك باطل، وروى قريبا منه الحاكم وابن عساكر أيضا عن أفلح
مولى أبي أيوب، ولعله المعني ببعض الأنصار في الخبر السابق،
ولم يقل صلّى الله عليه وسلّم نحو ذلك لحسن الظن لشدة غيرته
عليه الصلاة والسلام والغيور لا يكاد يعول في مثل ذلك على حسن
الظن، ويمكن أن يكون قولهم ذلك ناشئا عن العلم بكون السلامة من
المنفر عن الاتباع من شروط النبوة بأن يكونوا قد تفطنوا لكون
حكمة البعثة تقتضي تلك السلامة وقد يتفطن العالم لما لا يتفطن
له من هو أعلم منه.
وجوز أن يدعى أن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان عالما بعدم
جواز فجور نساء الأنبياء عليهم الصلاة والسلام لما فيه من
النفرة المخلة بحكمة البعثة لكن أراد عليه الصلاة والسلام أن
يظهر أمر براءة الصديقة رضي الله تعالى عنها ظهور الشمس في
رابعة النهار بحيث لا يبقى فيه خفاء عند أحد من الصحابة الكرام
رضي الله تعالى عنهم، وما عراه من الهم إنما هو أمر طبيعي حصل
بسبب خوض المنافقين ومن تبعهم وشيوع ما لا أصل له من الباطل
بين الناس، ويحتمل أنه صلّى الله عليه وسلّم كان عالما بأن
السلامة من المنفر من شروط النبوة لكن خشي من الله عز وجل الذي
لا يجب عليه شيء أن لا يجعل ما خاض المنافقون وأتباعهم فيه من
المنفر بأن لا يرتب سبحانه خلق النفرة في القلوب عليه ليمنع من
الاتباع فتختل حكمة البعثة فداخله عليه الصلاة والسلام من الهم
ما داخله وجعل يتتبع الأمر على أتم وجه وما ذلك إلا من مزيد
العلم ونهاية الحزم، ونظيره من وجه خوفه عليه الصلاة والسلام
من قيام الساعة عند اشتداد الريح بحيث لا يستطيع أن ينام ما
دام الأمر كذلك حتى تمطر السماء.
وقيل يجوز أن لا يعد فجور الزوجة منفرا إلا إذا أمسكت بعد
العلم به فلم لا يجوز أن يقع فيجب طلاقها وإذا طلقت لا يتحقق
المنفر المخل بالحكمة، هذا ولا يخفى عليك ما في بعض الاحتمالات
من البحث بل بعضها في غاية البعد عن ساحة القبول، ولعل الحق
أنه عليه الصلاة والسلام قد أخفي عليه أمر الشرطية إلى أن اتضح
أمر البراءة ونزلت الآيات فيها لحكمة الابتلاء وغيره مما الله
تعالى أعلم به. وإن قول أولئك الأصحاب رضي الله تعالى عنهم:
سبحانك هذا بهتان عظيم لم يكن ناشئا إلا عن حسن الظن، ولم
يتمسك به صلّى الله عليه وسلّم لأنه لا يحسم القال والقيل ولا
يرد
(9/317)
به شيء من الأباطيل، ولا ينبغي لمن يؤمن
بالله تعالى ورسوله صلّى الله عليه وسلّم أن يخالج قلبه بعد
الوقوف على الآيات والأخبار شك في طهارة نساء الأنبياء عليهم
الصلاة والسلام عن الفجور في حياة أزواجهن وبعد وفاتهم عنهن،
ونسب للشيعة قذف عائشة رضي الله تعالى عنها بما برأها الله
تعالى منه وهم ينكرون ذلك أشد الإنكار وليس في كتبهم المعول
عليها عندهم عين منه ولا أثر أصلا، وكذلك ينكرون ما نسب إليهم
من القول بوقوع ذلك منها بعد وفاته صلّى الله عليه وسلّم وليس
له أيضا في كتبهم عين ولا أثر.
والظاهر أنه ليس في الفرق الإسلامية من يختلج في قلبه ذلك فضلا
عن الإفك الذي برأها الله عز وجل منه.
يَعِظُكُمُ اللَّهُ أي ينصحكم أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ
أَبَداً أي كراهة أن تعودوا أو لئلا تعودوا أو يعظمكم في العود
أي في شأنه وما فيه من الإثم والمضار كما يقال وعظته في الخمر
وما فيها من المعار أو يزجركم عن العود على تضمين الوعظ معنى
الزجر، ويقال عاده وعاد إليه وعاد له وعاد فيه بمعنى، والمراد
بأبدا مدة الحياة.
إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ من باب إن كنت أبا لك فلم لا تحسن
إليّ يتضمن تذكيرهم بالإيمان الذي هو العلة في الترك والتهييج
لإبرازه في معرض الشك وفيه طرف من التوبيخ.
وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ أي ينزلها مبينة ظاهرة
الدلالة على معانيها، والمراد بها الآيات الدالة على الشرائع
ومحاسن آداب معاملة المسلمين، وإظهار الاسم الجليل في موضع
الإضمار لتفخيم شأن البيان.
وَاللَّهُ عَلِيمٌ بأحوال جميع مخلوقاته جلها ودقها حَكِيمٌ في
جميع أفعاله فأنى يمكن صدق ما قيل في حق حرم من اصطفاه لرسالته
وبعثه إلى كافة الخلق ليرشدهم إلى الحق ويزكيهم ويطهرهم
تطهيرا، وإظهار الاسم الجليل هاهنا لتأكيد استقلال الاعتراض
التذييلي والإشعار بعلية الألوهية للعلم والحكمة إِنَّ
الَّذِينَ يُحِبُّونَ أي يريدون ويقصدون أَنْ تَشِيعَ أن تنتشر
الْفاحِشَةُ أي الخصلة المفرطة في القبح وهي الفرية والرمي
بالزنا أو نفس الزنا كما روي عن قتادة، والمراد بشيوعها شيوع
خبرها فِي الَّذِينَ آمَنُوا متعلق بتشيع أي تشيع فيما بين
الناس.
وذكر المؤمنين لأنهم العمدة فيهم أو بمضمر هو حال من الفاحشة
أي كائنة في حق المؤمنين وفي شأنهم والمراد بهم المحصنون
والمحصنات كما روي عن ابن عباس لَهُمْ بسبب ذلك عَذابٌ أَلِيمٌ
فِي الدُّنْيا مما يصيبه من البلاء كالشلل والعمى وَفي
الْآخِرَةِ من عذاب النار ونحوه، وترتب ذلك على المحبة ظاهر
على ما نقل عن الكرماني من أن أعمال القلب السيئة كالحقد
والحسد ومحبة شيوع الفاحشة يؤاخذ العبد إذا وطن نفسه عليها،
ويعلم من الآية على أتم وجه سوء حال من نزلت الآية فيهم كابن
أبيّ ومن وافقه قلبا وقالبا. وأن لهم الحظ الأوفر من العذابين
حيث أحبوا الشيوع وأشاعوا.
وقال بعضهم: المراد من محبة الشيوع الإشاعة بقرينة ترتب العذاب
عليها فإنه لا يترتب إلا على الإشاعة دون المحبة التي لا
اختيار فيها، وإن سلم أن المراد بها محبة تدخل تحت الاختيار
وهي مما يترتب عليها العذاب قلنا: إن ذلك هو العذاب الأخروي
دون العذاب الدنيوي مثل الحد، وقد فسر ابن عباس وابن جبير
العذاب الأليم في الدنيا هنا بالحد وهو لا يترتب على المحبة
مطلقا بالاتفاق، ومن هنا قيل أيضا: إن ذكر المحبة من قبيل
الاكتفاء عن ذكر الشيء وهو الإشاعة بذكر مقتضيه تنبيها على قوة
المقتضى، وقيل: إن الكلام على التضمين أي يشيعون الفاحشة محبين
شيوعها لأن كلا معنى المحبة والإشاعة مقصودان.
(9/318)
يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ
وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ
بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ
عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ
أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ
سَمِيعٌ عَلِيمٌ (21) وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ
مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى
وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ
وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ
اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (22) إِنَّ
الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ
الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ
عَذَابٌ عَظِيمٌ (23) يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ
أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا
يَعْمَلُونَ (24) يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ
الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ
الْمُبِينُ (25) الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ
لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ
وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ أُولَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا
يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (26) يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ
بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى
أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ
(27) فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَدًا فَلَا تَدْخُلُوهَا
حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا
فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ
عَلِيمٌ (28)
واستشكل تفسير العذاب الأليم في الدنيا
بالحد بأنه لا يضم إليه العذاب الأليم في الآخرة لأن الحدود
مكفرة.
وأجيب بأن حكم الآية مخصوص بمن أشاع ذلك في حق أم المؤمنين،
وقيل: الحد لمن نقل الإفك من المسلمين والعذاب الأخروي لأبي
عذرته ابن أبيّ والموصول عام لهما، على أن في كون الحدود مطلقا
مكفرة خلافا فبعضهم قال به فيما عدا الردة وبعضهم أنكره وبعضهم
توقف فيه
لحديث أبي هريرة أنه عليه الصلاة والسلام قال: «لا أدري الحدود
كفارات لأهلها أم لا»
ولعل الأنسب بمساق النظم الكريم من تقبيح الخائضين في الإفك
المشيعين له هو ما ذكرناه أولا، والمراد بالموصول إما هم على
أن يكون للعهد الخارجي كما روي عن مجاهد وابن زيد والتعبير
بالمضارع في الصلة للإشارة إلى زيادة تقبيحهم بأنه قد صارت
محبتهم لشيوع الفاحشة عادة مستمرة، وإما ما يعمهم وغيرهم من كل
من يتصف بمضمون الصلة على إرادة الجنس ويدخل أولئك المشيعون
دخولا أوليا كما قيل: وَاللَّهُ يَعْلَمُ جميع الأمور التي من
جملتها ما في الضمائر من المحبة المذكورة وكذا وجه الحكمة في
تغليظ الوعيد وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ ما يعلمه سبحانه
وتعالى.
والجملة اعتراض تذييلي جيء به تقريرا لثبوت العذاب لهم وتعليلا
له، قيل: المعنى والله يعلم ما في ضمائرهم فيعاقبهم عليه في
الآخرة وأنتم لا تعلمون ذلك بل تعلمون ما يظهر لكم من أقوالهم
فعاقبوا عليه في الدنيا.
وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ الخطاب على
ما أخرج الطبراني عن ابن عباس لمسطح وحسان وحمنة أو لمن عدا
ابن أبيّ وأضرابه من المنافقين الخائضين، وهذا تكرير للمنة
بترك المعاجلة بالعقاب للتنبيه على كمال عظم الجريرة وقوله
سبحانه وتعالى: وَأَنَّ اللَّهَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ عطف على فَضْلُ
اللَّهِ وإظهار الاسم الجليل لتربية المهابة والإشعار باستتباع
صفة الألوهية للرأفة والرحمة، وتغيير سبكه وتصديره بحرف
التحقيق لما أنه المراد بيان اتصافه تعالى في ذاته بهاتين
الصفتين الجليلتين على الدوام والاستمرار لا بيان حدوث تعلقهما
بهم كما أن المراد بالمعطوف عليه وجواب لَوْلا محذوف كما مر
وهذه نظير الآية المارة في آخر حديث اللعان إلا أن في التعقيب
بالرؤوف الرحيم بدل التواب الحكيم هنالك ما يؤذن بأن الذنب في
هذا أعظم وكأنه لا يرتفع إلا بمحض رأفته تعالى وهو أعظم من أن
يرتفع بالتوبة كما روي عن ابن عباس من خاض في حديث الإفك وتاب
لم تقبل توبته والغرض التغليظ فلا تغفل.
(9/319)
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا
تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ [النور: 21. 28] أي لا
تسلكوا مسالكه في كل ما تأتون وما تذرون والكلام كناية عن
اتباع الشيطان وامتثال وساوسه فكأنه قيل: لا تتبعوا الشيطان في
شيء من الأفاعيل التي من جملتها إشاعة الفاحشة وحبها.
وقرأ نافع والبزي في رواية ابن ربيعة عنه وأبو عمرو وأبو بكر
وحمزة «خطوات» بسكون الطاء وقرىء بفتحها وهو في جميع ذلك جمع
خطوة بضم الخاء وسكون الطاء اسم لما بين القدمين، وأما الخطوة
بفتح الخاء فهو مصدر خطا، والأصل في الاسم إذا جمع أن تحرك
عينه فرقا بينه وبين الصفة فيضم اتباعا للفاء أو بفتح تخفيفا
وقد يسكن وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُواتِ الشَّيْطانِ وضع الظاهران
موضع ضميري الخطوات والشيطان حيث لم يقل ومن يتبعها أو من يتبع
خطواته لزيادة التقرير والمبالغة فَإِنَّهُ يَأْمُرُ
بِالْفَحْشاءِ هو ما أفرط قبحه كالفاحشة وَالْمُنْكَرِ هو ما
ينكره الشرع، وضمير إنه للشيطان وقيل للشأن وجواب الشرط مقدر
سد ما بعد الفاء مسده وهو في الأصل تعليل للجملة الشرطية وبيان
لعلة النهي كأنه قيل: من يتبع الشيطان ارتكب الفحشاء والمنكر
فإنه لا يأمر إلا بهما ومن كان كذلك لا يجوز اتباعه وطاعته،
وقد قرر ذلك النسفي وابن هشام في الباب الخامس من المغني.
وتعقب بأنه يأباه ما نص عليه النحاة من أن الجواب لا يحذف إلا
إذا كان الشرط ماضيا حتى عدوا من الضرورة قوله:
لئن تك قد ضاقت علي بيوتكم ... ليعلم ربي أن بيتي أوسع
وأجيب بأن الآية ليست من قبيل ما ذكروه في البيت فإنه مما حذف
فيه الجواب رأسا وهذا مما أقيم مقامه ما يصح جعله جوابا بحسب
الظاهر، وقال أبو حيان: الضمير عائد على من الشرطية ولم يعتبر
في الكلام حذفا أصلا، والمعنى على ذلك من يتبع الشيطان فإنه
يصير رأسا في الضلال بحيث يكون آمرا بالفحشاء والمنكر وهو مبني
على اشتراط ضمير في جواب الشرط الاسمي يعود إليه وسيأتي إن شاء
الله تعالى ما فيه.
وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ بما من جملته
إنزال هاتيك الآيات البينات والتوفيق للتوبة الممحصة من الذنوب
وكذا شرع الحدود المكفر لما عدا الردة منها على ما ذهب إليه
جمع وأجابوا عن حديث أبي هريرة السابق آنفا بأنه كان قبل أن
يوحى إليه صلّى الله عليه وسلّم بذلك ما زَكى أي ما طهر من دنس
الذنوب.
وقرأ روح والأعمش «ما زكى» بالتشديد والإمالة، وكتب «زكي»
المخفف بالياء مع أنه من ذوات الواو وحقها أن تكتب بالألف، قال
أبو حيان: لأنه قد يمال أو حملا على المشدد، ومن في قوله
تعالى: مِنْكُمْ بيانية، وفي قوله سبحانه: مِنْ أَحَدٍ سيف
خطيب وأَحَدٍ في حيز الرفع على الفاعلية على القراءة الأولى
وفي محل النصب على المفعولية على القراءة الثانية والفاعل
عليها ضميره تعالى أي ما زكى الله تعالى منكم أحدا أَبَداً لا
إلى غاية وَلكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي يطهر مَنْ يَشاءُ من عباده
بإفاضة آثار فضله ورحمته عليه وحمله على التوبة وقبولها منه
كما فعل سبحانه بمن سلم عن داء النفاق ممن وقع في شرك الإفك
منكم.
وَاللَّهُ سَمِيعٌ مبالغ في سمعه الأقوال التي من جملتها ما
أظهروه من التوبة عَلِيمٌ بجميع المعلومات التي من جملتها
نياتهم، وفيه حث لهم على الإخلاص في التوبة، وإظهار الاسم
الجليل للإيذان باستدعاء الألوهية للسمع والعلم مع ما فيه من
تأكيد الاستقلال التذييلي وَلا يَأْتَلِ أي لا يحلف افتعال من
الألية.
(9/320)
وقال أبو عبيدة. واختاره أبو مسلم: أي لا
يقصر من الألو بوزن الدلو والألو بوزن العتو، قيل: والأول أوفق
بسبب النزول وذلك أنه صح عن عائشة وغيرها أن أبا بكر رضي الله
تعالى عنه حلف لما رأى براءة ابنته أن لا ينفق على مسطح شيئا
أبدا وكان من فقراء المهاجرين الأولين الذين شهدوا بدرا وكان
ابن خالته، وقيل: ابن أخته رضي الله تعالى عنه فنزلت وَلا
يَأْتَلِ إلخ وهذا هو المشهور.
وعن محمد بن سيرين أن أبا بكر حلف لا ينفق على رجلين كانا
يتيمين في حجره حيث خاضا في أمر عائشة أحدهما مسطح فنزلت، وعن
ابن عباس، والضحاك أنه قطع جماعة من المؤمنين منهم أبو بكر رضي
الله تعالى عنه منافعهم عمن قال في الإفك وقالوا: والله لا نصل
من تكلم فيه فنزلت، وقرأ عبد الله بن عباس بن ربيعة وأبو جعفر
مولاه وزيد بن أسلم «يتال» مضارع تالى بمعنى حلف، قال الشاعر:
تالى ابن أوس حلفة ليردني ... إلى نسوة لي كأنهن مقائد
وهذه القراءة تؤيد المعنى الأول ليأتل أُولُوا الْفَضْلِ
مِنْكُمْ أي الزيادة في الدين وَالسَّعَةِ أي في المال أَنْ
يُؤْتُوا أي على أن لا يؤتوا أو كراهة أن يؤتوا أو لا يقصروا
في أن يؤتوا.
وقرأ أبو حيوة وابن قطيب وأبو البرهسم «تؤتوا» بتاء الخطاب على
الالتفات.
أُولِي الْقُرْبى وَالْمَساكِينَ وَالْمُهاجِرِينَ فِي سَبِيلِ
اللَّهِ صفات لموصوف واحد بناء على ما علمت من أن الآية نزلت
على الصحيح بسبب حلف أبي بكر أن لا ينفق على مسطح وهو متصف كما
سمعت بها فالعطف لتنزيل تغاير الصفات منزلة تغاير الموصوفات،
والجمع وإن كان السبب خاصا لقصد العموم وعدم الاكتفاء بصفة
للمبالغة في إثبات استحقاق مسطح ونحوه الإيتاء فإن من اتصف
بواحدة من هذه الصفات إذا استحقه فمن جمعها بالطريق الأولى،
وقيل: هي لموصوفات أقيمت هي مقامها وحذف المفعول الثاني لغاية
ظهوره أي أن يؤتوهم شيئا وَلْيَعْفُوا ما فرط منهم
وَلْيَصْفَحُوا بالإغضاء عنه، وقرأ عبد الله والحسن وسفيان بن
الحسين وأسماء بنت يزيد «ولتعفو ولتصفحوا» بتاء الخطاب على وفق
قوله تعالى:
أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ أي بمقابلة
عفوكم وصفحكم وإحسانكم إلى من أساء إليكم وَاللَّهُ غَفُورٌ
رَحِيمٌ مبالغ في المغفرة والرحمة مع كمال قدرته سبحانه على
المؤاخذة وكثرة ذنوب العباد الداعية إليها، وفيه ترغيب عظيم في
العفو ووعد كريم بمقابلته كأنه قيل: ألا تحبون أن يغفر الله
لكم فهذا من موجباته، وصح أن أبا بكر لما سمع الآية قال: بلى
والله يا ربنا إنا لنحب أن تغفر لنا وأعاد له نفقته، وفي رواية
أنه صار يعطيه ضعفي ما كان يعطيه أولا، ونزلت هذه الآية على ما
أخرج ابن أبي حاتم عن مقاتل بعد أن أقبل مسطح إلى أبي بكر
معتذرا فقال: جعلني الله تعالى فداك والله الذي أنزل على محمد
صلّى الله عليه وسلّم ما قذفتها وما تكلمت بشيء مما قيل لها أي
خال فقال أبو بكر ولكن قد ضحكت وأعجبك الذي قيل فيها فقال مسطح
لعله يكون قد كان بعض ذلك، وفي الآية من الحث على مكارم
الأخلاق ما فيها. واستدل بها على فضل الصديق رضي الله تعالى
عنه لأنه داخل في أولي الفضل قطعا لأنه وحده أو مع جماعة سبب
النزول، ولا يضر في ذلك عموم الحكم لجميع المؤمنين كما هو
الظاهر، ولا حاجة إلى دعوى أنها فيه خاصة والجمع للتعظيم،
وكونه مخصوصا بضمير المتكلم مردود على أن فيها من ارتكاب خلاف
الظاهر ما فيها، وأجاب الرافضة بأن المراد بالفضل الزيادة في
المال، ويرد عليه أنه حينئذ يتكرر مع قوله سبحانه: وَالسَّعَةِ
وادعى الإمام أنها تدل على أن الصديق رضي الله تعالى عنه أفضل
جميع الصحابة رضي الله تعالى عنهم وبين ذلك بما هو بعيد عن
فضله، وذكر أيضا دلالتها على وجوه من مدحه رضي الله تعالى عنه
وأكثرها للبحث فيها مجال، واستدل بها
(9/321)
على أن ما لا يكون ردة من المعاصي لا يحبط
العمل وإلا لما سمى الله تعالى مسطحا مهاجرا مع أنه صدر منه ما
صدر، وعلى أن الحلف على ترك الطاعة غير جائز لأنه تعالى نهى
عنه بقوله سبحانه: لا يَأْتَلِ ومعناه على ما يقتضيه سبب
النزول لا يحلف، وظاهر هذا حمل النهي على التحريم، وقيل: هو
للكراهة، وقيل: الحق أن الحلف على ترك الطاعة قد يكون حراما،
وقد يكون مكروها، فالنهي هنا لطلب الترك مطلقا وفيه بحث.
