روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني حم (1) وَالْكِتَابِ
الْمُبِينِ (2) إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ
إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ (3) فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ
حَكِيمٍ (4) أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ
(5) رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ
(6) رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ
كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (7) لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي
وَيُمِيتُ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (8)
بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ (9) فَارْتَقِبْ يَوْمَ
تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ (10) يَغْشَى النَّاسَ
هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ (11) رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا
الْعَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ (12) أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرَى
وَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ (13) ثُمَّ تَوَلَّوْا
عَنْهُ وَقَالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ (14)
سورة الدّخان
مكية كما روي عن ابن عباس وابن الزبير رضي الله تعالى عنهم
واستثنى بعض قوله تعالى: إِنَّا كاشِفُوا الْعَذابِ قَلِيلًا
إِنَّكُمْ عائِدُونَ [الدخان: 15] وآيها كما قال الداني تسع
وخمسون في الكوفي وسبع في البصري وست في عدد الباقين.
واختلافها على ما في مجمع البيان أربع آيات حم [الدخان: 1]
وإِنَّ هؤُلاءِ لَيَقُولُونَ [الدخان:
34] كوفي شَجَرَةَ الزَّقُّومِ [الدخان: 43] عراقي شامي
والمدني الأول في الْبُطُونِ [الدخان: 45] عراقي مكي والمدني
الأخير. ووجه مناسبتها لما قبلها أنه عزّ وجلّ ختم ما قبل
بالوعيد والتهديد وافتتح هذه بشيء من الإنذار الشديد وذكر
سبحانه هناك قول الرسول صلّى الله عليه وسلّم: يا رَبِّ إِنَّ
هؤُلاءِ قَوْمٌ لا يُؤْمِنُونَ [الزخرف: 88] وهنا نظيره فيما
حكي عن أخيه موسى عليهما الصلاة والسلام بقوله تعالى فَدَعا
رَبَّهُ أَنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ [الدخان: 22] وأيضا
ذكر فيما تقدم فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلامٌ [الزخرف: 89]
وحكى سبحانه عن موسى عليه السلام إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي
وَرَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي
فَاعْتَزِلُونِ [الدخان: 20، 21] وهو قريب من قريب إلى غير
ذلك، وهي إحدى النظائر التي كان يصلي بهن رسول الله صلّى الله
عليه وسلّم كما أخرج الطبراني عن ابن مسعود الذاريات والطور
والنجم واقتربت والرحمن والواقعة ونون والحاقة والمزمل ولا
أقسم بيوم القيامة وهل أتى على الإنسان والمرسلات وعم يتساءلون
والنازعات وعبس وويل للمطففين وإذا الشمس كورت والدخان، وورد
بفضلها أخبار.
أخرج الترمذي ومحمد بن نصر وابن مردويه والبيهقي عن أبي هريرة
قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من قرأ حم الدخان
في ليلة أصبح يستغفر له سبعون ألف ملك»
وأخرج المذكورون عنه أيضا يرفعه من قرأ حم الدخان في ليلة جمعة
أصبح مغفورا له»
وفي رواية للبيهقي وابن الضريس عنه مرفوعا «من قرأ ليلة الجمعة
حم الدخان ويس أصبح مغفورا له»
وأخرج ابن الضريس عن الحسن أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال
«من قرأ سورة الدخان في ليلة غفر له ما تقدم من ذنبه»
وأخرج ابن مردويه عن أبي أمامة قال: قال رسول الله صلّى الله
عليه وسلّم «من قرأ حم الدخان في ليلة جمعة أو يوم جمعة بنى
الله تعالى له بيتا في الجنة» .
(13/109)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ حم
وَالْكِتابِ الْمُبِينِ الكلام فيه كالذي سلف في السورة
السابقة.
إِنَّا أَنْزَلْناهُ أي الكتاب المبين الذي هو القرآن على
القول المعول عليه فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ هي ليلة القدر على
ما روي عن ابن عباس وقتادة وابن جبير ومجاهد، وابن زيد والحسن
وعليه أكثر المفسرين والظواهر معهم، وقال عكرمة. وجماعة: هي
ليلة النصف من شعبان. وتسمى ليلة الرحمة والليلة المباركة
وليلة الصك وليلة البراءة، ووجه تسميتها بالأخيرين أن البندار
إذا استوفى الخراج من أهله كتب لهم البراءة والصك كذلك أن الله
عزّ وجلّ يكتب لعباده المؤمنين البراءة والصك في هذه الليلة.
وظاهر كلامهم هنا أن البراءة وهي مصدر برىء براءة إذا تخلص
تطلق على صك الأعمال والديون وما ضاهاها وأنه ورد في الآثار
ذلك وهو مجاز مشهور وصار بذلك كالمشترك، وفي المغرب بريء من
الدين والعيب براءة، ومنه البراءة لخط الإبراء والجمع براءات
وبروات عامية اهـ.
وأكثر أهل اللغة على أنه لم يسمع من العرب وأنه عامي صرف وإن
كان من باب المجاز الواسع.
قال ابن السيد في المقتضب البراءة في الأصل مصدر برىء براءة،
وأما البراءة المستعملة في صناعة الكتاب فتسميتها بذلك إما على
أنها من بريء من دينه إذا أداه وبرئت من الأمر إذا تخليت منه
فكأن المطلوب منه أمر تبرأ إلى الطالب أو تخلى، وقيل: أصله أن
الجاني كان إذا جنى وعفا عنه الملك كتب له كتاب أمان مما خافه
فكان يقال:
كتب السلطان لفلان براءة ثم عمم ذلك فيما كتب من أولي الأمر
وأمثالهم اهـ.
وذكروا في فضل هذه الليل أخبارا كثيرة، منها ما
أخرجه ابن ماجه والبيهقي في شعب الإيمان عن علي كرم الله وجهه
قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا كانت ليلة النصف
من شعبان فقوموا ليلها وصوموا نهارها فإن الله تعالى ينزل فيها
لغروب الشمس إلى السماء الدنيا فيقول: ألا مستغفر فأغفر له ألا
مسترزق فأرزقه ألا مبتلى فأعافيه ألا كذا ألا كذا حتى يطلع
الفجر»
وما
أخرجه الترمذي وابن أبي شيبة والبيهقي وابن ماجه عن عائشة
قالت: «فقدت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ذات ليلة فخرجت
أطلبه فإذا هو بالبقيع رافعا رأسه إلى السماء فقال يا عائشة:
أكنت تخافين أن يحيف الله تعالى عليك ورسوله؟ قلت: ما بي من
ذلك ولكني ظننت أنك أتيت بعض نسائك، فقال: إن الله عز وجل ينزل
ليلة النصف من شعبان إلى السماء الدنيا فيغفر لأكثر من عدد شعر
غنم كلب»
. وما
أخرجه أحمد بن حنبل في المسند عن عبد الله بن عمرو بن العاص أن
رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «يطلع الله تعالى إلى
خلقه ليلة النصف من شعبان فيغفر لعباده إلا اثنين مشاحن وقاتل
نفس»
وذكر بعضهم فيها صلاة مخصوصة وأنها تعدل عشرين حجة مبرورة
وصيام عشرين سنة مقبولا، وروي في ذلك حديثا طويلا عن علي كرم
الله تعالى وجهه، وقد أخرجه البيهقي ثم قال: يشبه أن يكون هذا
الحديث موضوعا وهو منكر وفي رواته مجهولون وأطال الوعاظ الكلام
في هذه الليلة وذكر فضائلها وخواصها، وذكروا عدة أخبار في أن
الآجال تنسخ فيها. وفي الدر المنثور طرف غير يسير من ذلك
وسنذكر بعضا منه إن شاء الله تعالى. وفي البحر قال الحافظ أبو
بكر بن العربي: لا يصح فيها شيء ولا نسخ الآجال فيها ولا يخلو
من مجازفة والله تعالى أعلم.
(13/110)
والمراد بإنزاله في تلك الليلة إنزاله فيها
جملة إلى السماء الدنيا من اللوح فالإنزال المنجم في ثلاث
وعشرين سنة أو أقل كان من السماء الدنيا وروي هذا عن ابن جرير
وغيره، وذكر أن المحل الذي أنزل فيه من تلك السماء البيت
المعمور وهو مسامت للكعبة بحيث لو نزل لنزل عليها.
وأخرج سعيد بن منصور عن إبراهيم النخعي أنه قال: نزل القرآن
جملة على جبريل عليه السلام وكان جبريل عليه السلام يجيء به
بعد إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم.
وقال غير واحد: المراد ابتداء إنزاله في تلك الليلة على التجوز
في الطرف أو النسبة واستشكل ذلك بأن ابتداء السنة المحرم أو
شهر ربيع الأول لأنه ولد فيه صلّى الله عليه وسلّم ومنه اعتبر
التاريخ في حياته عليه الصلاة والسلام إلى خلافة عمر رضي الله
تعالى عنه وهو الأصح، وقد كان الوحي إليه صلّى الله عليه وسلّم
على رأس الأربعين سنة من مدة عمره عليه الصلاة والسلام على
المشهور من عدة أقوال فكيف يكون ابتداء الإنزال في ليلة القدر
من شهر رمضان أو في ليلة البراءة من شعبان.
وأجيب بأن ابتداء الوحي كان مناما في شهر ربيع الأول ولم يكن
بإنزال شيء من القرآن والوحي يقظة مع الإنزال كان في يوم
الاثنين لسبع عشرة خلت من شهر رمضان، وقيل لسبع منه، وقيل
لأربع وعشرين ليلة منه، وأنت تعلم كثرة اختلاف الأقوال في هذا
المقام فمن يقول بابتداء إنزاله في شهر يلتزم منها ما لا
يأباه.
واختلف في أول ما نزل منه، ففي صحيح مسلم أنه يا أَيُّهَا
الْمُدَّثِّرُ [المدثر: 1] وتعقبه النووي في شرحه فقال: إنه
ضعيف بل باطل والصواب أن أول ما نزل على الإطلاق اقْرَأْ
بِاسْمِ رَبِّكَ [العلق: 1] كما صرح به في حديث عائشة، وأما يا
أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ فكان نزولها بعد فترة الوحي كما صرح به
في رواية الزهري عن أبي سلمة، عن جابر.
وأما قول من قال من المفسرين أول ما نزل الفاتحة فبطلانه أظهر
من أن يذكر اهـ والكلام في ذلك مستوفى في الإتقان فليرجع إليه
من أراده.
ووصف الليلة بالبركة لما أن إنزال القرآن مستتبع للمنافع
الدينية والدنيوية بأجمعها أو لما فيها من تنزل الملائكة
والرحمة وإجابة الدعوة وفضيلة العبادة أو لما فيها من ذلك
وتقدير الأرزاق وفصل الأقضية كالآجال وغيرها وإعطاء تمام
الشفاعة له عليه الصلاة والسلام، وهذا بناء على أنها ليلة
البراءة، فقد روي أنه صلّى الله عليه وسلّم سأل ليلة الثالث
عشر من شعبان في أمته فأعطى الثلث منها ثم سأل ليلة الرابع عشر
فأعطى الثلثين ثم سأل ليلة الخامس عشر فأعطى الجميع إلا من شرد
على الله تعالى شراد البعير، وأياما كان فقد قيل: إن التعليل
إنما يحتاج إليه بناء على القول بما اختاره العز بن عبد السلام
من أن الأمكنة والأزمنة كلها متساوية في حد ذاتها لا يفضل
بعضها بعضا إلا بما يقع فيها من الأعمال ونحوها، وزاد بعضهم أو
يحل لتدخل البقعة التي ضمته صلّى الله عليه وسلّم فإنها أفضل
البقاع الأرضية والسماوية حتى قيل وبه أقول إنها أفضل من
العرش.
والحق أنه لا يبعد أن يخص الله سبحانه بعضها بمزيد تشريف حتى
يصير ذلك داعيا إلى إقدام المكلف على الأعمال فيها أو لحكمة
أخرى، وجملة إِنَّا أَنْزَلْناهُ جواب القسم، وفي ذلك مبالغة
نحو ما في قوله: وثناياك إنها إغريض.
وقوله تعالى: إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ استئناف يبين المقتضي
للإنزال، وقوله تعالى: فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ
استئناف أيضا لبيان التخصيص بالليلة المباركة فكأنه قيل:
أنزلناه لأن من شأننا الإنذار والتحذير من العقاب وكان إنزاله
(13/111)
في تلك الليلة المباركة لأنه من الأمور
الدالة على الحكم البالغة وهي ليلة يفرق فيها كل أمر حكيم ففي
الكلام لف ونشر، واشتراط أن يكون كل منهما بجملتين مستقلتين
مما لا داعي إليه، وقيل: إن جملة فِيها يُفْرَقُ إلخ صفة أخرى
لليلة وما بينهما اعتراض لا يضر الفصل به بل لا يعد الفصل به
فصلا، وقيل إن قوله تعالى إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ هو جواب
القسم وما بينهما اعتراض وإليه ذهب ابن عطية زاعما أنه لا يجوز
جعل إِنَّا أَنْزَلْناهُ جوابا له فيه من القسم بالشيء على
نفسه.
واعترض بأن قوله تعالى: فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ
يكون حينئذ من تتمة الاعتراض فلا يحسن تأخره عن المقسم عليه
ولا يدفعه أن هذه الجملة مستأنفة لا صفة أخرى لأنه استئناف
بياني متعلق بما قبل كما سمعت آنفا فلا يليق الفصل أيضا كما لا
يخفى على من له ذوق سليم، وما ذكر من حديث القسم بالشيء على
نفسه فقد أشرنا إلى جوابه، وقيل إنّ قوله سبحانه: إِنَّا
كُنَّا مُنْذِرِينَ جواب آخر للقسم وفيه تعدد المقسم عليه من
غير عطف ولم نر من تعرض له، ومعنى يفرق يفصل ويلخص، والحكيم
بمعنى المحكم لأنه لا يبدل ولا يغير بعد إبرازه للملائكة عليهم
السلام بخلافه قبله وهو في اللوح فإن الله تعالى يمحو منه ما
يشاء ويثبت.
وجوز أن يكون بمعنى المحكوم به ونسبته إلى الأمر عليها حقيقة،
ويجوز أن يكون المعنى كل أمر ملتبس بالحكمة والأصل حكيم صاحبه
فتجوز في النسبة، وقيل: إن حكيم للنسبة كتامرو لابن وقد أبهم
سبحانه هذا الأمر.
وأخرج محمد بن نصر وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس أنه
قال في ذلك: يكتب من أم الكتاب في ليلة القدر ما يكون في السنة
من رزق أو موت أو حياة أو مطر حتى يكتب الحاج يحج فلان ويحج
فلان.
وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن ربيعة بن كلثوم قال: كنت عند
الحسن فقال له رجل: يا أبا سعيد ليلة القدر في كل رمضان هي؟
قال: إي والله إنها لفي كل رمضان وإنها لليلة يفرق فيها كل أمر
حكيم فيها يقضي الله تعالى كل أجل وعمل ورزق إلى مثلها، وروي
هذا التعميم عن غير واحد من السلف.
وأخرج البيهقي عن أبي الجوزاء فيها يفرق كل أمر حكيم هي ليلة
القدر يجاء بالديوان الأعظم السنة إلى السنة فيغفر الله تعالى
شأنه لمن يشاء ألا ترى أنه عز وجل قال رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ
وفيه بحث، وإلى مثل ذلك التعميم ذهب بعض من قال: إن الليلة
المباركة هي ليلة البراءة، أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي
حاتم من طريق محمد بن سوقة عن عكرمة أنه قال في الآية: في ليلة
النصف من شعبان يبرم أمر السنة وينسخ الأحياء من الأموات ويكتب
الحاج فلا يزاد فيهم ولا ينقص منهم أحد، وفي كثير من الأخبار
الاقتصار على قطع الآجال،
أخرج ابن جرير والبيهقي في شعب الإيمان عن الزهري عن عثمان بن
محمد بن المغيرة بن الأخفش قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه
وسلّم: تقطع الآجال من شعبان إلى شعبان حتى أن الرجل لينكح
ويولد له وقد خرج اسمه في الموتى»
وأخرج الدينوري في المجالسة عن راشد بن سعد أن النبي صلّى الله
عليه وسلّم قال: «في ليلة النصف من شعبان يوحي الله تعالى إلى
ملك الموت بقبض كل نفس يريد قبضها في تلك السنة»
ونحوه كثير، وقيل: يبدآن في استنساخ كل أمر حكيم من اللوح
المحفوظ في ليلة البراءة ويقع الفراغ في ليلة القدر فتدفع نسخة
الأرزاق إلى ميكائيل عليه السلام ونسخة الحروب إلى جبرائيل
عليه السلام وكذلك الزلازل والصواعق والخسف ونسخة الأعمال إلى
إسماعيل عليه السلام صاحب سماء الدنيا وهو ملك عظيم ونسخة
المصائب إلى ملك الموت.
وروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما تقضى الأقضية كلها ليلة
النصف من شعبان وتسلم إلى أربابها ليلة السابع والعشرين من شهر
رمضان. واعترض بما ذكر على الاستدلال بالظواهر على أن الليلة
المذكورة هي ليلة القدر لا
(13/112)
ليلة النصف من شعبان ومن تدبر علم أنه لا
يخدش الظواهر، نعم حكي عن عكرمة أن ليلة النصف من شعبان هي
ليلة القدر ويلزمه تأويل ما يأبى ظاهره ذلك فتدبر، وسيأتي إن
شاء الله عز وجل الكلام في هذا المقام مستوفى على أتم وجه في
تفسير سورة القدر وهو سبحانه الموفق.
وقرأ الحسن والأعرج والأعمش «يفرق» بفتح الياء وضم الراء «كلّ»
بالنصب أي يفرق الله تعالى، وقرأ زيد بن علي فيما ذكر الزمخشري
عنه «نفرّق» بالنون «كلّ» بالنصب وفيما ذكر أبو علي الأهوازي
عنه بفتح الياء وكسر الراء ونصب «كلّ» ورفع «حكيم» على أنه
الفاعل بيفرق، وقرأ الحسن. وزائدة عن الأعمش «يفرّق» بالتشديد
وصيغة المفعول وهو للتكثير وفيه رد على قول بعض اللغويين
كالحريري أن الفرق مختص بالمعاني والتفريق بالأجسام.
أَمْراً مِنْ عِنْدِنا نصب على الاختصاص وتنكيره للتفخيم،
والجار والمجرور في موضع الصفة له وتعلقه بيفرق ليس بشيء،
والمراد بالعندية أنه على وفق الحكمة والتدبير أي أعني بهذا
الأمر أمرا فخيما حاصلا على مقتضى حكمتنا وتدبيرنا وهو بيان
لزيادة فخامته ومدحه، وجوز كونه حالا من ضمير أمر السابق
المستتر في حكيم الواقع صفة له أو من «أمر» نفسه، وصح مجيء
الحال منه مع أنه نكرة لتخصصه بالوصف على أن عموم النكرة
المضاف إليها كل مسوغ للحالية من غير احتياج الوصف، وقول
السمين: إن فيه القول بالحال من المضاف إليه في غير المواضع
المذكورة في النحو صادر عن نظر ضعيف لأنه كالجزء في جواز
الاستغناء عنه بأن يقال: يفرق أمر حكيم على إرادة عموم النكرة
في الإثبات كما في قوله تعالى: عَلِمَتْ نَفْسٌ ما أَحْضَرَتْ
[التكوير: 14] وقيل: حال من كُلُّ وأيا ما كان فهو مغاير لذي
الحال لوصفه بقوله تعالى: مِنْ عِنْدِنا فيصح وقوعه حالا من
غير لغوية فيه.
وكونها مؤكدة غير متأت مع الوصفية كما لا يخفى على ذي الذهن
السليم، وهو على هذه الأوجه واحد الأمور وجوز أن يراد به الأمر
الذي هو ضد النهي على أنه واحد الأوامر فحينئذ يكون منصوبا على
المصدرية لفعل مضمر من لفظه أي أمرنا أمرا من عندنا، والجملة
بيان لقوله سبحانه: يُفْرَقُ إلخ، وقيل: إما أن يكون نصبا على
المصدرية ليفرق لأن كتب الله تعالى للشيء إيجابه وكذلك أمره عز
وجل به كأنه قيل: يؤمر بكل شأن مطلوب على وجه الحكمة أمرا
فالأمر وضع موضع الفرقان المستعمل بمعنى الأمر، وإما أن يكون
على الحالة من فاعل أَنْزَلْناهُ أو مفعوله أي إنا أنزلناه
آمرين أمرا أو حال كون الكتاب أمرا يجب أن يفعل وفي جعل الكتاب
نفس الأمر لاشتماله عليه أيضا تجوز فيه فخامة، وتعقب ذلك في
الكشف فقال: فيه ضعف للفصل بالجملتين بين الحال وصاحبها على
الثاني ولعدم اختصاص الأوامر الصادرة منه تعالى بتلك الليلة
على الأول.
ووجهه أن تخص بالقرآن ولا يجعل قوله تعالى: فِيها يُفْرَقُ علة
للإنزال في الليلة بل هو تفصيل لما أجمل في قوله سبحانه:
إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ على معنى فيها
أنزل الكتاب المبين الذي هو المشتمل على كل مأمور به حكيم كأنه
جعل الكتاب كله أمرا أو ما أمر به كل المأمورات وفيه مبالغة
حسنة، ولا يخفى أن في فهمه من الآية تكلفا.
وقال الخفاجي في أمر الفصل: إنه لا يضر ذلك الفاصل على
الاعتراض وكذا على التعليل لأنه غير أجنبي.
وقرأ زيد بن علي رضي الله تعالى عنهما «أمر» بالرفع وهي تنصر
كون انتصابه في قراءة الجمهور على الاختصاص لأن الرفع عليه
فيها، وقوله تعالى: إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ رَحْمَةً مِنْ
رَبِّكَ
تعليل ليفرق أو لقوله تعالى: أَمْراً مِنْ عِنْدِنا ورحمة
مفعول به لمرسلين وتنوينها للتفخيم، والجار والمجرور في موضع
الصفة لها، وإيقاع الإرسال عليها هنا كإيقاعه عليها في قوله
سبحانه: ما يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا
مُمْسِكَ لَها وَما يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ
[فاطر: 2] والمعنى على ما في الكشاف يفصل في هذه الليلة كل أمر
لأن من عادتنا أن نرسل رحمتنا وفصل
(13/113)
كل أمر من قسمة الأرزاق وغيرها من باب
الرحمة أي إن المقصود الأصلي بالذات من ذلك الرحمة أو تصدر
الأوامر من عندنا لأن من عادتنا ذلك والأوامر الصادرة من جهته
تعالى من باب الرحمة أيضا لأن الغاية لتكليف العباد تعريضهم
للمنافع، وفيه كما قيل إشارة إلى أن جعله تعليلا لقوله سبحانه:
أمرا من عندنا إنما هو على تقدير أن يراد بالأمر مقابل النهي
وهو يجري على تقديري المصدرية والحالية.
وفي الكشف أن قوله: يفصل إلخ أو تصدر الأوامر إلخ تبيين لمعنى
التعليل على التفسيرين في يُفْرَقُ لأنه أما بمعنى الفصل على
الحقيقة من قسمة الأرزاق وغيرها أو بمعنى يؤمر والشأن المطلوب
يكون مأمورا به لا محالة فحاصله يرجع إلى قوله: أو تصدر
الأوامر من عندنا لا لوجهي التعليل من تعلقه بيفرق أو بأمرا
فإن تعلقه بأمرا إنما يصح إذا نصب على الاختصاص وإذ ذاك ليس
الأمر ما يقابل النهي لأن الأمر إذا كان المقابل فهو إما مصدر
وإنما يعلل فعله وإما حال مؤكدة فيكون راجعا إلى تعليل الإنزال
المخصوص وليس المقصود وإنما لم يذكر المعنى على تقدير تعلقه
بأمرا لأن المعنى الأول يصلح تفسيرا له أيضا انتهى.
والظاهر كون ذلك تبيينا لوجهي التعليل، وما ذكر في نفيه لا
يخلو عن بحث كما يعرف بالتأمل، واعتبار العادة في بيان المعنى
جاء من كنا فإنه يقال: كان يفعل كذا لما تكرر وقوعه وصار عادة
كما صرحوا به في الكتب الحديثية وغيرها ولإفادة ذلك عدل عن إنا
مرسلون الاخصر وقوله سبحانه: مِنْ رَبِّكَ وضع فيه الظاهر موضع
الضمير والأصل منا فجيء بلفظ الرب مضافا إلى ضميره صلّى الله
عليه وسلّم على وجه تخصيص الخطاب به صلّى الله عليه وسلّم
تشريفا له عليه الصلاة والسلام ودلالة على أن كونه سبحانه ربك
وأنت مبعوث رحمة للعالمين مما يقتضي أن يرسل الرحمة.
وقال الطيبي: خص الخطاب برسوله عليه الصلاة والسلام والمراد
العموم، والأصل من ربكم وجيء بلفظ الرب ليؤذن بأن المربوبية
تقتضي الرحمة على المربوبين وليكون تمهيده يبتنى عليه التعليل
الآتي المتضمن للتعريض بواسطة الحصر بأن آلهتهم لا تسمع ولا
تبصر ولا تغني شيئا وتعقب بأنه لو أريد العموم لفاتت النكتة
المذكورة ولزم أن يدخل المؤمنون في قوله تعالى: إِنْ كُنْتُمْ
مُوقِنِينَ وما بعده وليس المعنى عليه وفي القلب منه شيء وفسر
بعضهم الرحمة المرسلة بنبينا صلّى الله عليه وسلّم ولا يخفى أن
صحة التعليل تأبى ذلك.
وجوز أن يكون قوله تعالى: إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ بدلا من
قوله سبحانه: إنا كنا منذرين الواقع تعليلا لإنزال الكتاب بدل
كل أو اشتمال باعتبار الإرسال والإنذار، ويكون رَحْمَةً حينئذ
مفعولا له أي أنزلنا القرآن لأن عادتنا إرسال الرسل والكتب إلى
العباد لأجل الرحمة عليهم واختيار كون الرحمة مفعولا له
ليتطابق البدل والمبدل منه إذ معنى المبدل منه فاعلين الإنذار
ويطابقه فاعلين الإرسال ولم يجوز كونها كذلك على وجه التعليل
بل أوجب كونها مفعولا به ليصح إذ لو قيل فيها تفصيل كل شأن
حكيم لأنا فاعلون الإرسال لأجل الرحمة لم يفد أن الفصل رحمة
ولا أنه سبحانه مرسل فلا يستقيم التعليل قيل وينصر نصب رحمة
على المفعول قراءة الحسن وزيد بن علي برفعها لأن الكلام عليه
جملة مستأنفة أي هي رَحْمَةً تعليلا للإرسال فيلائم القول
بأنها في قراءة النصب مفعول له وليطابق قراءتهما في كون معنى
إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ إنا كنا فاعلين الإرسال، وقال بعض
أجلة المحققين: إن القول بأنه تعليل أظهر من القول بأنه بدل
ليكون الكلام على نسق في التعليل غب التعليل، ولما ذكر في
الحالة المقتضية للإبدال ولوقوع الفصل، وأشار على ما قيل بما
ذكر في الحالة المقتضية للإبدال بأن المبدل منه غير مقصود وأنه
في حكم السقوط وهاهنا ليس كذلك، وتعقب هذا بأنه أغلبي لا مطرد
وقوله: لوقوع الفصل أي بين البدل والمبدل منه بأن الفاصل غير
أجنبي فلا يضر الفصل به فتدبر، وجوز كون رحمة مصدرا لرحمنا
مقدر وكونها حالا من ضمير
(13/114)
مُرْسِلِينَ وكونها بدلا من أَمْراً فلا
تغفل إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ لكل مسموع فيسمع أقوال العباد
الْعَلِيمُ لكل معلوم فيعلم أحوالهم، وتوسيط الضمير مع تعريف
الطرفين لإفادة الحصر، والجملة تحقيق لربوبيته عز وجل وأنها لا
تحق إلا لمن هذه نعوته، وفي تخصيص السَّمِيعُ الْعَلِيمُ على
ما قال الطيبي إدماج لوعيد الكفار ووعد المؤمنين الذين تلقوا
الرحمة بأنواع الشكر رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما
بَيْنَهُما بدل من رَبِّكَ أو بيان أو نعت.
وقرأ غير واحد من السبعة والأعرج وابن أبي إسحاق وأبو جعفر
وشيبة بالرفع على أنه خبر آخر لإن أو خبر مبتدأ محذوف أي هو
رب، والجملة مستأنفة لإثبات ما قبلها وتعليله إِنْ كُنْتُمْ
مُوقِنِينَ أي إن كنتم ممن عنده شيء من الإيقان وطرف من العلوم
اليقينية على أن الوصف المتعدي منزل منزلة اللازم لعدم القصد
إلى ما يتعلق به، وجواب الشرط محذوف أي إن كنتم من أهل الإيقان
علمتم كونه سبحانه رب السموات والأرض لأنه من أظهر اليقينيات
دليلا وحينئذ يلزمكم القول بما يقتضيه مما ذكر أولا، ويجوز أن
يكون مفعوله مقدرا أي إن كنتم موقنين في إقراركم إذا سئلتم عمن
خلق السموات والأرض فقلتم الله تعالى خلقهن، والجواب أيضا
محذوف أي إن كنتم موقنين في إقراركم بذلك علمتم ما يقتضيه مما
تقدم لظهور اقتضائه إياه، وجعل غير واحد الجواب على الوجهين
تحقق عندكم ما قلناه، ولم يجوزوا جعله مضمون رَبِّ السَّماواتِ
إلخ لأنه سبحانه كذلك أيقنوا أم لم يوقنوا فلا معنى لجعله دالا
عليه، وكذا جعله مضمون ما بعد بل هذا مما لا يحسن باعتبار
العلم أيضا.
