روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني

ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ (1) بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ (2) أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ (3) قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ (4) بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ (5) أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ (6) وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (7) تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (8) وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ (9) وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ (10) رِزْقًا لِلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ الْخُرُوجُ (11) كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحَابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ (12) وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوَانُ لُوطٍ (13) وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ (14) أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ (15) وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ (16) إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ (17) مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ (18) وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ (19)

سورة ق
وهي مكية وأطلق الجمهور ذلك، وفي التحرير عن ابن عباس. وقتادة أنها مكية إلا قوله تعالى: وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ [ق: 38] الآية فهي مدنية نزلت في اليهود، وآيها خمس وأربعون بالإجماع. ولما أشار سبحانه في آخر السورة السابقة إلى أن إيمان أولئك الأعراب لم يكن إيمانا حقا ويتضمن ذلك إنكار النبوة وإنكار البعث افتتح عز وجل هذه السورة بما يتعلق بذلك، وكان صلّى الله عليه وسلّم كثيرا ما يقرؤها في صلاة الفجر كما في حديث مسلم. وغيره عن جابر ابن سمرة، وفي رواية ابن ماجه. وغيره عن قطبة بن مالك أنه عليه الصلاة والسلام كان يقرؤها في الركعة الأولى من صلاة الفجر. وأخرج أحمد ومسلم وأبو داود وابن ماجه والترمذي والنسائي عن أبي واقد الليثي أنه صلّى الله عليه وسلّم كان يقرأ في العيد بقاف واقتربت،
وأخرج أبو داود والبيهقي وابن ماجه وابن أبي شيبة عن أم هشام ابنة حارثة قالت: «ما أخذت ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ [ق: 1] الا من في رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان يقرأ بها في كل جمعة على المنبر إذا خطب الناس»
وفي حديث ابن مردويه عن أبي العلاء رضي الله تعالى عنه مرفوعا «تعلموا ق والقرآن المجيد»
وكل ذلك يدل على أنها من أعظم السور.

(13/321)


بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ ذي المجد والشرف من باب النسب كلابن وتامر وإلا فالمعروف وصف الذات الشريفة به، وصنيع بعضهم ظاهر في اختيار هذا الوجه، وأورد عليه أن ذلك غير معروف في فعيل كما قاله ابن هشام في إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ [الأعراف: 56] وأنت تعلم أن من حفظ حجة على من لم يحفظ، وشرفه على هذا بالنسبة لسائر الكتب، أما غير الإلهية فظاهر، وأما الإلهية فلإعجازه وكونه غير منسوخ بغيره واشتماله مع إيجازه على أسرار يضيق عنها كل واحد منها، وقال الراغب: المجد السعة في الكرم وأصله مجدت الإبل إذا وقعت في مرعى كثير واسع، ووصف القرآن به لكثرة ما يتضمن من المكارم الدنيوية والأخروية، ويجوز أن يكون وصفه بذلك لأنه كلام المجيد فهو وصف بصفة قائله، فالإسناد مجازي كما في القرآن الحكيم أو لأن من علم معانيه وعمل بما فيه مجد عند الله تعالى وعند الناس، فالكلام بتقدير مضاف حذف فارتفع الضمير المضاف إليه، أو فعيل فيه بمعنى مفعل كبديع بمعنى مبدع لكن في مجيء فعيل وصفا من الإفعال كلام، وأكثر أهل اللغة والعربية لم يثبته، وأكثر ما تقدم في قوله تعالى: ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ [ص: 1] يجري هاهنا حتى أنه قيل: يجوز أن يكون ق أمرا من مفاعلة قفا أثره أي تبعه، والمعنى اتبع القرآن واعمل بما فيه، ولم يسمع مأثورا، ومثله ما قيل: إنه أمر بمعنى قف أي قف عند ما شرع لك ولا تجاوزه. وأخرج ابن جرير وابن المنذر، عن ابن عباس قال: خلق الله تعالى من وراء هذه الأرض بحرا محيطا بها ومن وراء ذلك جبلا يقال له قاف السماء الدنيا مترفرفة عليه ثم خلق من وراء ذلك الجبل أرضا مثل تلك الأرض سبع مرات ثم خلق من وراء ذلك بحرا محيطا بها ثم خلق وراء ذلك جبلا يقال له قاف السماء الثانية مترفرفة عليه حتى عد سبع أرضين وسبعة أبحر وسبعة أجبل ثم قال: وذلك قوله تعالى: وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ [لقمان: 27] وأخرج ابن أبي الدنيا في العقوبات. وأبو الشيخ عنه أيضا أنه قال: خلق الله تعالى جبلا يقال له قاف محيطا بالعالم وعروقه إلى الصخرة التي عليها الأرض فإذا أراد الله تعالى أن يزلزل قرية أمر ذلك الجبل فحرك العرق الذي يلي تلك القرية فيزلزلها ويحركها فمن ثم تحرك القرية دون القرية. وأخرج ابن المنذر. وأبو الشيخ في العظمة. والحاكم. وابن مردويه عن عبد الله بن بريدة أنه قال في الآية: قاف جبل من زمرد محيط بالدنيا عليه كنفا السماء. وأخرج عبد الرزاق عن مجاهد أنه أيضا قال: هو جبل محيط بالأرض، وذهب القرافي إلى أن جبل قاف لا وجود له وبرهن عليه بما برهن ثم قال: ولا يجوز اعتقاد ما لا دليل عليه. وتعقبه ابن حجر الهيتمي فقال: «يرد ذلك ما جاء عن ابن عباس من طرق خرجها الحفاظ وجماعة منهم ممن التزموا تخريج الصحيح، وقول الصحابي ذلك ونحوه مما لا مجال للرأي فيه حكمه حكم المرفوع إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم ان وراء أرضنا بحرا محيطا ثم جبلا يقال له قاف إلى آخر ما تقدم، ثم قال: وكما يندفع بذلك قوله: لا وجود له يندفع قوله: ولا يجوز اعتقاد إلخ لأنه إن أراد بالدليل مطلق الامارة فهذه عليه أدلة أو الامارة القطعية فهذا مما يكفي فيه الظن كما هو جلي انتهى، والذي أذهب إليه ما ذهب إليه القرافي من أنه لا وجود لهذا الجبل بشهادة الحس فقد قطعوا هذه الأرض برها وبحرها على مدار السرطان مرات فلم يشاهدوا ذلك، والطعن في صحة هذه الأخبار وإن كان جماعة من رواتها ممن التزم تخريج الصحيح أهون من تكذيب الحس، وليس ذلك من باب نفي الوجود لعدم الوجدان كما لا يخفى على ذوي العرفان، وأمر الزلزلة لا يتوقف على

(13/322)


ذلك الجبل بل هي من الأبخرة وطلبها الخروج مع صلابة الأرض وإنكار ذلك مكابرة عند من له أدنى عرق من الإنصاف والله تعالى أعلم.
واختلف في جواب القسم فقيل: محذوف يشعر به الكلام كأنه قيل: والقرآن المجيد إنا أنزلناه لتنذر به الناس، وقدره أبو حيان إنك جئتهم منذرا بالبعث ونحو ما قيل: هو إنك لمنذر وقيل: ما ردوا أمرك بحجة.
وقال الأخفش والمبرد والزجاج: تقديره لتبعثن، وقيل: هو مذكور، فعن الأخفش قَدْ عَلِمْنا ما تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ [ق: 4] وحذفت اللام لطول الكلام، وعنه أيضا. وعن ابن كيسان ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ [ق: 18] وقيل: إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى [ق: 37] وهو اختيار محمد بن علي الترمذي، وقيل: ما يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ [ق: 29] وعن نحاة الكوفة هو قوله تعالى: بَلْ عَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وما ذكر أولا هو المعول عليه، وبَلْ للإضراب عما ينبىء عنه جواب القسم المحذوف فكأنه قيل: إنا أنزلناه لتنذر به الناس فلم يؤمنوا به بل جعلوا كلا من المنذر والمنذر به عرضة للتكبر والتعجب مع كونهما أوفق شيء لقضية العقول وأقربه إلى التلقي بالقبول، وقيل: التقدير إنك جئتهم منذرا بالبعث فلم يقبلوا بل عجبوا أو فشكوا فيه بل عجبوا على معنى لم يكتفوا بالشك والرد بل جزموا بالخلاف حتى جعلوا ذلك من الأمور العجيبة، وقيل: هو إضراب عما يفهم من وصف القرآن بالمجيد كأنه قيل: ليس سبب امتناعهم من الإيمان بالقرآن أن لا مجد له ولكن لجهلهم، ونبه بقوله تعالى: بَلْ عَجِبُوا عليه لأن التعجب من الشيء يقتضي الجهل بسببه.
قال في الكشف: وهو وجه حسن، وأَنْ جاءَهُمْ بتقدير لأن جاءهم، ومعنى مِنْهُمْ من جنسهم أي من جنس البشر أو من العرب، وضمير الجمع في الآية عائد على الكفار، وقيل: عائد على الناس وليس بذاك.
وقوله تعالى: فَقالَ الْكافِرُونَ هذا شَيْءٌ عَجِيبٌ تفسير لتعجبهم وبيان لكونه مقارنا لغاية الإنكار مع زيادة تفصيل لمحل التعجب، وهذا إشارة إلى كونه عليه الصلاة والسلام منذرا بالقرآن وإضمارهم أولا للإشعار بتعينهم بما أسند إليهم، وإظهارهم ثانيا للتسجيل عليهم بالكفر بموجبه أو عطف لتعجبهم من البعث على تعجبهم من البعثة، وعطفه بالفاء لوقوعه بعده وتفرعه عليه لأنه إذا أنكر المبعوث أنكر ما بعث به أيضا، على أن هذا إشارة إلى مبهم وهو البعث يفسره ما بعده من الجملة الإنكارية، ودل عليه السياق أيضا لأنه دل على أن ثم منذرا به، ومعلوم أن إنذار الأنبياء عليهم الصلاة والسلام أول كل شيء بالبعث وما يتبعه.
ووضع المظهر موضع المضمر إما لسبق اتصافهم بما يوجب كفرهم وإما للإيذان بأن تعجبهم من البعث لدلالته على استقصارهم لقدرة الله سبحانه عنه مع معاينتهم لقدرته عز وجل على ما هو أشق منه في قياس العقل من مصنوعاته البديعة أشنع من الأول وأعرق في كونه كفرا، وقوله تعالى: أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً تقرير للتعجب وتأكيد للإنكار أو بيان لموضع تعجبهم، والعامل في إِذا مضمر غني عن البيان لغاية شهرته مع دلالة ما بعده عليه أي أحين نموت ونصير ترابا نرجع كما ينطق به النذير والمنذر به مع كمال التباين بيننا وبين الحياة حينئذ، وقوله سبحانه: ذلِكَ إشارة إلى محل النزاع وهو الرجع والبعث بعد الموت أي ذلك الرجع رَجْعٌ بَعِيدٌ أي عن الأوهام أو العادة أو الإمكان، وقيل: الرجع بمعنى المرجوع أي الجواب يقال هذا رجع رسالتك ومرجوعها ومرجوعتها أي جوابها، والإشارة عليه إلى أَإِذا مِتْنا إلخ، والجملة من كلام الله تعالى، والمعنى ذلك جواب بعيد منهم لمنذرهم، وناصب إِذا حينئذ ما ينبىء عنه المنذر من المنذر به وهو البعث أي أئذا متنا وكنا ترابا بعثنا، وقد يقال: إنه لما تقرر أن ذلك جواب منهم لمنذرهم فقد علم أنه أنذرهم بالبعث ليصلح ذلك جوابا له فهو دليل أيضا على المقدر، فالقول بأنه إذا كان

(13/323)


الرجع بمعنى المرجوع وهو الجواب لا يكون في الكلام دليل على ناصب إِذا مندفع. نعم هذا الوجه في نفسه بعيد بل قال أبو حيان: إنه مفهوم عجيب ينبو عن إدراكه فهم العرب.
وقرأ الأعرج وشيبة وأبو جعفر وابن وثاب والأعمش وابن عتبة عن ابن عامر «إذا» بهمزة واحدة على صورة الخبر فجاز أن يكون استفهاما حذفت منه الهمزة وجاز أن يكون خبرا، قال في البحر: وأضمر جواب إِذا أي إذا متنا وكنا ترابا رجعنا، وأجاز صاحب اللوامح أن يكون الجواب ذلك رجع بعيد على تقدير حذف الفاء، وقد أجاز ذلك بعضهم في جواب الشرط مطلقا إذا كان جملة اسمية، وقصره أصحابنا على الشعر في الضرورة.
قَدْ عَلِمْنا ما تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ أي ما تأكل من لحوم موتاهم وعظامهم وأشعارهم، وهو رد لاستبعادهم بإزاحة ما هو الأصل فيه وهو أن أجزاءهم تفرقت فلا تعلم حتى تعاد بزعمهم الفاسد، وقيل: ما تنقص الأرض منهم من يموت فيدفن في الأرض منهم، ووجه التعبير بما ظاهر والأول أظهر وهو المأثور عن ابن عباس. وقتادة، وقوله تعالى:
وَعِنْدَنا كِتابٌ حَفِيظٌ تعميم لعلمه تعالى أي وعندنا كتاب حافظ لتفاصيل الأشياء كلها ويدخل فيها أعمالهم أو محفوظ عن التغير، والمراد إما تمثيل علمه تعالى بكليات الأشياء وجزئياتها بعلم من عنده كتاب حفيظ يتلقى منه كل شيء أو تأكيد لعلمه تعالى بثبوتها في اللوح المحفوظ عنده سبحانه.
هذا وفي الآية إشارة إلى رد شبهة تمسك بها من يرى استحالة إعادة المعدوم وفي البعث لذلك بناء على أن أجزاء الميت تعدم ولا تتفرق فقط، وحاصلها أن الشيء إذا عدم ولم يستمر وجوده في الزمان الثاني ثم أعيد في الزمان الثالث لزم التحكم الباطل في الحكم بأن هذا الموجود المتأخر هو بعينه الموجود السابق لا موجود آخر مثله مستأنف إذ لما فقد هوية الموجود الأول لم يبق منه شيء من الموضوع والعوارض الشخصية حتى يكون الموجود الثاني مشتملا عليه ويكون مرجحا للحكم المذكور ويندفع التحكم.
وحاصل الرد أن الله تعالى عليم بتفاصيل الأشياء كلها يعلم كلياتها وجزئياتها على أتم وجه وأكمله. فللمعدوم صورة جزئية عنده سبحانه فهو محفوظ بعوارضه الشخصية في علمه تعالى البليغ على وجه يتميز به عن المستأنف فلا يلزم التحكم، ويكون ذلك نظير انحفاظ وحدة الصورة الخيالية فينا بعد غيبة المحسوس عن الحس كما إذا رأينا شخصا فغاب عن بصرنا ثم رأيناه ثانيا فإنا نحكم بأن هذا الشخص هو من رأيناه سابقا وهو حكم مطابق للواقع مبني على انحفاظ وحدة الصورة الخيالية قطعا ولا ينكره إلا مكابر، وقال بعض الأشاعرة: إن للمعدوم صورة جزئية حاصلة بتعلق صفة البصر من الموجد وهو الله تعالى، وليست تلك الصورة للمستأنف وجوده فإن صورته وإن كانت جزئية حقيقية أيضا إلا أنها لم تترتب على تعلق صفة البصر ولا شك أن المترتب على تعلق صفة البصر أكمل من غير المترتب عليه فبين الصورتين تمايز واضح، وإذا انحفظ وحدة الموجود الخارجي بالصور الجزئية الخيالية لنا فانحفاظها بالصورة الجزئية الحاصلة له تعالى بواسطة تعلق صفة البصر بالطريق الأولى انتهى، وهو حسن لكن لا تشير الآية إليه.
وأيضا لا يتم عند القائلين بعدم رؤية الله سبحانه المعدومات مطلقا إلا أن أولئك قائلون بثبوت هويات المعدومات متمايزة تمايزا ذاتيا حال العدم فلا ترد عليهم الشبهة السابقة، وقد يقال: إن صفة البصر ترجع إلى صفة العلم وتعلقاته مختلفة فيجوز أن يكون لعلمه تعالى تعلقا خاصا بالموجود الذي عدم غير تعلقه بالمستأنف في حال عدمه وبذلك يحصل الامتياز ويندفع التحكم، ويقال على مذهب الحكماء: إن صورة المعدوم السابق مرتسمة في القوى المنطبعة للأفلاك بناء على أن صور جميع الحوادث الجسمانية منطبعة فيها عندهم فله صورة خيالية جزئية محفوظة الوحدة الشخصية بعد فنائه بخلاف المستأنف إذ ليس تلك الصورة قبل وجوده وإنما له الصور الكلية في الأذهان العالية

(13/324)


والسافلة فإذا أوجدت تلك الصورة الجزئية كان معادا وإذا أوجدت هذه الصورة الكلية كان مستأنفا وربما يدعي الإسلامي المتفلسف في قوله تعالى: وَعِنْدَنا كِتابٌ حَفِيظٌ رمزا إلى ذلك، وللجلال الدواني كلام في هذا المقام لا يخلو عن نظر عند ذوي الأفهام، ثم إن البعث لا يتوقف على صحة إعادة المعدوم عند الأكثرين لأنهم لا يقولون إلا بتفرق أجزاء الميت دون انعدامها بالكلية، ولعل في قوله تعالى حكاية عن منكريه: «أئذا متنا وكنا ترابا» إشارة إلى ذلك،
وأخرج البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي عن أبي هريرة قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ليس من الإنسان شيء لا يبلى إلا عظم واحد وهو عجب الذنب منه يركب الخلق يوم القيامة»
وليس نصا في انعدام ما عدا العجب بالمرة لاحتمال أن يراد ببلا غيره من الأجزاء انحلالها إلى ما تركبت منه من العناصر وأما هو فيبقى على العظيمة وهو جزء صغير في العظم الذي في أسفل الصلب، ومن كلام الزمخشري العجب أمره عجب هو أول ما يخلق وآخر ما يخلق بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ إضراب أتبع الإضراب الأول للدلالة على أنهم جاؤوا بما هو أفظع من تعجبهم وهو التكذيب بالحق الذي هو النبوة الثابتة بالمعجزات في أول وهلة من غير تفكر ولا تدبر فكأنه بدل بداء من الأول فلا حاجة إلى تقدير ما أجادوا النظر بل كذبوا أو لم يكذب المنذر بل كذبوا، وكون التكذيب المذكور أفظع قيل: من حيث إن تكذيبهم بالنبوة تكذيب بالمنبأ به أيضا وهو البعث وغيره، وقيل: لأن إنكار النبوة في نفسه أفظع من إنكار البعث، وربما لا يتم عند القائلين بأن العقل مستقل بإثبات أصل الجزاء، على أن من الجائز أن يكونوا قد سمعوا بالبعث من أصحاب ملل أخرى بخلاف نبوته عليه الصلاة والسلام خاصة، وقيل: المراد بالحق الإخبار بالبعث ولا شك أن التكذيب أسوأ من التعجب وأفظع فهو إضراب عن تعجبهم بالمنذر والمنذر به إلى تكذيبهم، وقيل: المراد به القرآن والمضروب عنه عليه على ما قال الطيبي قوله تعالى: ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ وجعل كبدل البداء من الإضراب الأول على أنه إضراب عن حديث القرآن ومجده إلى التعجب من مجيء من أنذرهم بالبعث الذي تضمنه وإن هذا إضراب إلى التصريح بالتكذيب به ويتضمن ذلك إنكار جميع ما تضمنه كذا قيل فتأمل. وقرأ الجحدري لَمَّا بكسر اللام وتخفيف الميم فاللام توقيتية بمعنى عند نحوها في قولك: كتبه لخمس خلون مثلا، و (ما) مصدرية أي بل كذبوا بالحق عند مجيئه إياهم فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ مضطرب من مرج الخاتم في إصبعه إذا قلق من الهزال، والإسناد مجازي كما فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ [الحاقة: 21] مبالغة بجعل المضطرب الأمر نفسه وهو في الحقيقة صاحبه، وذلك نفيهم النبوة عن البشر بالكلية تارة وزعمهم أن اللائق بها أهل الجاه والمال كما ينبىء عنه قولهم: لَوْلا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ [الزخرف: 31] تارة أخرى وزعمهم أن النبوة سحر مرة وأنها كهانة أخرى حيث قالوا في النبي عليه الصلاة والسلام مرة ساحر ومرة كاهن أو هو اختلاف حالهم ما بين تعجب من البعث واستبعاد له وتكذيب وتردد فيه أو قولهم في القرآن هو شعر تارة وهو سحر أخرى إلى غير ذلك أَفَلَمْ يَنْظُرُوا أي أغفلوا أو عموا فلم ينظروا حين كفروا بالبعث إِلَى السَّماءِ فَوْقَهُمْ بحيث يشاهدونها كل وقت، قيل: وهذا ظاهر على ما هو المعروف بين الناس من أن المشاهد هو السماء التي هي الجرم المخصوص الذي يطوى يوم القيامة وقد وصف في الآيات والأحاديث بما وصف. وأما على ما ذهب إليه الفلاسفة من أن المشاهد إنما هو كرة البخار أو هواء ظهر بهذا اللون ولا لون له حقيقة ودون ذلك الجرم ففيه خفاء، وقال بعض الأفاضل في هذا المقام: إن ظواهر الآيات والأخبار ناطقة بأن السماء مرئية، وما ذكره الفلاسفة المتقدمون من أن الأفلاك أجرام صلبة شفافة لا ترى غير مسلم أصلا، وكذا كون السموات السبع هي الأفلاك السبعة غير مسلم عند المحققين، وكذا وجود كرة البخار وأن ما بين السماء والأرض هواء مختلف الأجزاء في اللطافة فكلما علا كان ألطف حتى أنه ربما لا يصلح للتعيش ولا يمنع خروج الدم من المسام الدقيقة جدا لمن وصل إليه، وإن رؤية الجو بهذا اللون لا ينافي رؤية السماء حقيقة وإن لم تكن في نفسها

(13/325)


ملونة به ويكون ذلك كرؤية قعر البحر أخضر من وراء مائه ونحو ذلك مما يرى بواسطة شيء على لون وهو في نفسه على غير ذلك اللون، بل قيل: إن رؤية السماء مع وجود كرة البخار على نحو رؤية الأجرام المضيئة كالقمر وغيره.
وأنت تعلم أن الأصحاب مع الظواهر حتى يظهر دليل على امتناع ما يدل عليه وحينئذ يؤولونها، وأن التزام التطبيق بين ما نطقت به الشريعة وما قاله الفلاسفة مع إكذاب بعضه بعضا أصعب من المشي على الماء أو العروج إلى السماء، وأنا أقول: لا بأس بتأويل ظاهر تأويلا قريبا لشيء من الفلسفة إذا تضمن مصلحة شرعية ولم يستلزم مفسدة دينية، وأرى الإنصاف من الدين، ورد القول احتقارا لقائله غير لائق بالعلماء المحققين، هذا وحمل بعض السَّماءِ هاهنا على جنس الأجرام العلوية وهو كما ترى، والظاهر أنها الجرم المخصوص وأنها السماء الدنيا أي أفلم ينظروا إلى السماء الدنيا كَيْفَ بَنَيْناها أحكمناها ورفعناها بغير عمد وَزَيَّنَّاها للناظرين بالكواكب المرتبة على أبدع نظام وَما لَها مِنْ فُرُوجٍ أي من فتوق وشقوق، والمراد سلامتها من كل عيب وخلل فلا ينافي القول بأن لها أبوابا. وزعم بعضهم أن المراد متلاصقة الطباق وهو ينافي ما ورد في الحديث من أن بين كل سماء وسماء مسيرة خمسمائة عام، ولعل تأخير هذا لمراعاة الفواصل.
وقيل هاهنا أَفَلَمْ يَنْظُرُوا بالفاء وفي موضع آخر أَوَلَمْ يَنْظُرُوا [الأعراف: 185] بالواو لسبق إنكار الرجع فناسب التعقيب بما يشعر بالاستدلال عليه، وجيء بالنظر دون الرؤية كما في الأحقاف استبعادا لاستبعادهم فكأنه قيل:
النظر كاف في حصول العلم بإمكان الرجع ولا حاجة إلى الرؤية قاله الإمام، واحتج بقوله سبحانه ما لَها مِنْ فُرُوجٍ للفلاسفة على امتناع الخرق، وأنت تعلم أن نفي الشيء لا يدل على امتناعه، على أنك قد سمعت المراد بذلك، ولا يضر كونه ليس معنى حقيقيا لشيوعه وَالْأَرْضَ مَدَدْناها بسطناها وهو لا ينافي كريتها التامة أو الناقصة من جهة القطبين لمكان العظم وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ جبالا ثوابت تمنعها من الميد كما يدل عليه قوله تعالى في آية أخرى:
رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ [النحل: 15، لقمان: 10] وهو ظاهر في عدم حركة الأرض، وخالف في ذلك بعض الفلاسفة المتقدمين وكل الفلاسفة الموجودين اليوم، ووافقهم بعض المغاربة من المسلمين فزعموا أنها تتحرك بالحركة اليومية بما فيها من العناصر وأبطلوا أدلة المتقدمين العقلية على عدم حركتها، وهل يكفر القائل بذلك الذي يغلب على الظن لا وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ صنف بَهِيجٍ حسن يبهج ويسر من نظر إليه تَبْصِرَةً وَذِكْرى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ راجع إلى ربه، وهو مجاز عن التفكر في بدائع صنعه سبحانه بتنزيل التفكر في المصنوعات منزلة الرجوع إلى صانعها، وتَبْصِرَةً وَذِكْرى علتان للأفعال السابقة معنى وان انتصبا بالفعل الأخير أو لفعل مقدر بطريق الاستئناف أي فعلنا ما فعلنا تبصيرا وتذكيرا، وقال أبو حيان: منصوبان على المصدرية لفعل مقدر من لفظهما أي بصرنا وذكرنا والأول أولى.
وقرأ زيد بن علي «تبصرة وذكرى» بالرفع على معنى خلقهما تبصرة وذكرى، وقوله تعالى: وَنَزَّلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً مُبارَكاً أي كثير المنافع شروع في بيان كيفية ما ذكر من إنبات كل زوج بهيج، وهو عطف على أَنْبَتْنا وما بينهما على الوجهين الأخيرين اعتراض مقرر لما قبله ومنبه على ما بعده فَأَنْبَتْنا بِهِ أي بذلك الماء جَنَّاتٍ كثيرة كما يقتضيه المقام أي أشجارا ذات ثمار وَحَبَّ الْحَصِيدِ أي حب الزرع الذي من شأنه أن يحصد من البر والشعير وأمثالهما، فالإضافة لما بينهما من الملابسة، والْحَصِيدِ بمعنى المحصود صفة لموصوف مقدر كما أشرنا إليه فليس من قبيل مسجد الجامع ولا من مجاز الأول كما توهم، وتخصيص إنبات حبه بالذكر لأنه المقصود بالذات وَالنَّخْلَ عطف على جَنَّاتٍ وهي اسم جنس تؤنث وتذكر وتجميع، وتخصيصها بالذكر مع اندراجها في

(13/326)