وذكر جمهور الفقهاء أنه
إذا حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليأت الذي هو خير
وليكفر عن يمينه كما جاء في الحديث
، وقال بعضهم.
إذا حلف فليأت الذي هو خير وذلك كفارته كما جاء في حديث آخر.
وتعقب بأن المراد من الكفارة في ذلك الحديث تكفير الذنب لا
الكفارة الشرعية التي هي بإحدى الخصال.
إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ قد تقدم تفسيرها
الْغافِلاتِ عما يرمين به بمعنى أنه لم يخطر لهن ببال أصلا
لكونهن مطبوعات على الخير مخلوقات من عنصر الطهارة ففي هذا
الوصف من الدلالة على كمال النزاهة ما ليس في المحصنات
الْمُؤْمِناتِ أي المتصفات بالإيمان بكل ما يجب أن يؤمن به من
الواجبات والمحظورات وغيرها إيمانا حقيقيا تفصيليا كما ينبىء
عنه تأخير المؤمنات عما قبلها مع أصالة وصف الإيمان فإنه
للإيذان بأن المراد بها المعنى الوصفي المعرب عما ذكر لا
المعنى الاسمي المصحح لإطلاق الاسم في الجملة كما هو المتبادر
على تقدير التقديم كذا في إرشاد العقل السليم.
وفرع عليه كون المراد بذلك عائشة الصديقة رضي الله تعالى عنها
وروي ما ظاهره ذلك عن ابن عباس وابن جبير، والجمع على هذا
باعتبار أن رميها رمي لسائر أمهات المؤمنين لاشتراك الكل في
النزاهة والانتساب إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ونظير
ذلك جمع «المرسلين» في قوله سبحانه وتعالى: كَذَّبَتْ قَوْمُ
نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ [الشعراء: 105] وقيل: المراد أمهات
المؤمنين فيدخل فيهن الصديقة دخولا أوليا. وروي ما يؤيده عن
أبي الجوزاء والضحاك وجاء أيضا عن ابن عباس ما يقتضيه، فقد
أخرج عند سعيد بن منصور وابن جرير والطبراني وابن مردويه أنه
رضي الله تعالى عنه قرأ سورة النور ففسرها فلما أتى على هذه
الآية إِنَّ الَّذِينَ إلخ قال: هذه في عائشة وأزواج النبي
صلّى الله عليه وسلّم ولم يجعل لمن فعل ذلك توبة وجعل لمن رمى
امرأة من المؤمنات من غير أزواج النبي صلّى الله عليه وسلّم
التوبة ثم قرأ وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ
يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ إلى قوله تعالى: إِلَّا
الَّذِينَ تابُوا [النور: 4. 5] الخبر، وظاهره أنه لا تقبل
توبة من قذف إحدى الأزواج الطاهرات رضي الله تعالى عنهن.
وقد جاء عنه في بعض الروايات التصريح بعدم قبول توبة من خاض في
أمر عائشة رضي الله تعالى عنها، ولعل ذلك منه خارج مخرج
المبالغة في تعظيم أمر الإفك كما ذكرنا أولا وإلا فظاهر الآيات
قبول توبته وقد تاب من تاب من الخائضين كمسطح وحسان وحمنة ولو
علموا أن توبتهم لا تقبل لم يتوبوا، نعم ظاهر هذه الآية على ما
سمعت من المراد من الموصوف بتلك الصفات كفر قاذف أمهات
المؤمنين رضي الله تعالى عنهن لأن الله عز وجل رتب على رميهن
عقوبات مختصة بالكفار والمنافقين فقال سبحانه لُعِنُوا أي بسبب
رميهم إياهن فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ حيث يلعنهم اللاعنون
والملائكة في الدارين وَلَهُمْ مع ما ذكر من اللعن عَذابٌ
عَظِيمٌ هائل لا يقادر قدره لغاية عظم ما اقترفوه من الجناية.
وكذا ذكر سبحانه أحوالا مختصة بأولئك فقال عز وجل: يَوْمَ
تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ إلخ، ودليل الاختصاص قوله
(9/322)
سبحانه: وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْداءُ
اللَّهِ [فصلت: 19] إلى آخر الآيات الثلاث، ومن هنا قيل: إنه
لا يجوز أن يراد بالمحصنات إلخ المتصفات بالصفات المذكورة
أمهات المؤمنين وغيرهن من نساء الأمة لأنه لا ريب في أن رمي
غير أمهات المؤمنين ليس بكفر، والذي ينبغي أن يعول الحكم عليه
بكفر من رمى إحدى أمهات المؤمنين بعد نزول الآيات وتبين أنهن
طيبات سواء استباح الرمي أم قصد الطعن برسول الله صلّى الله
عليه وسلّم أم لم يستبح ولم يقصد، وأما من رمى قبل فالحكم
بكفره مطلقا غير ظاهر.
والظاهر أنه يحكم بكفره إن كان مستبيحا أو قاصدا الطعن به عليه
الصلاة والسلام كابن أبيّ لعنه الله تعالى فإن ذلك مما يقتضيه
إمعانه في عداوة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ولا يحكم
بكفره إن لم يكن كذلك كحسان ومسطح وحمنة فإن الظاهر أنهم لم
يكونوا مستحلين ولا قاصدين الطعن بسيد المرسلين صلى الله تعالى
عليه وعلى آله أجمعين وإنما قالوا ما قالوا تقليدا فوبخوا على
ذلك توبيخا شديدا، ومما يدل دلالة واضحة على عدم كفر الرامين
قبل بالرمي أنه عليه الصلاة والسلام لم يعاملهم معاملة
المرتدين بالإجماع وإنما أقام عليهم حد القذف على ما جاء في
بعض الروايات فالآية بناء على القول بخصوص المحصنات وهو الذي
تعضده أكثر الروايات إن كانت لبيان حكم من يرمي عائشة أو إحدى
أمهات المؤمنين مطلقا بعد تلك القصة كما هو ظاهر الفعل المضارع
الواقع صلة الموصول فأمر الوعيد المذكور فيها على القول بأنه
مختص بالكفار والمنافقين ظاهر لما سمعت من القول بكفر الرامي
لإحدى أمهات المؤمنين بعد مطلقا، وإن كانت لبيان حكم من رمى
قبل احتاج أمر الوعيد إلى القول بأن المراد بالموصول أناس
مخصوصون رموا عائشة رضي الله تعالى عنها استباحة لعرضها وقصد
إلى الطعن برسول الله صلّى الله عليه وسلّم كابن أبيّ وإخوانه
المنافقين عليهم اللعنة، وعلى هذا يكون التعبير بالمضارع
لاستحضار الصورة التي هي من أغرب الغرائب أو للإشارة كما قيل
إلى أن شأنهم الرمي وأنه يتجدد منهم آنا فآنا. وعلى هذا يمكن
أن يقال المراد بيان حكم من لم يتب من الرمي فإن التائب من فعل
قلما يقال فيه إن شأنه ذلك الفعل فيكون الوعيد مخصوصا بمن لم
يتب.
والذي تقتضيه الأخبار أن كل من وقع في تلك المعصية تاب سوى
اللعين ابن أبيّ وأشياعه من المنافقين. وعن ابن عباس أنها نزلت
فيه خاصة ولا يخفى وجه الجمع عليه، وقيل المراد بيان حكم من
رمى والوعيد مشروط بعدم التوبة ولم يذكر للعلم به من القواعد
المستقرة إذ الذنب كيفما كان يغفر بالتوبة، فلا حاجة إلى أن
يقال: المراد إن الذين شأنهم الرمي ليشعر بعدم التوبة، والظاهر
أن من لم يتب بعد نزول هذه الآيات كافر وليس هو إلا اللعين
وأشياعه المنافقين.
واختار جمع وقال النحاس: هو أحسن ما قيل أن الحكم عام فيمن
يرمي الموصوفات بالصفات المذكورة من نساء الأمة، ورميهن إن كان
مع استحلال فهو كفر فيستحق فاعله الوعيد المذكور وإن لم يتب
على ما علم من القواعد وإن كان بدون استحلال فهو كبيرة وليس
بكفر، ويحتاج إلى منع اختصاص تلك العقوبات والأحوال بالكفار
والمنافقين أو التزام القول بأن ذلك ثابت للجنس ويكفي في ثبوته
لبعض أفراده ولا شك أن فيها من يموت كافرا. وفي البحر يناسب أن
تكون هذه الآية كما قيل نزلت في مشركي مكة كانت المرأة إذا
خرجت إلى المدينة مهاجرة قذفوها وقالوا: خرجت لتفجر قاله أبو
حمزة اليماني، ويؤيده قوله تعالى: يَوْمَ تَشْهَدُ إلخ اهـ.
وأنت تعلم أن الأوفق بالسياق والسباق ما عليه الأكثر من نزولها
في شأن أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها وحكم رمي سائر
أمهاتهم حكم رميها وكذا حكم رمي سائر أزواج الأنبياء عليهم
السلام وكذا أمهاتهم، وعندي أن حكم رمي بنات النبي عليه الصلاة
والسلام كذلك لا سيما بضعته الطاهرة الكريمة فاطمة الزهراء صلى
الله تعالى
(9/323)
على أبيها وعليها وسلم ولم أر من تعرض لذلك
فتدبر، واعلم أنه لا خلاف في جواز لعن كافر معين تحقق موته على
الكفر إن لم يتضمن إيذاء مسلم أو ذمي إذا قلنا باستوائه مع
المسلم في حرمة الإيذاء أما إن تضمن ذلك حرم.
ومن الحرام لعن أبي طالب على القول بموته كافرا بل هو من أعظم
ما يتضمن ما فيه إيذاء من يحرم إيذاؤه، ثم إن لعن من يجوز لعنه
لا أرى أنه يعد عبادة إلا إذا تضمن مصلحة شرعية، وأما لعن كافر
معين حي فالمشهور أنه حرام ومقتضى كلام حجة الإسلام الغزالي
أنه كفر لما فيه من سؤال تثبيته على الكفر الذي هو سبب اللعنة
وسؤال ذلك كفر ونص الزركشي على ارتضائه حيث قال عقبة: فتفطن
لهذه المسألة فإنها غريبة وحكمها متجه وقد زل فيه جماعة، وقال
العلامة ابن حجر في ذلك: ينبغي أن يقال: إن أراد بلعنه الدعاء
عليه بتشديد الأمر أو أطلق لم يكفر وإن أراد سؤال بقائه على
الكفر أو الرضى ببقائه عليه كفر: ثم قال: فتدبر ذلك حق التدبر
فإنه تفصيل متجه قضت به كلماتهم اهـ.
وكلعن الكافر الحي المعين بالشخص في الحرمة لعن الفاسق كذلك،
وقال السراج البلقيني: بجواز لعن العاصي المعين واحتج على ذلك
بحديث الصحيحين «إذا دعا الرجل امرأته إلى فراشه فأبت أن تجيء
فبات غضبان لعنتها الملائكة حتى تصبح»
وهو ظاهر فيما يدعيه وقول ولده الجلال البلقيني في بحثه معه:
يحتمل أن يكون لعن الملائكة لها ليس بالخصوص بل بالعموم بأن
يقولوا: لعن الله من دعاها زوجها إلى فراشه فأبت فبات غضبان
بعيد جدا. ومما يؤيد قول السراج
خبر مسلم أنه صلّى الله عليه وسلّم مرّ بحمار وسم في وجهه
فقال: «لعن الله من فعل هذا»
وهو أبعد عن الاحتمال الذي ذكره ولده،
وقد صح أنه صلّى الله عليه وسلّم لعن قبائل من العرب بأعيانهم
فقال: «اللهم العن رعلا وذكوان وعصية عصوا الله تعالى ورسوله»
، وفيه نوع تأييد لذلك أيضا، لكن قيل: إنه يجوز أن يكون قد علم
عليه الصلاة والسلام موتهم أو موت أكثرهم على الكفر فلم يلعن
صلّى الله عليه وسلّم إلا من علم موته عليه، ولا يخفى عليك
الأحوط في هذا الباب،
فقد صح «من لعن شيئا ليس له بأهل رجعت اللعنة عليه»
وأرى الدعاء للعاصي المعين بالصلاح أحب من لعنه على القول
بجوازه، وأرى لعن من لعنه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم
بالوصف أو بالشخص عبادة من حيث إن فيه اقتداء برسول الله عليه
الصلاة والسلام، وكذا لعن من لعنه الله تعالى على الوجه الذي
لعنه سبحانه به، هذا وقوله عز وجل: يَوْمَ تَشْهَدُ إلخ إما
متصل بما قبله مسوق لتقرير العذاب العظيم بتعيين وقت حلوله
وتهويله ببيان ظهور جناية الرامين المستتبعة لعقوباتها على
كيفية هائلة وهيئة خارقة للعادات فيوم ظرف لما في لَهُمْ من
معنى الاستقرار لا لعذاب كما ذهب إليه الحوفي لما في جواز
إعمال المصدر الموصوف من الخلاف، وقيل: لإخلاله بجزالة المعنى
وفيه نظر، وإما منقطع عنه على أنه ظرف لا ذكر محذوفا أو
ليوفيهم الآتي كما قيل بكل، واختير أنه ظرف لفعل مؤخر وقد ضرب
عنه الذكر صفحا للإيذان بأن العبارة لا تكاد تحيط بتفصيل ما
يقع فيه من العظائم والكلام مسوق لتهويل اليوم بتهويل ما يحويه
كأنه قيل: يوم تشهد عليهم أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ
وَأَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ يظهر من الأحوال
والأهوال ما لا يحيط به نطاق المقال على أن الموصول المذكور
عبارة عن جمع أعمالهم السيئة وجناياتهم القبيحة لا عن جناياتهم
المعهودة فقط.
ومعنى شهادة الجوارح المذكورة بها أنه عز وجل ينطقها بقدرته
فتخبر كل جارحة منها بما صدر عنها من أفاعيل صاحبها لا أن كلا
منها يخبر بجنايتهم المعهودة فحسب. والموصول المحذوف عبارة
عنها وعن فنون العقوبات المترتبة عليها كافة لا عن إحداها خاصة
ففيه من ضروب التهويل بالإجمال والتفصيل ما لا مزيد عليه قاله
شيخ الإسلام، ثم قال: وجعل الموصول المذكور عبارة عن جناياتهم
المعودة وحمل شهادة الجوارح على إخبار الكل
(9/324)
بها فقط تحجير للواسع وتهوين للأمر الرادع.
والجمع بين صيغتي الماضي والمستقبل للدلالة على استمرارهم على
هاتيك الأعمال في الدنيا وتجددها منهم آنا فآنا. وتقديم
عَلَيْهِمْ على الفاعل للمسارعة إلى كون الشهادة ضارة لهم مع
ما فيه من التشويق إلى المؤخر اهـ ولا يخلو عن حسن.
وجوز أن تكون الشهادة بما ذكر مجازا عن ظهور آثاره على هاتيك
الأعضاء بحيث يعلم من يشاهدهم ما عملوه وذلك بكيفية يعلمها
الله تعالى. واعترض بأنه معارض بقوله تعالى: أَنْطَقَنَا
اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ [فصلت:
21] .
وأجيب بأن مجوز ما ذكر يجعل النطق مجازا عن الدلالة الواضحة
كما قيل به في قولهم نطقت الحال أو يقول: هذا في حال وذاك في
حال أو كل منهما في قوم.
ولا يخفى أن الظاهر بقاء الشهادة على حقيقتها إلا أنه استشكل
ذلك بأنه حينئذ يلزم التعارض بين ما هنا وقوله تعالى في سورة
يس الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلى أَفْواهِهِمْ الآية [يس: 65] لأن
الختم على الأفواه ينافي شهادة الألسن.
وأجيب بأن المراد من الختم على الأفواه منعهم عن التكلم
بالألسنة التي فيها وذلك لا ينافي الألسنة نفسها الذي هو
المراد من الشهادة كما أشرنا إليها فإن الألسنة في الأول آلة
للفعل وفي الثاني فاعلة له فيجتمع الختم على الأفواه وشهادة
الألسن بأن يمنعوا عن التكلم بالألسنة وتجعل الألسنة نفسها
ناطقة متكلمة كما جعل سبحانه الذراع المسموم ناطقا متكلما حتى
أخبر النبي صلّى الله عليه وسلّم بأنه مسموم وللمعتزلة في ذلك
كلام، وقيل في التوفيق يجوز أن يكون كل من الختم والشهادة في
موطن وحال، وأن يكون الشهادة في حق الرامين والختم في حق
الكفرة، وكأنه لما كانت هذه الآية في حق القاذف بلسانه وهو
مطالب معه بأربعة شهداء ذكر فيها خمسة أيضا وصرح باللسان الذي
به عمله ليفضحه جزاء له من جنس عمله قاله الخفاجي وقال: إنها
نكتة سرية والله تعالى أعلم بأسرار كتابه فتدبر.
وقرأ الأخوان والزعفراني وابن مقسم وابن سعدان «يشهد» بالياء
آخر الحروف ووجهه ظاهر.
وقوله تعالى: يَوْمَئِذٍ ظرف لقوله سبحانه: يُوَفِّيهِمُ
اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ والتنوين عوض عن الجملة المضافة
إليها، والتوفية إعطاء الشيء وافيا، والدين هنا الجزاء ومنه
كما تدين تدان، والحق الموجد بحسب مقتضى الحكمة، وقريب منه
تفسيره بالثابت الذي يحق أن يثبت لهم لا محالة أي يومئذ تشهد
عليهم أعضاؤهم المذكورة بأعمالهم القبيحة يعطيهم الله تعالى
جزاءهم المطابق لمقتضى الحكمة وافيا تاما، والكلام استئناف
مسوق لبيان ترتيب حكم الشهادة عليها متضمن لبيان ذلك المبهم
المحذوف فيما سبق على وجه الإجمال، وجوز أن يكون يَوْمَئِذٍ
بدلا من يَوْمَ تَشْهَدُ من جوز تعلق ذاك بيوفيهم. وقرأ زيد بن
علي رضي الله تعالى عنهما «يوفيهم» مخففا، وقرأ عبد الله
ومجاهد وأبو روق وأبو حيوة «الحقّ» بالرفع على أنه صفة للاسم
الجليل، ويجوز الفصل بالمفعول بين الموصوف وصفته، ومعنى الحق
على هذه القراءة على ما قال الراغب الموجد للشيء بحسب ما
تقتضيه الحكمة، وفسره بعضهم بالعادل، والأكثرون على تفسيره
بالواجب لذاته، وكذا في قوله سبحانه: وَيَعْلَمُونَ أَنَّ
اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ والمبين إما من أبان اللازم
أي الظاهر حقيته على تقدير جعله نعتا للحق أو الظاهر ألوهيته
عز وجل على تقدير جعله خبرا ثانيا أو من أبان المعتدي أي
المظهر للأشياء كما هي في أنفسها، وجملة يَعْلَمُونَ معطوفة
على جملة يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ فإن كانت مقيدة بما قيدت به
الأولى فالمعنى يوم إذ تشهد عليهم أعضاؤهم المذكورة بأعمالهم
القبيحة يعلمون أن الله إلخ، وإن لم تكن مقيدة بذلك جاز أن
يكون المعنى ويعلمون عند معاينتهم الأهوال والخطوب أن الله
إلخ، والظاهر أن الشهادة على الأول وللمعاينة على الثاني دخلا
في حصول العلم بمضمون ما في حيز
(9/325)
يَعْلَمُونَ فتأمل لتعرف كيفية الاستدلال
على ذلك فإن فيه خفاء لا سيما مع ملاحظة الحصر المأخوذ من
تعريف الطرفين وضمير الفصل، وقيل: إن علم الخلق بصفاته تعالى
يوم القيامة ضروري: وإن تفاوتوا في ذلك من بعض الوجوه فيعلمون
ما ذكر من غير مدخلية أحد الأمرين، ولعل فائدة هذا العلم يأسهم
من إنقاذ أحد إياهم مما هم فيه أو انسداد باب الاعتراض المروح
للقلب في الجملة عليهم أو تبين خطئهم في رميهم حرم رسول الله
صلّى الله عليه وسلّم بالباطل لما أن حقيته تأبى كونه عز وجل
حقا أي موجدا للأشياء بحسب ما تقتضيه الحكمة لما قدمنا من أن
فجور زوجات الأنبياء عليهم السلام مخل بحكمة البعثة، وكذا تأبى
كونه عز وجل حقا أي واجبا لذاته بناء على أن الوجوب الذاتي
يستتبع الإنصاف بالحكمة بل بجميع الصفات الكاملة، وهذه الجملة
ظاهرة جدا في أن الآية في ابن أبيّ وأضرابه من المنافقين
الرامين حرم الرسول صلّى الله عليه وسلّم لأن المؤمن عالم أن
الله تعالى هو الحق المبين منذ كان في الدنيا لا أنه يحدث له
علم ذلك يوم القيامة. ومن ذهب إلى أنها في الرامين من المؤمنين
أو فيهم وفي غيرهم من المنافقين قال: يحتمل أن يكون المراد من
العلم بذلك التفات الذهن وتوجهه إليه ولا يأبى ذلك كونه حاصلا
قبل. قد حمل السيد السند قدس سره في حواشي المطالع العلم في
قولهم في تعريف الدلالة كون الشيء بحالة يلزم من العلم به
العلم بشيء آخر على ذلك لئلا يرد أنه يلزم على الظاهر أن لا
يكون للفظ دلالة عند التكرار لامتناع علم المعلوم ويحتمل أن
يكون قد نزل علمهم الحاصل قبل منزلة غير الحاصل لعدم ترتب ما
يقتضيه من الكف عن الرمي عليه ومثل هذا التنزيل شائع في الكتاب
الجليل، ويحتمل أن يكون المراد يعلمون عيانا مقتضى أن الله هو
الحق المبين. أعني الانتقام من الظالم للمظلوم. ويحتمل غير
ذلك.