وفي هذا الشرط تنزيل إيقانهم منزلة عدمه لظهور خلافه عليهم،
وهو مراد من قال: إنه من باب تنزيل العالم منزلة الجاهل لعدم
جريه على موجب العلم، قيل: ولا يصح أن يقال: إنهم نزلوا منزلة
الشاكرين لمكان قوله سبحانه بعد:
بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ ولا أرى بأسا في أن يقال: إنهم نزلوا أولا
كذلك ثم سجل عليهم بالشك لأنهم وإن أقروا بأنه عز وجل رب
السموات والأرض لم ينفكوا عن الشك لإلحادهم في صفاته سبحانه
وإشراكهم به تعالى شأنه.
وجوز أن يكون مُوقِنِينَ مجازا عن مريدين الإيقان والجواب
محذوف أيضا أي إن كنتم مريدين الإيقان فاعلموا ذلك، وفيه بعد،
وأما جعل إِنْ نافية كما حكاه النيسابوري فليس بشيء كما لا
يخفى لا إِلهَ إِلَّا هُوَ جملة مستأنفة مقررة لما قبلها،
وقيل: خبر لمبتدأ محذوف أي هو سبحانه لا إله إلا هو وجملة
المبتدأ وخبره مستأنفة مقررة لذلك، وقيل: خبر آخر لإن على
قراءة «رب السموات» بالرفع وجعله خبرا، وقيل: خبر له على تلك
القراءة وما بينهما اعتراض يُحْيِي وَيُمِيتُ مستأنفة كما
قبلها، وكذا قوله تعالى: رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ
الْأَوَّلِينَ بإضمار مبتدأ أو بدل من رَبِّ السَّماواتِ على
تلك القراءة أو بيان أو نعت له، وقيل: فاعل ليميت، وفي يُحْيِي
ضمير راجع إليه والكلام من باب التنازع أو إلى رَبِّ
السَّماواتِ، وقيل: يُحْيِي وَيُمِيتُ خبر آخر لرب السموات
وكذا رَبُّكُمْ وقيل: هما خبران آخران لإن، وقرأ ابن أبي إسحق
وابن محيصن وأبو حيوة والزعفراني وابن مقسم والحسن وأبو موسى
وعيسى بن سليمان وصالح كلاهما عن الكسائي بالجر بدلا من «رب
السموات» على قراءة الجر، وقرأ أحمد بن جبير الانطاكي بالنصب
على المدح.
بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ إضراب ابطالي أبطل به إيقانهم لعدم جريهم
على موجبه، وتنوين «شكّ» للتعظيم أي في شك عظيم يَلْعَبُونَ لا
يقولون ما يقولون مما هو مطابق لنفي الأمر عن جد وإذعان بل
يقولونه مخلوطا بهزء ولعب وهذه الجملة خبر بعد خبر لهم.
وجوز أن تكون هي الخبر والظرف متعلق بالفعل قدم للفاصلة،
والالتفات عن خطابهم لفرط عنادهم وعدم التفاتهم، والفاء في
قوله تعالى: فَارْتَقِبْ لترتيب الارتقاب أو الأمر به على ما
قبلها فإن كونهم في شك يلعبون مما
(13/115)
يوجب ذلك حتما أي فانتظر لهم يَوْمَ
تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ أي يوم تأتي بجدب ومجاعة
فإن الجائع جدا يرى بينه وبين السماء كهيئة الدخان وهي ظلمة
تعرض للبصر لضعفه فيتوهم ذلك فإطلاق الدخان على ذلك المرئي
باعتبار أن الرائي يتوهمه دخانا، ولا يأباه وصفه بمبين وإرادة
الجدب والمجاعة منه مجاز من باب ذكر المسبب وإرادة السبب أو
لأن الهواء يتكدر سنة الجدب بكثرة الغبار لقلة الأمطار المسكنة
له فهو كناية عن الجدب وقد فسر أبو عبيدة الدخان به، وقال
القتبي: يسمى دخانا ليبس الأرض حتى يرتفع منها ما هو كالدخان،
وقال بعض العرب: نسمي الشر الغالب دخانا، ووجه ذلك بأن الدخان
مما يتأذى به فأطلق على كل مؤذ يشبهه، وأريد به هنا الجدب
ومعناه الحقيقي معروف، وقياس جمعه في القلة أدخنة وفي الكثرة
دخنان نحو غراب وأغربة وغربان، وشذوا في جمعه على فواعل
فقالوا: دواخن كأنه جمع داخنة تقديرا، وقرينة التجوز فيه هنا
حالية كما ستعلمه إن شاء الله تعالى من الخبر، والمراد باليوم
مطلق الزمان وهو مفعول به لارتقب أو ظرف له والمفعول محذوف أي
ارتقب وعد الله تعالى في ذلك اليوم وبالسماء جهة العلو، وإسناد
الإتيان بذلك إليهما من قبيل الإسناد إلى السبب لأنه يحصل بعدم
إمطارها ولم يسند إليه عز وجل مع أنه سبحانه الفاعل حقيقة
ليكون الكلام مع سابقه المتضمن إسناد ما هو رحمة إليه تعالى
شأنه على وزان قوله تعالى أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ
الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ [الفاتحة: 7] وتفسير الدخان بما
فسرناه به مروي عن قتادة وأبي العالية والنخعي والضحاك ومجاهد
ومقاتل وهو اختيار الفراء والزجاج.
وقد روي بطرق كثيرة عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه، أخرج
أحمد والبخاري وجماعة عن مسروق قال: جاء رجل إلى عبد الله
فقال: إني تركت رجلا في المسجد يقول في هذه الآية يَوْمَ
تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ إلخ:
يغشى الناس قبل يوم القيامة دخان، فيأخذ بأسماع المنافقين
وأبصارهم ويأخذ المؤمن منه كهيئة الزكام فغضب وكان متكئا فجلس
ثم قال: من علم منكم علما فليقل به، ومن لم يكن يعلم فليقل
الله تعالى أعلم. فإن من العلم أن يقول لما لا يعلم الله تعالى
أعلم، وسأحدثكم عن الدخان إن قريشا لما استصعبت على رسول الله
صلّى الله عليه وسلّم، وأبطؤوا عن الإسلام قال: اللهم أعنّي
عليهم بسبع كسبع يوسف فأصابهم قحط وجهد حتى أكلوا العظام، فجعل
الرجل ينظر إلى السماء فيرى ما بينه وبينه كهيئة الدخان من
الجوع، فأنزل الله تعالى فَارْتَقِبْ- إلى- أَلِيمٌ فأتى النبي
صلّى الله عليه وسلّم فقيل: يا رسول الله استسق الله تعالى
لمضر فاستسقى لهم عليه الصلاة والسلام، فسقوا فأنزل الله تعالى
إِنَّا كاشِفُوا الْعَذابِ قَلِيلًا إِنَّكُمْ عائِدُونَ
[الدخان: 15] الخبر
.
وفي رواية أخرى صحيحة أنه قال: لما رأى رسول الله صلّى الله
عليه وسلّم من الناس إدبارا قال: اللهم سبعا كسبع يوسف فأخذتهم
سنة حتى أكلوا الميتة والجلود والعظام، فجاءه أبو سفيان وناس
من أهل مكة فقالوا: يا محمد إنك تزعم أنك قد بعثت رحمة وإن
قومك قد هلكوا، فادع الله تعالى فدعا رسول الله صلّى الله عليه
وسلّم فسقوا الغيث فأطبقت عليهم سبعا فشكا الناس كثرة المطر
فقال: اللهم حوالينا ولا علينا فانحدرت السحابة عن رأسه فسقي
الناس حولهم قال: فقد مضت آية الدخان وهو الجوع الذي أصابهم
الحديث
، وظاهره يدل كما في تاريخ ابن كثير على أن القصة كانت بمكة
فالآية مكية.
وفي بعض الروايات أن قصة أبي سفيان كانت بعد الهجرة فلعلها
وقعت مرتين، وقد تقدم ما يتعلق بذلك في سورة المؤمنين.
وأخرج ابن أبي حاتم من طريق أبي لهيعة عن عبد الرحمن الأعرج
أنه قال في هذا الدخان: كان في يوم فتح مكة وفي البحر عنه أنه
قال يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ وهو يوم فتح مكة لما حجبت السماء
الغبرة، وفي رواية ابن سعيد أن الأعرج يروي عن أبي هريرة أنه
قال: كان يوم فتح مكة دخان، وهو قول الله تعالى فَارْتَقِبْ
يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ
(13/116)
مُبِينٍ
ويحسن على هذا القول أن يكون كناية عما حل بأهل مكة في ذلك
اليوم من الخوف والذل ونحوهما،
وقال علي كرم الله تعالى وجهه وابن عمر وابن عباس وأبو سعيد
الخدري وزيد بن علي والحسن: إنه دخان يأتي من السماء قبل يوم
القيامة يدخل في أسماع الكفرة حتى يكون رأس الواحد كالرأس
الحنيذ ويعتري المؤمن كهيئة الزكام وتكون الأرض كلها كبيت أوقد
فيه ليس فيه خصاص.
وأخرج ابن جرير عن حذيفة بن اليمان مرفوعا أول الآيات الدجال
ونزول عيسى ونار تخرج من قعر عدن أبين تسوق الناس إلى المحشر
تقيل معهم إذا قالوا والدخان، قال حذيفة: يا رسول الله وما
الدخان؟ فتلا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فَارْتَقِبْ
يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ وقال: يملأ ما بين
المشرق والمغرب يمكث أربعين يوما وليلة، أما المؤمن فيصيبه منه
كهيئة الزكمة، وأما الكافر فيكون بمنزلة السكران يخرج من
منخريه وأذنيه ودبره، فالدخان على ظاهره
والمعنى فارتقب يوم ظهور الدخان.
وحكى السفاريني في البحور الزاخرة عن ابن مسعود أنه كان يقول:
هما دخانان مضى واحد والذي بقي يملأ ما بين السماء والأرض ولا
يصيب المؤمن إلا بالزكمة وأما الكافر فيشق مسامعه فيبعث الله
تعالى عند ذلك الريح الجنوب من اليمن فتقبض روح كل مؤمن ويبقى
شرار الناس، ولا أظن صحة هذه الرواية عنه.
وحمل ما في الآية على ما يعم الدخانين لا يخفى حاله، وقيل:
المراد بيوم تأتي السماء إلخ يوم القيامة فالدخان يحتمل أن
يراد به الشدة والشر مجازا وأن يراد به حقيقته.
وقال الخفاجي: الظاهر عليه أن يكون قوله تعالى: تَأْتِي
السَّماءُ إلى آخره استعارة تمثيلية إذ لا سماء لأنه يوم تشقق
فيه السماء فمفرداته على حقيقتها، وأنت تعلم أنه لا مانع من
القول بأن السماء كما سمعت أولا بمعنى جهة العلو سلمنا أنها
بمعنى الجرم المعروف لكن لا مانع من كون الدخان قبل تشققها بأن
يكون حين يخرج الناس من القبور مثلا بل لا مانع من القول بأن
المراد من إتيان السماء بدخان استحالتها إليه بعد تشققها
وعودها إلى ما كانت عليه أولا كما قال سبحانه: ثُمَّ اسْتَوى
إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ [فصلت: 11] ويكون فناؤها بعد
صيرورتها دخانا.
هذا والأظهر حمل الدخان على ما روي عن ابن مسعود أولا لأنه
أنسب بالسياق لما أنه في كفار قريش وبيان سوء حالهم مع أن في
الآيات بعد ما هو أوفق به، فوجه الربط أنه سبحانه لما ذكر من
حالهم مقابلتهم الرحمة بالكفران وأنهم لم ينفعوا بالمنزل
والمنزل عليه عقب بقوله تعالى شأنه فَارْتَقِبْ يَوْمَ إلخ،
للدلالة على أنهم أهل العذاب والخذلان لا أهل الإكرام والغفران
يَغْشَى النَّاسَ أي يحيط أنهم والمراد بهم كفار قريش ومن جعل
الدخان ما هو من أشراط الساعة حمل الناس على من أدركه ذلك
الوقت، ومن جعل ذلك يوم القيامة حمل الناس على العموم، والجملة
صفة أخرى للدخان.
وقوله تعالى: هذا عَذابٌ أَلِيمٌ رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا
الْعَذابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ في موضع نصب بقول مقدر وقع حالا
أي قائلين أو يقولون هذا إلخ. والإشارة للتفخيم، وقيل: يجوز أن
يكون هذا عذاب أليم إخبارا منه عز وجل تهويلا للأمر كما قال
سبحانه وتعالى في قصة الذبيح إِنَّ هذا لَهُوَ الْبَلاءُ
الْمُبِينُ [الصافات: 106] فهو استئناف أو اعتراض والإشارة
بهذا للدلالة على قرب وقوعه وتحققه، وما تقدم أولى، وقوله
سبحانه: رَبَّنَا إلى آخره كما صرح به غير واحد من المفسرين
وعد منهم بالإيمان إن كشف جلّ وعلا عنهم العذاب، فكأنهم قالوا:
ربنا إن كشفت عنا العذاب آمنا لكن عدلوا عنه إلى ما في المنزل
إظهارا لمزيد الرغبة وحملوه على ذلك لما في بعض الروايات أنه
لما اشتد القحط بقريش مشى أبو سفيان إلى رسول الله صلّى الله
عليه وسلّم وناشده الرحم وواعده إن دعا لهم وزال ما بهم آمنوا
والمراد بقوله سبحانه وتعالى:
(13/117)
إِنَّا كَاشِفُو
الْعَذَابِ قَلِيلًا إِنَّكُمْ عَائِدُونَ (15) يَوْمَ
نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ (16)
وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ وَجَاءَهُمْ
رَسُولٌ كَرِيمٌ (17) أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبَادَ اللَّهِ
إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (18) وَأَنْ لَا تَعْلُوا عَلَى
اللَّهِ إِنِّي آتِيكُمْ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (19) وَإِنِّي
عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ (20) وَإِنْ
لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ (21) فَدَعَا رَبَّهُ
أَنَّ هَؤُلَاءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ (22) فَأَسْرِ بِعِبَادِي
لَيْلًا إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ (23) وَاتْرُكِ الْبَحْرَ
رَهْوًا إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ (24) كَمْ تَرَكُوا مِنْ
جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (25) وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ (26)
وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ (27) كَذَلِكَ
وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا آخَرِينَ (28) فَمَا بَكَتْ
عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنْظَرِينَ
(29) وَلَقَدْ نَجَّيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنَ الْعَذَابِ
الْمُهِينِ (30) مِنْ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كَانَ عَالِيًا مِنَ
الْمُسْرِفِينَ (31) وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ
عَلَى الْعَالَمِينَ (32) وَآتَيْنَاهُمْ مِنَ الْآيَاتِ مَا
فِيهِ بَلَاءٌ مُبِينٌ (33) إِنَّ هَؤُلَاءِ لَيَقُولُونَ (34)
إِنْ هِيَ إِلَّا مَوْتَتُنَا الْأُولَى وَمَا نَحْنُ
بِمُنْشَرِينَ (35) فَأْتُوا بِآبَائِنَا إِنْ كُنْتُمْ
صَادِقِينَ (36) أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ
وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّهُمْ
كَانُوا مُجْرِمِينَ (37)
أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرى نفي صدقهم في
الوعد وأن غرضهم إنما هو كشف العذاب والخلاص أي كيف يتذكرون أو
من أين يتذكرون بذلك ويفون بما وعدوه من الإيمان عند كشف
العذاب عنهم.
وَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ أي والحال أنهم شاهدوا من
دواعي التذكر وموجبات الاتعاظ ما هو أعظم من ذلك في إيجابهما
حيث جاءهم رسول عظيم الشأن ظاهر أمر رسالته بالآيات والمعجزات
التي تخر لها صم الجبال أو مظهر لهم مناهج الحق بذلك ثُمَّ
تَوَلَّوْا عَنْهُ أي عن ذلك الرسول عليه الصلاة والسلام وهو
هو والجملة عطف على قوله تعالى وقَدْ جاءَهُمْ إلى آخره،
وعطفها على قوله سبحانه: رَبَّنَا إلخ لأنه على معنى قالوا:
رَبَّنَا إلخ ليس بذاك، وثم للاستبعاد والتراخي الرتبي وإلا
فهم قد تولوا ريثما جاءهم وشاهدوا منه ما شاهدوا مما يوجب
الإقبال إليه صلّى الله عليه وسلّم وَقالُوا مع ذلك في حقه
عليه الصلاة والسلام.
مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ أي قالوا تارة: يعلمه عداس غلام رومي لبعض
ثقيف وأخرى مجنون أو يقول بعضهم كذا وآخرون كذا ولم يقل ومجنون
بالعطف لأن المقصود تعديد قبائحهم وقرأ زر بن حبيش معلم بكسر
اللام فمجنون صفة له وكأنهم أرادوا رسول مجنون وحاشاه ثم حاشاه
صلّى الله عليه وسلّم.
إِنَّا كاشِفُوا الْعَذابِ قَلِيلًا إِنَّكُمْ عائِدُونَ جواب
من جهته تعالى عن قولهم وإخبار بالعود على تقدير الكشف أي إن
كشفنا عنكم العذاب كشفا قليلا أو زمانا قليلا عدتم، والمراد
على ما قيل عائدون إلى الكفر وأنت تعلم أن عودهم إليه يقتضي
إيمانهم وقد مر أنهم لم يؤمنوا وإنما وعدوا الإيمان فإما أن
يكون وعدهم منزلا منزلة إيمانهم أو المراد عائدون إلى الثبات
على الكفر أو على الإقرار والتصريح به وقال قتادة: هذا توعد
بمعاد الآخرة وهو خلاف الظاهر جدا ومن قال: إن الدخان يوم
القيامة قال إن قوله سبحانه: إِنَّا كاشِفُوا إلى آخره وعد
بالكشف على نحو قوله عز وجل:
وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ [الأنعام: 28] ومن
قال المراد به ما هو من أشراط الساعة قال بإمكان الكشف وعدم
انقطاع التكليف عند ظهوره وإن كان من الأشراط بل جاء في بعض
الآثار أنه يمكث أربعين يوما وليلة فيكشف عنهم
(13/118)
فيعودون إلى ما كانوا عليه من الضلال،
وحمله على ما روي عن ابن مسعود ظاهر الاستقامة لا قيل فيه ولا
قال، وقوله سبحانه: وَقَدْ جاءَهُمْ إلخ قوي الملاءمة له وهو
بعيد الملاءمة للقول المروي عن الأمير كرم الله تعالى وجهه ومن
معه فقد احتيج في تحصيلها إلى جعل الإسناد من باب إسناد حال
البعض إلى الكل أو حمل الناس على الكفار الموجودين في ذلك
الوقت والأمر على القول بأنه ما كان في فتح مكة أهون إلا أنه
مع ذلك ليس كقول ابن مسعود فتأمل يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ
الْكُبْرى هو يوم بدر عند ابن مسعود وأخرجه عبد بن حميد وابن
جرير عن أبي بن كعب ومجاهد والحسن وأبي العالية وسعيد بن جبير
ومحمد بن سيرين وقتادة وعطية، وأخرجه ابن مردويه عن ابن عباس.
وأخرج ابن جرير وعبد بن حميد بسند صحيح عن عكرمة. قال: قال ابن
عباس قال ابن مسعود البطشة الكبرى يوم بدر، وأنا أقول: هي يوم
القيامة ونقل في البحر حكاية أنه يوم القيامة عن الحسن وقتادة
أيضا.
والظرف معمول لما دل عليه قوله تعالى: إِنَّا مُنْتَقِمُونَ أي
إنا ننتقم يوم إذ إنا منتقمون، وقيل لمنتقمون ورده الزجاج
وغيره بأن ما بعد أن لا يجوز أن يعمل فيما قبلها، وقيل لعائدون
على معنى إنكم لعائدون إلى العذاب يوم نبطش.
وقيل بكاشفوا العذاب وليس بشيء وقيل لذكرهم أو اذكر مقدرا،
وقيل هو بدل من يَوْمَ تَأْتِي إلخ.
وقرىء «نبطش» بضم الطاء وقرأ الحسن وأبو رجاء وطلحة بخلاف عنه
نَبْطِشُ بضم النون من باب الأفعال على معنى نحمل الملائكة
عليهم السلام على أن يبطشوا بهم أو نمكنهم من ذلك فالمفعول به
محذوف للعلم وزيادة التهويل، وجعل البطشة على هذا مفعولا مطلقا
على طريقة أنبتكم نباتا، وقال ابن جني، وأبو حيان: هي منصوبة
بفعل مضمر يدل عليه الظاهر أي يوم نبطش من نبطشه فيبطش البطشة
الكبرى، وقال ابن جني: ولك أن تنصبها على أنها مفعول كأنه به
قيل: يوم نقوي البطشة الكبرى عليهم ونمكنها منهم كقولك: يوم
نسلط القتل عليهم ونوسع الأخذ منهم، وفي القاموس بطش به ويبطش
ويبطش أخذ بالعنف والسطوة كابطشه والبطش الأخذ الشديد في كل
شيء والبأس اهـ فلا تغفل وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ
فِرْعَوْنَ أي امتحناهم بإرسال موسى عليه السلام إليهم على أنه
من فتن الفضة عرضها على النار فيكون بمعنى الامتحان وهو
استعارة والمراد عاملناهم معاملة الممتحن ليظهر حالهم لغيرهم
أو أوقعناهم في الفتنة على أنه بمعناه المعروف والمراد بالفتنة
حينئذ ما يفتن به الشخص أي يغتر ويغفل عما فيه صلاحه كما في
قوله تعالى: أَنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ
[الأنفال: 28] وفسرت هنا بالإمهال وتوسيع الرزق.
وفسر بعضهم الفتنة بالعذاب ثم تجوز به عن المعاصي التي هي سبب
وهو تكلف ما لا داعي له.
وقرىء «فتّنّا» بتشديد التاء إما لتأكيد معناه المصدري أو
لتكثير المفعول أو الفعل.
وَجاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ أي مكرم معظم عند الله عز وجل أو
عند المؤمنين أو عنده تعالى وعندهم أو كريم في نفسه متصف
بالخصال الحميدة والصفات الجليلة حسبا ونسبا، وقال الراغب:
الكرم إذا وصف به الإنسان فهو اسم للأخلاق والأفعال المحمودة
التي تظهر منه ولا يقال هو كريم حتى يظهر ذلك منه، ونقل عن بعض
العلماء أن الكرم كالحرية إلا أن الحرية قد تقال في المحاسن
الصغيرة والكبيرة والكرم لا يقال إلا في المحاسن الكبيرة. وقال
الخفاجي: أصل معنى الكريم جامع المحامد والمنافع وادعى لذلك أن
تفسيره به أحسن من تفسيره بالتفسيرين السابقين أَنْ أَدُّوا
إِلَيَّ عِبادَ اللَّهِ أطلقوهم وسلموهم إلي، والمراد بهم بنو
إسرائيل الذين كان فرعون مستعبدهم، والتعبير عنهم بعباد الله
تعالى للإشارة إلى أن استعباده إياهم ظلم منه، والأداء مجاز
عما ذكر، وهذا كقوله عليه السلام فأرسل معنى بنا إسرائيل ولا
تعذبهم وروي ذلك عن ابن زيد ومجاهد وقتادة أو أدوا إلى حق الله
تعالى من الإيمان وقبول
(13/119)
الدعوى يا عباد الله على أن مفعول أَدُّوا
محذوف وعباد منادى وهو عام لبني إسرائيل والقبط، والأداء بمعنى
الفعل للطاعة وقبول الدعوى وروي هذا عن ابن عباس، وأن عليهما
قيل مصدرية قبلها حرف جر مقدر متعلق بجاءهم أي بأن أدوا، وتعقب
بأنه لا معنى لقولك: جاءهم بالتأدية إلى، وحمله على طلب
التأدية إلى لا يخلو عن تعسف ورد بأنه بتقدير القول وهو شائع
مطرد فتقديره بأن قال أدوا إلي ولا يخلو عن تكلف ما ومع هذا
الأمر مبني على جواز وصل المصدرية بالأمر والنهي وهو غير متفق
عليه، نعم الأصح الجواز.
وقيل: هي مخففة من الثقيلة، وتعقب بأنها حينئذ يقدر معها ضمير
الشأن ومفسره لا يكون إلا جملة خبرية وأيضا لا بد أن يقع بعدها
النفي أو قد أو السين أو سوف أو لو وأن يتقدمها فعل قلبي ونحوه
وأجيب بأن مجيء الرسول يتضمن معنى فعل التحقيق كالإعلام والفصل
المذكور غير متفق عليه، فقد ذهب المبرد تبعا للبغاددة إلى عدم
اشتراطه، والقول بأنه شاذ يصان القرآن عن مثله غير مسلم
واشتراط كون مفسر ضمير الشأن جملة خبرية فيه خلاف على ما يفهم
من كلام بعضهم، ولم يذكر في المغني في الباب الرابع في الكلام
على ضمير الشأن إلا اشتراط كون مفسره جملة ولم يشترط فيها
الخبرية ولم يتعرض لخلاف، نعم قال في الباب الخامس: النوع
الثامن اشتراطهم في بعض الجملة الخبرية وفي بعضها الإنشائية
وعد من الأول خبران وضمير الشأن لكنه قال بعد: وينبغي أن
يستثنى من ذلك في خبري أن وضمير الشأن خبر أن المفتوحة إذا
خففت فإنه يجوز أن يكون جملة دعائية كقوله تعالى وَالْخامِسَةَ
أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْها [النور: 9] في قراءة من قرأ أن
وغضب بالفعل والاسم الجليل فاعل.
وحقق بعض الأجلة أن الإخبار عن ضمير الشأن بجملة إنشائية جائز
عند الزمخشري أو هي مفسرة وقد تقدم ما يدل على القول دون حروفه
لأن مجيء الرسول يكون برسالة ودعوة وكأن التفسير لمتعلقه
المقدر أي جاءهم بالدعوة وهي أن أدوا إلى عباد الله إِنِّي
لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ وَأَنْ لا تَعْلُوا عَلَى اللَّهِ ولا
تستكبروا عليه سبحانه بالاستهانة بوحيه جلّ شأنه ورسوله عليه
السلام وَأَنْ كالتي قبلها، والمعنى على المصدرية بكفكم عن
العلو على الله تعالى إِنِّي آتِيكُمْ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ
تعليل للنهي أي آتيكم بحجة واضحة لا سبيل إلى إنكارها أو موضحة
صدق دعواي وآتِيكُمْ على صيغة الفاعل أو المضارع، ولا يخفى حسن
ذكر الأمين مع الأداء والسلطان مع العلاء، وذكر أن في الأول
ترشيحا للاستعارة المصرحة أو المكنية بجعلهم كأنهم مال للغير
في يده أمره بدفعه لمن يؤتمن عليه وفي الثاني تورية عن معنى
الملك مرشحة بقوله لا تَعْلُوا وقرأت فرقة «أنّي» بفتح الهمزة
فقيل هو أيضا على تعليل النهي بتقدير اللام، وقيل: هو متعلق
بما دخله النهي نظير قولك لمن غضب من قول الحق له لا تغضب لأن
قيل لك الحق وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أي التجأت
إليه تعالى وتوكلت عليه جل شأنه أَنْ تَرْجُمُونِ من أن
ترجموني أي تؤذوني ضربا أو شتما أو أن تقتلوني، وروي هذا عن
قتادة وجماعة قيل: لما قال: أن لا تعلوا على الله توعدوه
بالقتل فقال ذلك، وفي البحر أن هذا كان قبل أن يخبره عز وجل
بعجزهم عن رجمه بقوله سبحانه: فلا يصلون إليكما والجملة عطف
على الجملة المستأنفة، وقرأ أبو عمرو والأخوان عت بإدغام الذال
في التاء وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ فكونوا
بمعزل مني لا علي ولا لي ولا تتعرضوا لي بسوء فليس ذلك جزاء من
يدعوكم إلى ما فيه فلاحكم، وقيل:
المعنى وإن لم تؤمنوا لي فلا موالاة بيني وبين من لا يؤمن
فتنحوا واقطعوا أسباب الوصلة عني، ففي الكلام حذف الجواب
وإقامة المسبب عنه مقامه والأول أوفق بالمقام، والاعتزال عليه
عبارة عن الترك وإن لم تكن مفارقة بالأبدان فَدَعا رَبَّهُ بعد
أن أصروا على تكذيبه عليه السلام أَنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ
مُجْرِمُونَ أي بأن هؤلاء إلخ فهو بتقدير الباء صلة الدعاء كما
يقال دعا بهذا الدعاء، وفيه اختصار كأنه قيل: إن هؤلاء قوم
مجرمون تناهى أمرهم في الكفر وأنت
(13/120)
أعلم بهم فافعل بهم ما يستحقونه قيل كان
دعاؤه عليه السلام اللهم عجل لهم ما يستحقون بإجرامهم، وقيل:
قوله رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ
إلى قوله فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ
[يونس: 85- 88] وإنما ذكر الله سبحانه السبب الذي استوجبوا به
الهلاك ليعلم منه دعاؤه والإجابة معا وإن دعاءه كان على يأس من
إيمانهم وهذا من بليغ اختصارات الكتاب المعجز.