الجنات لبيان فضلها على سائر الأشجار، وتوسيط الحب بينهما لتأكيد استقلالها وامتيازها عن البقية مع ما فيه من مراعاة الفواصل باسِقاتٍ أي طوالا أو حوامل من أبسقت الشاة إذا حملت فيكون على هذا من أفعل فهو فاعل، والقياس مفعل فهو من النوادر كالطوائح واللواقح في أخوات لها شاذة ويافع من أيفع وباقل من أبقل، ونصبه على أنه حال مقدرة.
وروى قطبة بن مالك عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قرأ «باصقات»
بالصاد وهي لغة لبني العنبر يبدلون من السين صادا إذا وليتها أو فصل بحرف أو حرفين خاء معجمة أو عين مهملة أو طاء كذلك أوقاف لَها طَلْعٌ نَضِيدٌ منضود بعضه فوق بعض، والمراد تراكم الطلع أو كثرة ما فيه من مادة الثمر، والجملة حال من النخل كباسقات بطريق الترادف أو من ضميرها في باسِقاتٍ على التداخل، وجوز أن يكون الحال هو الجار والمجرور وطَلْعٌ مرتفع به على الفاعلية، وقوله تعالى: رِزْقاً لِلْعِبادِ أي ليرزقهم علة لقوله تعالى: فَأَنْبَتْنا وفي تعليله بذلك بعد تعليل أَنْبَتْنا الأول بالتبصير والتذكير تنبيه على أن اللائق بالعبد أن يكون انتفاعه بذلك من حيث التذكر والاستبصار أقدم وأهم من تمتعه به من حيث الرزق، وجوز أن يكون رِزْقاً مصدرا من معنى أَنْبَتْنا لأن الإنبات رزق فهو من قبيل قعدت جلوسا، وأن يكون حالا بمعنى مرزوقا وَأَحْيَيْنا بِهِ أي بذلك الماء بَلْدَةً مَيْتاً أرضا جدبة لا نماء فيها بأن جعلناها بحيث ربت أو أنبتت وتذكير مَيْتاً لأن البلدة بمعنى البلد والمكان، وقرأ أبو جعفر. وخالد «ميّتا» بالتثقيل كَذلِكَ الْخُرُوجُ جملة قدم فيها الخبر للقصد إلى القصر وذلك إشارة إلى الحياة المستفادة من الإحياء، وما فيه من معنى البعد إشعار ببعد الرتبة أي مثل تلك الحياة البديعة حياتكم بالبعث من القبور لا كشيء مخالف لها، وفي التعبير عن إخراج النبات من الأرض بالإحياء وعن إحياء الموتى بالخروج تفخيم لشأن الإنبات وتهوين لأمر البعث وتحقيق للمماثلة بين إخراج النبات وإحياء الموتى لتوضيح منهاج القياس وتقريبه إلى إفهام الناس، وجوز أن يكون الكاف في محل رفع على الابتداء الْخُرُوجُ خبر، ونقل عن الزمخشري أنه قال: كَذلِكَ الخبر وهو الظاهر، ولكونه مبتدأ وجه وهو أن يقال: ذلك الخروج مبتدأ وخبر على نحو أبو يوسف أبو حنيفة، والكاف واقع موقع مثل في قولك: مثل زيد أخوك ولا يخفى أنه تكلف.
وقوله تعالى: كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ إلى آخره استئناف وارد لتقرير حقية البعث ببيان اتفاق كافة الرسل عليهم الصلاة والسلام عليها وتكذيب منكريها، وفي ذلك أيضا تسلية للنبي صلّى الله عليه وسلّم وتهديد للكفرة، وَأَصْحابُ الرَّسِّ هو البئر التي لم تبن، وقيل: هو واد وأصحابه قيل: هم ممن بعث إليهم شعيب عليه السلام، وقيل: قوم حنظلة ابن صفوان وَثَمُودُ وَعادٌ وَفِرْعَوْنُ أريد هو وقومه ليلائم ما قبله وما بعده، وهذا كما تسمى القبيلة تميما مثلا باسم أبيها وَإِخْوانُ لُوطٍ قيل: كانوا من أصهاره عليه السلام. فليس المراد الأخوة الحقيقية من النسب وَأَصْحابُ الْأَيْكَةِ قيل: هم قوم بعث إليهم شعيب عليه السلام غير أهل مدين كانوا يسكنون أيكة وهي الغبطة فسموا بها وَقَوْمُ تُبَّعٍ الحميري وكان مؤمنا وقومه كفرة ولذا لم يذم وهو ذم قومه، وقد سبق في الحجر. والدخان. والفرقان تمام الكلام فيما يتعلق بما في هذه الآية.
كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ أي فيما أرسلوا به من الشرائع التي من جملتها البعث الذي أجمعوا عليه قاطبة أي كل قوم من الأقوام المذكورين كذبوا رسولهم أو كذب كل هؤلاء جميع رسلهم، وإفراد الضمير باعتبار لفظ الكل أو كل واحد منهم كذب جميع الرسل لاتفاقهم على الدعوة إلى التوحيد والإنذار بالبعث والحشر فتكذيب واحد منهم تكذيب للكل، والمراد بالكلية التكثير كما في قوله تعالى: وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ [النمل: 23] وإلا فقد آمن من آمن من قوم نوح وكذا من غيرهم، ثم ما ذكر على تقدير رسالة تبع ظاهر ثم على تقدير عدمها وعليه الأكثر فمعنى

(13/327)


تكذيب وقومه الرسل عليهم السلام تكذيبهم بما قبل من الرسل المجتمعين على التوحيد والبعث، وإلى ذلك كان يدعوهم تبع.
فَحَقَّ وَعِيدِ أي فوجب وحل عليهم وعيدي وهي كلمة العذاب أَفَعَيِينا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ استئناف مقرر لصحة البعث الذي حكيت أحوال المنكرين له من الأمم المهلكة، والعي بالأمر العجز عنه لا التعب، قال الكسائي:
تقول أعييت من التعب وعييت من انقطاع الحيلة والعجز عن الأمر، وهذا هو المعروف والأفصح وإن لم يفرق بينهما كثير، والهمزة للإنكار والفاء للعطف على مقدر ينبىء عنه العي من القصد والمباشرة كأنه قيل: أقصدنا الخلق الأول وهو الإبداء فعجزنا عنه حتى يتوهم عجزنا من الإعادة، وجوز الإمام أن يكون المراد بالخلق الأول خلق السماء والأرض ويدل عليه قوله سبحانه: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ [الأحقاف:
33] ويؤيده قوله تعالى بعد: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ إلخ وهو كما ترى، وعن الحسن «الخلق الأول» آدم عليه السلام وليس بالحسن، وقرأ ابن أبي عبلة. والوليد بن مسلم. والقورصي عن أبي جعفر والسمسار عن شيبة وأبو بحر عن نافع «أفعيّنا» بتشديد الياء وخرجت على لغة من أدغم الياء في الياء في الماضي فقال: عي في عي وحي في حي فلما أدغم ألحقه ضمير المتكلم المعظم نفسه ولم يفك الإدغام فقال: عينا وهي لغة لبعض بكر بن وائل في رددت ورددنا ردت وردنا فلا يفكون، وعلى هذه اللغة تكون الياء المشددة مفتوحة ولو كانت «نا» ضمير نصب فالعرب جميعهم على الإدغام نحو ردنا زيد بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ عطف على مقدر يدل عليه ما قبله كأنه قيل: إنهم معترفون بالأول غير منكرين قدرتنا عليه فلا وجه لإنكارهم الثاني بل هم في خلط وشبهة في خلق مستأنف وإنما نكر الخلق ووصف بجديد ولم يقل: من الخلق الثاني تنبيها على مكان شبهتهم واستبعادهم العادي بقوله سبحانه: جَدِيدٍ وأنه خلق عظيم يجب أن يهتم بشأنه فله نبأ أي نبأ، والتعظيم ليس راجعا إلى الخلق من حيث هو.
هو- حتى يقال: إنه أهون من الخلق الأول بل إلى ما يتعلق بشأن المكلف وما يلاقيه بعده وهو- هو- وقال بعض المحققين: نكر لأنه لاستبعاده عندهم كان أمرا عظيما، وجوز أن يكون التنكير للإبهام إشارة إلى أنه خلق على وجه لا يعرفه الناس، وأورد الشيخ الأكبر قدس سره هذه الآية في معرض الاستدلال على تجدد الجواهر كالتجدد الذي يقوله الأشعري في الإعراض فكل منهما عند الشيخ لا يبقى زمانين، ويفهم من كلامه قدس سره أن ذلك مبني على القول بالوحدة وأنه سبحانه كل يوم هو في شأن، ولعمري أن الآية بمعزل عما يقول: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ وَنَعْلَمُ ما تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ أي ما تحدثه به وهو ما يخطر بالبال، والوسوسة الصوت الخفي ومنه وسواس الحلي، وضمير بِهِ لما وهي موصولة والباء صلة تُوَسْوِسُ وجوز أن تكون للملابسة أو زائدة وليس بذاك، ويجوز أن تكون ما مصدرية والضمير للإنسان والباء للتعدية على معنى أن النفس تجعل الإنسان قائما به الوسوسة فالمحدث هو الإنسان لأن الوسوسة بمنزلة الحديث فيكون نظير حدث نفسه بكذا وهم يقولون ذلك كما يقولون حدثته نفسه بكذا قال لبيد:
وأكذب النفس إذا حدثتها ... إن صدق النفس يزري بالأمل
وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ أي نعلم به وبأحواله لا يخفى علينا شيء من خفياته على أنه أطلق السبب وأريد المسبب لأن القرب من الشيء في العادة سبب العلم به وبأحواله أو الكلام من باب التمثيل ولا مجال لحمله على القرب المكاني لتنزهه سبحانه عن ذلك، وكلام أهل الوحدة مما يشق فهمه على غير ذوي الأحوال، وحَبْلِ الْوَرِيدِ مثل في فرط القرب كقولهم: مقعد القابلة ومعقد الإزار قال ذو الرمة على ما في الكشاف:

(13/328)


والموت أدنى لي من حبل الوريد والحبل معروف والمراد به هنا العرق لشبهه به وإضافته إلى الوريد وهو عرق مخصوص كما ستعرفه للبيان كشجر الأراك أو لامية كما في غيره من إضافة العام إلى الخاص فإن أبقى الحبل على حقيقته فإضافته كما في لجين الماء، والْوَرِيدِ عرق كبير في العنق وعن الأثرم أنه نهر الجسد ويقال له في العنق الوريد وفي القلب الوتين وفي الظهر الأبهر وفي الذراع والفخذ الأكحل والنسا وفي الخنصر الأسلم.
والمشهور أن في كل صفحة من العنق عرقا يقال له وريد. ففي الكشاف الوريدان عرقان مكتنفان لصفحتي العنق في مقدمها متصلان بالوتين يردان بحسب المشاهدة من الرأس إليه فالوريد فعيل بمعنى فاعل، وقيل: هو بمعنى مفعول لأن الروح الحيواني يرده ويشير إلى هذا قول الراغب: الوريد عرق متصل بالكبد والقلب وفيه مجاري الروح، وقال في الآية: أي نحن أقرب إليه من روحه، وحكي ذلك عن بعضهم أيضا إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيانِ هما الملكان الموكلان بكل إنسان يكتبان أعماله والتلقي التلقن بالحفظ والكتبة، وإِذْ قيل: ظرف. لا قرب. وأفعل التفضيل يعمل في الظروف لأنه يكفيها رائحة الفعل وإن لم يكن عاملا في غيرها فاعلا أو مفعولا به أي هو سبحانه أعلم بحال الإنسان من كل قريب حين يتلقى المتلقيان الحفيظان ما يتلفظ به، وفيه إيذان بأنه عز وجل غني عن استحفاظ الملكين فإنه تعالى شأنه أعلم منهما ومطلع على ما يخفى عليهما لكن الحكمة اقتضته، وهو ما في كتبة الملكين وحفظهما وعرض صحائفهما يوم يقوم الاشهاد، وعلم العبد بذلك مع علمه بإحاطة الله تعالى بعمله من زيادة لطف في الانتهاء عن السيئات والرغبة في الحسنات، وجوز أن تكون إِذْ لتعليل القرب، وفيه أن تعليل قربه عز وجل العلمي باطلاع الحفظة الكتبة بعيد، واختار بعضهم كونها مفعولا به لأذكر مقدرا لبقاء الأقربية على إطلاقها ولأن أفعل التفضيل ضعيف في العمل وإن كان لا مانع من عمله في الظرف والكلام مسوق لتقرير قدرته عز وجل وإحاطة علمه سبحانه وتعالى فتأمل عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ قَعِيدٌ أي عن اليمين قعيد وعن الشمال قعيد فحذف من الأول لدلالة الثاني عليه، ومنه قوله:
رماني بأمر كنت منه ووالدي ... بريئا ومن أجل الطويّ رماني
وقال المبرد: إن التقدير عن اليمين قعيد وعن الشمال فأخر قعيد عن موضعه، والقعيد عليهما فعيل بمعنى مفاعل كجليس بمعنى مجالس ونديم بمعنى منادم، وذهب الفراء إلى أن قعيدا يدل على الاثنين والجمع، وقد أريد منه هنا الاثنان فلا حذف ولا تقديم ولا تأخير. واعترض بأن فعيلا يستوي فيه ذلك إذا كان بمعنى مفعول وهذا بمعنى فاعل ولا يصح فيه ذلك إلا بطريق الحمل على فعيل بمعنى مفعول، واختلف في تعيين محل قعودهما فقيل: هما على الناجذين،
فقد أخرج أبو نعيم والديلمي عن معاذ بن جبل مرفوعا «إن الله لطف بالملكين الحافظين حتى أجلسهما على الناجذين وجعل لسانه قلمهما وريقه مدادهما»
وقيل: على العاتقين، وقيل: على طرفي الحنك عند العنفقة وفي البحر أنهم اختلفوا في ذلك ولا يصح فيه شيء، وأنا أقول أيضا لم يصح عندي أكثر مما أخبر الله تعالى به من أنهما عن اليمين وعن الشمال قعيدان، وكذا لم يصح خبر قلمهما ومدادهما وأقول كما قال اللقاني بعد أن استظهر أن الكتب حقيقي:
علم ذلك مفوض إلى الله عز وجل، وأقول الظاهر إنهما في سائر أحوال الإنسان عن يمينه وعن شماله.
وأخرج ابن المنذر. وغيره عن ابن عباس أنه قال: إن قعد فاحدهما عن يمينه والآخر عن يساره وإن مشى فاحدهما أمامه والآخر خلفه وإن رقد فأحدهما عند رأسه والآخر عند رجليه ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ ما يرمي به من فيه خيرا كان أو شرا، وقرأ محمد بن أبي معدان «ما يلفظ» بفتح الفاء إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ ملك يرقب قوله ويكتبه فإن كان

(13/329)


خيرا فهو صاحب اليمين وإن كان شرا فهو صاحب الشمال عَتِيدٌ معد مهيأ لكتابة ما أمر به من الخير أو الشر، وتخصيص القول بالذكر لإثبات الحكم في الفعل بدلالة النص واختلف فيما يكتبانه فقال الإمام مالك. وجماعة:
يكتبان كل شيء حتى الأنين في المرض، وفي شرح الجوهرة للقاني مما يجب اعتقاده أن لله تعالى ملائكة يكتبون أفعال العباد من خير أو شر أو غيرهما قولا كانت أو عملا أو اعتقادا هما كانت أو عزما أو تقريرا اختارهم سبحانه لذلك فهم لا يهملون من شأنهم شيئا فعلوه قصدا وتعمدا أو ذهولا ونسيانا صدر منهم في الصحة أو في المرض كما رواه علماء النقل والرواية انتهى. وفي بعض الآثار ما يدل على أن الكلام النفسي لا يكتب، أخرج البيهقي في الشعب عن حذيفة بن اليمان أن للكلام سبعة أغلاق إذا خرج منها كتب وإن لم يخرج لم يكتب القلب واللها واللسان والحنكان والشفتان، وذهب بعضهم إلى أن المباح لا يكتبه أحد منهما لأنه لا ثواب فيه ولا عقاب والكتابة للجزاء فيكون مستثنى حكما من عموم الآية وروي ذلك عن عكرمة.
وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر والحاكم وصححه وابن مردويه من طريقه عن ابن عباس أنه قال: إنما يكتب الخير والشر لا يكتب يا غلام أسرج الفرس ويا غلام اسقني الماء، وقال بعضهم: يكتب كل ما صدر من العبد حتى المباحات فإذا عرضت أعمال يومه محي منها المباحات وكتب ثانيا ماله ثواب أو عقاب وهو معنى قوله تعالى: يَمْحُوا اللَّهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ [الرعد: 39] وقد أشار السيوطي إلى ذلك في بعض رسائله وجعل وجها للجمع بين القولين القول بكتابة المباح والقول بعدمها وقد روي نحوه عن ابن عباس. أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عنه أنه قال في الآية: يكتب كل ما تكلم به من خير أو شر حتى أنه ليكتب قوله: أكلت وشربت ذهبت جئت رأيت حتى إذا كان يوم الخميس عرض قوله وعمله فأقر منه ما كان من خير أو شر وألقى سائره فذلك قوله تعالى: يَمْحُوا اللَّهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ ثم إن المباح على القول بكتابته يكتبه ملك الشمال على ما يشعر به. ما أخرجه ابن أبي شيبة. والبيهقي في شعب الإيمان من طريق الأوزاعي عن حسان بن عطية أن رجلا كان على حمار فعثر به فقال: تعست فقال صاحب اليمين: ما هي بحسنة فاكتبها وقال صاحب الشمال ما هي بسيئة فاكتبها فنودي صاحب الشمال إن ما تركه صاحب اليمين فاكتبه، وجاء في بعض الأخبار أن صاحب اليمين أمين على صاحب الشمال،
وقد أخرج ذلك الطبراني وابن مردويه. والبيهقي في الشعب من حديث أبي أمامة مرفوعا، وفيه «فإذا عمل العبد حسنة كتبت له بعشر أمثالها وإذا عمل سيئة وأراد صاحب الشمال أن يكتبها قال صاحب اليمين أمسك فيمسك ست ساعات أو سبع ساعات فإن استغفر الله تعالى منها لم يكتب عليه منها شيئا وإن لم يستغفر الله تعالى كتبت عليه سيئة واحدة»
ومثل الاستغفار كما نص عليه فعل طاعة مكفرة في حديث آخر أن صاحب اليمين يقول: دعه سبع ساعات لعله يسبح أو يستغفر، وظاهر الآية عموم الحكم للكافر فمعه أيضا ملكان يكتبان ما له وما عليه من أعماله وقد صرح بذلك غير واحد وذكروا أن ما له الطاعات التي لا تتوقف على نية كالصدقة وصلة الرحم وما عليه كثير لا سيما على القول بتكليفه بفروع الشريعة.
وفي شرح الجوهرة الصحيح كتب حسنات الصبي وإن كان المجنون لا حفظة عليه لأن حاله ليست متوجهة للتكليف بخلاف الصبي وظاهر الآية شمول الحكم له وتردد الجزولي في الجن والملائكة أعليهم حفظة أم لا ثم جزم بأن على الجن حفظة وأتبعه القول بذلك في الملائكة عليهم السلام، قال اللقاني بعد نقله: ولم أقف عليه في الجن لغيره ويفهم منه أنه وقف عليه في الملائكة لغيره ولعله ما حكي عن بعضهم أن المراد بالروح في قوله تعالى: تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ [القدر: 4] الحفظة على الملائكة، ويحتاج دعوى ذلك فيهم وفي الجن إلى نقل.
وأما اعتراض القول به في الملائكة بلزوم التسلسل فمدفوع بما لا يخفى على المتأمل ثم إن بعضهم استظهر في

(13/330)


الملكين اللذين مع الإنسان كونهما ملكين بالشخص لا بالنوع لكل إنسان يلزمانه إلى مماته فيقومان عند قبره يسبحان الله تعالى ويحمدانه ويكبرانه ويكتبان ثواب ذلك لصاحبهما إن كان مؤمنا.
أخرج أبو الشيخ في العظمة، والبيهقي في شعب الإيمان عن أنس أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «إن الله تعالى وكل بعبده المؤمن ملكين يكتبان عمله فإذا مات قال الملكان اللذان وكّلا به: قد مات فأذن لنا أن نصعد إلى السماء فيقول الله تعالى: سمائي مملوءة من ملائكتي يسبحوني فيقولان: أنقيم في الأرض؟ فيقول الله تعالى: أرضي مملوءة من خلقي يسبحوني فيقولان فأين؟ فيقول: قوما على قبر عبدي فسبحاني واحمداني وكبراني واكتبا ذلك لعبدي إلى يوم القيامة، وجاء أنهما يلعنانه إلى يوم القيامة إن كان كافرا.
وقال الحسن: الحفظة أربعة اثنان بالنهار واثنان بالليل وهو يحتمل التبدل بأن يكون في كل يوم وليلة أربعة غير الأربعة التي في اليوم والليلة قبلهما وعدمه.
وقال بعضهم: إن ملك الحسنات يتبدل تنويها بشأن الطائع وملك السيئات لا يتبدل سترا على العاصي في الجملة، والظاهر أنهما لا يفارقان الشخص وقالوا: يفارقانه عند الجماع ودخول الخلاء، ولا يمنع ذلك من كتبهما ما يصدر عنه في تلك الحال، ولهما علامة للحسنة والسيئة بدنيتين كانتا أو قلبيتين، وبعض الأخبار ظاهرة في أن ما في النفس لا يكتب،
أخرج ابن المبارك. وابن أبي الدنيا في الإخلاص. وأبو الشيخ في العظمة عن ضمرة بن حبيب قال:
«قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: إن الملائكة يصعدون بعمل العبد من عباد الله تعالى فيكثرونه ويزكونه حتى ينتهوا به حيث شاء الله تعالى من سلطانه فيوحي الله تعالى إليهم إنكم حفظة على عمل عبدي وأنا رقيب على ما في نفسه إن عبدي هذا لم يخلص لي عمله فاجعلوه في سجين قال: ويصعدون بعمل العبد من عباد الله تعالى فيستقلونه ويحتقرونه حتى ينتهوا به حيث شاء الله تعالى من سلطانه فيوحي الله تعالى إليهم إنكم حفظة على عمل عبدي وأنا رقيب على ما في نفسه فضاعفوه له واجعلوه في عليين»
وجاء من حديث عبد الله بن أحمد في زوائد الزهد عن أبي عمران الجوني أنه ينادي الملك اكتب لفلان بن فلان كذا وكذا أي من العمل الصالح فيقول: يا رب انه لم يعمله فيقول: سبحانه وتعالى إنه نواه، وقد يقال: إنهما يكتبان ما في النفس ما عدا الرياء والطاعات المئوية
جمعا بين الأخبار، وجاء أنه يكتب للمريض والمسافر مثل ما كان يعمل في الصحة والإقامة من الحسنات.
أخرج ابن أبي شيبة والدارقطني في الافراد والطبراني والبيهقي في الشعب عن عبد الله بن عمرو قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ما من أحد من المسلمين يبتلى ببلاء في جسده إلا أمر الله تعالى الحفظة فقال: اكتبوا لعبدي ما كان يعمل وهو صحيح ما دام مشدودا في وثاقي»
وأخرج ابن أبي شيبة عن أبي موسى قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من مرض أو سافر كتب الله تعالى له ما كان يعمل صحيحا مقيما»
وفي بعض الآثار ما يدل على أن بعض الطاعات يكتبها غير هذين الملكين، ثم إن الملائكة الذين مع الإنسان ليسوا محصورين بالملكين الكاتبين، فعن عثمان أنه سأل النبي صلّى الله عليه وسلم كم ملك على الإنسان؟ فذكر عشرين ملكا قاله المهدوي في الفيصل، وذكر بعضهم أن المعقبات في قوله تعالى:
لَهُ مُعَقِّباتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ [الرعد: 11] غير الكاتبين بلا خلاف، وحكى اللقاني عن ابن عطية أن كل آدمي يوكل به من حين وقوعه نطفة في الرحم إلى موته أربعمائة ملك، والله تعالى أعلم بصحة ذلك.
وروى ابن المنذر. وأبو الشيخ في العظمة عن ابن المبارك أنه قال: وكل بالعبد خمسة أملاك ملكان بالليل وملكان بالنهار يجيئان ويذهبان وملك خامس لا يفارقه لا ليلا ولا نهارا، وقوله تعالى:
وَجاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ إلى آخره كلام وارد بعد تتميم العرض من إثبات ما أنكروه من البعث بأبين

(13/331)


دليل وأوضحه دال على أن هذا المنكر أنتم لا قوه فخذوا حذركم، والتعبير بالماضي هنا وفيما بعد لتحقق الوقوع، وسَكْرَةُ الْمَوْتِ شدته مستعارة من الحالة التي تعرض بين المرء وعقله بجامع أن كلا منهما يصيب العقل بما يصيب، وجوز أن يشبه الموت بالشراب على طريق الاستعارة المكنية ويجعل إثبات السكرة له تخييلا، وليس بذاك، والباء إما للتعدية كما في قولك: جاء الرسول بالخبر، والمعنى أحضرت سكرة الموت حقيقة الأمر الذي نطقت به كتب الله تعالى ورسله عليهم الصلاة والسلام، وقيل: حقيقة الأمر وجلية الحال من سعادة الميت وشقاوته، وقيل:
بالحق الذي ينبغي أن يكون من الموت والجزاء فإن الإنسان خلق له، وإما للملابسة كما في قوله تعالى: تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ [المؤمنون: 20] أي ملتبسة بالحق أي بحقيقة الأمر، وقيل: بالحكمة والغاية الجميلة، وقرىء «سكرة الحق بالموت» والمعنى أنها السكرة التي كتبت على الإنسان بموجب الحكمة وأنها لشدتها توجب زهوق الروح أو تستعقبه، وقيل: الباء بمعنى مع، وقيل: سكرة الحق سكرة الله تعالى على أن (الحق) من أسمائه عز وجل، والإضافة للتهويل لأن ما يجيء من العظيم عظيم. وقرأ ابن مسعود سكرات الموت جمعا، ويوافق ذلك ما
أخرج البخاري. والترمذي والنسائي وابن ماجه عن عائشة «أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان بين يديه ركوة أو علبة فيها ماء فجعل يدخل يديه في الماء فيمسح بهما وجهه ويقول: لا إله إلا الله إن للموت سكرات»
وجاء في حديث صححه الحاكم عن القاسم بن محمد عن عائشة أيضا قالت: «لقد رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهو بالموت وعنده قدح فيه ماء وهو يدخل يده القدح ثم يمسح وجهه بالماء ثم يقول: اللهم أعني على سكرات الموت»
ذلِكَ أي الحق ما كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ أي تميل وتعدل، فالإشارة إلى الحق والخطاب للفاجر لا للإنسان مطلقا والإشارة إلى الموت لأن الكلام في الكفرة، وإنما جيء بقوله تعالى وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ لإثبات العلم بجزئيات أحواله وتضمين شبه وعيد لهؤلاء إدماجا والتخلص منه إلى بيان أحواله في الآخرة ولأن قوله سبحانه وتعالى: لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ إلخ يناسب خطاب هؤلاء، وكذلك ما يعقبه على ما لا يخفى.
وأما حديث مقابليهم فقد أخذ فيه حيث قال عز وجل: وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ [ق: 31] الآيات، وقال بعض الأجلة: الإشارة إلى الموت والخطاب للإنسان الشامل للبر والفاجر والنفرة عن الموت شاملة لكل من أفراده طبعا.
وقال الطيبي: إن كان قوله تعالى: وَجاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ متصلا بقوله سبحانه: بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ وقوله تعالى: كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ [القمر: 9] فالمناسب أن يكون المشار إليه الحق والخطاب للفاجر، وإن كان متصلا بقوله تعالى: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فالمناسب أن يكون المشار إليه الموت والخطاب للجنس وفيه البر والفاجر، والالتفات لا يفارق الوجهين، والثاني هو الوجه لقوله تعالى بعد ذلك: وَجاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ إلخ، وتفصيله بقوله تعالى: أَلْقِيا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ [ق: 24] . وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ وفيه ما يعلم مما قدمنا. وحكى في الكشاف عن بعضهم أنه سأل زيد بن أسلم عن ذلك فقال: الخطاب لرسول الله صلّى الله عليه وسلم فحكاه لصالح بن كيسان فقال: والله ما من عالية ولا لسان فصيح ولا معرفة بكلام العرب هو للكافر، ثم حكاهما للحسين بن عبد الله بن عبيد الله بن عباس فقال: أخالفهما جميعا هو للبر والفاجر، وكأن هذه المخالفة لنحو ما سمعت عن الطيبي. وفي بعض الآثار ما يؤيد القول بالعموم
أخرج ابن سعد عن عروة قال: لما مات الوليد بكت أم سلمة فقالت:
يا عين فابكي الوليد بن الوليد بن المغيرة ... كان الوليد بن الوليد أبو الوليد فتى العشيرة
فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: لا تقولي هكذا يا أم سلمة ولكن قولي: وَجاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذلِكَ ما كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ

(13/332)


وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ (20) وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ (21) لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ (22) وَقَالَ قَرِينُهُ هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ (23) أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ (24) مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُرِيبٍ (25) الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَأَلْقِيَاهُ فِي الْعَذَابِ الشَّدِيدِ (26) قَالَ قَرِينُهُ رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ وَلَكِنْ كَانَ فِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ (27) قَالَ لَا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ (28) مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (29) يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ (30) وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ (31) هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ (32) مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ (33) ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ (34) لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ (35) وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشًا فَنَقَّبُوا فِي الْبِلَادِ هَلْ مِنْ مَحِيصٍ (36) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ (37) وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ (38) فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ (39) وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبَارَ السُّجُودِ (40) وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ (41) يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ (42) إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ (43) يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِرَاعًا ذَلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ (44) نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ (45)

وأخرج أحمد. وابن جرير عن عبد الله مولى الزبير بن العوام قال: لما حضر أبو بكر الوفاة تمثلت عائشة بهذا البيت:
أعاذل ما يغني الحذار عن الفتى ... إذا حشرجت يوما وضاق بها الصدر
فقال أبو بكر: ليس كذلك يا بنية ولكن قولي: وَجاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذلِكَ ما كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ وفي رواية لابن المنذر وأبي عبيد أنها قالت:
وأبيض يستسقى الغمام بوجهه ... ثمال اليتامى عصمة للأرامل
فقال رضي الله تعالى عنه: بل جاءت سكرة الموت إلخ إذ التمثل بالآية على تقدير العموم أوفق بالحال كما لا يخفى.
وَنُفِخَ فِي الصُّورِ أي نفخة البعث ذلِكَ إشارة إلى النفخ المفهوم من نُفِخَ والكلام على حذف مضاف أي وقت ذلك النفخ يَوْمُ الْوَعِيدِ أي يوم إنجاز الواقع في الدنيا أو يوم وقوع الوعيد على أنه عبارة عن العذاب الموعود، وجوز أن تكون الإشارة إلى الزمان المفهوم من نُفِخَ فإن الفعل كما يدل على الحدث يدل على الزمان، وعليه لا حاجة إلى تقدير شيء، لكن قيل عليه: إن الإشارة إلى زمان الفعل مما لا نظير له، وتخصيص الوعيد بالذكر على تقدير كون الخطاب للإنسان مطلقا مع أنه يوم الوعد أيضا بالنسبة إليه للتهويل.
وَجاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ من النفوس البرة والفاجر كما هو الظاهر مَعَها سائِقٌ وَشَهِيدٌ وإن اختلفت كيفية السوق

(13/333)


والشهادة حسب اختلاف النفوس عملا أي معها ملكان أحدهما يسوقها إلى المحشر والآخر يشهد بعملها، وروي ذلك عن عثمان رضي الله تعالى عنه وغيره، وفي حديث أخرجه أبو نعيم في الحلية عن جابر مرفوعا تصريح بأن ملك الحسنات وملك السيئات أحدهما سائق والآخر شهيد، وعن أبي هريرة السائق ملك الموت والشهيد النبي صلّى الله عليه وسلّم وفي رواية أخرى عنه السائق ملك والشهيد العمل وكلاهما كما ترى، وقيل: الشهيد الكتاب الذي يلقاه منشورا، وعن ابن عباس. والضحاك السائق ملك والشهيد جوارح الإنسان، وتعقبه ابن عطية بقوله: وهذا بعيد عن ابن عباس لأن الجوارح إنما تشهد بالمعاصي، وقوله تعالى: كُلُّ نَفْسٍ يعم الصالحين، وقيل: السائق والشهيد ملك واحد والعطف لمغايرة الوصفين أي معها ملك يسوقها ويشهد عليها، وقيل: السائق نفس الجائي والشهيد جوارحه. وتعقب بأن المعية تأباه والتجريد بعيد، وفيه أيضا ما تقدم آنفا عن ابن عطية، وقال أبو مسلم: السائق شيطان كان في الدنيا مع الشخص وهو قول ضعيف، وقال أبو حيان: الظاهران سائِقٌ وَشَهِيدٌ اسما جنس فالسائق ملائكة موكلون بذلك والشهيد الحفظة وكل من يشهد، ثم ذكر أنه يشهد بالخير الملائكة والبقاع،
وفي الحديث «لا يسمع مدى صوت المؤذن انس ولا جن ولا شيء إلا شهد له يوم القيامة»
ومَعَها صفة نَفْسٍ أو كُلُّ وما بعده فاعل به لاعتماده أو مَعَها خبر مقدم وما بعده مبتدأ. والجملة في موضع الصفة، واختير كونها مستأنفة استئنافا بيانيا لأن الأخبار بعد العلم بها أوصاف ومضمون هذه الجملة غير معلوم فلا تكون صفة إلا أن يدعي العلم به. وأنت تعلم أن ما ذكر غير مسلم.
وقال الزمخشري. محل مَعَها سائِقٌ النصب على الحال من كُلُّ لتعرفه بالإضافة إلى ما هو في حكم المعرفة، فإن أصل كل أن يضاف إلى الجمع كأفعل التفضيل فكأنه قيل: كل النفوس يعني أن هذا أصله وقد عدل عنه في الاستعمال للتفرقة بين كل الإفرادي والمجموعي، ولا يخفى أن ما ذكره تكلف لا تساعده قواعد العربية، وقد قال عليه في البحر: إنه كلام ساقط لا يصدر عن مبتدىء في النحو، ثم إنه لا يحتاج إليه فإن الإضافة للنكرة تسوغ مجيء الحال منها، وأيضا كُلُّ تفيد العموم وهو من المسوغات كما في شرح التسهيل. وقرأ طلحة «محا سائق» بالحاء مثقلة أدغم العين في الهاء فانقلبتا حاء كما قالوا: ذهب محم يريدون معهم، وقوله تعالى: لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا محكي بإضمار قول، والجملة استئناف مبني على سؤال نشأ مما قبله كأنه قيل: فماذا يكون بعد النفخ ومجيء كل نفس معها سائق وشهيد؟ فقيل: يقال للكافر الغافل إذا عاين الحقائق التي لم يصدق بها في الدنيا من البعث وغيره لقد كنت في غفلة من هذا الذي تعاينه، فالخطاب للكافر كما قال ابن عباس. وصالح بن كيسان، وتنكير الغفلة وجعله فيها وهي فيه يدل على أنها غفلة تامة، وهكذا غفلة الكفرة عن الآخرة وما فيها، وقيل: الجملة محكية بإضمار قول هو صفة- لنفس- أو حال والخطاب عام أي يقال لكل نفس أو قد قيل لها: لقد كنت، والمراد بالغفلة الذهول مطلقا سواء كان بعد العلم أم لا، وما من أحد إلا وله غفلة ما من الآخرة وما فيها، وجوز الاستئناف على عموم الخطاب أيضا. وقرأ الجحدري «لقد كنت» بكسر التاء على مخاطبة النفس وهي مؤنثة وتذكيرها في قوله: يا نفس إنك باللذات مسرور.
على تأويلها بالشخص، ولا يلزم في قراءة الجمهور لأن التعبير بالنفس في الحكاية لا يستدعي اعتباره في المحكي كما لا يخفى.
فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ الغطاء الحجاب المغطي لأمور المعاد وهو الغفلة والانهماك في المحسوسات والألف بها وقصر النظر عليها، وجعل ذلك غطاء مجازا، وهو إما غطاء الجسد كله أو العينين، وعلى كليهما يصح قوله تعالى: فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ أي نافذ لزوال المانع للإبصار، أما على الثاني فظاهر، وأما على الأول فلأن غطاء الجسد كله غطاء للعينين أيضا فكشفه عنه يستدعي كشفه عنهما. وزعم بعضهم أن الخطاب للنبي صلّى الله عليه وسلّم، والمعنى

(13/334)


كنت في غفلة من هذا الذي ذكرناه من أمر النفخ والبعث ومجيء كل نفس معها سائق وشهيد وغير ذلك فكشفنا عنك غطاء الغفلة بالوحي وتعليم القرآن فبصرك اليوم حديد ترى ما لا يرون وتعلم ما لا يعلمون، ولعمري إنه زعم ساقط لا يوافق السباق ولا السياق. وفي البحر وعن زيد بن أسلم قول في هذه الآية يحرم نقله وهو في كتاب ابن عطية انتهى، ولعله أراد به هذا لكن في دعوى حرمة النقل بحث، وقرأ الجحدري. وطلحة بن مصرف بكسر الكافات الثلاثة أعني كاف عَنْكَ وما بعده على خطاب النفس، ولم ينقل صاحب اللوامح الكسر في الكاف إلا عن طلحة وقال:
لم أجد عنه في لَقَدْ كُنْتَ الكسر فإن كسر فيه أيضا فذاك وإن فتح يكون قد حمل ذلك على لفظ كُلُّ وحمل الكسر فيما بعده على معناه لإضافته إلى نَفْسٍ وهو مثل قوله تعالى: فَلَهُ أَجْرُهُ [البقرة: 112] وقوله سبحانه بعده وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ [البقرة: 112] انتهى وَقالَ قَرِينُهُ أي شيطانه المقيض له في الدنيا كما قال مجاهد،
وفي الحديث «ما من أحد إلا وقد وكل به قرينه من الجن قالوا: ولا أنت يا رسول الله قال: ولا أنا إلا أن الله تعالى أعانني عليه فأسلم فلا يأمرني إلا بخير»
هذا ما لَدَيَّ عَتِيدٌ إشارة إلى الشخص الكافر نفسه أي هذا ما عندي وفي ملكتي عتيد لجهنم قد هيأته لها بإغوائي وإضلالي، ولا ينافي هذا ما حكاه سبحانه عن القرين في قوله تعالى الآتي:
قالَ قَرِينُهُ رَبَّنا ما أَطْغَيْتُهُ لأن هذا نظير قول الشيطان: وَلَأُضِلَّنَّهُمْ [النساء: 119] وقوله: وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ [إبراهيم: 22] وذاك نظير قوله: وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ [إبراهيم: 22] .
وقال قتادة وابن زيد: قرينه الملك الموكل بسوقه يقول مشيرا إليه: هذا ما لدي حاضر، وقال الحسن: هو كاتب سيئاته يقول مشيرا إلى ما في صحيفته أي هذا مكتوب عندي عتيد مهيأ للعرض، وقيل: قرينه هنا عمله قلبا وجوارح وليس بشيء، وما نكرة موصوفة بالظرف وبعتيد أو موصولة والظرف صلتها وعَتِيدٌ خبر بعد خبر لاسم الإشارة أو خبر لمبتدأ محذوف، وجوز أن يكون بدلا من ما بناء على أنه يجوز إبدال النكرة من المعرفة وإن لم توصف إذا حصلت الفائدة بإبدالها، وأما تقديره بشيء عتيد على أن البدل هو الموصوف المحذوف الذي قامت صفته مقامه أو إن ما الموصول لإبهامها أشبهت النكرة فجاز إبدالها منها فقيل عليه إنه ضعيف لما يلزم الأول من حذف البدل وقد أباه النحاة، والثاني لا يقول به من يشترط النعت فهو صلح من غير تراضي الخصمين. وقرأ عبد الله «عتيدا» بالنصب على الحال أَلْقِيا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ خطاب من الله تعالى للسائق والشهيد بناء على أنهما اثنان لا واحد جامع للوصفين أو للملكين من خزنة النار أو لواحد على أن الألف بدل من نون التوكيد على إجراء الوصل مجرى الوقف، وأيد بقراءة الحسن «ألقينّ» بنون التوكيد الخفيفة، وقيل: إن العرب كثيرا ما يرافق الرجل منهم اثنين فكثر على ألسنتهم أن يقولوا خليلي وصاحبي وقفا واسعدا حتى خاطبوا الواحد خطاب الاثنين، وما في الآية محمول على ذلك كما حكي عن الفراء أو على تنزيل تثنية الفاعل منزلة تثنية الفعل بأن يكون أصله ألق ألق ثم حذف الفعل الثاني وأبقى ضميره مع الفعل الأولى فثنى الضمير للدلالة على ما ذكر كما في قوله:
فإن تزجراني يا ابن عفان أنزجر ... وإن تدعاني أحم عرضا ممنعا
وحكي ذلك عن المازني والمبرد، ولا يخفى بعده، ولينظر هل هو حقيقة أو مجاز والأظهر أنه خطاب لاثنين وهو المروي عن مجاهد. وجماعة، وأيا ما كان فالكلام على تقدير القول كما مر، والإلقاء طرح الشيء حيث تلقاه أي تراه ثم صار في التعارف اسما لكل طرح أي اطرحا في جهنم كل مبالغ في الكفر للمنعم والنعمة عَنِيدٍ مبالغ في العناد وترك الانقياد للحق، وقريب منه قول الحسن: جاحد متمرد، وقال قتادة: أي منحرف عن الطاعة يقال: عند عن الطريق عدل عنه، وقال السدي: المشاق من العند وهو عظم يعرض في الحلق، وقال ابن بحر: المعجب بما عنده

(13/335)


مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مبالغ في المنع للمال عن حقوقه المفروضة، قال قتادة. ومجاهد. وعكرمة: يعني الزكاة، وقيل: المراد بالخير الإسلام فإن الآية نزلت في الوليد بن المغيرة كان يقول لبني أخيه: من دخل منكم في الإسلام لم أنفعه بشيء ما عشت، والمبالغة باعتبار كثرة بني أخيه أو باعتبار تكرر منعه لهم.
وضعف بأنه لو كان المراد ذلك كان مقتضى الظاهر مناع عن الخير، وفي البحر الأحسن عموم الخير في المال وغيره مُعْتَدٍ ظالم متخط للحق متجاوز له مُرِيبٍ شاك في الله تعالى ودينه، وقيل: في البعث.
الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ مبتدأ متضمن لمعنى الشرط خبره فَأَلْقِياهُ فِي الْعَذابِ الشَّدِيدِ بتأويل فيقال في حقه ألقياه أو لكونه في معنى جواب الشرط لا يحتاج للتأويل أو بدل من كُلَّ كَفَّارٍ أو من كَفَّارٍ وقوله تعالى: فَأَلْقِياهُ تكرير للتوكيد فهو نظير فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ [آل عمران: 188] بعد قوله تعالى: لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ [آل عمران: 188] والفاء هاهنا للإشعار بأن الإلقاء للصفات المذكورة أو من باب وحقك ثم حقك ينزل التغاير بين المؤكد والمفسر والمفسر منزلة التغاير بين الذاتين بوجه خطابي، ولا يدعي التغاير الحقيقي لأن التأكيد يأباه، وقول أهل المعاني: أن بين المؤكد والمؤكد شدة اتصال تمنع من العطف ليس على إطلاقه بسديد، والنحويون على خلافه، فقد قال ابن مالك في التسهيل: فصل الجملتين في التأكيد بثم أن أمن اللبس أجود من وصلهما، وذكر بعض النحاة الفاء والزمخشري في الجاثية الواو أيضا، وجعلوا ذلك من التأكيد الاصطلاحي، ولو جعل الْعَذابِ الشَّدِيدِ نوعا من عذاب جهنم ومن أهواله فكان من باب مَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ [البقرة: 98] دون تكرير لكان كما قال صاحب الكشف حسنا.
وجوز أن يكون مفعولا بمضمر يفسره فَأَلْقِياهُ وقال ابن عطية: أن يكون صفة كَفَّارٍ وجاز وصفه بالمعرفة لتخصصه بالأوصاف المذكورة. وتعقبه أبو حيان بأنه لا يجوز وصف النكرة بالمعرفة ولو وصفت بأوصاف كثيرة قالَ قَرِينُهُ أي الشيطان المقيض له، وإنما استؤنفت هذه الجملة استئناف الجمل الواقعة في حكاية المقاولة لما أنها جواب لمحذوف دل عليه قوله تعالى: رَبَّنا ما أَطْغَيْتُهُ فإنه مبني على سابقة كلام اعتذر به الكافر كأنه قال: هو أطغاني فأجاب قرينه بتكذيبه وإسناد الطغيان إليه بخلاف الجملة الأولى فإنها واجبة العطف على ما قبلها دلالة على الجمع بين مفهوميهما في الحصول أعني مجيء كل نفس مع الملكين، وقول قرينه: وَلكِنْ كانَ هو بالذات فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ من الحق فأعنته عليه بالإغواء والدعوة إليه من غير قسر ولا الجاء، فهو كما قدمنا نظير وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ [إبراهيم: 22] إلخ قالَ استئناف مبني على سؤال نشأ مما قبله كأنه قيل: فماذا قال الله تعالى؟ فقيل: قال عز وجل: لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ أي في موقف الحساب والجزاء إذ لا فائدة في ذلك وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ على الطغيان في دار الكسب في كتبي وعلى ألسنة رسلي فلا تطمعوا في الخلاص عنه بما أنتم فيه من التعلل بالمعاذير الباطلة، والجملة حال فيها تعليل للنهي ويلاحظ معنى العلم لتحصل المقارنة التي تقتضيها الحالية أي لا تختصموا لدي عالمين أني قدمت إليكم بالوعيد حيث قلت لإبليس: لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ [ص: 85] فاتبعتموه معرضين عن الحق والباء مزيدة أو معدية على أن قدم بمعنى تقدم وهو لازم يعدى بالباء، وجوز أن يكون قَدَّمْتُ واقعا على قوله تعالى: ما يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ إلخ ويكون بِالْوَعِيدِ متعلقا بمحذوف هو حال من المفعول قدم عليه أو الفاعل أي وقد قدمت إليكم هذا القول ملتبسا بالوعيد مقترنا به أو قدمته إليكم موعدا لكم فلا تطمعوا أن أبدل وعيدي، والأظهر استئناف هذه الجملة. وفي لَدَيَّ على ما قال الإمام وجهان: الأول أن يكون متعلقا بالقول أي ما يبدل القول الذي عنده.

(13/336)


الثاني أن يكون متعلقا بالفعل قبل أي لا يقع التبديل عندي، قال: وعلى الأول في القول الذي لديه تعالى وجوه.
أحدها قوله تعالى: أَلْقِيا أرادوا باعتذارهم أن يبدل ويقول سبحانه: لا تلقيا فرد عليهم.
ثانيها قوله سبحانه لإبليس: لَأَمْلَأَنَّ إلخ. ثالثها الإيعاد مطلقا. رابعها القول السابق يوم خلق العباد هذا سعيد وهذا شقي. وعلى الثاني في معنى الآية وجوه أيضا. أحدها لا يكذب لدي فإني عالم علمت من طغى ومن أطغى فلا يفيد قولكم أطغاني شيطاني وقول الشيطان: رَبَّنا ما أَطْغَيْتُهُ ثانيها لو أردتم أن لا أقول: فَأَلْقِياهُ كنتم أبدلتم الكفر بالإيمان قبل أن تقفوا بين يدي وأما الآن فما يبدل القول لدي. ثالثها لا يبدل القول الكفر بالإيمان لدي فإن الإيمان عند اليأس غير مقبول فقولكم: ربنا وإلهنا لا يفيدكم فمن تكلم بكلمة الكفر لا يفيده قوله: ربنا ما أشركنا وقوله: ربنا آمنا. والمشهور أن لَدَيَّ متعلق بالفعل على أن المراد بالقول ما يشمل الوعد والوعيد.
واستدل به بعض من قال بعدم جواز تخلفهما مطلقا. وأجاب من قال بجواز العفو عن بعض المذنبين بأن ذلك العفو ليس بتبديل فإن دلائل العفو تدل على تخصيص الوعيد، وقال بعض المحققين: المراد نفي أن يوقع أحد التبديل لديه تعالى أي في علمه سبحانه أو يبدل القول الذي علمه عز وجل، فإن ما عنده تبارك وتعالى هو ما في نفس الأمر وهو لا يقبل التبديل أصلا، وأكثر الوعيدات معلقة بشرط المشيئة على ما يقتضيه الكرم وإن لم يذكر على ما يقتضيه الترهيب، فمتى حصل العفو لعدم مشيئته التعذيب لم يكن هناك تبديل ما في نفس الأمر فتدبره فإنه دقيق وَما أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ وارد لتحقيق الحق على أبلغ وجه، وفيه إشارة إلى أن تعذيب من يعذب من العبيد إنما هو عن استحقاق في نفس الأمر، وقد تقدم تمام الكلام في هذه الجملة فتذكر.
يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ أي اذكر أو أنذر يوم إلخ. فيوم. مفعول به لمقدر، وقيل: هو ظرف. لظلام، وقال الزمخشري: يجوز أن ينتصب. بنفخ. كأنه قيل: ونفخ في الصور يوم، وعليه يشار بذلك إلى يَوْمَ نَقُولُ لأن الإشارة إلى ما بعد جائزة لا سيما إذا كانت رتبته التقديم فكأنه قيل: ذلك اليوم أي يوم القول يوم الوعيد، ولا يحتاج إلى حذف على ما مر في الوجه الذي أشير به إلى النفخ.
وهذا الوجه كما قال في الكشف: فيه بعد لبعده عن العامل وتخلل ما لا يصلح اعتراضا على أن زمان النفخ ليس يوم القول إلا على سبيل فرضه ممتدا واقعا ذلك في جزء منه وهذا في جزء وكل خلاف الظاهر فكيف إذا اجتمعت.
وقال أبو حيان: هو بعيد جدا قد فصل عليه بين العامل والمعمول بجمل كثيرة فلا يناسب فصاحة القرآن الكريم وبلاغته، والظاهر إبقاء السؤال والجواب على حقيقتهما، وكذا في نظير ذلك من اشتكاء النار والإذن لها بنفسين وتحاج النار والجنة، ونحن متعبدون باعتقاد الظاهر ما لم لا يمنع مانع ولا مانع هاهنا، فإن القدرة صالحة والعقل مجوز والظواهر قاضية بوقوع ما جوزه العقل، وأمور الآخرة لا ينبغي أن تقاس على أمور الدنيا.
وقال الرماني: الكلام على حذف مضاف أي نقول لخزنة جهنم، وليس بشيء.
وقال غير واحد: هو من باب التمثيل والمعنى أنها مع اتساعها وتباعد أقطارها تطرح فيها من الجنّة والناس فوجا بعد فوج حتى تمتلىء ولا تقبل الزيادة، فالاستفهام للإنكار أي لا مزيد على امتلائها وروي هذا عن ابن عباس ومجاهد والحسن، وجوز في نفي الزيادة أن يكون على ظاهره وأن يكون كناية أو مجازا عن الاستكثار، وقيل: المعنى أنها من السعة بحيث يدخلها من يدخلها وفيها فراغ وخلو، فالاستفهام للتقرير أي فيها موضع للمزيد لسعتها، وجوز أن يكون ذلك كناية عن شدة غيظها على العصاة كأنها طالبة لزيادتهم.

(13/337)


واستشكل دعوى أن فيها فراغا بأنه مناف لصريح قوله تعالى: لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ الآية. وأجيب بأنه لا منافاة لأن الامتلاء قد يراد به أنه لا يخلو طبقة منها عمن يسكنها وإن كان فيها فراغ كثير كما يقال: إن البلدة ممتلئة بأهلها ليس فيها دار خالية مع ما بينها من الأبنية والأفضية أو أن ذلك باعتبار حالين فالفراغ في أول الدخول فيها ثم يساق إليها الشياطين ونحوهم فتمتلىء، هذا ويدل غير ما حديث أنها تطلب الزيادة حقيقة إلا أنه لا يدري حقيقة ما يوضع فيها حتى تمتلىء إذ الأحاديث في ذلك من المتشابهات التي لا يراد بها ظواهرها عند الأكثرين
أخرج أحمد والبخاري ومسلم والترمذي والنسائي وغيرهم عن أنس قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لا تزال جهنم يلقى فيها وتقول هل من مزيد حتى يضع رب العزة فيها قدمه فيزوي بعضها إلى بعض وتقول قط قط وعزتك وكرمك ولا يزال في الجنة فضل حتى ينشىء الله لها خلقا آخر فيسكنهم في فضول الجنة» .
وأخرج الشيخان. وغيرهما عن أبي هريرة قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: تحاجت الجنة والنار فقالت النار: أوثرت بالمتكبرين والمتجبرين وقالت الجنة: ما لي لا يدخلني إلا ضعفاء الناس وسقطهم فقال الله تعالى للجنة: أنت رحمتي أرحم بك من أشاء من عبادي وقال للنار: إنما أنت عذابي أعذب بك من أشاء من عبادي ولكل واحدة منكما ملؤها فأما النار فلا تمتلىء حتى يضع رجله فتقول قط قط فهناك تمتلىء ويزوي بعضها إلى بعض ولا يظلم الله من خلقه أحدا وأما الجنة فإن الله تعالى ينشىء لها خلقا»
وأول أهل التأويل ذلك، فقال النضر بن شميل: إن القدم الكفار الذين سبق في علمه تعالى دخولهم النار والقدم تكون بمعنى المتقدم كقوله تعالى: قَدَمَ صِدْقٍ [يونس: 2] وظاهر الحديث عليه يستدعي دخول غير الكفار قبلهم وهو في غاية البعد ولعل في الأخبار ما ينافيه.
وقال ابن الأثير: قدمه أي الذين قدمهم لها من شرار خلقه فهم قدم الله تعالى للنار كما أن المسلمين قدمه للجنة والقدم كل ما قدمت من خير أو شر وهو كما ترى، ويبعده ما
في حديث أحمد. وعبد بن حميد. وابن مردويه عن أبي سعيد مرفوعا «فيلقى فيها، أي النار، أهلها فتقول: هل من مزيد ويلقى فيها وتقول هل من مزيد حتى يأتيها عز وجل فيضع قدمه عليه فتنزوي وتقول: قدني قدني»
وأولوا الرجل بالجماعة ومنه ما جاء في أيوب عليه السلام أنه كان يغتسل عريانا فخر عليه رجل من جراد، والإضافة إلى ضميره تعالى تبعد ذلك، وقيل: وضع القدم أو الرجل على الشيء مثل للردع والقمع فكأنه قيل: يأتيها أمر الله تعالى فيكفها من طلب المزيد.
وقريب منه ما ذهب إليه بعض الصوفية ان القدم يكنى بها عن صفة الجلال كما يكنى بها عن صفة الجمال، وقيل: أريد بذلك تسكين فورتها كما يقال للأمر: تريد إبطاله وضعته تحت قدمي أو تحت رجلي، وهذان القولان أولى مما تقدم والله تعالى أعلم. والمزيد إما مصدر ميمي كالمحيد أو اسم مفعول أعلّ إعلال المبيع.
وقرأ الأعرج وشيبة ونافع وأبو بكر والحسن وأبو رجاء وأبو جعفر والأعمش «يوم يقول» بياء الغيبة. وقرأ عبد الله.
والحسن. والأعمش أيضا «يقال» . مبنيا للمفعول.
وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ أخذ في بيان حال المؤمنين بعد بيان حال الكافرين وهو عطف على نفخ أي قربت للمتقين عن الكفر والمعاصي غَيْرَ بَعِيدٍ أي في مكان غير بعيد بمرأى منهم بين يديهم وفيه مبالغة ليست في التخلية عن الظرف- فغير بعيد- صفة لظرف متعلق بأزلفت حذف فقام مقامه وانتصب انتصابه، ولذلك لم يقل غير بعيدة، وجوز أن يكون منصوبا على المصدرية والأصل وأزلفت إزلافا غير بعيد، قال الإمام: أي عن قدرتنا وإن يكون حالا من الجنة قصد به التوكيد كما تقول: عزيز غير ذليل لأن العزة تنافي الذل ونفي مضاد الشيء تأكيد إثباته، وفيه دفع توهم أن ثم تجوزا أو شوبا من الضد ولم يقل: غير بعيدة عليه قيل: لتأويل الجنة بالبستان، وقيل: لأن البعيد على

