روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني مَا كَانَ مُحَمَّدٌ
أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ
وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ
عَلِيمًا (40) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا
اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا (41) وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً
وَأَصِيلًا (42) هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ
وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى
النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا (43)
تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَامٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ
أَجْرًا كَرِيمًا (44) يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا
أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (45)
وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا (46)
وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلًا
كَبِيرًا (47) وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ
وَدَعْ أَذَاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ
وَكِيلًا (48) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا
نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ
قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ
عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ
سَرَاحًا جَمِيلًا (49)
إذا وقع في محل لا يمكن أن يظهر دينه وما
هو عليه لتعرض المخالفين وجب عليه أن يهاجر إلى محل يقدر فيه
على الإظهار ولا يجوز له أن يسكن هنالك ويكتم دينه بعذر
الاستضعاف فأرض الله تعالى واسعة، نعم إن كان له عذر غير ذلك
كالعمى والحبس وتخويف المخالف له بقتله أو قتل ولده أو أبيه أو
أمه على أي وجه كان القتل تخويفا يظن معه وقوع ما خوف به جاز
له السكنى والموافقة بقدر الضرورة ووجب عليه السعي في الحيلة
للخروج وإن لم يكن التخويف كذلك كالتخويف بفوات المنفعة أو
بلحوق المشقة التي يمكنه تحملها كالحبس مع القوت والضرب القليل
الغير المهلك لا يجوز له الموافقة وإن ترتب على ذلك موته كان
شهيدا، وأما الثاني فالتقية ممن كانت عداوته مبنية على أغراض
دنيوية. وقد اختلف العلماء في وجوب الهجرة وعدمه فيه فقال
بعضهم: تجب الهجرة لوجوب حفظ المال والعرض.
وقال جمع: لا تجب إذ الهجرة عن ذلك المقام مصلحة من المصالح
الدنيوية ولا يعود بتركها نقصان في الدين إذ العدو المؤمن
كيفما كان لا يتعرض لعدوه الضعيف المؤمن مثله بالسوء من حيث هو
مؤمن.
وقال بعض الأجلة على طريق المحاكمة: الحق أن الهجرة هاهنا قد
تجب أيضا وذلك إذا خاف هلاك نفسه أو أقاربه أو الإفراط في هتك
حرمته، وقال: إنها مع وجوبها ليست عبادة إذ التحقيق أنه ليس كل
واجب عبادة يثاب عليها فإن الأكل عند شدة المجاعة والاحتراز عن
المضرات المعلومة أو المظنونة في المرض وعن تناول السمومات في
حال الصحة وما أشبه ذلك أمور واجبة ولا يثاب فاعلها عليها اهـ،
وفيه بحث، وتمام الكلام في هذا المقام يطلب من زبر العلماء
الأعلام، ولعل لنا عودة إن شاء الله تعالى لذكر شيء من ذلك
والله تعالى الهادي لسلوك أقوم المسالك. بقي لنا فيما يتعلق
بالآية شيء وهو ما قيل: إنه سبحانه وصف المرسلين الخالين عليهم
الصلاة والسلام بأنهم لا يخشون أحدا إلا الله وقد أخبر عزّ
وجلّ عن موسى عليه السّلام بأنه قال: إِنَّنا نَخافُ أَنْ
يَفْرُطَ عَلَيْنا [طه: 45] وهل خوف ذلك إلا خشية غير الله
تعالى فما وجه الجمع؟ قلت: أجيب بأن الخشية أخص من الخوف.
قال الراغب: الخشية خوف يشوبه تعظيم وأكثر ما يكون ذلك عن علم
بما يخشى منه، وذكر في ذلك عدة آيات منها هذه الآية، ونفي
الخاص لا يستلزم نفي العام فقد يجتمع مع إثباته، وهذا أولى مما
قيل في الجواب من أن الخشية أخص من الخوف لأنها الخوف الشديد
والمنفي في الآية هاهنا هو ذلك لا مطلق الخوف المثبت فيما حكي
عن موسى عليه السّلام، وأجاب آخر بأن المراد بالخشية المنفية
الخوف الذي يحدث بعد الفكر والنظر وليس من العوارض الطبيعية
البشرية، والخوف المثبت هو الخوف العارض بحسب البشرية بادىء
الرأي وكم قد عرض مثله لموسى عليه السّلام ولغيره من إخوانه
وهو مما لا نقص فيه كما لا يخفى على كامل وهو جواب حسن، وقيل:
إن موسى عليه السّلام إنما خاف أن يعجل فرعون عليه بما يحول
بينه وبين إتمام الدعوة وإظهار المعجزة فلا يحصل المقصود من
البعثة فهو خوف لله عزّ وجلّ، والمراد بما نفي عن المرسلين هو
الخوف عنه سبحانه بمعنى أن يخاف غيره جل وعلا فيخل بطاعته أو
يقدم على معصيته وأين هذا من ذاك فتأمل تولى الله تعالى هداك.
(11/208)
ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ
رِجالِكُمْ رد لمنشأ خشيته صلّى الله عليه وسلم الناس المعاتب
عليها بقوله تعالى: وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ
تَخْشاهُ وهو قولهم: إن محمدا عليه الصلاة والسلام تزوج زوجة
ابنه زيد بنفي كون زيد ابنه الذي يحرم نكاح زوجته عليه صلّى
الله عليه وسلم على أبلغ وجه كما ستعرفه قريبا إن شاء الله
تعالى، والرجال جمع رجل بضم الجيم كما هو المشهور وسكونه وهو
على ما في القاموس الذكر إذا احتلم وشب أو هو رجل ساعة يولد،
وفي بعض ظواهر الآيات والأخبار ما هو مؤيد للثاني نحو قوله
تعالى لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ
وَالْأَقْرَبُونَ [النساء: 7] وقوله سبحانه: وَإِنْ كانَ
رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً [النساء: 12] ونحو
قوله عليه الصلاة والسلام: «فلأولى رجل ذكر»
والبحث الذي ذكره بعض أجلة المتأخرين فيما ذكر من الأمثلة لا
يدفع كون الظاهر منها ذلك عند المنصف، وقد يذكر لتأييد الأول
قوله تعالى: وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ
وَالْوِلْدانِ [النساء: 98] فإن الرجال فيه للبالغين، وفيه
بحث، نعم ظاهر كلام الزمخشري وهو إمام له قدم راسخة في اللغة
وغيرها من العلوم العربية يدل على أن الرجل هو الذكر البالغ،
وأيا ما كان فإضافة رجال إلى ضمير المخاطبين باعتبار الولاد
فإن أريد بالرجال الذكور البالغون فالمعنى ما كان محمد أبا أحد
من أبنائكم أيها الناس الذكور البالغين الذين ولدتموهم، وإن
أريد بهم الذكور مطلقا فالمعنى ما كان محمد أبا أحد من أبنائكم
الذين ولدتموهم مطلقا كبارا كانوا أو صغارا.
والأب حقيقة لغوية في الوالد على ما يفهم من كلام كثير من
اللغويين، والمراد بالأبوة المنفية هنا الأبوة الحقيقة الشرعية
التي يترتب عليها أحكام الأبوة الحقيقية اللغوية من الإرث
ووجوب النفقة وحرمة المصاهرة سواء كانت بالولادة أو بالرضاع أو
بتبني من يولد مثله لمثله وهو مجهول النسب فحيث نفي كونه صلّى
الله تعالى عليه وسلم أبا أحد من رجالهم بأي طريق كانت الأبوة،
ومن المعلوم أن زيدا أحد من رجالهم تحقق نفي كونه عليه الصلاة
والسلام أبا له مطلقا، أما كونه صلّى الله تعالى عليه وسلم ليس
أبا له بالولادة فمما لا نزاع فيه ولم يتوهم أحد خلافه، ومثله
كونه عليه الصلاة والسلام ليس أبا له بالرضاع، وأما كونه صلّى
الله تعالى عليه وسلم ليس أبا له بالتبني مع تحقق تبنيه عليه
الصلاة والسلام فلأن الأبوة بالتبني التي نفيت إنما هي الأبوة
الحقيقية الشرعية وما كان من التبني لا يستتبعها لتوقفها شرعا
على شرائط، منها كون المتبني مجهول النسب وذلك منتف في زيد فقد
كان معروف النسب فيما بينهم، وقد تقدم لك أنه ابن حارثة،
وتعميم نفي أبوته صلّى الله عليه وسلم لأحد من رجالهم بحيث شمل
نفي الأبوة بالولادة الأبوة بالرضاع والأبوة بالتبني مع أنه لا
كلام في انتفاء الأوليين وإنما الكلام في انتفاء الأخيرة فقط
إذ هي التي يزعمها من يقول: تزوج محمد عليه الصلاة والسلام
زوجة ابنه للمبالغة في نفي الأبوة بالتبني التي زعموا ترتب
أحكام الأبوة الحقيقة عليها بنظم ما خفي في سلك ما لا خفاء فيه
أصلا.
ولعل هذا هو السر في قوله سبحانه ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا
أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ دون ما كان محمد أبا أحد من الرجال أو
ما كان محمد أبا أحد منكم، ولعله لهذا أيضا صرح بنفي أبوته
صلّى الله عليه وسلم لأحد من رجالهم ليعلم منه نفي بنوة أحد من
رجالهم له عليه الصلاة والسلام، ولم يعكس الحال بأن يصرح بنفي
بنوة أحد من رجالهم له عليه الصلاة
(11/209)
والسلام ليعلم نفي أبوته صلّى الله عليه
وسلم لأحد من رجالهم، ويؤتي بما بعد على وجه ينتظم مع ما قبل
وبحمل الأبوة المنفية على الأبوة الحقيقية الشرعية ينحل إشكال
في الآية وهو أن سياقها لنفي أبوته عليه الصلاة والسلام لزيد
ليرد به على من يعترض على النبي صلّى الله عليه وسلم بتزوجه
مطلقته فإن أريد بالأبوة الأبوة الحقيقية اللغوية وهي ما يكون
بالولادة لم تلائم السياق ولم يحصل بها الرد المذكور مع أنه هو
المقصود إذ لم يكن أحد يزعم ويتوهم أنه صلّى الله عليه وسلم
كان أبا زيد بالولادة، وأن أريد بها الأبوة المجازية التي تحقق
بالتبني ونحوه فنفيها غير صحيح لأنه عليه الصلاة والسلام كان
أبا لزيد مجازا لتبنيه إياه ولم يزل زيد يدعى بابن محمد صلّى
الله عليه وسلم حتى نزل قوله تعالى: ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ
[الأحزاب: 5] فدعوه حينئذ بابن حارثة، ووجه انحلاله بما ذكرنا
من أن المراد بالأبوة الأبوة الحقيقية الشرعية أن هذه الأبوة
تكون بالولادة وبالرضاع وبالتبني بشرطه وهي بأنواعها غير
متحققة في زيد، أما عدم تحققها بالنوعين الأولين فظاهر، وأما
عدم تحققها بالنوع الأخير فلأن التبني وإن وقع إلا أن شرطه
الذي به يستتبع الأبوة الحقيقية الشرعية مفقود كما علمت، وبجعل
إضافة الرجال إلى ضمير المخاطبين باعتبار الولادة يندفع
استشكال النفي المذكور بأنه عليه الصلاة والسلام قد ولد له عدة
ذكور فكيف يصح النفي لأن من ولد له عليه الصلاة والسلام ليس
مضافا للمخاطبين باعتبار الولادة بل هو مضاف إليه صلّى الله
عليه وسلم باعتباره، ومن خص الرجال بالبالغين قال: لا ينتقض
العموم بذلك لأن جميع من ولد له عليه الصلاة والسلام مات صغيرا
ولم يبلغ مبلغ الرجال، وقيل: لا إشكال في ذلك لأنه عليه الصلاة
والسلام لم يكن له ابن يوم نزول الآية لأن السورة مدنية نزلت
على ما نقل عن ابن الأثير في تاريخ الكامل السنة الخامسة من
الهجرة من الهجرة وفيها تزوج رسول الله صلّى الله عليه وسلم
بزينب، ومن ولد له صلّى الله عليه وسلم من الذكور ممن عدا
إبراهيم فإنما ولد بمكة قبل الهجرة وتوفي فيها، وإبراهيم وإن
ولد بالمدينة لكن ولد السنة الثامنة من الهجرة فلم يكن مولودا
يوم النزول بل بعده وهو كما ترى، وكما استشكل النفي بما ذكر
استشكل بالحسن والحسين رضي الله تعالى عنهما فقد كان النبي
صلّى الله عليه وسلم أبا لهما حقيقة شرعية، ولم يرتض بعضهم هنا
الجواب بخروجهما بالإضافة لأن لهما نسبة إلى المخاطبين باعتبار
الولادة لدخول علي كرّم الله تعالى وجهه فيهم وهما ولداه،
وارتضاه آخر بناء على أن الإضافة للاختصاص باعتبار الولادة ولا
اختصاص للحسنين بعلي رضي الله تعالى عنهم باعتبارها لما أنهما
ولدا رسول الله صلّى الله عليه وسلم أيضا لكن بالواسطة فإن قبل
هذا فذاك وإلا فالجواب، أما ما قيل من أن المراد بالرجال
البالغون ولم يكونا رضي الله تعالى عنهما يوم النزول كذلك فإن
الحسن رضي الله تعالى عنه ولد السنة الثالثة من الهجرة والحسين
رضي الله تعالى عنه ولد السنة الرابعة منها لخمس خلون من شعبان
وقد علقت به أمه عقب ولادة أخيه بخمسين ليلة أو أقل وكان
النزول بعد ولادتهما على ما سمعت آنفا، وأما ما قيل من أن
المراد بالأب في الآية الأب الصلب ومعلوم أنه صلّى الله عليه
وسلم لم يكن أباهما كذلك فتدبر، وقيل: ليس المراد من الآية سوى
نفي أبوته صلّى الله عليه وسلم لأحد من الرجال بالتبني لتنتفي
أبوته عليه الصلاة والسلام لزيد التي يزعمها المعترض كما يدل
عليه سوق الآية الكريمة فكأنه قيل: ما كان محمد أبا أحد من
رجالكم كما زعمتم حيث قلتم إنه أبو زيد لتبنيه إياه وهي ساكتة
عن نفي أبوته صلّى الله عليه وسلم لأحد بالولادة أو بالرضاع
وعن إثباتها فلا سؤال بمن ولد
له صلّى الله عليه وسلم من الذكور ولا بالحسنين رضي الله تعالى
عنهم ولا جواب.
وإلى اختيار هذا يميل كلام أبي حيان والله تعالى أعلم. واستدل
بعض الشافعية بهذه الآية على أنه لا يجوز أن يقال للنبي عليه
الصلاة والسلام أبو المؤمنين حكاه صاحب الروضة ثم قال: ونص
الشافعي عليه الرحمة على أنه يجوز أن يقال له صلّى الله عليه
وسلم أبو المؤمنين أي في الحرمة ونحوها، وقال الراغب بعد أن
قال الأب الوالد ما نصه: ويسمى كل من كان سببا في إيجاد شيء أو
إصلاحه أو ظهوره أبا ولذلك سمي النبي صلّى الله عليه وسلم أبا
المؤمنين قال الله تعالى:
(11/210)
النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ
أَنْفُسِهِمْ وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ [الأحزاب: 6] وفي بعض
القراءات «وهو أب لهم»
وروي أنه عليه الصلاة والسلام قال لعلي كرّم الله تعالى وجهه:
«أنا وأنت أبوا هذه الأمة»
وإلى هذا أشار صلّى الله عليه وسلم
بقوله: «كل سبب ونسب منقطع يوم القيامة إلا سببي ونسبي»
اهـ فلا تغفل، وعلى جواز الإطلاق قالوا: إن قوله تعالى:
وَلكِنْ رَسُولَ اللَّهِ استدراك من نفي كونه عليه الصلاة
والسلام أبا أحد من رجالهم على وجه يقتضي حرمة المصاهرة ونحوها
إلى إثبات كونه صلّى الله عليه وسلم أبا لكل واحد من الأمة
فيما يرجع إلى وجوب التوقير والتعظيم له صلّى الله عليه وسلم
ووجوب الشفقة والنصيحة لهم عليه عليه الصلاة والسلام فإن كل
رسول أب لأمته فيما يرجع إلى ذلك، وحاصله أنه استدراك من نفي
الأبوة الحقيقية الشرعية التي يترتب عليها حرمة المصاهرة
ونحوها إلى إثبات الأبوة المجازية اللغوية التي هي من شأن
الرسول عليه الصلاة والسلام وتقتضي التوقير من جانبهم والشفقة
من جانبه صلّى الله عليه وسلم وقيل في توجيه الاستدراك أيضا
إنه لما نفيت أبوته صلّى الله عليه وسلم لأحد من رجالهم مع
اشتهار أن كل رسول أب لأمته ولذا قيل: إن لوطا عليه السّلام
عني بقوله: هؤُلاءِ بَناتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ [هود: 78]
المؤمنات من أمته يتوهم نفي رسالته صلّى الله عليه وسلم بناء
على توهم التلازم بين الأبوة والرسالة فاستدرك بإثبات الرسالة
تنبيها على أن الأبوة المنفية شيء والمثبتة للرسول شيء آخر،
وأما قوله سبحانه وَخاتَمَ النَّبِيِّينَ فقد قيل إنه جيء به
ليشير إلى كمال نصحه وشفقته صلّى الله عليه وسلم فيفيد أن
أبوته عليه الصلاة والسلام للأمة المشار إليها بقوله تعالى:
وَلكِنْ رَسُولَ اللَّهِ أبوة كاملة فوق أبوة سائر الرسل عليهم
السّلام لأممهم وذلك لأن الرسول الذي يكون بعده رسول ربما لا
يبلغ في الشفقة غايتها وفي النصيحة نهايتها اتكالا على من يأتي
بعده كالوالد الحقيقي إذا علم أن لولده بعده من يقوم مقامه،
وقيل: إنه جيء به للإشارة إلى امتداد تلك الأبوة المشار إليها
بما قبل إلى يوم القيامة فكأنه قيل: ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا
أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ بحيث تثبت بينه وبينه حرمة المصاهرة
ولكن كان أبا كل واحد منكم وأبا أبنائكم وأبناء أبنائكم وهكذا
إلى يوم القيامة بحيث يجب له عليكم وعلى من تناسل منكم احترامه
وتوقيره ويجب عليه لكم ولمن تناسل منكم الشفقة والنصح الكامل،
وقيل: إنه جيء به لدفع ما يتوهم من قوله تعالى: مِنْ
رِجالِكُمْ من أنه صلّى الله عليه وسلم يكون أبا أحد من رجاله
الذين ولدوا منه عليه الصلاة والسلام بأن يولد له ذكر فيعيش
حتى يبلغ مبلغ الرجال وذلك لأن كونه عليه الصلاة والسلام خاتم
النبيين يدل على أنه لا يعيش له ولد ذكر حتى يبلغ لأنه لو بلغ
لكان منصبه أن يكون نبيا فلا يكون هو صلّى الله عليه وسلم خاتم
النبيين ويراد بالأب عليه الأب الصلب لئلا يعترض بالحسنين رضي
الله تعالى عنهما، ودليل الشرطية ما رواه إبراهيم السدي عن أنس
قال: كان إبراهيم- يعني ابن النبي صلّى الله عليه وسلم- قد ملأ
المهد ولو بقي لكان نبيا لكن لم يبق لأن نبيكم آخر الأنبياء
عليهم السّلام، وجاء نحوه في روايات أخر.
أخرج البخاري من طريق محمد بن بشر عن إسماعيل بن أبي خالد قال:
قلت لعبد الله بن أبي أوفى رأيت إبراهيم ابن النبي صلّى الله
عليه وسلم قال: مات صغيرا ولو قضى بعد محمد صلّى الله عليه
وسلم نبي عاش ابنه إبراهيم ولكن لا نبي بعده.
وأخرج أحمد عن وكيع عن إسماعيل سمعت ابن أبي أوفى يقول: لو كان
بعد النبي نبي ما مات ابنه.
وأخرج ابن ماجة وغيره من حديث ابن عباس لما مات إبراهيم ابن
النبي صلّى الله عليه وسلم وقال: «إن له مرضعا في الجنة ولو
عاش لكان صديقا نبيا ولو عاش لأعتقت أخواله من القبط وما استرق
قبطي»
وفي سنده أبو شيبة إبراهيم بن عثمان الواسطي وهو على ما قال
القسطلاني ضعيف، ومن طريقه أخرجه ابن منده في المعرفة وقال:
إنه غريب، وكأن النووي لم يقف على هذا الخبر المرفوع أو نحوه
أو وقف عليه ولم يصح عنده فقال في تهذيب الأسماء واللغات: وأما
ما روي عن بعض المتقدمين لو عاش إبراهيم لكان نبيا فباطل
وجسارة على الكلام على المغيبات ومجازفة وهجوم على
(11/211)
عظيم، ومثله ابن عبد البرّ فقد قال في
التمهيد: لا أدري ما هذا فقد ولد نوح عليه السّلام غير نبي ولو
لم يلد النبي إلا نبيا لكان كل أحد نبيا لأنهم من نوح عليه
السّلام، وأنا أقول: لا يظن بالصحابي الهجوم على الأخبار عن
مثل هذا الأمر بالظن، فالظاهر أنه لم يخبر إلا عن توقيف من
رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وإذا صح حديث ابن عباس رضي
الله تعالى عنهما المرفوع ارتفع الخصام، لكن الظاهر أن هذا
الأمر في إبراهيم خاصة بأن يكون قد سبق في علم الله تعالى أنه
لو عاش لجعله جل وعلا نبيا لا لكونه ابن النبي صلّى الله عليه
وسلم بل لأمر هو جل شأنه به أعلم واللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ
يَجْعَلُ رِسالَتَهُ [الأنعام: 124] وحينئذ يرد على الشرطية
السابقة أعني قوله لأنه: لو بلغ لكان منصبه أن يكون نبيا منع
ظاهر، والدليل الذي سيق فيما سبق لا يثبتها لما أن ظاهره
الخصوص فيجوز أن يبلغ ولد ذكر له عليه الصلاة والسلام غير
إبراهيم ولا يكون نبيا لعدم أهليته للنبوة في علم الله تعالى
لو عاش.
وقول بعض الأفاضل: ليس مبنى تلك الشرطية على اللزوم العقلي
والقياس المنطقي بل على مقتضى الحكمة الإلهية وهي أن الله
سبحانه أكرم بعض الرسل عليهم السّلام بجعل أولادهم أنبياء
كالخليل عليه السّلام ونبينا صلّى الله عليه وسلم أكرمهم عليه
وأفضلهم عنده فلو عاش أولاده اقتضى تشريف الله تعالى له
وأفضليته عنده ذلك ليس بشيء لأنا نقول: لا يلزم من إكرام الله
تعالى بعض رسله عليهم السّلام بنبوة الأولاد وكون نبينا صلّى
الله عليه وسلم أكرمهم وأفضلهم اقتضاء التشريف والأفضلية نبوة
أولاده لو عاشوا وبلغوا ليقال إن حكمة كونه عليه الصلاة
والسّلام خاتم النبيين لكونها أجل وأعظم منعت من أن يعيشوا
فينبؤوا، ألا ترى أن الله تعالى أكرم بعض الرسل بجعل بعض
أقاربهم في حياتهم وبعد مماتهم أنبياء معينين لهم ومؤيدين
لشريعتهم غير مخالفين لها في أصل أو فرع كموسى عليه السّلام
ونبينا عليه الصلاة والسّلام أكرمهم وأفضلهم ولم يجعل له ذلك.
فإن قيل: إنه عوض صلّى الله عليه وسلم عنه بأن جعل جل شأنه له
من أقاربه وأهل بيته علماء أجلاء كأنبياء بني إسرائيل كعلي
كرّم الله تعالى وجهه كما يرشد إليه
قوله صلّى الله عليه وسلم له رضي الله تعالى عنه «أنت مني
بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي»
قلنا: فلم لا يجوز أن يبقى سبحانه له عليه الصلاة والسّلام
أولادا ذكورا بالغين ويعوضه عن نبوتهم التي منعت عنها حكمة
الخاتمية نحو ما عوضه عن نبوة بعض أقاربه التي منعت عنها تلك
الحكمة وذلك أقرب لمقتضى التشريف كما لا يخفى، وقيل: الملازمة
مستفادة من الآية لأنه لولاها لم يكن للاستدراك معنى إذ لكن
تتوسط بين متقابلين فلا بدّ من منافاة بنوتهم له عليه الصلاة
والسّلام لكونه خاتم النبيين وهو إنما يكون باستلزام بنوتهم
نبوتهم، ولا يقدح فيه قوله تعالى: رَسُولَ اللَّهِ كما يتوهم
لأنه لو سلم رسالتهم لكانت إما في عصره صلّى الله عليه وسلم
وهي تنافي رسالته أو بعده وهي تنافي خاتميته اهـ، وفيه أن
الملازمة في قوله: ولولا ذلك لم يكن للاستدراك معنى ممنوعة،
والدليل المذكور لم يثبتها لجواز أن يكون معنى الاستدراك ما
ذكرناه أولا، على أن فيما ذكره بعد ما لا يخفى، وقيل في توجيه
الاستدراك: إنه لما كان عدم النسل من الذكور يفهم منه أنه لا
يبقي حكمه صلّى الله عليه وسلم ولا يدوم ذكره استدرك بما ذكر
وهو كما ترى.
وقال بعض المتأخرين: يجوز أن لا يكون الاستدراك بلكن هنا بمعنى
رفع التوهم الناشئ من أول الكلام كما في قولك: ما زيد كريم
لكنه شجاع بل بمعنى أن يثبت لما بعدها حكم مخالف لما قبلها نحو
ما هذا ساكن لكنه متحرك وما هذا أبيض لكنه أسود وقد جاء كذلك
في بعض آي الكتاب الكريم كما في قوله تعالى: يا قَوْمِ لَيْسَ
بِي سَفاهَةٌ وَلكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ
[الأعراف: 67] فإن نفي السفاهة لا يوهم انتفاء الرسالة ولا
انتفاء ما يلزمها من الهدى والتقوى حتى يجعل استدراكا بالمعنى
الأول اهـ فليتأمل.
ومن العجيب أن ابن حجر الهيتمي قال في فتاواه الحديثية: إنه لا
بعد في إثبات النبوة لإبراهيم ابن النبي صلّى الله عليه وسلم
(11/212)
في صغره وقد ثبت في الصغر لعيسى ويحيى
عليهما السّلام، ثم نقل عن السبكي كلاما في
حديث «كنت نبيا وآدم بين الروح والجسد»
حاصله أن حقيقته عليه الصلاة والسّلام قد تكون من قبل آدم
آتاها الله تعالى النبوة بأن خلقها مهيأة لها وأفاضها عليها من
ذلك الوقت وصار نبيا ثم قال: وبه يعلم تحقيق نبوة سيدنا
إبراهيم في حال صغره اهـ وفيه بحث.
وخبر أنه عليه الصلاة والسّلام أدخل يده في قبره بعد دفنه
وقال: «أما والله إنه لنبي ابن نبي»
في سنده من ليس بالقوي فلا يعول عليه ليتكلف لتأويله، والخاتم
اسم آلة لما يختم به كالطابع لما يطبع به فمعنى خاتم النبيين
الذي ختم النبيون به ومآله آخر النبيين، وقال المبرد: «خاتم»
فعل ماض على فاعل وهو في معنى ختم النبيين فالنبيين منصوب على
أنه مفعول به وليس بذاك وقرأ الجمهور «وخاتم» بكسر التاء على
أنه اسم فاعل أي الذي ختم النبيين، والمراد به آخرهم أيضا، وفي
حرف ابن مسعود ولكن نبيا ختم النبيين، والمراد بالنبي ما هو
أعم من الرسول فيلزم من كونه صلّى الله عليه وسلم خاتم النبيين
كونه خاتم المرسلين والمراد بكونه عليه الصلاة والسّلام خاتمهم
انقطاع حدوث وصف النبوة في أحد من الثقلين بعد تحليه عليه
الصلاة والسّلام بها في هذه النشأة.
ولا يقدح في ذلك ما أجمعت الأمة عليه واشتهرت فيه الأخبار
ولعلها بلغت مبلغ التواتر المعنوي ونطق به الكتاب على قول ووجب
الإيمان به وأكفر منكره كالفلاسفة من نزول عيسى عليه السّلام
آخر الزمان لأنه كان نبيا قبل تحلي نبينا صلّى الله عليه وسلم
بالنبوة في هذه النشأة ومثل هذا يقال في بقاء الخضر عليه
السّلام على القول بنبوته وبقائه، ثم إنه عليه السّلام حين
ينزل باق على نبوته السابق لم يعزل عنها قال لكنه لا يتعبد بها
لنسخها في حقه وحق غيره وتكليفه بأحكام هذه الشريعة أصلا وفرعا
فلا يكون إليه عليه السّلام وحي ولا نصب أحكام بل يكون خليفة
لرسول الله صلّى الله عليه وسلم وحاكما من حكام ملته بين أمته
بما علمه في السماء قبل نزوله من شريعته عليه الصلاة والسّلام
كما في بعض الآثار أو ينظر في الكتاب والسنّة وهو عليه السّلام
لا يقصر عن رتبة الاجتهاد المؤدي إلى استنباط ما يحتاج إليه
أيام مكثه في الأرض من الأحكام وكسره الصليب وقتله الخنزير
ووضعه الجزية وعدم قبولها مما علم من شريعتنا صوابيته في
قوله صلّى الله عليه وسلم (1) : «إن عيسى ينزل حكما عدلا يكسر
الصليب ويقتل الخنزير ويضع الجزية»
فنزوله عليه السّلام غاية لا قرار الكفار ببذل الجزية على تلك
الأحوال ثم لا يقبل إلا الإسلام لا نسخ لها قاله شيخ الإسلام
إبراهيم اللقاني في هداية المريد لجوهرة التوحيد، وقوله: إنه
عليه السّلام حين ينزل باق على نبوته السابقة لم يعزل عنه بحال
لكنه لا يتعبد بها إلخ أحسن من قول الخفاجي الظاهر أن المراد
من كونه على دين نبينا صلّى الله عليه وسلم انسلاخه عن وصف
النبوة والرسالة بأن يبلغ ما يبلغه عن الوحي وإنما يحكم بما
يتلقى عن نبينا عليه الصلاة والسّلام ولذا لم يتقدم لأمامة
الصلاة مع المهدي ولا أظنه عنى بالانسلاخ عن وصف النبوة
والرسالة عزله عن ذلك بحيث لا يصح إطلاق الرسول والنبي عليه
عليه السّلام فمعاذ الله أن يعزل رسول أو نبي عن الرسالة أو
النبوة بل أكاد لا أتعقل ذلك، ولعله أراد أنه لا يبقى له وصف
تبليغ الأحكام عن وحي كما كان له قبل الرفع فهو عليه السّلام
نبي رسول قبل الرفع وفي السماء وبعد النزول وبعد الموت أيضا،
وبقاء النبوة والرسالة بعد الموت في حقه وحق غيره من الأنبياء
والمرسلين عليهم السّلام حقيقة مما ذهب إليه غير واحد فإن
المتصف بهما وكذا بالإيمان هو الروح وهي باقية لا تتغير بموت
البدن، نعم ذهب الأشعري كما قال النسفي إلى أنهما بعد الموت
باقيان حكما، وما أفاده كلام اللقاني من أنه عليه السّلام يحكم
بما علم في السماء قبل نزوله من الشريعة قد أفاده السفاريني في
البحور الزاخرة وهو الذي أميل له، وأما أنه يجتهد ناظرا في
الكتاب والسنّة فبعيد وإن كان عليه
__________
(1) حديث صحيح وفي الصحيحين ما هو بمعناه اهـ منه.
(11/213)
السّلام قد أوتي فوق ما أوتي مجتهدو الأمم
مما يتوقف عليه الاجتهاد بكثير إذ قد ذهب معظم أهل العلم إلى
أنه حين ينزل يصلي وراء المهدي رضي الله تعالى عنه صلاة الفجر
وذلك الوقت يضيق عن استنباط ما تضمنته تلك الصلاة من الأقوال
والأفعال من الكتاب والسنّة على الوجه المعروف.
نعم لا يبعد أن يكون عليه السّلام قد علم في السماء بعضا ووكل
إلى الاجتهاد والأخذ من الكتاب والسنّة في بعض آخر، وقيل: إنه
عليه السّلام يأخذ الأحكام من نبينا صلّى الله عليه وسلم شفاها
بعد نزوله وهو في قبره الشريف عليه الصلاة والسّلام، وأيد
بحديث أبي يعلى «والذي نفسي بيده لينزلن عيسى ابن مريم ثم لئن
قام على قبري وقال يا محمد لأجيبنه» .
وجوز أن يكون ذلك بالاجتماع معه عليه الصلاة والسّلام روحانية
ولا بدع في ذلك فقد وقعت رؤيته صلّى الله عليه وسلم بعد وفاته
لغير واحد من الكاملين من هذه الأمة والأخذ منه يقظة، قال
الشيخ سراج الدين بن الملقن في طبقات الأولياء:
قال الشيخ عبد القادر الكيلاني قدس سره: رأيت رسول الله صلّى
الله عليه وسلم قبل الظهر فقال لي: يا بني لم لا تتكلم؟ قلت:
يا أبتاه أنا رجل أعجم كيف أتكلم على فصحاء بغداد فقال: افتح
فاك ففتحته فتفل فيه سبعا وقال: تكلم على الناس وادع إلى سبيل
ربك بالحكمة والموعظة الحسنة فصليت الظهر وجلست وحضرني خلق
كثير فأرتج عليّ فرأيت عليا كرّم الله تعالى وجهه قائما بإزائي
في المجلس فقال لي: يا بني لم لا تتكلم؟ قلت: يا أبتاه قد أرتج
علي فقال: افتح فاك ففتحته فتفل فيه ستا فقلت: لم لا تكملها
سبعا قال: أدبا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم ثم توارى عني
فقلت: غواص الفكر يغوص في بحر القلب على درر المعارف فيستخرجها
إلى ساحل الصدر فينادي عليها سمسار ترجمان اللسان فتشتري
بنفائس أثمان حسن الطاعة في بيوت إذن الله أن ترفع، وقال أيضا
في ترجمة الشيخ خليفة بن موسى النهر ملكي: كان كثير الرؤية
لرسول الله عليه الصلاة والسّلام يقظة ومناما فكان يقال: إن
أكثر أفعاله يتلقاه منه صلّى الله عليه وسلم يقظة ومناما ورآه
في ليلة واحدة سبع عشرة مرة قال له في إحداهن: يا خليفة لا
تضجر مني فكثير من الأولياء مات بحسرة رؤيتي، وقال الشيخ تاج
الدين بن عطاء الله في لطائف المنن: قال رجل للشيخ أبي العباس
المرسي يا سيدي صافحني بكفك هذه فإنك لقيت رجالا وبلادا فقال:
والله ما صافحت بكفي هذه إلا رسول الله صلّى الله عليه وسلم
قال: وقال الشيخ لو حجب عني رسول الله صلّى الله عليه وسلم
طرفة عين ما عددت نفسي من المسلمين، ومثل هذه النقول كثير من
كتب القوم جدا.
وفي تنوير الحلك لجلال الدين السيوطي الذي رد به على منكري
رؤيته صلّى الله عليه وسلم بعد وفاته في اليقظة طرف معتد به من
ذلك، وبدأ في الاستدلال على ذلك بما
أخرجه البخاري ومسلم وأبو داود عن أبي هريرة قال: «قال رسول
الله صلّى الله عليه وسلم من رآني في المنام فسيراني في اليقظة
ولا يتمثل الشيطان بي» وأخرج الطبراني مثله من حديث مالك بن
عبد الله الخثعمي ومن حديث أبي بكرة، وأخرج الدارمي مثله من
حديث أبي قتادة.
وللمنكرين اختلاف في تأويله فقيل: المراد فسيراني في القيامة
فهناك اليقظة الكاملة كما يشير إليه الناس نيام فإذا ماتوا
انتبهوا. وتعقب بأنه لا فائدة في هذا التخصيص لأن كل أمته
يرونه يوم القيامة من رآه منهم في المنام ومن لم يره، وقيل:
المراد الرؤية على وجه خاص من القرب والحظوة منه صلّى الله
عليه وسلم يوم القيامة أو حصول الشفاعة له أو نحو ذلك، ولا يرد
عليه ما ذكر، وقيل: المراد بمن من آمن به لي حياته ولم يره
لكونه حينئذ غائبا عنه فيكون الخبر مبشرا له بأنه لا بدّ أن
يراه في اليقظة يعني بعيني رأسه، وقيل: بعين قلبه حكاهما
القاضي أبو بكر بن العربي، وقال الإمام أبو محمد بن أبي جمرة
في تعليقه على الأحاديث التي انتقاها من صحيح البخاري: هذا
الحديث يدل على أن من يراه صلّى الله عليه وسلم في النوم
فسيراه في اليقظة وهل هذا على عمومه في حياته وبعد مماته عليه
الصلاة والسّلام أو هذا كان في حياته وهل
(11/214)
ذلك لكل من رآه مطلقا أو خاص بمن فيه
الأهلية والاتباع لسنّته عليه الصلاة والسّلام اللفظ يعطي
العموم ومن يدعي الخصوص فيه بغير مخصص منه صلّى الله عليه وسلم
فمتعسف، وأطال الكلام في ذلك ثم قال: وقد ذكر عن السلف والخلف
وهلم جرا ممن كانوا رأوه صلّى الله عليه وسلم في النوم وكانوا
ممن يصدقون بهذا الحديث فرأوه بعد ذلك في اليقظة وسألوه عن
أشياء كانوا منها متشوشين فأخبرهم بتفريجها ونص لهم على الوجوه
التي منها يكون فرجها فجاء الأمر كذلك بلا زيادة ولا نقص انتهى
المراد منه، ثم أن رؤيته صلّى الله عليه وسلم يقظة عند
القائلين بها أكثر ما تقع بالقلب ثم يترقى الحال إلى أن يرى
بالبصر، واختلفوا في حقيقة المرئي فقال بعضهم المرئي ذات
المصطفى صلّى الله عليه وسلم بجسمه وروحه، وأكثر أرباب الأحوال
على أنه مثاله وبه صرح الغزالي فقال: ليس المراد أنه يرى جسمه
وبدنه بل مثالا له صار ذلك المثال آلة يتأدى بها المعنى الذي
في نفسه قال: والآلة تارة تكون حقيقة وتارة تكون خيالية والنفس
غير المثال المتخيل فما رآه من الشكل ليس هو روح المصطفى صلّى
الله عليه وسلم ولا شخصه بل هو مثال له على التحقيق.
وفصل القاضي أبو بكر بن العربي فقال: رؤية النبي صلّى الله
عليه وسلم بصفته المعلومة إدراك على الحقيقة ورؤيته على غير
صفته إدراك للمثال واستحسنه الجلال السيوطي وقال: بعد نقل
أحاديث وآثار ما نصه فحصل من مجموع هذا الكلام النقول
والأحاديث أن النبي صلّى الله عليه وسلم حي بجسده وروحه وأنه
يتصرف ويسير حيث شاء في أقطار الأرض وفي الملكوت وهو بهيئته
التي كان عليها قبل وفاته لم يتبدل منه شيء وأنه مغيب عن
الأبصار كما غيبت الملائكة مع كونهم أحياء بأجسادهم فإذا أراد
الله تعالى رفع الحجاب عمن أراد إكرامه برؤيته رآه على هيئته
التي هو عليه الصلاة والسّلام عليها لا مانع من ذلك ولا داعي
إلى التخصيص برؤية المثال اهـ، وذهب رحمه الله تعالى إلى نحو
هذا في سائر الأنبياء عليهم السّلام فقال إنهم أحياء ردت إليهم
أرواحهم بعد ما قبضوا وأذن لهم في الخروج من قبورهم والتصرف في
الملكوت العلوي والسفلي، وهذا الذي ذكره من الخروج من القبور
ذكر أخبارا كثيرة تشهد له.
منها ما
أخرجه ابن حبان في تاريخه والطبراني في الكبير وأبو نعيم في
الحلية عن أنس قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم ما من
نبي يموت فيقيم في قبره إلا أربعين صباحا»
ومنها ما رواه عبد الرزاق في مصنفه عن الثوري عن أبي المقدام
عن سعيد بن المسيب قال: ما مكث نبي في الأرض أكثر من أربعين
يوما، وأبو المقدام هو ثابت بن هرمز شيخ صالح، ومنها ما
ذكره إمام الحرمين في النهاية ثم الرافعي في الشرح أن النبي
صلّى الله عليه وسلم قال: «أنا أكرم على ربي من أن يتركني في
قبري بعد ثلاث» زاد إمام الحرمين وروى أكثر من يومين.
والذي يغلب على الظن أن رؤيته صلّى الله عليه وسلم بعد وفاته
بالبصر ليست كالرؤية المتعارفة عند الناس من رؤية بعضهم لبعض
وإنما هي جمعية حالية وحالة برزخية وأمر وجداني لا يدرك حقيقته
إلا من باشره، ولشدة شبه تلك الرؤية بالرؤية البصرية المتعارفة
يشتبه الأمر على كثير من الرائين فيظن أنه رآه صلّى الله عليه
وسلم ببصره الرؤية المتعارفة وليس كذلك، وربما يقال إنها رؤية
قلبية ولقوتها تشتبه بالبصرية، والمرئي إما روحه عليه الصلاة
والسّلام التي هي أكمل الأرواح تجردا وتقدسا بأن تكون قد تطورت
وظهرت بصورة مرئية بتلك الرؤية مع بقاء تعلقها بجسده الشريف
الحي في القبر السامي المنيف على حد ما قاله بعضهم من أن جبريل
عليه السّلام مع ظهوره بين يدي النبي عليه الصلاة والسّلام في
صورة دحية الكلبي أو غيره لم يفارق سدرة المنتهى، وإما جسد
مثالي تعلقت به روحه صلّى الله عليه وسلم المجردة القدسية، ولا
مانع من أن يتعدد الجسد المثالي إلى ما لا يحصى من الأجساد مع
تعلق روحه القدسية عليه من الله تعالى ألف ألف صلاة وتحية بكل
جسد منها ويكون هذا التعلق من قبيل تعلق الروح الواحدة بأجزاء
بدن واحد ولا تحتاج في إدراكاتها وإحساساتها في ذلك التعلق إلى
ما تحتاج إليه من الآلات في تعلقها بالبدن في الشاهد، وعلى ما
ذكر يظهر وجه ما نقله الشيخ
(11/215)
صفي الدين بن أبي منصور والشيخ عبد الغفار
عن الشيخ أبي العباس الطنجي من أنه رأى السماء والأرض والعرش
والكرسي مملوءة من رسول الله صلّى الله عليه وسلم وينحل به
السؤال عن كيفية رؤية المتعددين له عليه الصلاة والسّلام في
زمان واحد في أقطار متباعدة.
ولا يحتاج معه إلى ما أشار إليه بعضهم وقد سئل عن ذلك فأنشد:
كالشمس في كبد السماء وضوءها ... يغشى البلاد مشارقا ومغاربا
وهذه الرؤية إنما تقع في الأغلب للكاملين الذين لم يخلوا
باتباع الشريعة قدر شعيرة، ومتى قويت المناسبة بين رسول الله
صلّى الله عليه وسلم وبين أحد من الأمة قوي أمر رؤيته إياه
عليه الصلاة والسّلام، وقد تقع لبعض صلحاء الأمة عند الاحتضار
لقوة الجمعية حينئذ، والرؤية التي تكون يقظة لمن رآه صلّى الله
عليه وسلم في المنام إن كانت في الدنيا فهي على نحو رؤية بعض
الكاملين إياه صلّى الله عليه وسلم وهي أكمل من الرؤيا وإن كان
المرئي فيهما هو رسول الله عليه الصلاة والسّلام، وآخر مظان
تحققها وقت الموت.