وقرأ ابن أبي إسحاق وعيسى والحسن في رواية وزيد بن علي بكسر
همزة إن وخرج على إضمار القول أي قائلا إن هؤلاء إلخ فَأَسْرِ
بِعِبادِي وهم بنو إسرائيل ومن آمن به من القبط لَيْلًا بقطع
من الليل، والكلام بإضمار القول أما بعد الفاء أي فقال أسر إلخ
فالفاء للتعقيب والترتيب والقول معطوف على ما قبله أو قبلها
كأنه قيل قال: أو فقال إن كان الأمر كما تقول: فاسر إلخ،
فالفاء واقعة في جواب شرط مقدر وهو وجوابه مقول القول المقدر
مع الفاء أو بدونها على أنه استئناف والإضمار الأول أولى لقلة
التقدير مع أن تقدير أن لا يناسب إذ لا شك فيه تحقيقا ولا
تنزيلا وجعلها بمعنى إذا تكلف على تكلف وأبو حيان لا يجيز حذف
الشرط وإبقاء جوابه في مثل هذا الموضع وقد شنع على الزمخشري في
تجويزه، وقرأ نافع وابن كثير «فاسر» بوصل الهمزة من سرى.
إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ يتبعكم فرعون وجنوده إذا علموا بخروجكم
فالجملة مستأنفة لتعليل الأمر بالسرى ليلا ليتأخر العلم به فلا
يدركون والتأكيد لتقدم ما يلوح بالخبر وَاتْرُكِ الْبَحْرَ
رَهْواً أي ساكنا كما قال ابن عباس يقال رها البحر يرهو رهوا
سكن ويقال: جاءت الخيل رهوا أي ساكنة، قال الشاعر:
والخيل تمزع رهوا في أعنتها ... كالطير ينجو من الشؤبوب ذي
البرد
ويقال افعل ذلك رهوا أي ساكنا على هينة وأنشد غير واحد للقطامي
في نعت الركاب:
يمشين رهوا فلا الأعجاز خاذلة ... ولا الصدور على الأعجاز تتكل
والظاهر أنه مصدر في الأصل يؤول باسم الفاعل، وجوز أن يكون
بمعنى الساكن حقيقة وعن مجاهد رهوا أي منفرجا مفتوحا قال أبو
عبيدة رها الرجل يرهو رهوا فتح بين رجليه، وعن بعض العرب أنه
رأى جملا فالجا أي ذا سنامين فقال: سبحان الله تعالى رهو بين
سنامين قالوا: أراد فرجة واسعة، والظاهر أيضا أنه مصدر مؤول أو
فيه مضاف مقدر أي ذا فرجة قال قتادة: أراد موسى عليه السلام
بعد أن جاوز البحر هو ومن معه أن يضربه بعصاه حتى يلتئم كما
ضربه أولا فانفلق لئلا يتبعه فرعون وجنوده فأمر بأن يتركه رهوا
أي مفتوحا منفرجا أو ساكنا على هيئته قارا على حاله من انتصاب
الماء وكون الطريق يبسا ولا يضربه بعصاه ولا يغير منه شيئا
ليدخله القبط فإذا حصلوا فيه أطبقه الله تعالى عليهم، وذلك
قوله تعالى: إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ فهو تعليل للأمر
بتركه رهوا، وقيل: رهوا سهلا، وقيل: يابسا، وقيل:
جددا، وقيل: غير ذلك والكل بيان لحاصل المعنى، وزعم الراغب أن
الصحيح أن الرهو السعة من الطريق ثم قال: ومنه الرهاء المفازة
المستوية ويقال لكل جوبة مستوية يجتمع فيها الماء رهو ومنه
قيل: لا شفعة في رهو. والحق أن ما ذكره من جملة إطلاقاته وأما
أنه الصحيح فلا وقرىء «أنهم» بالفتح أي لأنهم كَمْ تَرَكُوا أي
كثيرا تركوا بمصر مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَزُرُوعٍ وَمَقامٍ
كَرِيمٍ حسن شريف في بابه، وأريد بذلك كما روي عن قتادة
المواضع الحسان من المجالس والمساكن وغيرها.
وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس وابن مردويه عن جابر أنه أريد
به المنابر، وروي ذلك عن مجاهد وابن جبير أيضا، وقيل: السرر في
الحجال والأول أولى، وقرأ ابن هرمز. وقتادة. وابن السميفع.
ونافع في رواية خارجة «مقام»
(13/121)
بضم الميم وَنَعْمَةٍ أي تنعم، قال الراغب:
النعمة بالفتح التنعم وبناؤها بناء المرة من الفعل كالضربة
والشتمة والنعمة بالكسر الحالة الحسنة وبناؤها بناء التي يكون
عليها الإنسان كالجلسة والركبة وتقال للجنس الصادق بالقليل
والكثير واختير هاهنا تفسير النعمة بالشيء المنعم به لأنه أنسب
للترك وهي كثيرا ما تكون بهذا المعنى.
وقرأ أبو رجاء «ونعمة» بالنصب وخرج بالعطف على كَمْ، وقيل: هي
معطوفة على محل ما قبلها كأنه قيل:
كم تركوا جنات وعيونا وزروعا ومقاما كريما ونعما كانُوا فِيها
فاكِهِينَ طيبي الأنفس وأصحاب فاكهة ففاكه كلابن وتامر، وقال
القشيري: لاهين، وقرأ الحسن. وأبو رجاء «فكهين» بغير ألف
والفكه يستعمل كثيرا في المستخف المستهزئ فالمعنى مستخفين بشكر
النعمة التي كانوا فيها.
وقال الجوهري: فكه الرجل بالكسر فهو فكه إذا كان مزاحا والفكه
أيضا الأشر كَذلِكَ قال الزجاج: المعنى الأمر كذلك، والمراد
التأكيد والتقرير فيوقف على ذلك فالكاف في موضع رفع خبر مبتدأ
محذوف أو الجار والمجرور كذلك، وقيل: الكاف في موضع نصب أي
نفعل فعلا كذلك لمن نريد إهلاكه، وقول الكلبي: أي كذلك أفعل
بمن عصاني ظاهر فيما ذكر، وقال الزمخشري: الكاف منصوبة على
معنى مثل ذلك الإخراج أي المفهوم مما تقدم أخرجناهم منها
وَأَوْرَثْناها قَوْماً آخَرِينَ عطف على تركوا والجملة معترضة
فيما عدا القول الأخير وعلى أخرجناهم فيه، وقيل: الكاف منصوبة
على معنى تركوا تركا مثل ذلك فالعطف على تَرَكُوا بدون اعتراض
وهو كما ترى، والمراد بالقوم الآخرين بنو إسرائيل وهم مغايرون
للقبط جنسا ودينا. ويفسر ذلك قوله تعالى في سورة [الشعراء: 59]
كَذلِكَ وَأَوْرَثْناها بَنِي إِسْرائِيلَ وهو ظاهر في أن بني
إسرائيل رجعوا إلى مصر بعد هلاك فرعون وملكوها وبه قال الحسن.
وقيل: المراد بهم غير بني إسرائيل رجعوا إلى مصر بعد هلاك
فرعون وملكوها وبه قال الحسن.
وقيل: المراد بهم غير بني إسرائيل ممن ملك مصر بعد هلاك القبط
وإليه ذهب قتادة قال: لم يرد في مشهور التواريخ أن بني إسرائيل
رجعوا إلى مصر ولا أنهم ملكوها قط وأول ما في سورة الشعراء
بأنه من باب وَما يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ
عُمُرِهِ [فاطر: 11] وقولك: عندي درهم ونصفه فليس المراد خصوص
ما تركوه بل نوعه وما يشبهه، والإيراث: الإعطاء وقيل: المراد
من إيراثها إياهم تمكينهم من التصرف فيها ولا يتوقف ذلك على
رجوعهم إلى مصر كما كانوا فيها أولا، وأخذ جمع بقول الحسن
وقالوا لا اعتبار بالتواريخ وكذا الكتب التي بيد اليهود اليوم
لما أن الكذب فيها كثير وحسبنا كتاب الله تعالى وهو سبحانه
أصدق القائلين وكتابه جلّ وعلا مأمون من تحريف المحرفين فَما
بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّماءُ وَالْأَرْضُ مجاز عن عدم الاكتراث
بهلاكهم والاعتداد بوجودهم، وهو استعارة تمثيلية تخييلية شبه
حال موتهم لشدته وعظمته بحال من تبكي عليه السماء والأجرام
العظام وأثبت له ذلك والنفي تابع للإثبات في التجوز كما حقق في
موضعه، وقيل: هي استعارة مكنية تخييلية بأن شبه السماء والأرض
بالإنسان وأسند إليهما البكاء أو تمثيلية بأن شبه حالهما في
عدم تغير حالهما وبقائهما على ما كانا عليه بحال من لم يبك،
وليس بشيء كما لا يخفى على من راجع كلامهم، وقد كثر في التعظيم
لمهلك الشخص بكت عليه السماء والأرض وبكته الريح ونحو ذلك، قال
يزيد بن مفرغ:
الريح يبكي شجوه ... والبرق يلمع في غمامه
وقال النابغة:
(13/122)
بكى حارث الجولان من فقد ربه ... وحوران
منه خاشع متضائل
أراد بهما مكانين معروفين، وقال جرير:
لما أتى خبر الزبير تواضعت ... سور المدينة والجبال الخشع
وقال الفرزدق يرثي أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز:
الشمس طالعة ليست بكاسفة ... تبكي عليك نجوم الليل والقمرا
يتعجب من طلوع الشمس وكان من حقها أن لا تطلع أو تطلع كاسفة،
والنجوم تروى منصوبة ومرفوعة فالنصب على المغالبة أي تغلب
الشمس النجوم في البكاء نحو باكيته فبكيته، قال جار الله: كان
رضي الله تعالى عنه يتهجد بالليل فتبكيه النجوم ويعدل بالنهار
فتبكيه الشمس والشمس غالبة في البكاء لأن العدل أفضل من صلاة
الليل، والجوهري جعلها منصوبة بكاسفة أي لا تكسف ضوء النجوم
لكثرة بكائها وكأنه جعل خفاء النجوم تحت ضوء الشمس كسفا لها
مجازا، وفيه أن الكسف بالمعنى المذكور غير واضح وتخلل تبكي غير
مستفصح وفي حواشي الصحاح الشمس كاسفة ليست بطالعة. وفيها أن
نجوم الليل ظرف أي طول الدهر كأنه من باب آتيك الشمس والقمر أي
وقتهما كأنه قيل: تبكي ما يطلع النجوم والقمر، وفيه أن مثل هذا
الظرف مسموع لا يثبت إلا بثبت فكيف يعدل إليه مع المعنى
الواضح، وقيل: التقدير تبكي بكاء النجوم فحذف المضاف، وفيه أنه
مما لا يكاد يفهم، والرفع واضح والقمر منصوب على أنه مفعول معه
وهذا استطراد دعانا إليه شهرة البيت مع كثرة الخبط فيه.
وأخرج الترمذي وجماعة عن أنس قال قال رسول الله صلّى الله عليه
وسلّم «ما من عبد إلا وله في السماء بابان باب يصعد منه عمله
وباب ينزل منه رزقه فالمؤمن إذا مات فقداه وبكيا عليه وتلا هذه
الآية فَما بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّماءُ وَالْأَرْضُ»
وذكر أنهم لم يكونوا يعملون على وجه الأرض عملا صالحا فتفقدهم
فتبكي عليهم، ولم يصعد لهم إلى السماء من كلامهم ولا من عملهم
كلام طيب ولا عمل صالح فتفقدهم فتبكي عليهم.
وأخرج البيهقي في شعب الإيمان والحاكم وصححه وغيرهما عن ابن
عباس قال: «إن الأرض لتبكي على المؤمن أربعين صباحا ثم قرأ
الآية»
وأخرج ابن المنذر وغيره عن علي كرم الله تعالى وجهه أنه قال:
إن المؤمن إذا مات بكى عليه مصلاه من الأرض ومصعد عمله من
السماء ثم تلا فَما بَكَتْ
إلخ وجعلوا كل ذلك من باب التمثيل.
ومن أثبت كالصوفية للأجرام السماوية والأرضية وسائر الجمادات
شعورا لائقا بحالها لم يحتج إلى اعتبار التمثيل وأثبت بكاء
حقيقيا لها حسبما تقتضيه ذاتها ويليق بها أو أوله بالحزن أو
نحوه وأثبته لها حسب ذلك أيضا.
وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن عطاء بكاء السماء حمرة أطرافها.
وأخرج ابن أبي الدنيا عن الحسن نحوه، وأخرج عن سفيان الثوري
قال: كان يقال هذه الحمرة التي تكون في السماء بكاء السماء على
المؤمن ولعمري ينبغي لمن لم يضحك من ذلك أن يبكي على عقله،
وأنا لا أعتقد أن من ذكر من الأجلة كانوا يعتقدونه، وقيل: إن
الآية على تقدير مضاف أي فما بكت عليهم سكان السماء وهم
الملائكة وسكان الأرض وهم المؤمنون بل كانوا بهلاكهم مسرورين.
وروي هذا عن الحسن والأحسن ما تقدم وَما كانُوا لما جاء وقت
هلاكهم مُنْظَرِينَ ممهلين إلى وقت آخر أو إلى يوم القيامة بل
عجل لهم في الدنيا وَلَقَدْ نَجَّيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ بما
فعلنا بفرعون وقومه ما فعلنا مِنَ
(13/123)
الْعَذابِ الْمُهِينِ
من استعباد فرعون وقتله أبناءهم واستحيائه نساءهم على الخسف
والضيم مِنْ فِرْعَوْنَ بدل من العذاب على حذف المضاف والتقدير
من عذاب فرعون أو جعله عليه اللعنة عين العذاب مبالغة، وجوز أن
يتعلق بمحذوف يقع حالا أي كائنا من جهة فرعون، وقيل: متعلق
بمحذوف واقع صفة أي كائنا أو الكائن من فرعون ولا بأس بهذا إذا
لم يعد ذلك من حذف الموصول مع بعض صلته.
وقرأ عبد الله «من عذاب المهين» على إضافة الموصوف إلى صفته
كبقلة الحمقاء. وقرأ ابن عباس من «فرعون» على الاستفهام لتهويل
العذاب أي هل تعرفون من فرعون في عتوه وشيطنته فما ظنكم
بعذابه، وقيل: لتحقير فرعون بجعله غير معلوم يستفهم عنه
كالنكرة لما فيه في القبائح التي لم يعهد مثلها وما بعد يناسب
ما قبل كما لا يخفى.
وأيا ما كان فالظاهر أن الجملة استئناف، وقيل: إنها مقول قول
مقدر هو صفة للعذاب، وقدر المقول عنده إن كان تعريف العذاب
للعهد ومقول إن كان للجنس فلا تغفل إِنَّهُ كانَ عالِياً
متكبرا مِنَ الْمُسْرِفِينَ في الشر والفساد، والجار والمجرور
إما خبر ثاني لكان أي كان متكبرا مغرقا في الإسراف، وإما حال
من الضمير المستتر في عاليا أي كان متكبرا في حال إغراقه في
الإسراف وَلَقَدِ اخْتَرْناهُمْ أي اصطفينا بني إسرائيل
وشرفناهم عَلى عِلْمٍ أي عالمين باستحقاقهم ذلك أو مع علم منا
بما يفرط منهم في بعض الأحوال، وقيل: عالمين بما يصدر منهم من
العدل والإحسان والعلم والإيمان، ويرجع هذا إلى ما قيل أولا
فإن العدل وما معه من أسباب الاستحقاق، وقيل: لأجل علم فيهم،
وتعقب بأنه ركيك لأن تنكير العلم لا يصادق محزه.
وأجيب بأنه للتعظيم ويحسن اعتباره علة للاختيار عَلَى
الْعالَمِينَ أي عالمي زمانهم كما قال مجاهد وقتادة فالتعريف
للعهد أو الاستغراق العرفي فلا يلزم تفضيلهم على أمة محمد صلّى
الله عليه وسلّم الذين هم خير أمة أخرجت للناس على الإطلاق،
وجوز أن يكون للاستغراق الحقيقي والتفضيل باعتبار كثرة
الأنبياء عليهم السلام فيهم لا من كل الوجوه حتى يلزم تفضيلهم
على هذه الأمة المحمدية، وقيل: المراد اخترناهم للإيحاء على
الوجه الذي وقع وخصصناهم به دون العالمين، وليس بشيء، ومما
ذكرنا يعلم أنه ليس في الآية تعلق حرفي جر بمعنى بمتعلق واحد
لأن الأول متعلق بمحذوف وقع حالا والثاني متعلق بالفعل كقوله:
ويوما على ظهر الكثيب تعذرت ... عليّ وآلت حلفة لم تحلل
وقيل: لأن كل حرف بمعنى وَآتَيْناهُمْ مِنَ الْآياتِ كفلق
البحر وتظليل الغمام وإنزال المن والسلوى وغيرها من عظائم
الآيات التي لم يعهد مثلها في غيرهم، وبعضها وإن أوتيها موسى
عليه السلام يصدق عليهم أنهم أوتوه لأن ما للنبي لأمته ما
فِيهِ بَلؤُا مُبِينٌ أي نعمة ظاهرة أو اختبار ظاهر لننظر كيف
يعملون، وفي فِيهِ إشارة إلى أن هناك أمورا أخرى ككونه معجزة
إِنَّ هؤُلاءِ كفار قريش لأن الكلام فيهم، وذكر قصة فرعون
وقومه استطرادي للدلالة على أنهم مثلهم في الإصرار على الضلالة
والإنذار عن مثل ما حل بهم، وفي اسم الإشارة تحقير لهم
لَيَقُولُونَ إِنْ هِيَ إِلَّا مَوْتَتُنَا الْأُولى أي ما
العاقبة ونهاية الأمر إلا الموتة الأولى المزيلة للحياة
الدنيوية وَما نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ أي بمبعوثين بعدها،
وتوصيفها بالأولى ليس لقصد مقابلة الثانية كما في قولك: حج زيد
الحجة الأولى، ومات.
قال الاسنوي في التمهيد: الأول في اللغة ابتداء الشيء ثم قد
يكون له ثان وقد لا يكون، كما تقول: هذا أول ما اكتسبته فقد
تكتسب بعده شيئا وقد لا تكتسب كذا ذكره جماعة منهم الواحدي في
تفسيره والزجاج.
ومن فروع المسألة ما لو قال: إن كان أول ولد تلدينه ذكرا فأنت
طالق تطلق إذا ولدته، وإن لم تلد غيره
(13/124)
بالاتفاق، قال أبو علي: اتفقوا على أنه ليس
من شرط كونه أولا أن يكون بعده آخر، وإنما الشرط أن لا يتقدم
عليه غيره اهـ، ومنه يعلم ما في قول بعضهم: إن الأول يضايف
الآخر والثاني ويقتضي وجوده بلا شبهة، والمثال إن صح فإنما هو
فيمن نوى تعدد الحج فاخترمته المنية فلحجه ثان باعتبار العزم
من قصور الاطلاع وأنه لا حاجة إلى أن يقال: إنها أولى بالنسبة
إلى ما بعدها من حياة الآخرة بل هو في حد ذاته غير مقبول لما
قال ابن المنير من أن الأولى إنما يقابلها أخرى تشاركها في أخص
معانيها، فكما لا يصح أو لا يحسن أن يقول: جاءني رجل وامرأة
أخرى لا يقال الموتة الأولى بالنسبة لحياة الآخرة، وقيل: إنه
قيل لهم إنكم تموتون موتة تتعقبها حياة كما تقدمتكم موتة قد
تعقبتها حياة، وذلك قوله عز وجل وَكُنْتُمْ أَمْواتاً
فَأَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ [البقرة:
28] فقالوا إِنْ هِيَ إِلَّا مَوْتَتُنَا الْأُولى يريدون ما
الموتة التي من شأنها أن تتعقبها حياة، إلا الموتة الأولى دون
الثانية وما هذه الصفة التي تصفون بها الموتة من تعقب الحياة
لها إلا للموتة الأولى خاصة، وهذا ما ارتضاه جار الله وأراد أن
النفي والإثبات لما كان لرد المنكر المصر إلى الصواب كان منزلا
على إنكارهم، لا سيما والتعريف في الأولى تعريف عهد، وقوله
تعالى: الْمَوْتَةَ الْأُولى [الدخان:
56] تفسير للمبهم وهي على نحو هي العرب تقول كذا فيتطابقان
والمعهود الموتة التي تعقبتها الحياة الدنيوية، ولذلك استشهد
بقوله تعالى: وَكُنْتُمْ أَمْواتاً إلخ فليس اعتبار الوصف
عدولا عن الظاهر من غير حاجة كما قال ابن المنير. وقوله في
الاعتراض أيضا: إن الموت السابق على الحياة الدنيوية لا يعبر
عنه بالموتة لأن فِيهَا لمكان بناء المرة إشعارا بالتجدد
والموت السابق مستصحب لم تتقدمه حياة مدفوع كما قال صاحب
الكشف، ثم إنه لا يلزم من تفسير الموتة الأولى بما بعد الحياة
في قوله تعالى: لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا
الْمَوْتَةَ الْأُولى تفسيرها بذلك هنا لأن إيقاع الذوق عليها
هناك قرينة أنها التي بعد الحياة الدنيا لأن ما قبل الحياة غير
مذوق، ومع هذا كله الإنصاف أن حمل الموتة الأولى هنا أيضا على
التي بعد الحياة الدنيا أظهر من حملها على ما قبل الحياة من
العدم بل هي المتبادرة إلى الفهم عند الإطلاق المعروفة بينهم،
وأمر الوصف بالأولى على ما سمعت أولا.
وقيل: إنهم وعدوا بعد هذه الموتة موتة القبر وحياة البعث فقوله
تعالى عنهم إِنْ هِيَ إِلَّا مَوْتَتُنَا الْأُولى رد للموتة
الثانية وفي قوله سبحانه وَما نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ نفي لحياة
القبر ضمنا إذ لو كانت بدون الموتة الثانية لثبت النشر ضرورة
فَأْتُوا بِآبائِنا خطاب لمن وعدهم بالنشور من الرسول صلّى
الله عليه وسلّم والمؤمنين أي فأتوا لنا بمن مات من آبائنا
إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ في وعدكم ليدل ذلك على صدقكم ودلالة
الإيقان إما لمجرد الإحياء بعد الموت وإما بأن يسألوا عنه،
قيل: طلبوا من الرسول عليه الصلاة والسلام أن يدعو الله تعالى
فيحيي لهم قصي بن كلاب ليشاوروه في صحة النبوة والبعث إذ كان
كبيرهم ومستشارهم في النوازل أَهُمْ خَيْرٌ في القوة والمنعة
أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ هو تبع الأكبر الحميري واسمه أسعد بهمزة،
وفي بعض الكتب سعد بدونها وكنيته أبو كرب وكان رجلا صالحا.
أخرج الحاكم وصححه عن عائشة قالت: كان تبع رجلا صالحا ألا ترى
أن الله تعالى ذم قومه ولم يذمه، وأخرج ابن عساكر عن ابن عباس
لا يشتبهن عليكم أمر تبع فإنه كان مسلما،
وأخرج أحمد والطبراني وابن أبي حاتم وابن مردويه عن سهل بن سعد
الساعدي قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لا تسبوا
تبعا فإنه كان قد أسلم»
وأخرج ابن عساكر وابن المنذر عن ابن عباس قال: سألت كعبا عن
تبع فإني أسمع الله تعالى يذكر في القرآن قوم تبع ولا يذكر
تبعا فقال: إن تبعا كان رجلا من أهل اليمن ملكا منصورا فسار
بالجيوش حتى انتهى إلى سمرقند فرجع فأخذ طريق الشام فأسر بها
أحبارا فانطلق بهم نحو اليمن حتى إذا دنا من ملكه طار في الناس
أنه هادم الكعبة فقال له: الأحبار: ما هذا الذي تحدث به نفسك
فإن هذا البيت لله تعالى وإنك لن تسلط عليه فقال: إن هذا لله
تعالى وأنا أحق من حرمه فأسلم من مكانه وأحرم فدخلها محرما
فقضى نسكه ثم انصرف نحو اليمن راجعا حتى قدم على قومه فدخل
عليه أشرافهم فقالوا: يا تبع أنت
(13/125)
سيدنا وابن سيدنا خرجت من عندنا على دين
وجئت على غيره فاختر منا أحد أمرين إما أن تخلينا وملكنا وتعبد
ما شئت وإما أن تذر دينك الذي أحدثت وبينهم يومئذ نار تنزل من
السماء فقال الأحبار عند ذلك: اجعل بينك وبينهم النار فتواعد
القوم جميعا على أن يجعلوها بينهم فجيء بالأحبار وكتبهم وجيء
بالأصنام وعمارها وقدموا جميعا إلى النار وقامت الرجال خلفهم
بالسيوف فهدرت النار هدير الرعد ورمت شعاعا لها فنكص أصحاب
الأصنام وأقبلت النار وأحرقت الأصنام وعمارها وسلّم الآخرون
فأسلم قوم واستسلم قوم فلبثوا بعد ذلك عمر تبع حتى إذا نزل
بتبع الموت استخلف أخاه وهلك فقتلوا أخاه وكفروا صفقة واحدة،
وفي رواية عن ابن عباس أن تبعا لما أقبل من الشرق بعد أن حبر
الحيرة أي بناها ونظم أمرها. وهي بكسر الحاء المهملة وياء
ساكنة مدينة بقرب الكوفة. وبنى سمرقند وهي مدينة بالعجم
معروفة، وقيل: إنه هدمها وقصد المدينة وكان قد خلف بها حين
سافر ابنا له فقتل غيلة فأجمع على خرابها واستئصال أهلها فجمع
له الأنصار وخرجوا لقتاله وكانوا يقاتلوه بالنهار ويقرونه
بالليل فأعجبه ذلك وقال: إن هؤلاء لكرام فبينما هو على ذلك إذ
جاءه كعب، وأسد ابنا عم من قريظة حبران وأخبراه أنه يحال بينك
وبين ما تريد فإنها مهاجر نبي من قريش اسمه محمد صلّى الله
عليه وسلّم ومولده بمكة فثناه قولهما عما يريد ثم دعواه إلى
دينهما فاتبعهما وأكرمهما فانصرفوا عن المدينة ومعهم نفر من
اليهود فقال له في الطريق نفر من هذيل: ندلك على بيت فيه كنز
من لؤلؤ وزبرجد وذهب وفضة بمكة وأرادت هذيل هلاكه لأنهم عرفوا
أنه ما أراده أحد بسوء إلا هلك فذكر ذلك للحبرين فقالا: ما
نعلم لله عز وجلّ بيتا في الأرض اتخذه لنفسه غير هذا فاتخذه
مسجدا وانسك عنده واحلق رأسك وما أراد القوم إلا هلاكك فأكرمه
وكساه وهو أول من كسى البيت وقطع أيدي أولئك النفر من هذيل
وأرجلهم وسمل أعينهم وصلبهم. وفي رواية أنه قال للحبرين حين
قالا له ما قالا:
وأنتما ما يمنعكما من ذلك؟ فقالا: أما والله إنه لبيت أبينا
إبراهيم عليه السلام وإنه لكما أخبرناك ولكن أهله حالوا بيننا
وبينه بالأوثان التي نصبوها حوله وبالدماء التي يريقونها عنده
وهم نجس أهل شرك فعرف صدقهما ونصحهما فطاف بالبيت ونحر وحلق
رأسه وأقام بمكة ستة أيام فيما يذكرون ينحر للناس ويطعم أهلها
ويسقيهم العسل، وقيل: إنه أراد تخريب البيت فرمي بداء عظيم فكف
عنه وكساه.
وأخرج ابن عساكر عن ابن إسحاق أن تبعا أري في منامه أن يكسو
البيت فكساه الخصف ثم أري أن يكسوه أحسن من ذلك فكساه المعافر
ثم أري أن يكسوه أحسن من ذلك فكساه الوصائل وصائل اليمن فكان
فيما ذكر لي أول من كساه وأوصى بها ولاته من جرهم وأمر بتطهيره
وجعل له بابا ومفتاحا. وفي رواية أنه قال أيضا: ولا تقربوه دما
ولا ميتا ولا تقربه حائض، وفي نهاية ابن الأثير في الحديث أن
تبعا كسى البيت المسوح فانتفض البيت منه ومزقه عن نفسه ثم كساه
الخصف فلم يقبله ثم كساه الانطاع، وفي موضع آخر منها أن أول من
كسى الكعبة كسوة كاملة تبع كساها الانطاع ثم كساها الوصائل
والخصف فعل بمعنى مفعول من الخصف وهو ضم الشيء إلى الشيء
والمراد شيء منسوج من الخوص على ما هو الظاهر، وقيل: أريد به
هاهنا الثياب الغلاظ جدا تشبيها بالخصف المذكور، والمعافر برود
من اليمن منسوبة إلى معافر قبيلة بها، والميم زائدة، والوصائل
ثياب حمر مخططة يمانية، والمسوح جمع مسح بكسر الميم وسكون
المهملة أثواب من شعر غليظة، والانطاع جمع نطع بالكسر وبالفتح
وبالتحريك بسط من أديم. وأخرج ابن سعد وابن عساكر عن أبي بن
كعب قال: لما قدم تبع المدينة ونزل بفنائها بعث إلى أحبار يهود
فقال: إني مخرب هذا البلد حتى لا تقوم به يهودية ويرجع الأمر
إلى دين العرب فقال له:
شامول اليهودي وهو يومئذ أعلمهم: أيها الملك إن هذا بلد يكون
إليه مهاجر نبي من بني إسماعيل مولده بمكة اسمه أحمد وهذه دار
هجرته إلى أن قال: قال وما صفته؟ قال: رجل ليس بالقصير ولا
بالطويل في عينيه حمرة يركب البعير ويلبس الشملة سيفه على
عاتقه لا يبالي من لاقى حتى يظهر أمره فقال تبع: ما إلى هذا
البلد من سبيل وما كان ليكون
(13/126)
خرابها على يدي. وذكر أبو حاتم الرياشي أنه
آمن بالنبي صلّى الله عليه وسلّم قبل أن يبعث بسبعمائة سنة،
وقيل: بينه وبين مولده عليه الصلاة والسلام ألف سنة، والقولان
يدلان على أنه قبل مبعث عيسى عليه السلام. وأخرج ابن مردويه عن
ابن عباس قال:
لا تقولوا في تبع إلا خيرا فإنه قد حج البيت وآمن بما جاء به
عيسى ابن مريم، وهو يدل على أنه بعد مبعث عيسى عليه السلام،
والأول أشهر.