وأنت تعلم أن الكل خلاف الظاهر فتدبر، وقوله تعالى:
الْخَبِيثاتُ إلخ كلام مستأنف مؤسس على السنة الجارية فيما بين
الخلق على موجب أن لله تعالى ملكا يسوق الأهل إلى الأهل، وقول
القائل: «إن الطيور على أشباهها تقع» أي الخبيثات من النساء
لِلْخَبِيثِينَ من الرجال أي مختصات بهم لا يتجاوزنهم إلى
غيرهم على أن اللام للاختصاص وَالْخَبِيثُونَ أيضا
لِلْخَبِيثاتِ لأن المجانسة من دواعي الانضمام وَالطَّيِّباتُ
منهن لِلطَّيِّبِينَ منهم وَالطَّيِّبُونَ أيضا لِلطَّيِّباتِ
منهن بحيث لا يتجاوزونهن إلى من عداهن وحيث كان رسول الله صلّى
الله عليه وسلّم أطيب الأطيبين وخيرة الأولين والآخرين تبين
كون الصديقة رضي الله تعالى عنها من أطيب الطيبات بالضرورة
واتضح بطلان ما قيل فيها من الخرافات حسبما نطق به قوله
سبحانه: أُولئِكَ مُبَرَّؤُنَ مِمَّا يَقُولُونَ على أن
الإشارة إلى أهل البيت النبوي رجالا ونساء ويدخل في ذلك
الصديقة رضي الله تعالى عنها دخولا أوليا، وقيل: إلى رسول الله
صلّى الله عليه وسلّم والصديقة وصفوان وقال الفراء: إشارة إلى
الصديقة وصفوان والجمع يطلق على ما زاد على الواحد.
وفي الآية على جميع الأقوال تغليب أي أولئك منزهون مما يقوله
أهل الإفك في حقهم من الأكاذيب الباطلة.
وجعل الموصوف للصفات المذكورة النساء والرجال حسبما سمعت رواه
الطبراني عن ابن عباس ضمن خبر طويل ورواه الإمامية عن أبي جعفر
وأبي عبد الله رضي الله تعالى عنهما واختاره أبو مسلم والجبائي
وجماعة وهو الأظهر عندي وجاء في رواية أخرى عن ابن عباس أخرجها
الطبراني أيضا وابن مردويه وغيرهما أن الْخَبِيثاتُ
والطَّيِّباتُ صفتان للكلم وَالْخَبِيثُونَ والطَّيِّبُونَ
صفتان للخبيثين من الناس وروي ذلك عن الضحاك والحسن
والْخَبِيثُونَ عليه شامل للرجال والنساء على سبيل التغليب
وكذا الطَّيِّبُونَ وأُولئِكَ إشارة إلى الطيبين وضمير
يَقُولُونَ للخبيثين، وقيل للآفكين أي الخبيثات من الكلم
للخبيثين من الرجال والنساء أي مختصة ولا صقة بهم لا ينبغي أن
تقال في حق غيرهم وكذا الخبيثون من الفريقين أحقاء بأن يقال في
حقهم خبائث الكلم
(9/326)
والطيبات من الكلم للطيبين من الفريقين
مختصة وحقيقة بهم وهم أحقاء بأن يقال في شأنهم طيبات الكلم
أولئك الطيبون مبرؤون عن الاتصاف مما يقول الخبيثون وقيل
الآفكون في حقهم فمآله تنزيه الصديقة رضي الله تعالى عنها
أيضا.
وقيل: المراد الخبيثات من القول مختصة بالخبيثين من فريقي
الرجال والنساء لا تصدر عن غيرهم والخبيثون من الفريقين مختصون
بالخبيثات من القول متعرضون لها والطيبات من القول للطيبين من
الفريقين أي مختصة بهم لا تصدر عن غيرهم والطيبون من الفريقين
مختصون بالطيبات من القول لا يصدر عنهم غيرها أولئك الطيبون
مبرؤون مما يقول الخبيثون أي لا يصدر عنهم مثل ذلك، وروي ذلك
عن مجاهد، والكلام عليه على حذف مضاف إلى ما، ومآله الحط على
الآفكين وتنزيه القائلين سبحانك هذا بهتان عظيم لَهُمْ
مَغْفِرَةٌ عظيمة لما لا يخلو البشر عنه من الذنب، وحسنات
الأبرار سيئات المقربين وَرِزْقٌ كَرِيمٌ هو الجنة كما قاله
أكثر المفسرين، ويشهد له قوله تعالى في سورة الأحزاب في أمهات
المؤمنين وَأَعْتَدْنا لَها رِزْقاً كَرِيماً [الأحزاب: 31]
فإن المراد به ثمت الجنة بقرينة أَعْتَدْنا والقرآن يفسر بعضه
بعضا، وفي هذه الآيات من الدلالة على فضل الصديقة ما فيها، ولو
قلبت القرآن كله وفتشت عما أوعد به العصاة لم تر الله عز وجل
قد غلظ في شيء تغليظه في الإفك وهو دال على فضلها أيضا، وكانت
رضي الله تعالى عنها تتحدث بنعمة الله تعالى عليها بنزول ذلك
في شأنها.
فقد أخرج ابن أبي شيبة عنها أنها قالت: خلال فيّ لم تكن في أحد
من الناس إلا ما آتى الله تعالى مريم ابنة عمران والله ما أقول
هذا اني أفتخر على صواحباتي قيل: وما هن؟ قالت: نزل الملك
بصورتي وتزوجني رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لسبع سنين
وأهديت له لتسع سنين وتزوجني بكرا لم يشركه فيّ أحد من الناس
وأتاه الوحي وأنا وإياه في لحاف واحد وكنت من أحب الناس إليه
ونزل فيّ آيات من القرآن كادت الأمة تهلك فيهن ورأيت جبريل
عليه السلام ولم يره أحد من نسائه غيري وقبض في بيتي لم يله
أحد غير الملك وأنا.
وأخرج ابن مردويه عنها أنها قالت: لقد نزل عذري من السماء ولقد
خلقت (1) طيبة عند طيب ولقد وعدت مغفرة وأجرا عظيما، وفي قوله
سبحانه: لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ بناء على شموله
عائشة رضي الله تعالى عنها رد على الرافضة القائلين بكفرها
وموتها على ذلك وحاشاها لقصة وقعة الجمل مع أشياء افتروها
ونسبوها إليها، ومما يرد زعم ذلك أيضا قول عمار بن ياسر في
خطبته حين بعثه الأمير كرّم الله تعالى وجهه مع الحسن رضي الله
تعالى عنه يستنفران أهل المدينة وأهل الكوفة: إني لأعلم أنها
زوجة نبيكم عليه الصلاة والسلام في الدنيا والآخرة ولكن الله
تعالى ابتلاكم ليعلم أتطيعونه أم تطيعونها، ومما يقضى منه
العجب ما رأيته في بعض كتب الشيعة من أنها خرجت من أمهات
المؤمنين بعد تلك الوقعة لأن
النبي صلّى الله عليه وسلّم قال للأمير كرم الله تعالى وجهه:
قد أذنت لك أن تخرج بعد وفاتي من الزوجية من شئت من أزواجي
فأخرجها كرم الله تعالى وجهه من ذلك لما صدر منها معه ما صدر،
ولعمري إنّ هذا مما يكاد يضحك الثكلى، وفي حسن معاملة الأمير
كرم الله تعالى وجهه إياها رضي الله تعالى عنها بعد استيلائه
على العسكر الذي صحبها الثابت عند الفريقين ما يكذب ذلك، ونحن
لا نشك في فضلها رضي الله تعالى عنها لهذه الآيات ولما جاء في
مدحها عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ولو لم يكن من ذلك
سوى ما
أخرجه ابن أبي شيبة وأحمد والبخاري ومسلم والترمذي والنسائي
وابن ماجة عن أنس رضي الله تعالى عنه قال: «قال رسول الله صلّى
الله عليه وسلّم إن فضل عائشة على
__________
(1) بالقاف ويروى بالفاء وتشديد اللام أي تركت عند رسول الله
صلّى الله عليه وسلّم بعد وفاته طيبة اهـ منه.
(9/327)
النساء كفضل الثريد على الطعام»
لكني مع هذا لا أقول بأنها أفضل من بضعته صلّى الله عليه وسلّم
الكريمة فاطمة الزهراء رضي الله تعالى عنها والوجه لا يخفى،
وفي هذا المقام أبحاث تطلب من محلها، ثم إن الذي أراه أن إنزال
هذه الآيات في أمرها لمزيد الاعتناء بشأن الرسول عليه الصلاة
والسلام ولجبر قلب صاحبه الصديق رضي الله تعالى عنه وكذا قلب
زوجته أم رومان فقد اعتراهما من ذلك الإفك ما الله تعالى أعلم
به. ولمزيد انقطاع عائشة رضي الله تعالى عنها إليه عز وجل مع
فضلها وطهارتها في نفسها.
وقد جاء في خبر غريب ذكره ابن النجار (1) في تاريخ بغداد بسنده
عن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه قال: «كنت جالسا عند أم
المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها لأقر عينها بالبراءة وهي
تبكي فقالت: هجرني القريب والبعيد حتى هجرتني الهرة وما عرض
عليّ طعام ولا شراب فكنت أرقد وأنا جائعة ظامئة فرأيت في منامي
فتى فقال لي: ما لك؟ فقلت: حزينة مما ذكر الناس فقال: ادعي
بهذه الدعوات يفرج الله تعالى عنك فقلت: وما هي؟ فقال قولي: يا
سابغ النعم ويا دافع النقم ويا فارج الغمم ويا كاشف الظلم يا
أعدل من حكم يا حسب من ظلم يا ولي من ظلم يا أول بلا بداية ويا
آخر بلا نهاية يا من له اسم بلا كنية اللهم اجعل لي من أمري
فرجا ومخرجا قالت: فانتبهت وأنا ريانة شبعانة وقد أنزل الله
تعالى فرجي
، ويسمى هذا الدعاء دعاء الفرج فليحفظ وليستعمل، ثم إنه عز وجل
إثر ما فصل الزواجر عن الزنا وعن رمي العفائف عنه شرع في تفصيل
الزواجر عما عسى يؤدي إلى أحدهما من مخالطة الرجال بالنساء
ودخولهم عليهن في أوقات الخلوات وتعليم الآداب الجميلة
والأفاعيل المرضية المستتبعة لسعادة الدارين فقال سبحانه: يا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ
بُيُوتِكُمْ إلخ، وسبب النزول على ما أخرج الفريابي وغيره من
طريق عدي بن ثابت عن رجل من الأنصار أن امرأة قالت: يا رسول
الله إني أكون في بيتي على الحالة التي لا أحب أن يراني عليها
أحد لا ولد ولا والد فيأتيني آت فيدخل عليّ فكيف أصنع؟
فنزلت يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إلخ، وإضافة البيوت إلى
ضمير المخاطبين لامية اختصاصية، والمراد عند بعض الاختصاص
الملكي، ووصف البيوت بمغايرة بيوتهم بهذا المعنى خارج مخرج
العادة التي هي سكنى كل أحد في ملكه وإلا فالآجر والمعير أيضا
منهيان عن الدخول بغير إذن.
وقال بعضهم: المراد اختصاص السكنى أي غير بيوتكم التي تسكنونها
لأن كون الآجر والمعير منهيين كغيرهما عن الدخول بغير إذن دليل
على عدم إرادة الاختصاص الملكي فيحمل ذلك على الاختصاص المذكور
فلا حاجة إلى القول بأن ذاك خارج مخرج العادة، وقرىء بُيُوتاً
غَيْرَ بُيُوتِكُمْ بكسر الباء لأجل الياء حَتَّى
تَسْتَأْنِسُوا أي تستأذنوا من يملك الإذن من أصحابها، وتفسيره
بذلك أخرجه ابن أبي حاتم وابن الأنباري في المصاحف وابن جرير
وابن مردويه عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، ويخالفه ما روى
الحاكم وصححه والضياء في المختارة والبيهقي في شعب الإيمان
وناس آخرون عنه أنه قال في حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا أخطأ الكاتب
وإنما هي «حتى تستأذنوا» لكن قال أبو حيان: من روى عن ابن عباس
أنه قال ذلك فهو طاعن في الإسلام ملحد في الدين وابن عباس بريء
من ذلك القول انتهى.
وأنت تعلم أن تصحيح الحاكم لا يعول عليه عند أئمة الحديث لكن
للخبر المذكور طرق كثيرة، وكتاب الأحاديث المختارة للضياء كتاب
معتبر، فقد قال السخاوي في فتح المغيث في تقسيم أهل المسانيد
ومنهم من يقتصر على الصالح للحجة كالضياء في مختارته، والسيوطي
بعد ما عد في ديباجة جمع الجوامع الكتب الخمسة
__________
(1) ونقله السيوطي في الدر المنثور اهـ منه.
(9/328)
وهي صحيح البخاري وصحيح مسلم وصحيح ابن
حبان والمستدرك والمختارة للضياء قال وجميع ما في هذه الكتب
الخمسة صحيح.
ونقل الحافظ ابن رجب في طبقات الحنابلة عن بعض الأئمة أنه قال:
كتاب المختارة خير من صحيح الحاكم فوجود هذا الخبر هناك مع ما
ذكر من تعدد طرقه يبعد ما قاله أبو حيان، وابن الأنباري أجاب
عن هذا الخبر ونحوه من الأخبار الطاعنة بحسب الظاهر في تواتر
القرآن المروية عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما. وسيأتي في
تفسير هذه السورة إن شاء الله تعالى بعضها أيضا. بأن الروايات
ضعيفة ومعارضة بروايات أخر عن ابن عباس أيضا وغيره وهذا دون
طعن أبي حيان. وأجاب ابن اشته عن جميع ذلك بأن المراد الخطأ في
الاختيار وترك ما هو الأولى بحسب ظنه رضي الله تعالى عنه لجمع
الناس عليه من الأحرف السبعة لا أن الذي كتب خطأ خارج عن
القرآن.
واختار الجلال السيوطي هذا الجواب وقال: هو أولى وأقعد من جواب
ابن الأنباري، ولا يخفى عليك أن حمل كلام ابن عباس على ذلك لا
يخلو عن بعد لما أن ما ذكر خلاف ظاهر كلامه، وأيضا ظن ابن عباس
أولوية ما أجمع سائر الصحابة رضي الله تعالى عنهم على خلافه
مما سمع من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في العرضة الأخيرة
بعيده وكأنهم رأوا أن التزام ذلك أهون من إنكار ثبوت الخبر عن
ابن عباس مع تعدد طرقه وإخراج الضياء إياه في مختارته، ويشجع
على هذا الإنكار اعتقاد جلالة ابن عباس رضي الله تعالى عنهما
وثبوت الإجماع على تواتر خلاف ما يقتضيه ظاهر كلامه فتأمل.
واستعمال الاستئناس بمعنى الاستئذان بناء على أنه استفعال من
آنس الشيء بالمد علمه أو أبصره وإبصاره طريق إلى العلم
فالاستئناس استعلام والمستأذن طالب العلم بالحال مستكشف أنه هل
يراد دخوله أو لا.
وقيل الاستئناس خلاف الاستيحاش فهو من الأنس بالضم خلاف
الوحشة. والمراد به المأذونية فكأنه قيل:
حتى يؤذن لكم فإن من يطرق بيت غيره لا يدري أيؤذن له أم لا؟
فهو كالمستوحش من خفاء الحال عليه فإذا أذن له استأنس، وهو في
ذلك كناية أو مجاز، وقيل: الاستئناس من الإنس بالكسر بمعنى
الناس أي حتى تطلبوا معرفة من في البيوت من الإنس. وضعف بأن
فيه اشتقاقا من جامد كما في المسرج أنه مشتق من السراج وبأن
معرفة من في البيت لا تكفي بدون الإذن فيوهم جواز الدخول بلا
إذن. ومن الناس من رجحه بمناسبته لقوله تعالى: فَإِنْ لَمْ
تَجِدُوا فِيها أَحَداً ولا يكافىء التضعيف بما سمعت.
وذهب الطبري إلى أن المعنى حتى تؤنسوا أهل البيت من أنفسكم
بالاستئذان ونحوه وتؤنسوا أنفسكم بأن تعلموا أن قد شعر بكم ولا
يخفى ما فيه، وقيل: المعنى حتى تطلبوا علم أهل البيت، والمراد
حتى تعلموهم على أتم وجه، ويرشد إلى ذلك ما
روي عن أبي أيوب الأنصاري أنه قال: قلنا يا رسول الله ما
الاستئناس؟ فقال: «يتكلم الرجل بالتسبيحة والتكبيرة والتحميدة
يتنحنح يؤذن أهل البيت»
وما
أخرجه ابن المنذر وجماعة عن مجاهد أنه قال: تستأنسوا تنحنحوا
وتنخموا،
وقيل المراد حتى تؤنسوا أهل البيت بإعلامهم بالتسبيح أو نحوه،
والخبران المذكوران لا يأبيانه وكلا القولين كما ترى، وفي
دلالة ما ذكر من تفسير الاستئناس في الخبر على ما سبق له بحث
سنشير إليه إن شاء الله تعالى وَتُسَلِّمُوا عَلى أَهْلِها أي
الساكنين فيها، وظاهر الآية بأن الاستئذان قبل التسليم وبه قال
بعضهم.
وقال النووي: الصحيح المختار تقديم التسليم على الاستئذان،
فقد أخرج الترمذي عن جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنه قال:
«قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم السلام قبل الكلام»
وابن أبي شيبة والبخاري في الأدب المفرد عن أبي هريرة فيمن
يستأذن قبل أن يسلم قال: لا يؤذن له حتى يسلم، وأخرج ابن أبي
شيبة وابن وهب في كتاب المجالس عن زيد بن أسلم قال: أرسلني أبي
إلى ابن عمر رضي الله تعالى عنهما فجئته فقلت: أألج؟ فقال:
ادخل فلما دخلت قال:
(9/329)
مرحبا يا ابن أخي لا تقل أألج ولكن قل:
السلام عليكم فإذا قيل: وعليك فقل: أأدخل؟ فإذا قالوا: ادخل
فادخل.
وأخرج قاسم بن أصبغ وابن عبد البر في التمهيد عن ابن عباس قال:
استأذن عمر رضي الله تعالى عنه على النبي صلّى الله عليه وسلّم
فقال: السلام على رسول الله السلام عليكم أيدخل عمر؟ واختار
الماوردي التفصيل وهو أنه إن وقعت عين المستأذن على من في
البيت قبل دخوله قدم السلام وإلا قدم الاستئذان، والظاهر أن
الاستئذان بما يدل على طلب الإذن صريحا والمأثور المشهور في
ذلك أأدخل؟ كما سمعت، وجوز أن يكون بما يفهم منه ذلك مطلقا
وجعلوا منه التسبيح والتكبير ونحوهما مما يحصل به إيذان أهل
البيت بالجائي فإن في إيذانهم دلالة على ما طلب الإذن منهم،
وحملوا ما تقدم من حديث أبي أيوب وكلام مجاهد على ذلك، وهو على
ما روي عن عطاء واجب على كل محتلم ويكفي فيه المرة الواحدة على
ما يقتضيه ظاهر الآية، وأخرج البيهقي في الشعب وابن أبي حاتم
عن قتادة أنه قال:
كان يقال الاستئذان ثلاثا فمن لم يؤذن له فيهن فليرجع، أما
الأولى فيسمع الحي، وأما الثانية فيأخذوا حذرهم، وأما الثالثة
فإن شاؤوا أذنوا وإن شاؤوا ردوا. وفي الأمر بالرجوع بعد الثلاث
حديث مرفوع أخرجه مالك والبخاري ومسلم وأبو داود عن أبي سعيد
الخدري.