ولعل الأغلب في حق العامة تحققها فيه، وإن كانت في الآخرة
فالأمر فيها واضح ويرجح عندي كونها في الآخرة على وجه خاص من
القرب والحظوة وما شاكل ذلك أن البشارة في الخبر عليه أبلغ، ثم
إن الخبر المذكور فيما مر مذكور
في صحيح مسلم بالسند إلى أبي هريرة أنه قال: «سمعت رسول الله
صلّى الله عليه وسلم يقول: من رآني في المنام فسيراني في
اليقظة أو لكأنما رآني في اليقظة لا يتمثل الشيطان بي»
فلا قطع على هذه الرواية بأنه عليه الصلاة والسّلام قال:
فسيراني فإن كان الواقع في نفس الأمر ذلك فالكلام فيه ما سمعت،
وإن كان الواقع لكأنما رآني فهو
كقوله صلّى الله عليه وسلم في خبر آخر: «فقد رآني»
وفي آخر أيضا «فقد رأى الحق»
والمعنى أن رؤياه صحيحة، وما تقدم من أن الأنبياء عليهم
السّلام يخرجون من قبورهم أي بأجسامهم وأرواحهم كما هو الظاهر
ويتصرفون في الملكوت العلوي والسفلي فمما لا أقول به، والخبر
السابق الذي
أخرجه ابن حبان والطبراني وأبو نعيم عن أنس وهو قوله صلّى الله
عليه وسلم: «ما من نبي يموت فيقيم في قبره إلا أربعين صباحا»
قد أخرجوه عن الحسن بن سفيان عن هشام بن خالد الأزرق عن الحسن
بن يحيى الخشني عن سعيد بن عبد العزيز عن يزيد بن أبي مالك عن
أنس رضي الله تعالى عنه
وقال فيه ابن حبان: هو باطل والخشني منكر الحديث جدا يروي عن
الثقات ما لا أصل له.
وفي الميزان عن الدارقطني الخشني متروك ومن ثم حكم ابن الجوزي
بوضع الحديث وهو مع ذلك بعض حديث
والحديث بتمامه عند الطبراني «ما من نبي يموت فيقيم في قبره
إلا أربعين صباحا حتى ترد إليه روحه ومررت ليلة أسري بي بموسى
وهو قائم يصلي في قبره»
وهو على هذا لا يدل على أنه بعد الأربعين لا يقيم في قبره بل
يخرج منه وإنما يدل على أنه لا يبقى في القبر ميتا كسائر
الأموات أكثر من أربعين صباحا بل ترد إليه روحه ويكون حيا،
وأين هذا من دعوى الخروج من القبر بعد الأربعين، والحياة في
القبر لا تستلزم الخروج وأنا أقول بها في حق الأنبياء عليهم
السّلام، وقد ألف البيهقي جزءا في حياتهم في قبورهم وأورد فيه
عدة أخبار.
ولا يضرني بعد ظهور أن الحديث السابق لا يدل على الخروج
المنازعة في وصفه وبلوغه بما له من الشواهد درجة الحسن،
والأخبار المذكورة بعد فيما سبق المراد منها كلها إثبات الحياة
في القبر بضرب من التأويل، والمراد بتلك الحياة نوع من الحياة
غير معقول لنا وهي فوق حياة الشهداء بكثير، وحياة نبينا صلّى
الله عليه وسلم أكمل وأتم من حياة سائرهم عليهم السّلام،
وخبر «ما من مسلم يسلم على إلا رد الله تعالى علي روحي حتى أرد
عليه السّلام»
محمول على إثبات
(11/216)
إقبال خاص والتفات روحاني يحصل من الحضرة
الشريفة النبوية إلى عالم الدنيا وتنزل إلى عالم البشرية حتى
يحصل عند ذلك رد السلام، وفيه توجيهات أخر مذكورة في محلها، ثم
إن تلك الحياة في القبر وإن كانت يترتب عليها بعض ما يترتب على
الحياة في الدنيا المعروفة لنا من الصلاة والأذان والإقامة ورد
السلام المسموع ونحو ذلك إلا أنها لا يترتب عليها كل ما يمكن
أن يترتب على تلك الحياة المعروفة ولا يحس بها ولا يدركها كل
أحد فلو فرض انكشاف قبر نبي من الأنبياء عليهم السّلام لا يرى
الناس النبي فيه إلا كما يرون سائر الأموات الذين لم تأكل
الأرض أجسادهم، وربما يكشف الله تعالى على بعض عباده فيرى ما
لا يرى الناس، ولولا هذا لأشكل الجمع بين الأخبار الناطقة
بحياتهم في قبورهم،
وخبر أبي يعلى وغيره بسند صحيح كما قال الهيثمي مرفوعا إن موسى
نقل يوسف من قبره بمصر
، ثم إني أقول بعد هذا كله إن ما نسب إلى بعض الكاملين من
أرباب الأحوال من رؤية النبي صلّى الله عليه وسلم بعد وفاته
وسؤاله والأخذ عنه لم نعلم وقوع مثله في الصدر الأول، وقد وقع
اختلاف بين الصحابة رضي الله تعالى عنهم من حين توفي عليه
الصلاة والسّلام إلى ما شاء الله تعالى في مسائل دينية وأمور
دنيوية وفيهم أبو بكر وعلي رضي الله تعالى عنهما وإليهما ينتهي
أغلب سلاسل الصوفية الذين تنسب إليهم تلك الرؤية ولم يبلغنا أن
أحدا منهم ادعى أنه رأى في اليقظة رسول الله صلّى الله عليه
وسلم وأخذ عنه ما أخذ، وكذا لم يبلغنا أنه صلّى الله عليه وسلم
ظهل لمتحير في أمر من أولئك الصحابة الكرام فأرشده وأزال
تحيره، وقد صح عن عمر رضي الله تعالى عنه أنه قال في بعض
الأمور: ليتني كنت سألت رسول الله عليه الصلاة والسّلام عنه،
ولم يصح عندنا أنه توسل إلى السؤال منه صلّى الله عليه وسلم
بعد الوفاة نظير ما يحكى عن بعض أرباب الأحوال، وقد وقفت على
اختلافهم في حكم الجد مع الأخوة فهل وقفت على أن أحدا منهم ظهر
له الرسول صلّى الله عليه وسلم فأرشده إلى ما هو الحق فيه، وقد
بلغك ما عرا فاطمة البتول رضي الله تعالى عنها من الحزن العظيم
بعد وفاته صلّى الله عليه وسلم وما جرى لها في أمر فدك فهل
بلغك أنه عليه الصلاة والسّلام ظهر لها كما يظهر للصوفية فبل
لوعتها وهون حزنها وبين الحال لها وقد سمعت بذهاب عائشة رضي
الله تعالى عنها إلى البصرة وما كان من وقعة الجمل فهل سمعت
تعرضه صلّى الله عليه وسلم لها قبل الذهاب وصده إياها عن ذلك
لئلا يقع أو تقوم الحجة عليها على أكمل وجه إلى غير ذلك مما لا
يكاد يحصى كثرة، والحاصل أنه لم يبلغنا ظهوره عليه الصلاة
والسّلام لأحد من أصحابه وأهل بيته وهم هم مع احتياجهم الشديد
لذلك وظهوره عند باب مسجد قباء كما يحكيه بعض الشيعة افتراء
محض وبهت بحت وبالجملة عدم ظهوره لأولئك الكرام، وظهوره لمن
بعدهم مما يحتاج إلى توجيه يقنع به ذوو الأفهام، ولا يحسن معنى
أن أقول: كل ما يحكى عن الصوفية من ذلك كذب لا أصل له لكثرة
حاكيه وجلالة مدعيه، وكذا لا يحسن مني أن أقول: إنهم إنما رأوا
النبي صلّى الله عليه وسلم مناما فظنوا ذلك لخفة النوم وقلة
وقته يقظة فقالوا: رأينا يقظة لما فيه من البعد ولعل في كلامهم
ما يأباه، وغاية ما أقول: إن تلك الرؤية من خوارق العادة كسائر
كرامات الأولياء ومعجزات الأنبياء عليهم السّلام وكانت الخوارق
في الصدر الأول لقرب العهد بشمس الرسالة قليلة جدا وأنى يرى
النجم تحت الشعاع أو يظهر كوكب وقد انتشر ضوء الشمس في البقاع
فيمكن أن يكون قد وقع ذلك لبعضهم على سبيل الندرة ولم تقتض
المصلحة إفشاءه، ويمكن أن يقال: إنه لم يقع لحكمة الابتلاء أو
لخوف الفتنة أو لأن في القوم من هو كالمرآة له صلّى الله عليه
وسلم أو ليهرع الناس إلى كتاب الله تعالى وسنّته صلّى الله
عليه وسلم فيما يهمهم فيتسع باب الاجتهاد وتنتشر الشريعة وتعظم
الحجة التي يمكن أن يعقلها كل أحد أو لنحو ذلك.
وربما يدعي أنه عليه الصلاة والسّلام ظهر ولكن كان متسترا في
ظهوره كما روي أن بعض الصحابة أحب أن يرى رسول الله صلّى الله
عليه وسلم فجاء إلى ميمونة فأخرجت له مرآته فنظر فيها فرأى
صورة رسول الله عليه الصلاة والسّلام ولم ير صورة نفسه فهذا
كالظهور الذي يدعيه الصوفية إلا أنه بحجاب المرآة، وليس من باب
التخيل الذي قوي بالنظر إلى
(11/217)
مرآته عليه الصلاة والسّلام وملاحظة أنه
كثيرا ما ظهرت فيها صورته حسبما ظنه ابن خلدون.
فإن قبل قولي هذا وتوجيهي لذلك الأمر فبها ونعمت وإلا فالأمر
مشكل فاطلب لك ما يحله والله سبحانه الموفق للصواب.
هذا وقيل يجوز أن يكون عيسى عليه السّلام قد تلقى من نبينا
عليه الصلاة والسّلام أحكام شريعته المخالفة لما كان عليه وهو
من الشريعة حال اجتماعه معه قبل وفاته في الأرض لعلمه أنه
سينزل ويحتاج إلى ذلك واجتماعه معه كذلك جاء في الأخبار.
أخرج ابن عدي عن أنس «بينا نحن مع رسول الله صلّى الله عليه
وسلم إذ رأينا بردا ويدا فقلنا يا رسول الله ما هذا البرد الذي
رأينا واليد؟ قال: قد رأيتموه قالوا: نعم قال: ذلك عيسى ابن
مريم سلم عليّ»
وفي رواية ابن عساكر عنه «كنت أطوف مع النبي صلّى الله عليه
وسلم حول الكعبة إذ رأيته صافح شيئا ولم أره قلنا: يا رسول
الله صافحت شيئا ولا نراه قال: ذلك أخي عيسى ابن مريم انتظرته
حتى قضى طوافه فسلمت عليه»
ومن هنا عد عليه السّلام من الصحابة رضي الله تعالى عنهم،
وقيل:
إنه عليه السّلام بعد نزوله يتلقى أحكام شريعتنا من الملك بأن
يعلمه إياها أو يوقفه عليها لا على وجه الإيحاء بها عليه من
جهته عزّ وجلّ وبعثته بها ليكون في ذلك رسالة جديدة متضمنة
نبوة جديدة، وقد دل قوله تعالى: وَخاتَمَ النَّبِيِّينَ على
انقطاعها بل على نحو تعليم الشيخ ما علمه من الشريعة تلميذه،
ومجرد الاجتماع بالملك والأخذ عنه وتكليمه لا يستدعي النبوة،
ومن توهم استدعاءه إياها فقد حاد- كما قال اللقاني- عن الصواب
فقد كلمت الملائكة عليهم السّلام مريم وأم موسى في قول ورجلا
خرج لزيارة أخ له في الله تعالى وبلغته أن الله عزّ وجلّ يحبه
كحبه لأخيه فيه.
وأخرج ابن أبي الدنيا في كتاب الذكر عن أنس قال: قال أبي بن
كعب لأدخلن المسجد فلأصلين ولأحمدن الله تعالى بمحامد لم يحمده
بها أحد فلما صلى وجلس ليحمد الله تعالى ويثني عليه إذا هو
بصوت عال من خلف يقول: اللهم لك الحمد كله ولك الملك كله وبيدك
الخير كله وإليك يرجع الأمر كله علانيته وسره لك الحمد إنك على
كل شيء قدير اغفر لي ما مضى من ذنوبي واعصمني فيما بقي من عمري
وارزقني أعمالا زاكية ترضى بها عني وتب عليّ فأتى رسول الله
صلّى الله عليه وسلم فقص عليه فقال: ذاك جبريل عليه السّلام
، والأخبار طافحة برؤية الصحابة للملك وسماعهم كلامه، وكفي
دليلا لما نحن فيه قوله سبحانه: إِنَّ الَّذِينَ قالُوا
رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ
الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا
بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ [فصلت: 30] الآية
فإن فيها نزول الملك على غير الأنبياء في الدنيا وتكليمه إياه
ولم يقل أحد من الناس: إن ذلك يستدعي النبوة وكون ذلك لأن
النزول والتكليم قبيل الموت غير مفيد كما لا يخفى، وقد ذهب
الصوفية إلى نحو ما ذكرناه، قال حجة الإسلام الغزالي في كتابه-
المنقذ من الضلال- أثناء الكلام على مدح أولئك السادة: ثم إنهم
وهم في يقظتهم يشاهدون الملائكة وأرواح الأنبياء ويسمعون منهم
أصواتا ويقتبسون منهم فوائد ثم يترقى الحال من مشاهدة الصور
والأمثال إلى درجات يضيق عنها نطاق النطق.
وقال تلميذه القاضي أبو بكر بن العربي أحد أئمة المالكية في
كتابه قانون التأويل: ذهبت الصوفية إلى أنه إذا حصل للانسان
طهارة النفس وتزكية القلب وقطع العلائق وحسم مواد أسباب الدنيا
من الجاه والمال والخلطة بالجنس والإقبال على الله تعالى
بالكلية علما دائما وعملا مستمرا كشفت له القلوب ورأى الملائكة
وسمع كلامهم واطلع على أرواح الأنبياء والملائكة، وسماع كلامهم
ممكن للمؤمن كرامة وللكافر عقوبة اهـ.
(11/218)
ونسب إلى بعض أئمة أهل البيت أنه قال: إن
الملائكة لتزاحمنا في بيوتنا بالركب، والظاهر من كلامهم أن
الاجتماع بهم والأخذ عنهم لا يكون إلا للكاملين ذوي النفوس
القدسية وأن الإخلال بالسنّة مانع كبير عن ذلك، ويرشد إليه ما
أخرجه مسلم في صحيحه عن مطرف قال: قال لي عمران بن حصين قد كان
ملك يسلم على حتى اكتويت فترك ثم تركت المكي فعاد، ويعلم مما
ذكرنا أن مدعيه إذا كان مخالفا لحكم الكتاب والسنّة كاذب لا
ينبغي أن يصغي إليه ودعواه باطلة مردودة عليه فأين الظلمة من
النور والنجس من الطهور، ثم إنه لا طريق إلى معرفة كون المجتمع
به ملكا بعد خبر الصادق سوى العلم الضروري الذي يخلقه الله
تعالى في العبد بذلك ويقطع بعدم كونه ملكا متى خالف ما ألقاه
وأتى به الكتاب أو السنّة أو إجماع الأمة ومثله فيما أرى
التكلم بما يشبه الهذيان ويضحك منه الصبيان وينبغي لمن وقع له
ذلك أن لا يشيعه ويعلن به لما فيه من التعرض للفتنة، فقد أخرج
مسلم عن مطرف أيضا من وجه آخر قال: بعث إليّ عمران بن حصين في
مرضه الذي توفي فيه فقال: إني محدثك فإن عشت فاكتم عني وإن مت
فحدث بها إن شئت إنه قد سلم عليّ- وفي رواية الحاكم في
المستدرك- اعلم يا مطرف أنه كان يسلم على الملائكة عند رأسي
وعند البيت وعند باب الحجرة فلما اكتويت ذهب ذلك قال: فلما برأ
كلمه قال: اعلم يا مطرف أنه عاد إلى الذي كنت أكتم عليّ حتى
أموت، وكذا ينبغي أن لا يقول لإلقاء الملك عليه إيحاء لما فيه
من الإيهام القبيح وهو إيهام وحي النبوة الذي يكفر مدعيه بعد
رسول الله صلّى الله عليه وسلم بلا خلاف بين المسلمين، وأطلق
بعض الغلاة من الشيعة القول بالإيحاء إلى الأئمة الأطهار وهم
رضي الله تعالى عنهم بمعزل عن قبول قول أولئك الأشرار.
فقد روي أن سديرا الصير في سأل جعفرا الصادق رضي الله تعالى
عنه فقال: جعلت فداك إن شيعتكم اختلفت فيكم فأكثرت حتى قال
بعضهم: إن الإمام ينكت في أذنه، وقال آخرون: يوحى إليه، وقال
آخرون: يقذف في قلبه، وقال آخرون: يرى في منامه، وقال آخرون:
إنما يفتي بكتب آبائه فبأي جوابهم آخذ يجعلني الله تعالى فداك؟
قال: لا تأخذ بشيء مما يقولون يا سدير نحن حجج الله تعالى
وأمناؤه على خلقه حلالنا من كتاب الله تعالى وحرامنا منه، حكاه
محمد بن عبد الكريم الشهرستاني في أول تفسيره مفاتيح الأسرار
وقد ظهر في هذا العصر (1) عصابة من غلاة الشيعة لقبوا أنفسهم
بالبابية لهم في هذا الباب فصول يحكم بكفر معتقدها كل من انتظم
في سلك ذوي العقول، وقد كاد يتمكن عرقهم في العراق لولا همة
واليه النجيب الذي وقع على همته وديانته الاتفاق حيث خذلهم
نصره الله تعالى وشتت شملهم وغضب عليهم رضي الله تعالى عنه
وأفسد عملهم فجزاه الله تعالى عن الإسلام خيرا ودفع عنه في
الدارين ضيما وضيرا. وادعى بعضهم الوحي إلى عيسى عليه السّلام
بعد نزوله، وقد سئل عن ذلك ابن حجر الهيثمي فقال نعم يوحي إليه
عليه السّلام وحي حقيقي كما
في حديث مسلم وغيره عن النواس بن سمعان، وفي رواية صحيحة
«فبينما هو كذلك إذ أوحى الله تعالى يا عيسى إني أخرجت عبادا
لي لا يد لأحد بقتالهم فحول عبادي إلى الطور وذلك الوحي على
لسان جبريل عليه السّلام إذ هو السفير بين الله تعالى
وأنبيائه»
لا يعرف ذلك لغيره، وخبر لا وحي بعدي باطل، وما اشتهر أن جبريل
عليه السّلام لا ينزل إلا الأرض بعد موت النبي صلّى الله عليه
وسلم فهو لا أصل له، ويرده خبر الطبراني ما أحب أن يرقد الجنب
حتى يتوضأ فإني أخاف أن يتوفى وما يحضره جبريل عليه السّلام
فإنه يدل على أن جبريل ينزل إلى الأرض ويحضر موت كل مؤمن توفاه
الله تعالى وهو على طهارة اهـ، ولعل من نفي الوحي عنه عليه
السّلام بعد نزوله أراد وحي التشريع وما ذكر وحي لا تشريع فيه
فتأمل. وكونه صلّى الله عليه وسلم خاتم النبيين مما نطق به
الكتاب
__________
(1) سنة 1261 اهـ منه.
(11/219)
وصدعت به السنّة وأجمعت عليه الأمة فيكفر
مدعي خلافه ويقتل إن أصر.
ومن السنة ما
أخرج أحمد والبخاري ومسلم والنسائي وابن مردويه عن أبي هريرة
أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «مثلي ومثل الأنبياء من
قبلي كمثل رجل بنى دارا بناه فأحسنه وأجمله إلا موضع لبنة من
زاوية من زواياها فجعل الناس يطوفون به ويتعجبون له ويقولون
هلا وضعت هذه اللبنة فأنا اللبنة وأنا خاتم النبيين» وصح عن
جابر مرفوعا نحو هذا،
وكذا عن أبي بن كعب وأبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنهم،
وللشيخ محيي الدين بن عربي قدس سره كلام في حديث اللبنة قد
انتقده عليه جماعة من الأجلة فعليك بالتمسك بالكتاب والسنّة
والله تعالى الحافظ من الوقوع في المحنة، ونصب رَسُولَ على
إضمار كان لدلالة كان المتقدمة عليه والواو عاطفة للجملة
الاستدراكية على ما قبلها، وكون لكن المخففة عند الجمهور للعطف
إنما هو عند عدم الواو وكون ما بعدها مفردا، وجوز أن يكون
النصب بالعطف على أَبا أَحَدٍ وقرأ عبد الوارث عن أبي عمرو
«ولكنّ» بالتشديد فنصب «رسول» على أنه اسم لكن والخبر محذوف
تقديره ولكن رسول الله وخاتم النبيين هو أي محمد صلّى الله
عليه وسلم، وقال الزمخشري: تقديره ولكن رسول الله من عرفتموه
أي لم يعش له ولد ذكر، وحذف خبر لكن وأخواتها جائز إذا دل عليه
الدليل، ومما جاء في لكن قول الشاعر:
فلو كنت ضبيا عرفت قرابتي ... ولكن زنجيا عظيم المشافر
أي ولكن زنجيا عظيم المشافر أنت، وفيه بحث لا يخفى على ذي
معرفة، وقرأ زيد بن علي رضي الله تعالى عنهما وابن أبي عبلة
بتخفيف «لكن» ورفع «رسول» - و «خاتم» أي ولكن هو رسول الله إلخ
كما قال الشاعر:
ولست الشاعر السفاف فيهم ... ولكن مدرة الحرب العوالي
أي ولكن أنا مدرة وَكانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ أعم من أن
يكون موجودا أو معدوما عَلِيماً فيعلم سبحانه الأحكام والحكم
التي بينت فيما سبق والحكمة في كونه عليه الصلاة والسّلام خاتم
النبيين.
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ بما هو جل
وعلا أهله من التهليل والتحميد والتمجيد والتقديس ذِكْراً
كَثِيراً يعم أغلب الأوقات والأحوال كما قال غير واحد، وعن ابن
عباس الذكر الكثير أن لا ينسى جل شأنه، وروي ذلك عن مجاهد
أيضا، وقيل: إن يذكر سبحانه بصفاته العلى وأسمائه الحسنى وينزه
عما لا يليق به، وعن مقاتل هو أن يقال:
سبحان الله والحمد الله ولا إله إلّا الله والله أكبر على كل
حال، وعن العترة الطاهرة رضي الله تعالى عنهم من قال ذلك
ثلاثين مرة فقد ذكر الله تعالى ذكرا كثيرا
،
وفي مجمع البيان عن الواحدي بسنده إلى الضحاك بن مزاحم عن ابن
عباس قال: جاء جبريل عليه السّلام إلى النبي صلّى الله عليه
وسلم فقال: يا محمد قل سبحان الله والحمد الله ولا إله إلا
الله والله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم عدد
ما علم وزنة ما علم وملء ما علم فإنه من قالها كتب له بها ست
خصال كتب من الذاكرين الله تعالى كثيرا وكان أفضل من ذكره
بالليل والنهار وكن له غرسا في الجنة وتحاتت عنه خطاياه كما
تحات ورق الشجرة اليابسة وينظر الله تعالى إليه ومن نظر الله
تعالى إليه لم يعذبه
كذا رأيته في مدونه فلا تغفل، وقال بعضهم: مرجع الكثرة العرف.
وَسَبِّحُوهُ ونزهوه سبحانه عما لا يليق به بُكْرَةً
وَأَصِيلًا أي أول النهار وآخره، وتخصيصهما بالذكر ليس لقصر
التسبيح عليهما دون سائر الأوقات بل لأنافه فضلهما على سائر
الأوقات لكونهما تحضرهما ملائكة الليل والنهار وتلتقي فيهما
كأفراد التسبيح من بين الأذكار مع اندراجه فيها لكونه العمدة
بينها، وقيل: كلا الأمرين متوجه إليهما كقولك: صم وصلّ يوم
الجمعة، وبتفسير الذكر الكثير بما يعم أغلب الأوقات لا تبقى
حاجة إلى تعلقهما بالأول
(11/220)
وعن ابن عباس أن المراد بالتسبيح الصلاة أي
بإطلاق الجزء على الكل والتسبيح بكرة صلاة الفجر والتسبيح
أصيلا صلاة العشاء، وعن قتادة نحو ما روي عن ابن عباس إلا أنه
قال: أشار بهذين الوقتين إلى صلاة الغداة وصلاة العصر وهو أظهر
مما روي عن الحبر وتعقب ما روي عنهما بأن فيه تجوزا من غير
ضرورة، وقد يقال: إن التسبيح على حقيقته لكن التسبيح بكرة
بالصلاة فيها والتسبيح أصيلا بالصلاة فيه فتأمل وجوز أن يكون
المراد بالذكر المأمور به تكثير الطاعات والإقبال عليها فإن كل
طاعة من جملة الذكر ثم خص من ذلك التسبيح بكرة وأصيلا أي
الصلاة في جمع أوقاتها أو صلاة الفجر والعصر أو الفجر والعشاء
لفضل الصلاة على غيرها من الطاعات البدنية، ولا يخفى بعده هُوَ
الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ إلخ استئناف جار مجرى التعليل لما
قبله من الأمرين وَمَلائِكَتُهُ عطف على الضمير في يُصَلِّي
لمكان الفصل المغني عن التأكيد بالمنفصل لا على هُوَ والصلاة
في المشهور- وروي ذلك عن ابن عباس- من الله تعالى رحمة ومن
الملائكة استغفار ومن مؤمني الإنس والجن دعاء، ويجوز على رأي
من يجوز استعمال اللفظ في معنيين أن يراد بالصلاة هنا المعنيان
الأولان فيراد بها أولا الرحمة وثانيا الاستغفار، ومن لا يجوز
كأصحابنا يقول بعموم المجاز بأن يراد بالصلاة معنى مجازي عام
يكون كلا المعنيين فردا حقيقيا له وهو إما الاعتناء ربما فيه
خير المخاطبين وصلاح أمرهم فإن كلا من الرحمة والاستغفار فرد
حقيقي له وهذا المجاز من الصلاة بمعنى الدعاء وهو إما استعارة
لأن الاعتناء يشبه الدعاء لمقارنة كل منهما لإرادة الخير
والأمر المحبوب أو مجاز مرسل لأن الدعاء مسبب عن الاعتناء وأما
الترحم والانعطاف المعنوي المأخوذ من الصلاة المعروفة المشتملة
على الانعطاف الصوري الّذي هو الركوع والسجود، ولا ريب في أن
استغفار الملائكة عليهم السّلام ودعاءهم للمؤمنين ترحم عليهم،
وأما أن ذلك سبب للرحمة لكونهم مجابي الدعوة كما قيل ففيه بحث،
ورجح جعل المعنى العام ما ذكر بأنه أقرب لما بعد فإنه نص عليه
فيه بقوله تعالى: وَكانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً فدل على أن
المراد بالصلاة الرحمة. واعترض بأن رحم متعد وصلى قاصر فلا
يحسن تفسيره به، وبأنه يستلزم جواز رحم عليه، وبأنه تعالى غاير
بينهما بقوله سبحانه:
أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ
[البقرة: 157] للعطف الظاهر في المغايرة، وأجيب بأنه ليس
المراد بتفسير صلى برحم إلا بيان أن المعنى الموضوع له صلى هو
الموضوع له رحم مع قطع النظر عن معنى التعدي واللزوم فإن
الرديفين قد يختلفان في ذلك وهو غير ضار فزعم أن ذلك لا يحسن
وأنه يلزم جواز رحم عليه ليس في محله على أنه يحسن تعدية صلى
بعلي دون رحم لما في الأول من ظهور معنى التحنن والتعطف والعطف
لأن الصلاة رحمة خاصة ويكفي هذا القدر من المغايرة، وقيل: إن
تعدد الفاعل صير الفعل كالمتعدد فكأن الرحمة مرادة من لفظ
والاستغفار مراد من آخر فلا حاجة إلى القول بعموم المجاز وليس
هناك استعمال لفظ واحد حقيقة وحكما في معنيين وهو كما ترى،
ومثله كون مَلائِكَتُهُ مبتدأ خبره محذوف لدلالة ما قبل عليه
كأنه قيل هو الّذي يصلي عليكم وملائكته يصلون عليكم فهناك
لفظان حقيقة كل منهما بمعنى، وسيأتي إن شاء الله تعالى ما
يزيدك علما بأمر الصلاة، وسبب نزول الآية ما أخرجه عبد بن حميد
وابن المنذر قال: لما نزلت: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ
يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ [الأحزاب: 56] قال أبو بكر رضي
الله تعالى عنه: ما أنزل الله تعالى عليك خيرا إلا أشركنا فيه
فنزلت هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ
لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ أي من ظلمات
المعاصي إلى نور الطاعة، وقال الطبرسي: من الجهل بالله تعالى
إلى معرفته عزّ وجلّ فإن الجهل أشبه شيء بالظلمة والمعرفة أشبه
شيء بالنور، وقال ابن زيد: أي من الضلالة إلى الهدى، وقال
مقاتل: من الكفر إلى الإيمان، وقيل: من النار إلى الجنة حكاه
الماوردي، وقيل: من القبور إلى البحث حكاه أبو حيان وليس بشيء،
واللام متعلقة بيصلي أي يعتني بكم هو سبحانه وملائكته ليخرجكم
أو يترحم هو عزّ وجلّ وملائكته ليخرجكم بذلك من الظلمات إلى
النور وَكانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً
(11/221)
اعتراض مقرر لمضمون ما قبله أي كان سبحانه
بكافة المؤمنين الذين أنتم من زمرتهم كامل الرحمة ولذا يفعل
بكم ما يفعل بالذات وبالواسطة أو كان بكم رحيما على أن
المؤمنين مظهر وضع موضع المضمر مدحا لهم وإشعارا بعلة الرحمة،
وقوله تعالى تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ بيان
للأحكام الآجلة لرحمته تعالى بهم بعد بيان آثارها العاجلة من
الإخراج المذكور، والتحية أن يقال: حياك الله أي جعل لك حياة
وذلك إخبار ثم يجعل دعاء، ويقال حيا فلان فلانا تحية إذا قال
له ذلك، وأصل هذا اللفظ من الحياة ثم جعل كل دعاء تحية لكون
جميعه غير خارج عن حصول الحياة أو سبب حياة أم لدينا أو لآخرة.
وهو هنا مصدر مضاف إلى المفعول وقع مبتدأ وسَلامٌ مرادا به
لفظه خبره، والمراد ما يحييهم الله تعالى به ويقوله لهم يوم
يلقونه سبحانه ويدخلون دار كرامته سلام أي هذا اللفظ. روي أن
الله تعالى يقول: سلام عليكم عبادي أنا عنكم راض فهل أنتم عني
راضون فيقولون: بأجمعهم يا ربنا إنا راضون كل الرضا وورد أن
الله تعالى يقول: السلام عليكم مرحبا بعبادي المؤمنين الذين
أرضوني في دار الدنيا باتباع أمري، وقيل: تحييهم الملائكة
عليهم السّلام بذلك إذا دخلوا الجنة كما قال تعالى:
وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ
سَلامٌ عَلَيْكُمْ.
وقيل: تحييهم عند الخروج من القبور فيسلمون عليهم ويبشرونهم
بالجنة، وقيل عند الموت.
وروي عن ابن مسعود أنه قال: إذا جاء ملك الموت لقبض روح المؤمن
قال: ربك يقرئك السلام
، قيل: فعلى هذا الهاء في يَلْقَوْنَهُ كناية عن غير مذكور وهو
ملك الموت، ولا ضرورة تدعو لذلك إذ لا مانع من أن يكون الضمير
لله تعالى عليه كما هو كذلك على الأقوال الآخر جميعا. ولقاء
الله تعالى على ما أشار إليه الإمام عبارة عن الإقبال عليه
تعالى بالكلية بحيث لا يعرض للشخص ما يشغله ويلهيه أو يوجب
غفلته عنه عزّ وجلّ ويكون ذلك عند دخول الجنة وفيها وعند البعث
وعند الموت.
وقال الراغب: ملاقاة الله تعالى عبارة عن القيامة وعن المصير
إليه عزّ وجلّ، وقال الطبرسي: هي ملاقاة ثوابه تعالى وهو غير
ظاهر على جميع الأقوال السابقة بل ظاهر على بعضها كما لا يخفى،
وعن قتادة في الآية أنهم يوم دخولهم الجنة يحيي بعضهم بعضا
بالسلام أي سلمنا وسلمت من كل مخوف، والتحية عليه على ما قال
الخفاجي مصدر مضاف للفاعل. وفي البحر هي عليه مصدر مضاف للمحيي
والمحيي لا على جهة العمل لأن الضمير الواحد لا يكون فاعلا
مفعولا ولكنه كقوله تعالى: وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شاهِدِينَ
[الأنبياء: 78] أي للحكم الّذي جرى بينهم.
وكذا يقال هنا التحية الجارية بينهم هي سلام، وقول المحيي في
ذلك اليوم سلام إخبار لا دعاء لأنه أبلغ على ما قيل فتدبر،
وأحرى الأقوال بالقبول عندي أن الله تعالى يسلم عليهم يوم
يلقونه إكراما لهم وتعظيما.
وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْراً كَرِيماً أي وهيأ عزّ وجلّ لهم ثوابا
حسنا، والظاهر أن التهيئة واقعة قبل دخول الجنة والتحية ولذا
لم تخرج الجملة مخرج ما قبلها بأن يقال وأجرهم أجر كريم أي
ولهم أجر كريم، وقيل: هي بعد الدخول والتحية فالكلام لبيان
لآثار رحمته تعالى الفائضة عليهم بعد دخول الجنة عقيب بيان
آثار رحمته الواصلة إليهم قبل ذلك، ولعل إيثار الجملة الفعلية
على الاسمية المناسبة لما قبلها للمبالغة في الترغيب والتشويق
إلى الموعود ببيان أن الأمر الّذي هو المقصد الأقصى من بين
سائر آثار الرحمة موجود بالفعل مهيأ لهم مع ما فيه من مراعاة
الفواصل يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً
على من بعثت إليهم تراقب أحوالهم وتشاهد أعمالهم وتتحمل عنهم
الشهادة بما صدر عنهم من التصديق والتكذيب وسائر ما هم عليه من
الهدى والضلال وتؤديها يوم القيامة أداء مقبولا فيما لهم وما
عليهم، وهو
(11/222)
حال مقدرة وإن اعتبر الإرسال أمرا ممتدا
لاعتبار التحمل والأداء في الشهادة، والإرسال بذلك الاعتبار
وإن قارن التحمل إلا أنه غير مقارن للاداء وإن اعتبر الامتداد.
وقيل: بإطلاق الشهادة على التحمل فقط تكون الحال مقارنة
والأحوال المذكورة بعد على اعتبار الامتداد مقارنة، ولك أن لا
تعتبره أصلا فتكون الأحوال كلها مقدرة، ثم أن تحمل الشهادة على
من عاصره صلّى الله عليه وسلم واطلع على عمله أمر ظاهر، وأما
تحملها على من بعده بأعيانهم فإن كان مرادا أيضا ففيه خفاء لأن
ظاهر الأخبار أنه عليه الصلاة والسلام لا يعرف أعمال من بعده
بأعيانهم،
روى أبو بكر وأنس وحذيفة وسمرة وأبو الدرداء عنه صلّى الله
عليه وسلم ليردن على ناس من أصحابي الحوض حتى إذا رأيتهم
وعرفتهم اختلجوا دوني فأقول: يا رب أصيحابي أصيحابي فيقال لي:
إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك
. نعم قد يقال: إنه عليه الصلاة والسلام يعلم بطاعات ومعاص تقع
بعده من أمته لكن لا يعلم أعيان الطائعين والعاصين، وبهذا يجمع
بين الحديث المذكور وحديث عرض الأعمال عليه صلّى الله عليه
وسلم كل أسبوع أو أكثر أو أقل، وقيل: يجمع بابه عليه الصلاة
والسلام يعلم الأعيان أيضا إلا أنه نسي فقال: أصيحابي، ولتعظيم
قبح ما أحدثوا قيل له: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك، وقيل: يعرض
ما عدا الكفر وهون كما ترى، وأما زعم أن التحمل على من بعده
إلى يوم القيامة لما أنه صلّى الله عليه وسلم حي بروحه وجسده
يسير حيث شاء في أقطار الأرض والملكوت فمبني على ما علمت حاله،
ولعل في هذين الخبرين ما يأباه كما لا يخفى على المتدبر، وأشار
بعض السادة الصوفية إلى أن الله تعالى قد أطلعه صلّى الله عليه
وسلم على أعمال العباد فنظر إليها ولذلك أطلق عليه عليه الصلاة
والسلام شاهد. قال مولانا جلال الدين الرومي قدس سره العزيز في
مثنويه:
در نظر بودش مقامات العباد ... زان سبب نامش خدا شاهد نهاد
فتأمل ولا تغفل، وقيل: المراد شاهدا على جميع الأمم يوم
القيامة بأن أنبياءهم قد بلغوهم الرسالة ودعوهم إلى الله
تعالى، وشهادته بذلك لما علمه من كتابه المجيد، وقيل: المراد
شاهدا بأن لا إله إلا الله وَمُبَشِّراً تبشر الطائعين بالجنة
وَنَذِيراً تنذر الكافرين والعاصين بالنار، ولعموم الإنذار
وخصوص التبشير قيل: مبشرا ونذيرا على صيغة المبالغة دون ومنذرا
مع أن ظاهر عطفه على مُبَشِّراً يقتضي ذلك وقدم التبشير لشرف
المبشرين ولأنه المقصود الأصلي إذ هو صلّى الله عليه وسلم رحمة
للعالمين وكأنه لهذا جبر ما فاته من المبالغة بقوله تعالى:
وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ وَداعِياً إِلَى اللَّهِ أي إلى
الإقرار به سبحانه وبوحدانيته وبسائر ما يجب الإيمان به من
صفاته وأفعاله عزّ وجلّ، ولعل هذا هو مراد ابن عباس وقتادة من
قولهما أي شهادة أن لا إله إلا الله بِإِذْنِهِ أي بتسهيله
وتيسيره تعالى، وأطلق الإذن على التسهيل مجازا لما أنه من
أسبابه لا سيما الإذن من الله عزّ وجلّ ولم يحمل على حقيقته
وإن صح هنا أن يأذن الله تعالى شأنه له عليه الصلاة والسلام
حقيقة في الدعوة لأنه قد فهم من قوله سبحانه: إنا أرسلناك
داعيا أنه صلّى الله عليه وسلم مأذون له في الدعوة، ومما ذكر
يعلم أن بِإِذْنِهِ من متعلقات داعيا، وقيدت الدعوة بذلك
إيذانا بأنها أمر صعب المنال وخطب في غاية الإعضال لا يتأتى
إلا بإمداد من جناب قدسه كيف لا وهو صرف للوجوه عن القبل
المعبودة وإدخال للأعناق في قلادة غير معهودة، وجوز رجوع القيد
للجميع والأول أظهر وَسِراجاً مُنِيراً يستضيء به الضالون في
ظلمات الجهل والغواية ويقتبس من نوره أنوار المهتدين إلى مناهج
الرشد والهداية، وهو تشبيه إما مركب عقلي أو تمثيل منتزع من
عدا أمور أو مفرق، وبولغ في الوصف بالإنارة لأن من السرج ما لا
يضيء إذا قل سليطه ودقت فتيلته.
وقال الزجاج: هو معطوف على شاهدا بتقدير مضاف أي ذا سراج منير،
وقال الفراء: إن شئت كان نصبا على معنى وتاليا سراجا منيرا،
وعليهما السراج المنير القرآن، وإذا فسر بذلك احتمل على ما قيل
أن يعطف على كاف
(11/223)
أَرْسَلْناكَ على معنى أرسلناك والقرآن إما
على سبيل التبعية وإما من باب متقلدا سيفا ورمحا، وقيل: إنه
على تقدير تاليا سراجا يجوز هذا العطف أي إنا أرسلناك وتاليا
سراجا كقوله تعالى: يَتْلُوا صُحُفاً مُطَهَّرَةً [البينة: 2]
على أنه الجامع بين الأمرين على نحو: وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى
وَهارُونَ الْفُرْقانَ وَضِياءً [الأنبياء: 48] أي أرسلنا
بإرسالك تاليا.
وجوز أن يراد وجعلناك تاليا، وقيل: يجوز أن يراد بذا سراج
القرآن وحينئذ يكون التقدير إنا أرسلناك وأنزلنا عليك ذا سراج.
وتعقب بأن جعل القرآن ذا سراج تعسف، والحق أن كل ما قيل كذلك.
وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ عطف على مقدر يقتضيه المقام ويستدعيه
النظام كأنه قيل: فراقب أحوال الناس وبشر المؤمنين. وجوز عطفه
على الخبر السابق عطف القصة على القصة، وقيل: هو معطوف عليه
ويجعل في معنى الأمر لأنه في معنى ادعهم شاهدا ومبشرا ونذيرا
إلخ وبشر المؤمنين منهم بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلًا
كَبِيراً أي عطاء جزيلا وهو كما روي عن الحسن وقتادة الجنة وما
أوتوا فيها ويؤيده قوله تعالى: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا
الصَّالِحاتِ فِي رَوْضاتِ الْجَنَّاتِ لَهُمْ ما يَشاؤُنَ
عِنْدَ رَبِّهِمْ ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ [الشورى:
22] وقيل: المعنى فضلا على سائر الأمم في الرتبة والشرف أو
زيادة على أجور أعمالهم بطريق التفضل والإحسان.
أخرج ابن جرير وابن عكرمة عن الحسن قال لما نزل: لِيَغْفِرَ
لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ
[الفتح: 2] قالوا: يا رسول الله قد علمنا ما يفعل بك فماذا
يفعل بنا؟
فأنزل الله تعالى: وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ
مِنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيراً
وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ نهى عن مداراتهم في
أمر الدعوة ولين الجانب في التبليغ والمسامحة في الإنذار كني
عن ذلك بالنهي عن طاعتهم مبالغة في النهي والتنفير عن المنهي
عليه بنظمها في سلكها وتصوير بصورتها، وحمل غير واحد النهي على
التهييج والإلهاب من حيث إنه صلّى الله عليه وسلم لم يطعهم حتى
ينهى، وجعله بعضهم من باب إياك أعني واسمعي يا جارة فلا تغفل.
وَدَعْ أَذاهُمْ أي لا تبال بإيذائهم إياك بسبب إنذارك إياهم
واصبر على ما ينالك منهم قاله قتادة فأذاهم مصدر مضاف للفاعل،
وقال أبو حيان: الظاهر أنه مصدر مضاف للمفعول لما نهى صلّى
الله عليه وسلم عن طاعتهم أمر بترك إيذائهم وعقوبتهم ونسخ منه
ما يخص الكافرين بآية السيف وروي نحوه عن مجاهد والكلبي والأول
أولى وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ في كل ما تأتي وتذر من الشؤون
التي من جملتها هذا الشأن فإنه عزّ وجلّ يكفيهم وَكَفى
بِاللَّهِ وَكِيلًا موكولا إليه الأمور في كل الأحوال، وإظهار
الاسم الجليل في موقع الإضمار لتعليل الحكم وتأكيد استقلال
الاعتراض التذييلي ولما وصف صلّى الله عليه وسلم بنعوت خمسة
قوبل كل واحد منها بخطاب يناسبه خلا أنه لم يذكر ما قابل
الشاهد صريحا وهو لأمر بالمراقبة ثقة بظهور دلالة المبشر عليه
وهو الأمر بالتبشير حسبما ذكر آنفا وقابل النذير بالنهي عن
مداراة الكافرين والمنافقين والمسامحة في إنذارهم وقوبل الداعي
بإذنه بالأمر بالتوكل عليه من حيث إنه عبارة عن الاستمداد منه
تعالى والاستعانة به عزّ وجلّ وقوبل السراج المنير بالاكتفاء
به تعالى فإن من أيده الله تعالى بالقوة القدسية ورشحه للنبوة
وجعله برهانا نيرا يهدي الخلق من ظلمات الغي إلى نور الرشاد
حقيق بأن يكتفي به تعالى عمن سواه، وجعل الزمخشري مقابل الشاهد
وبشر المؤمنين ومقابل الإعراض عن الكافرين والمنافقين المبشر
أعني المؤمنين وتكلف في ذلك.