ومن حديث عباد بن زياد المري أنه لما أخبره اليهود أنه سيخرج
نبي بمكة يكون قراره بهذا البلد. يعني المدينة اسمه أحمد
وأخبروه أنه لا يدركه قال للأوس والخزرج:
حدثت أن رسول الملي ... ك يخرج حقا بأرض الحرم
ولو مد دهري إلى دهره ... لكنت وزيرا له وابن عم
وفي البحر بدل البيت الأول:
شهدت على أحمد أنه ... رسول من الله باري النسم
وفيه أيضا رواية عن ابن إسحاق وغيره أنه كتب أيضا كتابا وكان
فيه: أما بعد فإني آمنت بك وبكتابك الذي أنزل عليك وأنا على
دينك وسنتك وآمنت بربك ورب كل شيء وآمنت بكل ما جاء من ربك من
شرائع الإسلام فإن أدركتك فبها ونعمت وإن لم أدركك فاشفع لي
ولا تنسني يوم القيامة فإني من أمتك الأولين وتابعيك قبل مجيئك
وأنا على ملتك وملة أبيك إبراهيم عليه السلام، ثم ختم الكتاب
ونقش عليه لله الأمر من قبل ومن بعد، وكتب عنوانه إلى محمد بن
عبد الله نبي الله ورسوله خاتم النبيين ورسول رب العالمين صلّى
الله عليه وسلّم من تبع الأول ودفعه إلى عظيم من الأوس والخزرج
وأمره أن يدفعه للنبي عليه الصلاة والسلام أن أدركه.
ويقال: إنه بنى له دارا في المدينة يسكنها إذا أدركه صلّى الله
عليه وسلّم وقدم إليها وأن تلك الدار دار أبي أيوب خالد بن زيد
وأن الشعر والكتاب وصلا إليه وأنه من ولد ذلك الرجل الذي دفعا
إليه أولا، ولما ظهر النبي عليه الصلاة والسلام دفعوا الكتاب
إليه فلما قرىء عليه قال: مرحبا بتبع الأخ الصالح ثلاث مرات.
وجاء أنه صلّى الله عليه وسلّم صلّى عليه صلاة الجنازة وكذا
على البراء بن معرور بعد وفاته بشهر يوم قدومه عليه الصلاة
والسلام المدينة كما قال النجم الغيطي وكانت صلاة الجنازة قد
فرضت تلك السنة، وكون هذا هو تبع الأول ويقال له الأكبر هو
المذكور في غير ما كتاب، وذكر عبد الملك بن عبد الله بن بدرون
في شرحه لقصيدة ابن عبدون أن أسعد هذا هو تبع الأوسط وذكر أيضا
أن ملكه ثلاثمائة وعشرين سنة وملك بعده عمرو أربعا وستين سنة،
وقال ابن قتيبة حسان وهو الذي قتل زرقاء اليمامة وأباد جديسا
وكان ملكه خمسا وعشرين سنة والتواريخ ناطقة بتقدم تبابعة عليه
فإن تبعا يقال لمن ملك اليمن مطلقا كما يقال لملك الترك خاقان،
والروم قيصر، والفرس كسرى أو لا يسمى به إلا إذا كانت له حمير
وحضرموت كما في القاموس أو إلا إذا كانت له حمير وسبأ وحضرموت
كما ذكره الطيبي، والمتصف بذلك غير واحد كما لا يخفى على من
أحاط خبرا بالتواريخ. وما تقدم من حكاية أنه هدم سمرقند ذكر
عبد الملك خلافه ونسب هدمها إلى شمر بن افريقيس بن أبرهة أحد
التبابعة أيضا كان قبل تبع المذكور بكثير قال: إن شمر خرج نحو
العراق ثم توجه يريد الصين ودخل مدينة الصغد فهدمها وسميت شمر
كند أي شمر خربها وعربت بعد فقيل سمرقند اهـ.
(13/127)
وَمَا خَلَقْنَا
السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ (38)
مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ
لَا يَعْلَمُونَ (39) إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقَاتُهُمْ
أَجْمَعِينَ (40) يَوْمَ لَا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى
شَيْئًا وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (41) إِلَّا مَنْ رَحِمَ
اللَّهُ إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (42) إِنَّ
شَجَرَتَ الزَّقُّومِ (43) طَعَامُ الْأَثِيمِ (44)
كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ (45) كَغَلْيِ الْحَمِيمِ
(46) خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلَى سَوَاءِ الْجَحِيمِ (47)
ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ الْحَمِيمِ (48)
ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ (49) إِنَّ هَذَا
مَا كُنْتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ (50) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي
مَقَامٍ أَمِينٍ (51) فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (52) يَلْبَسُونَ
مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَقَابِلِينَ (53) كَذَلِكَ
وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ (54) يَدْعُونَ فِيهَا بِكُلِّ
فَاكِهَةٍ آمِنِينَ (55) لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ
إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى وَوَقَاهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ
(56) فَضْلًا مِنْ رَبِّكَ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ
(57) فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لَعَلَّهُمْ
يَتَذَكَّرُونَ (58) فَارْتَقِبْ إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ (59)
وحكاية البناء يمكن نسبتها إلى شمر هذا فإن
كند في لغة أهل أذر بيجان ونواحيها على ما قيل بمعنى القرية
فسمرقند بمعنى قرية شمر وهو أوفق بالبناء، وذكر علامة عصره
الملا أمين أفندي العمري الموصلي تغمده الله تعالى برحمته في
كتابه شرح ذات الشفاء أن تبعا الذي ذكر سابقا هو ابن حسان وأنه
ملك الدنيا كلها وأنه يقال له الرائش لأنه راش الناس بالعطاء،
ولعل ما قاله قول لبعضهم وإلا فقد قال ابن قتيبة: إنه ابن
كليكرب.
وفي شرح قصيدة ابن عبدون أن الرائش لقب الحارث بن بدر أحد
التبابعة، وهو قبل أسعد المتقدم ذكره بزمان طويل جدا، وهو أيضا
ممن ذكر نبينا صلّى الله عليه وسلّم في شعره فقال:
ويملك بعدهم رجل عظيم ... نبي لا يرخص في الحرام
يسمى أحمدا يا ليت أني ... أعمر بعد مخرجه بعام
ثم إن ملكه الدنيا كلها غير مسلم، وبالجملة الأخبار مضطربة في
أمر التبابعة وأحوالهم وترتيب ملوكهم بل قال صاحب تواريخ
الأمم: ليس في التواريخ أسقم من تاريخ ملوك حمير لما يذكر من
كثرة عدد سنينهم مع قلة عدد ملوكهم فإن ملوكهم ستة وعشرون
ومدتهم ألفان وعشرون سنة.
وقال بعض: إن مدتهم ثلاثة آلاف واثنان وثمانون سنة ثم ملك من
بعدهم اليمن الحبشة والله تعالى أعلم بحقيقة الحال، والقدر
المعول عليه هاهنا أن تبعا المذكور هو أسعد أبو كرب وأنه كان
مؤمنا بنبينا صلّى الله عليه وسلّم وكان على دين إبراهيم عليه
السلام ولم يكن نبيا، وحكاية نبوته عن ابن عباس رضي الله تعالى
عنهما لا تصح، وأخباره بمبعثه صلّى الله عليه وسلّم لا يقتضيها
لأنه علم ذلك من أحبار اليهود وهم عرفوه من الكتب السماوية.
وما روي من أنه عليه الصلاة والسلام قال: ما أدري أكان تبع
نبيا أو غير نبي لم يثبت، نعم
روى أبو داود والحاكم أنه عليه الصلاة والسلام قال: «ما أدري
أذو القرنين هو أم لا»
وليس فيه ما يدل على التردد في نبوته وعدمها فإن ذا القرنين
ليس بنبي على الصحيح، ثم إن الظاهر أنه عليه الصلاة والسلام
درى بعد أنه ليس ذا القرنين.
وقال قوم: ليس المراد بتبع هاهنا رجلا واحدا إنما المراد ملوك
اليمن، وهو خلاف الظاهر والأخبار تكذبه، ومعنى تبع متبوع فهو
فعل بمعنى مفعول وقد يجيء هذا اللفظ بمعنى فاعل كما قيل للظل
تبع لأنه يتبع الشمس، ويقال لملوك اليمن إقيال من يقيل فلان
أباه إذا اقتدى به لأنهم يقتدى بهم، وقيل: سمي ملكهم قيلا
لنفوذ أقواله وهو مخفف قيل كميت.
وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أي قبل قوم تبع كعاد وثمود أو قبل
قريش فهو تعميم بعد تخصيص أَهْلَكْناهُمْ استئناف لبيان عاقبة
أمرهم هدد به كفار قريش أو حال بإضمار قد أو بدونه من الضمير
المستتر في الصلة أو خبر عن الموصول إن جعل مبتدأ ولم يعطف على
ما قبله إِنَّهُمْ كانُوا مُجْرِمِينَ تعليل لإهلاكهم أي
أهلكناهم بسبب كونهم مجرمين فليحذر كفار قريش الإهلاك
لإجرامهم.
(13/128)
وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ
وَما بَيْنَهُما أي ما بين الجنسين وهو شامل لما بين الطبقات.
وقرأ عبيد بن عمير «وما بينهن» فالضمير لمجموع السموات والأرض
لاعِبِينَ أي عابثين وهو دليل على وقوع الحشر كما مر في
الأنبياء وغيرها ما خَلَقْناهُما أي وما بينهما إِلَّا
بِالْحَقِّ استثناء مفرغ من أعم الأحوال أي ما خلقناهما
ملتبسين بشيء من الأشياء إلا ملتبسين بالحق فالجار والمجرور في
موضع الحال من الفاعل، وجوز أن يكون في موضع الحال من المفعول،
والباء للملابسة فيهما، وجوز أن تكون للسببية، والاستثناء مفرغ
من أعم الأسباب أي ما خلقناهما بسبب من الأسباب إلا بسبب الحق
الذي هو الإيمان والطاعة والبعث والجزاء والملابسة أظهر
وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ تذييل وتجهيل فخيم
لمنكري الحشر وتوكيد لأن إنكارهم يؤدي إلى إبطال الكائنات
بأسرها وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ
عَظِيمٌ [النور: 15] ولهذا قال المؤمنون: رَبَّنا ما خَلَقْتَ
هذا باطِلًا سُبْحانَكَ فَقِنا عَذابَ النَّارِ [آل عمران:
191] إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ أي فصل الحق عن الباطل والمحق عن
المبطل بالجزاء أو فصل الشخص عن أحبابه وذوي قرابته
مِيقاتُهُمْ وقت وعدهم أَجْمَعِينَ وقرىء «ميقاتهم» بالنصب على
أنه اسم إن والخبر يَوْمَ الْفَصْلِ أي إن ميعاد حسابهم
وجزائهم في يوم الفصل وليس مثل إن حراسنا أسدا يَوْمَ لا
يُغْنِي بدل من يَوْمَ الْفَصْلِ أو عطف بيان عند من لا يشترط
المطابقة تعريفا وتنكيرا، وجوز نصبه أعني مقدرا وأن يكون ظرفا
لما دل عليه الفصل لا له للفصل بينه وبينه بأجنبي، وهو مصدر لا
يعمل إذا فصل لضعفه أو له على قول من اغتفر الفصل إذا كان
المعمول ظرفا كابن الحاجب، والرضي، وجوز أبو البقاء كونه صفة
لميقاتهم. وتعقب بأنه جامد نكرة لاضافته للجملة فكيف يكون صفة
للمعرفة مع أنه لا يصح بناؤه عند البصريين إذا أضيف إلى جملة
صدرها معرب وهو المضارع أي يوم لا يجزي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى
شَيْئاً من الأغنياء أي الإجزاء، فشيئا منصوب على المصدرية
يجوز كونه مفعولا به، ويغني بمعنى يدفع وينفع. وتنكير شَيْئاً
للتقليل، والمولى الصاحب الذي من شأنه أن يتولى معونة صاحبه
على أموره فيدخل في ذلك ابن العم والحلف والعتيق والمعتق
وغيره، وذكر الخفاجي أنه من الولاية وهي التصرف فيشمل كل من
يتصرف في آخر لأمر ما كقرابة وصداقة وهو قريب مما ذكرنا. وأيّا
ما كان فليس ذلك من استعمال المشترك في أكثر من معنى واحد، ولو
سلم أن هناك مشتركا استعمل في أكثر من معنى كانت الآية دليلا
لابن الهمام عليه الرحمة في جواز ذلك في النفي فيقال عنده: ما
رأيت عينا ويراد العين الباصرة وعين الذهب وغيرها ويعلم من نفي
إغناء المولى نفي إغناء غيره من باب أولى.
وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ الضمير عند جمع المولى الأول والجمع
باعتبار المعنى لأنه نكرة في سياق النفي وهي تعم دون الثاني
لأنه أفيد وأبلغ لأن حال المولى الثاني نصرته معلوم من نفي
الإغناء السابق، ولأنه إذا لم ينصر من
(13/129)
استند إليه فكيف هو، وأيضا وجه جمع الضمير
فيه أظهر، وجوز عوده على الثاني للدلالة على أنه لا ينصره غير
مولاه وهو في سياق النفي أيضا وإن لم يكن في ذلك بمرتبة الأول.
نعم قيل في وجه الجمع عليهما: إن النكرة في سياق النفي تدل على
كل فرد فرد فلا يرجع الضمير لها جمعا.
وأجيب بأنه لا يطرد لأنها قد تحمل على المجموع بقرينة عود ضمير
الجمع عليها، ولعل الأولى عود الضمير على المولى المفهوم من
النكرة المنفية، وقال بعض: لو جعل الضمير للكفار كضمير
مِيقاتُهُمْ كثرت الفائدة وقلت المئونة فتأمل إِلَّا مَنْ
رَحِمَ اللَّهُ في محل رفع على أنه بدل من ضمير يُنْصَرُونَ أو
في محل نصب على الاستثناء منه أي لا يمنع من العذاب إلا من
رحمة الله تعالى وذلك بالعفو عنه وقبول الشفاعة فيه.
وجوز كونه بدلا أو استثناء من مَوْلًى وفيه كما في الأول دليل
على ثبوت الشفاعة لكن الرجحان للأول لفظا ومعنى والاستثناء من
أي كان متصل، وقال الكسائي: إنه منقطع أي لكن من رحمه الله
تعالى فإنه لا يحتاج إلى قريب ينفعه ولا إلى ناصر ينصره، ولا
وجه له مع ظهور الاتصال، نعم إنه لا يتأتى على كون الاستثناء
من الضمير وكونه راجعا للكفار فلا تغفل.
إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الغالب الذي لا ينصر من أراد سبحانه
تعذيبه الرَّحِيمُ لمن أراد أن يرحمه عزّ وجلّ.
إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ مر معنى الزقوم في الصافات وقرىء
«شجرة» بكسر الشين طَعامُ الْأَثِيمِ أي الكثير الآثام والمراد
به الكافر لدلالة ما قبله وما بعده عليه دون ما يعمه والعاصي
المكثر من المعاصي ثم إن المراد به جنس الكافر لا واحد بعينه،
وقال ابن زيد وسعيد بن جبير: إنه هنا أبو جهل، وليس بشيء ولا
دليل على ذلك بما أخرجه سعيد ابن منصور عن أبي مالك من أن أبا
جهل كان يأتي بالتمر والزبد فيقول: تزقموا فهذا الزقوم الذي
يعدكم به محمد صلّى الله عليه وسلّم فنزلت إِنَّ شَجَرَةَ
الزَّقُّومِ طَعامُ الْأَثِيمِ لما لا يخفى، ومثله ما قيل: إنه
الوليد وأخرج أبو عبيد في فضائله وابن الأنباري وابن المنذر عن
عوف بن عبد الله أن ابن مسعود أقرأ رجلا إِنَّ شَجَرَةَ
الزَّقُّومِ طَعامُ الْأَثِيمِ فقال الرجل طعام اليثيم (1)
فرددها عليه فلم يستقم بها لسانه فقال أتستطيع أن تقول طعام
الفاجر؟ قال: نعم قال: فافعل، وأخرج الحاكم وصححه وجماعة عن
أبي الدرداء أنه وقع له مثل ذلك فلما رأى الرجل أنه لا يفهم
قال: إن شجرة الزقوم طعام الفاجر.
واستدل بذلك على أن إبدال كلمة مكان كلمة جائز إذا كانت مؤدية
معناها. وتعقبه القاضي أبو بكر في الانتصار بأنه أراد أن ينبهه
على أنه لا يريد اليتيم (2) بل الفاجر فينبغي أن يقرأ
الْأَثِيمِ وأنت تعلم أن هذا التأويل لا يكاد يتأتى فيما روي
عن ابن مسعود فإنه كالنص تجويز الإبدال لذلك الرجل وأبعد منه
عن التأويل ما
أخرج ابن مردويه عن أبي أنه كان يقرىء رجلا فارسيا فكان إذا
قرأ عليه إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ طَعامُ الْأَثِيمِ قال:
طعام اليتيم فمر به النبي صلّى الله عليه وسلّم فقال: «قل طعام
الظلام» فقالها ففصح بها لسانه
، وفي الباب أخبار كثيرة جياد الأسانيد
كخبر أحمد من حديث أبي هريرة «أنزل القرآن على سبعة أحرف عليما
حكيما غفورا رحيما» .
وكخبره من حديث أبي بكرة كله أي القرآن شاف كاف ما لم تختم آية
عذاب برحمة أو رحمة بعذاب نحو
__________
(1) بخط المؤلف بالثاء المثلثة.
(2) بالتاء المثناة اهـ منه.
(13/130)
قولك تعالى وأقبل وأسرع وعجل إلى غير ذلك،
لكن قال الطحاوي: إنما كان ذلك رخصة لما كان يتعسر على كثير
منهم التلاوة بلفظ واحد لعدم علمهم بالكتابة والضبط وإتقان
الحفاظ ثم نسخ بزوال العذر وتيسر الكتابة والحفظ، وكذا قال ابن
عبد البر والباقلاني وآخرون، ولعله أن تحقق إبدال من أحد من
الصحابة رضي الله تعالى عنهم بعده عليه الصلاة والسلام يقال:
إنه كان منه قبل الاطلاع على النسخ ومتى لم يجز إبدال كلمة
مكان كلمة مؤدية معناها مع الاتحاد عربية فعدم جواز ذلك مع
الاختلاف عربية وفارسية مثلا أظهر، وما روي عن الإمام أبي
حنيفة رضي الله تعالى عنه من أنه يرى جواز قراءة القرآن
بالفارسية بشرط أداء المعاني على كمالها فقد صح عنه خلافه، وقد
حقق الشرنبلالي عليه الرحمة هذه المسألة في رسالة مفردة بما لا
مزيد عليه، وقد تقدم في هذا الكتاب شيء من ذلك فتذكر، والطعام
ما يتناول منه من الغذاء وأصله مصدر فلذا وقع خبرا عن المؤنث
ولم يطابق، وجوز أن يكون ذلك من باب قوله:
إنارة العقل مكسوف بطوع هوى ... وعقل عاصي الهوى يزداد تنويرا
فكأنه قيل: إن الزقوم طعام الأثيم كَالْمُهْلِ عكر الزيت كما
روي عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما وجاء في حديث رواه الحاكم
وغيره عن أبي سعيد مرفوعا وفيه «فإذا قرب إلى وجهه- يعني
الجهنمي- سقطت فروة وجهه»
وربما يؤيد بقوله تعالى: يَوْمَ تَكُونُ السَّماءُ كَالْمُهْلِ
[المعارج: 8] مع قوله سبحانه: فَكانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهانِ
[الرحمن: 37] وقال بعض: عكر القطران، وفي رواية عن ابن عباس
رضي الله تعالى عنهما الصدد، ومنه ما في حديث أبي بكر رضي الله
تعالى عنه ادفنوني في ثوبي هذين فإنما هما للمهل والتراب. وفي
رواية أخرى عنه رضي الله تعالى عنه أنه ما أذيب من ذهب أو فضة
أو حديد أو رصاص، وروي ذلك عن ابن مسعود، قيل: وسمي ذلك مهلا
لأنه في النار حتى يذوب فهو من المهل بمعنى السكون، وادعى
بعضهم الاشتراك وقد جاء استعماله في كل ما سمعت، وقرأ الحسن
«كالمهل» بفتح الميم وهو لغة فيه، والجار والمجرور أو الكاف في
محل رفع خبر مبتدأ محذوف والجملة استئناف لبيان حال الطعام أي
هو كالمهل أو مثل المهل، وقوله عزّ وجلّ يَغْلِي فِي
الْبُطُونِ خبر ثان لذلك المبتدأ، وقيل: حال من الضمير المستتر
في الجار والمجرور فيكون وصفا للطعام أيضا وقال أبو عبيد: هو
حال من المهل، وقيل: صفة له لأن أل فيه للجنس نحو: أمرّ على
اللئيم يسبني ويعتبر داخلا في التشبيه وأنت تعلم أن غليان
الطعام في البطن فيه مبالغة أما التشبيه بمهل يغلي في البطن
فلا، وقيل كالمهل أو الكاف خبر ثان لإن وجملة «يغلي في البطون»
حال من الزقوم أو الطعام. وتعقب بأنه منع مجيء الحال من المضاف
إليه في غير صور مخصوصة ليس هذا منها ومنع مجيئه من الخبر ومن
المبتدأ. وأجيب بأن هذا بناء على جواز مجيء الحال من الخبر ومن
المبتدأ والمضاف إليه المبتدأ في حكمه وأن ما ذكر من الصور
التي يجيء الحال فيها من المضاف إليه لأن المضاف كالجزء في جوز
إسقاطه، ولا يخفى أنه بناء على ضعيف، وقيل: كالمهل خبر ثان
والجملة حال من ضمير الشجرة المستتر فيه، والتذكير باعتبار
كونها طعام الأثيم أو لاكتسابها إياه مما أضيفت إليه نظير ما
سمعت في البيت آنفا وهو تكلف مستغنى عنه، وقيل: الجملة على ذلك
خبر مبتدأ محذوف هو ضمير الطعام أو الزقوم فإن كانت الجملة
حينئذ مستأنفة فالبحث هين وإن كانت حالية عاد ما مر آنفا ولا
أراك تظنه هينا، وقيل: كالمهل حال من طعام وحاله معلوم،
وبالجملة الوجوه في إعراب الآية كثيرة وأنا أختار منها ما
ذكرته أولا.
وقرأ عمرو بن ميمون وأبو رزين والأعرج وأبو جعفر وشيبة وابن
محيصن وطلحة والحسن في رواية وأكثر السبعة «تغلي» بالتاء
الفوقية فكالمهل خبر ثان لأن وجملة «تغلي» خبر ثالث واتحاد
المبتدأ والخبر متكفل باتحاد القراءتين معنى فافهم ولا تغفل.
(13/131)
كَغَلْيِ الْحَمِيمِ صفة مصدر محذوف أي
غليا كغلي الحميم، وجوز أن يكون حالا، والحميم ما هو في غاية
الحرارة خُذُوهُ على إرادة القول والمقول له الزبانية أي ويقال
لهم خذوه فَاعْتِلُوهُ فجروه بقهر.
قال الراغب: العتل الأخذ بجامع الشيء وجره بقهر، وبعضهم يعبر
بالثوب بدل الشيء وليس ذاك بلازم والمدار على الجر مع الإمساك
بعنف.
وقال الأعمش ومجاهد: معنى (اعتلوه) اقصفوه كما يقصف الحطب،
والظاهر عليه التضمين أو تعلق الجار بخذوه، والمعنى الأول هو
المشهور. وقرأ زيد بن علي والحجازيان وابن عامر ويعقوب
«فاعتلوه» بضم التاء وروي ذلك عن الحسن وقتادة والأعرج على أنه
من باب قعد، وعلى قراءة الجمهور من باب نصر وهما لغتان إِلى
سَواءِ الْجَحِيمِ أي وسطه، وسمي سواء لاستواء بعد جميع أطرافه
بالنسبة إليه.
ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذابِ الْحَمِيمِ كأن
أصله صبوا فوق رأسه الحميم، ثم قيل: صبوا فوق رأسه الحميم، ثم
قيل: صبوا فوق رأسه عذابا هو الحميم للمبالغة بجعل العذاب عين
الحميم، وهو مترتب عليه ولجعله مصبوبا كالمحسوس ثم أضيف العذاب
إلى الحميم للتخفيف، وزيد مِنْ للدلالة على أن المصبوب بعض هذا
النوع فهناك إما تمثيل أو استعارة تصريحية أو مكنية أو تخييلية
ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ أي ويقال: أو قولوا
له ذلك استهزاء وتقريعا على ما كان يزعمه.
أخرج عبد الرزاق وغيره عن قتادة قال: لما نزلت خُذُوهُ
فَاعْتِلُوهُ إِلى سَواءِ الْجَحِيمِ قال أبو جهل: ما بين
جبليها رجل أعز ولا أكرم مني، فقال الله تعالى: ذُقْ إلخ.
وأخرج الأموي في مغازيه عن عكرمة أن أبا جهل قال للنبي صلّى
الله عليه وسلّم: ما تستطيع لي أنت ولا صاحبك من شيء لقد علمت
أنني أمنع أهل بطحاء وأنا العزيز الكريم فقتله الله تعالى يوم
بدر وأذله وعيره بكلمته ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ
الْكَرِيمُ وروي أن اللعين قال يوما: يا معشر قريش أخبروني ما
اسمي فذكرت له ثلاث أسماء عمر والجلاس وأبو الحكم فقال: ما
أصبتم اسمي ألا أخبركم به؟ قالوا: بلى قال: اسمي العزيز الكريم
فنزلت إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ الآيات، وهذا ونحوه لا يدل
أيضا على تخصيص حكم الآية به فكل أثيم يدعي دعواه كذلك يوم
القيامة، وقيل: المعنى ذق إنك أنت العزيز في قومك الكريم عليهم
فما أغنى ذلك عنك ولم يفدك شيئا، والذوق مستعار للإدراك.
وقرأ الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنهما على
المنبر والكسائي «أنك» بفتح الهمزة على معنى لأنك.
إِنَّ هذا أي العذاب أو الأمر الذي أنتم فيه ما كُنْتُمْ بِهِ
تَمْتَرُونَ تشكون وتمارون فيه، وهذا ابتداء كلام منه عزّ وجلّ
أو من مقول القول والجمع باعتبار المعنى لما سمعت أن المراد
جنس الأثيم.
إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقامٍ في موضع قيام، والمراد بالقيام
الثبات والملازمة كما في قوله تعالى: ما دُمْتَ عَلَيْهِ
قائِماً [آل عمران: 75] ويكنى به عن الإقامة لأن المقيم ملازم
لمكانه، وهو مراد من قال: في مقام أي موضع إقامة.
وقرأ عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما وزيد بن علي وأبو
جعفر وشيبة والأعرج والحسن وقتادة ونافع وابن عامر «مقام» بضم
الميم ومعناه موضع إقامة، وعلى ما قررنا ترجع القراءتان إلى
معنى واحد.
أَمِينٍ يأمن صاحبه مما يكره فهو صفة من الأمن وهو عدم الخوف
عما هو من شأنه، ووصف المقام به باعتبار أمن من آمن به فهو
إسناد مجازي كما في نهر جار، وظاهر كلام الزمخشري أن ذلك
استعارة من الأمانة كأن المكان مؤتمن وضع عنده ما يحفظه من
المكاره ففيه استعارة مكنية وتخييلية، وقال ابن عطية: فعيل
بمعنى مفعول أي
(13/132)
مأمون فيه وليس بذاك، وجوز أن يكون للنسبة
أي ذي أمن ي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ
بدل من «مقام» بإعادة الجار أو الجار والمجرور بدل من الجار
والمجرور، وظرفية العيون للمجاورة، والظاهر أنه بدل اشتمال لا
كل وبعض، وفي ذلك دلالة على نزاهة مكانهم واشتماله على ما
يستلذ من المآكل والمشارب.
يَلْبَسُونَ مِنْ سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ خبر ثان أو حال من
الضمير في الجار والمجرور أو استئناف، والسندس قال ثعلب:
الرقيق من الديباج والواحدة سندسة، والإستبرق غليظه، وقال
الليث: هو ضرب من البزيون يتخذ من المرعز، ولم يختلف أهل اللغة
في أنهما معربان كذا ذكره بعضهم.
وفي الكشاف الإستبرق ما غلظ من الديباج وهو تعريب استبر، قال
الخفاجي: ومعنى استبر في لغة الفرس الغليظ مطلقا ثم خص بغليظ
الديباج وعرب، وقيل: إنه عربي من البراقة، وأيد بقراءته بوصل
الهمزة وهو كما ترى.