(13/338)


زنة المصدر الذي من شأنه أن يستوي فيه المؤنث والمذكر كالزئير والصليل فعومل معاملته وأجري مجراه، وقيل: لأن فعيلا بمعنى فاعل قد يجري مجرى فعيل بمعنى مفعول فيستوي فيه الأمران، وللإمام في تقريب الجنة أوجه. منها طي المسافة التي بينها وبين المتقين مع بقاء كل في مكانه وعدم انتقاله عنه ولكرامة المتقين قيل: أُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ دون وأزلف المتقون للجنة، ومنها أن المراد تقريب حصولها والدخول فيها دون التقريب المكاني، وفيه ما فيه، ومنها أن التقريب على ظاهره والله عز وجل قادر على نقل الجنة من السماء إلى الأرض أي إلى جهة السفل أو الأرض المعروفة بعد مدها، وقول بعض: إن المراد إظهارها قريبة منها على نحو إظهارها للنبي صلّى الله عليه وسلّم في عرض حائط مسجده الشريف على ما فيه منزع صوفي هذا ما تُوعَدُونَ إشارة إلى الجنة، والتذكير لما أن المشار إليه هو المسمى من غير قصد لفظ يدل عليه فضلا عن تذكيره وتأنيثه فإنهما من أحكام اللفظ العربي كما في قوله تعالى:
فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بازِغَةً قالَ هذا رَبِّي [الأنعام: 78] وقوله سبحانه: وَلَمَّا رَأَ الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزابَ قالُوا هذا ما وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ [الأحزاب: 22] ويجوز أن يكون ذلك لتذكير الخبر، وقيل: هو إشارة إلى الثواب. وقيل: إلى مصدر أُزْلِفَتِ والجملة بتقدير قول وقع حالا من المتقين أو من الجنة والعامل أزلفت أي مقولا لهم أو مقولا في حقها هذا ما توعدون، أو اعتراض بين المبدل منه أعني لِلْمُتَّقِينَ والبدل أعني الجار والمجرور وفيه بعد.
وصيغة المضارع لاستحضار الصورة الماضية، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو «يوعدون» بياء الغيبة، والجملة على هذه القراءة قيل: اعتراض أو حال من الجنة وقال أبو حيان: هي اعتراض، والمراد هذا القول هو الذي وقع الوعد به وهو كما ترى، وقوله تعالى: لِكُلِّ أَوَّابٍ أي رجاع إلى الله تعالى بدل من المتقين بإعادة الجار أو من لِلْمُتَّقِينَ على أن يكون الجار والمجرور بدلا من الجار والمجرور حَفِيظٍ حفظ ذنوبه حتى رجع عنها كما روي عن ابن عباس وسعيد بن سنان، وقريب منه ما أخرج سعيد بن منصور وابن أبي شيبة وابن المنذر عن يونس بن خباب قال: قال لي مجاهد: ألا أنبئك بالأواب الحفيظ؟ هو الرجل يذكر ذنبه إذا خلا فيستغفر الله تعالى منه.
وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن قتادة قال: أي حفيظ لما استودعه الله تعالى من حقه ونعمته.
وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر عن عبيد بن عمير كنا نعد الأواب الحفيظ الذي يكون في المجلس فإذا أراد أن يقوم قال: اللهم اغفر لي ما أصبت في مجلسي هذا. وقيل: هو الحافظ لتوبته من النقض ولا ينافيه صيغة أَوَّابٍ كما لا يخفى. وقوله تعالى شأنه: مَنْ خَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ وَجاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ بدل من كل المبدل من المتقين أو بدل ثان من المتقين بناء على جواز تعدد البدل والمبدل منه واحد. وقول أبي حيان: تكرر البدل والمبدل منه واحد لا يجوز في غير بدل البداء، وسره أنه في نية الطرح فلا يبدل منه مرة أخرى غير مسلم، وقد جوزه ابن الحاجب في أماليه، ونقله الدماميني في أول شرحه للخزرجية وأطال فيه، وكون المبدل منه في نية الطرح ليس على ظاهره، أو بدل من موصوف أَوَّابٍ أي لكل شخص أواب بناء على جواز حذف المبدل منه، وقد جوزه ابن هشام في المغني لا سيما وقد قامت صفته مقامه حتى كأنه لم يحذف ولم يبدل من أَوَّابٍ نفسه لأن أوابا صفة لمحذوف كما سمعت فلو أبدل منه كان للبدل حكمه فيكون صفة مثله، و «من» اسم موصول والأسماء الموصولة لا يقع منها صفة إلا الذي على الأصح، وجوز بعض الوصف بمن أيضا لكنه قول ضعيف أو مبتدأ خبره ادْخُلُوها بتأويل يقال لهم ادخلوها لمكان الإنشائية والجمع باعتبار معنى من وقوله تعالى بِالْغَيْبِ متعلق بمحذوف هو حال من فاعل خَشِيَ أو من مفعوله أو صفة لمصدره أي خشية ملتبسة بالغيب حيث خشي عقابه سبحانه وهو غائب عنه أو هو غائب عن الأعين لا يراه أحد، وقيل: الياء للآلة، والمراد بالغيب القلب لأنه مستور أي من خشي الرحمن بقلبه دون جوارحه بأن يظهر الخشية ليس في قلبه منها شيء وليس بشيء.

(13/339)


والتعرض لعنوان الرحمانية للإشعار بأنهم مع خشيتهم عقابه عز وجل راجون رحمته سبحانه أو بأن علمهم بسعة رحمته تبارك وتعالى لا يصدهم عن خشيته جل شأنه، وقال الإمام: يجوز أن يكون لفظ الرَّحْمنَ إشارة إلى مقتضى الخشية لأن معنى الرحمن واهب الوجود بالخلق والرحيم واهب البقاء بالرزق وهو سبحانه في الدنيا رحمن حيث أوجدنا ورحيم حيث أبقانا بالرزق فمن يكون منه الوجود ينبغي أن يكون هو المخشي وما تقدم أولى.
والباء في قوله تعالى: بِقَلْبٍ للمصاحبة، وجوز أن تكون للتعدية أي أحضر قلبا منيبا. ووصف القلب بالإنابة مع أنها يوصف بها صاحبه لما أن العبرة رجوعه إلى الله تعالى، وأغرب الإمام فجوز كون الباء للسببية فكأنه قيل: ما جاء إلا بسبب آثار العلم في قلبه أن لا مرجع إلا الله تعالى فجاء بسبب قلبه المنيب وهو كما ترى، وقوله تعالى:
بِسَلامٍ متعلق بمحذوف هو حال من فاعل ادْخُلُوها والباء للملابسة، والسلام إما من السلام أو من التسليم أي ادخلوها ملتبسين بسلامة من العذاب وزوال النعم أو بتسليم وتحية من الله تعالى وملائكته ذلِكَ إشارة إلى أن الزمان الممتد الذي وقع في بعض منه ما ذكر من الأمور يَوْمُ الْخُلُودِ البقاء الذي لا انتهاء له أبدا أو إشارة إلى وقت الدخول بتقدير مضاف أي ذلك يوم ابتداء الخلود وتحققه أو يوم تقدير الخلود أو إشارة إلى وقت الدخول بتقدير مضاف أي ذلك يوم ابتداء الخلود وتحققه أو يوم تقدير الخلود أو إشارة إلى وقت السلام بتقدير مضاف أيضا أي ذلك يوم إعلام الخلود أي الإعلام به لَهُمْ ما يَشاؤُنَ من فنون المطالب كائنا ما كان فِيها متعلق بيشاؤون، وقيل: بمحذوف هو حال من الموصول أو من عائده المحذوف من صلته وَلَدَيْنا مَزِيدٌ هو ما لا يخطر ببالهم ولا يندرج تحت مشيئتهم من معالي الكرامات التي لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، ومنه كما أخرجه ابن أبي حاتم عن كثير بن مرة أن تمر السحابة بهم فتقول: ماذا تريدون فأمطره عليكم فلا يريدون شيئا إلا أمطرته عليهم.
وأخرج البيهقي في الرؤية. والديلمي عن علي كرم الله تعالى وجهه عن النبي صلّى الله عليه وسلّم في قوله تعالى: وَلَدَيْنا مَزِيدٌ قال: «يتجلى لهم الرب عز وجل» .
وأخرج ابن المنذر وجماعة عن أنس أنه قال في ذلك أيضا: يتجلى لهم الرب تبارك وتعالى في كل جمعة،
وجاء في حديث أخرجه الشافعي في الأم وغيره أن يوم الجمعة يدعى يوم المزيد
، وقيل: المزيد أزواج من الحور العين عليهن تيجان أدنى لؤلؤة منها تضيء ما بين المشرق والمغرب وعلى كل سبعون حلة وان الناظر لينفذ بصره حتى يرى مخ ساقها من وراء ذلك، وقيل: هو مضاعفة الحسنة بعشر أمثالها وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ أي كثيرا أهلكنا قبل قومك مِنْ قَرْنٍ قوما مقترنين في زمن واحد هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشاً أي قوة كما قيل أو أخذا شديدا في كل شيء كعاد وقوم فرعون فَنَقَّبُوا فِي الْبِلادِ ساروا في الأرض وطوفوا فيها حذار الموت، فالتنقيب السير وقطع المسافة كما ذكره الراغب. وغيره، وأنشدوا للحارث بن حلزة:
نقبوا في البلاد من حذر المو ... ت وجالوا في الأرض كل مجال
ولامرىء القيس:
وقد نقبت في الآفاق حتى ... رضيت من الغنيمة بالإياب
وروي وقد طوفت، وأخرج الطستي عن ابن عباس أن نافع بن الأزرق سأله عن ذلك فقال: هو هربوا بلغة اليمن، وأنشد له بيت الحرث المذكور لكنه نسبه لهدى بن زيد، وفسر التنقيب في البلاد بالتصرف فيها بملكها ونحوه، وشاع التنقيب في العرف بمعنى التنقير عن الشيء والبحث عن أحواله، ومنه قوله تعالى: وَبَعَثْنا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً التنقيب بالسير ونحوه المروي عن ابن عباس لمجرد التعقيب، وعلى تفسيره بالتصرف للسببية لأن تصرفهم في البلاد

(13/340)


مسبب عن اشتداد بطشهم وهي على الوجهين عاطفة على معنى ما قبلها كأنه قيل: اشتد بطشهم فنقبوا وقيل: هي على ما تقدم أيضا للسببية والعطف على أَهْلَكْنا على أن المراد أخذنا في إهلاكهم فنقبوا في البلاد هَلْ مِنْ مَحِيصٍ على إضمار قول هو حال من واو (نقبوا) أي قائلين هل لنا مخلص من الله تعالى أو من الموت؟ أو على إجراء التنقيب لما فيه من معنى التتبع والتفتيش مجرى القول على ما قيل أو هو كلام مستأنف لنفي أن يكون لهم محيص أي هل لهم مخلص من الله عز وجل أو من الموت، وقيل: ضمير (نقبوا) لأهل مكة أي ساروا في مسايرهم وأسفارهم في بلاد القرون المهلكة فهل رأوا لهم محيصا حتى يؤملوا مثله لأنفسهم.
وأيد بقراءة ابن عباس وابن يعمر وأبي العالية ونصر بن سيار وأبي حيوة والأصمعي عن أبي عمرو على صيغة الأمر لأن الأمر للحاضر وقت النزول من الكفار وهم أهل مكة لا غير، والأصل توافق القراءتين وفيه على هذه القراءة التفات من الغيبة إلى الخطاب. قرأ ابن عباس أيضا وعبيد عن ابن عمرو «فنقّبوا» بفتح القاف مخففة، والمعنى كما في المشددة، وقرىء بكسر القاف خفيفة من النقب محركا، وهو أن ينتقب خف البعير ويرق من كثرة السير، قال الراجز:
أقسم بالله أبو حفص عمر ... ما مسها من نقب ولا دبر
والكلام بتقدير مضاف أي نقبت أقدامهم، ونقب الإقدام كناية مشهورة عن كثرة السير فيؤول المعنى إلى أنهم أكثروا السير في البلاد أو نقبت أخفاف مراكبهم والمراد كثرة السير أيضا، وقد يستغنى عن التقدير بجعل الإسناد مجازيا إِنَّ فِي ذلِكَ أي الإهلاك أو ما ذكر في السورة لَذِكْرى لتذكرة وعظة لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ أي قلب واع يدرك الحقائق فإن الذي لا يعي ولا يفهم بمنزلة العدم، وفي الكشف لِمَنْ كانَ إلخ تمثيل أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ أي أصغى إلى ما يتلى عليه من الوحي وَهُوَ شَهِيدٌ أي حاضر على أنه من الشهود بمعنى الحضور، والمراد به المتفطن لأن غير المتفطن منزل منزلة الغائب فهو إما استعارة أو مجاز مرسل والأول أولى، وجوز أن يكون من الشهادة وصفا للمؤمن لأنه شاهد على صحة المنزل وكونه وحيا من الله تعالى فيبعثه على حسن الإصغاء أو وصفا له من قوله تعالى: لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ [البقرة: 143] كأنه قيل: وهو من جملة الشهداء أي المؤمنين من هذه الأمة فهو كناية على الوجهين، وجوز على الأول منهما أن لا يكون كناية على أن المراد وهو شاهد شهادة عن إيقان لا كشهادة أهل الكتاب.
وعن قتادة المعنى لمن سمع القرآن من أهل الكتاب وهو شاهد على صدقه لما يجده في كتابه من نعته، والأنسب بالمساق وإلا ملأ بالفائدة الأخذ من الشهود، والوجه جعل وَهُوَ شَهِيدٌ حالا من ضمير الملقى لا عطفا على أَلْقَى كما لا يخفى على من له قلب أو القى السمع وهو شهيد، والمراد أن فيما فعل بسوالف الأمم أو في المذكور إماما من الآيات لذكرى لإحدى طائفتين من له قلب يفقه عن الله عز وجل ومن له سمع مصغ مع ذهن حاضر أي لمن له استعداد القبول عن الفقيه إن لم يكن فقيها في نفسه، وأَوْ لمنع الخلو من حيث إنه يجوز أن يكون الشخص فقيها ومستعدا للقبول من الفقيه، وذكر بعضهم أنها لتقسيم المتذكر إلى تال وسامع أو إلى فقيه ومتعلم أو إلى عالم كامل الاستعداد لا يحتاج لغير التأمل فيما عنده وقاصر محتاج للتعلم فيتذكر إذا أقبل بكليته وأزال الموانع بأسرها فتأمل.
وقرأ السلمي وطلحة والسدي وأبو البرهسم «أو ألقي» مبنيا للمفعول «السّمع» بالرفع على النيابة عن الفاعل والفاعل المحذوف أما المعبر عنه بالموصول أولا، وعلى الثاني معناه لمن ألقى غيره السمع وفتح أذنه ولم يحضر

(13/341)


ذهنه، وأما هو فقد ألقي وهو شاهد متفطن محضر ذهنه، فالوصف أعني الشهود معتمد الكلام، وإنما أخرج في الآية بهذه العبارة للمبالغة في تفطنه وحضوره، وعلى الأول معناه لمن ألقى سمعه وهو حاضر متفطن، ثم لو قدر موصول آخر بعد أَوْ فذو القلب والملقى غير أن شخصا ولو لم يقدر جاز أن يكونا شخصين وأن يكونا شخصا باعتبار حالين حال تفطنه بنفسه وحال القائه السمع عن حضور إلى متفطن بنفسه لأن (من) عام يتناول كل واحد واحد وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما من أصناف المخلوقات فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ تقدم الكلام فيها وَما مَسَّنا وما أصابنا بذلك مع كونه مما لا تفي به القوى والقدر مِنْ لُغُوبٍ تعب ما فالتنوين للتحقير، وهذا كما قال قتادة. وغيره رد على جهلة اليهود زعموا أنه تعالى شأنه بدأ خلق العالم يوم الأحد وفرغ منه يوم الجمعة واستراح يوم السبت واستلقى على العرش سبحانه وتعالى عما يقولون علوا كبيرا.
وعن الضحاك أن الآية نزلت لما قالوا ذلك، ويحكى أنهم يزعمون أنه مذكور في التوراة، وجملة وَما مَسَّنا إلخ تحتمل أن تكون حالية وأن تكون استئنافية، وقرأ السلمي وطلحة ويعقوب «لغوب» بفتح اللام بزنة القبول والولوع وهو مصدر غير مقيس بخلاف مضموم اللام فَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ أي ما يقول المشركون في شأن البعث من الأباطيل المبنية على الاستبعاد والإنكار فإن من قدر على خلق العالم في تلك المدة اليسيرة بلا إعياء قادر على بعثهم والانتقام منهم، أو على ما يقول اليهود من مقالة الكفر والتشبيه.
والكلام متعلق بقوله تعالى: وَلَقَدْ خَلَقْنَا إلخ على الوجهين، وفي الكشف أنه على الأول متعلق بأول السورة إلى هذا الموضع وأنه أنسب من تعلقه، بلقد خلقنا، الآية لأن الكلام مرتبط بعضه ببعض إلى هاهنا على ما لا يخفى على المسترشد.
وأنت تعلم أن الأقرب تعلقه على الوجهين بما ذكرنا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ أي نزهه تعالى عن العجز عما يمكن وعن وقوع الخلف في أخباره التي من جملتها الإخبار بوقوع البعث وعن وصفه عز وجل بما يوجب التشبيه، أو نزهه عن كل نقص ومنه ما ذكر حامدا له تعالى على ما أنعم به عليك من إصابة الحق وغيرها. قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ هما وقتا الفجر والعصر وفضيلتهما مشهورة وَمِنَ اللَّيْلِ مفعول لفعل محذوف يفسره فَسَبِّحْهُ باعتبار الاتحاد النوعي، والعطف للتغاير الشخصي أي وسبحه بعض الليل فسبحه أو مفعول لقوله تعالى: «سبحه» على أن الفاء جزائية والتقدير مهما يكن من شيء فسبحه بعض الليل، وقدم المفعول للاهتمام به وليكون كالعوض عن المحذوف ولتتوسط الفاء الجزائية كما هو حقها، ولعل المراد بهذا البعض السحر فإن فضله مشهور وَأَدْبارَ السُّجُودِ وأعقاب الصلاة جمع دبر بضم فسكون أو دبر بضمتين.
وقرأ ابن عباس وأبو جعفر وشيبة وعيسى والأعمش وطلحة وشبل والحرميان «إدبار» بكسر الهمزة وهو مصدر تقول: أدبرت الصلاة إدبارا انقضت وتمت، والمعنى ووقت انقضاء السجود كقولهم: آتيك خفوق النجم. وذهب غير واحد إلى أن المراد بالتسبيح الصلاة على أنه من إطلاق الجزء أو اللازم على الكل أو الملزوم، وعليه
فالصلاة قبل الطلوع الصبح وقبل الغروب العصر، قاله قتادة وابن زيد والجمهور، وأخرجه الطبراني في الأوسط. وابن عساكر عن جرير بن عبد الله مرفوعا
، ومن الليل صلاة العتمة وإدبار السجود النوافل بعد المكتوبات أخرجه ابن جرير عن ابن زيد، وقال ابن عباس:
الصلاة قبل الطلوع الفجر وقبل الغروب الظهر والعصر ومن الليل العشاءان وإدبار السجود النوافل بعد الفرائض، وفي رواية أخرى عنه الوتر بعد العشاء، وفي أخرى عنه أيضا وعن عمر وعلي وابنه الحسن وأبي هريرة رضي الله تعالى عنهم.
والشعبي وإبراهيم ومجاهد والأوزاعي ركعتان بعد المغرب، وأخرجه مسدد في مسنده. وابن المنذر وابن مردويه عن

(13/342)


علي كرم الله تعالى وجهه مرفوعا، وقال مقاتل: ركعتان بعد العشاء يقرأ في الأولى قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ [الكافرون: 1] وفي الثانية قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ [الإخلاص: 1] ، وقيل: من الليل صلاة العشاءين والتهجد. وعن مجاهد صلاة الليل، وفيه احتمال العموم لصلاة العشاءين والخصوص بالتهجد وهو الأظهر وَاسْتَمِعْ أمر بالاستماع، والظاهر أنه أريد به حقيقته، والمستمع له محذوف تقديره واستمع لما أخبر به من أهوال يوم القيامة، وبين ذلك بقوله تعالى: يَوْمَ يُنادِ الْمُنادِ إلى آخره، وسلك هذا لما في الإبهام ثم التفسير من التهويل والتعظيم لشأن المخبر به، وانتصب يَوْمَ بما دل عليه ذلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ أي يوم ينادي المنادي يخرجون من القبور، وقيل: المفعول محذوف تقديره نداء المنادى، وقيل: تقديره نداء الكافرين بالويل والثبور ويَوْمَ ظرف لذلك المحذوف، وقيل: لا يحتاج ذلك إلى مفعول والمعنى كن مستمعا ولا تكن غافلا، وقيل: معنى استمع انتظر، والخطاب لكل سامع، وقيل: للرسول عليه الصلاة والسلام ويَوْمَ منتصب على أنه مفعول به لاستمع أي انتظر يوم ينادي المنادي فإن فيه تبين صحة ما قلته كما تقول لمن تعده بورود فتح: استمع كذا وكذا. والمنادي على ما في بعض الآثار جبريل عليه السلام ينفخ إسرافيل في الصور وينادي جبريل يا أيتها العظام النخرة والجلود المتمزقة والشعور المتقطعة إن الله يأمرك بأن تجتمعي لفصل الحساب. وأخرج ابن عساكر. والواسط في فضائل بيت المقدس عن يزيد بن جابر أن إسرافيل عليه السلام ينفخ في الصور فيقول: يا أيتها العظام النخرة إلى آخره فيكون المراد بالمنادي هو عليه السلام. وفي الحواشي الشهابية الأول هو الأصح مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ هو صخرة بيت المقدس على ما روي عن يزيد بن جابر وكعب وابن عباس وبريدة وقتادة، وهي على ما روي عن كعب أقرب الأرض إلى السماء بثمانية عشر ميلا.
وفي الكشاف أنها أقرب إليها باثني عشر ميلا وهي وسط الأرض، وأنت تعلم أن مثل هذا لا يقبل إلا بوحي، ثم إن كونها وسط الأرض مما تأباه القواعد في معرفة العروض والأطوال، ومن هنا قيل: المراد قريب ممن يناديهم فقيل:
ينادي من تحت أقدامهم، وقيل: من منابت شعورهم فيسمع من كل شعرة يا أيتها العظام النخرة إلخ، ومن الناس من قال: المراد بقربه كون النداء منه لا يخفى على أحد بل يستوي في سماعه كل أحد، والنداء في كل ذلك على حقيقته، وجوز أن يكون في الإعادة نظير كن في الابتداء على المشهور فهو تمثيل لإحياء الموتى بمجرد الإرادة ولا نداء ولا صوت حقيقة، ثم إن ما ذكرناه من أن المنادي ملك وأنه ينادي بما سمعت هو المأثور، وجوز أن يكون نداؤه بقوله للنفس: ارجعي إلى ربك لتدخلن مكانك من الجنة أو النار أو هؤلاء للجنة وهؤلاء للنار، وأن يكون المنادي هو الله تعالى ينادي احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْواجَهُمْ [الصافات: 22] أو أَلْقِيا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ [ق: 24] مع قوله تعالى: ادْخُلُوها بِسَلامٍ [الحجر: 46، ق: 34] أو خُذُوهُ فَغُلُّوهُ [الحاقة: 30] أو أَيْنَ شُرَكائِيَ [النحل: 27، القصص: 62، 74، فصلت: 47] أو غير ذلك، وأن يكون غيره تعالى وغير الملك من المكلفين ينادي يا مالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ [الزخرف: 77] أو أَفِيضُوا عَلَيْنا مِنَ الْماءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ [الأعراف: 50] أو غير ذلك، والمعول عليه ما تقدم يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ وهي النفخة الثانية، ويَوْمَ بدل من يَوْمَ يُنادِ إلخ، والعامل فيهما ما دل عليه ذلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ كما تقدم، وجوز أن يكون ظرفا لما دل عليه ذلك ويَوْمَ يُنادِ غير معمول له بل لغيره على ما مر، وأن يكون ظرفا لينادي، وقوله تعالى: بِالْحَقِّ في موضع الحال من الصَّيْحَةَ أي يسمعونها ملتبسة بالحق الذي هو البعث، وجوز أن يكون (الحق) بمعنى اليقين والكلام نظير صاح بيقين أي وجد منه الصياح يقينا لا كالصدى وغيره فكأنه قيل: الصيحة المحققة، وجوز أن يكون الجار متعلقا بيسمعون على أن المعنى يسمعون بيقين، وأن يكون الباء للقسم و (الحق) هو الله تعالى أي يسمعون الصيحة أقسم بالله وهو كما ترى ذلِكَ أي اليوم يَوْمُ الْخُرُوجِ من القبور وهو من أسماء يوم القيامة.

(13/343)


وقيل: الإشارة إلى النداء واتسع في الظرف فجعل خبرا عن المصدر، أو الكلام على حذف مضاف أي ذلك النداء نداء يوم الخروج أو وقت ذلك النداء يوم الخروج إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ في الدنيا من غير أن يشاركنا في ذلك أحد وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ الرجوع للجزاء في الآخرة لا إلى غيرنا لا استقلالا ولا اشتراكا.
يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ بدل بعد بدل، ويحتمل أن يكون ظرفا للمصير أي إلينا مصيرهم في ذلك اليوم أو لما دل عليه ذلِكَ حَشْرٌ أي يحشرون يوم تشقق. وقرأ نافع وابن عامر «تشّق» بشد الشين وقرىء «تشقّق» بضم التاء مضارع شققت على البناء للمفعول و «تنشّق» مضارع انشقت. وقرأ زيد بن علي «تتشقّق» بتاءين، وقوله تعالى:
سِراعاً مصدر وقع حالا من الضمير في «عنهم» بتأويل مسرعين والعامل «تشقق» وقيل: التقدير يخرجون سراعا فتكون حالا من الواو والعامل يخرج، وحكاه أبو حيان عن الحوفي ثم قال: ويجوز أن يكون هذا المقدر عاملا في يَوْمَ تَشَقَّقُ أخرج ابن المنذر عن مجاهد أنه قال في الآية: تمطر السماء عليهم حتى تنشق الأرض عنهم، وجاء إن أول من تنشق عنه الأرض رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، أخرج الترمذي وحسنه والطبراني والحاكم واللفظ له عن ابن عمر قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، أخرج الترمذي وحسنه. والطبراني. والحاكم واللفظ له عن ابن عمر قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنا أول من تنشق عنه الأرض ثم أبو بكر وعمر ثم أهل البقيع فيحشرون معي ثم انتظر أهل مكة وتلا ابن عمر يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِراعاً»
ذلِكَ حَشْرٌ بعث وجمع عَلَيْنا يَسِيرٌ أي هين، وتقديم الجار والمجرور لتخصيص اليسر به عز وجل فإنه سبحانه العالم القادر لذاته الذي لا يشغله شأن عن شأن نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَقُولُونَ من نفي البعث وتكذيب الآيات الناطقة وغير ذلك مما لا خير فيه، وهذا تسلية للرسول صلّى الله عليه وسلّم وتهديد لهم وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ أي ما أنت مسلط عليهم تقسرهم على الإيمان أو تفعل بهم ما تريد وإنما أنت منذر، فالباء زائدة في الخبر وعَلَيْهِمْ متعلق به.
ويفهم من كلام بعض الأجلة جواز كون (جبار) من جبره على الأمر قهره عليه بمعنى أجبره لا من أجبره إذ لم يجىء فعال بمعنى مفعل من أفعل إلا فيما قل كدراك وسراع، وقال علي بن عيسى: لم يسمع ذلك إلا في دراك.
وقيل: جبار من جبر بمعنى أجبر لغة كنانة وإن «عليهم» متعلق بمحذوف وقع حال أي ما أنت جبار تجبرهم على الإيمان واليا عليهم، وهو محتمل للتضمين وعدمه فلا تغفل، وقيل: أريد التحلم عنهم وترك الغلظة عليهم، وعليه قيل: الآية منسوخة، وقيل: هي منسوخة على غيره أيضا بآية السيف فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخافُ وَعِيدِ فإنه لا ينتفع به غيره، وأخرج ابن جرير عن ابن عباس قال: «قالوا يا رسول الله لو خوفتنا فنزلت فذكر بالقرآن من يخاف وعيد»
وما أنسب هذا الاختتام بالافتتاح بقوله سبحانه: ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ [ق: 1] هذا وللشيخ الأكبر قدس سره في قوله تعالى: بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ [ق: 15] ولغير واحد من الصوفية في قوله سبحانه: وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ [ق: 16] كلام أشرنا إليه فيما سبق، ومنهم من يجعل ق إشارة إلى الوجود الحق المحيط بجميع الموجودات والله من ورائهم محيط، وقيل: هو إشارة إلى مقامات القرب، وقيل: غير ذلك، وطبق بعضهم سائر آيات السورة على ما في الأنفس وهو مما يعلم بأدنى التفات ممن له أدنى ممارسة لكلامهم والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل.