وذكر أبو حيان أنه لا يزيد على الثلاث إلا إن تحقق أن من في
البيت لم يسمع، وظاهر الآية مشروعية الاستئذان إذا أريد الدخول
على المحارم،
وقد أخرج مالك في الموطأ عن عطاء بن يسار «أن رجلا قال للنبي
صلّى الله عليه وسلّم: أأستأذن على أمي؟ قال: نعم قال: ليس لها
خادم غيري أأستأذن عليها كلما دخلت؟ قال: أتحب أن تراها
عريانة؟ قال الرجل: لا قال: فاستأذن عليها»
وأخرج ابن جرير، والبيهقي عن ابن مسعود عليكم أن تستأذنوا على
أمهاتكم وأخواتكم، وهو أيضا على ما يقتضيه بعض الآثار مشروع
للنساء إذا أردن دخول بيوت غير بيوتهن. فقد أخرج ابن أبي حاتم
عن أم إياس قالت: كنت في أربع نسوة نستأذن على عائشة رضي الله
عنها تعالى عنها فقلت: ندخل؟ فقالت: لا فقال واحد:
السلام عليكم أندخل؟ قالت: ادخلوا ثم قالت: يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ
إلخ وإذا صح ذلك ففي الآية نوع تغليب، ووجه مشروعية الاستئذان
لهن نحو وجه مشروعيته للرجال فإن أهل البيت قد يكونون على حال
لا يحبون اطلاع النساء عليه كما لا يحبون اطلاع الرجال.
وصح من حديث أخرجه الشيخان. وغيرهما «إنما جعل الاستئذان من
أجل النظر»
ومن هنا لا ينبغي النظر في قعر البيت قبل الاستئذان،
وقد أخرج الطبراني عن أبي أمامة رضي الله تعالى عنه عن النبي
صلّى الله عليه وسلّم قال: «من كان يشهد أني رسول الله فلا
يدخل على أهل بيت حتى يستأذن ويسلم فإذا نظر في قعر البيت فقد
دخل»
وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كما أخرج أبو داود
والبخاري في الأدب المفرد عن عبد الله بن بشر إذا أتى باب قوم
لم يستقبل الباب من تلقاء وجهه ولكن من ركنه الأيمن أو الأيسر
ويقول السلام عليكم» وذلك أن الدور لم يكن عليها يومئذ ستور
فاستقبال الباب ربما يفضي إلى النظر، وظاهر الآية أيضا مشروعية
الاستئذان للأعمى لدخوله في عموم الموصول، ووجهها كراهة اطلاعه
بواسطة السمع على ما لا يجب أهل البيت اطلاعه عليه من الكلام
مثلا.
وفي الكشاف إنما شرع الاستئذان لئلا يوقف على الأحوال التي
يطويها الناس في العادة عن غيرهم ويتحفظون من اطلاع أحد عليها
ولم يشرع لئلا يطلع الدامر على عورة أحد ولا تسبق عينه إلى ما
لا يحل النظر إليه فقط، وهو تعليل حسن إلا أنه يحتاج القول
بذلك إلى القول بأن عليه الصلاة والسلام إنما جعل الاستئذان من
أجل النظر» خارج مخرج الغالب.
وجيء بإنما لمزيد الاعتناء لا للحصر وقد صرحوا بمجيء إنما لذلك
فلا تغفل ثم اعلم أن الاستئذان والتسليم
(9/330)
متغايران لكن ظاهر بعض الأخبار يقتضي أن
الاستئذان داخل في التسليم كما أن بعضها يقتضي مغايرته له وعدم
دخوله فيه، ووجه جعله من التسليم أنه بدونه كالعدم لما أن
السنة فيه أن يقرن بالتسليم. هذا وفي مصحف عبد الله كما أخرج
ابن جرير وغيره عن إبراهيم «حتى تسلموا على أهلها وتستأذنوا»
ذلِكُمْ إشارة على ما قيل إلى الدخول بالاستئذان والتسليم
المفهوم من الكلام، وقيل: إشارة إلى المذكور في ضمن الفعلين
المغيا بهما أي الاستئذان والتسليم خَيْرٌ لَكُمْ من الدخول
بغتة والدخول على تحية الجاهلية، فقد كان الرجل منهم إذا أراد
أن يدخل بيتا غير بيته يقول: حييتم صباحا حييتم مساء فيدخل
فربما أصاب الرجل مع امرأته في لحاف، وخيرية المفضل عليه قيل
على زعمهم لما في الانتظار من المذلة ولعدم تحية الجاهلية حسنة
كما هو عادة الناس اليوم في قولهم: صباح الخير ومساء الخير،
ولعل الأولى أن يقال: إن ذلك من قبيل الخل أحلى من العسل.
وجوز أن يكون خَيْرٌ صفة فلا تقدير، وقوله تعالى: لَعَلَّكُمْ
تَذَكَّرُونَ تعليل على ما اختاره جمع لمحذوف أي أرشدتم إلى
ذلك أو قيل لكم هذا كي تتذكروا وتتعظوا وتعملوا بموجبه فَإِنْ
لَمْ تَجِدُوا فِيها أَحَداً بأن كانت خالية من الأهل فَلا
تَدْخُلُوها واصبروا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ من جهة من يملك
الإذن عند وجدانكم إياه، ووجه ذلك أن الدخول في البيوت الخالية
من غير إذن سبب للقيل والقال، وفيه تصرف بملك الغير بغير رضاه
وهو يشبه الغضب، وهذه الآية لبيان حكم البيوت الخالية عن أهلها
كما أن الآية الأولى لبيان حكم البيوت التي فيها أهلها.
وجوز أن تكون هذه تأكيدا لأمر الاستئناس وأنه لا بدّ منه
والأمر دائر عليه، والمعنى فإن لم تجدوا فيها أحدا من الآذنين
أي ممن يملك الإذن فلا تدخلوها إلخ ويفيد هذا حرمة دخول ما فيه
من لا يملك الإذن كعبد وصبي من دون إذن من يملكه، ومن اختار
الأول قال: إن حرمة ما ذكر ثابتة بدلالة النص فتأمل. وقال
سبحانه: فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا إلى آخره دون فإن لم يكن فيها
أحد لأن المعتبر وجد أنها خالية من الأهل مطلقا أو ممن يملك
ذلك الإذن سواء كان فيها أحد في الواقع أم لم يكن كذا قيل:
وعليه فالمراد من قولهم في تفسير ذلك، بأن كانت خالية كونها
خالية بحسب الاعتقاد، وكذا يقال في نظيره فلا تغفل، ثم إن ما
أفادته الآيتان من الحكم قد خصصه الشرع فجوز الدخول لإزالة
منكر توقفت على الدخول من غير إذن أهل البيت والدخول في البيت
الخالي لإطفاء حريق فيه أو نحو ذلك.
وقد ذكر الفقهاء السور التي فيها الدخول من غير إذن ممن يملك
الإذن فلتراجع، وقيل: المراد بالإذن في قوله سبحانه: حَتَّى
يُؤْذَنَ لَكُمْ ما يعم الإذن دلالة وشرعا ولذا وقع بصيغة
المجهول وحينئذ لا حاجة إلى القول بالتخصيص وفيه خفاء وَإِنْ
قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا أي إن أمرتم من جهة أهل
البيت بالرجوع سواء كان الآمر من يملك الإذن أم لا فارجعوا ولا
تلحوا هُوَ أي الرجوع أَزْكى لَكُمْ أي أطهر مما لا يخلو عنه
اللج والعناد والوقوف على الأبواب بعد القول المذكور من دنس
الدناءة والرذالة أو أنفع لدينكم ودنياكم على أن أَزْكى من
الزكاة بمعنى النمو.
والظاهر أن صيغة أفعل في الوجهين للمبالغة، وقيدنا الوقوف على
الأبواب بما سمعت لأنه ليس فيه دناءة مطلقا، فقد روي عن ابن
عباس رضي الله تعالى عنهما أنه كان يأتي دور الأنصار لطلب
الحديث فيقعد على الباب ولا يستأذن حتى يخرج إليه فإذا خرج
ورآه قال: يا ابن عم رسول الله لو أخبرتني بمكانك فيقول: هكذا
أمرنا أن نطلب العلم، وكأنه رضي الله تعالى عنه عد ذلك من
التواضع وهو من أقوى أسباب الفتوح لطالب العلم، وقد أعطاني
الله عز
(9/331)
لَيْسَ عَلَيْكُمْ
جُنَاحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا
مَتَاعٌ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا
تَكْتُمُونَ (29) قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ
أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ
إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ (30) وَقُلْ
لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ
فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ
مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ
وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ
آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ
أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي
إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ
أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ
أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ
لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ وَلَا يَضْرِبْنَ
بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ
وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ
لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (31) وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى
مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ
يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ
وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (32) وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ
لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ
فَضْلِهِ وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ
أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا
وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ وَلَا
تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ
تَحَصُّنًا لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَنْ
يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ
غَفُورٌ رَحِيمٌ (33)
وجل نصيبا وافيا منه فكنت أكثر التلامذة
تواضعا وخدمة للمشايخ والحمد لله تعالى على ذلك وَاللَّهُ بِما
تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ فيعلم ما تأتون وما تذرون مما كلفتموه
فيجازيكم عليه.
لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَدْخُلُوا أي بغير استئذان
بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ أي موضوعة لسكنى طائفة مخصوصة فقط
بل ليتمتع بها من يحتاج إليها كائنا من كان من غير أن يتخذها
سكنا كالربط والخانات والحوانيت والحمامات وغيرها فإنها معدة
لمصالح الناس كافة كما ينبىء عنه قوله تعالى: فِيها مَتاعٌ
لَكُمْ فإنه صفة للبيوت أو استئناف جار مجرى التعليل لنفي
الجناح أي فيها حق تمتع لكم كالاستكنان من الحر والبرد وإيواء
الأمتعة والرحال والشراء والبيع والاغتسال وغيرها مما يليق
بحال البيوت وداخليها فلا بأس بدخولها بغير استئذان من داخليها
من قبل ولا ممن يتولى أمرها ويقوم بتدبيرها.
وأخرج ابن أبي حاتم عن مقاتل أنه لما نزل قوله تعالى: يا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا إلخ قال أبو بكر رضي
الله تعالى عنه: يا رسول الله فكيف بتجار قريش الذين يختلفون
من مكة والمدينة والشام وبيت المقدس ولهم بيوت معلومة على
الطريق فكيف يستأذنون ويسلمون وليس فيها سكان؟ فرخص سبحانه في
ذلك فأنزل قوله تعالى:
لَيْسَ عَلَيْكُمْ
إلخ، وعنى الصديق رضي الله تعالى عنه بالبيوت المعلومة الخانات
التي في الطرق وهي في الآية أعم من ذلك، ولا عبرة بخصوص السبب
فما روي عن ابن جبير ومحمد بن الحنفية والضحاك وغيرهم من
تفسيرها فيها بذلك من باب التمثيل، وكذا ما أخرجه جماعة عن
عطاء وعبد بن حميد وإبراهيم النخعي أنها البيوت الخربة التي
تدخل للتبرز، وأما ما روي عن ابن الحنفية أيضا من أنها دور مكة
فهو من باب التمثيل أيضا لكن صحة ذلك مبنية
(9/332)
على القول بأن دور مكة غير مملوكة والناس
فيها شركاء وقد علمت ما في المسألة من الخلاف.
وأخرج أبو داود في الناسخ وابن جرير عن ابن عباس أن قوله
سبحانه: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً
غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلى
أَهْلِها قد نسخ بقوله تعالى: لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ إلخ
واستثنى منه البيوت الغير المسكونة، وروي حديث الاستثناء عن
عكرمة والحسن وهو الذي يقتضيه ظاهر خبر مقاتل وإليه ذهب
الزمخشري وتعقبه أبو حيان بأنه لا يظهر ذلك الآن الآية الأولى
في البيوت المملوكة والمسكونة وهذه الآية في البيوت المباحة
التي لا اختصاص لها بواحد دون واحد. والذي يقتضيه النظر الجليل
أن البيوت فيما تقدم أعم من هذه البيوت فيكون ما ذكر تخصيصا
لذلك وهو المعني بالاستثناء فتدبر ولا تغفل.
وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما تَكْتُمُونَ وعيد لمن
يدخل مدخلا من هذه المداخل لفساد أو اطلاع على عورات قُلْ
لِلْمُؤْمِنِينَ شروع في بيان أحكام كلية شاملة للمؤمنين كافة
يندرج فيها حكم المستأذنين عند دخولهم البيوت اندراجا أوليا.
وتلوين الخطاب وتوجيهه إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم
وتفويض ما في حيزه من الأوامر والنواهي إليه عليه الصلاة
والسلام قيل لأنها تكاليف متعلقة بأمور جزئية كثيرة الوقوع
حرية بأن يكون الآمر بها والمتصدي لتدبيرها حافظا ومهيمنا
عليهم. وقيل: إن ذلك لما أن بعض المؤمنين جاء إلى رسول الله
صلّى الله عليه وسلّم كالمستدعي لأن يقول له ما في حيز القول.
فقد أخرج ابن مردويه عن عليّ كرّم الله تعالى وجهه قال: مر رجل
على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في طريق من طرقات
المدينة فنظر إلى امرأة ونظرت إليه فوسوس لهما الشيطان أنه لم
ينظر أحدهما إلى الآخر إلا إعجابا به فبينما الرجل يمشي إلى
جنب حائط وهو ينظر إليها إذ استقبله الحائط فشق أنفه فقال:
والله لا أغسل الدم حتى آتي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم
فأخبره أمري فأتاه فقص عليه قصته فقال النبي صلّى الله عليه
وسلّم: هذا عقوبة ذنبك وأنزل الله تعالى قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ
يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ
ومفعول القول مقدر، ويَغُضُّوا جواب لقل لتضمنه معنى حرف الشرط
كأنه قيل: إن تقل لهم غضوا يغضوا، وفيه إيذان بأنهم لفرط
مطاوعتهم لا ينفك فعلهم عن أمره عليه الصلاة والسلام وأنه
كالسبب الموجب له وهذا هو المشهور.
وجوز أن يكون يَغُضُّوا جوابا للأمر المقدر المقول للقول.
وتعقب بأن الجواب لا بد أن يخالف المجاب إما في الفعل والفاعل
نحو ائتني أكرمك أو في الفعل نحو أسلم تدخل الجنة أو في الفاعل
نحو قم أقم ولا يجوز أن يتوافقا فيه، وأيضا الأمر للمواجهة
ويَغُضُّوا غائب ومثله لا يجوز، وقيل عليه: إنه لم لا يجوز أن
يكون من قبيل «من كانت هجرته» الحديث ولا نسلم أنه لا يجاب
الأمر بلفظ الغيبة إذا كان محكيا بالقول لجواز التلوين حينئذ
وفيه بحث، ومن أنصف لا يرى هذا الوجه وجيها وهو على ما فيه
خلاف الظاهر جدا، وجوز الطبرسي. وغيره أن يكون يَغُضُّوا
مجزوما بلام أمر مقدرة لدلالة قُلْ أي قل لهم ليغضوا والجملة
نصب على المفعولية للقول، وغض البصر إطباق الجفن على الجفن،
ومِنْ قيل صلة وسيبويه يأبى ذلك في مثل هذا الكلام والجواز
مذهب الأخفش، وقال ابن عطية: يصح أن تكون من لبيان الجنس ويصح
أن تكون لابتداء الغاية. وتعقبه في البحر بأنه لم يتقدم مبهم
لتكون من لبيان الجنس على أن الصحيح أنها ليس من موضوعاتها أن
تكون لبيان الجنس انتهى، والجل على أنها هنا تبعيضية والمراد
غض البصر عما يحرم والاقتصار به على ما يحل، وجعل الغض عن بعض
المبصر غض بعض البصر وفيه كما في الكشف كناية حسنة ثم إن غض
البصر عما يحرم النظر إليه واجب ونظرة الفجأة التي لا تعمد
فيها معفو عنها،
فقد أخرج أبو داود والترمذي وغيرهما عن بريدة رضي الله تعالى
عنه قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لا تتبع
النظرة
(9/333)
النظرة فإن لك الأولى وليست لك الآخرة»
وبدأ سبحانه بالإرشاد إلى غض البصر لما في ذلك من سد باب الشر
فإن النظر باب إلى كثير من الشرور وهو بريد الزنا وراء الفجور،
وقال بعضهم:
كل الحوادث مبداها من النظر ... ومعظم النار من مستصغر الشرر
والمرء ما دام ذا عين يقلبها ... في أعين العين موقوف على
الخطر
كم نظرة فعلت في قلب فاعلها ... فعل السهام بلا قوس ولا وتر
يسر ناظره ما ضر خاطره ... لا مرحبا بسرور عاد بالضرر
والظاهر أن الإرشاد لكل واحد من المؤمنين ولفظ الجمع لا يأبى
ذلك، والظاهر أيضا أن المؤمنين أعم من العباد وغيرهم، وزعم
بعضهم جواز أن يكون المراد بهم العباد والمؤمنين المخلصين على
أن يكون المعنى قل للمؤمنين الكاملين يغضوا من أبصارهم
وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ أي عما لا يحل لهم من الزنا
واللواطة، ولم يؤت هنا بمن التبعيضية كما أتى بها فيما تقدم
لما أنه ليس فيه حسن كناية كما في ذلك. وفي الكشاف دخلت مِنْ
في غض البصر دون حفظ الفرج دلالة على أن أمر النظر أوسع ألا
ترى أن المحارم لا بأس بالنظر إلى شعورهن وصدورهن وثديهن
وأعضادهن وسوقهن وأقدامهن وكذلك الجواري المستعرضات للبيع
والأجنبية ينظر إلى وجهها وكفيها وقدميها في إحدى الروايتين
وأما أمر الفرج فمضيق، وكفاك فرقا أن أبيح النظر إلا ما استثني
منه وحظر الجماع إلا ما استثنى منه انتهى، وقال صاحب الفرائد:
يمكن أن يقال: المراد غض البصر عن الأجنبية والأجنبية يحل
النظر إلى بعضها وأما الفرج فلا طريق إلى الحل فيه أصلا
بالنسبة إلى الأجنبية فلا وجه لدخول مِنْ فيه وفيه تأمل، وقيل:
لم يؤت بمن هنا لأن المراد من حفظ الفروج سترها.
فقد أخرج ابن المنذر وجماعة عن أبي العالية أنه قال: كل آية
يذكر فيها حفظ الفرج فهو من الزنا إلا هذه الآية في النور
وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ فهو أن لا
يراها أحد، وروي نحوه عن أبي زيد، والستر مأمور به مطلقا.
وتعقب بأنه يجوز الكشف في مواضع فلو جيء بمن لكان فيه إشارة
إلى ذلك، وتفسير حفظ الفروج هنا خاصة بسترها قيل لا يخلو عن
بعد لمخالفته لما وقع في القرآن الكريم كما اعترف به من فسره
بما ذكر.
واختار بعض المدققين أن المراد من ذلك حفظ الفروج عن الإفضاء
إلى ما لا يحل وحفظها عن الإبداء لأن الحفظ لعدم ذكر صلته
يتناول القسمين، وذكر أن الحفظ عن الإبداء يستلزم الآخر من
وجهين عدم خلوه عن الإبداء عادة وكون الحفظ عن الإبداء بل
الأمر بالتستر مطلقا للحفظ عن الإفضاء، ومن هنا تعلم أن من ضعف
ما روي عن أبي العالية. وابن زيد بعدم تعرض الآية عليه بحفظ
الفرج عن الزنا لم يصب المحز.
ذلِكَ أي ما ذكر من الغض والحفظ أَزْكى لَهُمْ أي أطهر من دنس
الريبة أو انفع من حيث الدين والدنيا فإن النظر بريد الزنا
وفيه من المضار الدينية أو الدنيوية ما لا يخفى وأفعل للمبالغة
دون التفضيل.