وذكر بعضهم أن السندس أصله سندي ومعناه منسوب إلى السند المكان
المعروف لأن السندس كان يجلب منه فأبدلت ياء النسبة سينا، وقد
مر الكلام في ذلك فتذكر، ثم إن وقوع المعرب في القرآن العظيم
لا ينافي كونه عربيا مبينا. ونقل صاحب الكشف عن جار الله أنه
قال: الكلام المنظوم مركب من الحروف المبسوطة في أي لسان كان
تركي أو فارسي أو عربي ثم لا يدل على أن العربي أعجمي فكذا
هاهنا، ثم قال صاحب الكشف: يريد أن كون استبر أعجميا لا يلزمه
أن يكون إستبرق كذلك. وقرأ ابن محيصن «وإستبرق» فعلا ماضيا كما
في البحر، والجملة حينئذ قيل معترضة، وقيل: حال من سُندُسٍ
والمعنى يلبسون من سندس وقد برق لصقالته ومزيد حسنه
مُتَقابِلِينَ في مجالسهم ليستأنس بعضهم ببعض كَذلِكَ أي الأمر
كذلك فالكاف في محل رفع على الخبرية لمبتدأ محذوف، والمراد
تقرير ما مر وتحقيقه. ونقل عن جار الله أنه قال: والمعنى فيه
أنه لم يستوف الوصف وأنه بمثابة ما لا يحيط به الوصف فكأنه
قيل: الأمر نحو ذلك وما أشبهه.
وأراد على ما قال المدقق أن الكاف مقحم للمبالغة وذلك مطرد في
عرفي العرب والعجم، وجوز أن يكون في محل نصب على معنى أثبناهم
مثل ذلك، وقوله تعالى: وَزَوَّجْناهُمْ على هذا عطف على الفعل
المقدر وعلى ما قبل على يَلْبَسُونَ والمراد على ما قال غير
واحد وقرناهم بِحُورٍ عِينٍ وفسر بذلك قيل لأن الجنة ليس فيها
تكليف فلا عقد ولا تزويج بالمعنى المشهور، وقيل: لمكان الباء،
وزوجه المرأة بمعنى أنكحه إياها متعد بنفسه، وفيه بحث فإن
الأخفش جوز الباء فيه فيقال: زوجته بامرأة فتزوج بها، وأزد
شنوءة يعدونه بالباء أيضا، وفي القاموس زوجته امرأة وتزوجت
امرأة وبها أو هي قليلة، ويعلم مما ذكر أن قول بعض الفقهاء
زوجته بها خطأ لا وجه له، ويجوز أن يقال: إن ذلك التفسير لأن
الحور العين في الجنة ملك يمين كالسراري في الدنيا فلا يحتاج
الأمر إلى العقد عليهن، على أنه يمكن أن يكون في الجنة عقد وإن
لم يكن فيها تكليف.
وقد أخرج ابن جرير وغيره عن مجاهد أنه قال: زوجناهم أنكحناهم.
ومن الناس من قال بالتكليف فيها بمعنى الأمر والنهي لكن لا
يجدون في الفعل والترك كلفة، نعم المشهور أن لا تكليف فيها،
وبعض ما حرم في الدنيا كنكاح امرأة الغير ونكاح المحارم لا
يفعلونه لعدم خطوره لهم ببال أصلا، والحور جمع حوراء وهي
البيضاء كما روي عن ابن عباس والضحاك وغيرهما، وقيل: الشديدة
سواد العين وبياضها، وقيل: الحوراء ذات الحور وهو سواد المقلة
كلها كما في الظباء فلا يكون في الإنسان إلا مجازا. وأخرج ابن
المنذر. وغيره عن مجاهد أن الحوراء التي يحار فيها الطرف.
والعين جمع عيناء وهي عظيمة العينين وأكثر الأخبار تدل على
أنهن لسن نساء الدنيا،
أخرج ابن أبي حاتم والطبراني عن أبي أمامة قال: «قال رسول الله
صلّى الله عليه وسلّم خلق الحور العين من زعفران» وأخرج ابن
مردويه والخطيب عن أنس بن مالك
(13/133)
مرفوعا نحوه
،
وأخرج ابن المبارك عن زيد بن أسلم قال: إن الله تعالى لم يخلق
الحور العين من تراب إنما خلقهن من مسك وكافور وزعفران.
وأخرج ابن مردويه والديلمي عن عائشة قالت: «قال رسول الله صلّى
الله عليه وسلّم حور العين خلقهن من تسبيح الملائكة عليهم
السلام»
وهذا إن صح لا يعارض ما قبله إذ لا بد عليه من أن يقال بتجسد
المعاني فيجوز تجسد التسبيح وجعله جزءا مما خلقن منه، وقيل:
المراد بهن هنا نساء الدنيا وهن في الجنة حور عين بالمعنى الذي
سمعت بل هن أجمل من الحور العين أعني النساء المخلوقات في
الجنة من زعفران أو غيره ويعطى الرجل هناك ما كان له في الدنيا
من الزوجات، وقد يضم إلى ذلك ما شاء الله تعالى من نساء متن
ولم يتزوجن، ومن تزوجت بأكثر من واحد فهي لآخر أزواجها أو
لأولهم إن لم يكن طلقها في الدنيا أو تخير فتختار من كان
أحسنهم خلقا معها أقوال صحح جمع منها الأول، وتعطى زوجة كافر
دخلت الجنة لمن شاء الله تعالى. وقد ورد أن آسية امرأة فرعون
تكون زوجة نبينا صلّى الله عليه وسلّم.
وقرأ عكرمة «بحور عين» بالإضافة وهي على معنى من أي بالحور من
العين، وفي قراءة عبد الله «بعيس عين» والعيساء البيضاء تعلوها
حمرة يَدْعُونَ فِيها بِكُلِّ فاكِهَةٍ يطلبون ويأمرون بإحضار
ما يشتهون من الفواكه ولا يتخصص شيء منها بمكان ولا زمان
آمِنِينَ من الضرر أي ضرر كان، وهو حال من ضمير يَدْعُونَ
وكونه حالا من الضمير في قوله سبحانه: ي جَنَّاتٍ
بعيد، وأبعد منه جعل يَدْعُونَ حينئذ صفة الحور والنون فيه
ضمير النسوة وزنه يفعلن لما فيه من ارتكاب خلاف الظاهر مع عدم
المناسبة للسياق.
وقوله تعالى: لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا
الْمَوْتَةَ الْأُولى جملة مستأنفة أو حالية وكأنه أريد أن
يقال: لا يذوقون فيها الموت البتة فوضع الموتة الأولى موضع ذلك
لأن الموتة الماضية محال ذوقها في المستقبل فهو من باب التعليق
بالمحال كأنه قيل: إن كانت الموتة الأولى يستقيم ذوقها في
المستقبل فإنهم يذوقونها، ونظيره قول القائل لمن يستسقيه: لا
أسقيك إلا الجمر وقد علم أن الجمر لا يسقى، ومثله قوله عزّ
وجلّ: وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ
إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ [النساء: 22] فالاستثناء متصل والدخول
فرضي للمبالغة، وضمير فِيهَا للجنات، وقيل: هو متصل والمؤمن
عند موته لمعاينة ما يعطاه في الجنة كأنه فيها فكأنه ذاق
الموتة الأولى في الجنة، وقيل متصل وضمير «فيها» للآخرة والموت
أول أحوالها، ولا يخفى ما فيه من التفكيك مع ارتكاب التجوز،
وقيل: الاستثناء منقطع والضمير للجنات أي لكن الموتة الأولى قد
ذاقوها في الدنيا، والأصل اتصال الاستثناء، وقال الطبراني: إلا
بمعنى بعد، والجمهور لم يثبتوا هذا المعنى لها، وقال ابن عطية:
ذهب قوم إلى أن إلا بمعنى سوى وضعفه الطبري.
وقال أبو حيان: ليس تضعيفه بصحيح بل يصح المعنى بسوى ويتسق.
وفائدة الوصف تذكير حال الدنيا.
والداعي لما سمعت من الأوجه دفع سؤال يورد هاهنا من أن الموتة
الأولى مما مضى لهم في الدنيا وما هو كذلك لا يمكن أن يذوقوه
في الجنة فكيف استثنيت؟ وقيل: إن السؤال مبني على أن الاستثناء
من النفي إثبات فيثبت للمستثنى الحكم المنفي عن المستثنى منه
ومحال أن يثبت للموتة الأولى الماضية الذوق في الجنة، وأما على
قول من جعله تكلما بالباقي بعد الثنيا، والمعنى لا يذوقون سوى
الموتة الأول من الموت فلا إشكال فتأمل. وقرأ عبيد بن عمير «لا
يذاقون» مبنيا للمفعول، وقرأ عبد الله «لا يذوقون فيها طعم
الموت»
وجاء في الحديث النوم لأنه أخو الموت
، أخرج البزار والطبراني في الأوسط وابن مردويه والبيهقي في
البعث بسند صحيح عن جابر بن عبد الله قال: «قيل يا رسول الله
أينام أهل الجنة؟ قال: لا النوم أخو الموت وأهل الجنة لا
يموتون ولا ينامون» .
وَوَقاهُمْ عَذابَ الْجَحِيمِ وقرأ أبو حيوة «ووقّاهم» مشدد
القاف على المبالغة في التكثير في الوقاية لأن
(13/134)
التفعيل لزيادة المعنى لا للتعدية لأن
الفعل متعد قبله فَضْلًا مِنْ رَبِّكَ أي أعطوا كل ذلك عطاء
وتفضلا منه تعالى فهو نصب على المصدرية، وجوز فيه أن يكون حالا
ومفعولا له، وأيا ما كان ففيه إشارة إلى نفي إيجاب أعمالهم
الإثابة عليه سبحانه وتعالى. وقرىء «فصل» بالرفع أي ذلك فضل
ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ لأنه فوز بالمطالب وخلاص من
المكاره فَإِنَّما يَسَّرْناهُ أي فإنما سهلنا القرآن
بِلِسانِكَ أي بلغتك، وقيل: المعنى أنزلناه على لسانك بلا
كتابة لكونه أميا، وهذا فذلكة وإجمال لما في السورة بعد تفصيل
تذكيرا لما سلف مشروحا فيها، فالمعنى ذكرهم بالكتاب المبين
فإنما يسرناه بلسانك لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ أي كي يفهموه
ويتذكروا به ويعملوا بموجبه فَارْتَقِبْ أي وإن لم يتذكروا
فانتظر ما يحل بهم وهو تعميم بعد تخصيص بقوله تعالى:
فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ [الدخان: 10] إلخ
إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ منتظرون ما يحل بك كما قالوا:
نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ [الطور: 30] وقيل: معناه
مرتقبون ما يحل بهم تهكما، وقيل: هو مشاكلة، والمعنى أنهم
صائرون للعذاب، وفي الآية من الوعد له صلّى الله عليه وسلّم ما
لا يخفى، وقيل: فيها الأمر بالمتاركة وهو منسوخ بآية السيف فلا
تغفل.
ومن باب الإشارة في الآيات: ما ذكروه في قوله تعالى: وَلَقَدْ
فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ إلى آخر القصة من تطبيق
ذلك على ما في الأنفس، وهو مما يعلم مما ذكرناه في باب الإشارة
من هذا الكتاب غير مرة فلا نطيل به، وقالوا في قوله تعالى:
وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما
لاعِبِينَ ما خَلَقْناهُما إِلَّا بِالْحَقِّ إنه إشارة إلى
الوحدة كقوله عزّ وجلّ: سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ
وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ
الْحَقُّ [فصلت: 53] وأفصح بعضهم فقال: الحق هو عزّ وجلّ
والباء للسببية أي ما خلقناهما إلا بسبب أن تكون مرايا لظهور
الحق جلّ وعلا، ومن جعل منهم الباء للملابسة أنشد:
رق الزجاج وراقت الخمر ... فتشاكلا وتشابه الأمر
فكأنما خمر ولا قدح ... وكأنما قدح ولا خمر
والعبارة ضيقة والأمر طور ما وراء العقل والسكوت أسلم، وقالوا
في شجرة الزقوم: هي شجرة الحرص وحب الدنيا تظهر يوم القيامة
على أسوأ حال وأخبث طعم، وقالوا الْمَوْتَةَ الْأُولى ما كان
في الدنيا بقتل النفس بسيف الصدق في الجهاد الأكبر وهو المشار
إليه بموتوا قبل أن تموتوا فمن مات ذلك الموت حيي أبدا الحياة
الطيبة التي لا يمازجها شيء من ماء الألم الجسماني والروحاني
وذلك هو الفوز العظيم، والله تعالى يقول الحق وهو سبحانه يهدي
السبيل.
(13/135)
حم (1) تَنْزِيلُ
الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (2) إِنَّ فِي
السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ (3) وَفِي
خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِنْ دَابَّةٍ آيَاتٌ لِقَوْمٍ
يُوقِنُونَ (4) وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا
أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ
الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ آيَاتٌ
لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (5) تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا
عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ
وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ (6) وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ
(7) يَسْمَعُ آيَاتِ اللَّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ
مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ
أَلِيمٍ (8) وَإِذَا عَلِمَ مِنْ آيَاتِنَا شَيْئًا
اتَّخَذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (9)
مِنْ وَرَائِهِمْ جَهَنَّمُ وَلَا يُغْنِي عَنْهُمْ مَا
كَسَبُوا شَيْئًا وَلَا مَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ
أَوْلِيَاءَ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (10) هَذَا هُدًى
وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَهُمْ عَذَابٌ مِنْ
رِجْزٍ أَلِيمٌ (11) اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ
لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ
فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (12) وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا
فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ إِنَّ
فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (13) قُلْ
لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لَا يَرْجُونَ
أَيَّامَ اللَّهِ لِيَجْزِيَ قَوْمًا بِمَا كَانُوا
يَكْسِبُونَ (14)
سورة الجاثية
وتسمى سورة الشريعة وسورة الدهر كما حكاه الكرماني في العجائب
لذكرهما فيها، وهي مكية قال ابن عطية:
بلا خلاف، وذكر الماوردي إلا قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا
يَغْفِرُوا [الجاثية: 14] الآية فمدنية، وحكى هذا الاستثناء في
جمال القراء عن قتادة، وسيأتي الكلام في ذلك إن شاء الله
تعالى. وهي سبع وثلاثون آية في الكوفي وست وثلاثون في الباقية
لاختلافهم في «حم» هل هي آية مستقلة أو لا، ومناسبة أولها لآخر
ما قبلها في غاية الوضوح.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ إن جعل اسما للسورة
فمحله الرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف أي هذا مسمى بحم، وقوله
تعالى: تَنْزِيلُ الْكِتابِ خبر بعد خبر على أنه مصدر أطلق على
المفعول مبالغة، وقوله سبحانه:
مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ صلته أو خبر ثالث أو حال
من تَنْزِيلُ عاملها معنى الإشارة أو من الْكِتابِ الذي هو
مفعول معنى عاملها المضاف، وقيل: حم مبتدأ وهذا خبره والكلام
على المبالغة أيضا أو تأويل تَنْزِيلُ بمنزل،
(13/136)
والإضافة من إضافة الصفة لموصوفها، واعتبار
المبالغة أولى أي المسمى به تنزيل إلخ. وتعقب بأن الذي يجعل
عنوانا للموضوع حقه أن يكون قبل ذلك معلوم الانتساب إليه وإذ
لا عهد بالتسمية بعد فحقها الإخبار بها، وجوز جار الله جعل
«حم» مبتدأ بتقدير مضاف أي تنزيل حم وتَنْزِيلُ المذكور خبره
ومِنَ اللَّهِ صلته، وفيه إقامة الظاهر مقام المضمر إيذانا
بأنه الكتاب الكامل إن أريد بالكتاب السورة، وفيه تفخيم ليس في
تنزيل حم تنزيل من الله، ولهذا لما لم يزاع في حم السجدة هذه
النكتة عقب بقوله تعالى: كِتابٌ فُصِّلَتْ [فصلت: 3] ليفيد هذه
الفائدة مع التفنن في العبارة، وإن أريد الكتاب كله فللإشعار
بأن تنزيله كإنزال الكل في حصول الغرض من التحدي والتهدي،
فدعوى عراء هذا الوجه عن فائدة يعتد بها عراء عن إنصاف يعتد
به، وإن جعل تعديدا للحروف فلا حظ له من الإعراب وكان
تَنْزِيلُ خبر مبتدأ مضمر يلوح به ما قبله أي المؤلف من جنس ما
ذكر تنزيل الكتاب أو مبتدأ خبره الظرف بعده على ما قاله جار
الله، وقيل: حم مقسم به ففيه حرف جر مقدر وهو في محل جر أو نصب
على الخلاف المعروف فيه وتَنْزِيلُ نعت مقطوع فهو خبر مبتدأ
مقدر والجملة مستأنفة وجواب القسم قوله تعالى: إِنَّ فِي
السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ وهو على ما
تقدم استئناف للتنبيه على الآيات التكوينية، وجوز أن يكون
تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ مبتدأ وخبرا والجملة جواب
القسم، وهو خلاف الظاهر، وقيل: يقدر حم على كونه مقسما به
مبتدأ محذوف الخبر أي حم قسمي ويكون «تنزيل» نعتا له غير
مقطوع، وعلى سائر الأوجه قوله سبحانه: الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ
نعت للاسم الجليل.
وجوز الإمام كونه صفة للكتاب إلا أنه رجح الأول بعد احتياجه
إلى ارتكاب المجاز مع زيادة قرب الصفة من الموصوف فيه، وأوجبه
أبو حيان لما في الثاني من الفصل بين الصفة والموصوف الغير
الجائز.
وقوله عزّ وجلّ: «إن في السموات» إلخ يجوز أن يكون بتقدير مضاف
أي إن في خلق السموات كما رواه الواحدي عن الزجاج لما أنه قد
صرح به في آية أخرى والقرآن يفسر بعضه بعضا، ويناسبه قوله عزّ
وجلّ:
وَفِي خَلْقِكُمْ إلى آخره، ويجوز أن يكون على ظاهره وحينئذ
يكون على أحد وجهين. أحدهما إن فيهما لآيات أي ما فيهما من
المخلوقات كالجبال والمعادن والكواكب والنيرين وعلى هذا يكون
قوله سبحانه وَفِي خَلْقِكُمْ من عطف الخاص على العام. والثاني
أن أنفسهما لآيات لما فيها من فنون الدلالة على القادر الحكيم
جل شأنه، وهذا أظهر وهو أبلغ من أن يقال: إن في خلقهما لآيات
وإن كان المعنى آئلا إليه، وفِي خَلْقِكُمْ خبر مقدم وقوله
سبحانه: وَما يَبُثُّ مِنْ دابَّةٍ عطف على خلق، وجوز في ما
كونها مصدرية وكونها موصولة إما بتقدير مضاف أي وفي خلق ما
ينشره ويفرقه من دابة أو بدونه.
وجوز عطفه على الضمير المتصل المجرور بالإضافة وما موصولة لا
غير على الظاهر، وهو مبني على جواز العطف على الضمير المتصل
المجرور من غير إعادة الجار وذلك مذهب الكوفيين ويونس والأخفش
قال أبو حيان:
وهو الصحيح، واختاره الأستاذ أبو علي الشلوبين، ومذهب سيبويه
وجمهور البصريين منع العطف المذكور سواء كان الضمير مجرورا
بالحرف أو بالإضافة لشدة الاتصال فأشبه العطف على بعض الكلمة.
وذكر ابن الحاجب في شرح المفصل في باب الوقف منه أن بعض
النحويين يجوزون العطف في المجرور بالإضافة دون المجرور بالحرف
لأن اتصال المجرور بالمضاف ليس كاتصاله بالجار لاستقلال كل
واحد منهما بمعناه فلم يشتد اتصال فيه اشتداده مع الحرف وأجاز
الجرمي والزيادي العطف إذ أكد الضمير المتصل بمنفصل نحو مررت
بك أنت وزيد وقوله تعالى آياتٌ مبتدأ مؤخر والجملة معطوفة على
جملة إِنَّ فِي السَّماواتِ إلخ. وقرأ أبي
(13/137)
وعبد الله «لآيات» باللام كذا في البحر ولم
يبين أن آيات مرفوع أو منصوب، فإن كان منصوبا فاللام زائدة في
اسم إن المتقدم عليه خبرها وهو أحد مواضع زيادته المطردة
الكثيرة، وإن كان مرفوعا فهي زائدة في المبتدأ ويقل زيادتها
فيه، وحسن زيادتها هنا تقدم أن في الجملة المعطوف عليها فهو
كقوله:
إن الخلافة بعدهم لذميمة ... وخلائف ظرف لمما أحقر
وقرأ زيد بن علي «آية» بالإفراد. وقرأ الأعمش والجحدري وحمزة
والكسائي ويعقوب «آيات» بالجمع والنصب على أنها عطف على «آيات»
السابق الواقع اسما لأن وفِي خَلْقِكُمْ معطوف على فِي
السَّماواتِ فكأنه قيل:
وإن في خلقكم وما يبث من دابة آيات لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ أي من
شأنهم أن يوقنوا بالأشياء على ما هي عليه وَاخْتِلافِ
اللَّيْلِ وَالنَّهارِ بالجر على إضمار في، وقد قرأ عبد الله
بذكره. وجاء حذف الجار مع إبقاء عمله كما في قوله:
إذا قيل أي الناس شر قبيلة ... أشارت كليب بالأكف الأصابع
وحسن ما هنا ذكر الجار في الآيتين قبل. وقرىء بالرفع على أنه
مبتدأ خبره آياتٌ بعد والمراد باختلافهما تعاقبهما أو تفاوتهما
طولا وقصرا، وقيل: اختلافهما في أن أحدهما نور والآخرة ظلمة
وَما أَنْزَلَ اللَّهُ عطف على اخْتِلافِ مِنَ السَّماءِ جهة
العلو، وقيل: السحاب، وقيل: الجرم المعروف بضرب من التأويل.
مِنْ رِزْقٍ من مطر، وسمي رزقا لأنه سببه فهو مجاز، ولو لم
يؤول صح لأنه في نفسه رزق أيضا.
فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بأن أخرج منها أصناف الزرع والثمرات
والنبات، والسببية عادية اقتضتها الحكمة بَعْدَ مَوْتِها يبسها
وعرائها عن آثار الحياة وانتفاء قوة التنمية عنها وَتَصْرِيفِ
الرِّياحِ من جهة إلى أخرى ومن حال إلى حال، وتأخيره عن إنزال
المطر مع تقدمه عليه في الوجود إما للإيذان بأنه آية مستقلة
حيث لو روعي الترتيب الوجودي لربما توهم أن مجموع تصريف الرياح
وإنزال المطر آية واحدة، وإما لأن كون التصريف آية ليس بمجرد
كونه مبدأ لإنشاء المطر بل له ولسائر المنافع التي من جملتها
سوق السفن في البحار.
وقرأ زيد بن علي وطلحة وعيسى «وتصريف الريح» بالإفراد آياتٌ
لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ بالرفع على أنه مبتدأ خبره ما تقدم من
الجار والمجرور أعني «في اختلاف» على ما سمعت، والجملة معطوفة
على ما قبلها. وقيل: إن اخْتِلافِ بالجر عطف على خَلْقِكُمْ
المجرور بفي قبله وآياتٌ عطف على آيات السابق المرفوع
بالابتداء، وفيه العطف على معمولي عاملين مختلفين، ومن الناس
من يمنعة وهم أكثر البصريين، ومنهم من يجيزه وهم أكثر
الكوفيين، ومنهم من يفصل فيقول: وهو جائز في نحو قولك: في
الدار زيد والحجرة عمرو وغير جائز في نحو قولك: زيد في الدار
وعمرو الحجرة لأن الأول يلي المجرور فيه العاطف فقام العاطف
مقام الجار، والثاني لم يل فيه المجرور العاطف فكان فيه إضمار
الجار من غير عوض، وتمام الكلام في هذه المسألة في محله وقيل:
إن اخْتِلافِ عطف على المجرور قبله وآياتٌ خبر مبتدأ محذوف أي
هي آيات واختاره من لم يجوز العطف على معمولي عاملين ويقول
بضعف حذف الجار مع بقاء عمله وإن تقدمه ذكر جار.
وقال أبو البقاء: آياتٌ مرفوع على التأكيد لآيات السابق وهم
يعيدون الشيء إذا طال الكلام في الجملة للتأكيد والتذكير.
وتعقب بأن ذلك إنما يكون بعين ما تقدم واختلاف الصفات يدل على
تغاير الموصوفات فلا وجه للتأكيد، وأيضا فيه الفصل بين المعطوف
المجرور والمعطوف عليه وبين المؤكد والمؤكد وهو إن جاز يورث
تعقيدا ينافى فصاحة القرآن العظيم. وقرأ آيات هنا بالنصب من
قرأها هناك به فهي مفعول لفعل محذوف أي أعني آيات،
(13/138)
وقيل: العاطف في قوله تعالى وَاخْتِلافِ
عطف اختلاف على المجرور بفي قبل وعطفها على اسم إن وهو مبني
على جواز العطف على معمولي عاملين، وقال أبو البقاء: هي منصوبة
على التأكيد والتكرير لاسم إن نحو بثوبك دما وبثوب زيد دما،
ومر آنفا ما فيه.
وقال بعضهم: إنها اسم إن مضمرة وهي قد تضمر ويبقى عملها، ذكر
أبو حيان في الارتشاف في الكلام على أن من خير الناس أو خيرهم
زيد أن محمد بن يحيى بن المبارك اليزيدي ذهب إلى نصب خيرهم
ورفع زيد فاسم إن محذوف وأو خيرهم منصوب بإضمار إن لدلالة إن
المذكورة تقديره إن من خير الناس زيدا وإن خيرهم زيد. وقد أقر
الشاطبي تخريج النصب في الآية على ذلك لكن نقله السفاقسي عن
أبي البقاء ورده بأن إن لا تضمر.
وقال ابن هشام في آخر الباب الرابع من المغني: إنه بعيد،
والظاهر أنه لا بد عليه من إضمار الجار في اخْتِلافِ وحينئذ لا
يخفى حاله، وسائر القراءات مروية هنا عمن رويت عنه فيما تقدم،
وتنكير آياتٌ في الآيات للتفخيم كما وكيفا، والمعنى إن
المنصفين من العباد إذا نظروا في السموات والأرض النظر الصحيح
علموا أنها مصنوعة وأنها لا بد لها من صانع فآمنوا بالله تعالى
وأقروا، وإذا نظروا في خلق أنفسهم وتنقلها من حال إلى حال
وهيئة إلى أخرى وفي خلق ما على ظهر الأرض من صنوف الحيوان
ازدادوا إيمانا وأيقنوا وانتفى عنهم اللبس فإذا نظروا في سائر
الحوادث التي تتجدد في كل وقت كاختلاف الليل والنهار ونزول
الأمطار وحياة الأرض بعد موتها وتصريف الرياح جنوبا وشمالا
وقبولا ودبورا وشدة وضعفا وحرارة وبرودة عقلوا واستحكم علمهم
وخلص يقينهم كذا في الكشاف ومنه يعلم نكتة اختلاف الفواصل.
وفي الكشف أنه ذكر ما حاصله أنه على سبيل الترقي وهو يوافق ما
عليه الصوفية وغيرهم من أن الإيقان مرتبة خاصة في الإيمان، ثم
العقل لما كان مدارهما أي الإيمان والإيقان ونعني به العقل
المؤيد بنور البصيرة جعله لخلوص الإيقان من اعتراء الشكوك من
كل وجه ففي استحكامه كل خير، وروعي في ترتيب الآيات ما روعي في
ترتيب المراتب الثلاث من تقديم ما هو أقدم وجودا، ولا يلزم أن
تكون الآية الثانية أعظم من الأولى ولا الثالثة من الثانية لما
ذكره من أن الجامع بين النظرين موقن وبين الثلاثة عاقل على
أنها كذلك في تحصيل هذا الغرض فإن كانت أعظم من وجه آخر فلا
بأس فإن النظر إلى حال نفسه وما هو من نوعه ثم جنسه من سائر
الأناسي والحيوان للقرب والتكرر وكثرة العدد أدخل في انتفاء
الشك وحصول اليقين وإن كان النظر في السماء والأرض أتم دلالة
على كمال القدرة والعلم فذلك لا يضر ولا هو المطلوب هاهنا ثم
النظر إلى الاختلاف المذكور أدل على استحكام ذلك اليقين من حيث
إنه يتجدد حينا فحينا ويبعث على النظر والاعتبار كلما تجدد
هذا، والتحقيق أن تمام النظر في الثاني يضطر إلى النظر في
الأول لأن السموات والأرض من أسباب تكون الحيوان بوجه، وكذلك
النظر في الثالث يضطر إلى النظر في الأولين، أما على الأول
فظاهر وأما على الثاني فلأنه العلة الغائية فلا بد من أن يكون
جامعا انتهى، وهو كلام نفيس جدا.
وقال الإمام في ترتيب هذه الفواصل: أظن أن سببه أنه قيل إن
كنتم مؤمنين فافهموا هذه الدلائل وإن كنتم لستم من المؤمنين بل
كنتم من طلاب الجزم واليقين فافهموا هذه الدلائل وإن كنتم لستم
من المؤمنين ولا من الموقنين فلا أقل من أن تكونوا من زمرة
العاقلين فاجتهدوا في معرفة هذه الدلائل، ولا يخفى أنه فاته
ذلك التحقيق ولم يختر الترقي وهو بالاختيار حقيق، والمغايرة
بين ما هنا وما في سورة [البقرة: 164] إِنَّ فِي خَلْقِ
السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ
وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِما يَنْفَعُ
النَّاسَ الآية للتفنن والكلام المعجز مملوء منه، وذكر الإمام
في ذلك ما لا يهش له السامع فتأمل تِلْكَ آياتُ اللَّهِ مبتدأ
وخبر، وقوله تعالى: نَتْلُوها عَلَيْكَ حال عاملها معنى
(13/139)
الإشارة نحو هذا بَعْلِي شَيْخاً [هود: 72]
على المشهور، وقيل: هو الخبر وآياتُ اللَّهِ بدل أو عطف بيان
وقوله سبحانه: بِالْحَقِّ حال من فاعل نَتْلُوها أو من مفعوله
أي نتلوها محقين أو ملتبسة بالحق فالباء للملابسة ويجوز أن
تكون للسببية الغائية، والمراد بالآيات المشار إليها إما آيات
القرآن أو السورة أو ما ذكر قبل من السموات والأرض وغيرهم
فتلاوتها بتلاوة ما يدل عليها، وفسرت بالسرد أي نسردها عليك.