(13/344)


وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا (1) فَالْحَامِلَاتِ وِقْرًا (2) فَالْجَارِيَاتِ يُسْرًا (3) فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْرًا (4) إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ (5) وَإِنَّ الدِّينَ لَوَاقِعٌ (6) وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْحُبُكِ (7) إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ (8) يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ (9) قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ (10) الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ سَاهُونَ (11) يَسْأَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ (12) يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ (13) ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ (14) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (15) آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ (16) كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ (17)

سورة الذّاريات
«مكية» كما روي عن ابن عباس وابن الزبير رضي الله تعالى عنهما- ولم يحك في ذلك خلاف- وهي ستون آية بالاتفاق كما في كتاب العدد، ومناسبتها لسورة «ق» أنهما لما ختمت بذكر البعث واشتملت على ذكر الجزاء والجنة والنار وغير ذلك افتتحت هذه بالإقسام على أن ما وعدوا من ذلك لصادق، وأن الجزاء لواقع، وأنه قد ذكر هناك إهلاك كثير من القرون على وجه الإجمال، وذكر هنا إهلاك بعضهم على سبيل التفصيل إلى غير ذلك مما يظهر للمتأمل.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وَالذَّارِياتِ ذَرْواً أي الرياح التي تذرو التراب وغيره من- ذرا- المعتل بمعنى فرق وبدد ما رفعه عن مكانه فَالْحامِلاتِ وِقْراً أي حملا وهي السحب الحاملة للمطر.
فَالْجارِياتِ يُسْراً أي جريا سهلا إلى حيث سيرت وهي السفن فَالْمُقَسِّماتِ أَمْراً هي الملائكة الذين يقسمون الأمور بين الخلق على ما أمروا به، وتفسير كل بما فسر به قد صح روايته من طرق عن علي كرم الله تعالى وجهه، وفي بعض الروايات أن ابن الكواء سأله عن ذلك وهو رضي الله تعالى عنه يخطب على المنبر فأجاب بما ذكر، وفي بعض الأخبار ما يدل على أنه تفسير مأثور عن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم. (1)
__________
(1) (تنبيه) جرينا هنا في تقسيم هذا الجزء هكذا لما هو المشهور من تجزئة الأجزاء الأربعة الأواخر لذلك ليكون أو كل جزء منها أو سورة وإن كانت تجزئة المصاحف في هذا الجزء هي قوله «قال فما خطبكم أيها المرسلون» .

(14/3)


أخرج البزار والدارقطني في الافراد وابن مردويه وابن عساكر عن سعيد بن المسيب قال: «جاء صبيغ التميمي إلى عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه فقال: أخبرني عن الذَّارِياتِ ذَرْواً قال: هي الرياح، ولولا أني سمعت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يقوله ما قلته، قال: فأخبرني عن «الحاملات وقرا» قال: هي السحاب ولولا أني سمعت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يقوله ما قلته، قال: فأخبرني عن «الجاريات يسرا» قال: هي السفن ولولا أني سمعت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يقوله ما قلته، قال: فأخبرني عن «المقسمات أمرا» قال: هي الملائكة ولولا أني سمعت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يقوله ما قلته ثم أمر به فضرب مائة وجعل في بيت فلما برأ دعاه فضربه مائة أخرى وحمله على قتب وكتب إلى أبي موسى الأشعري امنع الناس من مجالسته فلم يزالوا كذلك حتى أتى أبا موسى فحلف له بالأيمان المغلظة ما يجد في نفسه مما كان يجد شيئا فكتب إلى عمر رضي الله تعالى عنه ما أخاله إلا قد صدق فخلى بينه وبين مجالسة الناس» .
ويدل هذا أن الرجل لم يكن سليم القلب وأن سؤاله لم يكن طلبا للعلم وإلا لم يصنع به عمر رضي الله تعالى عنه ما صنع.
وفي رواية عن ابن عباس أن- الحاملات- هي السفن الموقرة بالناس وأمتعتهم، وقيل: هي الحوامل من جميع الحيوانات، وقيل: الجاريات السحب تجري وتسير إلى حيث شاء الله عز وجل، وقيل: هي الكواكب التي تجري في منازلها وكلها لها حركة وإن اختلفت سرعة وبطأ كما بين في موضعه، وقيل: هي الكواكب السبعة الشهيرة وتسمى السيارة، وقيل: الذَّارِياتِ النساء الولود فإنهن يذرين الأولاد كأنه شبه تتابع الأولاد بما يتطاير من الرياح، وباقي المتعاطفات على ما سمعت أولا، وقيل: الذَّارِياتِ هي الأسباب التي تذري الخلائق على تشبيه الأسباب المعدة للبروز من العدم بالرياح المفرقة للحبوب ونحوها، وقيل: الحاملات الرياح الحاملة للسحاب، وقيل: هي الأسباب الحاملة لمسبباتها مجازا، وقيل: الجاريات الرياح تجري في مهابها، وقيل: المقسمات السحب يقسم الله تعالى بها أرزاق العباد، وقيل: هي الكواكب السبعة السيارة- وهو قول باطل- لا يقول به إلا من زعم أنها مدبرة لعالم الكون والفساد، وفي صحيح البخاري عن قتادة «خلق الله تعالى هذه النجوم لثلاث جعلها زينة للسماء ورجوما للشياطين.
وعلامات يهتدى بها فمن تأوّل فيها بغير ذلك فقد أخطأ وأضاع نصيبه وتكلف ما لا يعلم» وزاد رزين «وما لا علم له به وما عجز عن علمه الأنبياء والملائكة» وعن الربيع مثله وزاد «والله ما جعل الله تعالى في نجم حياة أحد ولا رزقه ولا موته وإنما يفترون على الله تعالى الكذب ويتعللون بالنجوم» ذكره صاحب جامع الأصول، وقد مر الكلام في إبطال ما قاله المنجمون مفصلا فتذكر، ولعله سيأتي إن شاء الله تعالى شيء من ذلك، وجوز أن يراد بالجميع الرياح فإنها- كما تذر- وما تذروه تثير السحاب وتحمله، وتجري في الجوّ جريا سهلا- وتقسم الأمطار بتصريف السحاب في الأقطار- والمعول عليه ما روي عن عمر رضي الله تعالى عنه سامعا له من رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم- وقاله باب مدينة العلم كرم الله تعالى وجهه على المنبر- وإليه كما نقل عن الزجاج ذهب جميع المفسرين أي المعتبرين، وقول الإمام بعد نقله له عن الأمير: الأقرب أن تحمل هذه الصفات الأربع على الرياح جسارة عظيمة على ما لا يسلم له، وجهل منه بما رواه ابن المسيب من الخبر الدال على أن ذلك تفسير النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فأين منه الامام عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه.
وقول صاحب الكشف: إنه شديد الطباق للمقام ولذا آثره الإمام لا أسلمه له أيضا إذا صح الحديث ثم إذا حملت هذه الصفات على أمور مختلفة متغايرة بالذات كما في المعول عليه فالفاء للترتيب في الأقسام ذكرا ورتبة باعتبار تفاوت مراتبها في الدلالة على كمال قدرته عز وجل، وهذا التفاوت إما على الترقي أو التنزل لما في كل منها

(14/4)


من الصفات التي تجعلها أعلى من وجه وأدنى من آخر إذا نظر لها ذو نظر صحيح، وقيل: الترتيب بالنظر إلى الأقرب فالأقرب منا، وإن حملت على واحد وهو الرياح فهي لترتيب الأفعال والصفات إذ الريح تذر الأبخرة إلى الجو أولا حتى تنعقد سحابا فتحمله ثانيا وتجري به ثالثا ناشرة وسائقة له إلى حيث أمرها الله تعالى ثم تقسم أمطاره، وقيل: إذا حملت الذاريات والحاملات على النساء، فالظاهر أنها للتفاوت في الدلالة على كمال القدرة فتدبر.
ونصب ذَرْواً على أنه مفعول مطلق، ووِقْراً على أنه مفعول به، وجوز الإمام أن يكون من باب ضربته سوطا، ويُسْراً على أنه صفة مصدر محذوف بتقدير مضاف أي جريا ذا يسر، أو على أنه حال أي ميسرة كما نقل عن سيبويه، وأَمْراً على أنه مفعول به وهو واحد الأمور، وقد أريد به الجمع ولم يعبر به لأن الفرد أنسب برؤوس الآي مع ظهور الأمر، وقيل على أنه حال أي مأمورة، والمفعول به محذوف أو الوصف منزل منزلة اللازم أي تفعل التقسيم مأمورة، وقرأ أبو عمرو وحمزة وَالذَّارِياتِ ذَرْواً بإدغام التاء في الذال، وقرىء «وقرا» بفتح الواو على أنه مصدر وقره إذا حمله- كما أفاده كلام الزمخشري- وناهيك به إماما في اللغة، وعلى هذا هو منصوب على أنه مفعول به أيضا على تسمية المحمول بالمصدر أو على أنه مفعول مطلق- لحاملات- من معناها كأنه قيل:
فالحاملات حملا. وقوله تعالى شأنه: إِنَّما تُوعَدُونَ لَصادِقٌ وَإِنَّ الدِّينَ لَواقِعٌ جواب للقسم، و (ما) موصولة والعائد محذوف أي إن الذي توعدونه، أو توعدون به، ويحتمل أن تكون مصدرية أي إن وعدكم، أو وعيدكم إذ توعدون يحتمل أن يكون مضارع وعد، وأن يكون مضارع أوعد، ولعل الثاني أنسب لقوله تعالى: فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخافُ وَعِيدِ [ق: 45] ولأن المقصود التخويف والتهويل، وعن مجاهد أن الآية في الكفار وهو يؤيد الوعيد ومعنى صدقة تحقق وقوعه، وفي الكشاف وعد صادق- ك عِيشَةٍ راضِيَةٍ [الحاقة: 21]- والدِّينَ الجزاء ووقوعه حصوله، والأكثرون على أن الموعود هو البعث، وفي تخصيص المذكورات بالإقسام بها رمز إلى شهادتها بتحقق الجملة المقسم عليها من حيث إنها أمور بديعة فمن قدر عليها فهو قادر على تحقيق البعث الموعود وَالسَّماءِ ذاتِ الْحُبُكِ أي الطرق جمع حبيكة كطريقة، أو حباك كمثال ومثل، ويقال: حبك الماء للتكسر الجاري فيه إذ مرت عليه الريح، وعليه قول زهير يصف غديرا:
مكلل بأصول النجم تنسجه ... ريح خريق لضاحي مائه حبك (1)
وحبك الشعر لآثار تثنية وتكسره، وتفسيرها بذلك مروي عن مقاتل والكلبي والضحاك، والمراد بها إما الطرق المحسوسة التي تسير فيها الكواكب، أو المعقولة التي تدرك بالبصيرة وهي ما تدل على وحدة الصانع وقدرته وعلمه وحكمته جل شأنه إذا تأملها الناظر، وقال ابن عباس وقتادة وعكرمة ومجاهد والربيع: ذات الخلق المستوي الجيد، وفي رواية أخرى عن مجاهد المتقنة البنيان، وقيل: ذات الصفاقة وهي أقوال متقاربة وكأن الحبك عليها من قولهم:
حبكت الشيء أحكمته وأحسنت عمله وحبكت العقدة أوثقتها، وفرس محبوك المعاقم- وهي المفاصل- أي محكمها، وفي الكشف أصل الحباكة الصفاقة وجودة الأثر، وعن الحسن- حبكها- نجومها، والظاهر أن إطلاق الحبك على النجوم مجاز لأنها تزين السماء كما يزين الثوب الموشى حبكه وطرائق وشيه فكأنه قيل: ذات النجوم التي هي كالحبك أي الطرائق في التزيين، واستظهر في السماء أنه جنس أريد به جميع السماوات وكون كل واحدة
__________
(1) قوله: «مكلل» مجرور على الوصف في قوله: قبله ثم استعانت- ماء مكلل- ذلك الماء بأصول النبات وصارت حوله كالإكليل، «والخريق» الريح الباردة الشديدة الهبوب و «الضاحي» الظاهر، و «حبك الماء طرائفة» . اهـ.

(14/5)


منها ذات حبك بمعنى مستوية الخلق جيدته، أو متقنة البنيان أو صفيقة، أو ذات طرق معقولة ظاهر، وأما كون كل منها كذلك بمعنى ذات طرق محسوسة فباعتبار أن الكواكب في أي سماء كانت تسير مسامتة لسائر السماوات، فممراتها باعتبار المسامتة طرق، وبمعنى ذات النجوم فباعتبار أن النجوم في أي سماء كانت تشاهد في سائر السماوات بناء على أن السماوات شفافة لا يحجب كل منها إدراك ما وراءه،
وأخرج ابن منيع عن علي كرم الله تعالى وجهه أنه قال: هي السماء السابعة
، وعن عبد الله بن عمرو مثله فتدبر ولا تغفل.
وقرأ ابن عباس والحسن بخلاف عنه وأبو ممالك الغفاري وأبو حيوة وابن أبي عبلة وأبو السمال ونعيم عن أبي عمرو «الحبك» بإسكان الباء على زنة القفل، وعكرمة بفتحها جمع حبكة مثل طرفة وطرف وبرقة (1) وبرق، وأبو مالك الغفاري والحسن بخلاف عنه أيضا بكسر الحاء والباء- كالإبل- وهو على ما ذكر الخفاجي اسم مفرد ورد على هذا الوزن شذوذا وليس جمعا، وأبو مالك والحسن وأبو حيوة أيضا بكسر الحاء وإسكان الباء- كالسلك- وهو تخفيف فعل مكسور الفاء والعين وهو اسم مفرد لا جمع لأن فعلا ليس من أبنية الجموع- قاله في البحر- وابن عباس وأبو مالك أيضا بفتحهما- كالجبل- قال أبو الفضل الرازي: فهو جمع حبكة مثل عقبة وعقب، والحسن أيضا بكسر الحاء وفتح الباء كالنعم، وأبو مالك أيضا بكسر الحاء وضم الباء وذكرها ابن عطية عن الحسن أيضا ثم قال: هي قراءة شاذة غير متوجهة وكأنه بعد أن كسر الحاء توهم قراءة الجمهور فضم التاء (2) وهذا من تداخل اللغات وليس في كلام العرب هذا البناء أي لأن فيه الانتقال من خفة إلى ثقل على عكس ضرب مبنيا للمفعول، وقال صاحب اللوامح: هو عديم النظير في العربية في أبنيتها وأوزانها ولا أدري ما وراءه انتهى.
وعلى التداخل تأول النحاة هذه القراءة، وقال أبو حيان: الأحسن عندي أن يكون ذلك مما أتبع فيه حركة الحياء لحركة تاء ذاتِ في الكسر ولم يعتد باللام الساكنة لأن الساكن حاجز غير حصين.
إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ أي متخالف متناقض في أمر الله عز وجل حيث تقولون: إنه جل شأنه خالق السماوات والأرض وتقولون بصحة عبادة الأصنام معه سبحانه، وفي أمر الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم فتقولون تارة: إنه مجنون، وأخرى: إنه ساحر ولا يكون الساحر إلا عاقلا، وفي أمر الحشر فتقولون: تارة لا حشر ولا حياة بعد الموت أصلا، وتزعمون أخرى أن أصنامكم شفعاؤكم عند الله تعالى يوم القيامة إلى غير ذلك من الأقوال المتخالفة فيما كلفوا بالإيمان به، واقتصر بعضهم على كون القول المختلف في أمره صلى الله تعالى عليه وسلم، والجملة جواب القسم ولعل النكتة في ذلك القسم تشبيه أقوالهم في اختلافها وتنافي أغراضها بطرائق السماوات في تباعدها واختلاف هيئاتها، أو الإشارة إلى أنها ليست مستوية جيدة، أو ليست قوية محكمة، أو ليس فيها ما يزينها بل فيها ما يشينها من التناقض يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ أي يصرف عن الإيمان بما كلفوا الايمان به لدلالة الكلام السابق عليه، وقال الحسن وقتادة: عن الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم، وقال غير واحد: عن القرآن، والكلام السابق مشعر بكل من صرف الصرف الذي لا أشد منه وأعظم، ووجه المبالغة من إسناد الفعل إلى من وصف به فلولا غرض المبالغة لكان من توضيح الواضح فكأنه أثبت للمصروف صرف آخر حيث قيل: يُصْرَفْ عَنْهُ [الأنعام: 16] المصروف فجاءت المبالغة من المضاعفة ثم الإطلاق في المقام الخطابي له مدخل في تقوية أمر المضاعفة وكذلك الإبهام الذي
__________
(1) هي أرض ذات حجارة.
(2) هكذا بالتاء الفوقية والظاهر أنها بالباء الموحدة.

(14/6)


في الموصول، وهو قريب من قوله تعالى: فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ ما غَشِيَهُمْ [طه: 78] وقيل: المراد يُصْرَفْ عَنْهُ في الوجود الخارجي من فَصَرَفَ عَنْهُ [يوسف: 34] في علم الله تعالى وقضائه سبحانه، وتعقب بأنه ليس فيه كثير فائدة لأن كل ما هو كائن معلوم أنه ثابت في سابق علمه تعالى الأزلي وليس فيه المبالغة السابقة، وأجيب عن الأول بأن فيه الإشارة إلى أن الحجة البالغة لله عز وجل في صرفه وكفى بذلك فائدة وهو مبني أن العلم تابع للمعلوم فافهمه، وحكى الزهراوي أنه يجوز أن يكون الضمير لما تُوعَدُونَ أو- للدين- أقسم سبحانه- بالذاريات- على أن وقوع أمر القيامة حق ثم أقسم بالسماء على أنهم في قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ في وقوعه، فمنهم شاك، ومنهم جاحد ثم قال جل وعلا: يُؤْفَكُ عن الإقرار بأمر القيامة من هو المأفوك، وذكر ذلك الزمخشري ولم يعزه، وادعى صاحب الكشف أنه أوجه لتلاؤم الكلام، وقيل: يجوز أن يكون الضمير- لقول مختلف- وعن- للتعليل كما في قوله تعالى:
وَما نَحْنُ بِتارِكِي آلِهَتِنا عَنْ قَوْلِكَ [هود: 53] وقوله:
ينهون عن أكل وعن شرب ... مثل المها يرتعن في خصب (1)
أي يصرف بسبب ذلك القول المختلف من أراد الإسلام، وقال الزمخشري: حقيقة يصدر إفكهم عن القول المختلف، وهذا محتمل لبقاء- عن- على أصلها من المجاوزة واعتبار التضمين، وفيه ارتكاب خلاف الظاهر من غير داع مع ذهاب تلك المبالغة، وجوز ابن عطية رجوع الضمير إلى القول إلا أنه قال: المعنى يصرف عن ذلك القول المختلف بتوفيق الله تعالى للإسلام من غلبت سعادته، وتعقبه بأن فيه مخالفة للعرف فإن عرف الاستعمال في الإفك الصرف من خير إلى شر فلذلك لا تجده إلا في المذمومين، ثم إن ذلك على كون الخطاب في أنكم للكفار- وهو الذي ذهب إليه ابن زيد وغيره- واستظهر أبو حيان كونه عاما للمسلم والكافر، واستظهر العموم فيما سبق أيضا، والقول المختلف حينئذ قول المسلمين بصدق الرسول عليه الصلاة والسلام، وقول الكفار بنقيض ذلك، وقرأ ابن جبير وقتادة «من أفك» مبينا للفاعل أي من أفك الناس عنه وهم قريش، وقرأ زيد بن علي- يأفك عنه من أفك- أي يصرف الناس عنه من هو أفاك كذاب، وقرىء «يؤفن عنه من أفن» بالنون فيهما أي يحرمه من حرم من أفن الضرع إذا أنهكه حلبا قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ أي الكذابون من أصحاب القول المختلف، وأصل الخرص الظن والتخمين ثم تجوز به عن الكذب لأنه في الغالب يكون منشأ له، وقال الراغب: حقيقة ذلك أن كل قول مقول عن ظن وتخمين يقال له: خرص سواء كان مطابقا للشيء أو مخالفا له من حيث إن صاحبه لم يقله عن علم ولا غلبة ظن ولا سماع بل اعتمد فيه على الظن والتخمين كفعل خارص الثمرة في خرصه، وكل من قال قولا على هذا النحو قد يسمى كاذبا وإن كان قوله مطابقا للمقول المخبر به كما في قوله تعالى: إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ [المنافقون: 1] الآية انتهى.
وفيه بحث وحقيقة- القتل- معروفة، والمراد- بقتل- الدعاء عليهم مع قطع النظر عن المعنى الحقيقي. وعن ابن عباس تفسيره باللعن قال ابن الأنباري: وإنما كان القتل بمعنى اللعن هنا لأن من لعنه الله تعالى بمنزلة المقتول الهالك، وقرىء «قتل الخراصين» أي قتل الله الخراصين الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ في جهل عظيم يغمرهم ويشملهم شمول الماء الغامر لما فيه ساهُونَ غافلون عما أمروا به، فالمراد بالسهو مطلق الغفلة.
__________
(1) يصف الشاعر مضيافا يصدر الأضياف عنه شباعا يتباهون في السمن بسبب الأكل والشرب وقالوا جمل ناه إذا كان عريقا في السمن اهـ.

(14/7)


يَسْئَلُونَ أي بطريق الاستعجال استهزاء أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ معمول ليسألون على أنه جار مجرى يقولون لما فيه من معنى القول، أو لقول مقدر- أي فيقولون متى وقوع يوم الجزاء- وقدر الوقوع ليكون السؤال عن الحدث كما هو المعروف في أَيَّانَ ولا ضير في جعل الزمان زمانيا فإن اليوم لما جعل موعودا ومنتظرا في نحو قوله تعالى: فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ [الدخان: 10] صار ملحقا بالزمانيات وكذلك- كل يوم له شأن مثل يوم العيد. والنيروز- وهذا جار في عرفي العرب والعجم على أنه يجوز عند الأشاعرة أن يكون للزمان زمان على ما فصل في مكانه، وقرىء «إيان» بكسر الهمزة وهي لغة يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ أي يحرقون، وأصل الفتن إذابة الجوهر ليظهر غشه ثم استعمل في الإحراق والتعذيب ونحو ذلك، ويَوْمَ نصب على الظرفية لمحذوف دل عليه وقوع الكلام جوابا للسؤال مضاف للجملة الاسمية بعده- أي يقع يوم الدين يوم هم على النار- إلخ، وقال الزجاج: ظرف لمحذوف وقع خبرا لمبتدأ كذلك أي هو واقع، أو كائن يوم إلخ، وجوز أن يكون هو نفسه خبر مبتدأ محذوف، والفتحة فتحة بناء لإضافته إلى غير، وهي الجملة الاسمية فإن الجمل بحسب الأصل كذلك على كلام فيه بين البصريين والكوفيين مفصل في شرح التسهيل- أي هو يوم هم- إلخ، والضمير قيل: راجع إلى وقت الوقوع فيكون هذا الكلام قائما مقام الجواب على نحو- سيقولون لله- في جواب مَنْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [الرعد: 16] لأن تقدير السؤال في أي وقت يقع، وجوابه الأصلي في يوم كذا، وإذا قلت: وقت وقوعه يوم كذا كان قائما مقامه.
ويجوز أن يكون الضمير لليوم والكلام جواب بحسب المعنى، فالتقدير يوم الجزاء- يوم تعذيب الكفار- ويؤيد- كونه مرفوع المحل خبرا لمبتدأ محذوف- قراءة ابن أبي عبلة. والزعفراني «يوم هم» بالرفع، وزعم بعض النحاة أن- يوم- بدل من يَوْمُ الدِّينِ وفتحته على قراءة الجمهور فتحة بناء، ويَوْمَ وما في حيزه من جملة كلام السائلين قالوه استهزاء، وحكي على المعنى، ولو حكي على اللفظ لقيل: يوم نحن على النار نفتن، وهو في غاية البعد كما لا يخفى، وقوله تعالى: ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ بتقدير قول وقع حالا من ضمير يُفْتَنُونَ أي مقولا لهم ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ أي عذابكم المعدّ لكم، وقد يسمى ما يحصل عنه العذاب- كالكفر- فتنة، وجوز أن يكون منه ما هنا كأنه قيل: ذوقوا كفركم- أي جزاء كفركم- أو بجعل الكفر نفس العذاب مجازا وهو كما ترى هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ جملة من مبتدأ وخبر داخلة تحت القول المضمر- أي هذا العذاب الذي كنتم تستعجلون به بطريق الاستهزاء- وجوز أن يكون هذا بدلا من فِتْنَتَكُمْ بتأويل العذاب، وفيه بعد إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ لا يبلغ كنهها ولا يقادر قدرها آخِذِينَ ما آتاهُمْ رَبُّهُمْ أي قابلين لكل ما أعطاهم عز وجل راضين به على معنى إن كل ما آتاهم حسن مرضي يتلقى بحسن القبول، والعموم مأخوذ من شيوع ما وإطلاقه في معرض المدح وإظهار منّه تعالى عليهم، واعتبار الرضا لأن الأخذ قبول عن قصد، ونصب آخِذِينَ على الحال من الضمير في الصرف إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ في الدنيا مُحْسِنِينَ أي لأعمالهم الصالحة آتين بها على ما ينبغي فلذلك استحقوا ما استحقوا من الفوز العظيم، وفسر إحسانهم بقوله تعالى كانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ ما يَهْجَعُونَ إلخ على أن الجملة في محل رفع بدل من قوله تعالى: كانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُحْسِنِينَ حصل بها تفسير، أو أنها جملة لا محل لها من الإعراب مفسرة كسائر الجمل التفسيرية، وأخرج الفريابي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال في الآية: آخِذِينَ ما آتاهُمْ رَبُّهُمْ من الفرائض إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُحْسِنِينَ أي كانوا قبل تنزل الفرائض يعملون، ولا أظن صحة نسبته لذلك الخبر، ولا يكاد تجعل جملة كانُوا إلخ عليه تفسيرا إذا صح ما نقل عنه في تفسيرها، وسيأتي إن شاء الله تعالى.