وجوز أن تكون للتفضيل على معنى أزكى من كل شيء نافع أو مبعد عن
الريبة، وقيل على معنى أنه أنفع من الزنا والنظر الحرام فإنهم
يتوهمون لذة ذلك نفعا إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما يَصْنَعُونَ
لا يخفى عليه شيء مما يصدر عنهم من الأفاعيل التي من جملتها
إجالة النظر واستعمال سائر الحواس وتحريك الجوارح وما يقصدون
بذلك فليكونوا على حذر منه عز وجل في كل ما يأتون وما يذرون
وَقُلْ لِلْمُؤْمِناتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصارِهِنَّ فلا
ينظرن إلى ما لا يحل لهن النظر إليه كالعورات من الرجال
والنساء وهي ما بين السرة والركبة، وفي الزواجر لابن حجر المكي
كما يحرم نظر
(9/334)
الرجل للمرأة يحرم نظرها إليه ولو بلا شهوة
ولا خوف فتنة، نعم إن كان بينهما محرمية نسب أو رضاع أو مصاهرة
نظر كل إلى ما عدا ما بين سرة الآخر وركبته. والمذكور في بعض
كتب الأصحاب إن كان نظرها إلى ما عدا السرة والركبة بشهوة حرم
وإن بدونها لا يحرم نعم غضها بصرها من الأجانب أصلا أولى بها
وأحسن،
فقد أخرج أبو داود والترمذي وصححه. والنسائي. والبيهقي في سننه
عن أم سلمة أنها كانت عند رسول الله صلّى الله عليه وسلّم
وميمونة قالت: فبينما نحن عنده أقبل ابن أم مكتوم فدخل عليه
الصلاة والسلام فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: احتجبا
منه فقلت: يا رسول الله هو أعمى لا يبصر قال: أفعمياوان أنتما
ألستما تبصرانه؟
، واستدل به من قال بحرمة نظر المرأة إلى شيء من الرجل الأجنبي
مطلقا، ولا يبعد القول بحرمة نظر المرأة المرأة إلى ما عدا ما
بين السرة والركبة إذا كان بشهوة ولا تستبعد وقوع هذا النظر
فإنه كثير ممن يستعملن السحاق من النساء والعياذ بالله تعالى
وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ أي عما لا يحل لهن من الزنا والسحاق
أو من الإبداء أو مما يعم ذلك والإبداء وَلا يُبْدِينَ
زِينَتَهُنَّ أي ما يتزين به من الحلي ونحوه إِلَّا ما ظَهَرَ
مِنْها أي إلا ما جرت العادة والجبلة على ظهوره والأصل فيه
الظهور كالخاتم والفتخة والكحل والخضاب فلا مؤاخذة في إبدائه
للأجانب وإنما المؤاخذة في إبداء ما خفي من الزينة كالسوار
والخلخال والدملج والقلادة والإكليل والوشاح والقرط.
وذكر الزينة دون مواقعها للمبالغة في الأمر بالتستر لأن هذه
الزين واقعة على مواضع من الجسد لا يحل النظر إليها إلا لمن
استثني في الآية بعد وهي الذراع والساق والعضد والعنق والرأس
والصدر والأذن فنهى عن إبداء الزين نفسها ليعلم أن النظر إذا
لم يحل إليها لملابستها تلك المواقع بدليل أن النظر إليها غير
ملابسة لها كالنظر إلى سوار امرأة يباع في السوق لا مقال في
حله كان النظر إلى المواقع أنفسها متمكنا في الخطر ثابت القدم
في الحرمة شاهدا على أن النساء حقهن أن يحتطن في سترها ويتقين
الله تعالى في الكشف عنها كذا في الكشاف، وهو على ما قال
الطيبي مشعر بأن ما ذكر من باب الكناية على نحو قولهم: فلان
طاهر الجيب طاهر الذيل.
وقال صاحب الفرائد: هو من باب اطلاق اسم الحالّ على المحل
فالمراد بالزينة مواقعها فيكون حرمة النظر إلى المواقع بعبارة
النص بدلالته وهي أقوى، وفيه بحث.
وقيل: الكلام على تقدير مضاف أي لا يبدين مواقع زينتهن، وقال
ابن المنير: الزينة على حقيقتها وما يأتي إن شاء الله تعالى من
قوله عز وجل: وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ الآية يحقق أن
إبداء الزينة مقصود بالنهي، وأيضا لو كان المراد من الزينة
موقعها للزم أن يحل للأجانب النظر إلى ما ظهر من مواقع الزين
الظاهرة وهذا باطل لأن كل بدن الحرة عورة لا يحل لغير الزوج
والمحرم النظر إلى شيء منها إلا لضرورة كالمعالجة وتحمل
الشهادة، وأنت تعلم أن ابن المنير مالكي وما ذكره مبني على
مذهبه وما ذكره الزمخشري مبني على المشهور من مذهب الإمام أبي
حنيفة من أن مواقع الزين الظاهرة من الوجه والكفين (1)
والقدمين ليست بعورة مطلقا فلا يحرم النظر إليها، وقد أخرج أبو
داود وابن مردويه والبيهقي عن عائشة رضي الله تعالى عنها أن
أسماء بنت أبي بكر دخلت على النبي صلّى الله عليه وسلّم وعليها
ثياب رقاق فأعرض عنها، وقال يا أسماء إن المرأة إذا بلغت
المحيض لم يصلح أن يرى منها إلا هذا وأشار إلى وجهه وكفه صلّى
الله عليه وسلّم، وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد عن ابن عباس
أنه قال في قوله تعالى: إِلَّا ما ظَهَرَ مِنْها رقعة الوجه
وباطن
__________
(1) وفي رواية أن الذراعين ليستا بعورة اهـ منه.
(9/335)
الكف، وأخرجا عن ابن عمر أنه قال: الوجه
والكفان ولعل القدمين عندهما كالكفين إلا أنهما لم يذكراهما
اكتفاء بالعلم بالمقايسة فإن الحرج في سترهما أشد من الحرج في
ستر الكفين لا سيما بالنسبة إلى أكثر نساء العرب الفقيرات
اللاتي يمشين لقضاء مصالحهن في الطرقات. ومذهب الشافعي عليه
الرحمة كما في الزواجر أن الوجه والكفين ظهرهما وبطنهما إلى
الكوعين عورة في النظر من المرأة ولو أمه على الأصح وإن كانا
ليسا عورة من الحرة في الصلاة، وفي المنهاج وشرحه لابن حجر في
باب شروط الصلاة عورة الأمة ولو مبعضة ومكاتبة وأم ولد كعورة
الرجل ما بين السرة والركبة في الأصح وعورة الحرة ولو غير
مميزة والخنثى الحر ما سوى الوجه والكفين وإنما حرم نظرهما
كالزائد على عورة الأمة لأن ذلك مظنة الفتنة، ويجب في الخلوة
ستر سوأة الأمة كالرجل وما بين سرة وركبة الحرة فقط إلا لأدنى
غرض كتبريد وخشية غبار على ثوب تجمل انتهى.
وذكر في الزواجر حرمة نظر سائر ما انفصل من المرأة لأن رؤية
البعض ربما جر إلى رؤية الكل فكان اللائق حرمة نظره أيضا بل
قال: حرم أئمتنا النظر لقلامة ظفر المرأة المنفصلة ولو من
يدها، وذهب بعض الشافعية إلى حلّ النظر إلى الوجه والكف إن
أمنت الفتنة وليس يعول عليه عندهم، وفسر بعض أجلتهم ما ظهر
بالوجه والكفين بعد أن ساق الآية دليلا على أن عورة الحرة ما
سواهما، وعلل حرمة نظرهما بمظنة الفتنة فدل ذلك على أنه ليس كل
ما يحرم نظره عورة، وأنت تعلم أن إباحة إبداء الوجه والكفين
حسبما تقتضيه الآية عندهم مع القول بحرمة النظر إليهما مطلقا
في غاية البعد فتأمل. واعلم أنه إذا كان المراد النهي عن إبداء
مواقع الزينة، وقيل: بعمومها الوجه والكفين والتزم القول
بكونهما عورة وحرمة إبدائهما لغير من استثنى بعد يجوز أن يكون
الاستثناء في قوله تعالى: إِلَّا ما ظَهَرَ مِنْها من الحكم
الثابت بطريق الإشارة وهو المؤاخذة في دار الجزاء، ويكون
المعنى أن ما ظهر منها من غير إظهار كأن كشفته الريح مثلا فهن
غير مؤاخذات به في دار الجزاء، وفي حكم ذلك ما لزم إظهاره لنحو
تحمل شهادة ومعالجة طبيب، وروى الطبراني والحاكم وصححه وابن
المنذر وجمع آخرون عن ابن مسعود أن ما ظهر الثياب والجلباب،
وفي رواية الاقتصار على الثياب وعليها اقتصر ايضا الإمام أحمد.
وقد جاء إطلاق الزينة عليها في قوله تعالى: خُذُوا زِينَتَكُمْ
عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ [الأعراف: 31] على ما في البحر، وجاء في
بعض الروايات عن ابن عباس أن ما ظهر الكحل والخاتم والقرط
والقلادة.
وأخرج ابن أبي شيبة عن عكرمة أنه الكف وثغرة النحر، وعن الحسن
أنه الخاتم والسوار. وروي غير ذلك، ولا يخفى أن بعض الأخبار
ظاهر في حمل الزينة على المعنى المتبادر منها وبعضها ظاهر في
حملها على مواقعها، وقال ابن بحر: الزينة تقع على محاسن الخلق
التي فعلها الله تعالى وعلى ما يتزين به من فضل لباس، والمراد
في الآية النهي عن إبداء ذلك لمن ليس بمحرم واستثنى ما لا يمكن
إخفاؤه في بعض الأوقات كالوجه والأطرف، وأنكر بعضهم إطلاق
الزينة على الخلقة، قال في البحر: والأقرب دخولها في الزينة
وأي زينة أحسن من الخلقة المعتدلة وَلْيَضْرِبْنَ
بِخُمُرِهِنَّ عَلى جُيُوبِهِنَّ إرشاد إلى كيفية إخفاء بعض
مواقع الزينة بعد النهي عن إبدائها، والخمر جمع خمار ويجمع في
القلة على أخمرة وكلا الجمعين مقيس وهو المقنعة التي تلقيها
المرأة على رأسها من الخمر وهو الستر، والجيوب جمع جيب وهو فتح
في أعلى القميص يبدو منه بعض الجسد، وأصله على ما قيل من الجيب
بمعنى القطع وفي الصحاح تقول: جبت القميص أجوبه وأجيبه إذا
قورت جيبه، قال الراجز:
باتت تجيب أدعج الظلام ... جيب البيطر مدرع الهمام
وإطلاقه على ما ذكر هو المعروف لغة، وأما إطلاقه على ما يكون
في الجنب لوضع الدراهم ونحوها كما هو
(9/336)
الشائع بيننا اليوم فليس من كلام العرب كما
ذكره ابن تيمية لكنه ليس بخطأ بحسب المعنى، والمراد من الآية
كما روى ابن أبي حاتم عن ابن جبير أمرهن بستر نحورهنّ وصدورهن
بخمرهن لئلا يرى منها شيء وكان النساء يغطين رؤوسهن بالخمر
ويسدلنها كعادة الجاهلية من وراء الظهر فيبدو نحورهن وبعض
صدورهن، وصح أنه لما نزلت هذه الآية سارع نساء المهاجرين إلى
امتثال ما فيها فشققن مروطهن فاختمرن بها تصديقا وإيمانا بما
أنزل الله تعالى من كتابه، وعدي يضرب بعلى على ما قال أبو حيان
لتضمينه معنى الوضع والإلقاء، وقيل: معنى الشد، وظاهر كلام
الراغب أنه يتعدى بعلى بدون تضمين، وقرأ عباس عن أبي عمرو
«وليضربن» بكسر اللام وقرأ غير واحد من السبعة «جيوبهن» بكسر
الجيم والضم هو الأصل لأن فعلا بجمع على فعول في الصحيح
والمعتل كفلوس وبيوت والكسر لمناسبة الياء، وزعم الزجاج أنها
لغة رديئة.
وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ كرر النهي لاستثناء بعض مواد
الرخصة عنه باعتبار الناظر بعد ما استثنى عنه بعض مواد الضرورة
باعتبار المنظور إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أي أزواجهن فإنهم
المقصودون بالزينة والمأمورات نساؤهم بها لهم حتى أن لهم ضربهن
على تركها ولهم النظر إلى جميع بدنهن حتى المحل المعهود كما في
إرشاد العقل السليم.
وكره النظر إلى ذلك أكثر الشافعية وحرمه بعضهم، وقيل: إنه خلاف
الأولى وهو على ما قال الخفاجي:
مذهب الحنفية وتفصيله في الهداية وفيما ذكرنا إشارة إلى وجه
تقديم بعولتهن.
أَوْ آبائِهِنَّ أَوْ آباءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنائِهِنَّ
أَوْ أَبْناءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوانِهِنَّ أَوْ بَنِي
إِخْوانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَواتِهِنَّ لكثرة المخالطة
الضرورية بينهم وبينهن وقلة توقع الفتنة من قبلهم ولهم أن
ينظروا منهن ما يبدو عند المهنة والخدمة وهذا الحكم ليس خاصا
بالآباء الأقربين بل آباء الآباء وإن علوا كذلك ومثلهم آباء
الأمهات وكذا ليس خاصا بالأبناء والبنين الصلبيين بل يعمهم
وأبناء الأبناء وبني البنين وإن سفلوا، والمراد بالإخوان ما
يشمل الأعيان وهم الإخوة لأب واحد وأم واحدة وبني العلات وهم
أولاد الرجل من نسوة شتى والأخياف وهم أولاد المرأة من آباء
شتى ونظير ذلك يقال في الأخوات، واستعمل بَنِي معهم دون أبناء
لأنه أوفق بالعموم وأكثر استعمالا في الجماعة ينتمون إلى شخص
مع عدم اتحاد صنف قرابتهم فيما بينهم ألا ترى أنك كثيرا ما
تسمع بني آدم وبني تميم وقلما تسمع أبناء آدم وأبناء تميم
وفيما نحن فيه قد يجتمع للمرأة ابن أخ شقيق وابن أخ لأب وابن
أخ لأم بل قد يجتمع لها أبناء أخ شقيق أو إخوة أشقاء أعيان
وبنو علات وأبناء أخ أو إخوة لأب وأبناء أخ أو إخوة لأم كذلك
ويتأتى مثل ذلك في ابن الأخت لكن لا يتصور هنا بنو العلات كما
لا يتصور في أبناء الأخ الأخياف والاجتماع في أبنائهن وأبناء
بعولتهن وإن اتفق لكنه ليس بتلك المثابة.
وقيل اختير في الأخيرين بَنِي لأنه لو جيء بأبناء تلاقت همزتان
إحداهما همزة أبناء والثانية همزة إخوان أو أخوات وهو على ما
فيه لا يحسم مادة السؤال إذ للسائل أن يقول بعد: لم اختبر في
الأولين أَبْناءِ دون بَنِي ويحتاج إلى نحو أن يقال اختير ذلك
لأنه أوفق بآباء، وقيل اختير أَبْناءِ في الأولين لهذا، واختير
بني في بَنِي أَخَواتِهِنَّ ليكون المضاف والمضاف إليه من نوع
واحد، وفي بني اخوانهن للمشاكلة وفيه ما فيه، ولم يذكر سبحانه
الأعمام والأخوال مع أنهم كما قال الحسن. وابن جبير كسائر
المحارم في جواز إبداء الزينة لهم قيل لأنهم في معنى الإخوان
من حيث كون الجد سواء كان أب الأب أو أب الأم في معنى الأب
فيكون ابنه في معنى الأخ، وقيل لم يذكرهم سبحانه لما أن الأحوط
أن يستترن عنهم حذرا من أن يصفوهن لأبنائهم فيؤدي ذلك إلى نظر
الأبناء إليهن.
(9/337)
وأخرج ذلك ابن المنذر وابن أبي شيبة عن
الشعبي وفيه من الدلالة على وجوب التستر من الأجانب ما فيه.
وضعف بأنه يجري في آباء البعولة إذ لو رأوا زينتهن لربما
وصفوهن لأبنائهم وهم ليسوا محارم فيؤدي إلى نظرهم إليهن لا
سيما إذا كن خليات، وقيل لم يذكروا اكتفاء بذكر الآباء فإنهم
عند الناس بمنزلتهم لا سيما الأعمام وكثيرا ما يطلق الأب على
العم، ومنه قوله تعالى: وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ
آزَرَ [الأنعام: 74] ثم إن المحرمية المبيحة للإبداء كما تكون
من جهة النسب تكون من جهة الرضاع فيجوز أن يبدين زينتهنّ
لآبائهن وأبنائهن مثلا من الرضاع أَوْ نِسائِهِنَّ المختصات
بهن بالصحبة والخدمة من حرائر المؤمنات فإن الكوافر لا يتحرجن
أن يصفنهن للرجال فهن في إبداء الزينة لهن كالرجال الأجانب،
ولا فرق في ذلك بين الدمية وغيرها وإلى هذا ذهب أكثر السلف.
وأخرج سعيد بن منصور وابن المنذر وابن المنذر والبيهقي في سننه
عن عمر رضي الله تعالى عنه أنه كتب إلى أبي عبيدة رضي الله
تعالى عنه أما بعد فإنه بلغني أن نساء من نساء المسلمين يدخلن
الحمامات مع نساء أهل الشرك فانه من قبلك عن ذلك فإنه لا يحل
لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تنظر إلى عورتها إلا من
كانت من أهل ملتها. وفي روضة النووي في نظر الذمية إلى المسلمة
وجهان أصحهما عند الغزالي أنها كالمسلمة وأصحهما عند البغوي
المنع، وفي المنهاج له الأصح تحريم نظر ذمية إلى مسلمة،
ومقتضاه أنها معها كالأجنبي واعتمده جمع من الشافعية، وقال ابن
حجر: الأصح تحريم نظرها إلى ما لا يبدو في المهنة من مسلمة غير
سيدتها ومحرمها ودخول الذميات على أمهات المؤمنين الوارد في
الأحاديث الصحيحة دليل لحل نظرها منها ما يبدو في المهنة. وقال
الإمام الرازي: المذهب أنها كالمسلمة، والمراد بنسائهن جميع
النساء. وقول السلف محمول على الاستحباب وهذا القول أرفق
بالناس اليوم فإنه لا يكاد يمكن احتجاب المسلمات عن الذميات.
أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ أي من الإماء ولو كوافر وأما
العبيد فهم كالأجانب، وهذا مذهب أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه،
وأحد قولين في مذهب الشافعي عليه الرحمة وصححه كثير من
الشافعية والقول الآخر أنهم كالمحارم، وصحح أيضا، ففي المنهاج
وشرحه لابن حجر والأصح أن نظر العبد العدل ولا يكفي العفة عن
الزنا فقط غير المشترك والمبعض وغير المكاتب كما في الروضة عن
القاضي وأقره وإن أطالوا في رده إلى سيدته المتصفة بالعدالة
كالنظر إلى محرم فينظر منها ما عدا بين السرة والركبة وتنظر
منه ذلك ويلحق بالمحرم أيضا في الخلوة والسفر اهـ بتلخيص، وإلى
كون العبد كالأمة ذهب ابن المسيب ثم رجع عنه وقال: لا يغرنكم
آية النور فإنها في الإناث دون الذكور، وعلل بأنهم فحول ليسوا
أزواجا ولا محارم والشهوة متحققة فيهم لجواز النكاح في الجملة
كما في الهداية.
وروي عن ابن مسعود والحسن وابن سيرين أنهم قالوا: لا ينظر
العبد إلى شعر مولاته، وأخرج عبد الرزاق وابن المنذر عن طاوس
أنه سئل هل يرى غلام المرأة رأسها وقدمها؟ قال: ما أحب ذلك إلا
أن يكون غلاما يسيرا فأما رجل ذو لحية فلا، ومذهب عائشة وأم
سلمة رضي الله تعالى عنهما، وروي عن بعض أئمة أهل البيت رضي
الله تعالى عنهم أنه يجوز للعبد أن ينظر من سيدته ما ينظر
أولئك المستثنون: وروي عن عائشة أنها كانت تمتشط وعبدها ينظر
إليها وأنها قالت لذكوان: إذا وضعتني في القبر وخرجت فأنت حر،
وعن مجاهد كانت أمهات المؤمنين لا يحتجبن عن مكاتبهن ما بقي
عليه درهم.
وأخرج أحمد في مسنده وأبو داود وابن مردويه والبيهقي عن أنس
رضي الله تعالى عنه أن النبي صلّى الله عليه وسلّم أتى فاطمة
رضي الله تعالى عنها بعبد قد وهبه لها وعلى فاطمة رضي الله
تعالى عنها ثوب إذا قنعت به رأسها لم يبلغ رجليها وإذا غطت به
رجليها لم يبلغ رأسها فلما رأى النبي صلّى الله عليه وسلّم ما
تلقى قال: إنه ليس عليك بأس إنما هو أبوك وغلامك
.
(9/338)
والذي يقتضيه ظاهر الآية عدم الفرق بين
الذكر والأنثى لعموم «ما» ولأنه لو كان المراد الإناث خاصة
لقيل أو إمائهن فإنه أخصر ونص في المقصود، وإذا ضم الخبر
المذكور إلى ذلك قوي القول بعدم الفرق والتفصي عن ذلك صعب،
وأحسن ما قيل في الجواب عن الخبر أن الغلام فيه كان صبيا إذ
الغلام يختص حقيقة به فتأمل، وخرج بإضافة الملك إليهن عبد
الزوج فهو والأجنبي سواء قيل: وجعله بعضهم كالمحرم لقراءة «أو
ما ملكت أيمانكم» أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي
الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجالِ أي الذين يتبعون ليصيبوا من فضل
الطعام غير أصحاب الحاجة إلى النساء وهم الشيوخ الطاعنون في
السن الذين فنيت شهواتهم والممسوحون الذين قطعت ذكورهم وخصاهم،
وفي المجبوب وهو الذي قطع ذكره والخصي وهو من قطع خصاه خلاف
واختير أنهما في حرمة النظر كغيرهما من الأجانب وكان معاوية
يرى جواز نظر الخصي ولا يعتد برأيه وهو على ما قيل أول من اتخذ
الخصيان، وعن ميسون الكلبية أن معاوية دخل عليها ومعه خصي
فتقنعت منه فقال: هو خصي فقالت: يا معاوية أترى أن المثلة به
تحلل ما حرم الله تعالى، وليس له أن يستدل بما روي أن المقوقس
أهدى للنبي صلّى الله عليه وسلّم خصيا فقبله إذ لا دلالة فيه
على جواز إدخاله على النساء.