وقال الطيبي طيب الله تعالى ثراه: نظير هذه الآية ما
روى البخاري: والإمام أحمد عن عطاء بن يسار قال: لقيت عبد الله
بن عمرو بن العاص فقلت: أخبرني عن صفة رسول الله صلّى الله
عليه وسلم في التوراة قال: والله إنه لموصوف في التوراة ببعض
صفته في القرآن يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا
وحرزا للمؤمنين أنت عبدي ورسولي سميتك المتوكل ليس بفظ ولا
غليظ ولا صخاب في الأسواق ولا يدفع بالسيئة السيئة ولكن يعفو
ويصفح ولن يقبضه الله تعالى حتى يقيم به الملة العوجاء ويفتح
به أعينا عميا وآذانا صما وقلوبا غلقا، وروى الدارمي نحوه عن
عبد الله بن
(11/224)
سلام
فقوله: حرز للمؤمنين مقابل لقوله تعالى: وَداعِياً إِلَى
اللَّهِ بِإِذْنِهِ فإن دعوته صلّى الله عليه وسلم إنما حصلت
فائدتها فيمن وفقه الله تعالى: بتيسيره وتسهيله فلذلك آمنوا من
مكاره الدنيا وشدائد الآخرة فكان صلوات الله تعالى وسلامه عليه
بهذا الاعتبار حرزا لهم، وقوله: سميتك المتوكل إلخ مقابل
لقوله: وَسِراجاً مُنِيراً فعلم أن قوله تعالى: وَتَوَكَّلْ
عَلَى اللَّهِ وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلًا مناسب لقوله تعالى:
وَسِراجاً مُنِيراً فإن السراج مضيء في نفسه ومنور لغيره
فبكونه متوكلا على الله تعالى يكون كاملا في نفسه فهو مناسب
لقوله: أنت عبدي ورسولي سميتك المتوكل إلى قوله: يعفو ويصفح
وكونه منيرا يفيض الله تعالى عليه يكون مكملا لغيره وهو مناسب
لقوله: حتى يقيم به الملة العوجاء إلخ ثم قال: ويمكن أن ينزل
المراتب على لسان أهل العرفان فقوله تعالى: إِنَّا
أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً [الفتح: 8] هو
مقام الشريعة ودعوة الناس إلى الإيمان وترك الكفر ونتيجة
الإعراض عما سوى الله تعالى والأخذ في السير والسلوك والالتجاء
إلى حريم لطفه تعالى والتوكل عليه عزّ وجلّ وقوله، سبحانه:
وَسِراجاً مُنِيراً هو مقام الحقيقة ونتيجته فناء السالك
وقيامه بقيوميته تعالى اهـ، ولا يخفى تكلف ما قرره في الحديث
والله تعالى أعلم بمزاده.
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِناتِ
ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَما
لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَها عود إلى ذكر
النساء، والنكاح هنا العقد بالاتفاق واختلفوا في مفهومه لغة
فقيل هو مشترك بين الوطء والعقد اشتراكا لفظيا، وقيل: حقيقة في
العقد مجاز في الوطء، وقيل: بقلبه وقيل هو مشترك بينهما
اشتراكا معنويا وهو من أفراد المشكك وحقيقته الضم والجمع كما
في قوله:
ضممت إلى صدري معطر صدرها ... كما نكحت أم الغلام صبيها
ونقل المبرد ذلك عن البصريين وغلام ثعلب الشيخ عمر والزاهد عن
الكوفيين، ثم المتبادر من لفظ الضم تعلقه بالأجسام لا الأقوال
لأنها أعراض يتلاشى الأول منها قبل وجود الثاني فلا يصادف
الثاني ما ينضم إليه وهذا يقتضي كونه مجازا في العقد، وإن
اعتبر الضم أعم من ضم الجسم إلى الجسم والقول إلى القول جاز أن
يكون النكاح حقيقة في كل من الوطء والعقد وجاز أن يكون مجازا
على التفصيل المعروف في استعمال العام في كل فرد من أفراده،
واختار الراغب القول الثاني من الأقوال السابقة وبالغ في عدم
قبول الثالث: فقال هو حقيقة في العقد ثم استعير للجماع ومحال
أن يكون في الأصل للجماع ثم استعير للعقد لأن أسماء الجماع
كلها كنايات لاستقباحهم ذكره كاستقباح تعاطيه ومحال أن يستعير
من لا يقصد فحشا اسم ما يستفظعونه لما يستحسنه.
واختار الزمخشري الثالث فقال: النكاح الوطء وتسمية العقد نكاحا
لملابسته له من حيث إنه طريق له ونظيره تسمية الخمر إثما لأنها
سبب في اقتراف الإثم، ولم يرد لفظ النكاح في كتاب الله تعالى
إلا في معنى العقد لأنه في حق الوطء من باب التصريح به ومن
آداب القرآن الكناية عنه بلفظ الملامسة والمماسسة والقربان
والتغشي والإتيان، وأراد على ما قيل إنه في العقد حقيقة شرعية
منسى فيه المعنى اللغوي، وبحث في قوله لم يرد لفظ النكاح في
كتاب الله تعالى إلا في معنى العقد بأنه في قوله تعالى: حَتَّى
تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ [البقرة: 23] بمعنى الوطء وهذا ما
عليه الجمهور وخالف في ذلك ابن المسيب، وتمام الكلام في موضعه،
والمس في الأصل معروف وكني به هنا عن الجماع، والعدة هي الشيء
المعدود وعدة المرأة المراد بها الأيام التي بانقضائها يحل لها
التزوج أي يا أيها الذين آمنوا إذا عقدتم على المؤمنات
وتزوجتموهن ثم طلقتموهن من قبل أن تجامعوهن فما لكم عليهن من
عدة بأيام يتربصن فيها بأنفسهن تستوفون عددها على أن تعتدون
مطاوع عد يقال عد الدراهم فاعتدها أي استوفى عددها نحو قولك
كلته فأكتلته ووزنته فاتزنته أو تعدونها على أن افتعل بمعنى
فعل، وإسناد الفعل إلى الرجال للدلالة على أن العدة حق الأزواج
(11/225)
ما أشعر به قوله تعالى: فَما لَكُمْ واعترض
بأن المذكور في كتب الفروع كالهداية وغيرها أنها حق الشرع ولذا
لا تسقط لو أسقطها الزوج ولا يحل لها الخروج ولو أذن لها
وتتداخل العدتان ولا تداخل في حق العبد وحق الولد أيضا ولذا
قال صلّى الله عليه وسلم: «لا يحل لامرىء مؤمن بالله واليوم
الآخر أن يسقي ماءه زرع غيره»
وفرعوا على ذلك أنهما لا يصدقان في إبطالها باتفاقهما على عدم
الوطء.
وأجيب بأنه ليس المراد أنها صرف حقهم بل أن نفعها وفائدتها
عائدة عليهم لأنها لصيانة مياههم والأنساب الراجعة إليهم فلا
ينافي أن يكون للشرع والولد حق فيها يمنع إسقاطها ولو فرض أنها
صرف حقهم يجوز أن يقال: إن عدم سقوطها بإسقاطهم لا ينافي ذلك
إلا إذا ثبت أن كل حق للعبد إذا أسقطه العبد سقط وليس كذلك فإن
بعض حقوق العبد لا تسقط بإسقاطه كالإرث وحق الرجوع الهبة وخيار
الرؤية، ثم أن في الاستدلال بالحديث على أنها حق الولد تأملا
كما لا يخفى، وتخصيص المؤمنات مع عموم الحكم للكتابيات للتنبيه
على أن المؤمن شأنه أن يتخير لنطفته ولا ينكح إلا مؤمنة،
وحاصله أنه لبيان الأحرى والأليق بعد ما فصل في البقرة نكاح
الكتابيات، وفائدة المجيء بثم مع أن الحكم ثابت لمن تزوج امرأة
وطلقها على الفور كثبوته لمن تزوجها وطلقها بعد مدة مديدة
إزاحة ما عسى يتوهم أن تراخي الطلاق له دخل في إيجاب العدة
لاحتمال الملاقاة والجماع سرا كما أن له دخلا في النسب، ويمكن
أن تكون الإشارة إلى التراخي الرتبي فإن الطلاق وإن كان مباحا
لا كراهة فيه على ما قيل لقوله تعالى: لا جُناحَ عَلَيْكُمْ
إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّساءَ ما لَمْ تَمَسُّوهُنَّ [البقرة:
236] غير محبوب كالنكاح من حيث إنه يؤدي إلى قطع الوصلة وحل
قيد العصمة المؤدي لقلة التناسل الّذي به تكثر الأمة ولهذا
ورد كما أخرج أبو داود وابن ماجة والحاكم والطبراني وابن عدي
عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما مرفوعا «أبغض الحلال إلى الله
الطلاق» ورواه البيهقي مرسلا
بدون ابن عمر بل قال العلامة ابن الهمام: الأصح حظره وكراهته
إلا لحاجة لما فيه من كفران نعمة النكاح وللأخبار الدالة على
ذلك، ويحمل لفظ المباح في الخبر المذكور على ما أبيح في بعض
الأوقات أعني أوقات تحقق الحاجة المبيحة وهو ظاهر في رواية
لأبي داود ما أحل الله شيئا أبغض إليه من الطلاق، والفعل لا
عموم له في الأزمان والحاجة المبيحة الكبر والريبة مثلا ومن
المبيح عدم اشتهائها بحيث يعجز أو يتضرر بإكراهه نفسه على
جماعها مع عدم رضاها بإقامتها في عصمته من غير وطء أو قسم.
وأما ما
روي عن الحسن السبط رضي الله تعالى عنه وكان قيل له في كثرة
تزوجه وطلاقه فقال: أحب الغناء فقد قال تعالى: وَإِنْ
يَتَفَرَّقا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ
[النساء: 130] فهو رأي منه إن كان على ظاهره، وكل ما نقل عن
طلاق الصحابة رضي الله تعالى عنهم فمحمله وجود الحاجة، وظاهر
الآية يقتضي عدم وجوب العدة بمجرد الخلوة لأنه سبحانه نفى فيها
وجوب العدة إذا طلقت قبل الجماع والخلوة ليست جماعا وهي عندنا
إذا كانت صحيحة على الوجه المبين في كتب الفروع كالجماع في
وجوب العدة فتجب فيه العدة احتياطا لتوهم الشغل نظرا إلى
التمكن الحقيقي بل قالوا هو مثله في جميع أحكامه سوى عشرة
نظمها أفضل من عاصرناه من الفقهاء الشيخ محمد الأمين الشامي
الشهير بابن عابدين بقوله:
وخلوته كالوطء في غير عشرة ... مطالبة بالوطء إحصان تحليل
وفيء وارث رجعة فقد عنة ... وتحريم بنت عقد بكر وتغسيل
وظاهر قولهم بوجوب العدة فيها أنها واجبة قضاء وديانة. وفي
الفتح قال العتابي: تكلم مشايخنا في العدة الواجبة بالخلوة
الصحيحة أنها واجبة ظاهرا أو حقيقة فقيل: لو تزوجت وهي متيقنة
بعدم الدخول حل لها ديانة لا قضاء
(11/226)
اهـ، ولم يتعقبه بشيء وذكره سعدي جلبي في
حواشي البيضاوي وقال: ينبغي أن يكون التعويل على هذا القول.
وتعقب ذلك الشهاب الخفاجي بأنه وإن نقله فقهاؤنا فقد صرحوا
بأنه لا يعول عليه ونحن لم نر هذا التصريح فليتتبع، ثم لا يخفى
أن عدم وجوب العدة في الطلاق بعد الخلوة مما يعد منطوقا صريحا
في الآية إذا فسر المس بالجماع وليس من باب المفهوم حتى يقال:
إنا لا نقول به كما يتوهم فلا بدّ لإثبات وجوب العدة في ذلك من
دليل، ومن الناس من حمل المس فيها على الخلوة إطلاقا لاسم
المسبب على السبب إذا المس مسبب عن الخلوة عادة، واعترض بأنه
لم يشتهر المس بمعنى الخلوة ولا قرينة في الكلام على إرادته
منه، وأيضا يلزم عليه أنه لو طلقها وقد وطئها بحضرة الناس عدم
وجوب العدة لأنه قد طلقها قبل الخلوة. وأجيب عن هذا بأن وجوب
العدة في ذلك بالإجماع، وبأن العدة إذا وجبت في الطلاق بمجرد
الخلوة كانت واجبة فيه بالجماع من باب أولى وكيف لا تجب به
ووجوبها بالخلوة لاحتمال وقوعه فيها لا لذاتها، وقيل: إن المس
لما لم يرد ظاهره وإلا لزمت العدة فيما لو طلقها بعد أن مسها
بيده في غير خلوة مع أنه لا تلزم في ذلك بلا خلاف علم أنه كنى
به عن معنى آخر من لوازم الاتصال فهو الجماع وما في معناه من
الخلوة الصحيحة، وفيه نظر لأن عدم صحة إرادة ظاهره لا يوجب
إرادة ما يعم الجماع والخلوة لم لا يجوز إرادة الجماع ويرجحها
شهرة الكناية بذلك ونحوه عن الجماع، وإطلاقه عليه إما من إطلاق
اسم السبب على المسبب أو من إطلاق اسم المطلق على أخص بخصوصه
وهو الأوجه على ما ذكره العلامة ابن الهمام، وبالجملة القول
بأن ظاهر الآية يقتضي عدم وجوب العدة بمجرد الخلوة قول متين
وحق مبين فتأمل.
وفي البحر لأبي حيان الظاهر أن المطلقة إذا راجعها زوجها قبل
أن تنقضي عدتها ثم فارقها قبل أن يمسها لا تتم عدتها من الطلقة
الأولى لأنها مطلقة قبل الدخول بها وبه قال داود وقال عطاء
وجماعة: تمضي في عدتها عن طلاقها الأول وهو أحد قولي الشافعي،
وقال مالك: لا تبنى على العدة من الطلاق الأول وتستأنف العدة
من يوم طلقها الطلاق الثاني وهو قول جمهور فقهاء الأمصار،
والظاهر أيضا أنها لو كانت بائنا غير مبتوتة فتزوجها في العدة
ثم طلقها قبل الدخول فكالرجعية في قول داود ليس عليها عدة لا
بقية عدة الطلاق الأول ولا استئناف عدة للثاني ولها نصف المهر،
وقال الحسن: وعطاء وعكرمة وابن شهاب ومالك والشافعي وعثمان
البتي وزفر: لها نصف الصداق وتتم بقية العدة الأولى، وقال
الثوري والأوزاعي وأبو حنيفة، وأبو يوسف: لها مهر كامل للنكاح
الثاني وعدة مستقبلة جعلوها في حكم المدخول بها لاعتدادها من
مائة اهـ، وفيه أيضا الظاهر أن الطلاق لا يكون إلا بعد العقد
فلا يصح طلاق من لم يعقد عليها وهو قول الجمهور من الصحابة
والتابعين.
وقالت طائفة كثيرة منهم مالك يصح ذلك وعنى بطلاق من لم يعقد
عليها قول الرجل كل امرأة أتزوجها فهي طالق أو إن تزوجت فلانة
فهي طالق.
وقد أخرج جماعة عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه سئل عن
ذلك فقال: هو ليس بشيء فقيل له: إن ابن مسعود كان يقول إن طلق
ما لم ينكح فهو جائز فقال: أخطأ في هذا وتلا الآية وفي بعض
الروايات أنه قال: رحم الله تعالى أبا عبد الرحمن لو كان كما
قال لقال الله تعالى: «يا أيها الذين آمنوا إذا طلقتم المؤمنات
ثم نكحتموهن» ولكن إنما قال: إِذا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِناتِ
ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ.
وفي الدر المنثور عدة أحاديث مرفوعة ناطقة بأن لا طلاق قبل
نكاح، والمذكور في فروعنا أن ذلك من باب التعليق وشرطه الملك
أو الإضافة إليه فإذا قال: إن نكحت امرأة فهي طالق أو إن نكحتك
فأنت طالق وكل امرأة أنكحها فهي طالق يقع الطلاق إذا نكح لأن
ذلك تعليق وفيه إضافة إلى الملك ويكفي معنى الشرط إلا في
المعينة
(11/227)
باسم ونسب كما إذا قال: فلانة بنت فلان
التي أتزوجها فهي طالق أو بإشارة في الحاضرة كما لو قال: هذه
المرأة التي أتزوجها طالق فإنها لا تطلق في الصورتين لتعريفها
فلغا الوصف بالتي أتزوجها فصار كأنه قال: فلانة بنت فلان أو
هذه المرأة طالق وهي أجنبية ولم توجد الإضافة إلى الملك فلا
يقع الطلاق إذا تزوجها فتدبر.
وقرىء «تماسوهن» بضم التاء وألف بعد الميم، وعن ابن كثير وغيره
من أهل مكة «تعتدونها» بتخفيف الدال ونقلها عن ابن كثير بن
خالويه وأبو الفضل الرازي في اللوامح عنه وعن أهل مكة، وقال
ابن عطية: روى ابن أبي بزة عن ابن كثير أنه قرأ بتخفيف الدال
من العدوان كأنه قال: فما لكم عدة تلزمونها عدوانا وظلما لهن،
والقراءة الأولى أشهر عنه وتخفيف الدال وهم من ابن أبي بزة
اهـ، وليس بوهم إذ قد نقله عنه جماعة غيره، وخرج ذلك على أن
تَعْتَدُّونَها من الاعتداء بمعنى الظلم كما في قوله تعالى:
وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِراراً لِتَعْتَدُوا [البقرة: 31]
والمراد تعتدون فيها كقوله:
ويوما شهدناه سليما وعامرا ... قليل سوى طعن الدراك نوافله
أي شهدنا فيه فحذف حرف الجر ووصل الفعل بالضمير، وقال أبو
حيان: إن الاعتداء يتعدى بعلى فالمراد تعتدون عليهن فيها،
ونظيره في حذف على قوله:
تحن فتبدي ما بها من صبابة ... وأخفي الذي لولا الأسى لقضاني
فإنه أراد لقضي عليّ، وجوز أن يكون ذلك على إبدال أحد الدالين
بالتاء، وقيل عليه: إنه تخريج غير صحيح لأن عد يعد من باب نصر
كما في كتب اللغة فلا وجه لفتح التاء لو كانت مبدلة من الدال
فالظاهر حمله على حذف إحدى الدالين تخفيفا، وقرأ الحسن بإسكان
العين كغيره وتشديد الدال جمعا بين الساكنين فَمَتِّعُوهُنَّ
أي فأعطوهن المتعة وهي في المشهور درع أي قميص وخمار وهو ما
تغطي به المرأة رأسها وملحفة وهي ما تلتحف به من قرنها إلى
قدمها ولعلها ما يقال له إزار اليوم، وهذا على ما في البدائع
أدنى ما تكسى به المرأة وتتستر عند الخروج.
ويفهم من كلام فخر الإسلام والفاضل البر جندي أنه يعتبر عرف كل
بلدة فيما تكسى به المرأة عند الخروج، والمفتى به الأشبه
بالفقه قول الخصاف إنها تعتبر بحالهما فإن كانا غنيين فلها
الأعلى من الثياب أو فقيرين فالأدنى أو مختلفين فالوسط، وتجب
لمطلقة قبل الوطء والخلوة عند معتبرها لم يسم لها في النكاح
تسمية صحيحة من كل وجه مهر ولا تزيد على نصف مهر المثل ولا
تنقص عن خمسة دراهم فإن ساوت النصف فهي الواجبة وأن كان النصف
أقل منها فالواجب الأقل إلا أن ينقص عن خمسة دراهم فيكمل لها
الخمسة. وفي البدائع لو دفع لها قيمة المتعة أجبرت على القبول،
فمعنى الآية على ما سمعت وكان الأمر للوجوب فمتعوهن إن لم يكن
مفروضا لهن في النكاح وروي هذا عن ابن عباس، وأما المفروض لها
فيه إذا طلقت قبل المس فالواجب لها نصف المفروض لا غير.
وأما المتعة فهي على ما في المبسوط والمحيط وغيرهما من
المعتبرات مستحبة، وعلى ما في بعض نسخ القدوري ومشى عليه صاحب
الدرر غير مستحبة أيضا والأرجح أنها مستحبة، وفي قول الشافعي
القديم أنها واجبة كما في صورة عدم الفرض، وجوز أن تبقى الآية
على ظاهرها ويكون المراد ذكر حكم المطلقة قبل المس سواء فرض
لها في النكاح أم لم يفرض ويراد بالمتعة العطاء مطلقا فيعم نصف
المفروض والمتعة المعروفة في الفقه ويكون الأمر للوجوب أيضا أو
يراد بالمتعة معناها المعروف ويحمل الأمر على ما يشمل الوجوب
والندب.
وادعى سعيد بن المسيب كما أخرج عبد بن حميد أن الآية منسوخة
بآية: وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ
تَمَسُّوهُنَّ
(11/228)
يَا أَيُّهَا
النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي
آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاءَ
اللَّهُ عَلَيْكَ وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ
وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالَاتِكَ اللَّاتِي هَاجَرْنَ
مَعَكَ وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا
لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا
خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ عَلِمْنَا مَا
فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ وَمَا مَلَكَتْ
أَيْمَانُهُمْ لِكَيْلَا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ وَكَانَ
اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (50) تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ
مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ
مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكَ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ
تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلَا يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِمَا
آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي
قُلُوبِكُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَلِيمًا (51) لَا
يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ وَلَا أَنْ تَبَدَّلَ
بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلَّا
مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ
رَقِيبًا (52) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا
بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ
غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ
فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلَا
مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي
النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللَّهُ لَا يَسْتَحْيِي
مِنَ الْحَقِّ وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا
فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ
لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ
تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلَا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ
مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ
عَظِيمًا (53) إِنْ تُبْدُوا شَيْئًا أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ
اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا (54)
وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً
فَنِصْفُ ما فَرَضْتُمْ
[البقرة: 237] قال: فصار لها نصف الصداق ولا متاع لها، وأنكر
الحسن وأبو العالية النسخ وقالا لها نصف الصداق ولها المتاع.
وجاء في رواية أخرى أخرجها عبد بن حميد عن الحسن أيضا أن لكل
مطلقة متاعا دخل بها أم لم يدخل بها فرض لها أو لم يفرض
، وظاهره دعوى الوجوب في الكل وهو خلاف ما عندنا، وقد علمت
الحكم في صورتين وهو في الصورتين الباقيتين الاستحباب، وأما
دعوى النسخ فلا يخفى ما فيها، والظاهر أن الفاء لتفريع ما
بعدها على ما قبلها، وقيل: فصيحة أي إذا كان كما ذكر فمتعوهن
وَسَرِّحُوهُنَّ أي أخرجوهن من منازلكم إذ ليس لكم عليهن عدة
وأصل التسريح أن ترعى الإبل السرح وهو شجر له ثمرة ثم جعل لكم
إرسال في الرعي ثم لكل إرسال وإخراج سَراحاً جَمِيلًا مشتملا
على كلام طيب عاريا عن أذى ومنع واجب، وقيل: السراح الجميل أن
لا يطالبوهن بما آتوهن، وقال الجبائي: هو الطلاق السني، وليس
بشيء لأن ذاك لعطفه على التمتيع الواقع بعد الفاء مرتب على
الطلاق فيلزم ترتب الطلاق السني على الطلاق والضمير لغير
المدخول بهن فلا يمكن أن يكون ذلك طلاقا مرتبا على الطلاق
الأول لأن غير المدخول بهن لا يتصور فيها لحوق طلاق بعد طلاق
آخر مع أنها إذا طلقت بانت.
يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ
اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ أي مهورهن كما قال مجاهد،
وغيره وأطلق الأجر على المهر لأنه أجر على الاستمتاع بالبضع
وغيره مما يجوز به الاستمتاع وتقييد الإحلال له بإعطائها معجله
كما يفهم من معنى آتَيْتَ ظاهرا ليس لتوقف الحل عليه بل لإيثار
الأفضل له صلّى الله عليه وسلم فإن في التعجيل براءة الذمة
(11/229)
وطيب النفس ولذا كان سنّة السلف لا يعرف
منهم غيره، وقال الإمام: من الناس من قال بأن النبي عليه
الصلاة والسلام كان يجب عليه إعطاء المهر أولا وذلك لأن المرأة
لها الامتناع من تسليم نفسها إلى أن تأخذ المهر والنبي صلّى
الله عليه وسلم ما كان يستوفي ما لا يجب له والوطء قبل إيتاء
الصداق غير مستحق وإن كان حلالا وكيف والنبي عليه الصلاة
والسلام إذا طلب شيئا حرم الامتناع فلو طلب التمكين قبل إيتاء
المهر لزم أن يجب وأن لا يجب وهو محال ولا كذلك أحدنا اهـ وفيه
بحث لا يخفى، وحمل الإيتاء على الإعطاء وما في حكمه كالتسمية
في العقد، وجعل التقييد لإيثار الأفضل أيضا فإن التسمية أولى
من تركها وإن جاز العقد بدونها ولزم مهر المثل خلاف الظاهر.
واستدل أبو الحسن الكرخي من أصحابنا بقوله تعالى: إِنَّا
أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ
على أن النكاح ينعقد بلفظ الإجارة كما ينعقد بلفظ التزويج
ويكون لفظ الإجارة مجازا عنه لأن الثابت بكل منهما ملك منفعة
فوجد المشترك ورد بأنه لا يلزم من تسمية المهر أجرا صحة النكاح
بلفظ الإجارة وما ذكر من التجوز ليس بشيء لأن الإجارة ليست
سببا لملك المنفعة حتى يتجوز بها عنه قاله في الهداية، وقال
بعضهم: إن الإجارة لا تنعقد إلا مؤقتة والنكاح يشترط فيه نفيه
فيتضادان فلا يستعار أحدهما للآخر. وتعقب بأنه إن كان
المتضادان هما العرضين اللذين لا يجتمعان في محل واحد لزمكم
مثله في البيع من كونه لا يجامع النكاح مع جواز العقد به عند
الأصحاب، على أن التحقيق أن التوقيت ليس مفهوم لفظ الإجارة ولا
جزأ منه بل شرط لاعتباره فيكون خارجا عنه فهو مجرد تمليك
المنافع بعوض غير أنه إذا وقع مجردا لا يعتبر شرعا على مثال
الصلاة فإنها الأقوال والأفعال المعروفة ولو وجدت من غير طهارة
لا تعتبر، ولا يقال: إن الطهارة جزء مفهوم الصلاة هذا ومثل
تقييد إحلال الأزواج بما ذكر على ما قيل تقييد إحلال المملوكة
بكونها ممن باشر سباءها وشاهده في قوله تعالى وَما مَلَكَتْ
يَمِينُكَ مِمَّا أَفاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ فإن المشتراة لا
يتحقق بدء أمرها وما جرى عليها لجواز كون السبي ليس في محله،
ولذا نكح بعض المتورعين الجواري بعقد بعد الشراء مع القول بعدم
صحة العقد على الإماء. واستشكل ذلك بمارية بنت شمعون القبطية
رضي الله تعالى عنها فإنها لم تكن مسبية بل أهداها له صلّى
الله عليه وسلم أمير القبط جريج بن مينا صاحب الإسكندرية ومصر
وأجيب بأن هذا غير وارد لأن هدايا أهل الحرب للإمام لها حكم
الفيء، وقد يقال: إنه يستشكل بسرية له صلّى الله عليه وسلم
أخرى وهي جارية وهبتها له عليه الصلاة والسلام زينب بنت جحش
رضي الله تعالى عنها وكان هجرها عليه الصلاة والسلام في شأن
صفية بنت حيي ذا الحجة والمحرم وصفر فلما كان شهر ربيع الأول
الذي قبض فيه رضي عنها ودخل عليها فقالت ما أدري ما أجزيك
فوهبتها له وقد عدوها من سراريه صلّى الله عليه وسلم والجواب
المذكور لا يتسنى فيها، ولعل الجواب عن ذلك أنه عليه الصلاة
والسلام تسراها بيانا للجواز ولا يبعد أنه كان متحققا بدء
أمرها وما جرى ليها بحيث كأنه باشر سبيها وشاهده، ويحتمل أنها
كانت مما أفاء الله تعالى عليه الصلاة والسلام فملكتها زينب
ببعض أسباب الملك ثم وهبتها له صلّى الله عليه وسلم.
ومع ذلك قد أطلق عليه الصلاة والسلام حل المملوكة بعد ولم يقيد
بحسب الظاهر بكونها مما أفاء الله عليه في قوله تعالى: لا
يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ وَلا أَنْ تَبَدَّلَ
بِهِنَّ مِنْ أَزْواجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلَّا
ما مَلَكَتْ يَمِينُكَ.
ثم إن هبة هذه الجارية كانت شهر وفاته صلّى الله عليه وسلم
والآية نزلت قبل لأنها نزلت أما سنّة الأحزاب وهي السنة
الخامسة من الهجرة وإما بعيد الفتح وهو السنة الثامنة منها
وعلى هذا يكون ما وقع من أمر مارية متقدما على نزول الآية
لأنها أهديت له صلّى الله عليه وسلم السنة السابعة من الهجرة
فإنه عليه الصلاة والسلام فيها أرسل رسله إلى الملوك ومنهم
حاطب بن أبي بلتعة اللخمي أرسله إلى المقوقس أمير القبط
المتقدم ذكره فقدم منه بمارية وبأختها شيرين وبأخ أو بابن عم
لها خصي يقال له مابور وببغلة تسمى دلدلا وبحمار يسمى يعفورا
أو عفيرا وبألف مثقال ذهبا وبغير ذلك فتدبر، ومثل ما ذكر على
ما قيل تقييد القرائب بكونها مهاجرات معه صلّى الله عليه وسلم
في قوله سبحانه:
(11/230)
وَبَناتِ عَمِّكَ وَبَناتِ عَمَّاتِكَ
وَبَناتِ خالِكَ وَبَناتِ خالاتِكَ اللَّاتِي هاجَرْنَ مَعَكَ
فهن أفضل من غيرهن، والمعية للتشريك في الهجرة لا للمقارنة في
الزمان كأسلمت مع سليمان، قال أبو حيان: يقال دخل فلان معي
وخرج معي أي كان عمله كعملي وإن لم يقترنا في الزمان، ولو قلت:
خرجنا معا اقتضى المعنيين الاشتراك في الفعل والاقتران في
الزمان وهو كلام حسن، وحكى الماوردي قولا بأن الهجرة شرط في
إحلال الأزواج على الإطلاق وهو ضعيف جدا. وقولا آخر بأنها شرط
في إحلال قراباته عليه الصلاة والسلام المذكورات واستدل له بما
أخرجه ابن سعد وعبد بن حميد والترمذي وحسنه وابن جرير وابن أبي
حاتم والطبراني والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي عن أم
هانىء فاختة بنت أبي طالب قالت: «خطبني رسول الله صلّى الله
عليه وسلم فاعتذرت إليه فعذرني فأنزل الله تعالى: يا أَيُّهَا
النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ إلى قوله
سبحانه: هاجَرْنَ مَعَكَ قالت فلم أكن أحل له لأني لم أهاجر
معه كنت من الطلقاء»
وأجيب بأن عدم الحل لفقد الهجرة إنما فهم من قول أم هانىء
فلعلها إنما قالت ذلك حسب فهمها إياه من الآية وهو لا ينتهض
حجة علينا إلا إذا جاءت به رواية عن النبي صلّى الله عليه
وسلم، لا يقال: إنه
أخرج ابن سعد عن أبي صالح مولى أم هانىء قال: «خطب رسول الله
صلّى الله عليه وسلم أم هانىء بنت أبي طالب فقالت: يا رسول
الله إني مؤتمة وبني صغار فلما أدرك بنوها عرضت نفسها عليه
عليه الصلاة والسلام فقال: أما الآن فلا إن الله تعالى أنزل
علي يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ
أَزْواجَكَ- إلى- اللَّاتِي هاجَرْنَ مَعَكَ
ولم تكن من المهاجرات وهو يدل على أنه نفسه صلّى الله عليه
وسلم فهم الحرمة وإلا لتزوجها لأنا نقول بعد تسليم صحة الخبر:
لا نسلم أنه صلّى الله عليه وسلم فهم الحرمة وعدم التزوج يجوز
أن يكون لكونه خلاف الأفضل، ويدل خبر أم هانىء على أن هذه
الآية نزلت بعد الفتح فلا تغفل. وادعى بعضهم أن تحريم نكاح غير
المهاجرة عليه صلّى الله عليه وسلم كان أولا ثم نسخ، وعن قتادة
أن معنى هاجَرْنَ مَعَكَ أسلمن معك، قيل: وعلى هذا لا يحرم
عليه عليه الصلاة والسلام إلا الكافرات وهو في غاية البعد كما
لا يخفى، والظاهر أن المراد بأزواجك اللاتي آتيت مهورهن نساؤه
صلّى الله عليه وسلم اللاتي كن في عصمته وقد آتاهن مهورهن
كعائشة وحفصة وسودة وبما ملكت يمينك مما أفاء الله عليك نحو
ريحانة بناء على ما قاله محمد بن إسحاق أنه صلّى الله عليه
وسلم لما فتح قريظة اصطفاها لنفسه فكانت عنده حتى توفيت عنده
وهي في ملكه ووافقه في ذلك غيره
أخرج الواقدي بسنده إلى أيوب بن بشير قال: إنه عليه الصلاة
والسلام أرسل بها إلى بيت سلمى بنت قيس أم المنذر فكانت عندها
حتى حاضت حيضة ثم طهرت من حيضها فجاءت أم المنذر فأخبرته صلّى
الله عليه وسلم فجاءها في منزل أم المنذر فقال لها: إن أحببت
أن أعتقتك وأتزوجك فعلت وإن أحببت أن تكوني في ملكي أطؤك
بالملك فعلت فقالت: يا رسول الله أحب أن أخف عليك وأن أكون في
ملكك فكانت في ملك رسول الله صلّى الله عليه وسلم يطؤها حتى
ماتت
. وذهب بعضهم إلى أنه عليه الصلاة والسلام أعتقها وتزوجها،
وأخرج ذلك الواقدي أيضا عن ابن أبي ذئب عن الزهري ثم قال: وهذا
الحديث أثبت عندنا: وروي عنها أنها قالت: لما سبيت بنو قريظة
عرض السبي على رسول الله صلّى الله عليه وسلم فكنت فيمن عرض
عليه فأمر بي عزلت وكان له صفي كل غنيمة فلما عزلت خار الله
تعالى لي فأرسل بي إلى منزل أم المنذر بنت قيس أياما حتى قتل
الأسرى وفرق السبي فدخل علي صلّى الله عليه وسلم فتجنبت منه
حياء فدعاني فأجلسني بين يديه فقال: إن اخترت الله ورسوله
اختارك رسول الله لنفسه فقلت: إني اختار الله تعالى ورسوله
فلما أسلمت أعتقني رسول الله صلّى الله عليه وسلم وتزوجني
وأصدقني اثنتي عشرة أوقية ذهبا كما كان يصدق نساءه وأعرس بي في
بيت أم المنذر وكان يقسم لي كما يقسم لنسائه وضرب علي الحجاب،
ولم يذكر ابن الأثير غير القول بإعتاقها وتزوجها ومنهم من ذهب
إلى أنها أسلمت فأعتقها عليه الصلاة والسلام فلحقت بأهلها
وكانت تحتجب عندهم وتقول: لا يراني أحد بعد رسول الله صلّى
الله عليه وسلم وحكي لحوقها بأهلها عن الزهري وادعى بعضهم
بقاءها حية بعده عليه الصلاة والسلام وأنها توفيت سنة ست عشرة
أيام خلافة عمر رضي الله تعالى عنه. وذكر ابن كمال في
(11/231)
تفسيره لبيان الموصول صفية وجويرية.
والمذكور في أكثر المعتبرات في أمرهما أن صفية لما جمع سبي
خيبر أخذها دحية
وقد قال له صلّى الله عليه وسلم: اذهب فخذ جارية ثم أخبر عليه
الصلاة والسلام أنها لا تصلح إلا له لكونها بنت سيد قومه فقال
لدحية: خذ غيرها
وأخذها رسول الله صلّى الله عليه وسلم وأعتقها وتزوجها وكان
صداقها نفسها،
وأن جويرية في غزوة بني المصطلق وقعت في سهم ثابت بن قيس بن
شماس الأنصاري فكاتبته على نفسها ثم جاءت إلى رسول الله صلّى
الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله أنا جويرية بنت الحارث
وكان من أمري ما لا يخفى عليك ووقعت في سهم ثابت بن قيس وإني
كاتبت نفسي فجئت أسألك في كتابتي فقال عليه الصلاة والسلام فهل
لك إلى ما هو خير: قالت؟ وما هو يا رسول الله؟ قال:
أؤدي عنك كتابتك وأتزوجك قالت: قد فعلت، وقال ابن هشام ويقال
اشتراها صلّى الله عليه وسلم من ثابت وأعتقها وتزوجها وأصدقها
أربعمائة درهم
، ولا يخفى عليك أنه إذا كان المراد إحلال ما ملكت يمينه صلّى
الله عليه وسلم حين الملك من حيث إنه ملك له وإن لم يحصل وطء
بالفعل يدخل جميع ما ملكه عليه الصلاة والسلام من الجواري حين
الملك ولا يضر الإعتاق والتزوج بعد ذلك وحل الوطء بسبب النكاح
لا الملك وإن كان المراد إحلال ذلك مع وقوع الوطء بالفعل ووصف
الملك قائم لا يصح بيان الموصول إلا بمملوكة وطئها عليه الصلاة
والسلام وهي ملكه كريحانة في قول وجارية أصابها في بعض السبي
وعدوها من سراريه صلّى الله عليه وسلم ولم يذكر المعظم اسمها
وعد الجلبي من سراريه عليه الصلاة والسلام جارية سماها زليخة
القرظية فلعلها هي التي لم تسم وكمارية القبطية والجارية التي
وهبتها له عليه الصلاة والسلام زينب، وقد سمعت الكلام فيهما
آنفا والمراد ببنات عمه وبنات عماته بنات القرشيين وبنات
القرشيات فإنه يقال للقرشيين قربوا أو بعدوا أعمامه صلّى الله
عليه وسلم وللقرشيات قربن أو بعدن عماته عليه الصلاة والسلام،
والمراد ببنات خاله وبنات خالاته بنات بني زهرة ذكورهم وإناثهم
وإلى هذا ذهب الطبرسي في مجمع البيان ولم يذكر غيره، وإطلاق
الأعمام والعمات على أقارب الشخص من جهة أبيه ذكورا وإناثا
قربوا أو بعدوا والأخوال والخالات على أقاربه من جهة أمه كذلك
شائع في العرف كثير في الاستعمال.
واللاتي نكحهن ودخل بهن صلّى الله عليه وسلم من القرشيات ست
وكان نكاحه بعضهن قبل نزول الآية بيقين ونكاحه بعضهن الآخر
محتمل للقبلية والبعدية كما لا يخفى على من راجع كتب السير
وسمع ما قيل في وقت نزول الآية، ولم نقف على أنه عليه الصلاة
والسلام نكح أحدا من الزهريات أصلا فالمراد بإحلال نكاح أولئك
مجرد جوازه وهو لا يستدعي الوقوع، وإذا حمل العم على أخي الأب
والعمة على أخته والخال على أخي الأم والخالة على أختها اقتضى
ظاهر الآية أن يكون له صلّى الله عليه وسلم عم وعمة وخال وخالة
كذلك وأن يكون لهم بنات وذلك مشهور في شأن العم والعمة
وبناتهما فقد ذكر معظم أهل السير عدة أعمام له صلّى الله عليه
وسلم وعدة بنات لهم كالعباس ومن بناته أم حبيبة تزوجها أسود
المخزومي وكان قد خطبها رسول الله صلّى الله عليه وسلم على ما
قيل فوجد أباها أخاه من الرضاعة كان قد أرضعتهما ثويبة مولاة
أبي لهب، وكأبي طالب ومن بناته أم هانىء وقد سمعت ما قيل في
شأنها وجمانة كانت إحدى المبايعات له صلّى الله عليه وسلم
وكانت تحت أبي سفيان بن الحارث عمها، وكأبي لهب ومن بناته
خالدة تزوجها عثمان بن أبي العاصي الثقفي وولدت له، ودرة أسلمت
وهاجرت وكانت تحت الحارث بن نوفل ثم تحت دحية الكلبي، وعزة
تزوجها أوفى بن أمية، وكالزبير ومن بناته ضباعة زوجة المقداد
بن الأسود وأم الحكم ويقال إنها أخته عليه الصلاة والسلام من
الرضاعة وكان يزورها بالمدينة وكحمزة ومن بناته أمامة لما قدم
رسول الله صلّى الله عليه وسلم من عمرة القضاء أتى بها من مكة
وزوجها سلمة بن أم سلمة ومقتضى قول القسطلاني أن حمزة أخوه
صلّى الله عليه وسلم من الرضاعة أرضعتهما ثويبة بلبن ابنها
مسروح أنها لا تحل له عليه الصلاة والسلام بل ذكر هو أيضا أنها
عرضت عليه فقال هي ابنة أخي من الرضاعة وكالحارث ومن بناته
(11/232)
أروى زوجة أبي وداعة وكالمقوم ومن بناته من
اسمها أروى أيضا زوجة ابن عمها أبي سفيان بن الحارث وذكروا
أيضا له صلّى الله عليه وسلم عدة عمات وعدة بنات لهن، منهن
أميمة ومن بناتها زينب أم المؤمنين وهي التي نزل فيها قوله
تعالى: فَلَمَّا قَضى زَيْدٌ مِنْها وَطَراً زَوَّجْناكَها
[الأحزاب: 37] وأم حبيبة وكانت زوجة عبد الرحمن بن عوف، وحمنة
وكانت عند مصعب بن عمير ثم عند طلحة أحد العشرة، ومنهن البيضاء
ومن بناتها أروى أم عثمان رضي الله تعالى عنه وأم طلحة بنتا
كريز بن ربيعة، ومنهن عاتكة ومن بناتها قريبة بنت زاد الراكب
أبي أمية بن المغيرة، ومنهن صفية ومن بناتها صفية بنت الحارث
بن حارثة وأم حبيبة بنت العوام بن خويلد، وأما الخال والخالة
فلم يشتهر ذكرهما، نعم
ذكر في الإصابة فريعة بنت وهب الزهرية رفعها النبي صلّى الله
عليه وسلم وقال: من أراد أن ينظر إلى خالة رسول الله صلّى الله
عليه وسلم فلينظر إلى هذه،
وفيها أيضا فاختة بنت عمرو الزهرية خالة النبي صلّى الله عليه
وسلم.
أخرج الطبراني من طريق عبد الرحمن بن عثمان الوقاصي عن ابن
المنكدر عن جابر سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول:
وهبت خالتي فاختة بنت عمرو غلاما وأمرتها أن لا تجعله جازرا
ولا صائغا ولا حجاما
، والوقاصي ضعيف.