وقال ابن عطية: الكلام بتقدير مضاف أي نتلو شأنها وشأن العبرة
بها. وقرىء «يتلوها» بالياء على أن الفاعل ضميره تعالى والمراد
على القراءتين تلاوتها عليه صلّى الله عليه وسلّم بواسطة الملك
عليه السلام فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآياتِهِ
يُؤْمِنُونَ هو من باب قولهم: أعجبني زيد وكرمه يريدون أعجبني
كرم زيد إلا أنهم عدلوا عنه للمبالغة في الإعجاب أي فبأي حديث
بعد هذه الآيات المتلوة بالحق يؤمنون، وفيه دلالة على أنه لا
بيان أزيد من هذا البيان ولا آية أدل من هذه الآية، وتفخيم شأن
الآيات من اسم الإشارة وإضافتها إلى الله عز وجلّ، وجعل
«نتلوها» حالا مع ضمير التعظيم ثم تكرير الاسم الجليل للنكتة
المذكورة وإضافتها إليه بواسطة الضمير مرة أخرى، وقد ذكر ذلك
الزمخشري وتعقبه أبو حيان بأنه ليس بشيء لأن فيه من حيث المعنى
إقحام الأسماء من غير ضرورة والعطف، والمراد غير العطف من
إخراجه إلى باب البدل لأن تقدير كرم زيد إنما يكون في أعجبني
زيد كرمه بغير واو على البدل وهذا قلب لحقائق النحو، وإنما
المعنى في المثال إن ذات زيد أعجبته وأعجبه كرمه فهما إعجابان
لا إعجاب واحد وهو مبني على عدم التعمق في فهم كلام جار الله.
ومن تعمق فيه لا يرى أنه قائل بالإقحام وإنما بيان حاصل المعنى
يوهمه، وبين هذه الطريقة وطريقة البدل مغايرة تامة، فقد ذكر أن
فائدة هذه الطريقة وهي طريقة إسناد الفعل إلى شيء والمقصود
إسناده إلى ما عطف عليه قوة اختصاص المعطوف بالمعطوف عليه من
جهة الدلالة على أنه صار من التلبس بحيث يصح أن يسند أوصافه
وأفعاله وأحواله إلى الأول قصدا لأنه بمنزلته ولا كذلك البدل
لأن المقصود فيه بالنسبة هو الثاني فقط وهنا هما مقصودان، فإن
قلت: إذا لم يكن ذلك الوصف منسوبا للمعطوف عليه لزم إقحامه كما
قال أبو حيان، وما يذكر من المبالغة لا يدفع المحذور، وعلى فرض
تسليمه فدلالته على ما ذكر بأي طريق من طرق الدلالة المشهورة.
أجيب بأنه غير منسوب إليه في الواقع لكن لما كان بينهما ملابسة
تامة من جهة ما ككون الآيات هاهنا بإذنه تعالى أو مرضية له عز
وجل جعل كأنه المقصود بالنسبة وكني بها عن ذلك الاختصاص كناية
إيمائية ثم عطف عليه المنسوب إليه وجعل تابعا فيها وبهذا غاير
البدل مغايرة تامة غفل عنها المعترض فالنسبة بتمامها مجازية
كذا قرره بعض المحققين.
وقال الواحدي: أي فبأي حديث بعد حديث الله أي القرآن وقد جاء
إطلاقه عليه في قوله تعالى: اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ
الْحَدِيثِ [الزمر: 23] وحسن الإضمار لقرينة تقدم الحديث،
وقوله سبحانه: وَآياتِهِ عطف عليه لتغايرهما إجمالا وتفصيلا
لأن الآيات هي ذلك الحديث ملحوظ الأجزاء، وإن أريد ما بين فيه
من الآيات والدلائل فليس من عطف الخاص على العام لأن الآيات
ليست من القرآن وإنما وجه دلالتها وإيرادها منه فيكون في هذا
الوجه الدلالة أيضا على حال البيان والمبين كما في الوجه
الأول، وقال الضحاك: أي فبأي حديث بعد توحيد الله ولا يخفى أنه
بظاهره مما لا معنى له فلعله أراد بعد حديث توحيده تعالى أي
الحديث المتضمن ذلك أو هو بعد تقدير المضاف من باب أعجبني زيد
وكرمه، وأيا ما كان فالفاء في جواب شرط مقدر والظرف صفة «حديث»
وجوز أن يكون متعلقا بيؤمنون قدم للفاصلة.
(13/140)
وقرأ ابن عامر وأبو بكر وحمزة والكسائي
«تؤمنون» بالتاء الفوقانية وهو موافق لقوله تعالى: وَفِي
خَلْقِكُمْ بحسب الظاهر والصورة وإلا فالمراد هنا الكفار بخلاف
ذلك.
وقرأ طلحة «توقنون» بالتاء الفوقانية والقاف من الإيقان وَيْلٌ
لِكُلِّ أَفَّاكٍ كثير الإفك أي الكذب أَثِيمٍ كثير الإثم،
والآية نزلت في أبي جهل، وقيل: في النضر بن الحارث وكان يشتري
حديث الأعاجم ويشغل به الناس عن استماع القرآن لكنها عامة كما
هو مقتضى كل ويدخل من نزلت فيه دخولا أوليا، وأَثِيمٍ صفة
أَفَّاكٍ وقوله تعالى: يَسْمَعُ آياتِ اللَّهِ صفة أخرى له،
وقيل استئناف، وقيل حال من الضمير في أَثِيمٍ وقوله سبحانه
تُتْلى عَلَيْهِ حال من آياتِ اللَّهِ ولم يجوز جعله مفعولا
ثانيا ليسمع لأن شرطه أن يكون ما بعده مما لا يسمع كسمعت زيدا
يقرأ، والظاهر أن المراد بتتلى الاستمرار لأنه المناسب
للاستبعاد المدلول عليه بقوله عز وجل ثُمَّ يُصِرُّ فإن ثم
لاستبعاد الإصرار بعد سماع الآيات وهي للتراخي الرتبي ويمكن
إبقاؤه على حقيقته إلا أن الأول أبلغ وأنسب بالمقام، ونظير ذلك
في الاستبعاد قول جعفر بن علية:
لا يكشف الغماء إلا ابن حرة ... يرى غمرات الموت ثم يزورها
والإصرار على الشيء ملازمته وعدم الانفكاك عنه من الصر وهو
الشد ومنه صرة الدراهم، ويقال: صر الحمار أذنيه ضمهما صرا وأصر
الحمار ولا يقال أذنيه على ما في الصحاح وكأن معناه حينئذ صار
صارّا أذنيه.
والمراد هنا ثم يقيم على كفره وضلاله مُسْتَكْبِراً عن الإيمان
بالآيات وهو حال من ضمير يُصِرُّ وقوله سبحانه كَأَنْ لَمْ
يَسْمَعْها حال بعد حال أو حال من ضمير مُسْتَكْبِراً وجوز
الاستئناف، وكَأَنْ مخففة من كأن بحذف إحدى النونين واسمها
ضمير الشأن، وقيل: لا حاجة إلى تقديره كما في أن المفتوحة،
والمعنى يصر مستكبرا مثل غير السامع لها فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ
أَلِيمٍ على إصراره ذلك، والبشارة في الأصل الخبر المغير
للبشرة خيرا كان أو شرا، وخصها العرف بالخبر السار فإن أريد
المعنى العرفي فهو استعارة تهكمية أو هو من قبيل:
تحية بينهم ضرب وجيع وَإِذا عَلِمَ مِنْ آياتِنا شَيْئاً وإذا
بلغه شيء من آياتنا وعلم أنه منها.
اتَّخَذَها هُزُواً بادر إلى الاستهزاء بالآيات كلها ولم يقتصر
على الاستهزاء بما بلغه، وجوز أن يكون المعنى وإذا علم من
آياتنا شيئا يمكن أن يتشبث به المعاند ويجد له محملا يتسلق به
على الطعن والغميزة افترصه واتخذ آيات الله تعالى هزوا وذلك
نحو اعتراض ابن الزبعري في قوله تعالى إِنَّكُمْ وَما
تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ [الأنبياء:
98] ومغالطته رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وقوله على ما بعض
الروايات: خصمتك فضمير اتَّخَذَها على الوجهين للآيات، والفرق
بينهما أن شَيْئاً على الثاني فيه تخصيص لقرينة اتَّخَذَها
هُزُواً إذ لا يحتمل إلا ما يحسن أن يخيل فيه ذلك ثم يجعله
دستورا للباقي فيقول: الكل من هذا القبيل، وفرق بين الوجهين
أيضا بأن في الأول الاتخاذ قبل التأمل وفي الثاني بعده وبعد
تمييز آية عن أخرى، وقيل: الاستهزاء بما علمه من الآيات إلا
أنه أرجع الضمير إلى الآيات لأن الاستهزاء بواحدة منها استهزاء
بكلها لما بينها من التماثل، وجوز أن يرجع الضمير إلى شيء
والتأنيث لأنه بمعنى الآية كقول أبي العتاهية:
نفسي بشيء من الدنيا معلقة ... الله والقائم المهدي يكفيها
يعني الشيء وأراد به عتبة جارية للمهدي من حظاياه وكان أبو
العتاهية يهواها فقال ما قال. وقرأ قتادة ومطر الوراق «علّم»
بضم العين وشد اللام مبنيا للمفعول أُولئِكَ إشارة إلى كل أفاك
من حيث الاتصاف بما ذكر من
(13/141)
القبائح، والجمع باعتبار الشمول للكل كما
في قوله تعالى: كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ
[الروم: 32] كما أن الإفراد فيما سبق من الضمائر باعتبار كل
واحد واحد، وأداة البعد للإشارة إلى بعد منزلتهم في الشر.
لَهُمْ بسبب جناياتهم المذكورة عَذابٌ مُهِينٌ وصف العذاب
بالإهانة توفية لحق استكبارهم واستهزائهم بآيات الله عز وجلّ
مِنْ وَرائِهِمْ جَهَنَّمُ أي من قدامهم لأنهم متوجهون إليها
أو من خلفهم لأنهم معرضون عن الالتفات إليها والاشتغال عما
ينجيهم منها مقبلون على الدنيا والانهماك في شهواتها، والوراء
تستعمل في هذين المعنيين لأنها اسم للجهة التي يواريها الشخص
فتعم الخلف والقدام، وقيل في توجيه الخلفية: إن جهنم لما كانت
تتحقق لهم بعد الأجل جعلت كأنها خلفهم وَلا يُغْنِي عَنْهُمْ
ولا يدفع ما كَسَبُوا أي الذي كسبوه من الأموال والأولاد
شَيْئاً من عذاب الله تعالى أو شيئا من الإغناء على أن شَيْئاً
مفعول به أو مفعول مطلق وَلا مَا اتَّخَذُوا أي الذي اتخذوه
مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِياءَ أي الأصنام.
وجوز أن تفسر ما بما تعمها وسائر المعبودات الباطلة، والأول
أظهر، وجوز في ما في الموضعين أن تكون مصدرية، وتوسيط حرفي
النفي بين المعطوفين مع أن عدم إغناء الأصنام أظهر وأجلى من
عدم إغناء الأموال والأولاد قطعا مبني على زعمهم الفاسد حيث
كانوا يطمعون في شفاعتهم، وفيه تهكم وَلَهُمْ فيما وراءهم من
جهنم عَذابٌ عَظِيمٌ لا يقادر قدره هذا أي القرآن كما يدل عليه
ما بعد وكذا ما قبل ك يَسْمَعُ آياتِ اللَّهِ وَإِذا عَلِمَ
مِنْ آياتِنا وتِلْكَ آياتُ اللَّهِ نَتْلُوها هُدىً في غاية
الكمال من الهداية كأنه نفسها وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ
رَبِّهِمْ يعني القرآن أيضا على أن الإضافة للعهد، وكان الظاهر
الإضمار لكن عدل عنه إلى ما في النظم الجليل لزيادة تشنيع
كفرهم به وتفظيع حالهم وجوز أن يراد بالآيات ما يشمله وغيره.
لَهُمْ عَذابٌ مِنْ رِجْزٍ من أشد العذاب أَلِيمٌ بالرفع صفة
عَذابٌ أخر للفاصلة.
وقرأ غير واحد من السبعة أليم بالجر على أنه صفة رِجْزٍ، وجعله
صفة عَذابٌ أيضا والجر للمجاورة مما لا ينبغي أن يلتفت إليه،
وقيل: على قراءة الرفع إن الرجز بمعنى الرجس الذي هو النجاسة،
والمعنى لهم عذاب أليم من تجرع رجس أو شرب رجس والمراد به
الصديد الذي يتجرعه الكافر ولا يكاد يسيغه ولا داعي لذلك كما
لا يخفى، وتنوين عَذابٌ في المواقع الثلاثة للتفخيم، ورفعه إما
على الابتداء وإما على الفاعلية للظرف اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ
لَكُمُ الْبَحْرَ بأن جعله أملس السطح يطفو عليه ما يتخلخل
كالأخشاب ولا يمنع الغوص فيه لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ
بِأَمْرِهِ بتسخيره تعالى إياه وتسهيل استعمالها فيما يراد
بها، وقيل: بتكوينه تعالى أو بإذنه عز وجلّ، وسياق الامتنان
يقتضي أن يكون المعنى لتجري الفلك فيه وأنتم راكبوها.
وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ بالتجارة والغوص والصيد وغيرها
وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ولكي تشكروا النعم المترتبة على
ذلك، وهذا أعني اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ إلخ ذكر تتميما
للتقريع ولهذا رتب عليه الأغراض العاجلة فإنه مما يستوجب الشكر
غالبا للكافر أيضا فكأنه قيل: تلك الآيات أولى بالشكر ولهذا
عقب بما يعم القسمين أعني قوله سبحانه: وَسَخَّرَ لَكُمْ ما
فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ أي من الموجودات بأن جعل
فيها منافع لكم منها ظاهرة ومنها خفية، وعقب بالتفكر لينبه على
أن التفكر هو الذي يؤدي إلى ما ذكر من الأولوية ويدل به على أن
التفكر ملاك الأمر في ترتيب الغرض على ما جعل آية من الإيمان
والإيقان والشكر جَمِيعاً حال من ما فِي السَّماواتِ وَما فِي
الْأَرْضِ أو توكيد له وقوله تعالى: مِنْهُ حال من ذلك أيضا،
والمعنى سخر هذه الأشياء جميعا كائنة منه وحاصلة من عنده يعني
أنه سبحانه مكونها وموجدها بقدرته وحكمته ثم مسخرها لخلقه.
(13/142)
وجوز فيه أوجه أخر. الأول أن يكون خبر
مبتدأ محذوف فقيل جَمِيعاً حينئذ حال من الضمير المستتر في
الجار والمجرور بناء على جواز تقدم الحال على مثل هذا العامل
أو من المبتدأ بناء على تجويز الحال منه أي هي جميعا منه تعالى
وقيل: جميعا على ما كان ويلاحظ في تصوير المعنى فالضمير
المبتدأ يقدر بعده ويعتبر رجوعه إلى ما تقدم بقيد جميعا،
والجملة على القولين استئناف جيء به تأكيدا لقوله تعالى:
سَخَّرَ أي إنه عز وجل أوجدها ثم سخرها لا أنها حصلت له سبحانه
من غيره كالملوك، الثاني أن يجعل ما فِي السَّماواتِ مبتدأ
ويكون هو خبره وجَمِيعاً حال من الضمير المستتر في الجار
والمجرور الواقع صلة ويكون وَسَخَّرَ لَكُمْ تأكيدا للأول أي
سخر وسخر، وفي العطف إيماء إلى أن التسخير الثاني كأنه غير
الأول دلالة على أن المتفكر كلما فكر يزداد إيمانا بكمال
التسخير والمنة عليه، وجملة ما فِي السَّماواتِ إلخ مستأنفة
لمزيد بيان القدرة والحكمة.
واعترض بأنه إن أريد التأكيد اللغوي فهو لا يخلو من الضعف لأن
عطف مثله في الجمل غير معهود، وإن أريد التأكيد الاصطلاحي كما
قيل به في قوله تعالى: كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ ثُمَّ كَلَّا
سَوْفَ تَعْلَمُونَ [التكوير: 3- 4] فهو مخالف لما ذكره ابن
مالك في التسهيل من أن عطف التأكيد يختص بثم، وقال الرضي: يكون
بالفاء أيضا وهو هاهنا بالواو ولم يجوزه أحد منهم وإن لم
يذكروا وجه الفرق على أنه قد تقرر في المعاني أنه لا يجري في
التأكيد العطف مطلقا لشدة الاتصال، واعترض أيضا بأن فيه حذف
مفعول «سخر» من غير قرينة وهذا كما ترى، الثالث أن يكون ما فِي
الْأَرْضِ مبتدأ ومِنْهُ خبره ولا يخفى أنه ضعيف بحسب المساق.
وأخرج ابن المنذر من طريق عكرمة أن ابن عباس رضي الله تعالى
عنهما لم يكن يفسر هذه الآية، ولعله إن صح محمول على أنه لم
يبسط الكلام فيها، فقد أخرج ابن جرير عنه أنه قال فيها كل شيء
هو من الله تعالى.
وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن المنذر والحاكم وصححه
والبيهقي في الأسماء والصفات عن طاوس قال: جاء رجل إلى عبد
الله بن عمرو بن العاص فسأله مم خلق الخلق؟ قال: من الماء
والنور والظلمة والريح والتراب قال: فمم خلق هؤلاء؟ قال: لا
أدري ثم أتى الرجل عبد الله بن الزبير فسأله فقال مثل قول عبد
الله بن عمرو فأتى ابن عباس رضي الله تعالى عنهما فسأله مم خلق
الخلق؟ قال: من الماء والنور والظلمة والريح والتراب قال: فمم
خلق هؤلاء؟ فقرأ ابن عباس وَسَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ
وَما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ فقال الرجل: ما كان ليأتي
بهذا إلا رجل من أهل بيت النبي صلّى الله عليه وسلّم.
واختلف أهل العلم فيما أراد ابن عباس رضي الله تعالى عنهما
بذلك فقال البيهقي: أراد أن مصدر الجميع منه تعالى أي من خلقه
وإبداعه واختراعه خلق الماء أولا أو الماء وما شاء عز وجل من
خلقه لا عن أصل ولا عن مثال سبق ثم جعله تعالى أصلا لما خلق
بعده فهو جل شأنه المبدع وهو سبحانه البارئ لا إله غيره ولا
خالق سواه اهـ، وعليه جميع المحدثين والمفسرين ومن حذا حذوهم،
وقال الشيخ إبراهيم الكوراني من الصوفية: إن المخلوقات تعينات
الوجود المفاض الذي هو صورة النفس الرحماني المسمى بالعماء
وذلك أن العماء قد انبسط على الحقائق التي هي أمور عدمية
متميزة في نفس الأمر والانبساط حادث والعماء من حيث اقترانه
بالماهيات غير ذات الحق تعالى فإنه سبحانه الوجود المحض الغير
المقترن بها فالموجودات صور حادثة في العماء قائمة به والله
تعالى قيومها لأنه جلّ وعلا الأول الباطن الممد لتلك الصور
بالبقاء ولا يلزم من ذلك قيام الحوادث بذات الحق تعالى ولا
كونه سبحانه مادة لها لأن وجوده تعالى مجرد عن الماهيات غير
مقترن بها والمتعين بحسبها هو العماء الذي هو الوجود المفاض
منه تعالى بإيجاده جلّ شأنه، وبهذا ينطبق الجواب على السؤال من
غير تكلف ولا محذور، ولو كان مراد ابن عباس مجرد ما ذكره
البيهقي من أن مصدر الجميع من خلقه تعالى كان يكفي في ذلك قوله
تعالى: اللَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ [الرعد: 16، الزمر: 62]
لكن
(13/143)
السؤال إنما وقع بمم ووقع الجواب بمنه في
تلاوته الآية فالظاهر أن ما فهمه السائل من تلاوته رضي الله
تعالى عنه ليس مجرد ما ذكره بقرينة مدحه بقوله: ما كان ليأتي
بهذا إلخ فإن ما ذكره البيهقي يعرفه كل من آمن بقوله تعالى:
اللَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فلا يظهر حينئذ وجه لقول كل من
ابن عمرو وابن الزبير لا أدري فإنهما من أفضل المؤمنين بأن
الله تعالى خالق كل شيء بل ما فهمه هو ما أشرنا إليه اهـ،
وعليه عامة أهل الوحدة «وأجاب الأولون» بأن مراد ابن عباس قطع
التسلسل في السؤال بعد ذكر مادة لبعضها بأن مرجع الأمر أن
الأشياء كلها خلقت بقدرته تعالى لا من شيء وهو كلام حكيم يمدح
قائله لم يهتد إليه ابن الزبير. وابن عمرو، ولا يعكر على هذا
قوله تعالى: أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ [الطور:
35] لما قاله المفسرون فيه وسيأتي إن شاء الله تعالى في محله
فتأمل ذاك والله تعالى يتولى هداك، وقد أورد الحسين بن علي بن
واقد في مجلس الرشيد هذه الآية ردا على بعض النصارى في زعمه أن
قوله تعالى في عيسى عليه السلام:
وَرُوحٌ مِنْهُ [النساء: 171] يدل على ما يزعمه فيه عليه
السلام من أنه ابن الله سبحانه وتعالى عما يصفون.
وحكى أبو الفتح. وصاحب اللوامح عن ابن عباس وعبد الله بن عمرو
والجحدري. وعبد الله بن عبيد بن عمير أنهم قرؤوا «منّة» بكسر
الميم وشد النون ونصب التاء على أنه مفعول له أي سخر لكم ذلك
نعمة عليكم، وحكاها عن ابن عباس أيضا ابن خالويه. لكن قال أبو
حاتم: إن سند هذه القراءة إليه مظلم فإذا صح السند يمكن أن
يقال فيما تقدم من حديث طاوس: إنه ذكر الآية على قراءة الجمهور
ويحتمل أن له قراءتين فيها.
وقرأ مسلمة بن محارب كذلك إلا أنه ضم التاء على تقدير هو أو هي
منة، وعنه أيضا فتح الميم وشد النون وهاء الكتابة عائدة على
الله تعالى أي انعامه وهو فاعل سَخَّرَ على الإسناد المجازي
كما تقول: كرم الملك العشي أو هو خبر مبتدأ محذوف أي هذا أو هو
منه تعالى، وجوزت الفاعلية في قراءته الأولى، وتذكير الفعل لأن
الفاعل ليس مؤنثا حقيقيا مع وجود الفاصل، والوجه الأول أولى
وإن كان فيه تقدير إِنَّ فِي ذلِكَ أي فيما ذكر لَآياتٍ عظيمة
الشأن كثيرة العدد لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ في بدائع صنعه
تعالى وعظائم شأنه جلّ شأنه فإن ذلك يجرهم إلى الإيمان
والإيقان والشكر.
قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا حذف المقول لدلالة
يَغْفِرُوا عليه فإنه جواب للأمر باعتبار تعلقه به لا باعتبار
نفسه فقط أي قل لهم اغفروا يغفروا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ
أَيَّامَ اللَّهِ أي يعفوا ويصفحوا عن الذين لا يتوقعون وقائعه
تعالى بأعدائه ونقمته فيهم فالرجاء مجاز عن التوقع وكذا الأيام
مجاز عن الوقائع من قولهم: أيام العرب لوقائعها وهو مجاز مشهور
وروي ذلك عن مجاهد أولا يأملون الأوقات التي وقتها الله تعالى
لثواب المؤمنين ووعدهم الفوز فيها، والآية قيل نزلت قبل آية
القتال ثم نسخت بها.
وقال بعضهم: لا نسخ لأن المراد هنا ترك النزاع في المحقرات
والتجاوز عن بعض ما يؤذي ويوحش، وحكى النحاس. والمهدوي عن ابن
عباس أنها نزلت في عمر رضي الله تعالى عنه شتمه مشرك (1) بمكة
قبل الهجرة فهمّ أن يبطش به فنزلت وروي ذلك عن مقاتل وهذا ظاهر
في كونها مكية كأخواتها. وإرادة فهم أن يبطش به بعد الهجرة لأن
المسلمين بمكة قبلها عاجزون مقهورون لا يمكنهم الانتصار من
المشركين والعاجز لا يؤمر بالعفو والصفح غير ظاهر محتاج إلى
نقل، ودوام عجز كل من المسلمين غير معلوم بل من وقف على أحوال
أبي حفص رضي الله تعالى عنه لا يتوقف في أنه قادر على ما هم به
لا يبالي بما يترتب عليه.
__________
(1) قيل هو من غفار اهـ منه.
(13/144)
مَنْ عَمِلَ صَالِحًا
فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ثُمَّ إِلَى
رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (15) وَلَقَدْ آتَيْنَا بَنِي
إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ
وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى
الْعَالَمِينَ (16) وَآتَيْنَاهُمْ بَيِّنَاتٍ مِنَ الْأَمْرِ
فَمَا اخْتَلَفُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ
بَغْيًا بَيْنَهُمْ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ
الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (17) ثُمَّ
جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا
وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (18)
إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَإِنَّ
الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ
وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ (19) هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى
وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (20) أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ
اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ
آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ
وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (21) وَخَلَقَ اللَّهُ
السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزَى كُلُّ
نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (22)
أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ
اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ
وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ
بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (23) وَقَالُوا مَا هِيَ
إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا
يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ
عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ (24) وَإِذَا تُتْلَى
عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ مَا كَانَ حُجَّتَهُمْ إِلَّا
أَنْ قَالُوا ائْتُوا بِآبَائِنَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ
(25) قُلِ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ
يَجْمَعُكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ
وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (26) وَلِلَّهِ
مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ
يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ (27) وَتَرَى كُلَّ
أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا
الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (28) هَذَا
كِتَابُنَا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا
نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (29) فَأَمَّا
الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُدْخِلُهُمْ
رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ
(30) وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا أَفَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي
تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاسْتَكْبَرْتُمْ وَكُنْتُمْ قَوْمًا
مُجْرِمِينَ (31) وَإِذَا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ
وَالسَّاعَةُ لَا رَيْبَ فِيهَا قُلْتُمْ مَا نَدْرِي مَا
السَّاعَةُ إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وَمَا نَحْنُ
بِمُسْتَيْقِنِينَ (32)
وهذا أولى في الجواب من أن يقال: إن الأمر
بفعل ذلك بينه وبين الله تعالى بقلبه ليثاب عليه، نعم قيل: إن
النبي صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه نزلوا في غزوة بني المصطلق
على بئر يقال له المريسيع فأرسل ابن أبيّ غلامه ليستقي فأبطأ
عليه فلما أتاه قال له: ما حسبك؟ قال: غلام عمر قعد على طرف
البئر فما ترك أحدا يستقي حتى ملأ قرب النبي صلّى الله عليه
وسلّم وقرب أبي بكر رضي الله تعالى عنه فقال ابن أبيّ: ما
مثلنا ومثل هؤلاء إلا كما قيل سمّن كلبك يأكلك فبلغ ذلك عمر
رضي الله تعالى عنه فاشتمل سيفه يريد التوجه إليه فأنزل الله
تعالى الآية وحكاه الإمام عن ابن عباس وهو يدل على أنها مدنية،
وكذا ما روي عن ميمون بن مهران قال: إن فنحاصا اليهودي قال:
لما أنزل الله تعالى مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ
قَرْضاً حَسَناً [البقرة: 245، الحديد: 11] احتاج رب محمد فسمع
بذلك عمر رضي الله تعالى عنه فاشتمل سيفه وخرج فبعث النبي صلّى
الله عليه وسلّم في طلبه حتى رده ونزلت الآية لِيَجْزِيَ
قَوْماً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ تعليل للأمر بالمغفرة، وجوز
أن يكون تعليلا للأمر بالقول لأنه سبب لامتثالهم المجازي عليه،
والمراد بالقوم المؤمنون الغافرون والتنكير للتعظيم، ولفظ
القوم في نفسه اسم مدح على ما يرشد إليه الاشتقاق والاستعمال
في نحو يا ابن القوم.