(14/8)


و الهجوع- النوم، وقيده الراغب بقوله: ليلا، وغيره بالقليل، وما إما مزيدة- فقليلا- معمول الفعل صفة لمصدر محذوف أي- هجوعا قليلا- ومِنَ اللَّيْلِ صفة، أو لغو متعلق- بيهجعون- ومِنَ للابتداء، وجملة يَهْجَعُونَ خير- كان- أو قَلِيلًا صفة لظرف محذوف- أي زمانا قليلا- ومِنَ اللَّيْلِ صفة على نحو- قليل من المال عندي- وإما موصولة عائدها محذوف فهي فاعل قَلِيلًا وهو خبر- كان- ومِنَ اللَّيْلِ حال من الموصول مقدم كأنه قيل: كانوا قد قل المقدار الذي يهجعون فيه كائنا ذلك المقدار مِنَ اللَّيْلِ وإما مصدرية فالمصدر فاعل قَلِيلًا وهو خبر كان أيضا، ومِنَ اللَّيْلِ بيان لا متعلق بما بعده لأن معمول المصدر لا يتقدم، أو حال من المصدر، ومِنَ الابتداء كذا في الكشف فهما من الكشاف، وذهب بعضهم إلى أن مِنَ على زيادة- ما- بمعنى في كما في قوله تعالى: إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ [الجمعة: 9] واعترض ابن المنير احتمال مصدريتها بأنه لا يجوز في مِنَ اللَّيْلِ كونه صفة، أو بيانا- للقليل- لأنه فيه واقع على الهجوع ولا صلة المصدر لتقدمه، وأجيب بأنه بيان للزمان المبهم وحكى الطيبي أنه إما منصوب على التبيين أو متعلق بفعل يفسره يَهْجَعُونَ وجوز أن يكون ما يَهْجَعُونَ على ذلك الاحتمال بدلا من اسم كان فكأنه قيل: كان هجوعهم قليلا وهو بعيد، وجوز في ما أن تكون نافية، وقَلِيلًا منصوب- بيهجعون- والمعنى- كانوا لا يهجعون من الليل قليلا ويحيونه كله- ورواه ابن أبي شيبة وأبو نصر عن مجاهد، ورده الزمخشري بأن ما النافية لا يعمل ما بعدها فيما قبلها لأن لها صدر الكلام وليس فيها التصرف الذي في أخواتها كلا فإنها قد تكون كجزء مما دخلت عليه نحو- عوتب بلا جرم- ولم ولن- لاختصاصهما بالفعل كالجزء منه، وأنت تعلم أن منع العمل هو مذهب البصريين، وفي شرح الهادي أن بعض النحاة أجازه مطلقا، وبعضهم أجازه في الظرف خاصة للتوسع فيه، واستدل عليه
بقوله:
ونحن عن فضلك ما استغنينا نعم يرد على ذلك أن فيه كما في الانتصاف خللا من حيث المعنى فإن طلب قيام الليل غير مستثنى منه جزء للهجوع وإن قيل غير ثابت في الشرع ولا معهود اللهم إلا أن يدعي أن من ذهب إلى ذلك يقول: بأنه كان ثابتا في الشرع، فقد أخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر عن عطاء أنه قال في الآية: كان ذلك إذ أمروا بقيام الليل كله فكان أبو ذر يعتمد على العصا فمكثوا شهرين ثم نزلت الرخصة فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنْهُ [المزمل: 20] وقال الضحاك: كانُوا قَلِيلًا في عددهم، وتم الكلام عند قَلِيلًا ثم ابتدأ مِنَ اللَّيْلِ ما يَهْجَعُونَ على أن ما نافية وفيه ما تقدم مع زيادة تفكيك الكلام، ولعل أظهر الأوجه زيادة ما ونصب قَلِيلًا على الظرفية، ومِنَ اللَّيْلِ صفة قيل: وفي الكلام مبالغات لفظ الهجوع بناء على أنه القليل من النوم، وقوله تعالى: قَلِيلًا ومِنَ اللَّيْلِ لأن الليل وقت السبات والراحة وزيادة ما لأنها تؤكد مضمون الجملة فتؤكد القلة وتحققها باعتبار كونها قيدا فيها.
والغرض من الآية أنهم يكابدون العبادة في أوقات الراحة وسكون النفس ولا يستريحون من مشاق النهار إلا قليلا، قال الحسن: كابدوا قيام الليل لا ينامون منه إلا قليلا، وعن عبد الله بن رواحة هجعوا قليلا ثم قاموا، وفسر أنس ابن مالك الآية- كما رواه جماعة عنه وصححه الحاكم- فقال: كانوا يصلون بين المغرب والعشاء وهي لا تدل على الاقتصار على ذلك.

(14/9)


وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (18) وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (19) وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ (20) وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ (21) وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ (22) فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ (23) هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ (24) إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ (25) فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ (26) فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ (27) فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لَا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ (28)

وَبِالْأَسْحارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ أي هم مع قلة هجوعهم وكثرة تهجدهم يداومون على الاستغفار في الأسحار كأنهم أسلفوا في ليلهم الجرائم ولم يتفرغوا فيه للعبادة، وفي بناء الفعل على الضمير إشعار بأنهم الاحقاء بأن يوصفوا بالاستغفار كأنهم المختصون به لاستدامتهم له وإطنابهم فيه.
وفي الآية من الإشارة إلى مزيد خشيتهم وعدم اغترارهم بعبادتهم ما لا يخفى، وحمل الاستغفار على حقيقته المشهورة هو الظاهر- وبه قال الحسن.
أخرج عنه ابن جرير وغيره أنه قال: صلوا فلما كان السحر استغفروا، وقيل: المراد طلبهم المغفرة بالصلاة، وعليه ما أخرج ابن المنذر وجماعة عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أنه قال:
يَسْتَغْفِرُونَ يصلون، وأخرج ابن مردويه عنه ذلك مرفوعا
ولا أراه يصح، وأخرج أيضا عن أنس قال: «قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: إن آخر الليل في التهجد أحب إلي من أوله لأن الله تعالى يقول: وَبِالْأَسْحارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ» وهو محتمل لذلك التفسير والظاهر وَفِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ أي نصيب وافر يستوجبونه على أنفسهم تقربا إلى الله عز وجل وإشفاقا على الناس فهو غير الزكاة كما قال ابن عباس ومجاهد وغيرهما. لِلسَّائِلِ الطالب منهم وَالْمَحْرُومِ وهو المتعفف الذي يحسبه الجاهل غنيا فيحرم الصدقة من أكثر الناس.
أخرج ابن جرير وابن حبان وابن مردويه عن أبي هريرة قال: «قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: ليس المسكين الذي ترده التمرة والتمرتان والأكلة والأكلتان قيل: فمن المسكين؟ قال: الذي ليس له ما يغنيه ولا يعلم مكانه فيتصدق عليه فذلك المحروم»
وفسره ابن عباس بالمحارف الذي يطلب الدنيا وتدبر عنه ولا يسأل الناس، وقيل: هو الذي يبعد منه ممكنات الرزق بعد قربها منه فيناله الحرمان، وقال زيد بن أسلم: هو الذي اجتيحت ثمرته، وقيل: من ماتت ماشيته، وقيل: من ليس له سهم في الإسلام، وقيل: الذي لا ينمو له مال، وقيل: غير ذلك- قال في البحر: وكل ذلك على سبيل التمثيل ويجمع الأقوال أنه الذي لا مال له لحرمان أصابه- وأنا بقول رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أقول- وقال منذر بن سعيد هذا الحق هو الزكاة المفروضة، وتعقب بأن السورة مكية وفرض الزكاة بالمدينة، وقيل: أصل فريضة الزكاة كان بمكة والذي كان بالمدينة القدر المعروف اليوم، وعن ابن عمر أن رجلا سأله عن هذا الحق فقال الزكاة وسوى ذلك حقوق فعمم، والجمهور على الأول.
وَفِي الْأَرْضِ آياتٌ دلائل من أنواع المعادن والنباتات والحيوانات، أو وجوه دلالات من الدحو وارتفاع بعضها عن الماء، واختلاف أجزائها في الكيفيات والخواص، فالدليل على الأول ما في الأرض من الموجودات والظرفية حقيقية والجمع على ظاهره، وعلى الثاني الدليل نفس الأرض، والجمعية باعتبار وجوه الدلالة وأحوالها، والظرفية من ظرفية الصفة في الموصوف والدلالة على وجود الصانع جل شأنه وعلمه وقدرته وإرادته ووحدته وفرط

(14/10)


رحمته عز وجل لِلْمُوقِنِينَ للموحدين الذين سلكوا الطريق السوي البرهاني الموصل إلى المعرفة فهم نظارون بعيون باصرة وأفهام نافذة، وقرأ قتادة- آية- بالإفراد وَفِي أَنْفُسِكُمْ أي في ذواتكم آيات إذ ليس في العالم شيء إلا وفي ذات الإنسان له نظير يدل مثل دلالته على ما انفرد به من الهيئات النافعة والمناظر البهية والتركيبات العجيبة والتمكن من الأفعال البديعة واستنباط الصنائع المختلفة واستجماع الكمالات المتنوعة، وآيات الأنفس أكثر من أن تحصى، وقيل: أريد بذلك اختلاف الألسنة والصور والألوان والطبائع، ورواه عطاء عن ابن عباس، وقيل: سبيل الطعام وسبيل الشراب والحق أن لا حصر أَفَلا تُبْصِرُونَ أي ألا تنظرون فلا تبصرون بعين البصيرة، وهو تعنيف على ترك النظر في الآيات الأرضية والنفسية، وقيل: في الأخير وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ أي تقديره وتعيينه، أو أسباب رزقكم من النيرين والكواكب والمطالع والمغارب التي تختلف بها الفصول التي هي مبادئ الرزق إلى غير ذلك، فالكلام على تقدير مضاف أو التجوز بجعل وجود الأسباب فيها كوجود المسبّب، وذهب غير واحد إلى أن السماء السحاب وهو سماء لغة، والمراد بالرزق المطر فإنه سبب الأقوات وروي تفسيره بذلك مرفوعا وقرأ ابن محيصن- أرزاقكم- على الجمع.
وَما تُوعَدُونَ عطف على رزقكم أي والذي توعدونه من خير وشر كما روي عن مجاهد، وفي رواية أخرى عنه وعن الضحاك- ما توعدون- الجنة والنار وهو ظاهر في أن النار في السماء وفيه خلاف، وقال بعضهم: هو الجنة وهي على ظهر السماء السابعة تحت العرش، وقيل: أمر الساعة، وقيل: الثواب والعقاب فإنهما مقدران معينان فيها، وقيل: إنه مستأنف خبره.
فَوَ رَبِّ السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ على أن ضمير إِنَّهُ ل ما وعلى ما تقدم، فإما له أو للرزق، أو لله تعالى، أو للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم، أو للقرآن، أو للدين في إِنَّ الدِّينَ لَواقِعٌ [الذاريات: 6] أو لليوم المذكور في أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ [الذاريات: 12] أو لجميع المذكور أما ما أقوال، واستظهر أبو حيان الأخير منها وهو مروي عن ابن جرير أي إن جميع ما ذكرناه من أول السورة إلى هنا لحق مِثْلَ ما أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ أي مثل نطقكم كما أنه لا شك لكم في أنكم تنطقون ينبغي أن لا تشكوا في حقية ذلك وهذا كقول الناس: إن هذا لحق كما أنك ترى وتسمع، ونصب مِثْلَ على الحالية من المستكن في لَحَقٌّ وهو لا يتعرف بالإضافة لتوغله في التنكير، أو على الوصف لمصدر محذوف أي إنه حق حقا مثل نطقكم، وقيل: إنه مبني على الفتح فقال المازني:
لتركبه مع ما حتى صارا شيئا واحدا نحو- ويحما- وأنشدوا لبناء الاسم معها قول الشاعر:
أثور ما أصيدكم أو ثورين ... أم هذه الجماء ذات القرنين
وقال غيره: لإضافته إلى غير متمكن وهو ما إن كانت نكرة موصوفة بمعنى شيء، أو موصولة بمعنى الذي وأَنَّكُمْ إلخ خبر مبتدأ محذوف أي هو أَنَّكُمْ إلخ، والجملة صفة، أو صلة، أو هو أن بما في حيزها إن جعلت ما زائدة، وهو نص الخليل ومحله على البناء الرفع على أنه صفة لَحَقٌّ أو خبر ثان ويؤيده قراءة حمزة والكسائي وأبي بكر والحسن وابن أبي إسحاق والأعمش بخلاف عن ثلاثتهم مِثْلَ بالرفع، وفي البحر أن الكوفيين يجعلون- مثلا- ظرفا فينصبونه على الظرفية ويجيزون زيد مثلك بالنصب، وعليه يجوز أن يكون في قراءة الجمهور منصوبا على الظرفية- واستدلالهم، والرد عليهم مذكور على النحو- وفي الآية من تأكيد حقية المذكور ما لا يخفى،
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن الحسن أنه قال فيها: بلغني أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قال: «قاتل الله قوما أقسم لهم ربهم ثم لم يصدقوا»
وعن الأصمعي أقبلت من جامع البصرة فطلع أعرابي على قعود فقال: ممن

(14/11)


الرجل؟ قلت: من بني أصمع قال: من أين أقبلت: من موضع يتلى فيه كلام الرحمن قال: اتل علي فتلوت وَالذَّارِياتِ فلما بلغت وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ قال: حسبك فقام إلى ناقته فنحرها ووزعها وعمد إلى سيفه وقوسه فكسرهما وولى فلما حججت مع الرشيد طفقت أطوف فإذا أنا بمن يهتف بي بصوت رقيق فالتفت فإذا بالأعرابي قد نحل واصفر فسلم علي واستقرأ السورة فلما بلغت الآية صاح وقال: قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقا ثم قال:
وهل غير هذا؟ فقرأت فَوَ رَبِّ السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ فصاح وقال: يا سبحان الله من ذا أغضب الجليل حتى حلف لم يصدقوه بقوله حتى ألجئوه إلى اليمين قالها ثلاثا وخرجت معها نفسه.
هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ فيه تفخيم لشأن الحديث وتنبيه على أنه ليس مما علمه رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بغير طريق الوحي قاله غير واحد، وفي الكشف فيه رمز إلى أنه لما فرغ من إثبات الجزاء لفظا للقسم ومعنى بما في المقسم به من التلويح إلى القدرة البالغة مديحا فيه صدق المبلغ، وقضى الوطر من تفصيله مهّد لإثبات النبوة وأن هذا الآتي الصادق حقيق بالإتباع لما معه من المعجزات الباهرة فقال سبحانه: هَلْ أَتاكَ إلخ، وضمن فيه تسليته عليه الصلاة والسلام بتكذيب قومه فله بسائر آبائه وإخوانه من الأنبياء عليهم السلام أسوة حسنة هذا إذا لم يجعل قوله تعالى: وَفِي مُوسى عطفا على قوله سبحانه وَفِي الْأَرْضِ آياتٌ وأما على ذلك التقدير فوجهه أن يكون قصة الخليل ولوط عليهما السلام معترضة للتسلي بإبعاد مكذبيه وأنه مرحوم منجى مكرم بالاصطفاء مثل أبيه إبراهيم صلوات الله تعالى وسلامه عليه وعليهم- والترجيح مع الأول انتهى- وسيأتي إن شاء الله تعالى ما سيتعلق بقوله سبحانه: وَفِي مُوسى، و (الضيف) في الأصل مصدر بمعنى الميل ولذلك يطلق على الواحد والمتعدد، قيل: كانوا اثني عشر ملكا، وقيل: ثلاثة جبرائيل وميكائيل وإسرافيل عليهم السلام وسموا ضيفا لأنهم كانوا في صورة الضيف ولأن إبراهيم عليه السلام حسبهم كذلك، فالتسمية على مقتضى الظاهر والحسبان، وبدأ بقصة إبراهيم وإن كانت متأخرة عن قصة عاد لأنها أقوى في غرض التسلية الْمُكْرَمِينَ أي عند الله عز وجل كما قال الحسن فهو كقوله تعالى في الملائكة عليهم السلام: بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ [الأنبياء: 26] أو عند إبراهيم عليه السلام إذ خدمهم بنفسه وزوجته وعجل لهم القرى ورفع مجالسهم كما في بعض الآثار، وقرأ عكرمة «المكرّمين» بالتشديد إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ ظرف للحديث لأنه صفة في الأصل، أو للضيف، أو ل الْمُكْرَمِينَ إن أريد إكرام إبراهيم لأن إكرام الله تعالى إياهم لا يتقيد، أو منصوب بإضمار اذكر فَقالُوا سَلاماً أي نسلم عليك سلاما، وأوجب في البحر حذف الفعل لأن المصدر سادّ مسدّه فهو من المصادر التي يجب حذف أفعالها، وقال ابن عطية:
يتجه أن يعمل في سَلاماً قالوا: على أن يجعل في معنى قولا ويكون المعنى حينئذ أنهم قالوا: تحية وقولا معناه «سلام» ونسب إلى مجاهد وليس بذاك.
قالَ سَلامٌ أي عليكم سلام عدل به إلى الرفع بالابتداء لقصد الثبات حتى يكون تحيته أحسن من تحيتهم أخذا بمزيد الأدب والإكرام، وقيل: سَلامٌ خبر مبتدأ محذوف أي أمري سَلامٌ وقرئا مرفوعين، وقرىء- سلاما قال سلما- بكسر السين وإسكان اللام والنصب، والسلم السلام، وقرأ ابن وثاب والنخعي وابن جبير وطلحة- سلاما قال سلم- بالكسر والإسكان والرفع، وجعله في البحر على معنى نحن أو أنتم سلم قَوْمٌ مُنْكَرُونَ أنكرهم عليه السلام للسلام الذي هو علم الإسلام، أو لأنهم عليهم السلام ليسوا ممن عهدهم من الناس، أو لأن أوضاعهم وأشكالهم خلاف ما عليه الناس، وقَوْمٌ خبر مبتدأ محذوف والأكثر على أن التقدير أنتم قوم منكرون وأنه عليه السلام قاله لهم للتعرف كقولك لمن لقيته: أنا لا أعرفك تريد عرف لي نفسك وصفها، وذهب بعض المحققين إلى

(14/12)


أن الذي يظهر أن التقدير هؤلاء قَوْمٌ مُنْكَرُونَ وأنه عليه السلام قاله في نفسه، أو لمن كان معه من أتباعه وغلمانه من غير أن يشعرهم بذلك فإنه الأنسب بحاله عليه السلام لأن في خطاب الضيف بنحو ذلك إيحاشا ما، وطلبه به أن يعرفوه حالهم لعله لا يزيل ذلك. وأيضا لو كان مراده ذلك لكشفوا أحوالهم عند القول المذكور ولم يتصد عليه السلام لمقدمات الضيافة.
فَراغَ إِلى أَهْلِهِ أي ذهب إليهم على خفية من ضيفه، نقل أبو عبيدة أنه لا يقال: راغ إلا إذا ذهب على خفية، وقال: يقال روغ اللقمة إذا غمسها في السمن حتى تروى، قال ابن المنير: وهو من هذا المعنى لأنها تذهب مغموسة في السمن حتى تخفى، ومن مقلوب الروغ غور الأرض والجرح لخفائه وسائر مقلوباته قريبة من هذا المعنى، وقال الراغب: الروغ الميل على سبيل الاحتيال، ومنه راغ الثعلب، وراغ فلان إلى فلان مال نحوه لأمر يريده منه بالاحتيال، ويعلم منه أن لاعتبار قيد الخفية وجها وهو أمر يقتضيه المقام أيضا لأن من يذهب إلى أهله لتدارك الطعام يذهب كذلك غالبا، وتشعر الفاء بأنه عليه السلام يبادر بالذهاب ولم يمهل وقد ذكروا أن من أدب المضيف أن يبادر بالقرى من غير أن يشعر به الضيف حذرا من أن يمنعه الضيف، أو يصير منتظرا فَجاءَ بِعِجْلٍ هو ولد البقرة كأنه سمي بذلك لتصور عجلته التي تعدم منه إذا صار ثورا سَمِينٍ ممتلىء الجسد بالشحم واللحم يقال: سمن- كسمع- سمانة بالفتح وسمنا- كعنب- فهو سامن وسمين، وكحسن السمين خلقة كذا في القاموس، وفي البحر يقال: سمن سمنا فهو سمين شذوذا في المصدر، واسم الفاعل والقياس سمن وسمن، وقالوا: سامن إذا حدث له السمن انتهى، والفاء فصيحة أفصحت عن جمل قد حذقت ثقة بدلالة الحال عليها، وإيذانا بكمال سرعة المجيء بالطعام أي فذبح عجلا فحنذه فجاء به، وقال بعضهم إنه كان معدا عنده حنيذا قبل مجيئهم لمن يرد عليه من الضيوف فلا حاجة إلى تقدير ما ذكر، والمشهور اليوم أن الذبح للضيف إذا ورد أبلغ في إكرامه من الإتيان بما هيء من الطعام قبل وروده، وكان كما روي عن قتادة عامة ماله عليه السلام البقر ولو كان عنده أطيب لحما منه لأكرمهم به.
فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ بأن وضعه لديهم، وفيه دليل على أن من إكرام الضيف أن يقدم له أكثر مما يأكل وأن لا يوضع الطعام بموضع ويدعى الضيف إليه قالَ أَلا تَأْكُلُونَ، قيل: عرض للأكل فإن في ذلك تأنيسا للضيف، وقيل: إنكار لعدم تعرضهم للأكل،
وفي بعض الآثار أنهم قالوا: إنا لا نأكل إلا ما أدينا ثمنه فقال عليه السلام: إني لا أبيحه لكم إلا بثمن قالوا: وما هو؟ قال: أن تسموا الله تعالى عند الابتداء وتحمدوه عز وجل عند الفراغ فقال بعضهم لبعض: بحق اتخذه الله تعالى خليلا
فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً فأضمر في نفسه منهم خوفا لما رأى عليه الصلاة والسلام إعراضهم عن طعامه وظن أن ذلك لشر يريدونه فإن أكل الضيف أمنة ودليل على انبساط نفسه وللطعام حرمة وذمام والامتناع منه وحشة موجبة لظن الشر. وعن ابن عباس أنه عليه السلام وقع في نفسه أنهم ملائكة أرسلوا للعذاب فخاف قالُوا لا تَخَفْ إنا رسل الله تعالى، عن يحيى بن شداد مسح جبريل عليه السلام العجل بجناحه فقام يدرج حتى لحق بأمه فعرفهم وأمن منهم، وعلى ما روي عن الحبر أن هذا لمجرد تأمينه عليه السلام، وقيل: مع تحقيق أنهم ملائكة وعلمهم بما أضمر في نفسه إما بإطلاع الله تعالى إياهم عليه، أو إطلاع ملائكته الكرام الكاتبين عليه وإخبارهم به، أو بظهور أمارته في وجهه الشريف فاستدلوا بذلك على الباطن وَبَشَّرُوهُ وفي سورة [الصافات: 112] وَبَشَّرْناهُ أي بواسطتهم بِغُلامٍ هو عند الجمهور إسحاق بن سارة وهو الحق للتنصيص على أنه المبشر به في سورة هود، والقصة واحدة، وقال مجاهد: إسماعيل بن هاجر كما رواه عنه ابن جرير وغيره ولا يكاد يصح عَلِيمٍ عند بلوغه واستوائه، وفيه تبشير بحياته وكانت البشارة بذكر لأنه أسر للنفس وأبهج، ووصفه بالعلم لأنها الصفة التي

(14/13)


فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَهَا وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ (29) قَالُوا كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ (30) قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (31) قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (32) لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ طِينٍ (33) مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ (34) فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (35) فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (36) وَتَرَكْنَا فِيهَا آيَةً لِلَّذِينَ يَخَافُونَ الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (37) وَفِي مُوسَى إِذْ أَرْسَلْنَاهُ إِلَى فِرْعَوْنَ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (38) فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ وَقَالَ سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (39) فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ وَهُوَ مُلِيمٌ (40) وَفِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ (41) مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ (42) وَفِي ثَمُودَ إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ (43) فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ وَهُمْ يَنْظُرُونَ (44) فَمَا اسْتَطَاعُوا مِنْ قِيَامٍ وَمَا كَانُوا مُنْتَصِرِينَ (45) وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (46) وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ (47) وَالْأَرْضَ فَرَشْنَاهَا فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ (48) وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (49) فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ (50) وَلَا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ (51) كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (52) أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ (53)

يختص بها الإنسان الكامل لا الصورة الجميلة والقوة ونحوهما، وهذا عند غير الأكثرين من أهل هذا الزمان فإن العلم عندهم لا سيما العلم الشرعي رذيلة لا تعادلها رذيلة والجهل فضيلة لا توازنها فضيلة، وفي صيغة المبالغة مع حذف المعمول ما لا يخفى مما يوجب السرور، وعن الحسن عَلِيمٍ نبي ووقعت البشارة بعد التأنيس، وفي ذلك إشارة إلى أن درء المفسدة أهم من جلب المصلحة، وذكر بعضهم أن علمه عليه السلام بأنهم ملائكة من حيث بشروه بغيب.
فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ أي سارة لما سمعت بشارتهم إلى بيتها وكانت في زاوية تنظر إليهم، وفي التفسير الكبير إنها كانت في خدمتهم فلما تكلموا مع زوجها بولادتها استحيت وأعرضت عنهم فذكر الله تعالى ذلك بلفظ الإقبال على الأهل دون الإدبار عن الملائكة، وهو إن صح مثله عن نقل وأثر لا يأباه الخطاب الآتي لأنه يقتضي الإقبال دون الإدبار إذ يكفي لصحته أن يكون بمسمع منها وإن كانت مدبرة، نعم في الكلام عليه استعارة ضدية ولا قرينة هاهنا تصححها، وقيل: أقبلت بمعنى أخذت كما تقول أخذ يشتمني فِي صَرَّةٍ في صيحة من الصرير قاله ابن عباس، وقال قتادة وعكرمة: صرتها رنتها، وقيل: قولها أوه، وقيل: يا ويلتي، وقيل: في شدة، وقيل: الصرة الجماعة المنضم بعضهم إلى بعض كأنهم صروا أي جمعوا في وعاء- وإلى هذا ذهب ابن بحر- قال: أي أقبلت في صرة من نسوة تبادرن نظرا إلى الملائكة عليهم السلام، والجار والمجرور في موضع الحال، أو المفعول به إن فسر (أقبلت) بأخذت قيل: إن فِي عليه زائدة كما في قوله:
يجرح في عراقيبها نصلي والتقدير أخذت صيحة، وقيل: بل الجار والمجرور في موضع الخبر لأن الفعل حينئذ من أفعال المقاربة فَصَكَّتْ وَجْهَها قال مجاهد: ضربت بيدها على جبهتها وقالت: يا ويلتاه، وقيل: إنها وجدت حرارة الدم فلطمت

(14/14)