وقال: في صفية بنت عبد المطلب هي شقيقة حمزة أمهما هالة خالة
رسول الله صلّى الله عليه وسلم أي هالة بنت وهب كما في المواهب
ولم نقف لهذه الخالة على بنت غير صفية عمته عليه الصلاة
والسلام، وكذا لم نقف على بنات لمن ذكرنا قبلها، ووقفنا على
خال واحد له عليه الصلاة والسلام وهو عبد يغوث بن وهب ولم نقف
على بنت له وإنما وقفنا على ابنين أحدهما الأرقم وله ابن يسمى
عبد الله وهو صحابي كتب لرسول الله صلّى الله عليه وسلم
ولصاحبيه وكان على بيت المال في خلافة عمر رضي الله تعالى عنه
وكان أثيرا عنده حتى أن حفصة روت عنه أنه قال لها: لولا أن
ينكر على قومك لاستخلفت عبد الله بن الأرقم، وقيل: هو ابن عبد
يغوث والأرقم هو عبد يغوث، والبخاري على ما قلنا وقد أسلم يوم
الفتح، وقال بعضهم فيه: خال رسول الله صلّى الله عليه وسلم ومن
الناس من ذكر لعبد الله هذا أخا سماه عبد الرحمن بن الأرقم
وأثبت له الصحبة وفي ذلك مقال، وثانيهما الأسود وأطلق عليه
النبي عليه الصلاة والسلام اسم الخال،
فقد روي أنه كان أحد المستهزئين به صلّى الله عليه وسلم فقصد
جبريل عليه السّلام إهلاكه فقال صلّى الله عليه وسلم: يا جبريل
خالي فقال: دعه عنك
، وله ابن هو عبد الرحمن وبنت هي خالدة وكانت من المهاجرات
الصالحات وقد أطلق عليها أيضا اسم الخالة.
أخرج المستغفري من طريق أبي عمير الجرمي عن معمر عن الزهري عن
عبيد الله مرسلا قال: دخل النبي صلّى الله عليه وسلم منزله
فرأى عند عائشة امرأة فقال: من هذه يا عائشة قالت: هذه إحدى
خالاتك فقال: إن خالاتي بهذه البلدة لغرائب فقالت: هذه خالدة
بنت الأسود بن عبد يغوث فقال: سبحان الذي يخرج الحي من الميت
قرأها مثقلة.
وأخرج موسى بن إبراهيم عن أبيه عن أبي سلمة عن عائشة موصولا
نحوه
، وفي هذا الخبر وما قبله إطلاق الخال والخالة على قرابة الأم
وإن لم يكن الخال أخاها والخالة أختها، وبذلك يتأيد ما ذكرناه
سابقا فاحفظ ذاك والله تعالى يتولى هداك، وإياك أن تظن الأمر
فرضيا أو أن الخطاب وإن كان خاصا في الظاهر عام في الحقيقة
فيكفي وجود بنات خال وبنات خالات لغيره عليه الصلاة والسلام
كما يظن ذلك من يشهد العم بجهله ويصدق الخال بقلة عقله، هذا
وقد كثر السؤال عن حكمة أفراد العم والخال وجمع العمة والخالة
حتى أن السبكي على ما قيل صنف جزءا فيه سماه الهمة في أفراد
العم وجمع العمة.
قال الخفاجي: وقد رأيت لهم فيه كلمات ضعيفة كقول الرازي إن
العم والخال على زنة المصدر ولذا لم يجمعا بخلاف العمة
والخالة، وقيل لم يجمعا ليعما إذا أضيفا، والعمة والخالة لا
يعمان لتاء الوحدة وهي إن لم تمنع العموم حقيقة تأباه ظاهرا،
ولا يأبى ذلك قوله تعالى في سورة: بُيُوتِ أَعْمامِكُمْ أَوْ
بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ [النور: 61] لأنه
(11/233)
على الأصل، ثم قال: وأحسن منه ما قيل إن
أعمامه صلّى الله عليه وسلم العباس وحمزة رضي الله تعالى عنهما
أخواه من الرضاع لا تحل له بناتهما، وأبو طالب ابنته أم هانىء
لم تكن مهاجرة اهـ، وما ادعى ضعفه فهو كما قال وما زعم أنه
أحسن منه إن كان كما نقلناه بهذا المقدار خاليا عن إسقاط شيء
حسبما وجدناه في نسختنا فهو مما لا حسن فيه فضلا عن كونه أحسن،
وإن كان له تتمة فالنظر فيه بعد الاطلاع عليها إليك وأظنه على
العلات ليس بشيء.
وقال بعض الأجلة المعاصرين من العلماء المحققين لا زال سعيد
زمانه سابقا بالفضل على أقرانه: يحتمل أن يكون إفراد العم لأنه
بمنزلة الأب بل قد يطلق عليه الأب ومنه في قول: وَإِذْ قالَ
إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ [الأنعام: 74] والأب لا يكون إلا
واحدا فكان الافراد أنسب بمن ينزل منزلته ويكون جمع العمة على
الأصل وإفراد الخال ليكون على وفق العم وجمع الخالة وإن كانت
بمنزلة الأم لتكون على وفق العمات، ويحتمل أن يكون إفراد
المذكر وجمع المؤنث لقلة الذكور وكثرة الإناث، وقد ورد في
الآثار ما يدل على أن النساء أكثر من الرجال.
وقال آخر من أولئك الأجلة لا زالت مدارس العلم تزهو به وتشكر
فضله: إن ذلك لما فيه من الحسن اللفظي فإن بين العم والعمات
والخال والخالات نوعا من الجناس ولأن أعمامه عليه الصلاة
والسلام كانوا على ما ذكره صاحب ذخائر العقبى اثني عشر عما
وعماته كن ستا فلو قيل أعمامك لتوهم أنهم أقل من اثني عشر لأنه
جمع قلة وغاية ما يصدق هو عليه تسعة أو عشرة على قول ولو قيل:
عمتك لم تتحقق الإشارة إلى قلتهن فلذا أفرد العم وجمعت العمة
وقيل: خالك وخالاتك ليوافق ما قبل، وأنا أقول: الذي يغلب على
ظني في ذلك ما حكاه أبو حيان عن القاضي أبي بكر بن العربي من
أن ما ذكر عرف لغوي على معنى أنه جرى عرف اللغويين في مثل ذلك
على إفراد العم والخال وجمع العمة والخالة، ونحن قد تتبعنا
كثيرا من أشعار العرب فلم نر العم مضافا إليه ابن أو بنت
بالإفراد أو الجمع إلا مفردا نحو قوله:
جاء شقيق عارضا رمحه ... إن بني عمك فيهم رماح
وقوله:
فتى ليس لابن العم كالذئب إن رأى ... بصاحبه يوما دما فهو آكله
وقوله:
قالت بنات العم يا سلمى وإن ... كان فقيرا معدما قالت وإن
وقوله:
يا بنت عما لا تلومي واهجعي ... فليس يخلو عنك يوما مضجعي
إلى ما لا يحصى كثرة، وأما اطراد إفراد الخال وجمع العمة
والخالة إذا أضيف إليها ما ذكر فلست على ثقة من أمره، فإذا كان
الأمر في المذكورات كالأمر في العم فليس فوق هذا الجواب جواب،
والظن بالقاضي أنه لم يحكم بما حكم إلا عن بينة مع أني لا أطلق
القول بعدم قبول حكم القاضي بعلمه ولا أفتي به، نعم لهذا
القاضي حكم مشهور في أمر الحسين رضي الله تعالى عنه ولعن من
رضي بقتله لا يرتضيه إلا يزيد زاد الله عزّ وجلّ عليه عذابه
الشديد، وعلى تقدير كون الأمر في العم ومن معه كما قال يحتمل
أن يكون الداعي لإفراد العم والخال الرجوع إلى أصل واحد مع ما
بين الذكور من جهة العمومة والخئولة في حق الشخص المدلى بهما
من التناصر والتساعد فلذلك ترى الشخص يهرع لدفع بليته إلى ذكور
عمومته وخؤولته، وذلك التعاضد يجعل المتعدد في حكم الواحد،
ويقوي هذا الاعتبار هنالك
(11/234)
إضافة الفرع كالبنين والبنات إلى ذلك، ولعل
في الإفراد مع جمع المضاف المذكور إشارة إلى أن البنين والبنات
وإن كانوا بنين وبنات لمتعددين في نفس الأمر إلا أنهم في حكم
البنين والبنات لواحد وأن كل واحد من الأعمام والأخوال لمزيد
شفقته على أبناء وبنات كل كأنه أب لأبناء وبنات كل، وهذا الذي
ذكرناه لا يوجد في العمات والخالات. ولا يرد عليه جمع العم
والخال في آية النور كما لا يخفى على من له أدنى نور يهتدي به
إذا أشكلت الأمور، ويمكن أن يقال في الحكمة هاهنا خاصة: إنه
لما كان المفرد أصلا والمجموع فرعه والمذكر أصلا والمؤنث فرعه
أتى بالعم والخال المذكرين مفردين وبالعمة والخالة المؤنثين
مجموعين فاجتمع في الأولين أصلان وفي الأخيرين فرعان بحكم شبيه
الشيء منجذب إليه وإن الطيور على أشباهها تقع، وما ألطف هذا
الاجتماع في منصة مقام النكاح لما فيه من الإشارة إلى الكفاءة
وأن المناسب ضم الجنس إلى جنسه كما يقتضيه بعض الآيات وهو
لعمري ألطف من جمع المذكر وإفراد المؤنث ليجتمع في كل أصل وفرع
فيوافق ما في النكاح من اجتماع ذكر هو أصل وأنثى هي فرع لخلوه
عن الإشارة إلى ذلك الضم المناسب المستحسن عند كل ذي رأي صائب
على أن في جمع أصلين في العم موافقة لما في النكاح من جمع
الزوجين الذين هما أصلان لما يتولد منهما وإذا اعتبر جمعهما في
الخال الذي قرابته من جهة الأم التي لا تعتبر في النسب وافق
الجملة ما في النكاح من اجتماع أصل وفرع فلا يفوت ذلك بالكلية
على ما في النظم الجليل.
وأيضا في الانتقال من الإفراد إلى الجمع في جانبي العمومة
والخئولة إشارة إلى ما في النكاح من انتقال كل من الزوج
والزوجة من حال الانفراد إلى حال الاجتماع فلله تعالى در
التنزيل، هذا ما عندي وهو زهرة ربيع لا تحمل الفرك ومع هذا قسه
إلى ما سمعت عن ساداتنا المعاصرين واختر لنفسك ما يحلو والله
تعالى أعلم بأسرار كتابه.
وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً بالنصب عطفا على مفعول أحللنا عند جمع
وليس معنى أَحْلَلْنا إنشاء لاحلال الناجز ولا الاخبار عن
إحلال ماض بل إعلام بمطلق الإحلال المنتظم لما سبق ولحق فلا
يعكر على ذلك الشرط وهذا كما تقول أبحت لك أن تكلم فلانا إن
سلم عليك، ولما فيه من البحث قال بعضهم: إنه نصب بفعل يفسره ما
قبل أي ويحل لك امرأة أو وأحللنا لك امرأة وهو مستقبل لمكان
الشرط. وقرأ أبو حيوة بالرفع على أنه مبتدأ والخبر محذوف أي
وامرأة مؤمنة أحللناها لك أيضا إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَها
لِلنَّبِيِّ أي ملكته المتعة بها بأي عبارة كانت بلا مهر.
وقرأ أبي والحسن والشعبي وعيسى وسلام «أن وهبت» بفتح الهمزة أي
لأن وهبت وقيل: أي وقت أن وهبت أو مدة أن وهبت فتكون أن وما
بعدها في تأويل مصدر منصوب على الظرفية، وأكثر النحاة لا
يجيزونه في غير المصدر الصريح كآتيك خفوق النجم وغير ما
المصدرية، وجوز أن يكون المصدر بدلا من امْرَأَةً وقرأ زيد بن
علي رضي الله تعالى عنهما «إذ وهبت» وإذ ظرف لما مضى وقيل: هي
مثلها في قوله تعالى: وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ
ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ [الزخرف:
39] إِنْ أَرادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَها أي يتملك
المتعة بها بأي عبارة كانت بلا مهر وهذا شرط للشرط الأول في
استيجاب الحل فهبتها نفسها منه صلّى الله عليه وسلم لا يوجب له
حلها إلا بإرادته نكاحها وهذه الإرادة جارية مجرى قبول الهبة،
وقال ابن كمال: الإرادة المذكورة عبارة عن القبول ولا وجه
لحملها على الحقيقة لأن قوله تعالى: يَسْتَنْكِحَها يغني عن
الإرادة بمعناه الوضعي وهو يشير إلى أن السين للطلب، وكلام بعض
الأجلة على هذا حيث قال: إرادة طلب النكاح كناية عن القبول.
وقيل: استفعل هنا بمعنى فعل فالاستنكاح بمعنى النكاح لئلا
يتوهم التكرار وفيه نظر، واستظهر صاحب هذا القيل حمل الإرادة
على الإرادة المتقدمة على الهبة بناء على أن التركيب يقتضي
تقدم هذا الشرط فقد قالوا: إذا اجتمع
(11/235)
شرطان فالثاني شرط في الأول متأخر في اللفظ
متقدم في الوقوع وهو بمنزلة الحال، ومن هنا قال الفقهاء: لو
قال: إن ركبت إن أكلت فأنت طالق لا تطلق ما لم يتقدم الآكل على
الركوب ليتحقق تقييد الحالية.
واستشكل السمين هذه القاعدة بما هنا بناء على أنهم جعلوا ذلك
الشرط بمنزلة القبول لاقتضاء الواقع ذلك، ثم ذكر أنه عرضه على
علماء عصره فلم يجدوا مخلصا منه إلا بأن هذه القاعدة ليست
بكلية بل مخصوصة بما لم تقم قرينة على تأخر الثاني كما في نحو
إن تزوجتك إن طلقتك فعبدي حرّ فإن الطلاق لا يتقدم التزوج وما
نحن فيه من هذا القبيل ثم قال: فمن جعل الشرط الثاني هنا مقدما
لم يصب ورأيت في الفن السابع من الأشباه والنظائر النحوية
للجلال السيوطي عليه الرحمة كلاما لابن هشام ذكر فيه أن جعل
الآية كالمثال ونظمهما في سلك مسألة اعتراض الشرط على الشرط هو
ما ذهب إليه جماعة منهم ابن مالك وذهب هو إلى أن المثال من
مسألة الاعتراض المذكور دون الآية واحتج عليه بما احتج، ثم ذكر
الخلاف في صحة تركيب ما وقع فيه الاعتراض كالمثال وأن الجمهور
على جوازه وهو الصحيح وأن المجيزين اختلفوا في تحقيق ما يقع به
مضمون الجواب الواقع بعد الشرطين على ثلاثة مذاهب، أحدهما أنه
إنما يقع بمجموع أمرين، أحدهما حصول كل من الشرطين، والآخر كون
الشرط الثاني واقعا قبل وقوع الأول ففي المثال لا يقع الطلاق
إلا بوقوع الركوب والأكل من تقدم وقوع الأكل على الركوب، وذكر
أن هذا مذهب الجمهور. وثانيها أنه يقع بحصول الشرطين مطلقا
وذكر أنه حكاه له بعض العلماء عن إمام الحرمين وأنه رآه محكيا
عن غيره بعد. وثالثها أنه يقع بوقوع الشرطين على الترتيب فإنما
تطلق في المثال إذا ركبت أولا ثم أكلت وأبطل كلا من المذهبين
الأخيرين وذكر في توجيه التركيب على المذهب الأول مذهبين.
الأول مذهب الجمهور أن الجواب المذكور للشرط الأول وجواب
الثاني محذوف لدلالة الأول وجوابه عليه ولإغناء ذلك عنه وقيامه
مقامه لزم في وقوع المعلق على ذلك أن يكون الثاني واقعا قبل
الأول ضرورة أن الجواب لا بدّ من تأخره عن الشرط فكذا الأمر في
القائم مقام الشرط، والثاني مذهب ابن مالك أن الجواب المذكور
للأول والثاني لا جواب له لا مذكور ولا مقدر لأنه مقيد للأول
تقييده بحال واقعة موقعه فالمعنى في المثال إن ركبت آكلة فأنت
طالق، وفيه أنه خارج عن القياس وأنه لا يطرد في إن قمت إن قعدت
فأنت طالق وأن الشرط بعيد عن مذهب الحال لمكان الاستقبال.
وبالجملة قد أطال الكلام في هذه المسألة وهي مسألة شهيرة ذكرها
الأصوليون وغيرهم وفيما ذكرنا فيها اكتفاء بأقل اللازم هاهنا
فتأمل.
وأكثر العلماء على وقوع الهبة واختلفوا في تعيين الواهبة فعن
ابن عباس وقتادة وعكرمة هي ميمونة بنت الحارث الهلالية، وفي
المواهب يقال: إن ميمونة وهبت نفسها للنبي صلّى الله عليه وسلم
وذلك أن خطبته عليه الصلاة والسلام انتهت إليها وهي على بعيرها
فقالت: البعير وما عليه لله ولرسوله صلّى الله عليه وسلم وكان
ذلك سنة سبع بعد غزوة خيبر وبنى عليها عليه الصلاة والسلام
بسرف على عشرة أميال من مكة، وعليه تكون إرادة النكاح سابقة
على الهبة فيضعف به قول السمين: وعن علي بن الحسين رضي الله
تعالى عنهما والضحاك ومقاتل هي أم شريك غزية بنت جابر بن حكيم
الدوسية، قال في الصفوة: والأكثرون على أنها هي التي وهبت
نفسها للنبي صلّى الله عليه وسلم فلم يقبلها فلم تتزوج حتى
ماتت. وفي الدر المنثور عن منير بن عبد الله الدوسي أنه عليه
الصلاة والسلام قبلها، وعن عروة والشعبي هي زينب بنت خزيمة من
الأنصار كانت تدعى في الجاهلية أم المساكين لإطعامها إياهم
وكان ذلك في سنة ثلاث ولم تلبث عنده صلّى الله عليه وسلم إلا
قليلا حتى توفيت رضي الله تعالى عنها.
وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي في السنن عن عائشة
رضي الله تعالى عنها قالت: التي وهبت نفسها
(11/236)
للنبي صلّى الله عليه وسلم خولة بنت حكيم
وقد أرجأها عليه الصلاة والسلام فتزوجها عثمان بن مظعون بإذنه
صلّى الله عليه وسلم وقال بعضهم:
يجوز تعدد الواهبات فقد أخرج الشيخان وغيرهما عن عروة بن
الزبير قال: كانت خولة بنت حكيم من اللاتي وهبن أنفسهن للنبي
صلّى الله عليه وسلم فقالت عائشة: أما تستحي المرأة أن تهب
نفسها للرجل فلما نزلت: تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنَّ قالت
عائشة: يا رسول الله ما أرى ربك إلا يسارع لك في هواك فقوله:
من اللاتي وهبن أنفسهن صريح في تعددهن، وأنكر بعضهم وقوع الهبة
وقيل: إن قوله تعالى: إِنْ وَهَبَتْ يشير إلى عدم وقوعها وأنها
أمر مفروض وكذا تنكير امْرَأَةً فالمراد الإعلام بالإحلال في
هذه الصورة إن اتفقت وأنكر بعضهم القبول.
أخرج ابن سعد عن ابن أبي عون أن ليلى بنت الحطيم وهبت نفسها
للنبي صلّى الله عليه وسلم ووهبن نساء أنفسهن فلم نسمع أن
النبي صلّى الله عليه وسلم قبل منهن أحدا، وما أخرجه ابن جرير
وابن أبي حاتم والطبراني وابن مردويه والبيهقي في السنن عن ابن
عباس قال: لم يكن عند رسول الله صلّى الله عليه وسلم امرأة
وهبت نفسها له يحتمل نفي القبول ويحتمل نفي الهبة، وإيراده
صلّى الله عليه وسلم في الموضعين بعنوان النبوة بطريق الالتفات
للتكرمة والإيذان بأنها المناط لثبوت الحكم فيختص به عليه
الصلاة والسلام حسب اختصاصها به كما ينطق به قوله تعالى:
خالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ ويتضمن ذلك الإشارة
إلى أن هبة من تهب لم تكن حرصا على الرجال وقضاء الوطر بل على
الفوز بشرف خدمته صلّى الله عليه وسلم والنزول في معدن الفضل،
وبذلك يعلم أن قول عائشة: ما في امرأة وهبت نفسها لرجل خير
وكذا اعتراضها السابق صادر من شدة غيرتها رضي الله تعالى عنها
على رسول الله صلّى الله عليه وسلم ولا بدع فالمحب غيور وقد
قال بعض المحبين:
أغار إذا آنست في الحي أنة ... حذارا وخوفا أن تكون لحبه
ونصب خالِصَةً على أنه مصدر مؤكد للجملة قبله، وفاعله في
المصادر على ما قال الزمخشري غير حريز كالعافية والكاذبة،
وادعى أبو حيان عزتها، والكثير على تعلق ذلك بإحلال الواهبة أي
خلص لك إحلالها خالصة أي خلوصا، وقال الزجاج: هو حال من
امْرَأَةً لتخصصها بالوصف أي أحللناها خالصة لك لا تحل لأحد
غيرك في الدنيا والآخرة.
وقال أبو البقاء: هو حال من ضمير وَهَبَتْ أو صفة لمصدر محذوف
أي هبة خالصة. وقرئ بالرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف أي ذاك
خلوص لك وخصوص أو هي أي تلك المرأة أو الهبة خالصة لك لا
تتجاوز المؤمنين.
واستدل الشافعية رضي الله تعالى عنهم به على أن النكاح لا
ينعقد بلفظ الهبة لأن اللفظ تابع للمعنى وقد خص عليه الصلاة
والسلام بالمعنى فيختص باللفظ، وقال بعض أجلة أصحابنا في ذلك:
إن المراد بالهبة في الآية تمليك المتعة بلا عوض بأي لفظ كان
لا تمليكها بلفظ وهبت نفسي فحيث لم يكن ذلك نصافي التمليك بهذا
اللفظ لم يصلح لأن يكون مناطا للخلاف في انعقاد النكاح بلفظ
الهبة إيجابا وسلبا، ومعنى خلوص الإحلال المذكور له صلّى الله
عليه وسلم من دون المؤمنين كونه متحققا في حقه غير متحقق في
حقهم إذ لا بدّ في الإحلال لهم من مهر المثل.
وظاهر كلام العلامة ابن الهمام اعتبار لفظ الهبة حيث قال في
الفتح: قد ورد النكاح بلفظ الهبة وساق الآية ثم قال: والأصل
عدم الخصوصية حتى يقوم دليلها، وقوله تعالى: خالِصَةً لَكَ
يرجع إلى عدم المهر بقرينة إعقابه بالتعليل بنفي الحرج فإن
الحرج ليس في ترك لفظ إلى غيره خصوصا بالنسبة إلى أفصح العرب
بل في لزوم المال، وبقرينة وقوعه في مقابلة المؤتى أجورهن فصار
الحاصل أحللنا لك الأزواج المؤتى مهورهن والتي وهبت نفسها لك
فلم تأخذ مهرا خالصة هذه الخصلة لك من دون المؤمنين أما هم فقد
علمنا ما فرضنا عليهم في أزواجهم إلخ من
(11/237)
المهر وغيره. وأبدى صدر الشريعة جواز كونه
متعلقا بأحللنا قيدا في إحلال أزواجه له صلّى الله عليه وسلم
لإفادة عدم حلهن لغيره صلّى الله عليه وسلم انتهى، وجوز بعضهم
كونه قيدا في إحلال الإماء أيضا لإفادة عدم حل إمائه كأزواجه
لأحد بعده عليه الصلاة والسلام، وبعض آخر كونه قيدا لإحلال
جميع ما تقدم على القيود المذكورة أي خلص إحلال ما أحللنا لك
من المذكورات على القيود المذكورة خلوصها من دون المؤمنين فإن
إحلال الجميع على القيود المذكورة غير متحقق في حقهم بل
المتحقق فيه إحلال بعض المعدود على الوجه المعهود، واختاره
الزمخشري، وأيا ما كان فقوله تعالى:
قَدْ عَلِمْنا ما فَرَضْنا عَلَيْهِمْ فِي أَزْواجِهِمْ وَما
مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ اعتراض بين المتعلق والمتعلق، والأول
على جميع الأوجه قوله سبحانه: لِكَيْلا يَكُونَ عَلَيْكَ
حَرَجٌ والثاني على الوجه الأخير وهو تعلق خالصة بجميع ما سلف
من الإحلالات الأربع قوله تعالى خالِصَةً وهو مؤكد معنى
اختصاصه عليه الصلاة والسلام بما اختص به بأن كلا من الاختصاص
عن علم وأن هذه الحظوة مما يليق بمنصب الرسالة فحسب فالمعنى أن
الله تعالى قد علم ما ينبغي من حيث الحكمة فرضه على المؤمنين
في حق الأزواج والإماء وعلى أي حد وصفة ينبغي أن يفرض عليهم
ففرضه واختصك سبحانه بالتنزيه واختيار ما هو أولى وأفضل في
دنياك حيث أحل جل شأنه لك أجناس المنكوحات وزاد لك الواهبة
نفسها من غير عوض لئلا يكون عليك ضيق في دينك، وهو على الوجه
الأول الذي ذكرناه وهو تعلق خالصة بالواهبة خاصة قوله عزّ
وجلّ: إِنَّا أَحْلَلْنا وهو الذي استظهره أبو حيان وأمر
الاعتراض عليه في حاله، وبعضهم يجعل المتعلق خالصة على سائر
الأوجه والتعلق به باعتبار ما فيه من معنى ثبوت الإحلال وحصوله
له صلّى الله عليه وسلم لا باعتبار اختصاصه به عليه الصلاة
والسلام لأن مدار انتفاء الحرج هو الأول لا الثاني الذي هو
عبارة عن عدم ثبوته لغيره صلّى الله عليه وسلم.
وقال ابن عطية: إن لِكَيْلا إلخ متعلق بمحذوف أي بينا هذا
البيان وشرحنا هذا الشرح لئلا يكون عليك حرج ويظن بك أنك قد
أثمت عند ربك عزّ وجلّ فلا اعتراض على هذا، ولا يخلو عن اعتراض
فتدبر ولا تغفل.
وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً أي كثير المغفرة فيغفر ما يشاء مما
يعسر التحرز عنه وغيره رَحِيماً أي وافر الرحمة، ومن رحمته
سبحانه أن وسع الأمر في مواقع الحرج تُرْجِي مَنْ تَشاءُ
مِنْهُنَّ أي تؤخر من تشاء من نسائك وتترك مضاجعتها وَتُؤْوِي
إِلَيْكَ مَنْ تَشاءُ وتضم إليك من تشاء منهن وتضاجعها، وروي
هذا عن قتادة.
وعن ابن عباس والحسن أي تطلق من تشاء منهن وتمسك من تشاء، وقال
بعضهم: الإرجاء والإيواء لإطلاقهما يتناولان ما في التفسيرين
وما ذكر فيهما فإنما هو من باب التمثيل ولا يخلو عن حسن، وفي
رواية عن الحسن أن ضمير مِنْهُنَّ لنساء الأمة والمعنى تترك
نكاح من تشاء من نساء أمتك فلا تنكح وتنكح منهن من تشاء.
وقال: كان صلّى الله عليه وسلم إذا خطب امرأة لم يكن لغيره أن
يخطبها حتى يتركها وعن زيد بن أسلم والطبري أنه للواهبات
أنفسهن أي تقبل من تشاء من المؤمنات اللاتي يهبن أنفسهن لك
فتؤويها إليك وتترك من تشاء منهن فلا تقبلها، وعن الشعبي ما
يقتضيه، فقد أخرج ابن سعد والبيهقي في السنن وغيرهما عنه قال:
كن نساء وهبن أنفسهن لرسول الله صلّى الله عليه وسلم فدخل
ببعضهن وأرجأ بعضهن فلم يقربن حتى توفي عليه الصلاة والسلام
ولم ينكحن بعده، منهن أم شريك فذلك قوله تعالى: تُرْجِي مَنْ
تَشاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشاءُ ويشهد لما
تقدم من رجوعه إلى النساء ما أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن
أبي حاتم وغيرهم عن أبي رزين قال: هم رسول الله صلّى الله عليه
وسلم أن يطلق من نسائه فلما رأين ذلك أتينه فقلن لا تخل سبيلنا
وأنت في حل فيما بيننا وبينك افرض لنا من نفسك ومالك ما شئت
فأنزل الله تعالى الآية أرجأ منهن نسوة وكان ممن أرجأ ميمونة
وجويرية وأم حبيبة وصفية وسودة وكان ممن آوى عائشة وحفصة وأم
سلمة وزينب رضي الله تعالى عنهن أجمعين. وقرأ ابن كثير وأبو
عمرو وابن عامر وأبو بكر «ترجىء» بالهمزة وهو عند الزجاج
(11/238)
أجود والمعنى واحد وَمَنِ ابْتَغَيْتَ أي
طلبت مِمَّنْ عَزَلْتَ أي تجنبت وحمل هذا التجنب على ما كان
بطلاق، ومن شرطية منصوبة بما بعدها، وقوله تعالى فَلا جُناحَ
عَلَيْكَ جوابها أي من طلبتها ممن طلقت فليس عليك إثم في طلبها
أو موصولة والجملة خبرها أي والتي طلبتها لا جناح عليك في
طلبها والمراد نفي أن يكون عليه عليه الصلاة والسلام إثم في
إرجاع المطلقة، وقيل من موصولة معطوفة على مَنْ تَشاءُ الثاني
والمراد به غير المطلقة ومعنى فلا جناح عليك فلا إثم عليك في
شيء مما ذكر من الأرجاء والإيواء والابتغاء والمراد تفويض ذلك
إلى مشيئته صلّى الله عليه وسلم.
وقال بعضهم: المراد به ما كان بترك مضاجعة بدون طلاق، والمقصود
من الآية بيان أن له صلّى الله عليه وسلم ترك مضاجعة من شاء من
نسائه ومضاجعة من شاء منهن أي ممن لم يكن أرجأها وترك مضاجعتها
والرجوع إلى مضاجعة من ترك مضاجعتها واعتزلها فمن عزل هي
المرجأة، وأفاد صاحب الكشاف أن الآية متضمنة قسمة جامعة لما هو
الفرض لأنه صلّى الله عليه وسلم إما أن يطلق وإما أن يمسك وإذا
أمسك ضاجع أو ترك وقسم أو لم يقسم وإذا طلق وعزل فأما أن يخلي
المعزولة لا يبتغيها أو يبتغيها وانفهام الطلاق والإمساك
بأقسامه بواسطة إطلاق الأرجاء والإيواء في قوله تعالى: تُرْجِي
مَنْ تَشاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي وانفهام ابتغاء المعزولة من
قوله سبحانه وَمَنِ ابْتَغَيْتَ إلخ ومتى فهم أن لا جناح في
ابتغاء المعزولة بالطلاق وردها إلى النكاح فهم منه أن رفع
النكاح في عدم ردها من طريق الأولى ولقد أجاد فيما أفاد، وجوز
بعضهم أن يكون من مبتدأ وفي الكلام معطوف وخبر محذوفان أي ومن
ابتغيت ممن عزلت ومن لم تعزل سواء، وقوله سبحانه: فَلا جُناحَ
عَلَيْكَ تأكيد لذلك ولا يخفى بعده وتعسفه، وقال الحسن: معنى-
ومن ابتغيت- إلخ من مات من نسائك اللواتي عندك أو خليت سبيلها
فلا جناح عليك في أن تستبدل عوضها من اللاتي أحللت لك فلا
تزداد على عدة نسائك اللاتي عندك كذا في البحر، وكأنه جعل من
للبدل كالتي في قوله تعالى: أَرَضِيتُمْ بِالْحَياةِ الدُّنْيا
مِنَ الْآخِرَةِ [التوبة: 38] ومن عزلت شاملا لمن ماتت ومن
طلقت وكلاهما بعيد، وثانيهما أبعد من أولهما بكثير ومثله
اعتبار ما اعتبره من القيود وبالجملة هو قول تبعد نسبته إلى
الحسن، وأبعد من ذلك نسبته إلى ترجمان القرآن ابن عباس رضي
الله تعالى عنهما كما في الدر المنثور.
ذلِكَ أَدْنى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلا يَحْزَنَّ
وَيَرْضَيْنَ بِما آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ أي تفويض الأمر إلى
مشيئتك أقرب إلى قرة عيونهن وسرورهن ورضاهن جميعا لأنه حكم
كلهن فيه سواء ثم أن سويت بينهن وجدن ذلك تفضلا منك وإن رجحت
بعضهن علمن أنه بحكم الله تعالى فتطمئن به نفوسهن، وروي هذا عن
قتادة، والمراد بما آتيتهن عليه ما صنعت معهن فيتناول ترك
المضاجعة والقسم، وعن ابن عباس ومجاهد أن المعنى أنهن إذا علمن
أن لك ردهن إلى فراشك بعد ما اعتزلتهن قرت أعينهن ولم يحزنّ
ويرضين بما تفعله من التسوية والتفضيل لأنهن يعلمن أنك لم
تطلقهن، وظاهره جعل المشار إليه العلم بأن له صلّى الله عليه
وسلم الإيواء، وأظهر منه في ذلك قول الجبائي ذلك العلم منهن
بأنك إذا عزلت واحدة كان لك أن تؤويها بعد ذلك أدنى لسرورهن
وقرة أعينهن.
وقال بعض الأجلة: كون الإشارة إلى التفويض أنسب لفظا لأن ذلك
للبعيد وكونها إلى الإيواء أنسب معنى لأن قرة عيونهن بالذات
إنما هي بالإيواء فلا تغفل، والأعين جمع قلة وأريد به هاهنا
جمع الكثرة وكأن اختياره لأنه أوفق بكمية الأزواج، وقرأ ابن
محيصن «تقر» من أقر وفاعله ضميره صلّى الله عليه وسلم
«أعينهنّ» بالنصب على المفعولية.
وقرىء «تقرّ» مبنيا للمفعول وأعينهن بالرفع نائب الفاعل
وكُلُّهُنَّ بالرفع في جميع ذلك وهو توكيد لنون يَرْضَيْنَ.
وقرأ أبو إياس جوية بن عائذ «كلهن» بالنصب تأكيدا لضميره في
«آتيتهن» قال ابن جني: وهذه القراءة راجعة
(11/239)
إلى معنى قراءة العامة «كلّهنّ» بضم اللام
وذلك أن رضاهن كلهن بما أوتين كلهن على انفرادهن واجتماعهن
فالمعنيان إذن واحد إلا أن للرفع معنى وذلك أن فيه إصراحا من
اللفظ بأن يرضين كلهن، والإصلاح في القراءة الشاذة إنما هو في
إتيانهن وإن كان محصول الحال فيهما واحدا مع التأويل انتهى،
وقال الطيبي في توكيد الفاعل دون المفعول إظهار لكمال الرضا
منهن وإن لم يكن الإيتاء كاملا سويا، وفي توكيد المفعول إظهار
أنهن مع كمال الإيتاء غير كاملات في الرضا والأول أبلغ في
المدح لأن فيه معنى التتميم وذلك أن المؤكد يرفع إيهام التجوز
عن المؤكد انتهى فتأمل وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما فِي قُلُوبِكُمْ
خطاب له صلّى الله عليه وسلم ولأزواجه المطهرات على سبيل
التغليب.
والمراد بما في القلوب عام ويدخل فيه ما يكون في قلوبهن من
الرضا بما دبر الله تعالى في حقهن من تفويض الأمر إليه صلّى
الله عليه وسلم ومقابل ذلك وما في قلبه الشريف عليه الصلاة
والسلام من الميل إلى بعضهن دون بعض، والكلام بعث على الاجتهاد
في تحسين ما في القلوب، ولعل اعتباره صلّى الله عليه وسلم في
الخطاب لتطييب قلوبهن، وفي الكشاف أن هذا وعيد لمن لم يرض منهن
بما دبر الله تعالى من ذلك وفوض سبحانه إلى مشيئة رسوله عليه
الصلاة والسلام وبعث على تواطؤ قلوبهن والتصافي بينهن والتوافق
على طلب رضا رسول الله صلّى الله عليه وسلم وطيب نفسه الكريمة،
والظاهر أنه غير قائل بدخوله صلّى الله عليه وسلم في الخطاب،
وحينئذ فأما أن يقول: إنه عام لهن ولسائر المؤمنين وإما أن
يقول بأنه خاص بهن ولعله ظاهر كلامه وعليه لا يظهر وجهه
التذكير، وربما يقال على الأول: إن المقام غير ظاهر في اقتضاء
دخول سائر المؤمنين في الخطاب، وقال ابن عطية: الإشارة بذلك
هاهنا إلى ما في قلب رسول الله صلّى الله عليه وسلم من محبة
شخص دون شخص ويدخل في المعنى المؤمنون، وربما يتخيل أن الخطاب
لجميع المكلفين والكلام بعث على تحسين ما في القلوب في شأن ما
دبر الله تعالى لرسوله صلّى الله عليه وسلم في أمر أزواجه ونفي
الخواطر الرديئة بأن يظن أن ذاك هو الذي تقتضيه الحكمة وأنه
دليل على كمال المحبوبية، ولا يتوهم خلافه فإن بعض الملحدين
طعنوا كالنصارى في كثرة تزوجه عليه الصلاة والسلام وكونه في
أمر النساء على حال لم يبح لأمته من حل جمع ما فوق الأربع وعدم
التقيد بالقسم لهن مثلا وزعموا أن في ذلك دليلا على غلبة القوة
الشهوية فيه عليه الصلاة والسلام وذلك مناف لتقدس النفس الذي
هو من شأن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام فجزموا والعياذ بالله
تعالى بنفي نبوته وأن ما فعله صلّى الله عليه وسلم لم يكن منه
تعالى بل ليس ذلك إلا منه عليه الصلاة والسلام ولا يخفى أن
قائلي ذلك على كفرهم جهلة بمراتب الكمال صم عن سماع آثاره عليه
الصلاة والسلام ومن سبر الأخبار علم أنه صلّى الله عليه وسلم
أكمل الأنبياء على الإطلاق لغاية كمال بشريته وملكيته وآثار
الكمال الأول تزوج ما فوق الأربع والطواف عليهن كلهن في الليلة
الواحدة وآثار الكمال الثاني أنه عليه الصلاة والسلام كثيرا ما
كان يبيت ويصبح لا يأكل ولا يشرب وهو على غاية من القوة وعدم
الاكتراث بترك ذلك وليس لأحد من الأنبياء عليهم السّلام اجتماع
هذين الكمالين حسب اجتماعهما فيه عليه الصلاة والسلام ولتكثره
النساء حكمة دينية جليلة أيضا وهي نشر أحكام شرعية لا تكاد
تعلم إلا بواسطتهن مع تشييد أمر نبوته فإن النساء لا يكدن
يحفظن سرا وهن أعلم الناس بخفايا أزواجهن فلو وقف نساؤه عليه
الصلاة والسلام على أمر خفي منه يخل بمنصب النبوة لأظهرنه،
وكيف يتصور إخفاؤه بينهن مع كثرتهن. وكل سر جاوز الاثنين شاع.
وفي عدم إيجاب القسم عليه عليه الصلاة والسلام تأكيد لذلك كما
لا يخفى على المنصف وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً مبالغا في العلم
فيعلم كل ما يبدي ويخفي حَلِيماً مبالغا في الحلم فلا يعجل
سبحانه بمقابلة من يفعل خلاف ما يحب حسبما يقتضيه فعله من عتاب
أو عقاب أو فيصفح عما يغلب على القلب من الميول ونحوها، هذا
وفي البحر اتفقت الروايات على أنه عليه الصلاة والسلام كان
يعدل بين أزواجه المطهرات في القسمة حتى مات ولم
(11/240)
يستعمل شيئا مما أبيح له ضبطا لنفسه وأخذا
بالأفضل غير ما جرى لسودة فإنها وهبت ليلتها لعائشة وقالت: لا
تطلقني حتى أحشر في زمرة نسائك، وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن
شهاب أنه قال لم يعلم أن رسول الله أرجأ منهن شيئا ولا عزله
بعد ما خيرن فاخترنه.
وأخرج الشيخان وأبو داود والنسائي وغيرهم عن عائشة أن رسول
الله عليه الصلاة والسلام كان يستأذن في يوم المرأة منا بعد أن
أنزلت هذه الآية تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنَّ فقيل لها: ما
كنت تقولين؟ قالت: كنت أقول له إن كان ذاك إلى فإني لا أريد أن
أوثر عليك أحدا فتأمله مع حكاية الاتفاق السابق والله تعالى
الموفق.
لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ بالياء لأن تأنيث الجمع غير حقيقي
وقد وقع بفصل أيضا، والمراد بالنساء الجنس الشامل للواحدة ولم
يؤت بمفرد لأنه لا مفرد له من لفظه والمرأة شاملة للجارية
وليست بمرادة، واختصاص النساء بالحرائر بحكم العرف، وقرأ
البصريان بالتاء الفوقية، وسهل وأبو حاتم يخير فيهما، وأيا كان
ما كان فالمراد يحرم عليك نكاح النساء مِنْ بَعْدُ قيل أي من
بعد التسع اللاتي في عصمتك اليوم، أخرج ابن سعد عن عكرمة قال:
لما خير رسول الله صلّى الله عليه وسلم أزواجه اخترنه فأنزل
الله تعالى لا يحل لك النساء من بعد هؤلاء التسع اللاتي اخترنك
أي لقد حرم عليك تزويج غيرهن، وأخرج أبو داود في ناسخه وابن
مردويه والبيهقي في سننه عن أنس قال لما خيرهن فاخترن الله
تعالى ورسوله صلّى الله عليه وسلم قصره عليهن فقال سبحانه لا
يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ وأخرج ابن مردويه عن ابن
عباس أنه قال في الآية حبسه الله تعالى عليهن كما حبسهن عليه
عليه الصلاة والسلام، وقدر بعضهم المضاف إليه المحذوف اختيارا
أي من بعد اختيارهن الله تعالى ورسوله.
وقال الإمام: هو أولى وكأن ذلك لكونه أدل على أن التحريم كان
كرامة لهن وشكرا على حسن صنيعهن.
وجوز آخر أن يكون التقدير من بعد اليوم وماله تحريم من عدا
اللاتي اخترنه عليه الصلاة والسلام.
وحكي في البحر عن ابن عباس وقتادة قال: لما خيرن فاخترن الله
تعالى ورسوله صلّى الله عليه وسلم جازاهن أن حظر عليه النساء
غيرهن وتبديلهن ونسخ سبحانه بذلك ما أباحه له قبل من التوسعة
في جميع النساء، وحكي أيضا عن مجاهد وابن جبير أن المعنى من
بعد إباحة النساء على العموم، وقيل التقدير من بعد التسع على
معنى أن هذا العدد مع قطع النظر عن خصوصية المعدود نصابه صلّى
الله عليه وسلم من الأزواج كما أن الأربع نصاب أمته منهن
فالمعنى لا يحل لك الزيادة على التسع وَلا أَنْ تَبَدَّلَ أصله
تتبدل فخفف بحذف إحدى التاءين أي ولا يحل لك أن تستبدل بِهِنَّ
مِنْ أَزْواجٍ بأن تطلق واحدة منهن وتنكح بدلها أخرى، ففي
الآية حكمان حرمة الزيادة وحرمة الاستبدال، وظاهره أنه يحل له
عليه الصلاة والسلام نكاح امرأة أخرى على تقدير أن تموت واحدة
من التسع، وإذا كان المراد من الآية تحريم من عدا اللاتي
اخترنه عليه الصلاة والسلام أفادت الآية أنه لو ماتت واحدة
منهن لم يحل له نكاح أخرى، وكلام ابن عباس السابق ظاهر في ذلك
جدا، وكأن قوله تعالى: وَلا أَنْ تَبَدَّلَ إلخ عليه لدفع توهم
أن المحرم ليس إلا أن يرعهن صلّى الله عليه وسلم بواحدة من
الضرائر.