وأخرج ابن جرير وجماعة عن مجاهد أن غير أولي الإربة الأبله
الذي لا يعرف أمر النساء وروي ذلك عن أبي عبد الله رضي الله
تعالى عنه
وعن ابن جبير أنه المعتوه ومثله المجنون كما قال ابن عطية.
وأخرج ابن المنذر وغيره عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه
المخنث الذي لا يقوم زبه لكن
أخرج مسلم وأبو داود والنسائي وغيرهم عن عائشة رضي الله تعالى
عنها قالت: كان رجل يدخل على أزواج النبي صلّى الله عليه وسلّم
مخنث فكانوا يعدونه من غير أولي الإربة فدخل النبي عليه الصلاة
والسلام يوما وهو عند بعض نسائه وهو ينعت امرأة قال: إذا أقبلت
أقبلت بأربع وإذا أدبرت أدبرت بثمان فقال النبي صلّى الله عليه
وسلّم: ألا ترى هذا يعرف ما هاهنا لا يدخل عليكن فحجبوه
،
وجاء أنه عليه الصلاة والسلام أخرجه فكان بالبيداء يدخل كل
جمعة يستطعم
، ولعل الأولى حمل غير أولي الإربة على الذين لا حاجة لهم
بالنساء ولا يعرفون شيئا من أمورهن بحيث لا تحدثهم أنفسهم
بفاحشة ولا يصفونهن للأجانب ولا أرى الاكتفاء في غير أولي
الاربة بعدم الحاجة إلى النساء إذ لا تنتفي به مفسدة الإبداء
بالكلية كما لا يخفى.
ولعل في الخبر نوع إيماء إلى هذا وفي المنهاج وشرحه لابن حجر
عليه الرحمة، والأصح أن نظر الممسوح ذكره كله وأنثياه بشرط أن
لا يبقى فيه ميل للنساء أصلا وإسلامه في المسلمة ولو أجنبيا
لأجنبية متصفة بالعدالة كالنظر إلى محرم فينظر منها ما عدا ما
بين السرة والركبة وتنظر منه ذلك ويلحق بالمحرم أيضا في الخلوة
والسفر ويعلم منه أن التمثيل بالممسوح فيما سبق ليس على
إطلاقه، وأما الشيخ الهم والمخنث فهما عند الشافعية في النظر
إلى الأجنبيات ليسا كالممسوح، وصححوا أيضا أن المجنون يجب
الاحتجاب منه فلا تغفل، وجر غَيْرِ قيل على البدلية لا الوصفية
لاحتياجها إلى تكلف جعل التابعين لعدم تعينهم كالنكرة كما قال
الزجاج أو جعل غَيْرِ متعرفا بالإضافة هنا مثلها في الفاتحة
وفيه نظر وقرأ ابن عامر وأبو بكر غَيْرِ بالنصب على الحال
والاستثناء.
أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلى عَوْراتِ
النِّساءِ أي الأطفال الذين لم يعرفوا ما العورة ولم يميزوا
بينها وبين غيرها على أن لَمْ يَظْهَرُوا إلخ من قولهم ظهر على
الشيء إذا اطلع عليه فجعل كناية عن ذلك أو الذين لم يبلغوا حد
الشهوة والقدرة على الجماع على أنه من ظهر على فلان إذا قوي
عليه ومنه قوله تعالى: فَأَصْبَحُوا ظاهِرِينَ [الصف: 14]
ويشمل الطفل الموصوف بالصفة المذكورة بهذا المعنى المراهق الذي
لم يظهر منه تشوق للنساء، وقد ذكر بعض أئمة الشافعية أنه
كالبالغ فيلزم الاحتجاب منه على الأصح كالمراهق الذي ظهر منه
ذلك،
(9/339)
ويشمل أيضا من دون المراهق لكنه بحيث يحكي
ما يراه على وجهه. وذكروا في غير المراهق أنه إن كان بهذه
الحيثية فكالمحرم وإلا فكالعدم فيباح بحضوره ما يباح في الخلوة
فلا تغفل.
والظاهر أن الطِّفْلِ عطف على قوله تعالى: لِبُعُولَتِهِنَّ أو
على ما بعده من نظائره لا على الرِّجالِ وكلام أبي حيان ظاهر
في أنه عطف عليه وليس بشيء، ثم هو مفرد محلى بأل الجنسية فيعم
ولهذا كما قال في البحر: وصف بالجمع فكأنه قيل: أو الأطفال كما
هو المروي عن مصحف حفصة، ومثل ذلك قولهم: أهلك الناس الدينار
الصفر والدرهم البيض، وقيل هو مفرد وضع موضع الجمع، ونحوه قوله
تعالى: ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا [غافر:
67] .
وتعقب بأن وضع المفرد موضع الجمع لا ينقاس عند سيبويه وما هنا
عنده من باب المفرد المعرف بلام الجنس وهو يعم بدليل صحة
الاستثناء منه، والآية المذكور يحتمل أن تكون عنده على معنى ثم
يخرج كل واحد منكم طفلا كما قيل في قوله تعالى: وَأَعْتَدَتْ
لَهُنَّ مُتَّكَأً [يوسف: 31] أنه على معنى واعتدت لكل واحدة
منهن متكأ فلا يتعين كون «طفلا» فيها مما لا ينقاس عنده، وقال
الراغب: إن «طفلا» يقع على الجمع كما يقع على المفرد ونص على
ذلك الجوهري، وكذا قال بعض النحاة: إنه في الأصل مصدر فيقع على
القليل والكثير والأمر على هذا ظاهر جدا، والعورات جمع عورة
وهي في الأصل ما يحترز من الاطلاع عليه وغلبت في سوأة الرجل
والمرأة ولغة أكثر العرب تسكين الواو في الجمع وهي قراءة
الجمهور.
وروي عن ابن عامر أنه قرأ «عورات» بفتح الواو، والمشهور أن
تحريك الواو وكذا الياء في مثل هذا الجمع لغة هذيل بن مدركة.
ونقل ابن خالويه في كتاب شواذ القراءات أن ابن أبي إسحاق
والأعمش قرأ «عورات» بالفتح ثم قال:
وسمعنا ابن مجاهد يقول: هو لحن، وإنما جعله لحنا وخطأ من قبل
الرواية وإلا فله مذهب في العربية فإن بني تميم يقولون: روضات
وجوزات وعورات بالفتح فيها وسائر العرب بالإسكان، وقال الفراء:
العرب على تخفيف ذلك إلا هذيلا فتثقل ما كان من هذا النوع من
ذوات الياء والواو وأنشدني بعضهم:
أبو بيضات رائح متأدب ... رفيق بمسح المنكبين سبوح
وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ ما يُخْفِينَ أي
ما يسترنه عن الرؤية مِنْ زِينَتِهِنَّ أي لا يضربن بأرجلهن
الأرض ليتقعقع خلاخلهن فيعلم أن هن ذوات خلاخل فإن ذلك مما
يورث الرجال ميلا إليهن ويوهم أن لهن ميلا إليهم. أخرج ابن
جرير عن حضرمي أن امرأة اتخذت خلخالا من فضة واتخذت جزعا فمرت
على قوم فضربت برجلها فوقع الخلخال على الجزع فصوت فأنزل الله
تعالى وَلا يَضْرِبْنَ إلخ، والنساء اليوم على جعل الخرز
ونحوها في جوف الخلخال فإذا مشين به ولو هونا صوت، ولهن من
أنواع الحلي غير الخلخال ما يصوت عند المشي أيضا لا سيما إذا
كان مع ضرب الرجل وشدة الوطء، ومن الناس من يحرك شهوته وسوسة
الحلي أكثر من رؤيته. وفي النهي عن إبداء صوت الحلي بعد النهي
عن إبداء عينه من النهي عن إبداء مواضعه ما لا يخفى. وربما
يستدل بهذا النهي على النهي عن استماع صوتهن.
والمذكور في معتبرات كتب الشافعية وإليه أميل أن صوتهن ليس
بعورة فلا يحرم سماعه إلا إن خشي منه فتنة، وكذا إن التذ به
كما بحثه الزركشي. وأما عند الحنفية فقال الإمام ابن الهمام:
صرح في النوازل أن نغمة المرأة عورة ولذا
قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «والتكبير للرجال والتصفيق
للنساء»
فلا يحسن أن يسمعها الرجل اهـ.
ثم اعلم أن عندي مما يلحق بالزينة المنهي عن إبدائها ما يلبسه
أكثر مترفات النساء في زماننا فوق ثيابهن
(9/340)
ويتسترن به إذا خرجن من بيوتهن وهو غطاء
منسوج من حرير ذي عدة ألوان وفيه من النقوش الذهبية أو الفضية
ما يبهر العيون، وأرى أن تمكين أزواجهن ونحوهم لهن من الخروج
بذلك ومشيهن به بين الأجانب من قلة الغيرة وقد عمت البلوى
بذلك، ومثله ما عمت به البلوى أيضا من عدم احتجاب أكثر النساء
من إخوان بعولتهن وعدم مبالاة بعولتهن بذلك وكثيرا ما يأمرونهن
به.
وقد تحتجب المرأة منهم بعد الدخول أياما إلى أن يعطوها شيئا من
الحلي ونحوه فتبدو لهم ولا تحتجب منهم بعد وكل ذلك ما لم يأذن
به الله تعالى ورسوله صلّى الله عليه وسلّم وأمثال ذلك كثير
ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم وَتُوبُوا إِلَى
اللَّهِ جَمِيعاً تلوين للخطاب وصرف له عن رسول الله صلّى الله
عليه وسلّم إلى الكل بطريق التغليب لإبراز كمال العناية بما في
حيزه من أمر التوبة وأنها من معظمات المهمات الحقيقية بأن يكون
سبحانه وتعالى الآمر بها لما أنه لا يكاد يخلو أحد من المكلفين
عن نوع تفريط في إقامة مواجب التكاليف كما ينبغي لا سيما في
الكف عن الشهوات.
وقد أخرج أحمد والبخاري في الأدب المفرد ومسلم وابن مردويه
والبيهقي في شعب الإيمان عن الأغر رضي الله تعالى عنه قال:
«سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: يا أيها الناس
توبوا إلى الله فإني أتوب إليه كل يوم مائة مرة»
والمراد بالتوبة على هذا التوبة عما في الحال، وعن ابن عباس
رضي الله تعالى عنهما أن المراد التوبة عما كانوا يفعلونه قبل
من إرسال النظر وغير ذلك وهو وإن جب بالإسلام لكنه يلزم الندم
عليه والعزم على الكف عنه كلما يتذكر، وقد قالوا: إن هذا يلزم
كل تائب عن خطيئة إذا تذكرها، ومنه يعلم أن ما يفعله كثير ممن
يزعمون التوبة من نقل ما فعلوه من الذنوب على وجه التبجح
والاستلذاذ دليل عن عدم صدق توبتهم.
وفي تكرير الخطاب بقوله تعالى: أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ تأكيد
للإيجاب وإيذان بأن وصف الإيمان موجب للامتثال حتما، وفي دليل
على أن المعاصي لا تخرج عن الإيمان. وقرأ ابن عامر «أيه
المؤمنون» بضم الهاء، ووجهه أنها كانت مفتوحة لوقوعها قبل
الألف فلما سقطت الألف لالتقاء الساكنين أتبعت حركتها حركة ما
قبلها، وضم ها التي للتنبيه بعد أي لغة لبني مالك رهط شقيق بن
مسلمة ووقف بعضهم بسكون الهاء لأنها كتبت في المصحف بلا ألف
بعدها.
ووقف أبو عمرو والكسائي ويعقوب. كما في النشر. بالألف على خلاف
الرسم لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ أي لكي تفوزوا بذلك بسعادة
الدارين أو مرجوا فلا حكم.
وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ بعد ما زجر سبحانه عن السفاح
ومباديه القريبة والبعيدة أمر بالنكاح فإنه مع كونه مقصودا
بالذات من حيث كونه مناطا لبقاء النوع على وجه سالم من اختلاط
الأنساب مزجرة من ذلك.
والْأَيامى. كما نقل في التحرير عن أبي عمرو وإليه ذهب
الزمخشري. مقلوب أيايم جمع أيم لأن فيعل لا يجمع على فعالى أي
إن أصله ذلك فقدمت الميم وفتحت للتخفيف فقلبت الياء ألفا
لتحركها وانفتاح ما قبلها وذهب ابن مالك ومن تبعه إلى أنه جمع
شاذ لا قلب فيه ووزنه فعالى وهو ظاهر كلام سيبويه، والأيم قال
النضر بن شميل: كل ذكر لا أنثى معه وكل أنثى لا ذكر معها بكرا
أو ثيبا ويقال: آم وآمت إذا لم يتزوجا بكرين كانا أو ثيبين
وقال:
فإن تنكحي أنكح وإن تتأيمي ... وإن كنت أفتى منكم أتأيم
وقال التبريزي في شرح ديوان أبي تمام: قد كثر استعمال هذه
الكلمة في الرجل إذا ماتت امرأته وفي المرأة إذا مات زوجها،
وفي الشعر القديم ما يدل على أن ذلك بالموت وبترك الزوج من غير
موت قال الشماخ:
يقر لعيني أن أحدث أنها ... وإن لم أنلها أيم لم تزوج
انتهى، وفي شرح كتاب سيبويه لأبي بكر الخفاف: الأيم التي لا
زوج لها وأصله التي كانت متزوجة ففقدت
(9/341)
زوجها برزء طرأ عليها ثم قيل في البكر
مجازا لأنها لا زوج لها، وعن محمد أنها الثيب واستدل له بما
روي أنه صلّى الله عليه وسلّم قال: «الأيم أحق بنفسها من وليها
والبكر تستأذن في نفسها وإذنها صماتها»
حيث قابلها بالبكر، وفيه أنه يجوز أن تكون مشتركة لكن أريد
منها ذلك لقرينة المقابلة والأكثرون على ما قاله النضر أي
زوجوا من لا زوج له من الأحرار والحرائر وَالصَّالِحِينَ مِنْ
عِبادِكُمْ وَإِمائِكُمْ على أن الخطاب للأولياء والسادات،
والمراد بالصلاح معناه الشرعي، واعتباره في الأرقاء لأن من لا
صلاح له منهم بمعزل من أن يكون خليقا بأن يعتني مولاه بشأنه
ويشفق عليه ويتكلف في نظم مصالحه بما لا بد منه شرعا وعادة من
بذل المال والمنافع بل ربما يحصل له ضرر منه بتزويجه فحقه أن
يستبقيه عنده ولما لم يكن من لا صلاح له من الأحرار والحرائر
بهذه المثابة لم يعتبر صلاحهم، وقيل المراد بالصلاح معناه
اللغوي أي الصالحين للنكاح والقيام بحقوقه، والأمر هنا قيل
للوجوب وإليه ذهب أهل الظاهر، وقيل للندب وإليه ذهب الجمهور.
ونقل الإمام عن أبي بكر الرازي أن الآية وإن اقتضت الإيجاب إلا
أنه أجمع السلف على أنه لم يرد الإيجاب، ويدل عليه أمور، أحدها
أن الانكاح ولو كان واجبا لكان النقل بفعله من النبي صلّى الله
عليه وسلّم ومن السلف مستفيضا شائعا لعموم الحاجة فلما وجدنا
عصره عليه الصلاة والسلام وسائر الأعصار بعده قد كانت فيه
أيامى من الرجال والنساء ولم ينكر ذلك ثبت أنه لم يرد بالأمر
والإيجاب، وثانيها أنا أجمعنا على أن الأيم الثيب لو أبت
التزويج لم يكن للولي إجبارها، وثالثها اتفاق الكل على أنه لا
يجب على السيد تزويج أمته وعبده فيقتضي للعطف عدم الوجوب في
الجميع، ورابعها أن اسم الأيامى ينتظم الرجال والنساء فلما لزم
في الرجال تزويجهم بإذنهم لزم ذلك في النساء انتهى، وقال
الإمام نفسه:
ظاهر الأمر للوجوب فيدل على أن الولي يجب عليه تزويج موليته
وإذا ثبت هذا وجب أن لا يجوز النكاح إلّا بولي وإلا لفوتت
المولية على الولي المكنة من أداء هذا الواجب وإنه غير جائز.
والجواب عما نقل عن أبي بكر أن جميع ما ذكره تخصيصات تطرقت إلى
الآية والعام بعد التخصيص يبقى حجة فوجب إذا التمست المرأة
الأيم من الولي التزويج وجب انتهى. وفي الإكليل استدل بعموم
الآية من أباح نكاح الإماء بلا شرط ونكاح العبد الحرة.
وأنت تعلم أنها لم تبق على العموم، والذي أميل إليه أن الأمر
لمطلق الطلب وأن المراد من الإنكاح المعاونة والتوسط في النكاح
أو التمكين فيه، وتوقف صحته في بعض الصور على الولي يعلم من
دليل آخر.
والاستدلال بهذه الآية على اشتراط الولي وعلى أن له الجبر في
بعض الصور لا يخلو عن بحث ودون تمامه خرط القتاد فتدبر وقرأ
الحسن ومجاهد «من عبيدكم» بالياء مكان الألف وفتح العين وهو
كالعباد جمع عبد إلا أن استعماله في المماليك أكثر من استعمال
العباد فيهم إِنْ يَكُونُوا فُقَراءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ
فَضْلِهِ الظاهر أنه وعد من الله عز وجل بالإغناء، وأخرج ذلك
ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله
تعالى عنهما ولا يبعد أن يكون في ذلك سد لباب التعلل بالفقر
وعده مانعا من المناكحة.
وفي الآية شرط مضمر وهو المشيئة فلا يرد أن كثيرا من الفقراء
تزوج ولم يحصل له الغنى ودليل الإضمار قوله تعالى: وَإِنْ
خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ
إِنْ شاءَ [التوبة: 28] وكونه واردا في منع الكفار عن الحرم لا
يأبى الدلالة كما توهم أو قوله تعالى: وَاللَّهُ واسِعٌ أي غني
ذو سعة لا يرزأه إغناء الخلائق إذ لا نفاد لنعمته ولا غاية
لقدرته عَلِيمٌ يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر حسبما تقتضيه الحكمة
والمصلحة فإن مآل هذا إلى المشيئة وهو السر في اختيار عَلِيمٌ
يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر حسبما تقتضيه الحكمة والمصلحة فإن
مآل هذا إلى المشيئة وهو السر في اختيار عَلِيمٌ دون كريم مع
أنه أوفق بواسع نظرا إلى الظاهر. وفي الانتصاف فإن قيل العزب
كذلك
(9/342)
فإن غناه معلق بالمشيئة أيضا فلا وجه
للتخصيص، فالجواب أنه قد تقرر في الطباع الساكنة إلى الأسباب
أن العيال سبب للفقر وعدمهم سبب توفر المال فأريد قطع هذا
التوهم المتمكن بأن الله تعالى قد ينمي المال مع كثرة العيال
التي هي في الوهم سبب لقلة المال وقد يحصل الإقلال مع العزوبة
والواقع يشهد فدل على أن ذلك الارتباط الوهمي باطل وأن الغنى
والفقر بفعل الله تعالى مسبب الأسباب ولا توقف لهما إلا على
المشيئة فإذا علم الناكح أن النكاح لا يؤثر في الإقتار لم
يمنعه في الشروع فيه، ومعنى الآية حينئذ أن النكاح لا يمنعهم
الغنى من فضل الله تعالى فعبر عن نفي كونه مانعا عن الغنى
بوجوده معه، ومنه قوله تعالى: فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ
فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ [الجمعة: 10] فإن ظاهره الأمر
بالانتشار عند انقضاء الصلاة والمراد تحقيق زوال المانع وأن
الصلاة إذا قضيت فلا مانع من الانتشار فعبر عن نفي مانع
الانتشار بما يقتضي تقاضي الانتشار مبالغة انتهى، وقال بعضهم
في الفرق بين المتزوج والعزب أن الغنى للمتزوج أقرب وتعلق
المشيئة به أرجى للنص على وعده دون العزب وكذلك يوجد الحال إذا
استقرىء.
وتعقب بأن فيه غفلة عن قوله تعالى: وَإِنْ يَتَفَرَّقا يُغْنِ
اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ [النساء: 130] وكذا عن قوله
سبحانه: وَلْيَسْتَعْفِفِ إلخ، وأشار صاحب الكشف إلى أن في هذه
الآية والتي بعدها وعدا للمتزوج والعزب معا بالغنى فلا ورود
للسؤال قال: إنه تعالى أمر الأولياء أن لا يبالوا بفقر الخاطب
بعد وجود الصلاح ثقة بلطف الله تعالى في الإغناء ثم أمر
الفقراء بالاستعفاف إلى وجدان الغنى تأميلا لهم وأدمج سبحانه
أن مدار الأمر على العفة والصلاح على التقديرين وهو الجواب عن
سؤال المعترض انتهى، ولا يخفى عليك أن الأخبار الدالة على وعد
الناكح بالغنى كثيرة ولم نجد في وعد العزب الذي ليس بصدد
النكاح من حيث هو كذلك خبرا.