وفي هذا التنكير كمال التعريف والتنبيه على أنهم لا يخفون
نكروا أو عرفوا مع العلم بأن المجزي لا يكون إلا العامل وهو
الغافر هنا أي أمروا بذلك ليجزي الله تعالى يوم القيامة قوما
أيما قوم وقوما مخصوصين بما كسبوا في الدنيا من الأعمال الحسنة
التي من جملتها الصبر على أذية الكفار والإغضاء عنهم بكظم
الغيظ واحتمال المكروه. ما لا يحيط به نطاق البيان من الثواب
العظيم، ومنهم من خص ما كسبوه بالمغفرة والصبر على الأذية، وما
في الوجهين موصولة وجوز أن تكون مصدرية، والباء للسببية أو
للمقابلة أو صلة يجزي، وجوز أن يراد بالقوم الكفرة وبما كسبوا
سيئاتهم التي من جملتها إيذاؤهم المؤمنين والتنكير للتحقير:
وتعقب بأن مطلق الجزاء لا يصلح تعليلا للأمر بالمغفرة لتحققه
على تقديري المغفرة وعدمها فلا بد من تخصيصه بالكل بأن لا
يتحقق بعض منه في الدنيا أو بما يصدر عنه تعالى بالذات، وفي
ذلك من التكلف ما لا يخفى، وأن يراد كلا الفريقين والتنكير
للشيوع، وتعقب بأنه أكثر تكلفا وأشد تمحلا، والذي يشهد للوجه
السابق ما روي عن سعيد بن المسيب قال: كنا بين يدي عمر رضي
الله تعالى عنه فقرأ قارئ هذه الآية فقال: ليجزي عمر بما صنع،
وقرأ زيد بن علي وأبو عبد الرحمن والأعمش وأبو خليد وابن عامر
وحمزة والكسائي «لنجزي» بنون العظمة، وقرىء «ليجزي» بالياء
والبناء للمفعول «قوم» بالرفع على أنه نائب الفاعل، وقرأ شيبة،
وأبو جعفر بخلاف عنه كذلك إلا أنهما نصبا «قوما» وروي ذلك عن
عاصم، واحتج به من يجوز نيابة الجار والمجرور عن الفاعل مع
وجود المفعول الصريح فيقول: ضرب بسوط زيدا فبما كسبوا نائب
الفاعل هاهنا ولا يجيز ذلك الجمهور، وخرجت هذه القراءة على أن
القائم مقام الفاعل ضمير المصدر أي ليجزى هو أي الجزاء، ورد
بأنه لا يقام مقامه عند وجود المفعول به أيضا على الصحيح،
وأجازه الكوفيون على خلاف في الإطلاق والاستحسان أو على أنه
ضمير المفعول الثاني وهو الجزاء بمعنى المجزي به كما في قوله
تعالى جَزاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ [البينة:
8] وأضمر لدلالة السياق كما في قوله سبحانه: وَلِأَبَوَيْهِ
[النساء: 11] والمفعول الثاني في باب أعطى يقوم مقام الفاعل
بلا خلاف وهذا من ذاك، وأبو البقاء اعتبر الخير بدل الجزاء
المذكور أو على أن «قوما» منصوب بأعني أو جزى مضمرا لدلالة
المجهول على أن ثم جازيا واختاره أبو حيان ولِيَجْزِيَ حينئذ
من باب يعطي ويمنع وحيل بين العير والنزوان فمعناه ليفعل
الجزاء ويكون هناك جملتان.
(13/145)
مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ
أَساءَ فَعَلَيْها لا يكاد يسري عمل إلى غير عامله ثُمَّ إِلى
رَبِّكُمْ مالك أموركم تُرْجَعُونَ فيجازيكم على أعمالكم حسبما
تقتضيه الحكمة خيرا على الخير وشرا على الشر، والجملة مستأنفة
لبيان كيفية الجزاء وَلَقَدْ آتَيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ
الْكِتابَ وهو التوراة على أن التعريف للعهد، وجوز جعله للجنس
ليشمل الزبور والإنجيل ولا يضر في ذلك كون الزبور أدعية
ومناجاة والإنجيل أحكامه قليلة جدا ومعظم أحكام عيسى عليه
السلام من التوراة لأن إيتاء الكتاب مطلقا منة وَالْحُكْمَ
القضاء وفصل الأمور بين الناس لأن الملك كان فيهم واختاره أبو
حيان، أو الفقه في الدين ويقال: لم يتسع فقه الأحكام على نبي
ما اتسع على لسان موسى عليه السلام، أو الحكم النظرية الأصلية
والعملية الفرعية وَالنُّبُوَّةَ حيث كثر فيهم الأنبياء عليهم
السلام ما لم يكثر في غيرهم وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ
المستلذات الحلال وبذلك تتم النعمة وذلك كالمن والسلوى
وَفَضَّلْناهُمْ عَلَى الْعالَمِينَ حيث آتيناهم ما لم نؤت
غيرهم من فلق البحر وإظلال الغمام ونظائرهما فالمراد تفضيلهم
على العالمين مطلقا من بعض الوجوه لا من كلها ولا من جهة
المرتبة والثواب فلا ينافي ذلك تفضيل أمة محمد صلّى الله عليه
وسلّم عليهم من وجه آخر ومن جهة المرتبة والثواب، وقيل: المراد
بالعالمين عالمو زمانهم.
(13/146)
آتَيْناهُمْ بَيِّناتٍ مِنَ الْأَمْرِ
دلائل ظاهرة في أمر الدين فمن بمعنى في والبينات الدلائل
ويندرج فيها معجزات موسى عليه السلام وبعضهم فسرها بها، وعن
ابن عباس آيات من أمر النبي صلّى الله عليه وسلّم وعلامات
مبينة لصدقه عليه الصلاة والسلام ككونه يهاجر من مكة إلى يثرب
ويكون أنصاره أهلها إلى غير ذلك مما ذكر في كتبهم فَمَا
اخْتَلَفُوا في ذلك الأمر إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ
الْعِلْمُ بحقيقة الحال فجعلوا ما يوجب زوال الخلاف موجبا
لرسوخه بَغْياً بَيْنَهُمْ عداوة وحسدا لا شكا فيه إِنَّ
رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ بالمؤاخذة
والجزاء فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ من أمر الدين ثُمَّ
جَعَلْناكَ عَلى شَرِيعَةٍ أي سنة وطريقة من شرعه إذا سنه
ليسلك، وفي البحر الشريعة في كلام العرب الموضع الذي يرد منه
الناس في الأنهار ونحوها فشريعة الدين من ذلك من حيث يرد الناس
منها أمر الله تعالى ورحمته والقرب منه عز وجل، وقال الراغب:
الشرع مصدر ثم جعل اسما للطريق النهج فقيل له شرع وشرعة وشريعة
واستعير ذلك للطريقة الإلهية من الدين ثم قال: قال بعضهم سميت
الشريعة شريعة تشبيها بشريعة الماء من حيث إن من شرع فيها على
الحقيقة والصدق روي وتطهر، وأعني بالري ما قال بعض الحكماء:
كنت أشرب فلا أروى فلما عرفت الله تعالى رويت بلا شرب،
وبالتطهر ما قال عز وجل: إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ
عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ
تَطْهِيراً [الأحزاب: 33] والظاهر هنا المعنى اللغوي، والتنوين
للتعظيم أي شريعة عظيمة الشأن مِنَ الْأَمْرِ أي أمر الدين،
وجوز أبو حيان كونه مصدر أمر، والمراد من الأمر والنهي وهو كما
ترى فَاتَّبِعْها وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَ الَّذِينَ لا
يَعْلَمُونَ
أي آراء الجهال التابعة للشهوات، والمراد بهم ما يعم كل ضال،
وقيل: وقيل: هم جهال قريظة.
والنضير، وقيل: رؤساء قريش كانوا يقولون له صلّى الله عليه
وسلّم: ارجع إلى دين آبائك.
إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً من
الأشياء أو شيئا من الإغناء أن اتبعتهم والجملة مستأنفة مبينة
لعلة النهي وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ
بَعْضٍ لا يواليهم ولا يتبع أهواءهم إلا من كان ظالما مثلهم.
وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ الذين أنت قدوتهم فدم على ما
أنت عليه من توليه سبحانه خاصة والإعراض عما سواه عز وجلّ
بالكلية هذا أي القرآن بَصائِرُ لِلنَّاسِ فإن ما فيه من معالم
الدين وشعائر الشرائع بمنزلة البصائر في القلوب، وقيل: الإشارة
إلى اتباع الشريعة والكلام من باب التشبيه البليغ، وجمع الخبر
على الوجهين باعتبار تعدد ما تضمنه المبتدأ واتباع مصدر مضاف
فيعم ويخبر عنه بمتعدد أيضا، وقرىء «هذه» أي الآيات وَهُدىً
جليل من ورطة الضلالة وَرَحْمَةٌ عظيمة لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ من
شأنهم الإيقان بالأمور أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا
السَّيِّئاتِ
إلى آخره استئناف مسوق لبيان حال المسيئين والمحسنين إثر بيان
حال الظالمين والمتقين، وأَمْ
منقطعة وما فيها من معنى بل للانتقال من البيان الأول إلى
الثاني، والهمزة لإنكار الحسبان على معنى أنه لا يليق ولا
ينبغي لظهور خلافه، والاجتراح الاكتساب ومنه الجارحة للأعضاء
التي يكتسب بها كالأيدي، وجاء هو جارحة أهله أي كاسبهم، وقال
الراغب: الاجتراح اكتساب الإثم وأصله من الجراحة كما أن
الاقتراف من قرف القرحة، والظاهر تفسيره هاهنا بالاكتساب لمكان
السَّيِّئاتِ
والمراد بها على ما في البحر سيئات الكفر، وقوله تعالى: أَنْ
نَجْعَلَهُمْ
ساد مسد مفعولي الحسبان، والجعل بمعنى التصيير وهم مفعوله
الأول، وقوله سبحانه: كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا
الصَّالِحاتِ
مفعوله الثاني، وقوله عز وجل: سَواءً
بدل من الكاف بناء على أنها اسم بمعنى مثل، وقوله تعالى:
مَحْياهُمْ وَمَماتُهُمْ
فاعل سواء أجري مجرى مستو كما قالوا: مررت برجل سواء هو
والعدم، وضمير الجمع للمجترحين، والمعنى على إنكار حسبان جعل
محيا المجترحين ومماتهم مستويين مثلهما للمؤمنين، ومصب الإنكار
استواء ذلك فإن المؤمنين تتوافق حالاهم لأنهم مرحومون في
المحيا والممات وأولئك تتضاد حالاتهم فإنهم مرحومون حياة لا
(13/147)
موتا وجوز أن يكون سَواءً
حالا من الضمير في الكاف بناء على ما سمعت من معناها.
وتعقب بأنها اسم جامد على صورة الحرف فلا يصح استتار الضمير
فيها وقد صرح الفارسي بمنع ذلك، نعم يجوز أن يكون كَالَّذِينَ
جارا ومجرورا في موضع المفعول الثاني وسَواءً
حالا من الضمير المستتر فيه، وقيل:
يجوز أيضا كونه حالا من ضمير نجعلهم وكذا يجوز كونه المفعول
الثاني، وكون الكاف أو الجار والمجرور حالا من هذا الضمير، وما
ذكر أولا أظهر وأولى، وجوز كون ضمير الجمع في مَحْياهُمْ
وَمَماتُهُمْ
للمؤمنين فسواء حال من الموصول الثاني ولا يجوز أن يكون حالا
من الضمير في كَالَّذِينَ
لفساد المعنى وكون الضمير للفريقين فسواء حال من مجموع الموصول
الثاني وضمير الأول، والمعنى على إنكار حسبان أن يستوي
الفريقان بعد الممات في الكرامة أو ترك المؤاخذة كما استويا
ظاهرا في الرزق والصحة في الحياة، وجوز أن يكون المعنى على
إنكار حسبان جعل الحياتين مستويتين لأن المؤمنين على الطاعة
وأولئك على المعاصي وكذلك الموتان لأنهم ملقون بالبشرى
والرضوان وأولئك بالسوء والخذلان، وقيل: به على تقدير كون
الضمير للمجترحين أيضا.
ولم يجوز المدقق الإبدال من الكاف على تقدير اشتراك الضمير إذ
المثل هو المشبه وسَواءً
جار على المشبه والمشبه به.
وقرأ جمهور القراء سَواءً مَحْياهُمْ وَمَماتُهُمْ
برفع سواء وما بعده على أن سواء خبر مقدم وما بعده مبتدأ لا
العكس لأن سواء نكرة ولا مسوغ للابتداء بها والضمير للمجترحين،
والجملة قيل: بدل من المفعول الثاني لنجعل بدل كل من كل أو بدل
اشتمال أو بدل بعض، وأيا ما كان ففيه إبدال الجملة من المفرد
وقد أجازه أبو الفتح واختاره ابن مالك، وأورد عليه شواهد، قال
أبو حيان: لا يتعين فيها البدل، وقال محمد بن عبد الله
الاشبيلي المعروف بابن العلج في كتابه البسيط في النحو: لا يصح
أن تكون جملة معمولة للأول في موضع البدل فإن كانت غير معمولة
فهل تكون جملة بدلا من جملة لا يبعد عندي جواز ذلك كالعطف
والتأكيد اللفظي.
وظاهره أنه لا يجوز الإبدال هاهنا، وفي البحر يظهر لي أنه لا
يجوز إبدال هذه الجملة من ذلك المفعول لأن الجعل بمعنى التصيير
ولا يجوز صيرت زيدا أبوه قائم ولا صيرت زيدا غلامه منطلق لأن
في ذلك انتقالا من ذات إلى ذات أو من وصف في الذات إلى وصف آخر
فيها وليس في تلك الجملة المقدرة مفعولا ثانيا انتقال مما
ذكرنا وفيه بحث لا يخفى، والزمخشري قد نص على جعل الجملة بدلا
من الكاف وهو إمام في العربية، لكن أفاد صاحب الكشف أنه أراد
أنه بدل من حيث المعنى لا أنه بدل من ذاك لفظا قال: لأنه مفرد
دال على الذات باعتبار المعنى وهذا دال على المعنى وإن كان
الذات يلزم من طريق الضرورة إلا أن يقدر له موصوف محذوف بأن
يقدر رجالا سواء محياهم ومماتهم مثلا، والمعنى على البدلية كما
سمعت في قراءة النصب، وجوز كون الجملة مفعولا ثانيا
وكَالَّذِينَ
حال من ضمير نَجْعَلَهُمْ
ولا يخفى عليك ما علي وما له، وإذا كان الضمير للمؤمنين
فالجملة قيل:
حال من الموصول الثاني لا من الضمير في المفعول الثاني للفساد،
وتعقب بأن فيه اكتفاء الاسمية الحالية بالضمير وهو غير فصيح
على ما قيل: وقيل: استئناف يبين المقتضي للإنكار على حسبان
التماثل وهو أن المؤمنين سواء حالهم عند الله تعالى في الدارين
بهجة وكرامة فكيف يماثلهم المجترحون، وجوز أن تكون بيانا لوجه
الشبه المجمل، وإذا كان الضمير للفريقين فالظاهر أن الجملة
كلام مستأنف غير داخل في حكم الإنكار والتساوي حينئذ بين حال
المؤمنين بالنسبة إليهم خاصة وحال المجترحين كذلك وتكون الجملة
تعليلا للإنكار في المعنى دالا على عدم المماثلة لا في الدنيا
ولا في الآخرة لأن المؤمنين متساوو المحيا والممات في الرحمة
وأولئك متساوو المحيا
(13/148)
والممات في النقمة إذ المعنى كما يعيشون
يموتون فلما افترق حال هؤلاء وحال هؤلاء حياة فكذلك موتا، وأما
الإبدال فقد علم حاله فتأمل.
وقرأ الأعمش «سواء» بالنصب «محياهم ومماتهم» به أيضا، وخرج
الأول على ما سمعت ونصب محياهم ومماتهم على الظرفية لأنهما
اسما زمان أو مصدران أقيما مقام الزمان والعامل إما سَواءً
أو نَجْعَلَهُمْ
، هذا والآية وإن كانت في الكفار على ما نقل عن البحر وهو ظاهر
ما روي عن الكلبي من أن عتبة. وشيبة. والوليد بن عتبة قالوا
لعلي كرم الله تعالى وجهه. وحمزة رضي الله تعالى عنه.
والمؤمنين: والله ما أنتم على شيء ولئن كان ما تقولون حقا
لحالنا أفضل من حالكم في الآخرة كما هو أفضل في الدنيا فنزلت
الآية أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ
إلخ.
وهي متضمنة للرد عليهم على جميع أوجهها كما يعرف بأدنى تدبر
يستنبط منها تباين حاليّ المؤمن العاصي والمؤمن الطائع ولهذا
كان كثير من العباد يبكون عند تلاوتها حتى أنها تسمى مبكاة
العابدين لذلك، فقد أخرج عبد الله بن أحمد في زوائد الزهد
والطبراني وجماعة عن أبي الضحى قال: قرأ تميم الداري سورة
الجاثية فلما أتى على قوله تعالى أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ
الآية لم يزل يكررها ويبكي حتى أصبح وهو عند المقام.
وأخرج ابن أبي شيبة عن بشير مولى الربيع بن خيثم أن الربيع كان
يصلي فمر بهذه الآية أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ
إلخ فلم يزل يرددها حتى أصبح، وكان الفضيل بن عياض يقول لنفسه
إذا قرأها: ليت شعري من أي الفريقين أنت.
وقال ابن عطية: إن لفظها يعطي أن اجتراح السيئات هو اجتراح
الكفر لمعادلته بالإيمان، ويحتمل أن تكون المعادلة بالاجتراح
وعمل الصالحات ويكون الإيمان في الفريقين ولهذا بكى الخائفون
عند تلاوتها.
ورأيت كثيرا من المغرورين المستغرقين ليلهم ونهارهم بالفسق
والفجور يقولون بلسان القال والحال: نحن يوم القيامة أفضل حالا
من كثير من العابدين وهذا منهم والعياذ بالله تعالى ضلال بعيد
وغرور ما عليه مزيد ساءَ ما يَحْكُمُونَ
أي ساء حكمهم هذا وهو الحكم بالتساوي فما مصدرية والكلام إخبار
عن قبح حكمهم المعهود.
ويجوز أن يكون لإنشاء ذمهم على أن ساءَ
بمعنى بئس فما فيه نكرة موصوفة وقعت تمييزا مفسرا لضمير الفاعل
المبهم والمخصوص بالذم محذوف أي بئس شيئا حكموا به ذلك
وَخَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ كأنه
دليل على إنكار حسباتهم السابق أو دليل على تساوي محيا كل فريق
ومماته وبيان لحكمته على تقدير كون قوله تعالى: سَواءً
مَحْياهُمْ وَمَماتُهُمْ
استئنافا وذلك من حيث إن خلق العالم بالحق المقتضي للعدل
يستدعي انتصاف المظلوم من الظالم والتفاوت بين المسيء والمحسن
وإذا لم يكن في المحيا كان بعد الممات حتما وَلِتُجْزى كُلُّ
نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ عطف على بِالْحَقِّ لأنه في معنى العلة
سواء كانت الباء للسببية الغائية أو الملابسة، أما على الأول
فظاهر، وأما على الثاني فلأن المعنى خلقها ملتبسة ومقرونة
بالحكمة والصواب دون العبث والباطل وحاصله خلقها لأجل ذلك أو
عطف على علة محذوفة مثل ليدل سبحانه بها على قدرته أو ليعدل،
وما موصولة أو مصدرية أي ليجزى كل نفس بالذي كسبته أو بكسبها
وَهُمْ أي النفوس المدلول عليها بكل نفس لا يُظْلَمُونَ بنقص
ثواب وتضعيف عذاب، والجملة في موضع الحال، وتسمية ذلك ظلما مع
أنه ليس كذلك لأنه منه سبحانه تصرف في ملكه والظلم صرف في ملك
الغير بغير إذنه لأنه لو فعله غيره عز وجل كان ظلما فالكلام
على الاستعارة التمثيلية أو أنه لما كان مخالفا لوعده سبحانه
الحق سماه تعالى ظلما.
أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ تعجيب من حال من
ترك متابعة الهدى إلى مطاوعة الهوى فكأنه يعبده فالكلام على
التشبيه البليغ أو الاستعارة، والفاء للعطف على مقدر دخلت عليه
الهمزة أي أنظرت من هذه حاله فرأيته فإن ذلك
(13/149)
مما يقضي منه العجب، وأبو حيان جعل أرأيت
بمعنى أخبرني وقال: المفعول الأول من اتَّخَذَ والثاني محذوف
يقدر بعد الصلات أي أيهتدي بدليل «فمن يهديه» والآية نزلت على
ما روي عن مقاتل في الحارث بن قيس السهمي كان لا يهوى شيئا إلا
ركبه، وحكمها عام وفيها من ذم اتباع هوى النفس ما فيها، وعن
ابن عباس ما ذكر الله تعالى هوى إلا ذمه.
وقال وهب: إذا شككت في خير أمرين فانظر أبعدهما من هواك فأته،
وقال سهل التستري: هواك داؤك فإن خالفته فدواؤك،
وفي الحديث «العاجز من اتبع نفسه هواها وتمنى على الله تعالى»
.
وقال أبو عمران موسى بن عمران الاشبيلي الزاهد:
فخالف هواها واعصها إن من يطع ... هوى نفسه ينزع به شر منزع
ومن يطع النفس اللجوجة ترده ... وترم به في مصرع أي مصرع
وقد ذم ذلك جاهلية أيضا، ومنه قول عنترة:
إني امرؤ سمح الخليقة ماجد ... لا أتبع النفس اللجوج هواها
ولعل الأمر غني عن تكثير النقل.
وقرأ الأعرج وأبو جعفر «إلهة» بتاء التأنيث بدل هاء الضمير،
وعن الأعرج أنه قرأ «آلهة» بصيغة الجمع.
قال ابن خالويه: كان أحدهم يستحسن حجرا فيعبده فإذا رأى أحسن
منه رفضه مائلا إليه، فالظاهر أن آلهة بمعناها من غير تجوز أو
تشبيه والهوى بمعنى المهوى مثله في قوله: هواي مع الركب
اليمانين مصعد.
وَأَضَلَّهُ اللَّهُ أي خلقه ضالا أو خلق فيه الضلال أو خذله
وصرفه عن اللطف على ما قيل عَلى عِلْمٍ حال من الفاعل أي أضله
الله تعالى عالما سبحانه بأنه أهل لذلك لفساد جوهر روحه.
ويجوز أن يكون حالا من المفعول أي أضله عالما بطريق الهدى فهو
كقوله تعالى: فَمَا اخْتَلَفُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما
جاءَهُمُ الْعِلْمُ وَخَتَمَ عَلى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ بحيث لا
يتأثر بالمواعظ ولا يتفكر في الآيات.
وَجَعَلَ عَلى بَصَرِهِ غِشاوَةً مانعة عن الاستبصار والاعتبار
والكلام على التمثيل، وقرأ عبد الله. والأعمش غِشاوَةً بفتح
الغين وهي لغة ربيعة، والحسن وعكرمة وعبد الله أيضا بضمها وهي
لغة عكلية، وأبو حنيفة وحمزة والكسائي وطلحة ومسعود بن صالح
والأعمش أيضا «غشوة» بفتح الغين وسكون الشين، وابن مصرف.
والأعمش أيضا كذلك إلا أنهما كسرا الغين فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ
بَعْدِ اللَّهِ أي من بعد إضلاله تعالى إياه، وقيل: المعنى فمن
يهديه غير الله سبحانه أَفَلا تَذَكَّرُونَ أي ألا تلاحظون فلا
تذكرون، وقرأ الجحدري «تذكرون» بالتخفيف، والأعمش «تتذكرون»
بتاءين على الأصل وَقالُوا بيان لأحكام إضلالهم والختم على
سمعهم وقلوبهم وجعل غشاوة على أبصارهم فالضمير لمن باعتبار
معناه أو للكفرة ما هِيَ أي ما الحياة إِلَّا حَياتُنَا
الدُّنْيا التي نحن فيها، ويجوز أن يكون الضمير للحال والحياة
الدنيا من جملة الأحوال فيكون المستثنى من جنس المستثنى منه
أيضا لاستثناء حال الحياة الدنيا من أعم الأحوال ولا حاجة إلى
تقدير حال مضافا بعد أداة الاستثناء أي ما الحال إلا حال
الحياة الدنيا نَمُوتُ وَنَحْيا حكم على النوع بجملته من غير
اعتبار تقديم وتأخير إلا أن تأخير نحيي الله في النظم الجليل
للفاصلة أي تموت طائفة وتحيا طائفة ولا حشر أصلا، وقيل: في
الكلام تقديم وتأخير أي نحيا ونموت وليس بذاك، وقيل: أرادوا
بالموت عدم الحياة السابق على نفخ الروح فيهم أي نكون نطفا وما
قبلها وما بعدها ونحيا بعد ذلك، وقيل: أرادوا بالحياة بقاء
النسل والذرية
(13/150)
مجازا كأنهم قالوا: نموت بأنفسنا ونحيا
ببقاء أولادنا وذرارينا، وقيل: أرادوا يموت بعضنا ويحيا بعض
على أن التجوز في الإسناد، وجوز أن يريدوا بالحياة على سبيل
المجاز إعادة الروح لبدن آخر بطريق التناسخ وهو اعتقاد كثير من
عبدة الأصنام ولا يخفى بعد ذلك، وقرأ زيد بن علي رضي الله
تعالى عنهما «ونحيا» بضم النون وَما يُهْلِكُنا إِلَّا
الدَّهْرُ أي طول الزمان فالدهر أخص من الزمان وهو الذي ارتضاه
السعد، ولهم في ذلك كلام طويل، وقال الراغب: الدهر في الأصل
اسم لمدة العالم من مبدأ وجوده إلى انقضائه ثم يعبر به عن كل
مدة كثيرة، وهو خلاف الزمان فإنه يقع على المدة العالم من مبدأ
وجوده إلى انقضائه ثم يعبر به عن كل مدة كثيرة، وهو خلاف
الزمان فإنه يقع على المدة القليلة والكثيرة ودهر فلان مدة
حياته، ويقال: دهر فلانا نائبة دهرا أي نزلت به حكاه الخليل
فالدهر هاهنا مصدر.
وذكر بعض الأجلة أن الدهر بالمعنى السابق منقول من المصدر وأنه
يقال: دهره دهرا أي غلبه وإسنادهم الإهلاك إلى الدهر إنكار
منهم لملك الموت وقبضه الأرواح بأمر الله عز وجل وكانوا يسندون
الحوادث مطلقا إليه لجهلهم أنها مقدرة من عند الله تعالى،
وإشعارهم لذلك مملوءة من شكوى الدهر وهؤلاء معترفون بوجود الله
تعالى فهم غير الدهرية فإنهم مع إسنادهم الحوادث إلى الدهر لا
يقولون بوجوده سبحانه وتعالى «عما يقولون علوا كبيرا» والكل
يقول باستقلال الدهر بالتأثير، ولا يبعد أن يكون الزمان عندهم
مقدار حركة الفلك كما ذهب إليه معظم الفلاسفة. وقد جاء النهي
عن سب الدهر.
أخرج مسلم «لا يسب أحدكم الدهر فإن الله هو الدهر»
وأبو داود. والحاكم وقال: صحيح على شرط مسلم قال الله عز وجل:
«يؤذيني ابن آدم يقول يا خيبة الدهر فلا يقل أحدكم يا خيبة
الدهر أنا الدهر أقلب ليله ونهاره»
والحاكم وقال: صحيح على شرط مسلم أيضا يقول الله عز وجل:
«استقرضت عبدي فلم يقرضني وشتمني عبدي وهو لا يدري يقول وا
دهراه وأنا الدهر»
والبيهقي «لا تسبوا الدهر قال الله عز وجل: أنا الأيام
والليالي أجددها وأبليها وآتي بملوك بعد ملوك»
ومعنى ذلك أن الله تعالى هو الآتي بالحوادث فإذا سببتم الدهر
على أنه فاعل وقع السب على الله عز وجلّ.
وعد بعضهم سبه كبيرة لأنه يؤدي إلى سبه تعالى وهو كفر، وما أدى
إليه فأدنى مراتبه أن يكون كفرا (1) .
وكلام الشافعية صريح بأن ذلك مكروه لا حرام فضلا عن كونه
كبيرة، والذي ينجه في ذلك تفصيل وهو أن من سبه فإن أراد به
الزمن فلا كلام في الكراهة، أو الله عز وجل فلا كلام في الكفر،
ومثله إذا أراد المؤثر الحقيقي فإنه ليس إلا الله سبحانه وإن
أطلق فهذا محل التردد لاحتمال الكفر وغيره وظاهر كلامهم هنا
أيضا الكراهة لأن المتبادر منه الزمن وإطلاقه على الله تعالى
كما قال بعض الأجلة إنما هو بطريق التجوز.
ومن الناس من قال: إن سبه كبيرة إن اعتقد أن له تأثيرا فيما
نزل به كما كان يعتقد جهلة العرب، وفيه نظر لأن اعتقاد ذلك كفر
ولي الكلام فيه، وأنكر بعضهم كون ما
في حديث أبي داود. والحاكم «فإني أنا الدهر»
بضم الراء وقال: لو كان كذلك كان الدهر من أسمائه تعالى وكان
يرويه «فإني أنا الدهر»
بفتح الراء ظرفا لأقلب أي فإني أنا أقلب الليل والنهار الدهر
أي على طول الزمان وممره، وفيه أن رواية مسلم فإن الله هو
الدهر تبطل ما زعمه، ومن ثم كان الجمهور على ضم الراء. ولا
يلزم عليه أن يكون من أسمائه تعالى لما سبق أن ذلك على التجوز،
وحكى الراغب عن بعضهم أن الدهر الثاني في حديث مسلم غير الأول
وأنه مصدر بمعنى الفاعل، والمعنى أن الله تعالى هو الدهر أي
__________
(1) قوله فأدنى مراتبه أن يكون كفرا كذا بالأصل ولعل الأولى أن
يكون كبيرة.
(13/151)
المصرّف المدبر المفيض لما يحدث، وفيه بعد.