وفي رواية أخرى عن عكرمة أن المعنى لا يحل لك النساء من بعد
هؤلاء اللاتي سمي الله تعالى لك في قوله سبحانه: يا أَيُّهَا
النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ الآية فلا يحل
له صلّى الله عليه وسلم ما وراء الأجناس الأربعة كالأعرابيات
والغرائب ويحل له منها ما شاء، وأخرج عبد بن حميد والترمذي
وحسنه وغيرهما عن ابن عباس ما هو ظاهر في ذلك حيث قال في الخبر
وقال تعالى: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ
إلى قوله سبحانه: خالِصَةً لَكَ وحرم ما سوى ذلك من أصناف
النساء، وأخرج عبد الله بن أحمد في زوائد المسند وابن جرير
وابن المنذر والضياء في المختارة
(11/241)
وغيرهم عن زياد قال: قلت لأبي بن كعب رضي
الله تعالى عنه أرأيت لو أن أزواج النبي عليه الصلاة والسلام
متن أما يحل له أن يتزوج قال: وما يمنعه من ذلك قلت: قوله
تعالى: لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ فقال: إنما أحل
له ضربا من النساء ووصف له صفة فقال سبحانه يا أيها النبي إنا
أحللنا لك أزواجك إلى قوله تعالى: وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إلخ
ثم قال تبارك وتعالى لا يحل لك النساء من بعد هذه الصفة، وعلى
هذا القول قال الطيبي: يكون قوله سبحانه: وَلا أَنْ تَبَدَّلَ
إلخ تأكيدا لما قبله من تحريم غير ما نص عليه من الأجناس
الأربعة وكأن ضمير بهن للأجناس المذكورة في قوله تعالى: يا
أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ الآية
والمعنى لا يحل لك أن تترك هذه الأجناس وتعدل عنها إلى أجناس
غيرها، وقال شيخ الإسلام أبو السعود عليه الرحمة بعد ما حكي
القول المذكور يأباه قوله تعالى: وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ
إلخ فإن معنى إحلال الأجناس المذكورة إحلال نكاحهن فيكون
التبدل بهن إحلال نكاح غيرهن بدل إحلال نكاحهن وذلك إنما يتصور
بالنسخ الذي هو ليس من الوظائف البشرية انتهى فتأمل ولا تغفل،
وقيل وَلا أَنْ تَبَدَّلَ من البدل الذي كان في الجاهلية كان
يقول الرجل للرجل بادلني بامرأتك وأبادلك بامرأتي فينزل كل
واحد منهما عن امرأته لآخر، وروي نحوه عن ابن زيد وأنكر هذا
القول الطبري وغيره في معنى الآية وقالوا ما فعلت العرب ذاك
قط، وما
روي من حديث عيينة بن حصن أنه قال لرسول الله صلّى الله عليه
وسلم حين دخل عليه بغير استئذان وعنده عائشة: من هذه الحميراء؟
فقال: عائشة فقال عيينة: يا رسول الله إن شئت نزلت لك عن سيدة
نساء العرب جمالا ونسبا
فليس بتبديل ولا أراد ذلك وإنما احتقر عائشة رضي الله تعالى
عنها لأنها كانت إذ ذاك صبية، ومن مزيد لتأكيد الاستغراق فيشمل
النهي تبدل الكل والبعض: وقوله تعالى: وَلَوْ أَعْجَبَكَ
حُسْنُهُنَّ في موضع الحال فاعل تبدل والتقدير مفروضا إعجابك
بهن، وحاصله ولا تبدل بهن من أزواج على كل حال، وظاهر كلام
بعضهم أنه لا يجوز أن يكون حالا من مفعوله أعني أزواجا وعلل
ذلك بتوغله في التنكير وتعقب بأنه مخالف لكلام النحاة فإنهم
جوزوا الحال من النكرة إذا وقعت منفية لأنها تستغرق حينئذ
فيزول إبهامها كما صرح به الرضي.
وقيل إن التنكير مانع من الحالية هاهنا لأن الحال تقاس بالصفة
والواو مانعة من الوصفية فتمنع من الحالية ومنع لزوم القياس مع
أن الزمخشري وغيره جوزوا دخول الواو على الصفة لتأكيد لصوقها،
وقيل في عدم جواز ذلك إن ذا الحال إذا كان نكرة يجب تقديمها
ولم تقدم هاهنا. وتعقب بأن ذلك غير مسلم في الجملة المقرونة
بالواو لكونه بصورة العاطف. واستظهر صاحب الكشف الجواز وذكر أن
المعنى في الحالين لا يتفاوت كثير تفاوت لأنه إذا تقيد الفعل
لزم تقيد متعلقاته وإنما الاختلاف في الأصالة والتبعية، وضمير
حسنهن للأزواج والمراد بهن من يفرضن بدلا من أزواجه اللاتي في
عصمته عليه الصلاة والسلام فتسميتهن أزواجا باعتبار ما يعرض
مالا وهذا بناء على أن باء البدل في بهن داخلة على المتروك دون
المأخوذ فلو اعتبرت داخلة على المأخوذ كان الضمير للنساء لا
للأزواج، وممن أعجبه صلّى الله عليه وسلم حسنهن على ما قيل
أسماء بنت عميس الخثعمية امرأة جعفر بن أبي طالب بعد وفاته رضي
الله تعالى عنه، وفي قوله سبحانه: وَلَوْ أَعْجَبَكَ
حُسْنُهُنَّ على ما نقل عن ابن عطية دليل على جواز أن ينظر
الرجل إلى من يريد زواجها وفي الأخبار أدلة على ذلك وتفصيل
الأقوال فيه في كتب الفروع. واختلف في أن الآية الدالة على عدم
حل النساء له صلّى الله عليه وسلم هل هي محكمة أم لا. فعن أبي
بن كعب وجماعة منهم الحسن وابن سيرين واختاره الطبري واستظهره
أبو حيان أنها محكمة وعن علي كرّم الله تعالى وجهه وابن عباس
وأم سلمة رضي الله تعالى عنهما والضحاك عليه الرحمة أنها منسوخ
وروي ذلك عن عائشة رضي الله تعالى عنها.
أخرج أبو داود في ناسخه والترمذي وصححه والنسائي والحاكم وصححه
أيضا وابن المنذر وغيرهم عنها
(11/242)
قالت: لم يمت رسول الله صلّى الله عليه
وسلم حتى أحل الله تعالى له أن يتزوج من النساء ما شاء إلا ذات
محرم لقوله سبحانه:
تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشاءُ
وهذا ظاهر في أن الناسخ قوله تعالى: تُرْجِي إلخ وهو مبني على
أن المعنى تطلق من تشاء وتمسك من تشاء، ووجه النسخ به على هذا
التفسير أنه يدل بعمومه على أنه أبيح له صلّى الله عليه وسلم
الطلاق والإمساك لكل من يريد فيدل على أن له تطليق منكوحاته
ونكاح من يريد من غيرهن إذ ليس المراد بالإمساك إمساك من سبق
نكاحه فقد لعموم من تشاء وقوله سبحانه: تُؤْوِي ليس مقيدا
بمنهن كذا قال الخفاجي: وفي القلب منه شيء ولا بدّ على القول
بأن النسخ بذلك من القول بتأخر نزوله عن نزول الآية المنسوخة
إذ لا يمكن النسخ مع التقدم وهو ظاهر ولا يعكر التقدم في
المصحف لأن ترتيبه ليس على حسب النزول وقال بعضهم: إن الناسخ
السنة ويغلب على الظن أنها كانت فعله عليه الصلاة والسلام.
أخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن
عبد الله بن شداد أنه قال: في قوله تعالى:
وَلا أَنْ تَبَدَّلَ إلخ ذلك لو طلقهن لم يحل له أن يستبدل وقد
كان ينكح بعد ما نزلت هذه الآية ما شاء ونزلت وتحته تسع نسوة
ثم تزوج بعد أم حبيبة بنت أبي سفيان وجويرية بنت الحارث رضي
الله تعالى عنهما، والظاهر على القول بأن الآية نزلت كرامة
للمختارات وتطييبا لخواطرهن وشكرا لحسن صنيعهن عدم النسخ والله
تعالى أعلم، وقوله: إِلَّا ما مَلَكَتْ يَمِينُكَ استثناء من
النساء متصل بناء على أصل اللغة لتناوله عليه الحرائر والإماء
ومنقطع بناء على العرف لاختصاصه فيه بالحرائر ولا أن تبدل بهن
من أزواج كالصريح فيه.
وقال ابن عطية: إن ما إن كانت موصولة واقعة على الجنس فهو
استثناء من الجنس مختار فيه الرفع على البدل من النساء ويجوز
النصب على الاستثناء وإن كانت مصدرية فهي في موضع نصب لأنه
استثناء من غير الجنس الأول انتهى، وليس بجيد لأنه قال
والتقدير إلا ملك اليمين وملك بمعنى مملوك فإذا كان بمعنى
مملوك لم يصح الجزم بأنه ليس من الجنس وأيضا لا يتحتم النصب
وإن فرضنا أنه من غير الجنس حقيقة بل أهل الحجاز ينصبون وبنو
تميم يبدلون وأيا ما كان فالظاهر حل المملوكة له صلّى الله
عليه وسلم سواء كانت مما أفاء الله تعالى عليه أم لا وَكانَ
اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيباً أي راقبا أو مراقبا
والمراد كان حافظا ومطلعا على كل شيء فاحذروا تجاوز حدوده
سبحانه وتخطي حلاله إلى حرامه عزّ وجلّ.
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ
النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ شروع في بيان بعض
الحقوق على الناس المتعلقة به صلّى الله عليه وسلم وهو عند
نسائه، والحقوق المتعلقة بهن رضي الله تعالى عنهن ومناسبة ذلك
لما تقدم ظاهرة، والآية عند الأكثرين نزلت يوم تزوج عليه
الصلاة والسلام زينب بنت جحش.
أخرج الإمام أحمد وعبد بن حميد والبخاري ومسلم والنسائي وابن
جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي في سننه
من طرق عن أنس قال: لما تزوج رسول الله صلّى الله عليه وسلم
زينب بنت جحش دعا القوم فطعموا ثم جلسوا يتحدثون وإذا هو كأنه
يتهيأ للقيام فلم يقوموا فلما رأى ذلك قام فلما قام قام من قام
وقعد ثلاثة نفر فجاء النبي صلّى الله عليه وسلم ليدخل فإذا
القوم جلوس ثم إنهم قاموا فانطلقت فجئت أخبرت النبي صلّى الله
عليه وسلم أنهم قد انطلقوا فجاء حتى دخل فذهبت أدخل فألقى
الحجاب بيني وبينه فأنزل الله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ الآية
والنهي للتحريم، وقوله سبحانه: إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ بتقدير
باء المصاحبة استثناء مفرغ من أعم الأحوال أي لا تدخلوها في
حال من الأحوال إلا حال كونكم مصحوبين بالإذن.
وجوز أبو حيان كونه بتقدير باء السببية فيكون الاستثناء من أعم
الأسباب أي لا تدخلوها بسبب من الأسباب إلا
(11/243)
بسبب الإذن، وذهب الزمخشري إلى أنه استثناء
من أعم الأوقات أي لا تدخلوها في وقت من الأوقات إلا وقت أن
يؤذن لكم. وأورد عليه أبو حيان أن الوقوع موقع الظرف مختص
بالمصدر الصريح دون المؤول فلا يقال أتيتك أن يصيح الديك وإنما
يقال أتيتك صياح الديك، ولا يخفى أن القول بالاختصاص أحد قولين
للنحاة في المسألة نعم إنه الأشهر والزمخشري إمام في العربية
لا يعترض عليه بمثل هذه المخالفة.
وزعم بعضهم أن الوقت مقدر في نظم الكلام فيكون محذوفا حذف حرف
الجر وأن هذا ليس من باب وقوع المصدر موقع الظرف.
وأجاز بعض الأجلة كون ذلك استثناء من أعم الأحوال بلا تقدير
الباء بل باعتبار أن المصدر مؤول باسم المفعول أي لا تدخلوها
إلا مأذونا لكم والمصدر المسبوك قد يؤول بمعنى المفعول كما قيل
في قوله تعالى: ما كانَ هذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرى [يونس:
37] إن المعنى ما كان هذا القرآن مفتري فمن قال كون المصدر
بمعنى المفعول غير معروف في المؤول لم يصب، وقيل فيما ذكر
مخالفة لقول النحاة المصدر المسبوك معرفة دائما كما صرح به في
المغني.
وتعقبه الخفاجي بأن الحق أنه سطحي وأنه قد يكون نكرة وذكر قوله
تعالى: ما كانَ إلخ، وقوله سبحانه:
إِلى طَعامٍ متعلق بيؤذن وعدي بإلى مع أنه يتعدى بفي فيقال أذن
له في كذا لتضمينه معنى الدعاء للإشعار بأنه لا ينبغي أن
يدخلوا على طعام بغير دعوة وإن تحقق الإذن الصريح في دخول
البيت فإن كل إذن ليس بدعوة، وقيل يجوز أن يكون قد تنازع فيه
الفعلان تَدْخُلُوا ويُؤْذَنَ وهو مما لا بأس به، وقوله تعالى:
غَيْرَ ناظِرِينَ إِناهُ أي غير منتظرين نضجه وبلوغه تقول أنى
الطعام يأني أنى كقلى يقلي قلى إذا نضج وبلغ قاله الزجاج، وقال
مكي: إناه ظرف زمان مقلوب آن التي بمعنى الحين فقلبت النون قبل
الألف وغيرت الهمزة إلى الكسرة أي غير ناظرين آنه أي حينه
والمراد حين إدراكه ونضجه أو حين أكله حال من فاعل تدخلوا وهو
حال مفرغ من أعم الأحوال كما سمعت في أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ
وإذا جعل ذلك حالا فهي حال مترادفة فكأنه قيل: لا تدخلوا في
حال من الأحوال إلا مصحوبين بالإذن غير ناظرين، والظاهر أنها
حال مقدرة ويحتمل أن تكون مقارنة، والزمخشري بعد أن جعل ما
تقدم نصبا على الظرفية جعل هذا حالا أيضا لكنه قال بعد وقع
الاستثناء على الوقت والحال معا كأنه قيل لا تدخلوا بيوت النبي
إلا وقت الإذن ولا تدخلوها إلا غير ناظرين.
وتعقبه أبو حيان بأنه لا يجوز على مذهب الجمهور من أنه لا يقع
بعد إلا في الاستثناء إلا المستثنى أو المستثنى منه أو صفة
المستثنى منه ثم قال وأجاز الأخفش والكسائي ذلك في الحال أجاز
ما ذهب القوم إلا يوم الجمعة راحلين عنا فيجوز ما قاله
الزمخشري عليه ولا يخفى على المتأمل في كلام الزمخشري أنه بعيد
بمراحل عن جعل الآية الكريمة كالمثال المذكور لأنه على التأخير
والتقديم وكلامه آب عن اعتبار ذلك في الآية نعم لو اقتصر على
جعل غَيْرَ ناظِرِينَ حالا من ضمير تَدْخُلُوا لأمكن أن يقال:
إن مراده لا تدخلوا غير ناظرين إلا أن يؤذن لكم ويكون المعنى
أن دخولهم غير ناظرين إناه مشروط بالإذن وأما دخولهم ناظرين
فممنوع مطلقا بطريق الأولى ثم قدم المستثنى وأخر الحال. وتعقبه
بعضهم بأن فيه استثناء شيئين وهما الظرف والحال بأداة واحدة
وقد قال ابن مالك في التسهيل: لا يستثنى بأداة واحدة دون عطف
شيئان وظاهره عدم جواز ذلك سواء كان الاستثناء مفرغا أم لا
وسواء كان الشيئان مما يعمل فيهما العامل المتقدم أم لا فلا
يجوز قام القوم إلا زيدا عمرا ولا ما قام القوم إلا زيدا عمرا
أو إلا زيد عمرو ولا ما قام إلا خالد بكر ولا ما أعطيت أحدا
شيئا إلا عمرا دانقا ولا ما أعطيت إلا عمرا دانقا ولا ما أخذ
أحد شيئا إلا زيد
(11/244)
درهما ولا ما أخذ أحد إلا زيد درهما،
والكلام في هذه المسألة وما يصح من هذه التراكيب وما لا يصح
وإذا صح فعلى أي وجه يصح طويل عريض والذي أميل إليه تقييد
إطلاقهم لا يستثنى بأداة واحدة دون عطف شيئان بما إذا كان
الشيئان لا يعمل فيهما العامل السابق قبل الاستثناء فلا يجوز
ما قام إلا زيد إلا بكر مثلا إذ لا يكون للفعل فاعلان دون عطف
ولا ما ضربت إلا زيدا عمرا مثلا إذ لا يكون لضرب مفعولان دون
عطف أيضا، وأرى جواز نحو ما أعطيت أحدا شيئا إلا عمرا دانقا
ونحو ما ضرب إلا زيد عمرا من غير حاجة إلى التزام إبدال اسمين
من اسمين نظير قوله:
ولما قرعنا النبع بالنبع بعضه ... ببعض أبت عيدانه أن تكسرا
في الأول وإضمار فعل ناصب لعمرو دل عليه المذكور في الثاني،
وما ذكره ابن مالك في الاحتجاج على الشبه بالعطف حيث قال: كما
لا يقدر بعد حرف العطف معطوفان كذلك لا يقدر بعد حرف الاستثناء
مستثنيان لا يتم علينا فإنا نقول في العطف بالجواز في مثل ما
ضرب زيد عمرا وبكر خالدا قطعا فنحو ما أعطيت أحدا شيئا إلا
زيدا دانقا كذلك، وقوله: إن الاستثناء في حكم جملة مستأنفة لأن
معنى جاء القوم إلا زيدا جاء القوم ما منهم زيد وهو على ما قيل
يقتضي أن لا يعمل ما قبل إلا فيما بعدها في مثل ما ذكر لأنها
بمثابة ما وليس ذلك من الصور المستثناة ليس بشيء كما لا يخفى،
وما في أمالي الكافية من أنه لا بدّ في المستثنى المفرغ من
تقدير عام فلو استعمل بعد إلا شيئان فأما أن لا يقدر عام أصلا
وهو يخالف حكم الباب أو يقدر عامان وهو يؤدي إلى أمر خارج عن
القياس من غير ثبت ولو جاز في الاثنين جاز فيما فوقهما وهو
ظاهر البطلان أو يقدر لأحدهما دون الآخر وهو يؤدي إلى اللبس
فيما قصد.
تعقبه الحديثي بأن لقائل أن يختار الثالث ويقول: العام لا يقدر
إلا للذي يلي إلا منهما لأنه المستثنى المفرغ ظاهرا فلا يحصل
اللبس أصلا، وأبو حيان قدر في الآية محذوفا وجعل غَيْرَ
ناظِرِينَ حالا من الضمير فيه والتقدير ادخلوا غير ناظرين وهو
الذي يقتضيه كلام ابن مالك حيث أوجب في نحو ما ضرب إلا زيد
عمرا جعل عمرا مفعولا لمحذوف دل عليه المذكور، والجملة مستأنفة
استئنافا بيانيا وقعت جوابا لسؤال نشأ من الجملة الأولى كأنه
لما قيل ما ضرب إلا زيد سأل سائل من ضرب؟ فقيل: ضرب عمرا، وذكر
العلامة تقي الدين السبكي عليه الرحمة في رسالته المسماة
بالحلم والأناة في إعراب غَيْرَ ناظِرِينَ إِناهُ وفيها يقول
الصلاح الصفدي:
يا طالب النحو في زمان ... أطول ظلا من القناة
وما تحلى منه بعقد ... عليك بالحلم والأناة
إن الظاهر أن الزمخشري ما قال ذلك إلا تفسير معنى والمستثنى في
الحقيقة هو المصدر المتعلق به الظرف والحال فكأنه قيل: لا
تدخلوا إلا دخولا مصحوبا بكذا ثم قال: ولست أقول بتقدير مصدر
هو عامل فيهما فإن العمل للفعل المفرغ وإنما أردت شرح المعنى،
ومثل هذا الإعراب هو الذي نختاره في قوله تعالى: وَمَا
اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما
جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ [آل عمران: 19] أي إلا
اختلافا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم فمن بعد ما جاءهم
وبغيا ليسا مستثنيين بل وقع عليهما المستثنى وهو الاختلاف كما
تقول ما قمت إلا يوم الجمعة ضاحكا أمام الأمير في دارة فكلها
يعلم فيها الفعل المفرغ من جهة الصناعة وهي من جهة المعنى
كالشيء الواحد لأنها بمجموعها بعض من المصدر الذي تضمنه الفعل
المنفي وهذا أحسن من أن يقدر اختلفوا بغيا بينهم لأنه حينئذ لا
يفيد الحصر وعلى ما قلناه يفيد الحصر فيه كما أفاده في قوله
تعالى: مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ فهو حصر في شيئين
لكن بالطريق الذي قلناه لا أنه استثناء شيئين بل استثناء شيء
صادق على شيئين، ويمكن حمل كلام الزمخشري على ذلك فقوله: وقع
الاستثناء على الوقت والحال معا صحيح، إن المستثنى أعم لأن
الأعم يقع على الأخص والواقع على
(11/245)
الواقع واقع فتخلص عما ورد عليه من قول
النحاة لا يستثنى بأداة واحدة دون عطف شيئان انتهى فتدبره،
وجوز أن يكون غَيْرَ ناظِرِينَ حالا من المجرور في لَكُمْ ولم
يذكره الزمخشري، وفي الكشف لو جعل حالا من ذلك لأفاد ما ذكره
من حيث إنه نهى عن الدخول في جميع الأوقات إلا وقت وجود الإذن
المقيد، وقال العلامة تقي الدين لم يجعل حالا من ذلك وإن كان
جائزا من جهة الصناعة لأنه يصير حالا مقدرة ولأنهم لا يصيرون
منهيين عن الانتظار بل يكون ذلك قيدا في الإذن وليس المعنى على
ذلك بل على أنهم نهوا أن يدخلوا إلا بإذن ونهوا إذا دخلوا أن
يكونوا غير ناظرين إناه فلذلك امتنع من جهة المعنى أن يكون
العامل فيه يُؤْذَنَ وأن يكون حالا من مفعوله اهـ.
ولعله أبعد نظرا مما في الكشف، وقرأ ابن أبي عبلة «غير» بالكسر
على أنه صفة لطعام فيكون جاريا على غير من هو له، ومذهب
البصريين في ذلك وجوب إبراز الضمير بأن يقال هنا غير ناظر أنتم
أو غير ناظرين أنتم ولا بأس بحذفه عند الكوفيين إذا لم يقع لبس
كما هنا والتخريج المذكور عليه، وقد أمال حمزة والكسائي «إناه»
بناء على أنه مصدر أني الطعام إذا أدرك، وقرأ الأعمش «إناءة»
بمدة بعد النون وَلكِنْ إِذا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا استدراك من
النهي عن الدخول بغير إذن فيه دلالة على أن المراد بالإذن إلى
الطعام الدعوة إليه فَإِذا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا أي فإذا
أكلتم الطعام فتفرقوا ولا تلبثوا، والفاء للتعقيب بلا مهلة
للدلالة على أنه ينبغي أن يكون دخولهم بعد الإذن والدعوة على
وجه يعقبه الشروع في الأكل بلا فصل، والآية على ما ذهب إليه
الجل من المفسرين خطاب لقوم كانوا يتحينون طعام النبي صلّى
الله عليه وسلم فيدخلون ويقعدون منتظرين لإدراكه مخصوصة بهم
وبأمثالهم ممن يفعل مثل فعلهم في المستقبل فالنهي مخصوص بمن
دخل بغير دعوة وجلس منتظرا للطعام من غير حاجة فلا تفيد النهي
عن الدخول بأذن لغير طعام ولا عن الجلوس واللبث بعد الطعام
لمهم آخر، ولو اعتبر الخطاب عاما لكان الدخول واللبث المذكوران
منهيا عنهما ولا قائل به، ويؤيد ما ذكر ما أخرجه عبد بن حميد
عن الربيع عن أنس رضي الله تعالى عنه قال: كانوا يتحينون
فيدخلون بيت النبي صلّى الله عليه وسلم فيجلسون فيتحدثون ليدرك
الطعام فأنزل الله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا الآية
وكذا ما أخرجه ابن أبي حاتم عن سليمان بن أرقم قال نزلت في
الثقلاء ومن هنا قيل إنها آية الثقلاء، وتقدم لك القول بجواز
كون إِلى طَعامٍ قد تنازع فيه الفعلان تَدْخُلُوا ويُؤْذَنَ
والأمر عليه ظاهر.
وقال العلامة ابن كمال: الظاهر أن الخطاب عام لغير المحارم
وخصوص السبب لا يصلح مخصصا على ما تقرر في الأصول، نعم يكون
وجها لتقييد الإذن بقوله تعالى إِلى طَعامٍ فيندفع وهم اعتبار
مفهومه انتهى وفيه بحث فتأمل والمشهور في سبب النزول ما ذكرناه
أول الكلام في الآية عن الإمام أحمد والشيخين وغيرهم فلا تغفل.
وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ أي لحديث بعضكم بعضا أو لحديث
أهل البيت بالتسمع له فاللام تعليلية أو اللام المقوية
ومُسْتَأْنِسِينَ مجرور معطوف على ناظِرِينَ ولا زائدة، يجوز
أن يكون منصوبا معطوفا على غَيْرَ كقوله تعالى: وَلَا
الضَّالِّينَ [الفاتحة: 7] وجوز أن يكون حالا مقدرة أو مقارنة
من فاعل فعل حذف مع فاعله وذلك معطوف على المذكور والتقدير ولا
تدخلوها أو لا تمكثوا مستأنسين لحديث إِنَّ ذلِكُمْ أي اللبث
الدال عليه الكلام أو الاستئناس أو المذكور من الاستئناس
والنظر أو الدخول على غير الوجه المذكور، والأول أقوى ملاءمة
للسياق والسباق كانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ لأنه يكون مانعا له
عليه الصلاة والسلام عن قضاء بعض أوطاره مع ما فيه من تضييق
المنزل عليه صلّى الله عليه وسلم وعلى أهله فَيَسْتَحْيِي
مِنْكُمْ أي من إخراجكم بأن يقول لكم اخرجوا أو من منعكم عما
يؤذيه على ما قيل فالكلام على تقدير المضاف لقوله تعالى:
وَاللَّهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ فإنه يدل على أن
المستحيا منه معنى من المعاني لاذواتهم ليتوارد النفي
(11/246)
والإثبات على شيء واحد كما يقتضيه نظام
الكلام فلو كان المراد الاستحياء من ذواتهم لقال سبحانه والله
لا يستحيي منكم فالمراد بالحق إخراجهم أو المنع عن ذلك، ووضع
الحق موضعه لتعظيم جانبه وحاصل الكلام أنه تعالى لم يترك الحق
وأمركم بالخروج، والتعبير بعدم الاستحياء للمشاكلة، وجوز أن
يكون الكلام على الاستعارة أو المجاز المرسل، واعتبار تقدير
المضاف مما ذهب إليه الزمخشري وكثير وهو الذي ينبغي أن يعول
عليه، وفي الكشف فإن قلت:
الاستحياء من زيد للإخراج مثلا هو الحقيقة والاستحياء من
استخراجه توسع بجعل ما نشأ منه الفعل كالصلة وكلتا العبارتين
صحيحة يصح إيقاع إحداهما موقع الأخرى، قلت: أريد أنه لا بدّ من
ملاحظة معنى الإخراج فإما أن يقدر الإخراج ويوقع عليه فيكثر
الإضمار ولا يطابق اللفظ نفيا وإثباتا، وإما أن يقدر المضاف
فيقل ويطابق، ومع وجود المرجح وفقد المانع لا وجه للعدول فلا
بدّ مما ذكر.
وقال العلامة ابن كمال: إن قوله تعالى: فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ
تعليل المحذوف دل عليه السياق أي ولا يخرجكم فيستحيي منكم
ولذلك صدر بأداة التعليل ولو كان المعنى يستحيي من إخراجكم
لكان حقه أن يصدر بالواو، وفيه أن الكلام بعد تسليم ما ذكر على
تقدير المضاف. وزعم بعضهم أن الأصل فيستحيي منكم من الحق والله
لا يستحيي منكم من الحق والمراد بالحق إخراجهم على أن ذلك من
الاحتباك وكلا حرفي الجر ليس بمعنى واحد بل الأول للابتداء
والثاني للتعليل، وقال: إن الحمل على ذلك هو الأنسب للإعجاز
التنزيلي والاختصار القرآني ولا يخفى ما فيه.
وقرأت فرقة كما في البحر «فيستحي» بكسر الحاء مضارع استحى وهي
لغة بني تميم والمحذوف إما عين الكلمة فوزنه يستفل أو لامها
فوزنه يستفع، وفي الكشاف قرىء «لا يستحي» بياء واحدة وأظن أن
القراءة بياء واحدة في الفعل في الموضعين، هذا والظاهر حرمة
اللبث على المدعو إلى طعام بعد أن يطعم إذا كان في ذلك أذى لرب
البيت وليس ما ذكر مختصا بما إذا كان اللبث في بيت النبي عليه
الصلاة والسلام، ومن هنا كان الثقيل مذموما عند الناس قبيح
الفعل عند الأكياس.
وعن ابن عباس وعائشة رضي الله تعالى عنهما حسبك في الثقلاء أن
الله عزّ وجلّ لم يحتملهم وعندي كالثقيل المذكور من يدعى في
وقت معين مع جماعة فيتأخر عن ذلك الوقت من غير عذر كثير شرعي
بل لمحض أن ينتظر ويظهر بين الحاضرين مزيد جلالته وأن صاحب
البيت لا يسعه تقديم الطعام للحاضرين قبل حضوره مخافة منه أو
احتراما له أو لنحو ذلك فيتأذى لذلك الحاضرون أو صاحب البيت،
وقد رأينا من هذا الصنف كثيرا نسأل الله تعالى العافية إن فضله
سبحانه كان كبيرا وَإِذا سَأَلْتُمُوهُنَّ الضمير لنساء النبي
صلّى الله عليه وسلم المدلول عليهن بذكر بيوته عليه الصلاة
والسلام أي وإذا طلبتم منهن مَتاعاً أي شيئا يتمتح به من
الماعون وغيره فَسْئَلُوهُنَ
فاطلبوا منهن ذلك مِنْ وَراءِ حِجابٍ أي ستر.
أخرج البخاري وابن جرير وابن مردويه عن أنس رضي الله تعالى عنه
قال: قال عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه يا رسول الله يدخل
عليك البر والفاجر فلو أمرت أمهات المؤمنين بالحجاب فأنزل الله
تعالى آية الحجاب وكان رضي الله تعالى عنه حريصا على حجابهن
وما ذاك إلا حبا لرسول الله صلّى الله عليه وسلم.
أخرج ابن جرير عن عائشة أن أزواج النبي عليه الصلاة والسلام كن
يخرجن بالليل إذ برزن إلى المناصع وهو صعيد أفيح وكان عمر بن
الخطاب رضي الله تعالى عنه يقول للنبي صلّى الله عليه وسلم:
احجب نساءك فلم يكن رسول الله صلّى الله عليه وسلم يفعل فخرجت
سودة بنت زمعة رضي الله تعالى عنها ليلة من الليالي عشاء وكانت
امرأة طويلة فناداها عمر رضي الله
(11/247)
تعالى عنه بصوته الأعلى قد عرفناك يا سودة
حرصا على أن ينزل الحجاب فأنزل الله تعالى الحجاب وذلك أحد
موافقات عمر رضي الله تعالى عنه وهي مشهورة، وعد الشيعة ما وقع
منه رضي الله تعالى عنه في خبر ابن جرير من المثالب قالوا: لما
فيه من سوء الأدب وتخجيل سودة حرم رسول الله صلّى الله عليه
وسلم وإيذائها بذلك.
وأجاب أهل السنّة بعد تسليم صحة الخبر أنه رضي الله تعالى عنه
رأى أن لا بأس بذلك لما غلب على ظنه من ترتب الخير العظيم
عليه، ورسوله الله صلّى الله عليه وسلم وإن كان أعلم منه وأغير
لم يفعل ذلك انتظارا للوحي وهو اللائق بكمال شأنه مع ربه عزّ
وجلّ.
وأخرج البخاري في الأدب والنسائي من حديث عائشة أنها كانت تأكل
معه عليه الصلاة والسلام (1) وكان يأكل معهما بعض أصحابه
فأصابت يد رجل يدها فكره النبي صلّى الله عليه وسلم ذلك فنزلت
، ولا يبعد أن يكون مجموع ما ذكر سببا للنزول، ونزل الحجاب على
ما أخرج ابن سعد عن أنس سنة خمس من الهجرة.
وأخرج عن صالح بن كيسان أن ذلك في ذي القعدة منها ذلِكُمْ
الظاهر أنه إشارة إلى السؤال من وراء حجاب، وقيل: هو إشارة إلى
ما ذكر من عدم الدخول بغير إذن وعدم الاستئناس للحديث عند
الدخول وسؤال المتاع من وراء حجاب أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ
وَقُلُوبِهِنَّ أي أكثر تطهيرا من الخواطر الشيطانية التي تخطر
للرجال في أمر النساء وللنساء في أمر الرجال فإن الرؤية سبب
التعلق والفتنة، وفي بعض الآثار النظر سهم مسموم من سهام
إبليس، وقال الشاعر:
والمرء ما دام ذا عين يقلبها ... في أعين العين موقوف على
الخطر
يسر مقلته ما ساء مهجته ... لا مرحبا بانتفاع جاء بالضرر
وَما كانَ لَكُمْ أي وما صح وما استقام لكم أَنْ تُؤْذُوا
رَسُولَ اللَّهِ أي تفعلوا في حياته فعلا يكرهه ويتأذى به
كاللبث والاستئناس بالحديث الذي كنتم تفعلونه وغير ذلك،
والتعبير عنه عليه الصلاة والسلام بعنوان الرسالة لتقبيح ذلك
الفعل والإشارة إلى أنه بمراحل عما يقتضيه شأنه صلّى الله عليه
وسلم إذ في الرسالة من نفعهم المقتضي للمقابلة بالمثل دون
الإيذاء ما فيها وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْواجَهُ مِنْ
بَعْدِهِ أَبَداً من بعد وفاته أو فراقه وهو كالتخصيص بعد
التعميم فإن نكاح زوجة الرجل بعد فراقه إياها من أعظم الأذى.
ومن الناس من تفرط غيرته على زوجته حتى يتمنى لها الموت لئلا
تنكح من بعده وخصوصا العرب فإنهم أشد الناس غيرة.
وحكى الزمخشري أن بعض الفتيان قتل جارية له يحبها مخافة أن تقع
في يد غيره بعد موته. وظاهر النهي أن العقد غير صحيح، وعموم
الأزواج ظاهر في أنه لا فرق في ذلك بين المدخول بها وغيرها
كالمستعيذة والتي رأى بكشحها بياضا فقال لها عليه الصلاة
والسلام قبل الدخول «الحقي بأهلك» وهو الذي نص عليه الإمام
الشافعي وصححه في الروضة. وصحح إمام الحرمين والرافعي في
الصغير أن التحريم للمدخول بها فقط لما روي أن الأشعث بن قيس
الكندي نكح المستعيذة في زمن عمر رضي الله تعالى عنه فهم عمر
برجمه فأخبر أنها لم يكن مدخولا بها فكف من غير نكير. وروي
أيضا أن قتيلة بنت قيس أخت الأشعث المذكور تزوجها عكرمة بن أبي
جهل بحضرموت وكانت قد زوجها أخوها قبل من رسول الله صلّى الله
عليه وسلم فقبل أن يدخل بها حملها معه إلى حضرموت وتوفي عنها
عليه الصلاة
__________
(1)
وفي مجمع البيان للطبرسي أن مجاهدا روى عن عائشة أنها كانت
تأكل مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم حسيا في قعب فمر عمر
فدعاه عليه الصلاة والسلام فأكل فأصابت أصبعه أصبع عائشة فقال:
لو أطاع فيكن ما رأتكن عين فنزلت آية الحجاب
اهـ منه.
(11/248)
والسلام فبلغ ذلك أبا بكر رضي الله تعالى
عنه فقال: هممت أن أحرق عليها بيتها فقال له عمر: ما هي من
أمهات المؤمنين ما دخل بها صلّى الله عليه وسلم ولا ضرب عليها
الحجاب.
وقيل: لم يحتج عليه بذلك بل احتج بأنها ارتدت حين ارتد أخوها
فلم تكن من أمهات المؤمنين بارتدادها وكذا هو ظاهر في أنه لا
فرق في ذلك بين المختارة منهن الدنيا كفاطمة بنت الضحاك بن
سفيان الكلابي في رواية ابن إسحاق والمختارة الله تعالى ورسوله
صلّى الله عليه وسلم كنسائه عليه الصلاة والسلام التسع اللاتي
توفي عنهن.
وللعلماء في حل مختارة الدنيا للأزواج طريقان، أحدهما طرد
الخلاف، والثاني القطع بالحل واختاره الإمام والغزالي عليهما
الرحمة، وكأن من قال بحل غير المدخول بها وبحل المختارة
المذكورة حمل الأزواج على من كن في عصمته يوم نزول الآية وعلى
من يشبههن ولسن إلا المدخولات بهن اللاتي اخترنه عليه الصلاة
والسلام، وإذا حمل ذلك وأريد بقوله تعالى: مِنْ بَعْدِهِ من
بعد فراقه يلزم حرمة نكاح من طلقها صلّى الله عليه وسلم من تلك
الأزواج على المؤمنين وهو كذلك، ومن هنا اختلف القائلون
بانحصار طلاقه صلّى الله عليه وسلم بالثلاث فقال بعضهم: تحل له
عليه الصلاة والسلام من طلقها ثلاثا من غير محلل، وقال آخرون،
لا تحل له أبدا، وظاهر التعبير بالأزواج عدم شمول الحكم لأمة
فارقها صلّى الله عليه وسلم بعد وطئها.
وفي المسألة أوجه ثالثها أنها تحرم إن فارقها بالموت كمارية
رضي الله تعالى عنها ولا تحرم إن باعها أو وهبا في الحياة.
وحرمة نكاح أزواجه عليه الصلاة والسلام من بعده من خصوصياته
صلّى الله عليه وسلم، وسمعت عن بعض جهلة المتصوفة أنهم يحرمون
نكاح زوجة الشيخ من بعده على المريد وهو جهل ما عليه مزيد
إِنَّ ذلِكُمْ إشارة إلى ما ذكر من إيذائه عليه الصلاة والسلام
ونكاح أزواجه من بعده، وما فيه من معنى البعد للإيذان ببعد
منزلته في الشر والفساد كانَ عِنْدَ اللَّهِ في حكمه عزّ وجلّ
عَظِيماً أي أمرا عظيما وخطبا هائلا لا يقادر قدره، وفيه من
تعظيمه تعالى لشأن رسوله صلّى الله عليه وسلم وإيجاب حرمته حيا
وميتا ما لا يخفى.
ولذلك بالغ عزّ وجلّ في الوعيد حيث قال سبحانه: إِنْ تُبْدُوا
شَيْئاً مما لا خير فيه على ألسنتكم كأن تتحدثوا بنكاحهن أَوْ
تُخْفُوهُ في صدوركم فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِكُلِّ شَيْءٍ
عَلِيماً كامل العلم فيجازيكم بما صدر عنكم من المعاصي البادية
والخافية لا محالة، وهذا دليل الجواب والأصل إن تبدوا شيئا أو
تخفوه يجازكم به فإن الله إلخ.
وقيل هو الجواب على معنى فأخبركم أن الله إلخ، وفي تعميم
شَيْءٍ في الموضعين مع البرهان على المقصود من ثبوت علمه تعالى
بما يتعلق بزوجاته صلّى الله عليه وسلم مزيد تهويل وتشديد
ومبالغة الوعيد، وسبب نزول الآية على ما قيل: إنه لما نزلت آية
الحجاب قال رجل: أننهى أن نكلم بنات عمنا إلا من وراء حجاب لئن
مات محمد صلّى الله عليه وسلم لنتزوجن نساءه، وفي بعض الروايات
تزوجت عائشة أو أم سلمة.
وأخرج جويبر عن ابن عباس أن رجلا أتى بعض أزواج النبي صلّى
الله عليه وسلم فكلمها وهو ابن عمها فقال النبي عليه الصلاة
والسلام: لا تقومن هذا المقام بعد يومك هذا فقال: يا رسول الله
إنها ابنة عمي والله ما قلت لها منكرا ولا قالت لي قال النبي
صلّى الله عليه وسلم: قد عرفت ذلك أنه ليس أحد أغير من الله
تعالى وأنه ليس أحد أغير مني فمضى ثم قال عنفني من كلام ابنة
(11/249)
لَا جُنَاحَ
عَلَيْهِنَّ فِي آبَائِهِنَّ وَلَا أَبْنَائِهِنَّ وَلَا
إِخْوَانِهِنَّ وَلَا أَبْنَاءِ إِخْوَانِهِنَّ وَلَا
أَبْنَاءِ أَخَوَاتِهِنَّ وَلَا نِسَائِهِنَّ وَلَا مَا
مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ وَاتَّقِينَ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ
كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا (55) إِنَّ اللَّهَ
وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا
(56) إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ
لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ
لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا (57) وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ
الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا
فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا (58) يَا
أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ
الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ
ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ
اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (59) لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ
الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ
وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ
ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا (60)
مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا
تَقْتِيلًا (61) سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ
قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا (62)
يَسْأَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا
عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ
قَرِيبًا (63) إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ
لَهُمْ سَعِيرًا (64) خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَا يَجِدُونَ
وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (65) يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ
فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ
وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا (66) وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا
أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا
السَّبِيلَا (67) رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ
وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا (68) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ
اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا (69)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا
قَوْلًا سَدِيدًا (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ
وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ
وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا (71) إِنَّا
عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ
وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ
مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا
جَهُولًا (72) لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ
وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ
وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ
وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (73)
عمي لأتزوجنها من بعده فأنزل الله تعالى
هذه الآية فأعتق ذلك الرجل رقبة وحمل على عشرة أبعرة في سبيل
الله تعالى وحج ماشيا من كلمته.
وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن المنذر عن قتادة أن طلحة
بن عبيد الله قال: لو قبض النبي صلّى الله عليه وسلم تزوجت
عائشة فنزلت وَما كانَ لَكُمْ الآية.
قال ابن عطية: كون القائل طلحة رضي الله تعالى عنه لا يصح وهو
الذي يغلب على ظني ولا أكاد أسلم الصحة إلا إذا سلم ما تضمنه
خبر ابن عباس مما يدل على الندم العظيم، وفي بعض الروايات أن
بعض المنافقين قال حين تزوج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أم
سلمة بعد أبي سلمة وحفصة بعد خنيس بن حذافة ما بال محمد صلّى
الله عليه وسلم يتزوج نساءنا والله لو قد مات لأجلنا السهام
على نسائه فنزلت، ولعمري إن ذلك غير بعيد عن المنافقين وهو
أبعد من العيوق عن المؤمنين المخلصين لا سيما من كان من
المبشرين رضي الله تعالى عنهم أجمعين، ورأيت لبعض الأجلة أن
طلحة الذي قال ما قال ليس هو طلحة أحد العشرة وإنما هو طلحة
آخر لا يبعد منه القول المحكي وهذا من باب اشتباه الاسم فلا
إشكال.