فقد أخرج عبد الرزاق وأحمد والترمذي وصححه والنسائي وابن ماجه
وابن حبان والحاكم وصححه والبيهقي في سننه عن أبي هريرة قال:
«قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ثلاثة حق على الله
تعالى عونهم الناكح يريد العفاف والمكاتب يريد الأداء والغازي
في سبيل الله تعالى» .
وأخرج الخطيب في تاريخه عن جابر قال: «جاء رجل إلى النبي صلّى
الله عليه وسلّم يشكو إليه الفاقة فأمره أن يتزوج
. وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه
قال: أطيعوا الله تعالى فيما أمركم (1) به من النكاح ينجز لكم
ما وعدكم من الغنى قال تعالى: إِنْ يَكُونُوا فُقَراءَ
يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ.
وأخرج عبد الرزاق وابن أبي شيبة في المصنف عن عمر بن الخطاب
رضي الله تعالى عنه قال: ابتغوا الغنى في الباءة. وفي لفظ.
ابتغوا الغنى في النكاح يقول الله تعالى: إِنْ يَكُونُوا
فُقَراءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ.
وأخرج الثعلبي والديلمي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما «أن
النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: التمسوا الرزق بالنكاح»
إلى غير ذلك من الأخبار، ولغنى الفقير إذا تزوج سبب عادي وهو
مزيد اهتمامه في الكسب والجد التام في السعي حيث ابتلي بمن
تلزمه نفقتها شرعا وعرفا وينضم إلى ذلك مساعدة المرأة له
وإعانتها إياه على أمر دنياه، وهذا كثير في العرب وأهل القرى
فقد وجدنا فيهم من تكفيه امرأته أمر معاشه ومعاشها بشغلها، وقد
ينضم إلى ذلك حصول أولاد له فيقوى أمر التساعد والتعاضد، وربما
يكون للمرأة أقارب يحصل له منهم الإعانة بحسب مصاهرته إياهم
ولا يوجد ذلك
__________
(1) يعني ضمنا فلا تغفل اهـ.
(9/343)
في العزب، ويشارك هذا الفقير المتزوج
الفقير الذي هو بصدد التزوج بمزيد الاهتمام في الكسب لكن هذا
الاهتمام لتحصيل ما يتزوج به وربما يكون لذلك ولتحصيل ما يحسن
به حاله بعد التزوج، ولا يخفى أن حال الامرأة المتزوجة وحال
الامرأة التي بصدد التزوج على نحو حال الرجل والفرق يسير.
هذا والظاهر من كلام بعضهم أن ما ذكر في الأيامى والصالحين
مطلقا وأمر تذكير الضمير ظاهر، وقيل: هو في الأحرار والحرائر
خاصة وبذلك صرح الطبرسي لأن الأرقاء لا يملكون وإن ملكوا ولذا
لا يرثون ولا يورثون، والمتبادر من الإغناء بالفضل أن يملكوا
ما به يحصل الغنى ويدفع الحاجة وهو لا يتحقق مع بقاء الرق، نعم
إذا أريد بالإغناء التوسعة ودفع الحاجة سواء كان ذلك بما يملك
أم لا فلا بأس بالعموم فتدبر.
وجوز أن تكون الآية في الأحرار خاصة بأن يكون المراد منها نهي
الأولياء عن التعلل بفقرهم إذا استنكحوهم، وأن تكون في
المستنكحين من الرجال مطلقا والمراد نهي الأولياء عن ذلك أيضا
فتدبر جميع ذلك.
واحتج بعضهم. كما قال ابن الفرس. بالآية على أن النكاح لا يفسخ
بالعجز عن النفقة لأنه سبحانه وعد فيها بالغنى، وفيه مناقشة لا
تخفى وَلْيَسْتَعْفِفِ إرشاد للتائقين العاجزين عن مبادي
النكاح وأسبابه إلى ما هو أولى لهم وأحرى بهم أي وليجتهد في
العفة وصون النفس الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكاحاً أي أسباب
نكاح أو لا يتمكنون مما ينكح به من المال على أن فعالا اسم آلة
كركاب لما يركب به حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ
عدة كريمة بالتفضل عليهم بالغنى ولطف بهم في استعفافهم وربط
على قلوبهم وإيذان بأن فضله تعالى أولى بالإعفاء وأدنى من
الصلحاء.
واستدل بالآية بعض الشافعية على ندب ترك النكاح لمن لا يملك
أهبته مع التوقان وكثير من الناس ذهب إلى استحبابه له لآية
إِنْ يَكُونُوا فُقَراءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ
وحملوا الأمر بالاستعفاف في هذه الآية على من لم يجد زوجة بجعل
فعال صفة بمعنى مفعول ككتاب بمعنى مكتوب، ولا يخفى أن الغاية
المذكورة تبعده، ولا يلزم من الفقر وجدان الأهبة المفسرة عندهم
بالمهر وكسوة فصل التمكين ونفقة يومه، والمذكور في معتبرات
كتبنا أن النكاح يكون واجبا عند التوقان أي شدة الاشتياق بحيث
يخاف الوقوع في الزنا لو لم يتزوج وكذا فيما يظهر لو كان لا
يمكنه منع نفسه عن النظر المحرم أو عن الاستمناء بالكف ويكون
فرضا بأن كان لا يمكنه الاحتراز عن الزنا إلا به بأن لم يقدر
على التسري أو الصوم الكاسر للشهوة كما يدل عليه
حديث «ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء»
فلو قدر على شيء من ذلك لم يبق النكاح فرضا أو واجبا عينا بل
هو أو غيره مما يمنعه من الوقوع في المحرم، وكلا القسمين مشروط
بملك المهر والنفقة، وزاد في البحر شرطا آخر فيهما وهو عدم خوف
الجور ثم قال: فإن تعارض خوف الوقوع في الزنا لو لم يتزوج وخوف
الجور لو تزوج قدم الثاني ويكره التزوج حينئذ كما أفاده الكمال
في الفتح ولعله لأن الجور معصية متعلقة بالعباد دون المنع من
الزنا وحق العبد مقدم عند التعارض لاحتياجه وغنى المولى عز وجل
انتهى، ومقتضاه الكراهة أيضا عند عدم ملك المهر والنفقة لأنهما
حق عبد أيضا وإن خاف الزنا لكن ذكروا أنه يندب استدانة المهر
ومقتضاه أنه يجب إذا خاف الزنا وإن لم يملك المهر إذا قدر على
استدانته، وهذا مناف للاشتراط السابق إلا أن يقال: الشرط ملك
النفقة والمهر ولو بالاستدانة أو يقال: هذا في العاجز عن الكسب
ومن ليس له جهة وفاء.
وذكر بعض الأجلة أنه ينبغي حمل ما ذكروا من ندب الاستدانة على
ندبها إذا ظن القدرة على الوفاء وحينئذ فإذا كانت مندوبة مع
هذا الظن عند أمنه من الوقوع في الزنا ينبغي وجوبها عند تيقن
الزنا بل ينبغي وجوبها حينئذ وإن لم
(9/344)
يغلب على ظنه قدرة الوفاء وهو معذور فيما
أرى عند الله عز وجل إذا فعل ومات ولم يترك وفاء فتأمل، ويكون
مكروها عند خوف الجور كما سمعت، وحراما عند تيقنه لأن النكاح
إنما شرع لمصلحة تحصين النفس وتحصيل الثواب وبالجور يأثم
ويرتكب المحرمات فتنعدم المصالح لرجحان هذه المفاسد، ويكون سنة
مؤكدة في الأصح حالة القدرة على الوطء والمهر والنفقة مع عدم
الخوف من الزنا والجور وترك الفرائض والسنن فلو لم يقدر على
واحد من الثلاثة الأول أو خاف واحدا من الثلاثة الأخيرة فلا
يكون النكاح سنة في حقه كما أفاده في البدائع، ويفهم من أشباه
ابن نجيم توقف كونه سنة على النية، وذكر في الفتح أنه إذا لم
يقترن بها كان مباحا لأن المقصود منه حينئذ مجرد قضاء الشهوة
ومبنى العبادة على خلافه فلا يثاب والنية التي يثاب بها أن
ينوي منع نفسه وزوجته عن الحرام، وكذا نية تحصيل ولد تكثر به
المسلمون وكذا نية الإتباع وامتثال الأمر وهو عندنا أفضل من
الاشتغال بتعلم وتعليم كما في درر البحار وأفضل من التخلي
للنوافل كما نص عليه غير واحد، وفي بعض معتبرات كتب الشافعية
أن النكاح مستحب لمحتاج إليه يجد أهبته من مهر وكسوة فصل
التمكين ونفقة يومه ولا يستحب لمن في دار الحرب النكاح مطلقا
خوفا على ولده التدين بدينهم والاسترقاق ويتعين حمله على من لم
يغلب على ظنه الزنا لو لم يتزوج إذ المصلحة المحققة الناجزة
مقدمة على المصلحة المستقبلة المتوهمة وإنه إن فقد الأهبة
استحب تركه لقوله تعالى: وَلْيَسْتَعْفِفِ الآية ويكسر شهوته
بالصوم للحديث، وكونه يثير الحرارة والشهوة إنما هو بابتدائه
فإن لم تنكسر به تزوج، ولا يكسرها بنحو كافور فيكره بل يحرم
على الرجل والمرأة إن أدى إلى اليأس من النسل، وقول جمع: إن
الحديث يدل على حل قطع العاجز الباءة بالأدوية مردود على أن
الأدوية خطيرة وقد استعمل قوم الكافور فأورثهم عللا مزمنة ثم
أرادوا الاحتيال لعود الباءة بالأدوية الثمينة فلم تنفعهم، فإن
لم يحتج للنكاح كره له إن فقد الأهبة وإلا يفقدها مع عدم حاجته
له فلا يكره له لقدرته عليه ومقاصده لا تنحصر في الوطء والتخلي
للعبادة أفضل منه فإن لم يتعبد فالنكاح أفضل في الأصح كما قال
النووي لأن البطالة تفضي إلى الفواحش فإن وجد الأهبة وبه علة
كهرم أو مرض دائم أو تعنن كذلك كره له لعدم حاجته مع عدم تحصين
المرأة المؤدي غالبا إلى فسادها، وبه يندفع قول الإحياء يسن
لنحو الممسوح تشبها بالصالحين كما يسن إمرار الموسى على رأس
الأصلع، وقول الفزاري: أي نهى ورد في نحو المجبوب والحاجة لا
تنحصر في الجماع. ولو طرأت هذه الأحوال بعد العقد فهل يلحق
بالابتداء أولا لقوة الدوام تردد فيه الزركشي والثاني هو الوجه
كما هو ظاهر انتهى، وفيه ما لم يتعرض له في كتب أصحابنا فيما
علمت لكن لا تأباه قواعدنا، ثم إن الظاهر أن الآية خاصة
بالرجال فهم المأمورون بالاستعفاف عند العجز عن مبادي النكاح
وأسبابه، نعم يمكن القول بعمومها واعتبار التغليب إذا أريد
بالنكاح ما ينكح لكن قد علمت ما فيه ولا تتوهمن من هذا أنه لا
يندب الاستعفاف للنساء أصلا لظهور أنه قد يندب في بعض الصور بل
من تأمل أدنى تأمل يرى جريان الأحكام في نكاحهن لكن لم أر من
صرح به من أصحابنا، نعم نقل بعض الشافعية عن الأم ندب النكاح
للتائقة وألحق بها محتاجة للنفقة وخائفة من اقتحام فجرة.
وفي التنبيه من جاز لها النكاح إن احتاجته ندب لها، ونقله
الأذرعي عن أصحاب الشافعي ثم بحث وجوبه عليها إذا لم تندفع
عنها الفجرة إلا به ولا دخل للصوم فيها، وبما ذكر علم ضعف قول
الزنجاني: يسن لها مطلقا إذ لا شيء عليها مع ما فيه من القيام
بأمرها وسترها، وقول غيره: لا يسن لها مطلقا لأن عليها حقوقا
للزوج خطيرة لا يتيسر لها القيام بها بل لو علمت من نفسها عدم
القيام بها ولم تحتج له حرم عليها اهـ، ولا يخفى أن ما ذكره
بعد بل متجه واستدل بعضهم بالآية على بطلان نكاح المتعة لأنه
لو صح لم يتعين الاستعفاف على فاقد المهر، وظاهر الآية تعينه
ولا يلزم من ذلك تحريم ملك اليمين لأن من لا يقدر على النكاح
لعدم المهر لا يقدر على شراء الجارية غالبا ذكره
(9/345)
الكيا وهو كما ترى وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ
الْكِتابَ بعد ما أمر سبحانه بإنكاح صالحي المماليك الأحقاء
بالإنكاح أمر جل وعلا بكتابة من يستحقها منهم ليصير حرا فيتصرف
في نفسه، وأخرج ابن السكن في معرفة الصحابة عن عبد الله بن
صبيح قال: كنت مملوكا لحويطب بن عبد العزى فسألته الكتابة فأبى
فنزلت وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ إلخ ويلوح من هذا أن عبد الله
المذكور أول من كوتب، وربما يتخيل منه أن الكتابة كانت معلومة
من قبل لكن نقل الخفاجي عن الدميري أنه قال: الكتابة لفظة
إسلامية وأول من كاتبه المسلمون عبد لعمر رضي الله تعالى عنه
يسمى أبا أمية.
وصرح ابن حجر أيضا بأنها لفظة إسلامية لا تعرفها الجاهلية،
والله تعالى أعلم، والكتاب مصدر كاتب كالمكاتبة ونظيره العتاب
والمعاتبة أي والذين يطلبون منكم المكاتبة مِمَّا مَلَكَتْ
أَيْمانُكُمْ ذكورا كانوا أو إناثا، وهو عندنا شرعا اعتاق
المملوك يدا حالا ورقبة مآلا وركنه الإيجاب بلفظ الكتابة أو ما
يؤدي معناه والقبول نحو أن يقول المولى: كاتبتك على كذا درهما
تؤديه إليّ وتعتق ويقول المملوك: قبلته وبذلك يخرج من يد
المولى دون ملكه فإذا أدى كل البدل عتق وخرج من ملكه، ومعناه
كتب الحروف أي جمعها وإطلاقه على ما ذكر لأن فيه ضم حرية اليد
إلى حرية الرقبة أو لأن البدل يكون في الأغلب منجما بنجوم يضم
بعضها إلى بعض أو لأنه يكتب المملوك على نفسه لمولاه ثمنه
ويكتب المولى له عليه العتق وهذا أوفق بصيغة المفاعلة أعني
المكاتبة.
وفي إرشاد العقل السليم قالوا: معناه كتبت لك على نفسي أن تعتق
مني إذا وفيت بالمال وكتبت لي على نفسك أن تفي بذلك أو كتبت
عليك الوفاء بالمال وكتبت على العتق عنده، ثم قال: والتحقيق أن
المكاتبة اسم للعقد الحاصل من مجموع كلامي المالك والمملوك
كسائر العقود الشرعية المنعقدة بالإيجاب والقبول.
ولا ريب في أن ذلك لا يصدر حقيقة إلا من المتعاقدين وليس وظيفة
كل منهما في الحقيقة إلا الإتيان بأحد شطريه معربا عما يتم من
قبله ويصدر عنه من الفعل الخاص به من غير تعرض لما يتم من قبل
صاحبه ويصدر عنه من فعله الخاص به إلا أن كلا من ذينك الفعلين
لما كان بحيث لا يمكن تحققه في نفسه إلا منوطا بتحقق الآخر
ضرورة أن التزام العتق بمقابلة البدل من جهة المولى لا يتصور
تحققه وتحصله إلا بالتزام البدل من طرف العبد كما أن عقد البيع
الذي هو تمليك المبيع بالثمن من جهة البائع لا يمكن تحققه إلا
بتملكه به من جانب المشتري لم يكن بد من تضمين أحدهما الآخر
وقت الإنشاء فكما أن قول البائع بعت إنشاء لعقد البيع على معنى
أنه إيقاع لما يتم من قبله أصالة ولما يتم من قبل المشتري ضمنا
إيقاعا متوقفا على رأيه توقفا شبيها بتوقف عقد الفضولي كذلك
قول المولى كاتبتك على كذا إنشاء لعقد الكتابة أي إيقاع لما
يتم من قبله من التزام العتق بمقابلة البدل أصالة ولما يتم من
قبل العبد من التزام البدل ضمنا إيقاعا متوقفا على قبوله فإذا
قبل تم العقد اهـ وبه ينحل إشكال صعب وارد على إسناد أفعال
العقود وهو أنه إذا كان ركن كل منها الإيجاب والقبول يلزم أن
لا يصح نحو بعت كذا بكذا مثلا لأن المتكلم به لم يوقع إلا ما
يتم من قبله وليس ذلك بيعا شرعيا إذ لا بد في البيع الشرعي من
فعل آخر أعني قبول المشتري وهو مما لم يوقعه المتكلم المذكور.
والحاصل أن إسناد باع إلى ضمير المتكلم يقتضي أنه أوقع البيع
مع أنه لم يوقع إلا أحد ركنيه فكيف يصح الاسناد، ووجه انحلال
هذا بما ذكر ظاهر إلا أنه أورد عليه أن فيه دعوى يكذبها وجدان
كل عاقد عاقل ألا ترى أنك إذا قلت بعت مثلا لا يخطر ببالك
إيقاع ضمني منك لشراء غيرك إيقاعا متوقفا على رأيه أصلا بل
قصارى ما يخطر بالبال إيقاعه الشراء دون إيقاعك لشرائه على نحو
فعل الفضولي ومن ادعى ذلك فقد كابر وجدانه. وأجيب بأن الأمور
(9/346)
الضمنية قد تعتبر شرعا وان لم تقصد كما
يرشد إلى ذلك أنهم اعتبروا في قول القائل لآخر: أعتق عبدك عني
بكذا فأعتقه البيع الضمني بركنيه وإن لم يكن القائل خاطرا
بباله ذلك وقاصدا له.
وبحث فيه بانهم إنما اعتبروا أولا العتق الذي هو مدلول اللفظ
والمقصود منه ترجيحا لجانب الحرية ثم لما رأوا أن ذلك موقوف
على الملك الموقوف على البيع حسب العادة الغالبة اعتبروا البيع
ليتم لهم الاعتبار الأول ولم يعتبروه مدلولا للفظ العتق أصلا
ليشترط القصد وإن أوهمه تسميتهم إياه بيعا ضمنيا بخلاف ما نحن
فيه على ما سمعت فإن إيقاع القبول قد توقف عليه ماهية البيع
الشرعي واعتبر مدلولا ضمنيا له بحيث صار عندهم كما يقتضيه ظاهر
كلام الإرشاد نحو بعت بمعنى أوقعت إيجابا مني أصالة وقبولا منك
نيابة وظاهر في مثل ذلك تحقق القصد وحيث نفى بالوجدان قصد
إيقاع القبول نيابة علم أنه ليس مدلولا ضمنيا.
ومن الناس من تفصى عن الاشكال بالتزام أن البيع هو الإيجاب
والقبول شرط صحته فقول القائل بعت إنشاء لبيع يحتمل الصحة
وعدمها ومتى قال الآخر اشتريت تعينت الصحة وأن قولهم ركن البيع
الإيجاب والقبول من المسامحات الشائعة أو بالتزام أن للبيع
ونحوه إطلاقين، أحدهما العقد الحاصل من مجموع الإيجاب والقبول
كما في نحو قولك: وقع البيع بين زيد وعمرو وثانيهما الإيجاب
فقط كما في نحو قولك بعته كذا فلم يشتر والبيع الدال عليه بعت
الانشائي من هذا القبيل فلا إشكال في إسناده إلى المتكلم فتأمل
وتدبر.
وفي هذا المقام أبحاث تركناها خوفا مزيد البعد عما نحن بصدده
والله تعالى الموفق، والَّذِينَ يحتمل أن يكون في محل رفع على
الابتداء والخبر قوله تعالى: فَكاتِبُوهُمْ وهو بتقدير القول
بناء على المشهور من أن الجملة الانشائية لا تقع خبرا عن
المبتدأ إلا كذلك، وقال بعض المحققين: لا حاجة في مثل هذا إلى
التأويل لأنه في معنى الشرط والجزاء ولذا جيء في الخبر بالفاء.
ويحتمل أن يكون في محل نصب على أنه مفعول لمحذوف يفسره المذكور
والفاء فيه لتضمن الشرط أيضا وفي البحر يجوز أن تقول: زيدا
فاضرب وزيدا اضرب فإذا دخلت الفاء كان التقدير تنبه فاضرب
فالفاء في جواب أمر محذوف اهـ. وأنت تعلم أنه لا يحتاج إلى هذا
في الآية، وذكر بعض الأفاضل أن الفاء فيها على الاحتمال الثاني
لأن حق المفسر أن يعقب المفسر، والمراد كتابة بعد كتابة فإن في
الموالي كثرة وكذا في المكاتبين فليس الأمر به للمولى بالنسبة
إلى مكاتب واحد اهـ. وهو يشبه الرطانة بالأعجمية.