وجهها من الحياء، وقيل: إنها لطمته تعجبا وهو فعل النساء إذا تعجبن من شيء وَقالَتْ عَجُوزٌ أي أنا عجوز عَقِيمٌ عاقر فكيف ألد، وعقيم فعيل قيل: بمعنى فاعل أو مفعول وأصل معنى العقم اليبس قالُوا كَذلِكَ أي مثل ذلك القول الكريم الذي أخبرنا به قالَ رَبُّكِ وإنما نحن معبرون نخبرك به عنه عز وجل لا أنا نقوله من تلقاء أنفسنا، وروي أن جبريل عليه السلام قال لها: انظري إلى سقف بيتك فنظرت فإذا جذوعه مورقة مثمرة إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ فيكون قوله عز وجل حقا وفعله سبحانه متقنا لا محالة، وهذه المفاوضة لم تكن مع سارة فقط بل كانت مع إبراهيم أيضا حسبما تقدم في سورة الحجر، وإنما لم يذكر هاهنا اكتفاء بما ذكر هناك كما أنه لم يذكر هناك سارة اكتفاء بما ذكر- هاهنا وفي سورة هود..
قالَ أي إبراهيم عليه السلام لما علم أنهم ملائكة أرسلوا لأمر فَما خَطْبُكُمْ أي شأنكم الخطير الذي لأجله أرسلتم سوى البشارة أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ قالُوا إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ يعنون قوم لوط عليه السلام لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ أي بعد قلب قراهم عاليها سافلها حسبما فصل في سائر السور الكريمة حِجارَةً مِنْ طِينٍ أي طين متحجر وهو السجيل وفي تقييد كونها من طين رفع توهم كونها بردا فان بعض الناس يسمي البرد حجارة مُسَوَّمَةً معلمة من السومة وهي العلامة على كل واحدة منها اسم من يهلك بها وقيل: أعلمت بأنها من حجارة العذاب، وقيل: بعلامة تدل على أنها ليست من حجارة الدنيا، وقيل: مسومة مرسلة من أسمت الإبل في المرعى، ومنه قوله تعالى: وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ [النحل: 10] عِنْدَ رَبِّكَ أي في محل ظهور قدرته سبحانه وعظمته عز وجل، والمراد أنها معلمة في أول خلقها، وقيل: المعنى أنها في علم الله تعالى معدّة لِلْمُسْرِفِينَ المجاوزين الحد في الفجور، وأل- عند الإمام للعهد أي لهؤلاء المسرفين، ووضع الظاهر. موضع الضمير ذمّا لهم بالإسراف بعد ذمّهم بالإجرام، وإشارة إلى علة الحكم، وقوله تعالى: فَأَخْرَجْنا إلى آخره حكاية من جهته تعالى لما جرى على قوم لوط عليه السلام بطريق الإجمال بعد حكاية ما جرى بين الملائكة وبين إبراهيم عليهم السلام من الكلام، والفاء فصيحة مفصحة عن جمل قد حذفت ثقة بذكرها في موضع آخر كأنه قيل: فقاموا منه وجاؤوا لوطا فجرى بينهم وبينه ما جرى فباشروا ما أمروا به فأخرجنا بقولنا فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ [الحجر: 65] إلخ مَنْ كانَ فِيها أي في قرى قوم لوط وإضمارها بغير ذكر لشهرتها.
مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ممن آمن بلوط عليه السلام فَما وَجَدْنا فِيها غَيْرَ بَيْتٍ أي غير أهل بيت للبيان بقوله تعالى: مِنَ الْمُسْلِمِينَ فالكلام بتقدير مضاف، وجوز أن يراد بالبيت نفسه الجماعة مجازا، والمراد بهم- كما أخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم- عن مجاهد لوط وابنتاه، وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير أنه قال: كانوا ثلاثة عشر، واستدل بالآية على اتحاد الإيمان والإسلام للاستثناء المعنوي فإن المعنى فأخرجنا من كان فيها من المؤمنين فلم يكن المخرج إلا أهل بيت واحد وإلا لم يستقم الكلام، وأنت تعلم أن هذا يدل على أنهما صادقان على الأمر الواحد لا ينفك أحدهما عن الآخر كالناطق والإنسان إما على الاتحاد في المفهوم وهو المختلف فيه عند أهل الأصول والحديث فلا، فالاستدلال بها على اتحادهما فيه ضعيف، نعم تدل على أنهما صفتا مدح من أوجه عديدة استحقاق الإخراج واختلاف الوصفين وجعل كل مستقلا بأن يجعل سبب النجاة وما في قوله تعالى: مَنْ كانَ أولا، وغَيْرَ بَيْتٍ ثانيا من الدلالة على المبالغة فإن صاحبهما محفوظ مَنْ كانَ وأين كان إلى غير ذلك، ومعنى الوجدان منسوبا إليه تعالى العلم على ما قاله الراغب، وذهب بعض الأجلة إلى أنه لا يقال: ما وجدت كذا إلا بعد الفحص والتفتيش، وجعل عليه معنى الآية فأخرج ملائكتنا مَنْ كانَ فِيها مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فما وجد ملائكتنا

(14/15)


فيها غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ أو في الكلام ضرب آخر من المجاز فلا تغفل.
وَتَرَكْنا فِيها أي في القرى آيَةً علامة دالة على ما أصابهم من العذاب، قال ابن جريج: هي أحجار كثيرة منضودة، وقيل: تلك الأحجار التي أهلكوا بها، وقيل: ماء منتن قال الشهاب: كأنه بحيرة طبرية، وجوز أبو حيان كون ضمير فِيها عائدا على الاهلاكة التي أهلكوا فإنها من أعاجيب الإهلاك بجعل أعالي القرية أسافل، وإمطار الحجارة، والظاهر هو الأول لِلَّذِينَ يَخافُونَ الْعَذابَ الْأَلِيمَ أي من شأنهم أن يخافوه لسلامة فطرتهم ورقة قلوبهم دون من عداهم من ذوي القلوب القاسية فإنهم لا يعتدون بها ولا يعدونها آية وَفِي مُوسى عطف على وَتَرَكْنا فِيها بتقدير عامل له أي وجعلنا في موسى، والجملة معطوفة على الجملة، أو هو عطف على فِيها بتغليب معنى عامل الآية، أو سلوك طريق المشاكلة في عطفه على الأوجه التي ذكرها النحاة في نحو:
علفتها تبنا وماء باردا لا يصح تسليط الترك بمعنى الإبقاء على قوله سبحانه: وَفِي مُوسى فقول أبي حيان: لا حاجة إلى إضمار تَرَكْنا لانه قد أمكن العامل في المجرور تركنا الاول فيه بحث، وقيل: فِي مُوسى خبر لمبتدأ محذوف أي وَفِي مُوسى آية، وجوز ابن عطية. وغيره أن يكون معطوفا على قوله تعالى: وَفِي الْأَرْضِ وما بينهما اعتراض لتسليته عليه الصلاة والسلام على ما مر، وتعقبه في البحر بأنه بعيد جدا ينزه القرآن الكريم عن مثله إِذْ أَرْسَلْناهُ قيل: بدل من مُوسى، وقيل: هو منصوب بآية، وقيل: بمحذوف أي كائنة وقت إرسالنا، وقيل: بتركنا.
إِلى فِرْعَوْنَ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ هو ما ظهر على يديه من المعجزات الباهرة، والسلطان يطلق على ذلك مع شموله للواحد والمتعدد لأنه في الأصل مصدر فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ فأعرض عن الإيمان بموسى عليه السلام على أن ركنه جانب بدنه وعطفه، والتولي به كناية عن الإعراض، والباء للتعدية لأن معناه ثنى عطفه، أو للملابسة، وقال قتادة:
تولى بقومه على أن الركن بمعنى القوم لأنه يركن إليهم ويتقوى بهم، والباء للمصاحبة أو الملابسة وكونها للسببية غير وجيه، وقيل: تولى بقوته وسلطانه، والركن يستعار للقوة- كما قال الراغب- وقرىء بركنه بضم الكاف اتباعا للراء وَقالَ ساحِرٌ أي هو ساحر أَوْ مَجْنُونٌ كان اللعين جعل ما ظهر على يديه عليه السلام من الخوارق العجيبة منسوبة إلى الجن وتردد في أنه حصل باختياره فيكون سحرا، أو بغير اختياره فيكون جنونا، وهذا مبني على زعمه الفاسد وإلا فالسحر ليس من الجن كما بين في محله- فأو- للشك، وقيل: للإبهام، وقال أبو عبيدة: هي بمعنى الواو لأن اللعين قال الأمرين قال: إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ [الأعراف: 109، الشعراء: 34] وقال: إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ [الشعراء: 27] وأنت تعلم أن اللعين يتلوّن تلون الحرباء فلا ضرورة تدعو إلى جعلها بمعنى الواوأَخَذْناهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْناهُمْ
طرحناهم غير معتّدين بهم ي الْيَمِ
في البحر، والمراد فأغرقناهم فيه، وفي الكلام من الدلالة على غاية عظم شأن القدرة الربانية ونهاية قمأة فرعون وقومه ما لا يخفى هُوَ مُلِيمٌ
أي آت بما يلام عليه من الكفر والطغيان فالافعال هنا للاتيان بما يقتضي معنى ثلاثيه كأغرب إذا أتى أمرا غريبا، وقيل: الصيغة للنسب، أو الإسناد للسبب- وهو كما ترى- وكون الملام عليه هنا الكفر والطغيان هو الذي يقتضيه حال فرعون وهو مما يختلف باعتبار من وصف به فلا يتوهم أنه كيف وصف اللعين بما وصف به ذو النون عليه السلام وَفِي عادٍ إِذْ أَرْسَلْنا على طرز ما تقدم عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ الشديد التي لا تلقح شيئا كما أخرجه جماعة عن ابن عباس وصححه الحاكم، وفي لفظ هي ريح لا بركة فيها ولا منفعة ولا ينزل منها غيث ولا يلقح بها شجر كأنه شبه عدم تضمن المنفعة بعقم المرأة ففعيل بمعنى فاعل من اللازم وكون هذا المعنى لا يصح هنا مكابرة، وقال بعضهم وهو

(14/16)


حسن: سميت عقيما لأنها أهلكتهم وقطعت دابرهم على أن هناك استعارة تبعية شبه إهلاكهم وقطع دابرهم بعقم النساء وعدم حملهن لما فيه من إذهاب النسل ثم أطلق المشبه به على المشبه واشتق منه العقيم، وفعيل قيل: بمعنى فاعل أو مفعول، وهذه الريح كانت الدبور لما
صح من قوله صلى الله تعالى عليه وسلم: «نصرت بالصبا وأهلكت عاد الدبور»
وأخرج الفريابي وابن المنذر عن علي كرم الله تعالى وجهه أنها النكباء
، وأخرج ابن جرير وجماعة عن ابن المسيب أنها الجنوب، وأخرج ابن المنذر عن مجاهد أنها الصبا، والمعول عليه ما ذكرنا أولا، ولعل الخبر عن الأمير كرم الله تعالى وجهه غير صحيح ما تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ ما تدع شيئا أَتَتْ عَلَيْهِ جرت عليه إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ الشيء البالي من عظم، أو نبات، أو غير ذلك من رمّ الشيء بلي، ويقال للبالي: رمام كغراب، وأرم أيضا لكن قال الراغب يختص الرم بالفتات من الخشب والتبن، والرمة بالكسر تختص بالعظم البالي، والرمة بالضم بالحبل البالي، وفسره السدي هنا بالتراب، وقتادة بالهشيم، وقطرب بالرماد، وفسره ابن عيسى بالمنسحق الذي لا يرم أي لا يصلح كأنه جعل الهمزة في أرم للسلب، والجملة بعد إِلَّا حالية. والشيء هنا عام مخصوص أي من شيء أراد الله تعالى تدميره وإهلاكه من ناس. أو ديار. أو شجر. أو غير ذلك، روي أن الريح كانت تمر بالناس فيهم الرجل من عاد فتنتزعه من بينهم وتهلكه وَفِي ثَمُودَ إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ أخرج البيهقي في سنة عن قتادة أنه ثلاثة أيام- وإليه ذهب الفراء وجماعة- قال: تفسيره قوله تعالى: تَمَتَّعُوا فِي دارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ [هود: 65] واستشكل بأن هذا التمتع مؤخر عن العتو لقوله تعالى: فَعَقَرُوها فَقالَ تَمَتَّعُوا [هود: 65] ، وقوله تعالى: فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ يدل على أن العتو مؤخر، وأجيب بأن هذا مرتب على تمام القصة كأنه قيل: وجعلنا في زمان قولنا ذلك لثمود آية أو وفي زمان قولنا ذلك لثمود آية، ثم أخذ في بيان كونه آية فقيل: فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ أي فاستكبروا عن الامتثال به إلى الآخر، فالفاء للتفصيل قال في الكشف. وهو الظاهر من هذا المساق، وكذلك قوله تعالى: فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ مرتب على القصة زمان إرسال موسى عليه السلام بالسلطان وإن كان هناك لا مانع من الترتب على الإرسال وذلك لأنه جيء بالظرف مجيء الفضلة حيث جعل فيه الآية، والقصة من توليهم إلى هلاكهم انتهى، وقال الحسن: هذا أي- القول لهم تمتعوا حتى حين- كان حين بعث إليهم صالح أمروا بالإيمان بما جاء به، والتمتع إلى أن تأتي آجالهم- ثم عتوا بعد ذلك- قال في البحر: ولذلك جاء العطف بالفاء المقتضية تأخر العتو عما أمروا به فهو مطابق لفظا ووجودا واختاره الإمام فقال: قال بعض المفسرين: المراد بالحين الأيام الثلاثة التي أمهلوها بعد عقر الناقة وهو ضعيف لأن ترتب فعتوا بالفاء دليل على أن العتو كان بعد القول المذكور، فالظاهر أنه ما قدر الله تعالى من الآجال فما من أحد إلا وهو ممهل مدة الأجل كأنه يقول له. تمتع إلى آخر أجلك فإن أحسنت فقد حصل لك التمتع في الدارين وإلا فما لك في الآخرة من نصيب انتهى، وما تقدم أبعد مغزى فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ أي أهلكتهم، روي أن صالحا عليه السلام وعدهم الهلاك بعد ثلاثة أيام، وقال لهم: تصبح وجوهكم غدا مصفرة. وبعد غد محمرة. واليوم الثالث مسودة ثم يصبحكم العذاب. ولما رأوا الآيات التي بينها عليه السلام عمدوا إلى قتله فنجاه الله تعالى فذهب إلى أرض فلسطين ولما كان ضحوة اليوم الرابع تحنطوا وتكفنوا بالأنطاع فأتتهم الصاعقة وهي نار من السماء، وقيل: صيحة منها فهلكوا، وقرأ عمر وعثمان رضي الله تعالى عنهما والكسائي الصعقة وهي المرة من الصعق بمعنى الصاعقة أيضا، أو الصيحة وَهُمْ يَنْظُرُونَ إليها ويعاينونها ويحتاج إلى تنزيل المسموع منزلة المبصر على القول بأن الصاعقة الصيحة وأن المراد ينظرون إليها، وقال مجاهد: يَنْظُرُونَ بمعنى ينتظرون أي وهم ينتظرون الأخذ والعذاب في تلك الأيام الثلاثة التي رأوا فيها علاماته وانتظار العذاب أشد من العذاب فَمَا اسْتَطاعُوا مِنْ قِيامٍ كقوله تعالى: فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ [الأعراف: 78، 91، العنكبوت: 37] وقيل: هو من قولهم: ما يقوم فلان بكذا إذا عجز عن دفعه، وروي

(14/17)


ذلك عن قتادة فهو معنى مجازي، أو كناية شاعت حتى التحقت بالحقيقة وَما كانُوا مُنْتَصِرِينَ بغيرهم كما لم يتمنعوا بأنفسهم وَقَوْمَ نُوحٍ أي وأهلكنا قوم، فإن ما قبله يدل عليه، أو واذكر، وقيل: عطف على الضمير في فَأَخَذَتْهُمُ، وقيل: في نَبَذْناهُمْ
لأن معنى كل فأهلكناهم- وهو كما ترى- وجوز أن يكون عطفا على محل وَفِي عادٍ أو وَفِي ثَمُودَ وأيد بقراءة عبد الله وأبي عمرو وحمزة والكسائي
وقوم بالجر، وقرأ عبد الوارث ومحبوب والأصمعي عن أبي عمرو وأبو السمال وابن مقسم. وقوم بالرفع والظاهر أنه على الابتداء، والخبر محذوف أي أهلكناهم مِنْ قَبْلُ أي من قبل هؤلاء المهلكين إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ خارجين عن الحدود فيما كانوا فيه من الكفر والمعاصي وَالسَّماءَ أي وبنينا السماء بَنَيْناها بِأَيْدٍ أي بقوة قاله ابن عباس ومجاهد وقتادة، ومثله- الآد- وليس جمع «يد» وجوزه الامام وإن صحت التورية به وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ أي لقادرون من الوسع بمعنى الطاقة، فالجملة تذييل إثباتا لسعة قدرته عز وجل كل شيء فضلا عن السماء، وفيه رمز إلى التعريض الذي في قوله تعالى: وَما مَسَّنا مِنْ لُغُوبٍ [ق: 38] ، وعن الحسن لَمُوسِعُونَ الرزق بالمطر وكأنه أخذه من أن المساق مساق الامتنان بذلك على العباد لا إظهار القدرة فكأنه أشير في قوله تعالى: وَالسَّماءَ بَنَيْناها بِأَيْدٍ إلى ما تقدم من قوله سبحانه: وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ [الذاريات: 22] على بعض الأقوال فناسب أن يتمم بقوله تعالى: وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ مبالغة في المن ولا يحتاج أن يفسر الأيد بالأنعام على هذا القول لأنه يتم المقصود دونه، واليد بمعنى النعمة لا الإنعام، وقيل: أي لموسعوها بحيث إن الأرض وما يحيط بها من الماء والهواء بالنسبة إليها كحلقة في فلاة، وقيل: أي لجاعلون بينها وبين الأرض سعة، والمراد السعة المكانية، وفيه على القولين تتميم أيضا وَالْأَرْضَ أي وفرشنا الأرض فَرَشْناها أي مهدناها وبسطناها لتستقروا عليها ولا ينافي ذلك شبهها للكرة على ما يزعمه فلاسفة العصر فَنِعْمَ الْماهِدُونَ أي نحن، وقرأ أبو السمال ومجاهد وابن مقسم برفع السماء ورفع الأرض على أنهما مبتدآن وما بعدهما خبر لهما وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ أي من كل جنس من الحيوان خَلَقْنا زَوْجَيْنِ نوعين ذكرا وأنثى- قاله ابن زيد وغيره- وقال مجاهد: هذا إشارة إلى المتضادات والمتقابلات كالليل والنهار والشقوة والسعادة والهدى والضلال والسماء والأرض والسواد والبياض والصحة والمرض إلى غير ذلك، ورجحه الطبري بأنه أدل على القدرة، وقيل: أريد بالجنس المنطقي، وأقل ما يكون تحته نوعان فخلق سبحانه من الجوهر مثلا المادي والمجرد، ومن المادي النامي والجامد، ومن النامي المدرك والنبات، ومن المدرك الصامت والناطق وهو كما ترى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ أي فعلنا ذلك كله كي تتذكروا فتعرفوا أنه عز وجل الرب القادر الذي لا يعجزه شيء فتعملوا بمقتضاه ولا تعبدوا ما سواه، وقيل: خلقنا ذلك كي تتذكروا فتعلموا أن التعدد من خواص الممكنات وأن الواجب بالذات سبحانه لا يقبل التعدد والانقسام، وقيل: المراد التذكر بجميع ما ذكر لأمر الحشر والنشر لأن من قدر على إيجاد ذلك فهو قادر على إعادة الأموات يوم القيامة وله وجه، وقرأ أبي تتذكرون بتاءين وتخفيف الذال فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ تفريع على قوله سبحانه: لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ وهو تمثيل للاعتصام به سبحانه وتعالى وبتوحيده عز وجل، والمعنى قل يا محمد:
فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ لمكان إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ أي من عقابه تعالى المعد لمن لم يفر إليه سبحانه ولم يوحده نَذِيرٌ مُبِينٌ بين كونه منذرا من الله سبحانه بالمعجزات، أو مُبِينٌ ما يجب أن يحذر عنه.
وَلا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ عطف على الأمر، وهو نهي عن الإشراك صريحا على نحو وحدوده ولا تشركوا، ومن الأذكار المأثورة: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وكرر قوله تعالى: إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ لاتصال الأول بالأمر واتصال هذا بالنهي والغرض من كل ذلك الحث على التوحيد والمبالغة في النصيحة، وقيل: إن

(14/18)


المراد بقوله تعالى: فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ الأمر بالإيمان وملازمة الطاعة، وذكر وَلا تَجْعَلُوا إلخ، إفرادا لأعظم ما يجب أن يفر منه، وإِنِّي لَكُمْ إلخ، الأول مرتب على ترك الإيمان والطاعة، والثاني على الإشراك فهما متغايران لتغاير ما ترتب كل منهما عليه ووقع تعليلا له ولا يخلو عن كدر، وقال الزمخشري: في الآية: فروا إِلَى طاعته وثوابه من معصيته وعقابه ووحدوا ولا تشركوا به، وكرر إِنِّي لَكُمْ إلخ عند الأمر بالطاعة والنهي عن الشرك ليعلم أن الإيمان لا ينفع إلا مع العمل كما أن العمل لا ينفع إلا مع الايمان وأنه لا يفوز عند الله تعالى إلا الجامع بينهما انتهى، وفيه أنه لا دلالة في الآية على ذلك بوجه ثم تفسير الفرار إلى الله بما فسره أيضا لينطبق على العمل وحده غير مسلم على أنه لو سلم الإنذار بترك العمل فمن أين يلزم عدم النفع، وأهل السنة لا ينازعون في وقوع الإنذار بارتكاب المعصية، فالمنساق إلى الذهن على تقدير كون المراد بالفرار إلى الله تعالى العبادة أنه تعالى أمر بها أولا وتوعد تاركها بالوعيد المعروف له في الشرع وهو العذاب دون خلود، ونهى جل شأنه ثانيا أن يشرك بعبادته سبحانه غيره وتوعد المشرك بالوعيد المعروف له وهو الخلود، وعلى هذا يكون الوعيدان متغايرين وتكون الآية في تقديم الأمر على النهي فيها نظير قوله تعالى: فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً [الكهف: 110] ، وقوله سبحانه: وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً [النساء: 36] وأين هذا مما ذكره الزمخشري عامله الله تعالى بعدله.
كَذلِكَ أي الأمر مثل ذلك تقرير وتوكيد على ما مر غير مرة، ومن فصل الخطاب لأنه لما أراد سبحانه أن يستأنف قصة قولهم المختلف في الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم بعد أن تقدمت عموما أو خصوصا في قوله تعالى: إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ [الذاريات: 8] وكان قد توسط ما توسط قال سبحانه: الأمر كذلك أي مثل ما يذكر ويأتيك خبره إشارة إلى الكلام الذي يتلوه أعني قوله عز وجل: ما أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ إلى آخره فهو تفسير ما أجمل وهو مراد من قال: الإشارة إلى تكذيبهم الرسول عليه الصلاة والسلام وتسميتهم إياه وحاشاه ساحرا ومجنونا، ويعلم مما ذكر أن كذلك خبر مبتدأ محذوف ولا يجوز نصبه يأتي على أنه صفة لمصدره، والإشارة إلى الإتيان أي ما أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ من رسول إتيانا مثل إتيانهم إِلَّا قالُوا إلخ لأن ما بعد ما النافية لا يعمل فيما قبلها على المشهور، ولا يأتي مقدرا على شريطة التفسير لأن ما لا يعلم لا يفسر عاملا في مثل ذلك كما صرح به النحاة، وجعله معمولا لقالوا، والإشارة للقول أي إلا قالوا ساحرا أو مجنون قولا مثل ذلك القول لا يجوز أيضا على تعسفه لمكان ما وضمير قبلهم لقريش أي ما أتى الذين من قبل قريش مِنْ رَسُولٍ أي رسول من رسل الله تعالى إِلَّا قالُوا في حقه ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ خبر مبتدأ محذوف أي هو ساحر، وأو- قيل: من الحكاية أي إِلَّا قالُوا ساحِرٌ، أو قالوا مَجْنُونٌ وهي لمنع الخلو وليست من المحكي ليكون مقول كل مجموع ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ وفي البحر هي للتفصيل أي قال بعض: ساحر وقال بعض: مجنون وقال بعض: ساحر ومجنون فجمع القائلون في الضمير ودلت- أو- على التفصيل انتهى فلا تغفل.
واستشكلت الآية بأنها تدل على أنه ما من رسول إلا كذب مع أن الرسل المقررين شريعة من قبلهم كيوشع عليه السلام لم يكذبوا وكذا آدم عليه السلام أرسل ولم يكذب. وأجاب الامام بقوله: لا نسلم أن المقرر رسول بل هو نبي على دين رسول ومن كذب رسوله فهو يكذبه أيضا وتعقب بأن الأخبار وكذا الآيات دالة على أن المقررين رسل، وأيضا يبقى الاستشكال بآدم عليه السلام وقد اعترف هو بأنه أرسل ولم يكذب وأجاب بعض عن الاستشكال بالمقررين بأن الآية إنما تدل على أن الرسل الذين أتوا من قبلهم كلهم قد قيل في حقهم ما قيل، ولا يدخل في عموم

(14/19)


فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَا أَنْتَ بِمَلُومٍ (54) وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ (55) وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56) مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ (57) إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ (58) فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوبًا مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحَابِهِمْ فَلَا يَسْتَعْجِلُونِ (59) فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (60)

ذلك المقررون لأن المتبادر من إتيان الرسول قوما مجيئه إياهم مع عدم تبليغ غيره إياهم ما أتى به من قبله وذلك لم يحصل للمقرر شرع من قبله كما لا يخفى، وعن الاستشكال بآدم عليه السلام بأن المراد- ما أتى الذين من قبلهم من الأمم الذين كانوا موجودين على نحو وجود هؤلاء رسول إلا قالوا- إلخ، وآدم عليه السلام لم يأت أمة كذلك إذ لم يكن في حين أرسل إلا زوجته حواء، ولعله أولى مما قيل: إن المراد من رسول من بني آدم فلا يدخل هو عليه السلام في ذلك، واستشكلت أيضا بأن إِلَّا قالُوا يدل على أنهم كلهم كذبوا مع أنه ما من رسول إلا آمن به قوم، وأجاب الإمام بأن إسناد القول إلى ضمير الجمع على إرادة الكثير بل الأكثر، وذكر المكذب فقط لأنه الأوفق بغرض التسلية، وأخذ منه بعضهم الجواب عن الاستشكال السابق فقال: الحكم باعتبار الغالب لا أن كل أمة من الأمم أتاها رسول فكذبته ليرد آدم والمقررون حيث لم يكذبوا- وفيه ما فيه- وحمل بعضهم الذين من قبلهم على الكفار ودفع به الاستشكالين- وفيه ما لا يخفى- فتأمل جميع ذلك ولا تظن انحصار الجواب فيما سمعت فأمعن النظر والله تعالى الهادي لأحسن المسالك أَتَواصَوْا بِهِ تعجيب من إجماعهم على تلك الكلمة الشنيعة أي كأن الأولين والآخرين منهم أوصى بعضهم بعضا بهذا القول حتى قالوه جميعا، وقيل: إنكار للتواصي أي ما تواصوا به.
بَلْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ إضراب عن أن التواصي جامعهم إلى أن الجامع لهم على ذلك القول مشاركتهم في الطغيان الحامل عليه.
فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فأعرض عن جدالهم فقد كررت عليهم الدعوة ولم تأل جهدا في البيان فأبوا إلا إباء وعنادا فَما أَنْتَ بِمَلُومٍ على التولي بعد ما بذلت الجهود وجاوزت في الإبلاغ كل حد معهود.
وَذَكِّرْ آدم على فعل التذكير والموعظة ولا تدع ذلك فالأمر بالتذكير للدوام عليه والفعل منزل منزلة اللازم، وجوز أن يكون المفعول محذوفا أي فذكرهم وحذف لظهور الأمر.
فَإِنَّ الذِّكْرى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ أي الذين قدر الله تعالى إيمانهم، أو المؤمنين بالفعل فإنها تزيدهم بصيرة وقوة في اليقين، وفي البحر يدل ظاهر الآية على الموادعة وهي منسوخة بآية السيف، وأخرج أبو داود في ناسخه، وابن المنذر عن ابن عباس في قوله تعالى: فَتَوَلَّ عَنْهُمْ إلخ، وقال: أمره الله تعالى أن يتولى عنهم ليعذبهم وعذر محمدا صلى الله تعالى عليه وسلم ثم قال سبحانه: وَذَكِّرْ إلخ فنسختها.
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم والبيهقي في الشعب. والضياء في المختارة وجماعة من طريق مجاهد عن علي كرم الله تعالى وجهه قال: لما نزلت فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَما أَنْتَ بِمَلُومٍ لم يبق منا أحد إلا أيقن بالهلكة إذ أمر النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أن يتولى عنا فنزلت وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ فطابت أنفسنا، وعن قتادة أنهم ظنوا أن الوحي قد انقطع وأن العذاب قد حضر فأنزل الله تعالى وَذَكِّرْ إلخ.
وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ استئناف مؤكد للأمر مقرر لمضمون تعليله فإن خلقهم لما ذكر سبحانه وتعالى مما يدعوه صلى الله تعالى عليه وسلم إلى تذكيرهم ويوجب عليهم التذكر والاتعاظ، ولعل تقديم