(11/250)
لا جُناحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبائِهِنَّ وَلا
أَبْنائِهِنَّ وَلا إِخْوانِهِنَّ وَلا أَبْناءِ إِخْوانِهِنَّ
وَلا أَبْناءِ أَخَواتِهِنَّ استئناف لبيان من لا يجب عليهن
الاحتجاب عنه،
روي أنه لما نزلت آية الحجاب قال الآباء والأبناء والأقارب أو
نحن يا رسول الله نكلمهن أيضا من وراء حجاب فنزلت
، والظاهر أن المعنى لا إثم عليهن في ترك الحجاب من آبائهن
إلخ، وروي ذلك عن قتادة، وعن مجاهد أن المراد لا جناح عليهن في
وضع الجلباب وإبداء الزينة للمذكورين، وفي حكمهم كل ذي رحم
محرم من نسب أو رضاع على ما روى ابن سعد عن الزهري، وأخرج ابن
أبي شيبة وأبو داود في ناسخه عن عكرمة قال: بلغ ابن عباس رضي
الله تعالى عنهما أن عائشة رضي الله تعالى عنها احتجبت من
الحسن رضي الله تعالى عنه فقال: إن رؤيته لها لحل، ولم يذكر
العم والخال لأنهما بمنزلة الوالدين أو لأنه اكتفى عن ذكرهما
بذكر أبناء الأخوة وأبناء الأخوات فإن مناط عدم لزوم الحجاب
بينهن وبين الفريقين عين ما بينهن وبين العم والخال من العمومة
والخئولة لما أنهن عمات لأبناء الاخوة وخالات لأبناء الأخوات،
وقال الشعبي لم يذكرا وإن كانا من المحارم لئلا يصفاها
لأبنائهما وليسوا من المحارم، وقد أخرج نحو ذلك ابن جرير وابن
المنذر عن علي كرّم الله تعالى وجهه، وقد كره الشعبي وعكرمة أن
تضع المرأة خمارها عند عمها أو خالها مخافة وصفه إياها لابنه،
وهذا القول عندي ضعيف لجريان ذلك في النساء كلهن ممن لم يكن
أمهات محارم، ولا أرى صحة الرواية عن علي كرّم الله تعالى وجهه
وَلا نِسائِهِنَّ أي النساء المؤمنات على ما روي عن ابن عباس
وابن زيد ومجاهد، والإضافة إليهن باعتبار أنهن على دينهن
فيحتجبن على الكافرات ولو كتابيات، وفي البحر دخل في نسائهن
الأمهات والأخوات وسائر القرابات ومن يتصل بهن من المتصرفات
لهن والقائمات بخدمتهن.
وَلا ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ ظاهره من العبيد والإماء،
وأخرجه ابن مردويه عن ابن عباس وإليه ذهب الإمام الشافعي، وقال
الخفاجي: مذهب أبي حنيفة أنه مخصوص بالإماء وعلى الظاهر استثنى
المكاتب قال أبو حيان: إنه صلّى الله عليه وسلم أمر بضرب
الحجاب دونه وفعلته أم سلمة مع مكاتبها نبهان وَاتَّقِينَ
اللَّهَ في كل ما تأتين وتذرن لا سيما فيما أمرتن به وما نهيتن
عنه، وفي البحر في الكلام حذف والتقدير اقتصرن على هذا واتقين
الله تعالى فيه أن تتعدينه إلى غيره، وفي نقل الكلام من الغيبة
إلى الخطاب فضل تشديد في طلب التقوى منهن إِنَّ اللَّهَ كانَ
عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً لا تخفى عليه خافية ولا تتفاوت في
علمه الأحوال فيجازي سبحانه على الأعمال بحسبها، هذا واختلف في
حرمة رؤية أشخاصهن مستترات فقال بعضهم بها ونسب ذلك إلى القاضي
عياض، وعبارته فرض الحجاب مما اختصصن به فهو فرض عليهن بلا
خلاف في الوجه والكفين فلا يجوز لهن كشف ذلك في شهادة ولا
غيرها ولا إظهار شخوصهن وإن كن مستترات إلا ما دعت إليه ضرورة
من براز.
ثم استدل بما في الموطأ أن حفصة لما توفي عمر رضي الله تعالى
عنه سترتها النساء عن أن يرى شخصها وأن زينب بنت جحش جعلت لها
القبة فوق نعشها لتستر شخصها انتهى، وتعقب ذلك الحافظ ابن حجر
فقال: ليس فيما ذكره دليل على ما ادعاه من فرض ذلك عليهن فقد
كن بعد النبي صلّى الله عليه وسلم يحججن ويطفن وكان الصحابة
ومن بعدهم يسمعون منهن الحديث وهن مستترات الأبدان لا الأشخاص
اهـ، وأنا أرى أفضلية ستر الأشخاص فلا يبعد القول بندبه لهن
وطلبه منهن أزيد من غيرهن، وفي البحر ذهب عمر رضي الله تعالى
عنه إلى أنه لا يشهد جنازة زينب إلا ذو محرم منها مراعاة
للحجاب فدلته أسماء بنت عميس على سترها في النعش بقبة تضرب
عليه وأعلمته أنها رأت ذلك في بلاد
(11/251)
الحبشة فصنعه عمر رضي الله تعالى عنه، وروي
أنه صنع ذلك في جنازة فاطمة بنت رسول الله صلّى الله عليه وسلم
إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ
كالتعليل لما أفاده الكلام السابق من التشريف العظيم الذي لم
يعهد له نظير، والتعبير بالجملة الاسمية للدلالة على الدوام
والاستمرار، وذكر أن الجملة تفيد الدوام نظرا إلى صدرها من حيث
إنها جملة اسمية وتفيد التجدد نظرا إلى عجزها من حيث إنها جملة
فعلية فيكون مفادها استمرار الصلاة وتجددها وقتا فوقتا،
وتأكيدها بأن للاعتناء بشأن الخبر، وقيل لوقوعها في جواب سؤال
مقدر هو ما سبب هذا التشريف العظيم؟ وعبر بالنبي دون اسمه صلّى
الله عليه وسلم على خلاف الغالب في حكايته تعالى عن أنبيائه
عليهم السّلام إشعارا بما اختص به صلّى الله عليه وسلم من مزيد
الفخامة والكرامة وعلو القدر، وأكد ذلك الإشعار بأل التي
للغلبة إشارة إلى أنه صلّى الله عليه وسلم المعروف الحقيق بهذا
الوصف، وقال بعض الأجلة: إن ذاك للإشعار بعلة الحكم، ولم يعبر
بالرسول بدله ليوافق ما قبله من قوله تعالى: وَما كانَ لَكُمْ
أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ لأن الرسالة أفضل من النبوة على
الصحيح الذي عليه الجمهور خلافا للعز بن عبد السلام فتعليق
الحكم بها لا يفيد قوة استحقاقه عليه الصلاة والسلام للصلاة
بخلاف تعليقه بما هو دونها مع وجودها فيه وهو معنى دقيق لا
يتسارع إلى الاعتراض عليه، وإضافة الملائكة للاستغراق.
وقيل: مَلائِكَتَهُ ولم يقل الملائكة إشارة إلى عظيم قدرهم
ومزيد شرفهم بإضافتهم إلى الله تعالى وذلك مستلزم لتعظيمه صلّى
الله عليه وسلم بما يصل إليه منهم من حيث إن العظيم لا يصدر
منه إلا عظيم، ثم فيه التنبيه على كثرتهم وأن الصلاة من هذا
الجمع الكثير الذي لا يحيط بمنتهاه غير خالقه واصلة إليه صلّى
الله عليه وسلم على ممر الأيام والدهور مع تجددها كل وقت وحين،
وهذا أبلغ تعظيم وأنهاه وأشمله وأكمله وأزكاه.
واختلفوا في معنى الصلاة من الله تعالى وملائكته عليهم السلام
على نبيه صلّى الله عليه وسلم على أقوال فقيل: هي منه عزّ وجلّ
ثناؤه عليه عند ملائكته وتعظيمه، ورواه البخاري عن أبي العالية
وغيره عن الربيع بن أنس وجرى عليه الحليمي في شعب الإيمان،
وتعظيمه تعالى إياه في الدنيا بإعلاء ذكره وإظهار دينه وإبقاء
العمل بشريعته، وفي الآخرة بتشفيعه في أمته وإجزال أجره
ومثوبته وإبداء فضله للأولين والآخرين بالمقام المحمود وتقديمه
على كافة المقربين الشهود، وتفسيرها بذلك لا ينافي عطف غيره
كالآل والأصحاب عليه لأن تعظيم كل أحد بحسب ما يليق به، وهي من
الملائكة الدعاء له عليه الصلاة والسلام على ما رواه عبد بن
حميد وابن أبي حاتم عن أبي العالية، وقيل: هي منه تعالى رحمته
عزّ وجلّ، ونقله الترمذي عن الثوري وغير واحد من أهل العلم
ونقل عن أبي العالية أيضا، وعن الضحّاك وجرى عليه المبرد وابن
الأعرابي والإمام الماوردي وقال: إن ذلك أظهر الوجوه.
واعترض بما مر عند الكلام في قوله تعالى: هُوَ الَّذِي
يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ [الأحزاب: 43] والجواب هو
الجواب، وبأن الصحابة رضي الله تعالى عنهم سألوا كما سيأتي
قريبا إن شاء الله تعالى لما نزلت عن كيفية الصلاة فلو لم
يكونوا فهموا المغايرة بينها وبين الرحمة ما سألوا عن كيفيتها
مع كونهم علموا الدعاء بالرحمة في التشهد.
وأجيب بأنها رحمة خاصة فسألوا عن الكيفية ليحيطوا علما بذلك
الخصوص، وهي من الملائكة كما سمعت أولا، ويلزم على هذا وذلك
استعمال اللفظ في معنيين ولا يجوزه كثير كالحنفية، والقائلون
بأحد القولين الذين لا يجوزون الاستعمال المذكور اختلفوا في
التقصي عن ذلك في الآية فقال بعضهم: في الآية حذف والأصل إن
الله يصلي وملائكته يصلون فيكون قد أدى كل معنى بلفظ، وقال
آخر: تعدد الفاعل صير الفعل كالمتعدد، وقال صدر الشريعة ويجوز
أن يكون المعنى واحدا حقيقيا وهو الدعاء والمعنى والله تعالى
أعلم أنه تعالى يدعو ذاته والملائكة بإيصال الخير وذلك في حقه
تعالى بالرحمة وفي حق الملائكة بالاستغفار، وفيه دغدغة لا
تخفى، وقال جمع من المحققين:
يتقصى عن ذلك بعموم المجاز فيراد معنى مجازي عام يكون كل من
المعاني فردا حقيقيا له وهو الاعتناء بما فيه خيره
(11/252)
صلّى الله عليه وسلم وصلاح أمره وإظهار
شرفه وتعظيم شأنه أو الترحم والانعطاف المعنوي.
وقال بعض الأجلة: إن معنى الصلاة يختلف باعتبار حال المصلي
والمصلّى له والمصلّى عليه، والأولى أنها موضوعة هنا للقدر
المشترك وهو الاعتناء بالمصلّى عليه أو إرادة وصول الخير، وقال
آخر: الصواب أن الصلاة لغة بمعنى واحد وهو العطف ثم هو بالنسبة
إليه تعالى الرحمة وإلى الملائكة عليهم السّلام الاستغفار وإلى
الآدميين الدعاء.
وتعقب بأن العطف بمعناه الحقيقي مستحيل عليه تعالى فيلزم من
اعتباره مسندا إليه تعالى وإلى الملائكة عليهم السّلام ما
يلزم. وأجيب بأنا لا نسلم الاستحالة إلا إذا كان العطف في
الغائب كالعطف في الشاهد لا يتحقق إلا بقلب ونحوه من صفات
الأجسام المستحيلة عليه سبحانه، ونحن من وراء المنع فكثير مما
في الشاهد شيء وهو في الله تعالى وراء ذلك ويسند إليه سبحانه
على الحقيقة كالسمع والبصر وكذا الإرادة.
وقد ذهب السلف إلى عدم تأويل الرحمة فيه تعالى بأحد التأويلين
المشهورين مع أنها في الشاهد لا تتحقق إلا بما يستحيل عليه
تعالى ولو أوجب ذلك التأويل لم يبق بأيدينا غير محتاج إليه إلا
قليل، وقد تقدم ما يتعلق بهذا المطلب في غير موضع من هذا
الكتاب، وقد يختار أن الصلاة هنا تعظيم لشأنه صلّى الله عليه
وسلم يقارنه عطف لائق به تعالى وبملائكته، وإذا انسحبت عليه
عليه الصلاة والسّلام وعلى أحد من المؤمنين تعلقت بكل حسبما
يليق به، وجمع الله سبحانه والملائكة في ضمير واحد لا ينافي
قوله عليه الصلاة والسّلام لمن قال: من يطع الله ورسوله فقد
رشد ومن يعصهما فقد غوى «بئس خطيب القوم أنت قل ومن يعص الله
ورسوله»
لأن ذلك منه تعالى محض تشريف للملائكة عليهم السّلام لا يتوهم
منه نقص ولذا قيل إذا صدر مثله عن معصوم قيل كما في
قوله صلّى الله عليه وسلم: «لا يؤمن أحدكم حتى يكون الله
ورسوله أحب إليه مما سواهما»
وقال بعضهم: لا بأس بذلك مطلقا، وذم الخطيب لأنه وقف على
يعصهما وسكت سكتة واستدل بخبر لأبي داود، وقيل يقبح إذا كان في
جملتين كما في كلام الخطيب ولا يقبح إذا كان في واحدة كما في
الآية وكلام الحبيب عليه الصلاة والسّلام وفيه بحث. وقرأ ابن
عباس وعبد الوارث عن أبي عمرو «وملائكته» بالرفع فعند الكوفيين
غير الفراء هو عطف على محل إن واسمها، والفراء يشترط في العطف
على ذلك خفاء إعراب اسم إن كما في قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ
آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالصَّابِئُونَ [المائدة: 69]
وكما في قول الشاعر:
ومن يك أمسى في المدينة رحله ... فإني وقيار بها لغريب
وهل خفاء الإعراب شامل للاسم المقصور والمضاف للياء أو خاص
بالمبني فيه خلاف، وعند البصريين والفراء هو مبتدأ وجملة
يُصَلُّونَ خبره وخبر إن محذوف ثقة بدلالة ما بعد عليه أي إن
الله يصلي وملائكته يصلون يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
صَلُّوا عَلَيْهِ أي عظموا شأنه عاطفين عليه فإنكم أولى بذلك.
وظاهر سوق الآية أنه لإيجاب اقتدائنا به تعالى فيناسب اتحاد
المعنى مع اتحاد اللفظ، وقراءة ابن مسعود صلوا عليه كما صلّى
عليه وكذا قراءة الحسن فصلوا عليه أظهر فيما ذكر فيبعد تفسير
صلوا عليه بقولوا: اللهم صلّ على النبي أو نحوه.
ومن فسره بذلك أراد أن المراد بالتعظيم المأمور به ما يكون
بهذا اللفظ ونحوه مما يدل على طلب التعظيم لشأنه عليه الصلاة
والسّلام من الله عزّ وجلّ لقصور وسع المؤمنين عن أداء حقه
عليه الصلاة والسّلام.
وما جاء في الأخبار إرشاد إلى كيفية ذلك وصفته لا أنه تفسير
للفظ صلوا، وجاء ذلك على عدة أوجه والجمع ظاهر.
أخرج عبد الرزاق وابن أبي شيبة والإمام أحمد وعبد بن حميد
والبخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي
(11/253)
وابن ماجه وابن مردويه عن كعب بن عجرة رضي
الله تعالى عنه قال: قال رجل: يا رسول الله أما السّلام عليك
فقد علمناه فكيف الصلاة عليك قال: «قل اللهم صلّ على محمد وعلى
آل محمد كما صليت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد اللهم بارك على
محمد وعلى آل محمد كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد.
وأخرج الإمام مالك والإمام أحمد والبخاري ومسلم وأبو داود
والنسائي وابن ماجة وغيرهم عن أبي حميد الساعدي أنهم قالوا: يا
رسول الله كيف نصلي عليك؟ فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم:
«قولوا اللهم صلي على محمد وأزواجه وذريته كما صليت على آل
إبراهيم وبارك على محمد وأزواجه وذريته كما باركت على آل
إبراهيم إنك حميد مجيد»
وأخرج الإمام أحمد والبخاري والنسائي وابن ماجة وغيرهم عن أبي
سعيد الخدري قلنا: يا رسول الله هذا السّلام عليك قد علمنا
فكيف الصلاة عليك؟ قال: «قولوا اللهم صلّ على محمد عبدك ورسولك
كما صليت على إبراهيم وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت
على إبراهيم» .
وأخرج النسائي وغيره عن أبي هريرة، أنهم سألوا رسول الله صلّى
الله عليه وسلم كيف نصلي عليك. قال: «قولوا اللهم صل على محمد
وعلى آل محمد وبارك على محمد وعلى آل محمد كما صليت وباركت على
إبراهيم وآل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد والسّلام كما
قد علمتم»
وأخرج الإمام أحمد. وعبد بن حميد وابن مردويه عن ابن بريدة رضي
الله تعالى عنه قال: قلنا يا رسول الله قد علمنا كيف نسلم عليك
فكيف نصلي عليك؟ قال: «قولوا اللهم اجعل صلواتك ورحمتك وبركاتك
على محمد وعلى آل محمد كما جعلتها على إبراهيم إنك حميد مجيد»
إلى غير ذلك مما ملئت منه كتب الحديث إلا أن في بعض الروايات
المذكورة فيها مقالا، والظاهر من السؤال أنه سؤال عن الصفة كما
أشرنا إليه قبل وهو الذي رجحه الباجي وغيره وجزم به القرطبي
وقيل: إنه سؤال عن معنى الصلاة وبأي لفظ تؤدى والحامل لهم على
السؤال على هذا أن السّلام لما ورد في التشهد بلفظ مخصوص فهموا
أن الصلاة أيضا تقع بلفظ مخصوص ولم يفروا إلى القياس لتيسر
الوقوف على النص سيما والأذكار يراعى فيها اللفظ ما أمكن فوقع
الأمر كما فهموه فإنه لم يقل عليه الصلاة والسّلام كالسلام بل
علمهم صفة أخرى كذا قيل ويقال على الأول: إنهم لما سمعوا الأمر
بالصلاة بعد سماع أن الله عزّ وجلّ وملائكته عليهم السّلام
يصلون عليه صلّى الله عليه وسلم وفهموا أن الصلاة منه عزّ وجلّ
ومن ملائكته عليه عليه الصلاة والسّلام نوع من تعظيم لائق بشأن
ذلك النبي الكريم عليه من الله تعالى أفضل الصلاة وأكمل
التسليم لم يدروا ما اللائق منهم من كيفيات تعظيم ذلك الجناب
وسيد ذوي الألباب صلّى الله عليه وسلم صلاة وسلاما يستغرقان
الحساب فسألوا عن كيفية ذلك التعظيم فأرشدهم عليه الصلاة
والسّلام إلى ما علم أنه أولى أنواعه وهو بهم رؤوف رحيم
فقال صلّى الله عليه وسلم: «قولوا اللهم صلّ محمد»
إلى آخر ما في بعض الروايات الصحيحة، وفيه إيماء إلى أنكم
عاجزون عن التعظيم اللائق بي فاطلبوه من الله عزّ وجلّ لي.
ومن هنا يعلم أن الآتي بما أمر به من طلب الصلاة له صلّى الله
عليه وسلم عزّ وجلّ آت بأعظم أنواع التعظيم لتضمنه الإقرار
بالعجز عن التعظيم اللائق، وقد قيل ونسب إلى الصديق رضي الله
تعالى عنه العجز عن درك الإدراك إدراك. ويقرب في الجملة مما
ذكرنا قول بعض الأجلة ونقله أبو اليمن بن عساكر وحسنه لما
أمرنا الله تعالى بالصلاة على نبيه صلّى الله عليه وسلم لم
نبلغ معرفة فضلها ولم ندرك حقيقة مراد الله تعالى فيه فأحلنا
ذلك إلى الله عزّ وجلّ فقلنا اللهم صل أنت على رسولك لأنك أعلم
بما يليق به وبما أردته له صلّى الله عليه وسلم انتهى، ولعل ما
ذكرناه ألطف منه، ومقتضى ظاهر إرشاده صلّى الله عليه وسلم
إياهم إلى طلب الصلاة عليه من الله تعالى شأنه أنه لا يحصل
امتثال الأمر إلا بما فيه طلب ذلك منه عزّ وجلّ ويكفي اللهم صل
على محمد لأنه الذي اتفقت عليه الروايات في بيان الكيفية، وكأن
خصوصية الإنشاء لفظا ومعنى غير لازمة، ولذا قال بعض من أوجبها
في الصلاة وستعلمه إن شاء الله تعالى: إنه كما يكفي اللهم صلّ
على محمد، ولا يتعين اللفظ الوارد
(11/254)
خلافا لبعضهم يكفي صلّى الله على محمد على
الأصح بخلاف الصلاة على رسول الله فإنه لا يجزي اتفاقا لأنه
ليس فيه إسناد الصلاة إلى الله تعالى فليس في معنى الوارد. وفي
تحفة ابن حجر يكفي الصلاة على محمد إن نوى بها الدعاء فيما
يظهر، وقال النيسابوري: لا يكفي صليت على محمد لأن مرتبة العبد
تقصر عن ذلك بل يسأل ربه سبحانه أن يصلي عليه عليه الصلاة
والسّلام وحينئذ فالمصلي عليه حقيقة هو الله تعالى، وتسمية
العبد مصليا عليه مجاز عن سؤاله الصلاة من الله تعالى عليه
صلّى الله عليه وسلم فتأمله.
وذكروا أن الإتيان بصيغة الطلب أفضل من الإتيان بصيغة الخبر.
وأجيب عن إطباق المحدثين على الإتيان بها بأنه مما أمرنا به من
تحديث الناس بما يعرفون إذ كتب الحديث يجتمع عند قراءتها أكثر
العوام فخيف أن يفهموا من صيغة الطلب أن الصلاة عليه صلّى الله
عليه وسلم لم توجد من الله عزّ وجلّ بعد وإلا لما طلبنا حصولها
له عليه صلاة الله تعالى وسلامه فأتى بصيغة يتبادر إلى أفهامهم
منها الحصول وهي مع إبعادها إياهم من هذه الورطة متضمنة للطلب
الذي أمرنا به انتهى، ولا يخفى ضعفه فالأولى أن يقال: إن ذلك
لأن تصليتهم في الأغلب في أثناء الكلام الخبري نحو قال النبي
صلّى الله عليه وسلم كذا وفعل صلّى الله عليه وسلم كذا فأحبوا
أن لا يكثر الفصل وأن لا يكون الكلام على أسلوبين لما في ذلك
من الخروج عن الجادة المعروفة إذ قلما تجد في الفصيح توسط جملة
دعائية إلا وهي خبرية لفظا مع احتمال تشوش ذهن السامع وبطء
فهمه وحسن الإفهام مما تحصل مراعاته فتدبر.
والظاهر أنه لا يحصل الامتثال بأللهم عظم محمدا التعظيم اللائق
ونحوه مما ليس فيه مشتق من الصلاة كصلّ وصلّى فإنا لم نسمع
أحدا عد قائل ذلك مصليا عليه صلّى الله عليه وسلم وذلك في غاية
الظهور إذا كان قولوا اللهم صل على محمد تفسيرا لقوله تعالى:
صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً أي وقولوا والسّلام
عليك أيها النبي ونحوه وهذا ما عليه أكثر العلماء الأجلة، وفي
معنى السّلام عليك ثلاثة أوجه، أحدها السلامة من النقائص
والآفات لك ومعك أي مصاحبة وملازمة فيكون السّلام مصدرا بمعنى
السلامة كاللذاذ واللذاذة والملام والملامة ولما في السّلام من
الثناء عدي بعلى لا لاعتبار معنى القضاء أي قضى الله تعالى
عليك السّلام كما قيل لأن القضاء كالدعاء لا يتعدى بعلى للنفع
ولا لتضمنه معنى الولاية والاستيلاء لبعده في هذا الوجه،
ثانيها السّلام مداوم على حفظك ورعايتك ومتولّ له وكفيل به
ويكون السّلام هنا اسم الله تعالى، ومعناه على ما اختاره ابن
فورك وغيره من عدة أقوال ذو السلامة من كل آفة ونقيصة ذاتا
وصفة وفعلا، وقيل: إذا أريد بالسلام ما هو من أسمائه تعالى
فالمراد لا خلوت من الخير والبركة وسلمت من كل مكروه لأن اسم
الله تعالى إذا ذكر على شيء أفاده ذلك.
وقيل: الكلام على هذا التقدير على حذف المضاف أي حفظ الله
تعالى عليك والمراد الدعاء بالحفظ، وثالثها الانقياد عليك على
أن السّلام من المسالمة وعدم المخالفة، والمراد الدعاء بأن
يصير الله تعالى العباد منقادين مذعنين له عليه الصلاة
والسّلام ولشريعته وتعديته بعلى قيل: لما فيه من الإقبال فإن
من انقاد لشخص وأذعن له فقد أقبل عليه، والأرجح عندي هو الوجه
الأول، وقيل: معنى سَلِّمُوا تَسْلِيماً انقادوا لأوامره صلّى
الله عليه وسلم انقيادا وهو غير بعيد إلا أن ظواهر الأخبار
والآثار تقتضي المعنى السابق وكأنه لذلك ذهب إليه الأكثرون،
والجملة صيغة خبر معناها الدعاء بالسلامة وطلبها منه تعالى
لنبيه صلّى الله عليه وسلم واستشكل ذلك فيما إذا قال الله
تعالى السّلام عليك أيها النبي أو نحوه بأن الدعاء لا يتصور
منه عزّ وجلّ لأنه طلب وهو يتضمن طالبا ومطلوبا ومطلوبا منه
وهي أمور متغايرة فإن كان طلبه سبحانه السلامة لنبيه عليه
الصلاة والسّلام من غيره تعالى فمحاليته من أجلى البديهيات،
وإن كان من ذاته عزّ وجلّ لزم أن يغاير ذاته والشيء لا يغاير
ذاته ضرورة، وهذا منشأ قول بعضهم: إن في السّلام منه تعالى
إشكالا له شأن فينبغي الاعتناء به وعدم إهمال أمره فقل من يدرك
سره.
(11/255)
وأجيب بأن الطلب من باب الإرادات والمريد
كما يريد من غيره أن يفعل شيئا فكذلك يريد من نفسه أن يفعله هو
والطلب النفسي وإن لم يكن الإرادة فهو أخص منها وهي كالجنس له
فكما يعقل أن المريد يريد من نفسه فكذلك يطلب منها إذ لا فرق
بين الطلب والإرادة، والحاصل أن طلب الحق جل وعلا من ذاته أمر
معقول يعلمه كل واحد من نفسه بدليل أنه يأمرها وينهاها قال
سبحانه: إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ [يوسف: 53]
وَأَمَّا مَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ
الْهَوى [النازعات: 40] والأمر والنهي قسمان من الطلب وقد
تصورا من الإنسان لنفسه بالنص فكذا بقية أقسام الطلب وأنواعه،
وأوضح من هذا أن الطلب منه تعالى بمعنى الإرادة وتعقل إرادة
الشخص من ذاته شيئا بناء على التغاير الاعتباري ومثله يكفي في
هذا المقام، ومعنى اللهم سلم على النبي اللهم قل السلام على
النبي على ما قيل، وقيل: معناه اللهم أوجد أو حقق السلامة له،
وقيل: اللهم سلمه من النقائص والآفات.
وقال بعض المعاصرين: إن السلام عليك ونحوه من الله عزّ وجلّ
لإنشاء السلامة وإيجادها بهذا اللفظ نظير ما قالوه في صيغ
العقود واختار أن معنى اللهم سلم على النبي اللهم أوجد السلامة
أو حققها له دون قل السلام على النبي تقليلا للمسافة فتدبر،
وقد يكون السلام منه عزّ وجلّ على أنبيائه عليهم السّلام نحو
قوله سبحانه: سَلامٌ عَلى نُوحٍ فِي الْعالَمِينَ [الصافات:
79] . سَلامٌ عَلى إِبْراهِيمَ [الصافات: 109] سَلامٌ عَلى
مُوسى وَهارُونَ [الصافات: 120] تنبيها على أنه جل شأنه جعلهم
بحيث يدعى لهم ويثنى عليهم، ونصب تَسْلِيماً على أنه مصدر
مؤكد، وأكد سبحانه التسليم ولم يؤكد الصلاة قيل لأنها مؤكدة
بإعلامه تعالى أنه يصلي عليه وملائكته ولا كذلك التسليم فحسن
تأكيده بالمصدر إذ ليس ثم ما يقوم مقامه.
وإلى هذا يؤول قول ابن القيم التأكيد فيهما (1) وإن اختلف جهته
فإنه تعالى أخبر في الأول بصلاته وصلاة ملائكته عليه مؤكدا له
بأن وبالجمع المفيد للعموم في الملائكة وفي هذا من تعظيمه صلّى
الله عليه وسلم ما يوجب المبادرة إلى الصلاة عليه من غير توقف
على الأمر موافقة لله تعالى وملائكته في ذلك، وبهذا استغنى عن
تأكيد «يصلي» بمصدر ولما خلا السلام عن هذا المعنى وجاء في حيز
الأمر المجرد حسن تأكيده بالمصدر تحقيقا للمعنى وإقامة لتأكيد
الفعل مقام تقريره وحينئذ حصل لك التكرير في الصلاة خبرا وطلبا
كذلك حصل لك التكرير في السلام فعلا ومصدرا، وأيضا هي مقدمة
عليه لفظا والتقديم يفيد الاهتمام فحسن تأكيد السلام لئلا
يتوهم قلة الاهتمام به لتأخره، وقيل: إن في الكلام الاحتباك
والأصل صلوا عليه تصلية وسلموا عليه تسليما فحذف عليه من إحدى
الجملتين والمصدر من الأخرى وأضيفت الصلاة إلى الله تعالى
وملائكته دون السلام وأمر المؤمنون بهما قيل لأن للسلام معنيين
التحية والانقياد فأمرنا بهما لصحتهما هنا، ولم يضف لله سبحانه
والملائكة لئلا يتوهم إنه في الله تعالى والملائكة بمعنى
الانقياد المستحيل في حقه تعالى وكذا في حق الملائكة، وقيل
الصلاة من الله سبحانه والملائكة متضمنة للسلام بمعنى التحية
الذي لا يتصور غيره فكان في إضافة الصلاة إليه تعالى وإلى
الملائكة استلزام لوجود السلام بهذا المعنى، وأما الصلاة منا
فهي وأن استلزمت التحية أيضا إلا أنا مخاطبون بالانقياد وهي لا
تستلزمه فاحتيج إلى التصريح به فينا لأن الصلاة لا تغني عن
معنييه المتصورين في حقنا المطلوبين منا، ثم قيل: وهذا أولى
مما قبله لأن ذلك يرد عليه قوله تعالى: سَلامٌ عَلى
إِبْراهِيمَ وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ
كُلِّ بابٍ سَلامٌ عَلَيْكُمْ [الرعد: 23، 24] ولا يرد هذان
على هذا اهـ، وفيه بحث.
__________
(1) مبتدأ وخبر اهـ منه.
(11/256)
وقال الشهاب الخفاجي عليه الرحمة: قد لاح
لي في ترك تأكيد السلام وتخصيصه بالمؤمنين نكتة سرية وهي أن
السلام عليه عليه الصلاة والسلام تسليمه عما يؤذيه فلما جاءت
هذه الآية عقيب ذكر ما يؤذي النبي صلّى الله عليه وسلم والأذية
إنما هي من البشر وقد صدرت منهم فناسب التخصيص بهم والتأكيد،
وربما يقال على بعد في ذلك: إنه يمكن أن يكون سلام الله تعالى
وملائكته عليه عليه الصلاة والسلام معلوما للمؤمنين قبل نزول
الآية فلم يذكر ويسلمون فيها لذلك وأن كونهم مأمورين بأن
يسلموا عليه صلّى الله عليه وسلم كان أيضا معلوما لهم ككيفية
السلام ويؤذن بهذه المعلومية ما ورد في عدة أخبار أنهم قالوا
عند نزول الآية: يا رسول الله قد علمنا كيف نسلم عليك وعنوا
بذلك على ما قيل ما في التشهد من السلام فلما أخبروا بصلاة
الله تعالى وملائكته عليه صلّى الله عليه وسلم في الآية مجردة
عن ذكر السلام وأردف ذلك بالأمر بالصلاة كان مظنة عدم الاعتناء
بأمر السلام أو أنه نسخ طلبه منهم فأمروا به مؤكدا دفعا لتوهم
ذلك والله تعالى أعلم بحقيقة الحلا، والأمر في الآية عند
الأكثرين للوجوب بل ذكر بعضهم إجماع الأئمة والعلماء عليه،
ودعوى محمد بن جرير الطبري أنه للندب بالإجماع مردودة أو مؤولة
بالحمل على ما زاد على مرة واحدة في العمر فقد قال القرطبي
المفسر:
لا خلاف في وجوب الصلاة في العمر مرة، وتفصيل الكلام في أمرها
بعد إلغاء القول بندبها أن العلماء اختلفوا فيها فقيل: واجبة
مرة في العمر ككلمة التوحيد لأن الأمر مطلق لا يقتضي تكرارا
والماهية تحصل بمرة وعليه جمهور الأمة منهم أبو حنيفة ومالك
وغيرهما، وقيل: واجبة في التشهد مطلقا، وقيل: واجبة في مطلق
الصلاة، وتفرد بعض الحنابلة بتعين دعاء الافتتاح بها.
وقيل: يجب الإكثار منها من غير تعيين بعدد وحكي ذلك عن القاضي
أبي بكر بن بكير، وقيل: تجب في كل مجلس مرة وإن تكرر ذكره صلّى
الله عليه وسلم مرارا، وقيل: تجب في كل دعاء، وقيل: تجب كلما
ذكر عليه الصلاة والسلام وبه قال جمع من الحنفية منهم الطحاوي،
وعبارته تجب كلما سمع ذكره من غيره أو ذكره بنفسه وجمع من
الشافعية منهم الإمام الحليمي والأستاذ أبو إسحاق الاسفرايني
والشيخ أبو حامد الإسفرايني. وجمع من المالكية منهم الطرطوشي
وابن العربي والفاكهاني وبعض الحنابلة قيل وهو مبني على القول
الضعيف في الأصول أن الأمر المطلق يفيد التكرار وليس كذلك بل
له أدلة أخرى كالأحاديث التي فيها الدعاء بالرغم والأبعاد
والشقاء والوصف بالبخل والجفاء وغير ذلك مما يقتضي الوعيد وهو
عند الأكثر من علامات الوجوب. واعترض هذا القول كثيرون بأنه
مخالف للإجماع المنعقد قبل قائله إذ لم يعرف عن صحابي ولا
تابعي وبأنه يلزم على عمومه أن لا يتفرغ السامع لعبادة أخرى
وأنها تجب على المؤذن وسامعه والقارئ المار بذكره والمتلفظ
بكلمتي الشهادة وفيه من الحرج ما جاءت الشريعة السمحة بخلافه،
وبأن الثناء على الله تعالى كلما ذكر أحق بالوجوب ولم يقولوا
به، وبأنه لا يحفظ عن صحابي أنه قال: يا رسول الله صلى الله
عليك، وبأن تلك الأحاديث المحتج بها للوجوب خرجت مخرج المبالغة
في تأكد ذلك وطلبه وفي حق من اعتاد ترك الصلاة ديدنا.
ويمكن التقصي عن جميع ذلك، أما الأول فلأن القائلين بالوجوب من
أئمة النقل فكيف يسعهم خرق الإجماع على أنه لا يكفي في الرد
عليهم كونه لم يحفظ عن صحابي أو تابعي وإنما يتم الرد إن حفظ
إجماع مصرح بعدم الوجوب كذلك وأني به، وأما الثاني فممنوع بل
يمكن التفرغ لعبادات أخر، وأما الثالث فللقائلين بالوجوب
التزامه وليس فيه حرج، وأما الرابع فلأن جمعا صرحوا بالوجوب في
حقه تعالى أيضا، وأما الخامس فلأنه ورد في عدة طرق عن عدة من
الصحابة أنهم لما قالوا: يا رسول الله قالوا: صلى الله عليك،
وأما السادس فلأن حمل الأحاديث على ما ذكر لا يكفي إلا مع بيان
سنده ولم يبينوه، ثم القائلون بالوجوب كما ذكر أكثرهم على أن
ذلك فرض عين على كل
(11/257)
فرد فرد وبعضهم على أنه فرض كفاية،
واختلفوا أيضا هل يتكرر الوجوب بتكرر ذكره صلّى الله عليه وسلم
في المجلس الواحد، وفي بعض شروح الهداية يكفي مرة على الصحيح
وقال صاحب المجتبى: يتكرر وفي تكرر ذكر الله تعالى لا يتكرر،
وفرق هو وغيره بينهما بما فيه نظر ويمكن الفرق بأن حقوق الله
تعالى مبنية على المسامحة والتوسعة وحقوق العباد مبنية على
المشاحة والتضييق ما أمكن. والقول بأنها أيضا حق الله تعالى
لأمره بها سبحانه ناشئ من عدم فهم المراد بحقه تعالى، وقيل:
إنها تجب في القعود آخر الصلاة بين التشهد وسلام التحلل وهذا
هو مذهب الشافعي الذي صح عنه، ونقل الأسنوي أن له قولا آخر
إنها سنة في الصلاة لم يعتبره أجلة أصحابه ووافقه على ذلك
جماعة من الصحابة والتابعين من بعدهم وفقهاء الأمصار، فمن
الصحابة ابن مسعود فقد صح عنه أنه قال: يتشهد الرجل في الصلاة
ثم يصلي على النبي صلّى الله عليه وسلم ثم يدعو لنفسه، وأبو
مسعود البدري وابن عمر فقد صح عنهما أنه لا تكون صلاة إلا
بقراءة وتشهد وصلاة على النبي صلّى الله عليه وسلم فإن نسيت من
ذلك شيئا فاسجد سجدتين بعد السلام، ومن التابعين الشعبي فقد صح
عنه كنا نعلم التشهد فإذا قال: وأن محمدا عبده ورسوله يحمد ربه
ويثني عليه ثم يصلي على النبي صلّى الله عليه وسلم ثم يسأل
حاجته.
وأخرج البيهقي عنه من لم يصل على النبي صلّى الله عليه وسلم في
التشهد فليعد صلاته أو قال: لا تجزىء صلاته، والإمام أبو جعفر
محمد الباقر فقد روى البيهقي عنه نحو ما ذكر عن الشعبي، وصوبه
الدارقطني ومحمد بن كعب القرظي ومقاتل بل قال الحافظ ابن حجر:
لم أر عن أحد من الصحابة والتابعين التصريح بعدم الوجوب إلا ما
نقل عن إبراهيم النخعي وهذا يشعر بأن غيره كان قائلا بالوجوب،
ومن فقهاء الأمصار أحمد فإنه جاء عنه روايتان والظاهر أن رواية
الوجوب هي الأخيرة فإنه قال: كنت أتهيب ذلك ثم تبينت فإذا
الصلاة على النبي صلّى الله عليه وسلم واجبة وإسحاق بن راهويه
فقد قال في آخر الروايتين عنه: إذا تركها عمدا بطلت صلاته أو
سهوا رجوت أن تجزئه وهو قول عند المالكية اختاره ابن العربي
منهم ولعله لازم للقائلين بوجوبها كلما ذكر صلّى الله عليه
وسلم لتقدم ذكره في التشهد إلا أن وجوبها بعد التشهد لذلك لا
يستلزم كونها شرطا لصحة الصلاة إلا أنه يرد على القائلين بأن
الشافعي رضي الله تعالى عنه شذ في قوله بالوجوب، وأما دليله
رضي الله تعالى عنه على ذلك فمذكور في الأم. وقد استدل له
أصحابه بعدة أحاديث منها الصحيح ومنها الضعيف وألفوا الرسائل
في الانتصار له والرد على من شنع عليه كابن جرير وابن المنذر
والخطابي والطحاوي وغيرهم، وأنا أرى التشنيع على مثل هذا
الإمام شنيعا والتعصب مع قلة التتبع أمرا فظيعا، والكلام في
السلام كالكلام في الصلاة.
وقد صرح ابن فارس اللغوي بأنهما سيان في الفرضية لأن كلا منهما
مأمور به في الآية والأمر للوجوب حقيقة إلا إذا ورد ما يصرفه
عنه. وأفضل الكيفيات في الصلاة عليه صلّى الله عليه وسلم ما
علمه رسول الله عليه الصلاة والسلام لأصحابه بعد سؤالهم إياه
لأنه لا يختار صلّى الله عليه وسلم لنفسه إلا الأشرف والأفضل،
ومن هنا قال النووي في الروضة: لو حلف ليصلين على النبي صلّى
الله عليه وسلم أفضل الصلاة لم يبر إلا بتلك الكيفية، ووجهه
السبكي بأن من أتى بها فقد صلى الصلاة المطلوبة بيقين وكان له
الخير الوارد في أحاديث الصلاة كذلك، ونقل الرافعي عن المروزي
أنه يبر بأللهم صل على محمد وآل محمد كلما ذكرك الذاكرون وكلما
سها عنه الغافلون، وقال القاضي حسين: طريق البر اللهم صلّ على
محمد كما هو أهله ومستحقه، واختار البارزي أن الأفضل اللهم صل
على محمد وعلى آل محمد أفضل صلواتك وعدد معلوماتك، وقال الكمال
بن الهمام: كلما ذكر من الكيفيات موجود في اللهم صل أبدا أفضل
صلواتك على سيدنا عبدك ونبيك ورسولك محمد وآله وسلم عليه
تسليما وزده شرفا وتكريما وأنزله المنزل المقرب عندك يوم
القيامة، واختار ابن حجر الهيثمي غير ذلك، ونقل ابن عرفة عن
ابن عبد السلام أنه لا بدّ في السلام عليه صلّى الله عليه وسلم
أن يزيد تسليما كأن يقول: اللهم
(11/258)
صل على محمد وسلم تسليما أو صلى الله تعالى
عليه وسلم تسليما، وكأنه أخذ بظاهر ما في الآية وليس أخذا
صحيحا كما يظهر بأدنى تأمل، ونقل عن جمع من الصحابة ومن بعدهم
أن كيفية الصلاة عليه صلّى الله عليه وسلم لا يوقف فيها مع
المنصوص وأن من رزقه الله تعالى بيانا فأبان عن المعاني
بالألفاظ الفصيحة المباني الصريحة المعاني مما يعرب عن كمال
شرفه صلّى الله عليه وسلم وعظيم حرمته فله ذلك، واحتج له بما
أخرجه عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن ماجة وابن مردويه عن ابن
مسعود رضي الله تعالى عنه قال: إذا صليتم على النبي صلّى الله
عليه وسلم فأحسنوا الصلاة عليه فإنكم لا تدرون لعل ذلك يعرض
عليه قالوا: فعلمنا؟ قال: قولوا اللهم اجعل صلواتك ورحمتك
وبركاتك على سيد المرسلين وإمام المتقين وخاتم النبيين محمد
عبدك ورسولك إمام الخير وقائد الخير ورسول الرحمة اللهم ابعثه
مقاما محمودا يغبطه به الأولون والآخرون اللهم صل على محمد
وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وآل إبراهيم إنك حميد مجيد،
وفي قوله سبحانه:
صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً رمز خفي فيما أرى إلى
مطلوبية تحسين الصلاة عليه عليه الصلاة والسلام حيث أتى به
كلاما يصلح أن يكون شطرا من البحر الكامل فتدبره فإني أظن أنه
نفيس، واستدل النووي رحمة الله تعالى بالآية على كراهة أفراد
الصلاة عن السلام وعكسه لورود الأمر بهما معا فيها ووافقه على
ذلك بعضهم، واعترض بأن أحاديث التعليم تؤذن بتقدم تعليم
التسليم على تعليم الصلاة فيكون قد أفرد التسليم مرة قبل
الصلاة في التشهد. ورد بأن الإفراد في ذلك الزمن لا حجة فيه
لأنه لم يقع منه عليه الصلاة والسلام قصدا كيف والآية ناصة
عليهما وإنما يحتمل أنه علمهم السلام وظن أنهم يعلمون الصلاة
فسكت عن تعليمهم إياها فلما سألوه أجابهم صلّى الله عليه وسلم
لذلك وهو كما ترى، وذكر العلامة ابن حجر الهيتمي أن الحق أن
المراد بالكراهة خلاف الأولى إذ لم يوجد مقتضيها من النهي
المخصوص.