والأمر للندب على الصحيح، وقيل هو للوجوب وهو مذهب عطاء وعمرو
بن دينار والضحاك وابن سيرين وداود، وما أخرجه عبد الرزاق وعبد
بن حميد وابن جرير عن أنس بن مالك قال: سألني سيرين المكاتبة
فأبيت عليه فأتى عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه فأقبل عليّ
بالدرة وتلا قوله تعالى: فَكاتِبُوهُمْ إلخ وفي رواية كاتبه أو
لأضربنك بالدرة ظاهر في القول بالوجوب، وجمهور الأئمة كمالك
والشافعي، وغيرهما على أن المكاتبة بعد الطلب وتحقق الشرط
الآتي إن شاء الله تعالى مندوبة بيد أن من قال منهم بأن ظاهر
الأمر للوجوب كالشافعي لم يقل بظاهره هنا لأنه بعد الحظر وهو
بيع ماله بماله للاباحة، وادعى أن ندبها من دليل آخر، وظاهر
الآية جواز الكتابة سواء كان البدل حالا أو مؤجلا أو منجما أو
غير منجم لمكان الإطلاق وإلى ذلك ذهب الحنفية.
وذهب جمهور الشافعية إلى أنه يشترط أن يكون منجما بنجمين فأكثر
فلا تجوز بدون أجل وتنجيم مطلقا،
(9/347)
وقيل إن ملك السيد بعض العبد وباقيه حر لم
يشترط أجل وتنجيم، ورده محققوهم وأجابوا عن دعوى إطلاق الآية
بأن الكتابة تشعر بالتنجيم فتغني عن التقييد لأنه (1) يكتب أنه
يعتق إذا أدى ما عليه ومثله لا يكون في الحال.
واعترضوا أيضا على القول بصحة الكتابة الحالة بأن الكتابة لو
عقدت حالة توجهت المطالبة عليه في الحال وليس له مال يؤديه فيه
فيعجز عن الأداء فيرد إلى الرق فلا يحصل مقصود العقد، وهذا كما
لو أسلم فيما لا يوجد عند حلول الأجل فإنه لا يجوز. وأنت تعلم
ما في دعوى إشعار الكتابة بالتنجيم وأنها تضر الشافعية لأن
التنجيم الذي تشعر به الكتابة على زعمهم يتحقق بنجم واحد
فيقتضي أن تجوز به كما ذهب إليه أكثر العلماء وهم لا يجوزون
ذلك ويشترطون نجمين فأكثر. وما ذكروه في الاعتراض ليس بشيء
فإنه لا عجز مع أمر المسلمين بإعانته بالصدقة والهبة والقرض،
والقياس على السلم لا يصح لظهور الفارق، ولعل ما ذكر كالبيع
لمن لا يملك الثمن ولا شك في صحته كذا قيل وفيه بحث.
وقال ابن خويزمنداد: إذا كانت الكتابة على مال معجل كانت عتقا
على مال ولم تكن كتابة، والفرق بين العتق على مال والكتابة
مذكور في موضعه إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً أي أمانة
وقدرة على الكسب، وبهما الخير فسره الشافعي. وذكر البيضاوي أنه
روي هذا التفسير مرفوعا وجاء نحو ذلك في بعض الروايات عن ابن
عباس، وفسرت الأمانة بعدم تضييع المال، قيل ويحتمل أن يكون
المراد بها العدالة لكن يشترط على هذا الاستحباب المكاتبة أن
لا يكون العبد معروفا بانفاق ما بيده بالطاعة لأن مثل هذا لا
يرجى له عتق بالكتابة.
وأخرج أبو داود في المراسيل والبيهقي في سننه عن يحيى بن أبي
كثير قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في قوله تعالى:
فَكاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً إن علمتم فيهم
حرفة
، وظاهره الاكتفاء بالقدرة على الكسب وعدم اشتراط الأمانة، وهو
قول نقله ابن حجر عن بعضهم، وتعقبه بأن المكاتب إذا لم يكن
أمينا يضيع ما كسبه فلا يحصل المقصود.
وأخرج عبد بن حميد عن عبيدة السلماني وقتادة وابراهيم وأبي
صالح أنهم فسروا الخير بالأمانة وظاهر كلامهم الاكتفاء بها
وعدم اشتراط القدرة على الكسب، ونقله أيضا ابن حجر عن بعضهم
وتعقبه بأن المكاتب إذا لم يكن قادرا على الكسب كان في مكاتبته
ضرر على السيد ولا وثوق بإعانته بنحو الصدقة والزكاة.
وأخرج ابن مردويه عن علي كرّم الله تعالى وجهه أنه فسر الخير
بالمال
، وأخرجه جماعة عن ابن عباس وعن ابن جريج وروي عن مجاهد وعطاء
والضحاك، وتعقب بأن ذلك ضعيف لفظا ومعنى أما لفظا فلأنه لا
يقال فيه مال بل عنده أو له مال، وأما معنى فلأن العبد لا مال
له ولأن المتبادر من الخير غيره وإن أطلق الخير على المال في
قوله تعالى: كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ
الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ [البقرة: 180] .
وأجيب بأنه يمكن أن يكون المراد بالخير عند هؤلاء الأجلة
القدرة على كسب المال إلا أنهم ذكروا ما هو المقصود الأصلي منه
تساهلا في العبارة ومثله كثير.
وقال أبو حيان: الذي يظهر من الاستعمال أنه الدين تقول: فلان
فيه خير فلا يتبادر إلى الذهن إلا الصلاح.
وتعقب بأنه لا يناسب المقام ويقتضي أن لا يكاتب غير المسلم،
وفسره كثير من أصحابنا بأن لا يضروا المسلمين بعد العتق
وقالوا: إن غلب ظن الضرر بهم بعد العتق فالأفضل ترك مكاتبتهم،
وظاهر التعليق بالشرط أنه إذا لم يعلموا فيه خيرا لا يستحب لهم
مكاتبتهم أو لا تجب عليهم، وهذا للخلاف في أن الأمر هل هو
للندب أو للوجوب فلا تفيد الآية عدم الجواز عند انتفاء الشرط
فإن غاية ما يلزم انتفاءه انتفاء المشروط وليس هو فيها إلا
الأمر الدال على الوجوب
__________
(1) أي الشأن اهـ منه.
(9/348)
أو الندب، ومن قال: إنه للاباحة التزم أن
الشرط هنا لا مفهوم له لجريه على العادة في مكاتبة من علم
خيريته كذا قيل، والذي أراه حرمه المكاتبة إذا علم السيد أن
المكاتب لو عتق أضر المسلمين.
ففي التحفة لابن حجر في باب الكتابة عند قول النووي هي مستحبة
إن طلبها رقيق أمين قوي على كسب ولا تكره بحال ما نصه: لكن بحث
البلقيني كراهتها لفاسق يضيع كسبه في الفسق ولو استولى عليه
السيد لامتنع من ذلك، وقال هو وغيره: بل ينتهي الحال للتحريم
أي وهو قياس حرمة الصدقة والقرض إذا علم أن من أخذهما يصرفهما
في محرم، ثم رأيت الأذرعي بحثه فيمن علم أنه يكتسب بطريق الفسق
وهو صريح فيما ذكرته إذ المدار على تمكينه بسببها من المحرم
اهـ، وما ذكر من المدار موجود فيها قلنا، ثم المراد من العلم
الظن القوي وهو مدار أكثر الأحكام الشرعية وَآتُوهُمْ مِنْ
مالِ اللَّهِ الَّذِي آتاكُمْ الظاهر أنه أمر للموالي بإيتاء
المكاتبين شيئا من أموالهم إعانة لهم، وفي حكمه حط شيء من مال
الكتابة ويكفي في ذلك أقل ما يتمول.
وأخرج عبد الرزاق وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه
والبيهقي وغيرهما من طريق عبد الله بن حبيب عن علي كرّم الله
وجهه عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «يترك للمكاتب
الربع» وجاء هذا أيضا في بعض الروايات موقوفا على علي كرّم
الله تعالى وجهه،
وقال ابن حجر الهيتمي: هو الأصح ولعل ذلك اجتهاد منه رضي الله
تعالى عنه.
وادعاء أن هذا لا يقال من قبل الرأي فهو في حكم المرفوع ممنوع،
ولهذا الخبر وقول ابن راهويه: أجمع أهل التأويل على أن الربع
هو المراد بالآية قالوا: إن الأفضل إيتاء الربع، واستحسن ابن
مسعود والحسن إيتاء الثلث، وابن عمر رضي الله تعالى عنهما
إيتاء السبع، وقتادة إيتاء العشر والأمر بالايتاء عندنا للندب
وقال الشافعية: للوجوب إذ لا صارف عنه، وصرحوا بأنه يلزم السيد
أو وارثه مقدما له على مؤن التجهيز. أما الحط عن المكاتب كتابة
صحيحة لجزء من المال المكاتب عليه أو دفع جزء من المعقود عليه
بعد أخذه أو من جنسه إليه وأن الحط أولى من الدفع لأنه المأثور
عن الصحابة ولأن الاعانة فيه محققة والمدفوع قد ينفقه في جهة
أخرى، وهو في النجم الأخير أفضل، والأصح أن وقت الوجوب قبل
العتق ويتضيق إذا بقي من النجم قدر ما يفي به من مال الكتابة،
وشاع أنهم يقولون بوجوب الحط. ويرده
قوله صلّى الله عليه وسلّم: «المكاتب عبد ما بقي عليه درهم»
إذ لو وجب الحط لسقط عنه الباقي حتما وأيضا لو وجب الحط لكان
وجوبه معلقا بالعقد فيكون العقد موجبا ومسقطا معا، وأيضا هو
عقد معاوضة فلا يجبر على الحطيطة كالبيع، قيل: معنى آتُوهُمْ
أقرضوهم، وقيل: هو أمر لهم بالإنفاق عليهم بعد أن يؤدوا
ويعتقوا، وإضافة المال إليه تعالى ووصفه بإيتائه تعالى إياهم
للحث على الامتثال بالأمر بتحقيق المأمور به فإن ملاحظة وصول
المال إليهم من جهته سبحانه مع كونه عزّ وجلّ هو المالك
الحقيقي له من أقوى الدواعي إلى صرفه إلى الجهة المأمور بها،
وقيل: هو أمر ندب لعامة المسلمين إعانة المكاتبين بالتصدق
عليهم. وأخرج ابن أبي حاتم عن زيد بن أسلم أنه أمر للولاة أن
يعطوهم من الزكاة وهذا نحو ما ذكر في الكشاف من أنه أمر
للمسلمين على وجه الوجوب بإعانة المكاتبين وإعطائهم سهمهم الذي
جعل الله تعالى لهم في بيت المال كقوله سبحانه: وَفِي
الرِّقابِ [البقرة: 177، التوبة:
60، محمد: 4] عند أبي حنيفة وأصحابه، ويحل للمولى إذا كان غنيا
أن يأخذ ما تصدق به على المكاتب لتبدل الملك كما فيما إذا
اشترى الصدقة من فقير أو وهبها الفقير له فإن المكاتب يتملكه
صدقة والمولى عوضا عن العتق، وكذا الحكم لو عجز بعد أداء البعض
عن الباقي فأعيد إلى الرق أو أعتق من غير جهة الكتابة، والعلة
تبدل الملك أيضا عند محمد وفيه خفاء لأن ما أخذ لم يقع عوضا عن
العتق، أما فيما إذا أعيد إلى الرق فظاهر، وأما فيما إذا أعتق
من غير جهة الكتابة فلأن العتق لم يكن مشروطا بأداء ذلك فتدبر.
(9/349)
وعلل أبو يوسف المسألة بأنه لا خبث في نفس
الصدقة وإنما الخبث في فعل الآخذ لكونه إذلالا بالآخذ ولا يجوز
ذلك له من غير حاجة والأخذ لم يوجد من السيد. وأورد عليه أنه
ينافي جعلها أوساخ الناس في الحديث. ونقل عن الشافعي أنه إذا
أعيد المكاتب إلى الرق أو أعتق من غير جهة الكتابة يلزم السيد
رد ما أخذه إلا أن يتلف قبله لأن ما دفع للمكاتب لم يقع موقعه
ولم يترتب عليه الغرض المطلوب.
قال الطيبي: وبهذا يظهر أن قياس ذلك على الصدقة التي اشتريت من
الفقير غير صحيح، والمدار عندي اختلاف جهتي الملك فمتى تحقق لم
تبق شبهة في الحل،
وقد صح أن بريرة مولاة عائشة رضي الله تعالى عنها جاءت بعد
العتق بلحم بقر فقالت عائشة للنبي صلّى الله عليه وسلّم: هذا
ما تصدق به على بريرة فقال عليه الصلاة والسلام: هو لها صدقة
ولنا هدية
فأشار عليه الصلاة والسلام إلى حله لآل البيت الذين لا تحل لهم
الصدقة باختلاف جهتي الملك فتأمل، وللمكاتبة أحكام كثيرة تطلب
من كتب الفقه.
وَلا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ
أخرج مسلم وأبو داود عن جابر رضي الله تعالى عنه أن جارية لعبد
الله بن أبي ابن سلول يقال لها مسيكة وأخرى يقال لها أميمة كان
يكرههما على الزنا فشكتا ذلك إلى رسول الله صلّى الله عليه
وسلّم فنزلت.
وأخرج ابن أبي حاتم عن السدي قال: كان لعبد الله بن أبيّ جارية
تدعى معاذة فكان إذا نزل ضيف أرسلها له ليواقعها إرادة الثواب
منه والكرامة له فأقبلت الجارية إلى أبي بكر رضي الله تعالى
عنه فشكت ذلك إليه فذكره أبو بكر للنبي صلّى الله عليه وسلّم
فأمره بقبضها فصاح عبد الله بن أبيّ من يعذرنا من محمد صلّى
الله عليه وسلّم يغلبنا على مماليكنا؟ فنزلت
،
وقيل: كانت لهذا اللعين ست جوار معاذة ومسيكة وأميمة وعمرة
وأروى وقتيلة يكرههن على البغاء وضرب عليهن ضرائب فشكت ثنتان
منهن إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فنزلت
. وقيل: نزلت في رجلين كانا يكرهان أمتين لهما على الزنا
أحدهما ابن أبيّ،
وأخرج ابن مردويه عن علي كرّم الله تعالى وجهه أنهم كانوا في
الجاهلية يكرهون إماءهم على الزنا يأخذون أجورهن فنهوا عن ذلك
في الإسلام
. ونزلت الآية، وروي نحوه عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما،
وعلى جميع الروايات لا اختصاص للخطاب بمن نزلت فيه الآية بل هي
عامة في سائر المكلفين.
والفتيات جمع فتاة وكل من الفتى والفتاة كناية مشهورة عن العبد
والأمة مطلقا وقد أمر الشارع صلّى الله عليه وسلّم بالتعبير
بهما مضافين إلى ياء المتكلم دون العبد والأمة مضافين إليه
فقال عليه الصلاة والسلام: «لا يقولن أحدكم عبدي وأمتي ولكن
فتاي وفتاتي»
وكأنه صلّى الله عليه وسلّم كره العبودية لغيره عزّ وجلّ ولا
حجر عليه سبحانه في إضافة الأخيرين إلى غيره تعالى شأنه،
وللعبارة المذكورة في هذا المقال باعتبار مفهومها الأصلي حسن
موقع ومزيد مناسبة لقوله سبحانه: عَلَى الْبِغاءِ وهو زنا
النساء كما في البحر من حيث صدوره عن شوابهن لأنهن اللاتي
يتوقع منهن ذلك غالبا دون من عداهن من العجائز والصغائر.
وقوله عزّ وجلّ: إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً ليس لتخصيص النهي
بصورة إرادتهن التعفف عن الزنا وإخراج ما عداها عن حكمه كما
إذا كان الإكراه بسبب كراهتهن الزنا لخصوص الزاني أو لخصوص
الزمان أو لخصوص المكان أو لغير ذلك من الأمور المصححة للاكراه
في الجملة بل هو للمحافظة على عادة من نزلت فيهم الآية حيث
كانوا يكرهونهن على البغاء وهن يردن التعفف عنه مع وفور شهوتهن
الآمرة بالفجور وقصورهن في معرفة الأمور الداعية إلى المحاسن
الزاجرة عن تعاطي القبائح، وفيه من الزيادة لتقبيح حالهم
وتشنيعهم على ما كانوا يفعلونه من القبائح ما لا يخفى فإن من
له أدنى مروءة لا يكاد يرضى بفجور من يحويه بيته من إمائه فضلا
عن أمرهن به أو إكراههن عليه لا سيما عند إرادة التعفف ووفر
الرغبة فيها كما يشعر به التعبير بأردن بلفظ الماضي، وإيثار
كلمة إِنْ على إذا لأن
(9/350)
إرادة التحصن من الإماء كالشاذ النادر أو
للايذان بوجوب الانتهاء عن الإكراه عند كون إرادة التحصن في
حيز التردد والشك فكيف إذا كانت محققة الوقوع كما هو الواقع،
ويعلم من توجيه هذا الشرط مع ما أشرنا إليه من بيان حسن موقع
الفتيات هنا باعتبار مفهومها الأصلي أنه لا مفهوم لها ولو فرضت
صفة لأن شرط اعتبار المفهوم عند القائلين به أن لا يكون
المذكور خرج مخرج الغالب، وقد تمسك جمع بالآية لإبطال القول
بالمفهوم فقالوا: إنه لو اعتبر يلزم جواز الإكراه عند عدم
إرادة التحصن والإكراه على الزنا غير جائز بحال من الأحوال
إجماعا ومما ذكرنا يعلم الجواب عنه.
وفي شرح المختصر الحاجبي للعلامة العضد الجواب عن ذلك، أولا
أنه مما خرج مخرج الأغلب إذا الغالب (1) أن الإكراه عند إرادة
التحصن ولا مفهوم في مثله، وثانيا أن المفهوم اقتضى ذلك وقد
انتفى لمعارض أقوى منه وهو الإجماع، وقد يجاب عنه بأنه يدل على
عدم الحرمة (2) عند عدم الارادة وأنه ثابت إذ لا يمكن الإكراه
حينئذ لأنهن إذ لم يردن التحصن لم يكرهن البغاء والإكراه إنما
هو إلزام فعل مكروه وإذا لم يكن لم يتعلق به التحريم لأن شرط
التكليف الإمكان ولا يلزم من عدم التحريم الإباحة انتهى، ولعل
ما ذكرناه أولا هو الأولى، وجعل غير واحد زيادة التقبيح
والتشنيع جوابا مستقلا بتغيير يسير ولا بأس به.
وزعم بعضهم أن إِنْ أَرَدْنَ راجع إلى قوله تعالى:
وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ وهو مما يقضي منه العجب
وبالجملة لا حجة في ذلك لمبطلي القول بالمفهوم وكذا لا حجة لهم
في قوله تعالى: لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا فإنه
كما في إرشاد العقل السليم قيد للاكراه لا باعتبار أنه مدار
للنهي عنه بل باعتبار أنه المعتاد فيما بينهم أيضا جيء به
تشنيعا لهم فيما هم عليه من احتمال الوزر الكبير لأجل النزر
الحقير أي لا تفعلوا ما أنتم عليه من إكراههن على البغاء لطلب
المتاع السريع الزوال الوشيك الاضمحلال، فالمراد بالابتغاء
الطلب المقارن لنيل المطلوب واستيفائه بالفعل إذ هو الصالح
لكونه غاية للاكراه مترتبا عليه لا المطلق المتناول للطلب
السابق الباعث عليه ولا اختصاص لعرض الحياة الدنيا بكسبهن أعني
أجورهن التي يأخذنها على الزنا بهن وإن كان ظاهر كثير من
الأخبار يقتضي ذلك بل ما يعمه وأولادهن من الزنا وبذلك فسره
سعيد بن جبير كما أخرجه عنه ابن أبي حاتم وفي بعض الأخبار ما
يشعر بأنهم كانوا يكرهونهن على ذلك للأولاد.
أخرج الطبراني والبزار وابن مردويه بسند صحيح عن ابن عباس أن
جارية لعبد الله بن أبيّ كانت تزني في الجاهلية فولدت له
أولادا من الزنا فلما حرم الله تعالى الزنا قال لها: ما لك لا
تزنين؟ قالت: والله لا أزني أبدا فضربها فأنزل الله تعالى وَلا
تُكْرِهُوا الآية، ولا يقتضي هذا وأمثاله تخصيص العرض بالأولاد
كما لا يخفى.
وسمعت أن بعض قبائل أعراب العراق كآل عزة يأمرون جواريهم
بالزنا للأولاد كفعل الجاهلية ولا يستغرب ذلك من الاعراب لا
سيما في مثل هذه الأعصار التي عرا فيها كثيرا من رياض الأحكام
الشرعية في كثير من المواضع إعصار فإنهم أجدر أن لا يعلموا
حدود ما أنزل الله ولا حول ولا قوة إلا بالله.
قوله تعالى: وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ إلى آخره جملة مستأنفة سيقت
لتقرير النهي وتأكيد وجوب العمل ببيان خلاص المكرهات من عقوبة
المكره عليه عبارة ورجوع غائلة الإكراه إلى المكرهين إشارة أي
ومن يكرههن على ما ذكر من
__________
(1) الظاهر أنه أراد بالغالب الراجح اهـ ميرزاجان.
(2) أو عدم طلب الكف عن الإكراه فتأمل اهـ منه.
(9/351)
|