وقرأ عبد الله «إلّا دهر» وتأويله إلا دهر يمر وَما لَهُمْ
بِذلِكَ أي بما ذكر من قصر الحياة على ما في الدنيا ونسبة
الإهلاك إلى الدهر مِنْ عِلْمٍ مستند إلى عقل أو نقل إِنْ هُمْ
إِلَّا يَظُنُّونَ ما هم إلا قوم قصارى أمرهم الظن والتقليد من
غير أن يكون لهم ما يصح أن يتمسك به في الجملة، هذا معتقدهم
الفاسد في أنفسهم وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا الناطقة
بالحق الذي من جملته البعث بَيِّناتٍ واضحات الدلالة على ما
نطقت به مما يخالف معتقدهم أو مبينات له ما كانَ حُجَّتَهُمْ
بالنصب على أنه خبر كان واسمها قوله تعالى:
إِلَّا أَنْ قالُوا ائْتُوا بِآبائِنا إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ
أي في أنا نبعث بعد الموت أي ما كان متمسكا لهم شيء من الأشياء
إلا هذا القول الباطل الذي يستحيل أن يكون حجة، وتسميته حجة
لسوقهم إياه مساق الحجة على سبيل التهكم بهم أو أنه من قبيل:
تحية بينهم ضرب وجيع. أي ما كان حجتهم إلا ما ليس بحجة،
والمراد نفي أن يكون لهم حجة فإنه لا يلزم من عدم حصول الشيء
حالا كإعادة آبائهم التي طلبوها في الدنيا امتناعه بتعد لتمتنع
الإعادة إذا قامت القيامة، والخطاب في ائْتُوا وكُنْتُمْ
للرسول عليه الصلاة والسلام والمؤمنين إذ هم قائلون بمقالته
صلّى الله عليه وسلّم من البعث طالبون من الكفرة الإقرار به،
وجوز أن يكون له عليه الصلاة والسلام وللأنبياء عليهم السلام
الجائين بالبعث وغلب الخطاب على الغيبة.
وقال ابن عطية: ائْتُوا وكُنْتُمْ من حيث المخاطبة له صلّى
الله عليه وسلّم والمراد هو وإلهه والملك الذي يذكر عليه
الصلاة والسلام نزوله عليه بذلك وهو جبريل عليه السلام، وهو
كما ترى.
وقرأ الحسن وعمرو بن عبيد وابن عامر فيما روى عنه عبد الحميد
وعاصم فيما روى هارون وحسين عن أبي بكر عنه «حجّتهم» بالرفع
على أنه اسم كان وما بعد خبر أي ما كان حجتهم شيئا من الأشياء
إلا هذا القول الباطل، وجواب إِذا ما كان إلخ، ولم تقترن
بالفاء وإن كانت لازمة في المنفي بما إذا وقعت جواب الشرط
لأنها غير جازمة ولا أصلية في الشرطية، وهو سر قول أبي حيان:
إن إذا خالفت أدوات الشرط بأن جوابها إذا كان منفيا بما لم
تدخل الفاء بخلاف أدوات الشرط فلا بد معها من الفاء نحو إن
تزرنا فما جفوتنا فلا حاجة إلى تقدير جواب لها كعمدوا إلى
الحجج الباطلة خلافا لابن هشام. واستدل بوقوع ما ذكر جوابا على
أن العمل في إذا ليس للجواب لصدارة ما المانعة منه ولا قائل
بالفرق، ولعل من قال بالعمل يقول يتوسع في الظرف ما لم يتوسع
في غيره، ثم إن المعنى على الاستقبال لمكان إِذا أي ما تكون
حجتهم إلا أن يقولوا ذلك.
قُلِ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ ابتداء ثُمَّ يُمِيتُكُمْ عند انقضاء
آجالكم على ما دل عليه الحجج لا الدهر كما تزعمون ثُمَّ
يَجْمَعُكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ أي فيه وجوز كون الفعل
مضمنا معنى مبعوثين أو منتهين ونحوه ومعنى في أظهر أي يجمعكم
في يوم القيامة لا رَيْبَ فِيهِ أي في جمعكم فإن من قدر على
البدء وقدر على الإعادة والحكمة اقتضت الجمع للجزاء لا محالة
في ذلك اليوم والوعد الصدق بالآيات دل على قرعها، وحاصله أن
البعث أمر ممكن أخبر به الصادق وتقتضيه الحكمة وكل ما هو كذلك
لا محالة واقع والإتيان بالآباء حيث كان منافيا للحكمة
التشريعية امتنع إيقاعه وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا
يَعْلَمُونَ استدراك من قوله تعالى: لا رَيْبَ فِيهِ وهو من
تمام الكلام المأمور به أو كلام مسوق من جهته تعالى تحقيقا
للحق وتنبيها على أن ارتيابهم لجهلهم وقصورهم في النظر والتفكر
لا لأن فيه شائبة ريب ما وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ
وَالْأَرْضِ بيان للاختصاص المطلق والتصرف الكلي فيهما وفيما
بينهما بالله عز
(13/152)
وجلّ إثر بيان تصرفه تعالى بالإحياء
والإماتة والبعث والجمع للمجازاة فهو تعميم للقدرة بعد تخصيص.
وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ
الْمُبْطِلُونَ قال الزمخشري: العامل في يَوْمَ تَقُومُ يخسر
ويومئذ بدل من يوم تقول وحكاه ابن عطية عن جماعة، وتقديم الظرف
على الفعل للحصر لأن كل خسران عند الخسران في ذلك اليوم كلا
خسران، وفيه أيضا رعاية الفواصل على ما قيل، وتعقب حديث
الإبدال بأن التنوين في يَوْمَئِذٍ عوض عن الجملة المضاف
إليها، والظاهر أنها تقدر بقرينة ما قبل تَقُومُ السَّاعَةُ
فيقال ويوم تقوم الساعة يوم إذ تقوم الساعة يخسر المبطلون
فيكون تأكيدا لا بدلا إذ لا وجه له. ولذا قيل: إنه بالتأكيد
أشبه، وقول أبي حيان: إن كان بدلا توكيديا وهو قليل جاز وإلا
فلا لا يسمن ولا يغني وتكلف بعضهم فزعم أن اليوم الثاني بمعنى
الوقت الذي هو جزء من يوم قيام الساعة فهو بدل بعض معه عائد
مقدر ولما كان فيه ظهور خسرانهم كان هو المقصود بالنسبة، وقالت
فرقة: العامل في يَوْمَ تَقُومُ ما يدل عليه الملك قالوا: وذلك
أن يوم القيامة أمر ثالث ليس بالسماء ولا بالأرض لتبدلهما
فكأنه قيل.
ولله ملك السموات والأرض والملك يوم تقوم الساعة، ويَوْمَئِذٍ
منصوب بيخسر والجملة استئناف وإن كان لها تعلق بما قبلها من
جهة تنوين العوض، وقيل: يجوز أن يكون عطفا على ظرف معمول لملك
المذكور كأنه قيل: لله ملك السموات والأرض اليوم ويوم تقوم
الساعة وهو كما ترى، والْمُبْطِلُونَ الداخلون في الباطل، ولعل
المراد به أعظم أنواعه وهو الكفر وَتَرى كُلَّ أُمَّةٍ من
الأمم المجموعة جاثِيَةً باركة على الركب مستوفزة وهي هيئة
المذنب الخائف المنتظر لما يكره، وعن ابن عباس جاثية مجتمعة،
وعن قتادة جماعات من الجثوة مثلثة الجيم وهي الجماعة تجتمع على
جثى أي تراب مجتمع، وعن مؤرج السدوسي جاثية خاضعة بلغة قريش،
والخطاب في تَرى لمن يصح منه الرؤية أو لسيد المخاطبين عليه
الصلاة والسلام وهي بصرية، وجاثِيَةً حال وجوز أن تكون صفة ولو
كانت علمية كانت مفعولا ثانيا، وقرىء «جاذية» بالذال والجذو
أشد استيفازا من الجثو لأن الجاذي هو الذي يجلس على أطراف
أصابعه، وجوز أن يكون الجاذي بمعنى الجاثي أبدلت ثاؤه ذالا فإن
الثاء والذال متقارضان كما قيل شحاث وشحاذ كُلُّ أُمَّةٍ
تُدْعى إِلى كِتابِهَا إلى صحيفة أعمالها التي كتبتها الحفظة
لتحاسب، وأفرد على إرادة الجنس وإلا فلكل واحد من كل أمة صحيفة
فيها أعماله، وقيل: المراد كتاب نبيها تدعى إليه لينظر هل عملت
به أو لا وحكي ذلك عن يحيى بن سلام إلا أنه حمل كل أمة على كل
أمة كافرة والظالم العموم، وقيل: المراد بذلك اللوح المحفوظ أي
تدعى إلى ما سبق لها فيه، وقرأ يعقوب «كلّ» بالنصب وخرج على
أنه بدل من كل الأول، وجملة تُدْعى صفة، وإبدال الأمة المدعوة
إلى كتابها من الأمة الجاثية حسن وجاء ذلك من الوصف، ويقال مثل
ذلك فيما إذا كانت الجملة حالا، وإذا كانت الرؤية علمية وجملة
تُدْعى مفعولا ثانيا فالظاهر أنه تأكيد، وجعله تأكيدا مع كون
الجملة صفة فيه تخلل التأكيد بين الوصفين وهو كما في الكشف غير
مستحسن الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ مقول قول
مقدر وهو حال أو خبر بعد خبر.
وفي الكلام مضاف مقدر أي جزاء ما كنتم إلخ أو هو من المجاز،
وقوله تعالى: هذا كِتابُنا إلى آخره من تمام ما يقال حينئذ،
والإشارة إلى الكتاب الذي تدعى إليه الأمة المقول لها ذلك، وهو
إذا كان صحيفة الأعمال فإضافته إلى ضميره جلّ شأنه لأدنى
ملابسة على التجوز في النسبة الإضافية فإنه تعالى الذي أمر
الكتبة أن يكتبوا فيه أعمالهم، وإن كان الكتاب المنزل على نبي
تلك الأمة أو اللوح المحفوظ فأمر الإضافة ظاهر، وضمير العظمة
على سائر الأوجه لتفخيم شأن الكتاب، وجوز أن يكون الضمير
للكتبة والإضافة فيه حقيقية قيل: ويأباه نَسْتَنْسِخُ إلا أن
يجعل بمعنى ننسخ ونكتب وستعلم إن شاء الله تعالى ما فيه،
والأظهر عندي حمل الكتاب في الموضعين على صحيفة الأعمال
(13/153)
واسم الإشارة مبتدأ وما بعده خبر، وقوله
سبحانه يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ أي يشهد عليكم بِالْحَقِّ من غير
زيادة ولا نقص خبر آخر أو حال أو مستأنف، وبِالْحَقِّ حال من
فاعل يَنْطِقُ وقوله تعالى: إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ إلى
آخره تعليل لنطقه عليهم بأعمالهم من غير إخلال بشيء منها أي
إنا كنا فيما قبل نستنسخ الملائكة أي نجعلها تنسخ وتكتب ما
كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ في الدنيا من الأعمال حسنة كانت أو سيئة،
وحقيقة النسخ كتابة من أصل ينظر فيه فكان أفعال العباد هي
الأصل على ما في البحر،
وأخرج ابن جرير عن ابن عباس قال: إن الله تعالى خلق النون وهي
الدواة وخلق القلم فقال: اكتب قال: ما أكتب؟ قال: اكتب ما هو
كائن إلى يوم القيامة من عمل معمول بر أو فاجر ورزق مقسوم حلال
أو حرام ثم ألزم كل شيء من ذلك بيانه دخوله في الدنيا متى
ومقامه فيها كم وخروجه منها كيف ثم جعل على العباد حفظة وعلى
الكتاب خزّانا فالحفظة يستنسخون كل يوم من الخزان عمل ذلك
اليوم فإذا فني الرزق وانقطع الأمر وانقضى الأجل أتت الحفظة
الخزنة يطلبون عمل ذلك اليوم فتقول الخزنة ما نجد لصاحبكم
عندنا شيئا فترجع فيجدونه قد مات
ثم قال ابن عباس ألستم قوما عربا تسمعون الحفظة يقولون إن كنا
نستنسخ ما كنتم تعملون وهل يكون الاستنساخ إلا من أصل؟ وفي
رواية ابن المنذر وابن أبي حاتم عنه رضي الله تعالى عنه أنه
سئل عن الآية فذكر نحو ما سمعت ثم قال: هل يستنسخ الشيء إلا من
كتاب، وكون الاستنساخ من اللوح قد رواه جماعة عنه، وما ذكرناه
يصحح أن يكون هذا القول من الملائكة بدون تأويل نَسْتَنْسِخُ
بننسخ كما لا يخفى، وقوله تعالى: فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا
وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي
رَحْمَتِهِ إلى آخره تفصيل للمجمل المفهوم من قوله تعالى:
يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ أو يجزون من الوعد والوعيد،
والمراد بالرحمة الجنة مجازا والظرفية على ظاهرها، وقيل:
المراد بالرحمة ما يشمل الجنة وغيرها والأول أظهر ذلِكَ الذي
ذكر من الإدخال في رحمته تعالى: هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ
الظاهر كونه فوزا لا فوز وراءه.
وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا أَفَلَمْ تَكُنْ آياتِي تُتْلى
عَلَيْكُمْ أي فيقال لهم بطريق التقريع والتوبيخ: ألم تكن
تأتيكم رسلي فلم تكن آياتي تتلى عليكم فجواب أما القول المقدر،
وحذف اكتفاء بالمقصود وهو المقول وحذفه كثير مقيس حتى قيل هو
البحر حدث عنه، وحذف المعطوف عليه لقرينة الفاء العاطفة وأن
تلاوة الآيات تستلزم إتيان الرسل معنى، وهذا على ما ذهب إليه
الزمخشري والجمهور على أن الهمزة مقدمة من تأخير لصدارتها
والفاء على نية التقدير، والتقدير فيقال لهم: ألم تكن إلخ فليس
هناك سوى حذف القول، وفي الكشف لو حمل على أن المحذوف فيوبخون
لدلالة ما بعده عليه، وفائدة هذا الأسلوب مع أن الأصل فيدخلهم
في عذابه الدلالة على أن المؤمنين يدخلون الجنة والكافرون بعد
في الموقف معذبون بالتوبيخ لكان وجها فَاسْتَكْبَرْتُمْ عن
الإيمان بها وَكُنْتُمْ قَوْماً مُجْرِمِينَ قوما عادتهم
الإجرام وَإِذا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ أي وما وعده سبحانه
من الأمور الآتية أو وعده تعالى بذلك حَقٌّ أي كائن هو أو
متعلقه لا محالة ففي الكلام تجوز إما في الطرف أو في النسبة.
وقرأ الأعرج وعمرو بن قائد «وإذا قيل أنّ» بفتح الهمزة على لغة
سليم وَالسَّاعَةُ لا رَيْبَ فِيها برفع «الساعة» في قراءة
الجمهور على العطف على محل إن واسمها على ما ذهب إليه أبو علي
وتبعه الزمخشري، ومن زعم أن لاسم إن موضعا جوز العطف عليه هنا،
وزعم أبو حيان أن الصحيح أنه لا يجوز كلا الوجهين وعليه فجملة
السَّاعَةُ لا رَيْبَ فِيها عطف على الجملة السابقة، وقرأ حمزة
وَالسَّاعَةُ بالنصب عطفا على اسم أن وروي ذلك عن الأعمش وأبي
عمرو وأبي حيوة وعيسى والعبسي والمفضل، وذكر أمر الساعة وإنها
لا ريب في وقوعها مع أنها من جملة ما وعد الله تعالى اعتناء
بأمر البعث المقصود بالمقام قُلْتُمْ لغاية عتوكم: ما نَدْرِي
مَا السَّاعَةُ أي أي شيء هي استغرابا لها جدا كما يؤذن به جمع
ما نَدْرِي مع الاستفهام.
(13/154)
إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا استشكل ذلك لما
أنه استثناء مفرغ وقد قالوا: لا يجوز تفريغ العامل إلى المفعول
المطلق المؤكد فلا يقال: ما ضربت إلا ضربا لأنه بمنزلة ما ضربت
إلا ضربت، وقال الرضي: إن الاستثناء المفرغ يجب أن يستثنى من
متعدد مقدر معرب بإعراب المستثنى مستغرق لذلك الجنس حتى يدخل
فيه المستثنى بيقين ثم يخرج بالاستثناء وليس مصدر نظن محتملا
مع الظن غيره حتى يخرج الظن منه، وكذا يقال في ما ضربت إلّا
ضربا ونحوه وهذا مراد من قال: إنه من قبيل استثناء الشيء من
نفسه. واختلفوا في حله فقيل: إن معنى ما نظن ما نفعل الظن كما
في نحو قيم وقعد وحينئذ يصح الاستثناء ويتغاير مورد النفي
والإيجاب من حيث التقدير والتجوز في الاستثناء من العام المقدر
وجعل نَظُنُّ في معنى نفعل الفعل لا نفعل الظن كأنه قيل: ما
نفعل فعلا إلا الظن، وكذا يقال في أمثاله ومنها قول الأعشى:
وحل به الشيب أثقاله ... وما اغتره الشيب إلا اغترارا
وارتضاه صاحب الكشف، وقيل: ما نظن بتأويل ما نعتقد ويكون
ظَنًّا مفعولا به أي ما نعتقد شيئا إلا ظنا، وارتضاه أبو حيان.
وتعقب بأن ظاهر حالهم أنهم مترددون لا معتقدون. وأجيب بأن
الاعتقاد المنفي لا ينافي ظاهر حالهم بل يقررها على أتم وجه،
وقيل المستثنى ظن أمر الساعة والمستثنى منه مطلق الظن كأنه قيل
لا ظن ولا تردد لنا إلا ظن أمر الساعة والتردد فيه فالكلام
لنفي ظنهم فيما سوى ذلك مبالغة، وقال الرضي: إن ما ضربت إلا
ضربا يحتمل التعدد من حيث توهم المخاطب إذ ربما تقول ضربت وقد
فعلت غير الضرب مما يجري مجراه من مقدماته كالتهديد فتدفع ذلك
وتقول ضربت ضربا فهو نظير جاء زيد زيد فلما كان ضربت محتملا
للضرب وغيره من حيث التوهم صار كالمتعدد الشامل للضرب وغيره،
وحاصله أن الضرب لما احتمل قبل التأكيد والاستثناء فعلا آخر
حمل على العموم بقرينة الاستثناء فيكون المعنى ما فعلت شيئا
إلا ضربا، وهكذا إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وهذا كالمتحد مع
ما ذكرناه أولا، ورد بأن الاستثناء يقتضي الشمول المحقق ولا
يكفي فيه الاحتمال المحقق فضلا عن المتوهم.
وتعقب بأنه ليس بشيء لأنه إذا تجرد الفعل لمعنى عام صار الشمول
محققا على أن عدم كفاية الشمول الفرضي غير مسلم كما يعرفه من
يتتبع موارده، وذهب ابن يعيش. وأبو البقاء إلى أنه على القلب
والتقديم والتأخير الأصل إن نحن إلا نظن ظنا وحكي ذلك عن
المبرد، وقد حمل عليه ما حكاه أبو عمرو بن العلاء وسيبويه من
قول العرب: ليس الطيب إلا المسك بالرفع فقال: الأصل ليس إلا
الطيب المسك ليكون اسم ليس ضمير الشأن وما بعد إلا مبتدأ وخبرا
في موضع الخبر لها، ورده الرضي وقال: إنه تكلف لما فيه من
التعقيد المخلّ بالفصاحة.
والمثال المحكي وارد على لغة بني تميم فإنهم عاملوا ليس معاملة
ما فأهملوها لانتقاض النفي بإلا، وقيل ظَنًّا مفعول مطلق لفعل
محذوف والمستثنى محذوف والتقدير إن نظن إلا أنكم تظنون ظنا.
وحكي عن المبرد أيضا وفيه حذف إن واسمها وخبرها وإبقاء المصدر
وذلك لا يجوز، وفيه أيضا من التعقيد المخل بالفصاحة ما فيه،
ولا أظن صحة حكايته عن المبرد لغاية برودته، وجوز صاحب التقريب
أن يكون المراد إن نظن إلا ظنا ضعيفا فهو مصدر مبين للنوع حذفت
صفته كما صرح به في البحر لا مؤكد، وهذا يوافق ما ذكره الإمام
السكاكي في بحث أن التنكير قد يكون للتحقير. وتعقب بأن قوله
تعالى: وَما نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ يأباه فإن مقابل
الاستيقان مطلق الظن لا الضعيف منه، وقد صرح غير واحد بأن هذه
الجملة كالتأكيد لما قبلها والمراد بها استمرار النفي وتأكيده،
قيل: والمعنى وما نحن بمستيقنين إمكان الساعة أي لا نتيقن
إمكانها أصلا فضلا عن تحقق وقوعها المدلول عليه بقوله تعالى:
إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لا رَيْبَ فِيها
فقولهم ذلك رد لهذا، ولعل المثبتين لأنفسهم
(13/155)
الظن من غير إيقان بأمر الساعة غير
القائلين إن هي إلا حياتنا الدنيا فإن ذلك ظاهر في أنهم منكرون
للبعث جازمون بنفي الساعة فيكون الكفرة صنفين صنف جازمون
بنفيها كأئمتهم وصنف مترددون متحيرون فيها فإذا سمعوا ما يؤثر
عن آبائهم أنكروها وإذا سمعوا الآيات المتلوة تقهقر إنكارهم
فترددوا.
ويحتمل اتحاد قائل ذاك وقائل هذا إلا أن كل قول في وقت وحال
فهو مضطرب مختلف الحالات تارة يجزم بالنفي فيقول: إن هي إلا
حياتنا الدنيا وأخرى يظن فيقول إن نظن إلا ظنا، وقيل: الجزم
هناك بنفي وقوعها والظن من غير إيقان هنا بمجرد إمكانها فهم
مترددون بإمكانها الذاتي جازمون بعدم وقوعها بالفعل فتأمل «تم
الجزء الخامس والعشرون ويليه إن شاء الله تعالى الجزء السادس
والعشرون وأوله (وبدا لهم) » .
(13/156)
الجزء السادس والعشرون
(13/157)
وَبَدَا لَهُمْ
سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ
يَسْتَهْزِئُونَ (33) وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنْسَاكُمْ كَمَا
نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ
وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (34) ذَلِكُمْ بِأَنَّكُمُ
اتَّخَذْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا وَغَرَّتْكُمُ الْحَيَاةُ
الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ لَا يُخْرَجُونَ مِنْهَا وَلَا هُمْ
يُسْتَعْتَبُونَ (35) فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّمَاوَاتِ
وَرَبِّ الْأَرْضِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (36) وَلَهُ
الْكِبْرِيَاءُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ
الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (37)
وَبَدا لَهُمْ أي ظهر لهم حينئذ سَيِّئاتُ
ما عَمِلُوا أي قبائح أعمالهم أي عقوباتها فإن العقوبة تسوء
صاحبها وتقبح عنده أو سيئات أعمالهم أي أعمالهم السيئات على أن
تكون الإضافة من إضافة الصفة إلى الموصوف والكلام على تقدير
مضاف أي ظهر لهم جزاء ذلك أو أن يراد بالسيئات جزاؤها من باب
إطلاق السبب على المسبب، وقيل:
المراد ظهر لهم الجهات السيئة الغير الحسنة عقلا لأعمالهم أي
جهات قبحها العقلي التي خفيت عليهم في الدنيا بتزيين الشيطان
وهو قول بالحسن والقبح العقليين في الأفعال، وما موصولة، وجوز
أن تكون مصدرية فلا تغفل وَحاقَ أي حل بِهِمْ ما كانُوا بِهِ
يَسْتَهْزِؤُنَ من الجزاء والعقاب.
وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنْساكُمْ نترككم في العذاب من باب إطلاق
السبب على المسبب لأن من نسي شيئا تركه أو نجعلكم بمنزلة الشيء
المنسي غير المبالى به على أن ثم استعارة تمثيلية، وجوز أن
يكون استعارة مكنية في ضمير الخطاب.
كَما نَسِيتُمْ في الدنيا لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا أي كما تركتم
عدته وهي التقوى والإيمان به أو كما لم تبالوا أنتم بلقائه ولم
تخطروه ببال كالشيء الذي يطرح نسيا منسيا، وجوز أن يكون
التعبير بنسيانه لأن علمه مركوز في فطرتهم أو لتمكنهم منه
بظهور دلائله ففي النسيان الأول مشاكلة، وإضافة لِقاءَ إلى-
يوم- من إضافة المصدر إلى ظرفه فهي على معنى في والمفعول مقدر
أي لقاءكم الله تعالى وجزاءه سبحانه في يومكم هذا، وقال
العلامة التفتازاني:
لِقاءَ يَوْمِكُمْ ك مَكْرُ اللَّيْلِ [سبأ: 33] من باب المجاز
الحكمي فلذا أجري المضاف إليه مجرى المفعول به، وإنما لم يجعل
من إضافة المصدر إلى المفعول به حقيقة لأن التوبيخ ليس على
نسيان لقاء اليوم نفسه بل نسيان ما فيه من الجزاء.
(13/159)
وقال بعض الأجلة: لا يخفى أن لقاء اليوم
يجوز أن يكون كناية عن لقاء جميع ما فيه وهو أنسب بالمقام لأن
السياق لإنكار البعث وَمَأْواكُمُ النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ
ناصِرِينَ ما لأحد منكم ناصر واحد يخلصكم منها.
ذلِكُمْ العذاب بِأَنَّكُمُ بسبب أنكم اتَّخَذْتُمْ آياتِ
اللَّهِ هُزُواً أي مهزوءا بها ولم ترفعوا لها رأسا
وَغَرَّتْكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا فحسبتم أن لا حياة سواها
فَالْيَوْمَ لا يُخْرَجُونَ مِنْها أي النار. وقرأ الحسن وابن
وثاب وحمزة والكسائي «لا يخرجون» مبنيا للفاعل، والالتفات إلى
الغيبة للإيذان بإسقاطهم عن رتبة الخطاب استهانة بهم أو بنقلهم
من مقام الخطابة إلى غيابه النار، وجوز أن يكون هذا ابتداء
كلام فلا التفات.
وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ أي يطلب منهم أن يعتبوا ربهم سبحانه
أي يزيلوا عتبه جلّ وعلا، وهو كناية عن إرضائه تعالى أي لا
يطلب منهم إرضاؤه عز وجل لفوات أوانه، وقد تقدم في الروم.
والسجدة أوجه أخر في ذلك فتذكر فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ
السَّماواتِ وَرَبِّ الْأَرْضِ رَبِّ الْعالَمِينَ تفريع على
ما احتوت عليه السورة الكريمة، وقد احتوت على آلاء الله تعالى
وأفضاله عز وجل واشتملت على الدلائل الآفاقية والأنفسية وانطوت
على البراهين الساطعة والنصوص اللامعة في المبدأ والمعاد،
واللام للاختصاص، وتقديم الخبر لتأكيده، وتعريف الحمد
للاستغراق أو الجنس، والجملة إخبار عن استحقاقه تعالى لما تدل
عليه، وجوز أن يراد الإنشاء، وتمام الكلام قد تقدم في الفاتحة،
وفي التفريع المذكور على ما قال بعض الأجلة إشارة إلى أن كفرهم
لا يؤثر شيئا في ربوبيته تعالى ولا يسد طريق إحسانه ورحمته عز
وجلّ. ومن يسد طريق العارض الهطل. وإنما هم ظلموا أنفسهم،
وإجراء ما جرى من الصفات الدالة على إنعامه تعالى عليه عز وجلّ
كالدليل على استحقاقه تعالى الحمد واختصاصه به جلّ وعلا وقوله
تعالى: رَبِّ الْعالَمِينَ بدل مما قبل وفي تكرير لفظ الرب
تأكيد وإيذان بأن ربوبيته تعالى لكل بطريق الأصالة. وقرأ ابن
محيصن برفعه على المدح بإضمار هو وَلَهُ الْكِبْرِياءُ فيه من
الاختصاص ما في فَلِلَّهِ الْحَمْدُ والكبرياء قال ابن الأثير:
العظمة والملك، وقال الراغب: الترفع عن الانقياد، وقيل: هي
عبارة عن كمال الذات وكمال الوجود، وقوله تعالى: فِي
السَّماواتِ وَالْأَرْضِ في موضع الحال أو متعلق- بالكبرياء-
والتقييد بذلك لظهور آثار الكبرياء وأحكامها فيه، والإظهار في
مقام الإضمار لتفخيم شأن الكبرياء،
وفي الحديث القدسي «الكبرياء ردائي والعظمة إزاري فمن نازعني
واحدا منهما قذفته في النار» أخرجه الإمام أحمد ومسلم وأبو
داود وابن ماجه وابن أبي شيبة والبيهقي في الأسماء والصفات عن
أبي هريرة
، وهو ظاهر في عدم اتحاد الكبرياء والعظمة فلا تغفل وَهُوَ
الْعَزِيزُ الذي لا يغلب الْحَكِيمُ في كل ما قضى وقدر، وفي
هذه الجمل إرشاد- على ما قيل- إلى أوامر جليلة كأنه قيل: له
الحمد فاحمدوه تعالى وله الكبرياء فكبروه سبحانه وهو العزيز
الحكيم فأطيعوه عز وجل، وجعلها بعضهم مجازا أو كناية عن
الأوامر المذكورة والله تعالى أعلم، هذا ولم أظفر من باب
الإشارة بما يتعلق بشيء من آيات هذه السورة الكريمة يفي بمؤنة
نقله غير ما يتعلق بقوله تعالى: وَسَخَّرَ لَكُمْ ما فِي
السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ [الجاثية: 13]
من جعله إشارة إلى وحدة الوجود، وقد مر ما يغني عن نقله، والله
عز وجلّ ولي التوفيق.
(13/160)
|