ونقل الحموي من أصحابنا عن منية المفتي أنه لا يكره عندنا
أفراد أحدهما عن الآخر ثم قال نقلا عن العلامة ميرك وهذا
الخلاف في حق نبينا صلّى الله عليه وسلم وأما غيره من الأنبياء
عليهم السّلام فلا خلاف في عدم كراهة الافراد لأحد من العلماء
ومن ادعى ذلك فعليه أن يورد نقلا صريحا ولا يجد إليه سبيلا
انتهى.
وصرح بعضهم أن الكراهة عند من يقول بها إنما هي في الافراد
لفظا وأما الافراد خطا كما وقع في الأم فلا كراهة فيه، وعندي
أن الاستدلال بالآية على كراهة الأفراد حسبما سمعت في غاية
الضعف إذ قصارى ما تدل عليه أن كلا من الصلاة والتسليم مأمور
به مطلقا ولا تدل على الأمر بالإتيان بهما في زمان واحد كأن
يؤتى بهما مجموعين معطوفا أحدهما على الآخر فمن صلى بكرة وسلم
عشيا مثلا فقد امتثل الأمر فإنها نظير قوله تعالى: أَقِيمُوا
الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ واذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً
كَثِيراً وَسَبِّحُوهُ [الأحزاب: 42] إلى غير ذلك من الأوامر
المتعاطفة، نعم درج أكثر السلف على الجمع بينهما فلا أستحسن
العدول عنه ما ما في ذكر السلام بعد الصلاة من السلامة من توهم
لا يكاد يعرض إلا للأذهان السقيمة كما لا يخفى، وفي دخوله صلّى
الله عليه وسلم في الخطاب بيا أيها الذين آمنوا هنا خلاف فقال
بعضهم بالدخول، وقد صرح بعض أجلة الشافعية بوجوب الصلاة عليه
صلّى الله عليه وسلم في صلاته وذكر أنه صلّى الله عليه وسلم
كان يصلي على نفسه خارجها كما هو ظاهر أحاديث كقوله صلّى الله
عليه وسلم حين ضلت ناقته وتكلم منافق فيها «إن رجلا من
المنافقين شمت أن ضلت ناقة رسول الله صلّى الله عليه وسلم»
وقوله حين عرض على المسلمين رد ما أخذه من أبي العاص زوج ابنته
زينب قبل إسلامه «وإن زينب بنت رسول الله صلّى الله عليه وسلم
سألتني» الحديث فذكر التصلية والتسليم على نفسه بعد ذكره
واحتمال أن ذلك في الحديثين من الراوي بعيد جدا اهـ.
وتوقف بعضهم في دخوله من حيث أن قرينة سياق يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إلى هنا
(11/259)
ظاهرة في اختصاص هذا الحكم بالمؤمنين دونه
صلّى الله عليه وسلم، ونظر فيه بأن ما قبل هذه الآية صريح في
اختصاصه بالمؤمنين وأما هي فلا قرينة فيها على الاختصاص، وأنت
تعلم أن للأصوليين في دخوله صلّى الله عليه وسلم في نحو هذه
الصيغة أقوالا، عدمه مطلقا وهو شاذ، ودخوله مطلقا وهو الأصح
على ما قال جمع، والدخول إلا فيما صدر بأمره بالتبليغ نحو قل
يا أيها الذين آمنوا، وأنا أعول على الدخول إلا إذا أوجدت
قرينة على عدم الدخول سواء كانت الأمر بالتبليغ أولا، وهاهنا
السباق والسياق قرينتان على عدم الدخول فيما يظهر، وعبر بالذين
آمنوا دون الناس الشامل للكفار قيل: إشارة إلى أن الصلاة عليه
صلّى الله عليه وسلم من أجلّ الوسائل وأنفعها والكافر لا وسيلة
له فلم يؤت بلفظ يشمله، ومخاطبة الكفار بالفروع على القول بها
بالنسبة لعقابهم عليها في الآخرة فحسب على أن محل تكليفهم بها
حيث أجمع عليها، ومن ثم استثنى من مخاطبتهم بها معاملتهم
الفاسدة ونحوها.
ولعل الأولى أن التعبير بذلك لما ذكر مع اقتضاء السياق له، وفي
نداء المؤمنين بهذا الأسلوب من حثهم على امتثال الأمر ما لا
يخفى، والأمر بالصلاة والتسليم من خواص هذه الأمة فلم تؤمر أمة
غيرها بالصلاة والتسليم على نبيها.
وكان ذلك على ما نقل عن أبي ذر الهروي في السنة الثانية من
الهجرة، وقيل: كان في ليلة الإسراء، وأنت تعلم أن الآية مدنية،
وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر عن مجاهد أنها لما نزلت قال أبو
بكر: ما أنزل الله عليك خيرا إلا أشركنا فيه فنزلت هُوَ
الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ وحكمة تغاير
أسلوبي الآيتين ظاهرة على المتأمل، والصلاة منا على الأنبياء
ما عدا نبينا عليه وعليهم الصلاة والسلام جائزة بلا كراهة،
فقد جاء بسند صحيح على ما قاله المجد اللغوي «إذا صليتم علي
المرسلين فصلوا علي معهم فإني رسول من المرسلين»
وفي لفظ «إذا سلمتم عليّ فسلموا على المرسلين»
وللأول طريق أخرى إسنادها حسن جيد لكنه مرسل.
وأخرج عبد الرزاق والقاضي إسماعيل وابن مردويه والبيهقي في شعب
الإيمان عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلّى
الله عليه وسلم قال: «صلوا على أنبياء الله ورسله فإن الله
تعالى بعثهم كما بعثني»
وهو وإن جاء من طرق ضعيفة يعمل به في مثل هذا المطلب كما لا
يخفى. وأما ما حكي عن مالك من أنه لا يصلي على غير نبينا صلّى
الله عليه وسلم من الأنبياء فأوله أصحابه بأن معناه إنا لم
نتعبد بالصلاة عليهم كما تعبدنا بالصلاة عليه صلّى الله عليه
وسلم، والصلاة على الملائكة قيل لا يعرف فيها نص وإنما تؤخذ من
حديث أبي هريرة المذكور آنفا إذا ثبت أن الله تعالى سماهم
رسلا. وأما الصلاة على غير الأنبياء والملائكة عليهم السّلام
فقد اضطربت فيها أقوال العلماء فقيل تجوز مطلقا قال القاضي
عياض وعليه عامة أهل العلم واستدل له بقوله تعالى: هُوَ
الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ وبما صح من
قوله صلّى الله عليه وسلم: «اللهم صلّ على آل أبي أوفى»
وقوله عليه الصلاة والسلام وقد رفع يديه: «اللهم اجعل صلواتك
ورحمتك على آل سعد بن عبادة»
وصحح ابن حبان خبر «إن امرأة قالت للنبي صلّى الله عليه وسلم:
صلّ عليّ وعلى زوجي ففعل»
وفي خبر مسلم «أن الملائكة تقول لروح المؤمن:
صلى الله عليك وعلى جسدك»
وبه يرد على الخفاجي قوله في شرح الشفاء صلاة الملائكة على
الأمة لا تكون إلا بتبعيته صلّى الله عليه وسلم. وقيل لا تجوز
مطلقا. وقيل لا تجوز استقلالا وتجوز تبعا فيما ورد فيه النص
كالآل أو ألحق به كالأصحاب. واختاره القرطبي وغيره وقيل تجوز
تبعا مطلقا ولا تجوز استقلالا ونسب إلى أبي حنيفة وجمع. وفي
تنوير الأبصار ولا يصلي على غير الأنبياء والملائكة إلا بطريق
التبع وهو محتمل لكراهة الصلاة بدون تبع تحريما ولكراهتها
تنزيها ولكونها خلاف الأولى لكن ذكر البيري من الحنفية من صلى
على غيرهم إثم وكره وهو الصحيح.
وفي رواية عن أحمد كراهة ذلك استقلالا. ومذهب الشافعية أنه
خلاف الأولى وقال اللقاني: قال القاضي عياض الذي
(11/260)
ذهب إليه المحققون وأميل إليه ما قاله مالك
وسفيان واختاره غير واحد من الفقهاء والمتكلمين أنه يجب تخصيص
النبي صلّى الله عليه وسلم وسائر الأنبياء بالصلاة والتسليم
كما يختص الله سبحانه عند ذكره بالتقديس والتنزيه ويذكر من
سواهم بالغفران والرضا كما قال تعالى: رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ
وَرَضُوا عَنْهُ [التوبة: 100] يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ
لَنا وَلِإِخْوانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونا بِالْإِيمانِ
[الحشر: 10] وأيضا فهو أمر لم يكن معروفا في الصدر الأول وإنما
أحدثه الرافضة في بعض الأئمة والتشبه بأهل البدع منهى عنه فتجب
مخالفتهم انتهى. ولا يخفى أن كراهة التشبه بأهل البدع مقررة
عندنا أيضا لكن لا مطلقا بل في المذموم وفيما قصد به التشبه
بهم فلا تغفل. وجاء عن عمر بن عبد العزيز بسند حسن أو صحيح أنه
كتب لعامله إن ناسا من القصاص قد أحدثوا في الصلاة على حلفائهم
ومواليهم عدل صلاتهم على النبي صلّى الله عليه وسلم فإذا جاءك
كتابي هذا فمرهم أن تكون صلاتهم على النبيين خاصة ودعاؤهم
للمسلمين عامة ويدعوا ما سوى ذلك.
وصح عن ابن عباس أنه قال: لا تنبغي الصلاة من أحد على أحد إلا
على النبي صلّى الله عليه وسلم.
وفي رواية عنه ما أعلم الصلاة تنبغي على أحد من أحد إلا على
النبي صلّى الله عليه وسلم ولكن يدعى للمسلمين والمسلمات
بالاستغفار، وكلاهما يحتمل الكراهة والحرمة. واستدل المانعون
بأن لفظ الصلاة صار شعارا لعظم الأنبياء وتوقيرهم فلا تقال
لغيرهم استقلالا وإن صح كما لا يقال محمد عزّ وجلّ وإن كان
عليه الصلاة والسلام عزيزا جليلا لأن هذا الثناء صار شعارا لله
تعالى فلا يشارك فيه غيره. وأجابوا عما مر بأنه صدر من الله
تعالى ورسوله عليه الصلاة والسلام.
ولهما أن يخصا من شاءا بما شاءا وليس ذلك لغيرهما إلا بإذنهما
ولم يثبت عنهما إذن في ذلك. ومن ثم قال أبو اليمن ابن عساكر له
صلّى الله عليه وسلم أن يصلي على غيره مطلقا لأنه حقه ومنصبه
فله التصرف فيه كيف شاء بخلاف أمته إذ ليس لهم أن يؤثروا غيره
بما هو له لكن نازع فيه صاحب المعتمد من الشافعية بأنه لا دليل
على الخصوصية. وحمل البيهقي القول بالمنع على ما إذا جعل ذلك
تعظيما وتحية وبالجواز عليها إذا كان دعاء وتبركا، واختار بعض
الحنابلة أن الصلاة على الآل مشروعة تبعا وجائزة استقلالا وعلى
الملائكة وأهل الطاعة عموما جائزة أيضا وعلى معين شخص أو جماعة
مكروهة ولو قيل بتحريمها لم يبعد سيما إذا جعل ذلك شعارا له
وحده دون مساويه ومن هو خير منه كما تفعل الرافضة بعلي كرّم
الله تعالى وجهه ولا بأس بها أحيانا كما صلى عليه الصلاة
والسلام على المرأة وزوجها وكما صلى عليه الصلاة والسلام على
علي وعمر رضي الله تعالى عنهما لما دخل عليه وهو مسجى ثم قال:
وبهذا التفصيل تتفق الأدلة، وأنت تعلم اتفاقها بغير ما ذكر.
والسلام عند كثير فيما ذكر وفي شرح الجوهرة للقاني نقلا عن
الإمام الجويني أنه في معنى الصلاة فلا يستعلم في الغائب ولا
يفرد به غير الأنبياء عليهم السّلام فلا يقال علي عليه السّلام
بل يقال رضي الله تعالى عنه. وسواء في هذا الأحياء والأموات
إلا في الحاضر فيقال السّلام أو سلام عليك أو عليكم وهذا مجمع
عليه انتهى. وفي حكاية الإجماع على ذلك نظر.
وفي الدر المنضود السّلام كالصلاة فيما ذكر إلا إذا كان لحاضر
أو تحية لحي غائب، وفرق آخرون بأنه يشرع في حق كل مؤمن بخلاف
الصلاة، وهو فرق بالمدعي فلا يقبل، ولا شاهد في السّلام علينا
وعلى عباد الله الصالحين لأنه وارد في محل مخصوص وليس غيره في
معناه على أن ما فيه وقع تبعا لا استقلالا.
وحقق بعضهم فقال ما حاصله مع زيادة عليه السّلام الذي يعم الحي
والميت هو الذي يقصد به التحية كالسلام عند تلاق أو زيارة قبر
وهو مستدع للرد وجوب كفاية أو عين بنفسه في الحاضر ورسوله أو
كتابه في الغائب، وأما السّلام الذي يقصد به الدعاء منا
بالتسليم من الله تعالى على المدعو له سواء كان بلفظ غيبة أو
حضور فهذا هو الذي اختص به صلّى الله عليه وسلم عن الأمة فلا
يسلم على غيره منهم إلا تبعا كما أشار إليه التقى السبكي في
شفاء الغرام، وحينئذ فقد
(11/261)
أشبه قولنا عليه السّلام قولنا عليه الصلاة
من حيث أن المراد عليه السّلام من الله تعالى، ففيه إشعار
بالتعظيم الذي في الصلاة من حيث الطلب لأن يكون المسلم عليه
الله تعالى كما في الصلاة وهذا النوع من السّلام هو الذي ادعى
الحليمي كون الصلاة بمعناه انتهى.
واختلف في جواز الدعاء له صلّى الله عليه وسلم بالرحمة فذهب
ابن عبد البرّ إلى منع ذلك، ورد بوروده في الأحاديث الصحيحة،
منها وهو أصحها حديث التشهد السّلام عليك أيها النبي ورحمة
الله وبركاته، ومنها قول الأعرابي: اللهم ارحمني ومحمدا
وتقريره صلّى الله عليه وسلم لذلك،
وقوله صلّى الله عليه وسلم: «اللهم إني أسألك رحمة من عندك
اللهم أرجو رحمتك يا حي يا قيوم برحمتك أستغيث»
وفي خطبة رسالة الشافعي ما لفظه صلّى الله عليه وسلم ورحم
وكرم، نعم قضية كلامه كحديث التشهد أن محل الجواز إن ضم إليه
لفظ الصلاة أو السّلام وإلا لم يجز وقد أخذ به جمع منهم الجلال
السيوطي بل نقله القاضي عياض في الإكمال عن الجمهور، قال
القرطبي: وهو الصحيح، وجزم بعدم جوازه منفردا الغزالي عليه
الرحمة فقال: لا يجوز ترحم على النبي ويدل له قوله تعالى: لا
تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ
بَعْضاً [النور: 63] والصلاة وإن كانت بمعنى الرحمة إلا أن
الأنبياء خصوا بها تعظيما لهم وتمييزا لمرتبتهم الرفيعة على
غيرهم على أنها في حقهم ليست بمعنى مطلق الرحمة بل المراد بها
ما هو أخص من ذلك كما سمعت فيما تقدم.
نعم ظاهر قول الأعرابي السابق وتقريره عليه الصلاة والسّلام له
الجواز ولو بدون انضمام صلاة أو سلام.
قال ابن حجر الهيتمي: وهو الذي يتجه وتقريره المذكور خاص فيقدم
على العموم الذي اقتضته الآية ثم قال:
وينبغي حمل قول من قال لا يجوز ذلك على أن مرادهم نفي الجواز
المستوي الطرفين فيصدق بأن ذلك مكروه أو خلاف الأولى، وذكر زين
الدين في بحره أنهم اتفقوا على أنه لا يقال ابتداء رحمه الله
تعالى، وأنا أقول: الذي ينبغي أن لا يقال ذلك ابتداء.
وقال الطحطاوي في حواشيه على الدر المختار: وينبغي أن لا يجوز
غفر الله تعالى له أو سامحه لما فيه من إيهام النقص، وهو الذي
أميل إليه وإن كان الدعاء بالمغفرة لا يستلزم وجوب ذنب بل قد
يكون بزيادة درجات كما يشير إليه استغفاره عليه الصلاة
والسّلام في اليوم والليلة مائة مرة. وكذا الدعاء بها للميت
الصغير في صلاة الجنازة، ومثل ذلك فيما يظهر عفا الله تعالى
عنه وإن وقع في القرآن فإن الله تعالى له أن يخاطب عبده بما
شاء، وأرى حكم الترحم على الملائكة عليهم السّلام كحكم الترحم
عليه صلّى الله عليه وسلم، ومن اختلف في نبوته كلقمان يقل فيه
رضي الله تعالى عنه أو صلّى الله تعالى على الأنبياء وعليه
وسلم، هذا وقد بقيت في هذا المقام أبحاث كثيرة يطول الكلام
بذكرها جدا فلتطلب من مظانها والله تعالى ولي التوفيق وبيده
سبحانه أزمة التحقيق.
إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أريد بالإيذاء
إما ارتكاب ما لا يرضيانه من الكفر وكبائر المعاصي مجازا لأنه
سبب أو لازم له وإن كان ذلك بالنظر إليه تعالى بالنسبة إلى
غيره سبحانه فإنه كاف في العلاقة، وقيل في إيذائه تعالى:
هو قول اليهود والنصارى والمشركين يد الله مغلولة والمسيح ابن
الله والملائكة بنات الله والأصنام شركاؤه تعالى الله عن ذلك
علوا كبيرا، وقيل قول الذين يلحدون في آياته سبحانه، وقيل
تصوير التصاوير وروي عن كعب ما يقتضيه، وقيل في إيذاء الرسول
صلّى الله عليه وسلم هو قولهم: شاعر ساحر كاهن مجنون وحاشاه
عليه الصلاة والسّلام، وقيل هو كسر رباعيته وشج وجهه الشريف
وكان ذلك في غزوة أحد، وقيل طعنهم في نكاح صفية بنت حيي، والحق
هو العموم فيهما، وإما إيذاؤه عليه الصلاة والسّلام خاصة بطريق
الحقيقة وذكر الله عزّ وجلّ لتعظيمه صلّى الله عليه وسلم ببيان
قربه وكونه حبيبه المختص به حتى كان ما يؤذيه يؤذيه سبحانه كما
أن من يطيعه يطيع الله تعالى.
(11/262)
وجوز أن يكون الإيذاء على حقيقته والكلام
على حذف مضاف أي يؤذون أولياء الله ورسوله وليس بشيء، وقيل
يجوز أن يراد منه المعنى المجازي بالنسبة إليه تعالى والمعنى
الحقيقي بالنسبة إلى رسوله عليه الصلاة والسّلام وتعدد المعمول
بمنزلة تكرر لفظ العامل فيخف أمر الجمع بين المعنيين حتى ادعى
بعضهم أنه ليس من الجمع الممنوع وليس بشيء لَعَنَهُمُ اللَّهُ
طردهم وأبعدهم من رحمته فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ بحيث لا
يكادون ينالون فيهما شيئا منها، وذلك في الآخرة ظاهر، وأما في
الدنيا فقيل بمنعهم زيادة الهدى وَأَعَدَّ لَهُمْ مع ذلك
عَذاباً مُهِيناً يصيبهم في الآخرة خاصة وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ
الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ يفعلون بهم ما يتأذون به من
قول أو فعل، وتقييده بقوله تعالى: بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا أي
بغير جنايه يستحقون بها الأذية شرعا بعد إطلاقه فيما قبله
للإيذان بأن أذى الله تعالى ورسوله صلّى الله عليه وسلم لا
يكون إلا في غير حق وأما أذى هؤلاء فمنه ومنه.
وروي أن عمر رضي الله تعالى عنه قال يوما لأبي: يا أبا المنذر
قرأت البارحة آية من كتاب الله تعالى فوقعت مني كل موقع
وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ والله
إني لأعاقبهم وأضربهم فقال: إنك لست منهم إنما أنت معلم ومقوم
وقوله تعالى: الَّذِينَ مبتدأ وقوله سبحانه فَقَدِ احْتَمَلُوا
بُهْتاناً أي فعلا شنيعا وقيل ما هو كالبهتان أي الكذب الذي
يبهت الشخص لفظاعته في الإثم، وقيل احتمل بهتانا أي كذبا فظيعا
إذا كان الإيذاء بالقول وَإِثْماً مُبِيناً أي ظاهرا بينا
خبره، ودخلت الفاء لتضمن الموصول معنى الشرط، والآية قيل نزلت
في منافقين كانوا يؤذون عليا كرّم الله تعالى وجهه ويسمعونه ما
لا خير فيه.
وأخرج ابن جويبر عن الضحّاك عن ابن عباس قال: أنزلت في عبد
الله بن أبي وناس معه قذفوا عائشة رضي الله تعالى عنها فخطب
النبي صلّى الله عليه وسلم وقال: «من يعذرني من رجل يؤذيني
ويجمع في بيته من يؤذيني فنزلت» .
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عنه رضي الله تعالى عنها أنها
نزلت في الذين طعنوا على النبي صلّى الله عليه وسلم في أخذ
صفية بنت حيي رضي الله تعالى عنها، وعن الضحّاك والسدي والكلبي
أنها نزلت في زناة كانوا يتبعون النساء إذا برزن بالليل لقضاء
حوائجهن وكانوا لا يتعرضون إلا للإماء ولكن ربما يقع منهم
التعرض للحرائر جهلا أو تجاهلا لاتحاد الكل في الزيّ واللباس،
والظاهر عموم الآية لكل ما ذكر ولكل ما سيأتي من أراجيف
المرجفين، وفيها من الدلالة على حرمة المؤمنين والمؤمنات ما
فيها، وأخرج ابن أبي حاتم عن مجاهد في هذه الآية قال: يلقى
الجرب على أهل النار فيحكون حتى تبدو العظام فيقولون ربنا
بماذا أصابنا هذا فيقال: بأذاكم المسلمين، وأخرج غير واحد عن
قتادة قال:
إياكم وأذى المؤمن فإن الله تعالى يحوطه ويغضب له.
وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي في شعب الإيمان عن
عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: «قال رسول الله صلّى الله
عليه وسلم لأصحابه أي الربا أربى عند الله؟ قالوا: الله ورسوله
أعلم قال: أربى الربا عند الله استحلال عرض امرئ مسلم ثم قرأ
صلّى الله عليه وسلم والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما
اكتسبوا الآية» .
يا أَيُّهَا النَّبِيُّ بعد ما بين سبحانه سوء حال المؤذين
زجرا لهم عن الإيذاء أمر النبي صلّى الله عليه وسلم بأن يأمر
بعض المتأذين منهم بما يدفع إيذاءهم في الجملة من التستر
والتميز عن مواقع الإيذاء فقال عزّ وجلّ:
قُلْ لِأَزْواجِكَ وَبَناتِكَ وَنِساءِ الْمُؤْمِنِينَ
يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ روي عن غير واحد
أنه كانت الحرة والأمة تخرجان ليلا لقضاء الحاجة في الغيطان
وبين النخيل من غير امتياز بين الحرائر والإماء وكان في
المدينة فساق يتعرضون للإماء وربما تعرضوا للحرائر فإذا قيل
لهم يقولون حسبناهن إماء فأمرت الحرائر أن يخالفن الإماء
بالزيّ والتستر
(11/263)
ليحتشمن ويهبن فلا يطمع فيهن، والجلابيب
جمع جلباب وهو على ما روي عن ابن عباس الذي يستر من فوق إلى
أسفل، وقال ابن جبير: المقنعة، وقيل: الملحفة، وقيل: كل ثوب
تلبسه المرأة فوق ثيابها، وقيل: كل ما تتستر به من كساء أو
غيره، وأنشدوا:
تجلببت من سواد الليل جلبابا وقيل هو ثوب أوسع من الخمار ودون
الرداء، والإدناء التقريب يقال أدناني أي قربني وضمن معنى
الإرخاء أو السدل ولذا عدي بعلى على ما يظهر لي، ولعل نكتة
التضمين الإشارة إلى أن المطلوب تستر يتأتى معه رؤية الطريق
إذا مشين فتأمل.
ونقل أبو حيان عن الكسائي أنه قال: أي يتقنعن بملاحفهن منضمة
عليهن ثم قال: أراد بالانضمام معنى الإدناء، وفي الكشاف معنى
يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ يرخين عليهن يقال إذا زل الثوب عن وجه
المرأة أدني ثوبك على وجهك.
وفسر ذلك سعيد بن جبير بيسدلن عليهن، وعندي أن كل ذلك بيان
لحاصل المعنى، والظاهر أن المراد بعليهن على جميع أجسادهن،
وقيل: على رؤوسهن أو على وجوههن لأن الذي كان يبدو منهن في
الجاهلية هو الوجه.
واختلف في كيفية هذا التستر فأخرج ابن جرير وابن المنذر
وغيرهما عن محمد بن سيرين قال: سألت عبيدة السلماني عن هذه
الآية يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ فرفع ملحفة
كانت عليه فتقنع بها وغطى رأسه كله حتى بلغ الحاجبين وغطى وجهه
وأخرج عينه اليسرى من شق وجهه الأيسر، وقال السدي: تغطي إحدى
عينيها وجبهتها والشق الآخر إلا العين، وقال ابن عباس وقتادة:
تلوي الجلباب فوق الجبين وتشده ثم تعطفه على الأنف وإن ظهرت
عيناها لكن تستر الصدر ومعظم الوجه، وفي رواية أخرى عن الحبر
رواها ابن جرير، وابن أبي حاتم وابن مردويه تغطي وجهها من فوق
رأسها بالجلباب وتبدي عينا واحدة.
وأخرج عبد الرزاق وجماعة عن أم سلمة قالت: لما نزلت هذه الآية
يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ خرج نساء الأنصار
كان على رؤوسهن الغربان من السكينة وعليهن أكسية سود يلبسنها.
وأخرج ابن مردويه عن عائشة قالت: رحم الله تعالى نساء الأنصار
لما نزلت يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ وَبَناتِكَ
الآية شققن مروطهن فاعتجرن بها فصلين خلف رسول الله صلّى الله
عليه وسلم كأنما على رؤوسهن الغربان.
ومن للتبعيض ويحتمل ذلك على ما في الكشاف وجهين، أحدهما أن
يكون المراد بالبعض واحدا من الجلابيب وإدناء ذلك عليهن أن
يلبسنه على البدن كله، وثانيهما أن يكون المراد بالبعض جزءا
منه وإدناء ذلك عليهن أن يتقنعن فيسترن الرأس والوجه بجزء من
الجلباب مع إرخاء الباقي على بقية البدن، والنساء مختصات بحكم
العرف بالحرائر وسبب النزول يقتضيه وما بعد ظاهر فيه فإماء
المؤمنين غير داخلات في حكم الآية.
وعن عمر رضي الله تعالى عنه أن غير الحرة لا تتقنع أخرج ابن
أبي شيبة عن قلابة قال: كان عمر بن الخطاب لا يدع في خلافته
أمة تتقنع ويقول: القناع للحرائر لكيلا يؤذين، وأخرج هو وعبد
بن حميد عن أنس رضي الله تعالى عنه قال: رأى عمر رضي الله
تعالى عنه جارية مقنعة فضربها بدرته وقال: ألقي القناع لا
تتشبهي بالحرائر، وجاء في بعض الروايات أنه رضي الله تعالى عنه
قال لأمة رأها مقنعة: يا لكعاء أتشبهين بالحرائر؟ وقال أبو
حيان: نساء المؤمنين يشمل الحرائر والإماء والفتنة بالإماء
أكثر لكثرة تصرفهن بخلاف الحرائر فيحتاج إخراجهن من عموم
النساء إلى دليل واضح انتهى، وأنت تعلم أن وجه الحرة عندنا ليس
بعورة فلا يجب ستره ويجوز النظر من الأجنبي إليه إن أمن الشهوة
(11/264)
مطلقا وإلا فيحرم، وقال القهستاني: منع
النظر من الشابة في زماننا ولو بلا شهوة وأما حكم أمة الغير
ولو مدبرة أو أم ولد فكحكم المحرم فيحل النظر إلى رأسها ووجهها
وساقها وصدرها وعضدها إن أمن شهوته وشهوتها. وظاهر الآية لا
يساعد على ما ذكر في الحرائر فلعلها محمولة على طلب تستر تمتاز
به الحرائر عن الإماء أو العفائف مطلقا عن غيرهن فتأمل،
ويُدْنِينَ يحتمل أن يكون مقول القول وهو خبر بمعنى الأمر وأن
يكون جواب الأمر على حد قُلْ لِعِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا
يُقِيمُوا الصَّلاةَ [إبراهيم: 31] وفي الآية رد على من زعم من
الشيعة أنه عليه الصلاة والسّلام لم يكن له من البنات إلا
فاطمة صلّى الله تعالى على أبيها وعليها وسلم وأما رقية وأم
كلثوم فربيبتاه عليه الصلاة والسّلام ذلِكَ أي ما ذكر من
الإدناء والتستر أَدْنى أي أقرب أَنْ يُعْرَفْنَ أي يميزن عن
الإماء اللاتي هن مواقع تعرضهم وإيذاءهم. ويجوز إبقاء المعرفة
على معناها أي أدنى أن يعرفن أنهن حرائر فَلا يُؤْذَيْنَ من
جهة أهل الريبة بالتعرض لهن بناء عن أنهن إماء.
وقال أبو حيان: أي ذلك أولى أن يعرفن لتسترهن بالعفة فلا يتعرض
لهن ولا يلقين بما يكرهن لأن المرأة إذا كانت في غاية التستر
والانضمام لم يقدم عليها بخلاف المتبرجة فإنها مطموع فيها، وهو
تفسير مبني على رأيه في النساء، وأيا ما كان فقد قال السبكي في
طبقاته: إن أحمد بن عيسى من فقهاء الشافعية استنبط من هذه
الآية أن ما يفعله العلماء والسادات من تغيير لباسهم وعمائمهم
أمر حسن وإن لم يفعله السلف لأن فيه تمييزا لهم حتى يعرفوا
فيعمل بأقوالهم وهو استنباط لطيف وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً كثير
المغفرة فيغفر سبحانه ما عسى يصدر من الإخلال بالتستر، وقيل:
يغفر ما سلف منهن من التفريط. وتعقب بأنه إن أريد التفريط في
أمر التستر قبل نزول الآية فلا ذنب قبل الورود في الشرع وإن
أريد التفريط في غير ذلك ليكون وكان الله كثير المغفرة فيغفر
ما سلف من ذنوبهن وارتكابهن ما نهى عنه مطلقا فهو غير مناسب
للمقام، وجوز أن يراد التفريط في أمر التستر والأمر به معلوم
من آية الحجاب التزاما وهو كما ترى رَحِيماً كثير الرحمة فيثيب
من امتثل أمره منهن بما هو سبحانه أهله، وقيل: رحيما بهن بعد
التوبة عن الإخلال بالتستر بعد نزول الآية، وقيل: رحيما بعباده
حيث راعى سبحانه في مصالحهم أمثال هذه الجزئيات.
لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنافِقُونَ عما هم عليه من النفاق
وأحكامه الموجبة للإيذاء وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ
وهم قوم كان فيهم ضعف إيمان وقلة ثبات عليه عما هم عليه من
التزلزل وما يستتبعه مما لا خير فيه وَالْمُرْجِفُونَ فِي
الْمَدِينَةِ من اليهود المجاورين لها عما هم عليه من نشر
أخبار السوء عن سرايا المسلمين وغير ذلك من الأراجيف الملفقة
المستتبعة للأذية، وأصل الإرجاف التحريك من الرجفة التي هي
الزلزلة وصفت به الأخبار الكاذبة لكونها في نفسها متزلزلة غير
ثابتة أو لتزلزل قلوب المؤمنين واضطرابها منها، والتغاير بينه
المتعاطفات على ما ذكرنا بالذات وهو الذي يقتضيه ظاهر العطف.
وأخرج ابن المنذر وغيره عن مالك بن دينار قال: سألت عكرمة عن
الذين في قلوبهم مرض فقال: هم أصحاب الفواحش، وعن عطاء أنه
فسرهم بذلك أيضا، وفي رواية أخرى عنه أنه قال هم قوم مؤمنون
كان في أنفسهم أن يزنوا فالمرض حب الزنا، وإذا فسر المرجفون
على ذلك بما سمعت يكون التغاير بين المتعاطفات بالذات أيضا.
وأخرج ابن سعد عن محمد بن كعب أن الذين في قلوبهم مرض هم
المنافقون وهو المعروف في وصفهم.
وأخرج هو أيضا عن عبيد بن حنين أن الذين في قلوبهم مرض
والمرجفون جميعا هم المنافقون فيكون العطف مع الاتحاد بالذات
لتغاير الصفات على حد:
هو الملك القرم وابن الهمام
(11/265)
فكأنه قيل: لئن لم ينته الجامعون بين هذه
الصفات القبيحة عن الاتصاف بها المفضي إلى الإيذاء
لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ أي لندعونك إلى قتالهم وإجلائهم أو فعل
ما يضطرهم إلى الجلاء ونحرضك على ذلك يقال أغراه بكذا إذا دعاه
إلى تناوله بالتحريض عليه، وقال الراغب: غرى بكذا أي لهج به
ولصق، وأصل ذلك من الغراء وهو ما يلصق به وقد أغريت فلانا بكذا
ألهجت به، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أي لنسلطنك عليهم
ثُمَّ لا يُجاوِرُونَكَ عطف على جواب القسم وثم للتفاوت الرتبي
والدلالة على أن الجلاء ومفارقة جوار الرسول صلّى الله عليه
وسلم أعظم ما يصيبهم وأشده عندهم فِيها أي في المدينة إِلَّا
قَلِيلًا أي زمانا أو جوارا قليلا ريثما يتبين حالهم من
الانتهاء وعدمه أو يتلقطون عيالاتهم وأنفسهم.
وفي الآية عليه كما في الانتصاف إشارة إلى أن من توجه عليه
إخلاء منزل مملوك للغير بوجه شرعي يمهل ريثما ينتقل بنفسه
ومتاعه وعياله برهة من الزمان حتى يتيسر له منزل آخر على حسب
الاجتهاد، ونصب قَلِيلًا على ما أشرنا إليه على الظرفية أو
المصدرية، وجوز أن يكون نصبا على الحال أي إلا قليلين أذلاء،
ولا يخفى حاله على ذي تمييز.
وقوله تعالى: مَلْعُونِينَ نصب على الذم أي أذم ملعونين أو على
الحال من فاعل لا يُجاوِرُونَكَ والاستثناء شامل له عند من يرى
جواز نحو ذلك، وقد تقدم الكلام عليه عند قوله تعالى: إِلَّا
أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلى طَعامٍ غَيْرَ ناظِرِينَ إِناهُ
[الأحزاب: 53] وجعل ابن عطية المعنى على الحالية ينتفون
ملعونين، وجوز أن يكون حالا من ضميرهم في قوله تعالى: أَيْنَ
ما ثُقِفُوا أي حصروا وظفر بهم، وكأنه على معنى أينما ثقفوا
متصفين بما هم عليه أُخِذُوا أي أسروا ومنه الأخيذ للأسير
وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا أي قتلوا أبلغ قتل. وقرىء «قتلوا»
بالتخفيف فيكون تَقْتِيلًا مصدرا على غير الصدر. واعترض على
الحالية مما ذكر بأن أداة الشرط لا يعمل ما بعدها فيما قبلها
مطلقا وهذا أحد مذاهب للنحاة في المسألة، ثانيها الجواز مطلقا،
وثالثها جواز تقديم معمول الجواب دون معمول الشرط.
وجوز على تقدير كون قَلِيلًا حالا أن يكون مَلْعُونِينَ بدلا
منه. وتعقبه أبو حيان بأن البدل بالمشتق قليل ثم قال: والصحيح
أن مَلْعُونِينَ صفة لقليل أي إلا قليلين ملعونين ويكون
قَلِيلًا مستثنى من الواو في لا يُجاوِرُونَكَ والجملة الشرطية
صفة أيضا أي مقهورين مغلوبا عليهم اهـ، وهو كما ترى.
وقوله تعالى: سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ
قَبْلُ مصدر مؤكد أي سن الله تعالى ذلك في الأمم الماضية سنة
وهي قتال الذين يسعون بالفساد بين قوم وإجلائهم عن أوطانهم
وقهرهم أينما ثقفوا متصفين بذلك.
وَلَنْ تَجِدَ أيها النبي أو يا من يصح منك الوجدان أبدا
لِسُنَّةِ اللَّهِ لعادته عزّ وجلّ المستمرة تَبْدِيلًا
لابتنائها على أساس الحكمة فلا يبدلها هو جل شأنه وهيهات هيهات
أن يقدر غيره سبحانه على تبديلها، ومن سبر أخبار الماضين وقف
على أمر عظيم في سوء معاملتهم المفسدين فيما بينهم، وكأن
الطباع مجبولة على سوء المعاملة معهم وقهرهم، وفي تفسير الفخر
وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا أي ليست هذه السنة
مثل الحكم الذي يتبدل وينسخ فإن النسخ يكون في الأحكام أما
الأفعال والأخبار فلا تنسخ. وللسدي كلام غريب في الآية لا أظن
أن أحدا قال به.
أخرج ابن أبي حاتم عنه أنه قال فيها: كان النفاق على ثلاثة
أوجه: نفاق مثل نفاق عبد الله بن سلول ونظائره كانوا وجوها من
وجوه الأنصار فكانوا يستحيون أن يأتوا الزنا يصونون بذلك
أنفسهم وهم المنافقون في الآية، ونفاق الذين في قلوبهم مرض وهم
منافقون إن تيسر لهم الزنا عملوه وإن لم يتيسر لم يتبعوه
ويهتموا بأمره، ونفاق المرجفين وهم منافقون يكابرون النساء
يقتصون أثرهن فيغلبوهن على أنفسهم فيفجرون بهن، وهؤلاء الذين
يكابرون النساء لَنُغْرِيَنَّكَ
(11/266)
بِهِمْ
يقول سبحانه لنعلمنك بهم ثم قال تعالى: مَلْعُونِينَ ثم فصلت
الآية أَيْنَما ثُقِفُوا يعملون هذا العمل مكابرة النساء
أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا ثم قال السدي: هذا حكم في
القرآن ليس يعمل به لو أن رجلا وما فوقه اقتصوا أثر امرأة
فغلبوها على نفسها ففجروا بها كان الحكم فيهم غير الجلد والرجم
وهو أن يؤخذوا فتضرب أعناقهم سنّة الله في الذين خلوا من قبل
كذلك كان يفعل بمن مضى من الأمم ولن تجد لسنّة الله تبديلا فمن
كابر امرأة على نفسها فغلبها فقتل فليس على قاتله دية لأنه
يكابر انتهى، والظاهر أنه قد وقع الانتهاء من المنافقين والذين
في قلوبهم مرض عما هو المقصود بالنهي وهو ما يستتبعه حالهم من
الإيذاء ولم يقع من المرجفين أعني اليهود فوقع القتال والإجلاء
لهم.
وفي البحر الظاهر أن المنافقين يعني جميع من ذكر في الآية
انتهوا عما كانوا يؤذون به الرسول صلّى الله عليه وسلم
والمؤمنين وتستر جميعهم وكفوا خوفا من أن يقع بهم ما وقع القسم
عليه وهو الإغراء والإجلاء والقتل. وحكي ذلك عن الجبائي، وعن
أبي مسلم لم ينتهوا وحصل الإغراء بقوله تعالى: جاهِدِ
الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ [التوبة: 73، التحريم: 9] وفيه
أن الإجلاء والقتل لم يقعا للمنافقين والجهاد في الآية قولي،
وقيل: إنهم لم يتركوا ما هم عليه ونهوا عنه جملة ولا نفذ عليهم
الوعيد كاملا ألا ترى إلى إخراجهم من المسجد ونهيه تعالى عن
الصلاة عليهم وما نزل في سورة براءة، وزعم بعضهم أنه لم ينته
أحد من المذكورين أصلا ولم ينفذ الوعيد عليهم ففيه دليل على
بطلان القول بوجوب نفاذ الوعيد في الآخرة ويكون هذا الوعيد
مشروطا بالمشيئة وفيه من البعد ما فيه.
يَسْئَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ أي عن وقت قيامها
ووقوعها، كان المشركون يسألونه صلّى الله عليه وسلم عن ذلك
استعجالا بطريق الاستهزاء والمنافقون تعنتا واليهود امتحانا
لما أنهم يعلمون من التوراة أنها مما أخفاه الله تعالى
فيسألونه عليه الصلاة والسلام ليمتحنوه هل يوافقها وحيا أو لا
قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللَّهِ لا يطلع سبحانه عليه
ملكا مقربا ولا نبيا مرسلا وَما يُدْرِيكَ خطاب مستقل له صلّى
الله عليه وسلم غير داخل تحت الأمر مسوق لبيان أنها مع كونها
غير معلومة مرجوة المجيء عن قريب، وما استفهام في موضع الرفع
بالابتداء والجملة بعده خبر أي أي شيء يعلمك بوقت قيامها،
والمعنى على النفي أي لا يعلمنك به شيء أصلا.
لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيباً أي لعلها توجد وتتحقق في
وقت قريب فقريبا منصوب على الظرفية واستعماله كذلك كثير،
وتَكُونُ تامة ويجوز أن تكون ناقصة وإذا كان قَرِيباً الخبر
واعتبر وصفا لا ظرفا فالتذكير لكونه في الأصل صفة لخبر مذكر
يخبر به عن المؤنث وليس هو الخبر أي لعل الساعة تكون شيئا
قريبا، وجوز أن يكون ذلك رعاية للمعنى من حيث إن الساعة بمعنى
اليوم أو الوقت.