(14/20)


الجن في الذكر لتقدم خلقهم على خلق الإنس في الوجود، والظاهر أن المراد من يقابلون بهم وبالملائكة عليهم السلام ولم يذكر هؤلاء قيل: لأن الأمر فيهم مسلم، أو لأن الآية سيقت لبيان صنيع المكذبين حيث تركوا عبادة الله تعالى وقد خلقوا لها وهذا الترك مما لا يكون فيهم بل هم عباد مكرمون لا يستكبرون عن عبادته عز وجل، وقيل:
لأنه صلى الله تعالى عليه وسلم ليس مبعوثا إليهم فليس ذكرهم في هذا الحكم مما يدعوه عليه الصلاة والسلام إلى تذكيرهم، وأنت تعلم أن الأصح عموم البعثة فالأولى ما قيل بدله لاستغنائهم عن التذكير والموعظة، وقيل: المراد بالجن ما يتناولهم لأنه من الاستتار وهم مستترون عن الإنس، وقيل: لا يصح ذكرهم في حيز الخلق لأنهم كالأرواح من عالم الأمر المقابل لعالم الخلق، وقد أشير إليهما بقوله تعالى: لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ [الأعراف: 54] ورد بقوله سبحانه: خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ [الأنعام: 102، الرعد: 16، الزمر: 62، غافر: 62] ولَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ ليس كما ظن والعبادة غاية التذلل، والظاهر أن المراد بها ما كانت بالاختيار دون التي بالتسخير الثابتة لجميع المخلوقات وهي الدلالة المنبهة على كونها مخلوقة وأنها خلق فاعل حكيم، ويعبر عنها بالسجود كما في قوله تعالى: وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدانِ [الرحمن: 6] وأل في الجن والإنس على المشهور للاستغراق، واللام قيل: للغاية والعبادة وإن لم تكن غاية مطلوبة من الخلق لقيام الدليل على أنه عز وجل لم يخلق الجن والإنس لأجلها أي لإرادتها منهم إذ لو أرادها سبحانه منهم لم يتخلف ذلك لاستلزام الإرادة الإلهية للمراد كما بين في الأصول مع أن التخلف بالمشاهدة، وأيضا ظاهر قوله تعالى: وَلَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ [الأعراف: 179] يدل على إرادة المعاصي من الكثير ليستحقوا بها جهنم فينافي إرادة العبادة لكن لما كان خلقهم على حالة صالحة للعبادة مستعدة لها حيث ركب سبحانه فيهم عقولا وجعل لهم حواس ظاهرة وباطنة إلى غير ذلك من وجوه الاستعداد جعل خلقهم مغيا بها مبالغة بتشبيه المعدّ له الشيء بالغاية ومثله شائع في العرف، ألا تراهم يقولون للقويّ جسمه: هو مخلوق للمصارعة، وللبقر: هي مخلوقة للحرث.
وفي الكشف أن أفعاله تعالى تنساق إلى الغايات الكمالية واللام فيها موضوعها ذلك، وأما الارادة فليست من مقتضى اللام إلا إذا علم أن الباعث مطلوب في نفسه وعلى هذا لا يحتاج إلى تأويل فإنهم خلقوا بحيث يتأتى منهم العبادة وهدوا إليها وجعلت تلك غاية كمالية لخلقهم، وتعوّق بعضهم عن الوصول إليها لا يمنع كون الغاية غاية، وهذا معنى مكشوف انتهى. فتأمل، وقيل: المراد بالعبادة التذلل والخضوع بالتسخير، وظاهر أن الكل عابدون إياه تعالى بذلك المعنى لا فرق بين مؤمن، وكافر، وبر، وفاجر، ونحوه ما قيل: المعنى ما خلقت الجن والإنس إلا ليذلوا لقضائي، وقيل: المعنى ما خلقتهم إلا ليكونوا عبادا لي، ويراد بالعبد العبد بالإيجاد وعموم الوصف عليه ظاهر لقوله تعالى: إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً [مريم: 93] لكن قيل عليه: إن عبد بمعنى صار عبدا ليس من اللغة في شيء، وقيل: العبادة بمعنى التوحيد بناء على ما روي عن ابن عباس أن كل عبادة في القرآن فهو توحيد فالكل يوحدونه تعالى في الآخرة أما توحيد المؤمن في الدنيا هناك فظاهر، وأما توحيد المشرك فيدل عليه قوله تعالى: ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا وَاللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ [الأنعام: 23] وعليه قول من قال: لا يدخل النار كافر، أو المراد كما قال الكلبي: إن المؤمن يوحده في الشدة والرخاء والكافر يوحده سبحانه في الشدة والبلاء دون النعمة والرخاء، كما قال عز وجل: فَإِذا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ [العنكبوت: 65] ولا يخفى بعد ذلك عن الظاهر والسياق، ونقل عن علي كرم الله تعالى وجهه، وابن عباس رضي الله تعالى عنهما ما خلقتهم إلا لآمرهم وأدعوهم للعبادة فهو كقوله تعالى: وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ [البينة: 5] فذكر العبادة المسببة

(14/21)


شرعا عن الأمر أو اللازمة له، وأريد سببها أو ملزومها فهو مجاز مرسل، وأنت تعلم أن أمر كل من أفراد الجن وكل من أفراد الإنس غير متحقق لا سيما إذا كان غير المكلفين كالأطفال الذي يموتون قبل زمان التكليف داخلين في العموم، وقال مجاهد: إن معنى لِيَعْبُدُونِ ليعرفون وهو مجاز مرسل أيضا من إطلاق اسم السبب على المسبب على ما في الإرشاد، ولعل السر فيه التنبيه على أن المعتبر هي المعرفة الحاصلة بعبادته تعالى لا ما يحصل بغيرها كمعرفة الفلاسفة قيل: وهو حسن لأنهم لو لم يخلقهم عز وجل لم يعرف وجوده وتوحيده سبحانه وتعالى،
وقد جاء «كنت كنزا مخفيا فأحببت أن أعرف فخلقت الخلق لأعرف»
وتعقب بأن المعرفة الصحيحة لم تتحقق في كل بل بعض قد أنكر وجوده عز وجل كالطبيعيين اليوم فلا بد من القول السابق في توجيه التعليل ثم الخبر بهذا اللفظ ذكره سعد الدين الفرغاني في منتهى المدارك، وذكر غيره كالشيخ الأكبر في الباب المائة والثمانية والتسعين من الفتوحات بلفظ آخر وتعقبه الحفاظ فقال ابن تيمية: إنه ليس من كلام النبي صلى الله تعالى عليه وسلم ولا يعرف له سند صحيح ولا ضعيف، وكذا قال الزركشي والحافظ بن حجر وغيرهما: ومن يرويه من الصوفية معترف بعدم ثبوته نقلا لكن يقول: إنه ثابت كشفا، وقد نص على ذلك الشيخ الأكبر قدس سره في الباب المذكور، والتصحيح الكشفي شنشنة لهم، ومع ذلك فيه إشكال معنى إلا أنه أجيب عنه ثلاث أجوبة ستأتي إن شاء الله تعالى، وقيل: أل في الْجِنَّ وَالْإِنْسَ للعهد، والمراد بهم المؤمنون لقوله تعالى: وَلَقَدْ ذَرَأْنا الآية أي بناء على أن اللام فيها ليست للعاقبة، ونسب هذا القول لزيد بن أسلم وسفيان، وأيد بقوله تعالى قيل: فَإِنَّ الذِّكْرى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ وأيده
في البحر برواية ابن عباس عن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم «وما خلقت الجن والإنس من المؤمنين» ورواها بعضهم قراءة لابن عباس رضي الله تعالى عنهما
، ومن الناس من جعلها للجنس، وقال: يكفي في ثبوت الحكم له ثبوته لبعض أفراده وهو هنا المؤمنين الطائعون وهو في المآل متحد مع سابقه، ولا إشكال على ذلك في جعل اللام للغاية المطلوبة حقيقة وكذا في جعلها للغرض عند من يجوز تعليل أفعاله تعالى بالأغراض مع بقاء الغنى الذاتي وعدم الاستكمال بالغير- كما ذهب إليه كثير من السلف، والمحدثين- وقد سمعت أن منهم من يقسم الارادة إلى شرعية تتعلق بالطاعات وتكوينية تتعلق بالمعاصي وغيرها، وعليه يجوز أن يبقى الْجِنَّ وَالْإِنْسَ على شمولهما للعاصين، ويقال: إن العبادة مرادة منهم أيضا لكن بالإرادة الشرعية إلا أنه لا يتم إلا إذا كانت هذا الإرادة لا تستلزم وقوع المراد كالإرادة التفويضية القائل بها المعتزلة.
هذا وإذا أحطت خبرا بالأقوال في تفسير هذا الآية هان عليك دفع ما يتراءى من المنافاة بينها وبين قوله تعالى:
وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ [هود: 118، 119] على تقدير كون الاشارة إلى الاختلاف بالتزام بعض هاتيك الأقوال فيها، ودفعه بعضهم يكون اللام في تلك الآية للعاقبة والذي ينساق إلى الذهن أن الحصر إضافي أي خلقتهم للعبادة دون ضدها أو دون طلب الرزق والإطعام على ما يشير إليه كلام بعضهم أخذا من تعقيب ذلك بقوله سبحانه: ما أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَما أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ وهو لبيان أن شأنه تعالى شأنه مع عباده ليس كشأن السادة مع عبيدهم لأنهم إنما يملكونهم ليستعينوا بهم في تحصيل معايشهم وأرزاقهم، ومالك ملاك العبيد نفى عز وجل أن يكون ملكه إياهم لذلك فكأنه قال سبحانه: ما أريد أن أستعين بهم كما يستعين ملاك العبيد بعبيدهم فليشتغلوا بما خلقوا له من عبادتي، وذكر الإمام فيه وجهين: الأول أن يكون لدفع توهم الحاجة من خلقهم للعبادة، والثاني أن يكون لتقرير كونهم مخلوقين لها، وبين هذا بأن الفعل في العرف لا بد له من منفعة لكن العبيد على قسمين:
قسم يتخذونه لإظهار العظمة بالمثول بين أيادي ساداتهم وتعظيمهم إياهم كعبيد الملوك، وقسم يتخذون للانتفاع بهم في تحصيل الأرزاق أو لإصلاحها، فكأنه قال سبحانه: إني خلقتهم ولا بد فيهم من منفعة فليتفكروا في أنفسهم هل

(14/22)


هم من قبيل أن يطلب منهم تحصيل رزق وليسوا كذلك فما أريد منهم من رزق، وهل هم ممن يطلب منهم إصلاح قوت كالطباخ ومن يقرب الطعام؟ وليسوا كذلك وَما أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ فإذا هم عبيد من القسم الأول، فينبغي أن لا يتركوا التعظيم، والظاهر أن المعنى ما أريد منهم من رزق لي لمكان قوله سبحانه: وَما أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ وإليه ذهب الامام، وذكر في الآية لطائف: الاولى أنه سبحانه كرر نفي الإرادتين لأن السيد قد يطلب من العبد التكسب له وهو طلب الرزق وقد لا يطلب حيث كان له مال وافر لكنه يطلب قضاء حوائجه من حفظ المال وإحضار الطعام من ماله بين يديه. فنفي الإرادة الأولى لا يستلزم نفي الارادة الثانية فكرر النهي على معنى لا أريد هذا ولا أريد ذلك، الثانية أن ترتيب النفيين كما تضمنه النظم الجليل من باب الترقي في بيان غناه عز وجل كأنه قال سبحانه: لا أطلب منهم رزقا ولا ما هو دون ذلك وهو تقديم الطعام بين يدي السيد فإن ذلك أمر كثيرا ما يطلب من العبيد إذا كان التكسب لا يطلب منهم، الثالثة أنه سبحانه قال: ما أريد منهم من رزق دون ما أريد منهم أن يرزقون لأن التكسب لطلب العين لا الفعل، وقال سبحانه: ما أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ دون ما أريد من طعام لأن ذلك للإشارة إلى الاستغناء عما يفعله العبد الغير المأمور بالتكسب كعبد وافر المال والحاجة اليه للفعل نفسه، الرابعة أنه جل وعلا خص الإطعام بالذكر لأن أدنى درجات الاستعانة أن يستعين السيد بعبده في تهيئة أمر الطعام ونفي الأدنى يتبعه نفي الأعلى بطريق الأولى فكأنه قيل:
ما أريد منهم من عين ولا عمل، الخامسة أن ما لنفي الحال إلا أن المراد به الدنيا وتعرض له دون نفي الاستقبال لأن من المعلوم البين أن العبد بعد موته لا يصلح أن يطلب منه رزق أو إطعام انتهى، فتأمله.
ويفهم من ظاهر كلام الزمخشري أن المعنى ما أريد منهم من رزق لي ولهم، وفي البحر ما أريد منهم من رزق أي أن يرزقوا أنفسهم ولا غيرهم وَما أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ أي أن يطعموا خلقي فهو على حذف مضاف قاله ابن عباس انتهى، ونحوه ما قيل: المعنى ما أريد أن يرزقوا أحدا من خلقي ولا أريد أن يطعموه، وأسند الإطعام إلى نفسه سبحانه لأن الخلق كلهم عيال الله تعالى. ومن أطعم عيال أحد فكأنما أطعمه،
وفي الحديث «يا عبدي مرضت فلم تعدني وجعت فلم تطعمني»
فإنه كما يدل عليه آخره على معنى مرض عبدي فلم تعده وجاع فلم تطعمه وقيل: الآية مقدرة بقل فتكون بمعنى قوله سبحانه: قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً [الأنعام: 90] والغيبة فيها رعاية للحكاية إذ في مثل ذلك يجوز الأمران الغيبة والخطاب، وقد قرىء بهما في قوله تعالى: قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ [آل عمران:
12] ، وقيل: المراد قل لهم وفي حقهم فتلائمه الغيبة في مِنْهُمْ ويُطْعِمُونِ ولا ينافي ذلك قراءة- أني أنا الرزاق- فيما بعد لأنه حينئذ تعليل للأمر بالقول، أو الائتمار لا لعدم الإرادة، نعم لا شك في أنه قول بعيد جدا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ الذي يرزق كل مفتقر إلى الرزق لا غيره سبحانه استقلالا، أو اشتراكا ويفهم من ذلك استغناؤه عز وجل عن الرزق ذُو الْقُوَّةِ أي القدرة الْمَتِينُ شديد القوة، والجملة تعليل لعدم الإرادة قال الامام: كونه تعالى هو الرزاق ناظر إلى عدم طلب الرزق لأن من يطلبه يكون فقيرا محتاجا وكونه عز وجل هو ذو القوة المتين ناظر إلى عدم طلب العمل المراد من قوله سبحانه: وَما أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ لأن من يطلبه يكون عاجزا لا قوة له فكأنه قيل: ما أريد منهم من رزق لأني أنا الرزاق وما أريد منهم من عمل لأني قوي متين، وكان الظاهر- أني أنا الرزاق- كما جاء في قراءة له صلّى الله تعالى عليه وسلم لكن التفت إلى الغيبة، والتعبير بالاسم الجليل لاشتهاره بمعنى العبودية فيكون في ذلك إشعار بعلة الحكم ولتخرج الآية مخرج المثل كما قيل ذلك في قوله تعالى: إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً [الإسراء: 81] والتعبير به على القول بتقدير قل فيما تقدم هو الظاهر، وتحتاج القراءة الاخرى إلى ما ذكرناه آنفا، وآثر سبحانه ذو القوة على القوى قيل: لأن في ذُو كما قال ابن حجر الهيتمي وغيره تعظيم ما أضيف إليه، والموصوف بها والمقام يقتضيه

(14/23)


ولذا جيء بالمتين بعد ولم يكتف به عن الوصف بالقوة: وقال الإمام: لما كان المقصود تقرير ما تقدم من عدم إرادة الرزق وعدم الاستعانة بالغير جيء بوصف الرزق على صيغة المبالغة لأنه بدونها لا يكفي في تقرير عدم إرادة الرزق وبوصف القوة بما لا مبالغة فيه لكفايته في تقرير عدم الاستعانة فإن من له قوة دون الغاية لا يستعين بغيره لكن لما لم يدل ذو القوة على أكثر من أن له تعالى قوة ما زيد الوصف بالمتين وهو الذي له ثبات لا يتزلزل، ثم قال: إن القوي أبلغ من ذي القوة والعزة أكمل من المتانة وقد قرن الأكمل بالأكمل وما دونه بما دونه في قوله تعالى: لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ [الحديد: 25] وفي قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ إلخ لما اقتضى المقام ذلك، وقد أطال الكلام في هذا المقام وما أظنه يصفو عن كدر، وقرأ ابن محيصن- الرازق- بزنة الفاعل، وقرأ الأعمش وابن وثاب- المتين- بالجر، وخرج على أنه صفة القوة، وجاز ذلك مع تذكيره لتأويلها بالاقتدار أو لكونه على زنة المصادر التي يستوي فيها المذكر والمؤنث، أو لإجرائه مجرى فعيل بمعنى مفعول، وأجاز أبو الفتح أن يكون صفة- لذو- وجر على الجوار- كقولهم هذا جحر ضب خرب- وضعف فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا أي إذا ثبت أن الله تعالى ما خلق الجن والإنس إلا ليعبدون وأنه سبحانه ما يريد منهم من رزق إلى آخر ما تقدم فإن للذين ظلموا أنفسهم باشتغالهم بغير ما خلقوا له من العبادة وإشراكهم بالله عز وجل وتكذيبهم رسوله عليه الصلاة والسلام وهم أهل مكة وأضرابهم من كفار العرب ذَنُوباً أي نصيبا من العذاب مِثْلَ ذَنُوبِ أي نصيب أَصْحابِهِمْ أي نظرائهم من الأمم السالفة، وأصل الذنوب الدلو العظيمة الممتلئة ماء، أو القريبة من الامتلاء، قال الجوهري: ولا يقال لها ذنوب وهي فارغة، وهي تذكر وتؤنث وجمعها أذنبة وذنائب فاستعيرت للنصيب مطلقا شرا كان كالنصيب من العذاب في الآية أو خيرا كما في العطاء في قول علقمة بن عبدة التميمي يمدح الحارث بن أبي شمر الغساني وكان أسر أخاه شأسا يوم عين أباغ:
وفي كل حي قد خبطت بنعمة ... فحق لشأس من نداك ذنوب
يروى أن الحارث لما سمع هذا البيت قال نعم وأذنبة (1) ومن استعمالها في النصيب قول الآخر:
لعمرك والمنايا طارقات ... لكل بني أب منها ذنوب
وهو استعمال شائع، وفي الكشاف هذا تمثيل أصله في السقاة يقتسمون الماء فيكون لهذا ذنوب ولهذا ذنوب قال الراجز:
إنا إذا نازلنا غريب ... له ذنوب ولنا ذنوب
وإن أبيتم فلنا القليب فَلا يَسْتَعْجِلُونِ أي لا يطلبوا مني أن أعجل في الإتيان به يقال استعجله أي حثه على العجلة وطلبها منه، ويقال: استعجلت كذا إن طلبت وقوعه بالعجلة، ومنه قوله تعالى: أَتى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ [النحل: 1] وهو على ما في الإرشاد جواب لقولهم: مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ [يونس: 48، الأنبياء: 38، النمل: 71، سبأ: 29، يس: 48، الملك: 25] فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا أي فويل لهم، ووضع الموصول موضع ضميرهم تسجيلا عليهم بما في حيز الصلة من الكفر وإشعارا بعلة الحكم، والفاء لترتيب ثبوت الويل لهم على أن لهم عذابا عظيما كما
__________
(1) «شأس» هو جد علقمة بن عبدة مدح بهذه القصيدة الحارث بن أبي شمر الغساني لما كان عنده أسيرا فأمر بإطلاقه وجميع أسرى بني تميم و «الخابط» الطالب، ومعنى البيت أنت الذي أنعمت على كل حي بنعمة واستحق من نداك ذنوبا اهـ.

(14/24)


أن الفاء التي قبلها لترتيب النهي عن الاستعجال على ذلك. ومِنْ في قوله سبحانه: مِنْ يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ للتعليل والعائد على الموصول محذوف أي يوعدونه أو يوعدون به على قول، والمراد بذلك اليوم قيل: يوم بدر، ورجح بأنه الأوفق لما قبله من حيث إنه ذنوب من العذاب الدنيوي، وقيل: يوم القيامة، ورجح بأنه الأنسب لما في صدر السورة الكريمة الآتية، والله تعالى أعلم.
ومما قاله بعض أهل الاشارة في بعض الآيات: وَالذَّارِياتِ ذَرْواً إشارة إلى الرياح التي تحمل أنين المشتاقين المعرضين لنفحات الألطاف إلى ساحات العزة، ثم تأتي بنسيم نفحات الحق إلى مشام المحبين فيجدون راحة ما من غلبات اللوعة فَالْحامِلاتِ وِقْراً إشارة إلى سحائب ألطاف الألوهية تحمل أمطار مراحم الربوبية فتمطر على قلوب الصديقين فَالْجارِياتِ يُسْراً إشارة إلى سفن أفئدة المحبين تجري برياح العناية في بحر التوحيد على أيسر حال فَالْمُقَسِّماتِ أَمْراً إشارة إلى الملائكة النازلين من حظائر القدس بالبشائر والمعارف على قلوب أهل الاستقامة، وإن شئت جعلت الكل إشارة إلى أنواع رياح العناية فمنها ما يطير بالقلوب في جو الغيوب، وقد قال العاشق المجازي:
خذا من صبا نجد أمانا لقلبه ... نسيم كاد رياها يطير بلبه

وإياكما ذاك النسيم فإنه ... متى هب كان الوجد أيسر خطبه
ومنها فَالْحامِلاتِ وِقْراً دواء قلوب العاشقين كما قيل:
أيا جبلي نعمان بالله خليا ... نسيم الصبا يخلص إلى نسيمها

أجد بردها أو تشف مني حرارة ... على كبد لم يبق إلا صميمها

إن الصبا ريح إذا ما تنسمت ... على نفس مهموم تجلت همومها
ومنها «الجاريات» من مهاب حضرات القدس إلى أفئدة أهل الإنس بسهولة لتنعش قلوبهم، ومنها «المقسمات» ما جاءت به مما عبق بها من آثار الحضرة الإلهية على نفوس المستعدين حسب استعداداتهم وإن شئت قلت غير ذلك فالباب واسع وَالسَّماءِ ذاتِ الْحُبُكِ إشارة إلى سماء القلب فإنها ذات طرائق إلى الله عز وجل إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ إشارة إلى جنات الوصال وعيون الحكمة وَبِالْأَسْحارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ يطلبون غفر أي ستر وجودهم بوجود محبوبهم، أو يطلبون غفران ذنب رؤية عبادتهم من أول الليل إلى السحر وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ إشارة إلى أن جميع ما يرى بارزا من الموجودات ليس واحدا وحدة حقيقية بل هو مركب ولا أقل من كونه مركبا من الإمكان، وشيء آخر فليس الواحد الحقيقي إلا الله تعالى الذي حقيقته سبحانه إنيته فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ بترك ما سواه عز وجل وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ أي ليعرفون، وهو عندهم إشارة إلى ما صححوه كشفا
من روايته صلى الله تعالى عليه وسلم عن ربه سبحانه أنه قال: «كنت كنزا مخفيا فأحببت أن أعرف فخلقت الخلق لأعرف»
وفي كتاب الأنوار السنية للسيد نور الدين السمهودي بلفظ «كنت كنزا مخفيا فأحببت أن أعرف فخلقت هذا الخلق ليعرفوني فبي عرفوني»
وفي المقاصد الحسنة للسخاوي بلفظ «كنت كنزا لا أعرف فخلقت خلقا فعرفتهم بي فعرفوني» إلى غير ذلك، وهو مشكل لأن الخفاء أمر نسبي فلا بد فيه من مخفي ومخفى عنه فحيث لم يكن خلق لم يكن مخفي عنه فلا يتحقق الخفاء، وأجيب أولا بأن الخفاء عن الأعيان الثابتة لأن الأشياء في ثبوتها لا إدراك لها وجوديا فكان الله سبحانه مخفيا عنها غير معروف لها معرفة وجودية- فأحب أن يعرف معرفة حادثة من موجود حادث- فخلق الخلق لأن معرفتهم الوجودية فرع وجودهم فتعرف سبحانه إليهم بأنواع التجليات على حسب

(14/25)


تفاوت الاستعدادات فعرفوا أنفسهم بالتجليات فعرفوا الله تعالى من ذلك فبه سبحانه عرفوه، وثانيا بأن المراد بالخفاء لازمه وهو عدم معرفة أحد به جل وعلا، ويؤيده ما في لفظ السخاوي من قوله: لا أعرف بدل مخفيا، وثالثا بأن مخفيا بمعنى ظاهر من أخفاه أي أظهره على أن الهمزة للإزالة أي أزال خفاءه، وترتيب قوله سبحانه: «فأحببت أن أعرف» إلخ عليه باعتبار أن الظهور متى كان قويا أوجب الجهالة بحال الظاهر فخلق سبحانه الخلق ليكونوا كالحجاب فيتمكن معه من المعرفة، ألا يرى أن الشمس لشدة ظهورها لا تستطيع أكثر الأبصار الوقوف على حالها إلا بواسطة وضع بعض الحجب بينها وبينها وهو كما ترى لا يخلو عن بحث، وأما إطلاق الكنز عليه عز وجل فقد ورد، روى الديلمي في مسنده عن أنس مرفوعا كنز المؤمن ربه أي فإن منه سبحانه كل ما يناله من أمر نفيس في الدارين، والشيخ محيي الدين قدس سره ذكر في معنى- الكنز- غير ذلك فقال في الباب الثلاثمائة والثمانية والخمسين من فتوحاته: لو لم يكن في العالم من هو على صورة الحق ما حصل المقصود من العلم بالحق أعني العلم بالحادث في قوله: «كنت كنزا» إلخ فجعل نفسه كنزا، والكنز لا يكون إلا مكتنزا في شيء فلم يكن كنز الحق نفسه إلا في صورة الإنسان الكامل في شيئية ثبوته هناك كان الحق مكنوزا فلما لبس الحق الإنسان ثوب شيئية الوجود ظهر الكنز بظهوره فعرفه الإنسان الكامل بوجوده وعلم أنه سبحانه كان مكنوزا فيه في شيئية ثبوته وهو لا يشعر به انتهى، وهو منطق الطير الذي لا نعرفه نسأل الله تعالى التوفيق لما يحب ويرضى بمنه وكرمه.

(14/26)