وقال أبو حيان: يجوز أن يكون ذلك لأن التقدير لعل قيام الساعة
فلوحظ الساعة في تكون فأنث ولوحظ المضاف المحذوف وهو قيام في
قَرِيباً فذكر، ولا يخفى بعده، وقيل إن قريبا لكونه فعيلا
يستوي فيه المذكر والمؤنث كما في قوله تعالى: إِنَّ رَحْمَتَ
اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ [الأعراف: 56] وقد تقدم
ما في ذلك، وفي الكلام تهديد للمستعجبين المستهزئين وتبكيت
للمتعنتين والممتحنين، والإظهار في موضع الإضمار للتهويل
وزيادة التقرير وتأكيد استقلال الجملة كما أشير إليه إِنَّ
اللَّهَ لَعَنَ الْكافِرِينَ على الإطلاق أي طردهم وأبعدهم عن
رحمته العاجلة والآجلة وَأَعَدَّ هيأ لَهُمْ مع ذلك في الآخرة
سَعِيراً نارا شديدة الاتقاد كما يؤذن بذلك صيغة المبالغة
خالِدِينَ فِيها أَبَداً لا يَجِدُونَ وَلِيًّا متوليا لأمرهم
يحفظهم وَلا نَصِيراً ناصرا يخلصهم منها يَوْمَ تُقَلَّبُ
وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ ظرف لعدم الوجدان، وقيل لخالدين،
وقيل لنصير، وقيل مفعول لا ذكر أي يوم تصرف
(11/267)
وجوههم فيها من جهة إلى جهة كاللحم يشوى في
النار أو يطبخ في القدر فيدور به الغليان من جهة إلى جهة أو
يوم تتغير وجوههم من حال إلى حال فتتوارد عليها الهيئات
القبيحة من شدة الأهوال أو يوم يلقون في النار مقلوبين
منكوسين، وتخصيص الوجوه بالذكر لما أنها أكرم الأعضاء ففيه
مزيد تفظيع للأمر وتهويل للخطب، ويجوز أن تكون عبارة عن كل
الجسد. وقرأ الحسن وعيسى وأبو جعفر الرواسي. «تقلب» بفتح التاء
والأصل تتقلب فحذفت إحدى التاءين، وقرأ ابن أبي عبلة بهما على
الأصل، وحكى ابن خالويه عن أبي حيوة أنه قرأ «تقلب وجوههم»
بإسناد الفعل إلى ضمير العظمة ونصب «وجوههم» على المفعولية.
وقرأ عيسى الكوفة «تقلب وجوههم» بإسناد الفعل إلى ضمير السعير
اتساعا ونصب الوجوه يَقُولُونَ استئناف مبني على سؤال نشأ من
حكاية حالهم الفظيعة كأنه قيل: فماذا يصنعون عند ذلك؟ فقيل:
يقولون متحسرين على ما فاتهم يا لَيْتَنا أَطَعْنَا اللَّهَ
وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا فلا نبتلي بهذا العذاب أو حال من ضمير
وُجُوهُهُمْ أو من نفسها.
وجوز أن يكون هو الناصب ليوم وَقالُوا عطف على يَقُولُونَ
والعدول إلى صيغة الماضي للإشعار بأن قولهم هذا ليس مستمرا
كقولهم السابق بل هو ضرب اعتذار أرادوا به ضربا من التشفي
بمضاعفة عذاب الذين أوردوهم هذا المورد الوخيم وألقوهم في ذلك
العذاب الأليم وإن علموا عدم قبوله في حق خلاصهم بما هم فيه.
رَبَّنا إِنَّا أَطَعْنا سادَتَنا أي ملوكنا وولاتنا الذين
يتولون تدبير السواد الأعظم منا وَكُبَراءَنا أي رؤساءنا الذين
أخذنا عنهم فنون الشر وكان هذا في مقابلة ما تمنوه من إطاعة
الله تعالى وإطاعة الرسول فالسادة والكبراء متغايران، والتعبير
عنهما بعنوان السيادة والكبر لتقوية الاعتذار وإلا فهم في مقام
التحقير والإهانة.
وقدموا في ذلك إطاعة السادة لما أنه كان لهم قوة البطش بهم لو
لم يطيعوهم فكان ذلك أحق بالتقديم في مقام الاعتذار وطلب
التشفي، وقيل: باتحاد السادة والكبراء والعطف على حد العطف في
قوله. وألفي قولها كذبا ومينا.
والمراد بهم العلماء الذين لقنوهم الكفر وزينوه لهم، وعن قتادة
رؤساؤهم في الشر والشرك.
وقرأ الحسن وأبو رجاء وقتادة والسلمي وابن عامر والعامة في
الجامع بالبصرة ساداتنا على جمع الجمع وهو شاذ كبيوتات، وفيه
على ما قيل دلالة على الكثرة، ثم إن كون سادة جمعا هو المشهور،
وقيل: اسم جمع فإن كان جمعا لسيد فهو شاذ أيضا فقد نصوا على
شذوذ فعلة في جميع فعيل وإن كان جمعا لمفرد مقدر وهو سائد كان
ككافر وكفرة لكنه شاذ أيضا لأن فاعلا لا يجمع على فعلة إلا في
الصحيح فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا أي جعلونا ضالين عن الطريق
الحق بما دعونا إليه وزينوه لنا من الأباطيل، والألف للإطلاق
كما في وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا.
رَبَّنا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذابِ أي عذابين يضاعف كل
واحد منهما الآخر عذابا على ضلالهم في أنفسهم وعذابا على
إضلالهم لنا وَالْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً أي شديدا عظيما
فإن الكبر يستعار للعظمة مثل كَبُرَتْ كَلِمَةً [الكهف: 5]
ويستفاد التعظيم من التنوين أيضا، وقرأ الأكثر «كثيرا» بالثاء
المثلثة أي كثير العدد، وتصدير الدعاء بالنداء مكررا للمبالغة
في الجؤار واستدعاء الإجابة يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا
تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسى قيل نزلت فيما كانت من أمر
زينب بنت جحش رضي الله تعالى عنها وتزوجه صلّى الله عليه وسلم
بها وما سمع في ذلك من كلام آذاه عليه الصلاة والسلام
فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قالُوا أي من قولهم أو الذي قالوه
وأيا ما كان فالقول هنا بمعنى المقول، والمراد به مدلوله
الواقع في الخارج وبتبرئة الله تعالى إياه من ذلك إظهار براءته
عليه السّلام منه وكذبهم فيما أسندوا إليه لأن المرتب على
أذاهم ظهور براءته لا براءته لأنها مقدمة عليه، واستعمال الفعل
مجازا عن إظهاره، والمقول بمعنى المضمون كثير شائع فالمعنى
فأظهر الله تعالى براءته من الأمر المعيب الذي نسبوه إليه عليه
السّلام.
(11/268)
وقيل: لا حاجة إلى ما ذكر فإنه تعالى لما
أظهر براءته عما افتروه عليه انقطعت كلماتهم فيه فبرىء من
قولهم على أن (برأه) بمعنى خلصه من قولهم لقطعه عنه، وتعقب
بأنه مع تكلفه لأن قطع قولهم ليس مقصودا بالذات بل المراد
انقطاعه لظهور خلافه لا بدّ من ملاحظة ما ذكر، والمراد بالأمر
الذي نسبوه إليه عليه السّلام عيب في بدنه.
أخرج الإمام أحمد والبخاري والترمذي وجماعة من طريق أبي هريرة
قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم إن موسى عليه السّلام
كان رجلا حييا ستيرا لا يرى من جلده شيء استحياء منه فآذاه من
آذاه من بني إسرائيل وقالوا ما يستتر هذا الستر إلا من عيب
بجلده أما برص وأما أدرة وأما آفة وإن الله تعالى أراد أن
يبرئه مما قالوا وأن موسى عليه السّلام خلا يوما وحده فوضع
ثيابه على حجر ثم اغتسل فلما فرغ أقبل إلى ثيابه ليأخذها وأن
الحجر غدا بثوبه فأخذ موسى عليه السّلام عصاه وطلب الحجر فجعل
يقول ثوبي حجر ثوبي حجر حتى انتهى إلى ملأ من بني إسرائيل
فرأوه عريانا أحسن ما خلق الله تعالى وبرأه مما يقولون وقام
الحجر فأخذ ثوبه فلبسه وطفق بالحجر ضربا بعصاه فذلك قوله
تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا
كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قالُوا
. وقيل: إن ذلك ما نسبوه إليه عليه السّلام من قتل هارون،
أخرج ابن منيع وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن
مردويه والحاكم وصححه عن ابن عباس عن علي كرّم الله تعالى وجهه
أنه قال في الآية: صعد موسى وهارون عليهما السّلام الجبل فمات
هارون فقالت بنو إسرائيل لموسى أنت قتلته كان أشد حبا لنا منك
وألين فآذوه من ذلك فأمر الله تعالى الملائكة عليهم فحملوه
فمروا به على مجالس بني إسرائيل وتكلمت الملائكة عليهم السّلام
بموته فبرأه الله تعالى فانطلقوا به فدفنوه ولم يعرف قبره إلا
الرخم وإن الله تعالى جعله أصم أبكم
،
وفي رواية عن ابن عباس وأناس من الصحابة أن الله تعالى أوحى
إلى موسى إني متوف هارون فأت جبل كذا فانطلقا نحو الجبل فأذاهم
بشجرة وبيت فيه سرير عليه فرش وريح طيبة فلما نظر هارون إلى
ذلك الجبل والبيت وما فيه أعجبه فقال يا موسى إني أحب أن أنام
على هذا السرير قال نم عليه قال نم معي فلما ناما أخذ هارون
الموت قلما قبض رفع ذلك البيت وذهبت تلك الشجرة ورفع السرير
إلى السماء قلما رجع موسى إلى بني إسرائيل قالوا قتل هارون
وحسده لحب بني إسرائيل له وكان هارون أكف عنهم وألين لهم وكان
في موسى بعض الغلظة عليهم فلما بلغه ذلك قال: ويحكم إنه كان
أخي أفتروني أقتله فلما أكثروا عليه قام فصلى ركعتين ثم دعا
الله تعالى فنزل بالسرير حتى نظروا إليه بين السماء والأرض
فصدقوه
، وقيل: ما نسبوه إليه عليه السّلام من الزنا وحاشاه، روي أن
قارون أغرى مومسة على قذفه عليه السّلام بنفسها ودفع إليها
مالا عظيما فأقرت بالمصانعة الجارية بينها وبين قارون وفعل به
ما فعل كما فصل في سورة القصص، ويبعد هذا القول تبعيدا ما جمع
الموصول، وقيل: ما نسبوا إليه من السحر والجنون، وقيل: ما حكي
عنهم في القرآن من قولهم: فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا
إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ [المائدة: 24] لَنْ نَصْبِرَ عَلى
طَعامٍ واحِدٍ [البقرة: 61] وقولهم: لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى
نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً [البقرة: 55] إلى غيرك ذلك ويمكن حمل
ما قالوا على جميع ما ذكر.
وَكانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهاً أي كان ذا جاه ومنزلة عنده عزّ
وجلّ، وفي معناه قول قطرب: كان رفيع القدر ونحوه قول ابن زيد:
كان مقبولا، وأخرج ابن أبي حاتم عن الحسن أنه قال وجيها مستجاب
الدعوة وزاد بعضهم ما سأل شيئا إلا أعطى إلا الرؤية في الدنيا،
ولا يخفى أن استجابة الدعوة من فروع رفعة القدر، وقيل: وجاهته
عليه السّلام أن الله تعالى كلمه ولقب كليم الله، وقرأ ابن
مسعود والأعمش وأبو حيوة «عبدا» من العبودة «لله» بلام الجر
فيكون عبدا خبر كان ووجيها صفة له وهي قراءة شاذة، وفي صحة
القراءة بالشواذ كلام.
قال ابن خالويه: صليت خلف ابن شنبوذ في شهر رمضان فسمعته يقرأ
وكان «عبدا لله» على قراءة ابن مسعود
(11/269)
ولعل ابن شنبوذ ممن يرى صحة القراءة بها
مطلقا، ويحتمل مثل ذلك في ابن خالويه وإلا فقد قال الطيبي قال
صاحب الروضة: وتصح بالقراءة الشاذة إن لم يكن فيها تغيير معنى
ولا زيادة حرف ولا نقصان، وهاهنا بين المعنيين بون كما يشير
إليه كلام الزمخشري ونحوه عن ابن جني يا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ في كل ما تأتون وتذرون لا سيما في
ارتكاب ما يكرهه تعالى فضلا عما يؤذي رسوله وحبيبه صلّى الله
عليه وسلم وَقُولُوا في كل شأن من الشؤون قَوْلًا سَدِيداً
قاصدا ومتوجها إلى هدف الحق من سد يسد بكسر السين سدادا بفتحها
يقال سدد سهمه إذا وجهه للغرض المرمي ولم يعدل به عن سمته،
والمراد على ما قيل نهيهم عن ضد هذا القول وهو القول الذي ليس
بسديد ويدخل فيه ما صدر منهم في قصة زينب من القول الجائر عن
العدل والقصد وكذا كل قول يؤذيه عليه الصلاة والسّلام، وعن
مقاتل.
وقتادة أن المعنى وقولوا قولا سديدا في شأن الرسول عليه الصلاة
والسّلام وزيد وزينب، وعن ابن عباس وعكرمة تخصيص القول السديد
بلا إله إلا الله، وقيل: هو ما يوافق ظاهره باطنه، وقيل: ما
فيه إصلاح، ولعل ما أشرنا إليه هو الأولى يُصْلِحْ لَكُمْ
أَعْمالَكُمْ بالقبول والإثابة عليها على ما روي عن ابن عباس
ومقاتل، وقيل إصلاح الأعمال التوفيق في المجيء بها صالحة
مرضية.
وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ ويجعلها مكفرة باستقامتكم في
القول والعلم وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ في الأوامر
والنواهي التي من جملتها ما تضمنته هذه الآيات فَقَدْ فازَ في
الدارين فَوْزاً عَظِيماً لا يقادر قدره ولا تبلغ غايته.
قال في الكشاف وهذه الآية يعني يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
اتَّقُوا اللَّهَ إلى آخرها مقررة للتي قبلها بنيت تلك على
النهي عما يؤذي رسول الله صلّى الله عليه وسلم وهذه على الأمر
باتقاء الله تعالى في حفظ اللسان ليترادف عليهم النهي والأمر
مع اتباع النهي ما يتضمن الوعيد من قصة موسى عليه السّلام لأن
وصفه بوجاهته عند الله تعالى متضمن أنه تعالى انتقم له ممن
آذاه واتباع الأمر الوعد البليغ فيقوي الصارف عن الأذى والداعي
إلى تركه انتهى فلا تغفل.
إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ
وَالْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَأَشْفَقْنَ مِنْها
لما بين جل شأنه عظم شأن طاعة الله تعالى ورسوله صلّى الله
عليه وسلم ببيان مآل الخارجين عنها من العذاب الأليم ومنال
المراعين لها من الفوز العظيم عقب ذلك عظم شأن ما يوجبها من
التكاليف الشرعية وصعوبة أمرها بطريق التمثيل مع الإيذان بأن
ما صدر عنهم من الطاعة وتركها صدر عنهم بعد القبول والالتزام
من غير جبر هناك ولا إبرام، وعبر عنها بالأمانة وهي في الأصل
مصدر كالأمن والأمان تنبيها على أنها حقوق مرعية أودعها الله
تعالى المكلفين وائتمنهم عليها وأوجب عليهم تلقيها بحسن الطاعة
والانقياد وأمرهم بمراعاتها والمحافظة عليها وأدائها من غير
إخلال بشيء من حقوقها، وعبر عن اعتبارها بالنسبة إلى استعداد
ما ذكر من السماوات وغيرها من حيث الخصوصيات بالعرض عليهن
لإظهار مزيد الاعتناء بأمرها والرغبة في قبولهن لها، وعن عدم
استعدادهن لقبولها ومنافاتها لما هن عليه بالإباء والإشفاق
منها لتهويل أمرها وتربية فخامتها وعن قبولها بالحمل لتحقيق
معنى الصعوبة المعتبرة فيها بجعلها من قبيل الأجسام الثقيلة،
والمعنى أن تلك الأمانة في عظم الشأن بحيث لو كلفت هاتيك
الأجرام العظام التي هي مثل في القوة والشدة مراعاتها وكانت
ذات شعور وإدراك لأبين قبولها وخفن منها لكن صرف الكلام عن
سننه بتصوير المفروض بصورة المحقق لزيادة تحقيق المعنى المقصود
وتوضيحه.
وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ أي هذا الجنس نحو: إِنَّ الْإِنْسانَ
لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ [العاديات: 6] وإِنَّ الْإِنْسانَ
لَيَطْغى [العلق: 6] وحمله إياها إما باعتبارها بالإضافة إلى
استعداده أو بتكليفه إياها يوم الميثاق أي تكلفها والتزمها
(11/270)
مع ما فيه من ضعف البنية ورخاوة القوة، وهو
إما عبارة عن قبولها بموجب استعداده الفطري أو عن القبول
القولي يوم الميثاق، وتخصيص الإنسان بالذكر مع أن الجن مكلفون
أيضا وكذا الملائكة عليهم السّلام وإن لم يكن في ذلك كلفة
عليهم لما أنه ليس فيه ما يخالف طباعهم لأن الكلام معه، وقوله
تعالى: إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولًا اعتراض وسط بين الحمل
وغايته للإيذان من أول الأمر بعدم وفائه بما تحمل، والتأكيد
لمظنة التردد أي إنه كان مفرطا في الظلم مبالغا في الجهل أي
بحسب غالب أفراده الذين لم يعملوا بموجب فطرتهم السليمة أو
قبولهم السابق دون من عداهم من الذين لم يبدلوا فطرة الله
تعالى تبديلا، ويكفي في صدق الحكم على الجنس بشيء وجوده في بعض
أفراده فضلا عن وجوده في غالبها، وإلى الفريق الأول أشير بقوله
تعالى:
لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ
وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكاتِ أي حملها الإنسان ليعذب الله
تعالى بعض أفراده الذين لم يراعوها ولم يقابلوها بالطاعة على
أن اللام للعاقبة فإن التعذيب وإن لم يكن غرضا من الحمل لكن
لما ترتب عليه بالنسبة إلى بعض أفراده ترتب الأغراض على
الأفعال المعلقة بها أبرز في معرض الغرض أي كان عاقبة حمل
الإنسان لها أن يعذب الله تعالى هؤلاء من أفراده لخيانتهم
الأمانة وخروجهم عن الطاعة بالكلية، وإلى الفريق الثاني أشير
وبقوله سبحانه وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ
وَالْمُؤْمِناتِ أي كان عاقبة حمله لها أن يتوب الله تعالى على
هؤلاء من أفراده أي يقبل توبتهم لعدم خلعهم ربقة الطاعة عن
رقابهم بالمرة وتلافيهم لما فرط منهم من فرطات قلما يخلو عنها
الإنسان بحكم جبلته وتداركهم لها بالتوبة والإنابة والالتفات
إلى الاسم الجليل أولا لتهويل الخطب وتربية المهابة، والإظهار
في موضع الإضمار ثانيا لإبراز مزيد الاعتناء بأمر المؤمنين
توفية لتكل من مقامي الوعيد والوعد حقه كذا قال بعض لأجلة في
تفسير الآية. ووراء ذلك أقوال فقيل الأمانة الطاعة لأنها لازمة
الوجود كما أن الأمانة لازمة الأداء والكلام تقرير الوعد
الكريم الذي ينبىء عنه قوله تعالى: وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ
وَرَسُولَهُ فَقَدْ فازَ فَوْزاً عَظِيماً بجعل تعظيم شأن
الطاعة ذريعة إلى ذلك بأن من قام بحقوق مثل هذا الأمر العظيم
الشأن وراعاه فهو جدير بأن يفوز بخير الدارين. وتعقب بأن جعل
الأمانة التي شأنها أن تكون من جهته تعالى عبارة عن الطاعة
التي هي من أفعال المكلفين التابعة للتكليف بمعزل عن التقريب
وإن حمل الكلام على التقرير بالوجه الذي قرر يأباه وصف الإنسان
بالظلم والجهل أولا وتعليل الحمل بتعذيب فريق والتوبة على فريق
ثانيا، وقد يقال: مراد ذلك القائل أن الأمانة هي الطاعة من حيث
أمره عزّ وجلّ بها وأن قوله تعالى: إِنَّهُ كانَ إلخ على معنى
أنه كان كذلك إن لم يراع حقها فتأمل. وأخرج ابن جرير وغيره عن
ابن عباس أن الأمانة الفرائض وروي نحوه عن سعيد بن جبير وهو
غير ما ذكر أولا بناء على أن التكليفات الشرعية مراد بها
المعنى المصدري دون اسم المفعول، وقيل: الصلاة
فقد روي عن علي كرّم الله تعالى وجهه أنه كان إذا دخل وقت
الصلاة اصفر وجهه الشريف وتغير لونه فسئل عن ذلك فقال: إنه دخل
عليّ وقت أمانة عرضها الله تعالى على السماوات والأرض والجبال
فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وقد حملتها أنا مع ضعفي فلا أدري
كيف أؤديها
، وحكى السفيري أنها الغسل من الجنابة، وقيل الصلاة والصيام
والغسل من الجنابة
فقد أخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد عن زيد بن أسلم قال: قال
رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «الأمانة ثلاث الصلاة والصيام
والغسل من الجنابة»
وفي رواية عن السدي والضحاك أنها أمانات الناس المعروفة
والوفاء بالعهود. وقيل هي أن لا تغش مؤمنا ولا معاهدا في شيء
قليل ولا كثير، وقيل: هي كلمة التوحيد لأنها المدار الأعظم
للتكليفات الشرعية. وقيل هي الأعضاء والقوى،
فقد أخرج ابن أبي الدنيا في الورع والحكيم الترمذي عن عبد الله
بن عمر ورضي الله تعالى عنهما قال: «أول ما خلق الله تعالى من
الإنسان فرجه ثم قال هذه أمانتي عندك فلا تضعها إلا في حقها
فالفرج أمانة والسمع أمانة والبصر أمانة»
.
(11/271)
ولا يخفى أن تفسير الأمانة في الآية
بالأعضاء مما لا ينبغي أن يلتفت إليه، والخبر المذكور إن صح لا
يدل عليه، ومثله بل دونه بكثير أنها حروف التهجي ولا يكاد يقول
به إلا أطفال المكاتب، وأقرب الأقوال المذكورة للقبول القول
بأنها الفرائض أي من فعل وترك، وتخصيص شيء منها بالذكر في
خبران صح لا يدل على أنه الأمانة في الآية لا غيره وكم يخص بعض
أفراد العام بالذكر لنكتة، وقال أبو حيان: الظاهر أنها كل ما
يؤتمن عليه من أمر ونهي وشأن دين ودنيا، ويعم هذا المعنى جميع
ما تقدم، وفيها أقوال أخر ستأتي إن شاء الله تعالى، واختلفت
كلمات الذاهبين إلى أنها الفرائض في تحقيق ما بعد فقيل الكلام
على حذف مضاف والتقدير إنا عرضنا الأمانة على أهل السماوات
إلخ.
وحكي ذلك عن الجبائي وليس بشيء، وقيل الكلام على ظاهره وكذا
العرض والإباء وذلك أنه عزّ وجلّ خلق للسماوات والأرض والجبال
فهما وتمييزا فخيرت في الحمل فأبت وروي ذلك عن ابن عباس.
وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم وابن الأنباري عن ابن جريج
قال: بلغني أن الله تعالى لما خلق السماوات والأرض والجبال
قال: إني فارض فريضة وخالق جنة ونارا وثوابا لمن أطاعني وعقابا
لمن عصاني فقالت السماوات خلقتني فسخرت في الشمس والقمر
والنجوم والسحاب والريح فأنا مسخرة على ما خلقتني لا أتحمل
فريضة ولا أبغي ثوابا ولا عقابا ونحو ذلك قالت الأرض والجبال،
ويعلم مما ذكر أن الإباء لم يكن معصية لأنه لم يكن هناك تكليف
بل تخيير، وأما كونها استحقرت أنفسها عن أن تكون محل الأمانة
فلا ينفي عنهن العصيان بالإباء لو كان هناك تكليف بالحمل،
وقيل: لا حذف والكلام من باب التمثيل على ما سمعت أولا.
وذهب كثير إلى أن المراد بحملها التزام القيام بها وبالإنسان
آدم عليه السّلام، واختلف في حمله إياها هل كان بعد عرضها عليه
أو بدونه فقيل كان بعد العرض.
فقد أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم «أن الله تعالى
عرض الأمانة على السماء الدنيا فأبت ثم التي تليها فأبت حتى
فرغ منها ثم الأرضين ثم الجبال ثم عرضها على آدم عليه السّلام
فقال نعم بين أذني وعاتقي» الخبر
وقيل: بدونه.
قال ابن الجوزي: لما خلق الله عزّ وجلّ آدم عليه السّلام ونفخ
فيه الروح مثلت له الأمانة بصخرة ثم قال:
للسماوات احملي هذه فأبت وقالت: إلهي لا طاقة لي بها وقال
سبحانه: للأرض احمليها فقالت: لا طاقة بها لي وقال تعالى
للجبال: احمليها فقالت: لا طاقة لي بها فأقبل آدم عليه السّلام
فحركها بيده وقال لو شئت لحملتها فحملها حتى بلغت حقويه ثم
وضعها على عاتقه فلما أهوى ليضعها نودي من جانب العز يا آدم
مكانك لا تضعها فهذه الأمانة قد بقيت في عنقك وعنق أولادك إلى
يوم القيامة ولكم عليها ثواب في حملها وعقاب في تركها
، وهذا ظاهر في أن الحمل على حقيقته وفي أن العرض على السماوات
والأرض والجبال كان بمسمع من آدم عليه السّلام وإلى هذا ذهب
ابن الأنباري، وفي بعض الآثار ما يدل على أن العرض عليهن قبل
خلقه عليه السّلام.
أخرج ابن أبي حاتم عن مجاهد قال: لما خلق الله تعالى السماوات
والأرض عرض عليهن الأمانة فلم يقبلنها فلما خلق آدم عليه
السّلام عرضها عليه فقال: يا رب وما هي؟ قال سبحانه: هي إن
أحسنت أجرتك وإن أسأت عذبتك قال: فقد تحملت يا رب فما كان بين
أن تحملها إلى أن أخرج إلا قدر ما بين الظهر والعصر
، وكأني بك تختار من هذه الأقوال أن العرض على تقدير كونه بعد
إعطاء الفهم والتمييز كان بمسمع من آدم عليه السّلام وأنه بعد
أن سمع الإباء حملته الغيرة على الحمل، وربما يفضي بك هذا إلى
اختيار القول بأنه حمل الأمانة بدون عرضها عليه كما هو ظاهر
الآية وبه يتأكد وصفه بما وصف لكني لا أظنك تقول بصحة حديث
تمثل الأمانة بصخرة وإن قلت بصحة تمثل
(11/272)
المعاني بصور الأجسام كما ورد في حديث ذبح
الموت وغيره، وأنا لا أميل إلى القول بأن المراد بالإنسان آدم
عليه السّلام وإن كان أول أفراد الجنس ومبدأ سلسلتها لمكان
إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولًا فإنه يبعد غاية البعد وصف صفي
الله عزّ وجلّ بنص إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى آدَمَ [آل عمران: 33]
بمزيد الظلم والجهل، وكون المعنى كان ظلوما جهولا بزعم
الملائكة عليهم السّلام قول بارد، وحمله على معنى كان ظلوما
لنفسه حيث حملها على ضعفه ما أبت الأجسام القوية حمله جهولا
بقدر ما دخل فيه أو بعاقبة ما تحمل لا يزيل البعد، ولا استحسن
كون المراد كان من شأنه لو خلي ونفسه ذلك كما قيل:
الظلم من شيم النفوس فإن تجد ... ذا عفة فلعلة لا يظلم
إلا على القول بإرادة الجنس، وإخراج الكلام مخرج الاستخدام على
نحو ما قالوا في عندي درهم ونصفه بعيد لفظا ومعنى، وقيل المراد
بالأمانة مطلق الانقياد الشامل للطبيعي والاختياري وبعرضها
استدعاؤه الذي يعم طلب الفعل من المختار وإرادة صدوره من غيره
وبحملها الخيانة فيها والامتناع عن أدائها ومنه قولهم حامل
الأمانة ومحتملها لمن لا يؤديها فتبرأ ذمته وأنشدوا:
إذا أنت لم تبرح تؤدي أمانة ... وتحمل أخرى أخرجتك الودائع
فيكون الإباء امتناعا من الخيانة وإتيانا بالمراد، فالمعنى أن
هذه الأجرام مع عظمها وقوتها أبين الخيانة لأمانتنا وأتين بما
أمرناهن به لقوله تعالى: أَتَيْنا طائِعِينَ [فصلت: 11] وخانها
الإنسان حيث لم يأت بما أمرناه به إنه كان ظلوما جهولا ولا
يخفى بعده ولم نر في المأثور ما يؤيده، نعم إن العوام يقولون:
إن الأرض لا تخون الأمانة حتى أنهم جرت عادتهم في بلادنا أنهم
إذا أرادوا دفن ميت في مكان ولم يتيسر لهم وضعوه في قبر وقالوا
حين الوضع مخاطبين الأرض:
هذا أمانة عندك كذا شهرا أو كذا سنة وحثوا التراب عليه
وانصرفوا فإذا نبشوا القبر قبل مضي المدة وجدوه كما وضعوه لم
يتغير منه شيء فيخرجونه ويدفنونه حيث أرادوا وإذا بقي حتى تمضي
المدة التي عينوها وجدوه متغيرا، وهذا أمر تواتر نقله لنا وهو
مما يستبعده العقل، وإلى نحو هذا ذهب أبو إسحاق الزجاج إلا أنه
قال: عرض الأمانة وضع شواهد الوحدانية في المصنوعات، ونقله عنه
أبو حيان وذكر البيت المار آنفا لكنه تعقبه بأن الحمل فيه ليس
نصا في الخيالة، وقيل المراد بالأمانة العقل أو التكليف
وبعرضها عليهن اعتبارها بالإضافة إلى استعدادهن وبإبائهن
الإباء الطبيعي الذي هو عدم اللياقة والاستعداد لها وبحمل
الإنسان قابليته واستعداده لها وكونه ظلوما جهولا لما غلب عليه
من القوة الغضبية الداعية للظلم والشهوية الداعية للجهل بعواقب
الأمور، قيل وعليه ينتظم قوله تعالى: إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً
جَهُولًا مع ما قبله على أنه علته باعتبار حمل العقل عليه
بمعنى إيداعه فيه لأجل إصلاح ما فيه من القوتين المحتاجتين إلى
سلطان العقل الحاكم عليهما فكأنه قيل: حملناه ذلك لما فيه من
القوى المحتاجة لقهره وضبطه، وكذا إذا أريد التكليف فإن معظم
المقصود منه تعديل تلك القوى وكسر سورتها، ومن هنا قيل إنه
أقرب للتحقيق، وقيل الأمانة تجلياته عزّ وجلّ بأسمائه الحسنى
وصفاته تعالى العليا وعرضها عليهن وإباؤهن وحمل الإنسان
كالمذكور آنفا.
وقوله تعالى: «إنه كان ظلوما جهولا» تعليل للحمل مشار به إلى
قوة استعداده، وقوله سبحانه: «ليعذب» تعليل للعرض على معنى
عرضنا ذلك لتظهر تجلياتنا الجلالية والجمالية، ويشير إلى هذا
قول العلامة الطيبي عليه الرحمة: إن الله تعالى خلق الخلق
ليكون مظاهر أسمائه الحسنى وصفاته العليا فحامل معنى الكبرياء
والعظمة السماوات والأرض والجبال من حيث كونها عاجزة عن حمل
سائر الصفات لعدم استعدادها لقبولها ولذلك أبين أن يحملنها
وأشفقن منها
(11/273)
وحملها الإنسان لقوة استعداده واقتداره
لكونه ظلوما جهولا فاختص لذلك من بين سائر المخلوقات بقبول
تجلي القهارية والتوابية والمغفرة وشاركها بقبول تجلي الرحمة
وله النصيب الأوفر منها لقوة استعداده واقتداره، وهو مشرب صوفي
كما لا يخفى وأنا اختار كون الأمانة كل ما يؤتمن عليه ويطلب
حفظه ورعايته ولها أفراد كثيرة متفاوتة في جلالة القدر وإن
عرضها على تلك الأجرام كان على وجه التخيير لهن في حملها لا
الإلزام وأنهن خوطبن في ذلك وعقلن الخطاب والله عزّ وجلّ قادر
على أن يخلق في كل ذرة من ذرات الكائنات الحياة والعلم كما
خلقهما سبحانه في ذوي الألباب بل ذهب الفلاسفة إلى القول بثبوت
النفوس والحركة الإرادية للأفلاك بل قال بعضهم نحو ذلك في
الكواكب وأثبت الحركة الإرادية ونفي القواسر هناك وأن المراد
بالإنسان الجنس وأن قوله تعالى: إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً
جَهُولًا في موضع التعليل للحمل.
ووصف الجنس بصيغتي المبالغة لكثرة الأفراد المتصفة بالظلم
والجهل منه وإن لم يكونا فيها على وجه المبالغة بل لا يخلو فرد
من الأفراد عن الاتصاف بظلم ما وجهل ما، ولا يجب في وصف الجنس
بصيغة المبالغة تحقق تلك الصفة في الأفراد كلا أو بعضا على وجه
المبالغة، نعم إن تحقق ذلك فهو زيادة خير، كما فيما نحن فيه
فإن أكثر أفراد الإنسان في غاية الظلم ونهاية الجهل، ولعل
المراد بظلوم جهول من شأنه الظلم والجهل وأن قوله تعالى:
لِيُعَذِّبَ إلخ متعلق بعرضنا على أنه تعليل له، وفي الكلام
التفات لا يخفى، وتقديم التعذيب لأنه أوفق بصفتي الظلم والجهل،
وقيل: لأن الأمانة من حكمها اللازم أن خائنها يضمن وليس من
حكمها أن حافظها يؤجر، ومقابلة التعذيب بالتوبة دون الإثابة أو
الرحمة للإشارة إلى أن في المؤمنين والمؤمنات من يصدر منه ما
يصح أن يعذب عليه ومع ذلك لا يعذب، وفيه إشعار بأنه لا يعذب
على كل ظلم وجهل وفي هذا من إدخال السرور على المؤمنين والكآبة
على أضدادهم ما فيه، وأيضا أن ذلك أوفق بظاهر قوله تعالى: «إنه
كان ظلوما جهولا» وقيل لم يعتبر بالإثابة لأنها علمت من قوله
سبحانه: وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فازَ
فَوْزاً عَظِيماً فعبر بما ذكر للتنبيه على أن ذلك بمحض الفضل
وهو كما ترى، وقيل إن ذاك لأن التذييل متكفل بإفادة رحمتهم
وإثابتهم.
وقرأ الحسن كما ذكر صاحب اللوامح «ويتوب» بالرفع على الاستئناف
وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً أي مبالغا في المغفرة
والرحمة حيث تاب على المؤمنين والمؤمنات وغفر لهم فرطاتهم
وأثابهم بالفوز العظيم على طاعاتهم نسأل الله تعالى أن يتوب
علينا ويغفر لنا ويثيبنا بالفوز العظيم إنه جل جلاله وعم نواله
غفور رحيم.
ومن باب الإشارة في آيات من هذه السورة الكريمة يا أَيُّهَا
النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ إلخ فيه إشارة إلى عظم شأن التقوى
وكذا شأن كل أمر ونهيى يتعلقان به عليه الصلاة والسّلام، وفيه
أيضا إشارة إلى أنه لا ينبغي محبة أعداء الله عزّ وجلّ حيث نهى
عن طاعتهم وهما كالمتلازمين ما جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ
قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ لأن موقعه في البدن موقع الرئيس في
المملكة والحكمة تقتضي وحدة الرئيس، وفي الخبر إذا بويع
خليفتان فاقتلوا أحدهما.
وقيل: إن ذاك لتشعر وحدته في بدن الإنسان الذي هو العالم
الأصغر المنطوي فيه العالم الأكبر بوحدة الله سبحانه في
الوجود، وينبغي أن يعلم أن للقلب عندهم كما قال الصدر القونوي
إطلاقين الأول إطلاقه على اللحم الصنوبري الشكل المعروف عند
الخاصة والعامة والثاني إطلاقه على الحقيقة الجامعة بين
الأوصاف والشؤون الربانية وبين الخصائص والأحوال الكونية
الروحانية منها والطبيعة وهي تنشأ من بين الهيئة الاجتماعية
الواقعة بين الصفات والحقائق الإلهية والكونية وما يشتمل عليه
هذان الأصلان من الأخلاق والصفات اللازمة وما يتولد من بينهما
بعد الارتياض والتزكية وظهور ذلك مما ذكر ظهور السواد بين
العفص والزاج والماء وهذا هو القلب الذي أخبر عنه الحق على
لسان نبيه صلّى الله عليه وسلم بقوله سبحانه: «ما وسعني أرضي
ولا سمائي ووسعني قلب عبدي المؤمن التقي النقي الوادع» وهو
(11/274)
محل نظر الحق ومنصة تجليه ومهبط أمره ومنزل
تدليه واللحم الصنوبري أحقر من حيث صورته أن يكون محل سره جل
وعلا فضلا عن أن يسعه سبحانه ويكون مطمح نظره الأعلى ومستواه،
وادعوا أن تسمية ذلك الصنوبري الشكل بالقلب على سبيل المجاز
باعتبار تسمية الصفة والحامل باسم الموصوف والمحمول «وما جعل
أزواجكم اللائي تظاهرون منهن أمهاتكم وما جعل أدعياءكم
أبناءكم» فيه أن الحقائق لا تنقلب وأن في القرابة النسبية خواص
لا تكون في القرابة السببية فأين الأزواج من الأمهات والأدعياء
من الأبناء فالأمهات أصول ولا كذلك الأزواج والأبناء فروع ولا
كذلك الأدعياء، ومن هنا قيل: الولد سر أبيه، وقد أورده الشمس
الفناري في مصباح الأنس حديثا بصيغة الجزم من غير عزو ولا سند
ولا يصح ذلك عند المحدثين، وهو إشارة إلى الأوصاف والأخلاق
والكمالات التي يحصلها الولد بالسراية من والده لا بواسطة توجه
القلب إلى حضرة الغيب الإلهي وعالم المعاني فإنه باعتبار ذلك
قد تحصل للولد أوصاف وأخلاق على خلاف حال والده، ومنه يظهر سر
يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ [الأنعام: 95، يونس: 31،
الروم: 19] فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آباءَهُمْ فَإِخْوانُكُمْ
فِي الدِّينِ وَمَوالِيكُمْ فيه إشارة إلى أن للدين نوعا من
الأبوة ولهذا قد يقع به التوارث النَّبِيُّ أَوْلى
بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ لأنه عليه الصلاة والسّلام
يحب لهم فوق ما يحبون لها ويسلك بهم المسلك الذي يوصلهم إلى
الحياة الأبدية وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ
مِيثاقَهُمْ أي في الأزل إذ كانوا أعيانا ثابتة أو يوم الميثاق
إذ صار لهم نوع تعين لِيَسْئَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ
سؤال تشريف لا تعنيف، والصدق على ما قالوا إن لا يكون في
أحوالك شوب ولا في أعمالك عيب ولا في اعتقادك ريب، ومن أماراته
وجود الإخلاص من غير ملاحظة المخلوق وتصفية الأحوال من غير
مداخلة إعجاب وسلامة القول من المعاريض والتباعد عن التلبيس
فيما بين الناس وإدامة التبري من الحول والقوة بل الخروج من
الوجود المجازي شوقا إلى الوجود الحقيقي يا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ
جاءَتْكُمْ جُنُودٌ إلخ طبق بعضهم ما تضمنته الآيات من قصة
الأحزاب على ما في الأنفس ولا يخفى حاله، ومن غريب ما رأيت أن
الشيخ محيي الدين قدس الله سره قسم الأولياء إلى أقسام وجعل
منهم قسما يقال لهم اليثربيون وقال: هم قوم من الأولياء لا
مقام لهم كما لسائر الأولياء وجعل قول المنافقين يا أَهْلَ
يَثْرِبَ لا مُقامَ لَكُمْ إشارة إلى ذلك، وكم قول غريب لهذا
الشيخ غفر الله تعالى له لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ
اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللَّهَ
وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً لأنه عليه
الصلاة والسّلام أكمل الخلق على الإطلاق وأحظى الناس بإشراق
أنوار أخلاقه عليه الذين يرجون الله تعالى واليوم الآخر
ويذكرونه عزّ وجلّ كثيرا لصقالة قلوبهم وقوة استعدادها لإشراق
الأنوار وظهور الآثار مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ أي رجال
كاملون، وقول بعضهم: أي متصرفون في الموجودات تصرف الذكور في
الأناث كلام بشع تنقبض منه ككثير من كلام المتصوفة قلوب
المقتفين للسلف الصالح.
يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ
تُرِدْنَ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها فَتَعالَيْنَ
أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَراحاً جَمِيلًا إلخ فيه
إشارة إلى أن حب الدنيا وزينتها يكون سببا لمفارقة رسول الله
صلّى الله عليه وسلم والبعد عن حضرته الشريفة وأن محبته عليه
الصلاة والسّلام تكون سببا للأجر العظيم يا نِساءَ النَّبِيِّ
مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ إلخ فيه إشارة إلى تفاوت قبح المعاصي
وحسن الطاعات باعتبار الأشخاص ومثل ذلك تفاوتها باعتبار
الأماكن والأزمان وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا
قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ
الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ
إشارة إلى مقام التسليم وأنه اللائق بالمؤمنين وهذا حكم مستمر
على الأمة إلى يوم القيامة فلا ينبغي لأحد بلغه شيء عن الله
عزّ وجلّ وعن رسوله صلّى الله عليه وسلم أن يختار لنفسه خلافه
لإشعار ذلك باتهام الله تعالى ورسوله عليه الصلاة والسّلام.
(11/275)
ولعل الإشارة في الآيات بعد ظاهرة لمن له
أدنى التفات بيد أنهم أطالوا الكلام في الأمانة المذكورة في
قوله تعالى: إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ الآية فلنذكر بعضا
من ذلك فنقول: قال الشيخ محيي الدين قدس سره في بلغة الغواص:
إن الأمانة التي عرضت على السماوات والأرض فأبين أن يحملنها هي
السعة لمعرفة الله تعالى فلم يوجد في السماوات والأرض قبول لما
قبله الإنسان بهذا التأليف الصوري إذ هو ثمرة العالم فهو يرى
نفسه في العالم ويرى ربه سبحانه بالعالم الذي هو نفسه من حيث
هو كل العالم فلذلك اتسع لما لم يسعه العالم ولذلك خصه سبحانه
بالسعة حيث أخبر جل شأنه أنه لم يسعه سماواته ولا أرضه ووسعه
قلب المؤمن من نوع الإنسان انتهى.
وكأنه أراد بكونه وسع الحق سبحانه كونه مظهرا جامعا للأسماء
والصفات على وجه لا ينافي تنزيه الحق جل جلاله، وهذا قريب مما
ذكرناه في التفسير وقلنا إنه مشرب صوفي كما لا يخفي، وقال آخر:
هي عبارة عن الفيض الإلهي بلا واسطة وحمله خاص بالإنسان لأن
نسبته مع المخلوقات كنسبة القلب مع الشخص فالعالم شخص وقلبه
الإنسان فكما أن القلب حامل للروح بلا واسطة وتسري منه بواسطة
العروق والشرايين ونحوها إلى سائر البدن كذلك الإنسان حامل
للفيض الإلهي بلا واسطة ويسري منه إلى ظاهر الكون وباطنه
بواسطة ظاهره وباطنه من أعمال البدن والروح فظاهر العالم
وباطنه معموران بظاهر الإنسان وباطنه وهذا سر الخلافة ومعنى
كونه ظلوما أنه ظالم لنفسه حيث استعد لأن يحمل أمرا عظيما
وكونه جهولا أنه جاهل بها حيث لم يعرف حقيقتها ولم يدرك منها
سوى الصورة الحيوانية المتصفة بالصفات البهيمية من الأكل
والشرب والنكاح وهاتان الصفتان في حق حاملي الأمانة ومؤدي حقها
من حيث إنهما صارتا سببا لحمل الأمانة صفتا مدح وفي حق
الخائنين صفتا ذم والشيء قد يكون ذما في حق شخص ومدحا في حق
آخر، والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل ومنه الاستمداد في
فهم كلامه العزيز الجليل.
(11/276)
|